القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

٢٠ ـ قاعدة «الإقرار» و «من ملك»

(إقرار العقلاء على أنفسهم جائز)

(ومن ملك شيئا ملك الإقرار به)

مدارك قاعدة الإقرار من الروايات العامة والخاصة

لا بد ان يكون الإقرار على النفس

الموارد التي يشك فيها انها على النفس أو على غيرها

هل الإقرار امارة مطلقا؟

اشتراط عدم المعارضة بإقرار مخالف

قاعدة من ملك ومحتواها

الأدلة الستة التي استدل بها للقاعدة وأحسنها

٤٠١
٤٠٢

قاعدة الإقرار

هنا قاعدتان ترتبطان بمسألة الإقرار قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» وقاعدة «من ملك شيئا ملك الإقرار به» فذكرهما معا لما بينهما من الصلة ، وان كان كل منهما يشير الى معنى مستقل.

اما مفاد الاولى ظاهر ، وهو انه إذا اعترف الإنسان بشيء يضاد منافعه ، وينافي مصالحه ، يؤخذ بإقراره سواء كان الإقرار بمال ، أو دين ، أو حق ، أو نسب أو جناية عمد ، أو خطأ ، أو غير ذلك ، مما يلزمه بحق أو مجازاة ، فهو مأخوذ بجميع ذلك بمقتضى إقراره.

وهذه القاعدة من القواعد المسلّمة الجمع عليها من علماء الإسلام.

قال «العلامة النراقي» في «عوائده» (أجمعت الخاصة والعامة على نفوذ إقرار كل عاقل على نفسه ، بل هو ضروري جميع الأديان والملل).

ويدل عليه مضافا الى ذلك ، والى استقرار سيرة العقلاء في كل زمان ومكان على قبول إقرار كل احد على نفسه ، الروايات العامة والخاصة الواردة فيها.

فمن الروايات العامة ما رواه جماعة من علمائنا في كتبهم الاستدلالية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (١).

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ كتاب الإقرار الباب ٣ الحديث ٢.

٤٠٣

ولكن لم نر أحدا من العامة والخاصة رواها في كتب الحديث ، ما عدا ابن أبي جمهور في درر اللئالي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (١).

حتى ان صاحب الوسائل لم ينقله من اي منبع روائي ، بل اكتفى فيه برواية جماعة من العلماء في كتب الاستدلال.

ومنها ما رواه الجراح المدائني عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه قال : لا أقبل شهادة الفاسق الا على نفسه (٢).

ومنها مرسلة محمد بن الحسن العطار عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمنا عليه (٣).

ولكن دلالته كسنده لا يخلو عن إشكال ، لأنه يمكن ان يكون من قبيل كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فان شهد عندك خمسون قسامة ، قال لك قولا فصدقه وكذبهم ، الوارد في رواية محمد بن فضيل عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام (٤).

هذا ما عثرنا عليه من روايات العامة الشاملة لجميع الأبواب ، واما الروايات الخاصة الواردة في أبواب الوصايا والديون والحدود والديات وغير ذلك ، وهي كثيرة غاية الكثرة كما لا يخفى على من راجعها ويصطاد من جميعها عموم الحكم وعدم اختصاصه بباب دون باب ، وحيث ان المسألة من الوضوح بمكان لا يحتاج الى نقلها أغمضنا عن ذكرها على نحو مبسوط.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٨٥ أبواب بيع الحيوان الباب ٣ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ج ١٦ كتاب الإقرار الباب ٦ الحديث ١.

(٣) الوسائل ج ١٦ كتاب الإقرار الباب ٣ الحديث ١.

(٤) الوسائل ج ٨ كتاب الحج أحكام العشرة الباب ١٥٧ الحديث ٤.

٤٠٤

والعمدة ان هذه القاعدة قاعدة عقلائية في جميع الأعصار والأمصار من أرباب الأديان وغيرهم وقد أمضاها الشارع المقدس.

والوجه فيه عند العقلاء ان كل إنسان اعرف بنفسه من غيره ، ولا يعترف بما ينافي منافعه ، إلا إذا كان واضحا عنده غاية الوضوح ، وعالما به علما بيّنا ، نعم يمكن ان يكون إقراره في بعض الموارد الشاذة خطأ أو كذبا بعنوان التوطئة للوصول إلى أمر غير مشهور ، اما هذه كله نادر جدا لا يعتنى به.

نعم لا يبعد استثناء موارد اتهام المقر وعدم قبول إقراره عند العقلاء والشرع كما إذا وقع قتل وكان المعروف بين الناس ان القاتل فلان ولكن أراد جمع من أصدقائه حمايته من بعض الجهات فأقروا جميعا عند الحاكم باشتراكهم في القتل ، وكان هناك قرائن تدل على هذه التوطئة ، فقبول إقرار هؤلاء المتهمين في إقرارهم لا يخلو عن اشكال ، وان كان ثبوت الحكم على الشخص المظنون يحتاج الى بينة عادلة على كل حال ، وحينئذ يكون موارد النقض على القاعدة قليلا جدا.

وبالجملة وضوح هذه القاعدة بمكان تغنينا عن البحث في بيان مدركها أزيد من هذا ، كما ان البحث في مفاد القاعدة ، وان معنى الإقرار ما ذا؟ ومعنى كونه على نفس ، أو كونه جائزا ما ذا؟ غير مهم بعد وضوح معناها عرفا ولغة كوضوح ما يرتبط بها.

والذي يهمنا ان نبحث عن أمور :

الأول : وهو العمدة : ان الإقرار انما يقبل إذا كان على النفس لا له فان كان ذلك امرا بيّنا فلا كلام ، مثل ان يقر إنسان بدين عليه لغيره ، أو يقر بالجنابة أو القتل أو شبه ذلك ، فهذا إقرار على النفس بلا كلام.

بل وكذلك إذا أقر بأمر مشترك بينه وبين غيره مما يمكن التفكيك فيه ، مثل

٤٠٥

ان يعترف بأنه وشريكه وهبا دارهما المشترك لزيد ، فإنه لا إشكال في قبول إقراره بالنسبة إلى سهمه من الدار ، واما بالنسبة إلى سهم شريكه فلا يقبل ، ولا مانع من التفكيك بين المسألتين كما هو ظاهر ولكن هنا بعض الموارد مما فيه خفاء ستأتي الإشارة إليها ان شاء الله.

الثاني : إذا أقر بما يدور بين اثنين ، ويقوم بهما من الأمور الوحدانية ذات الإضافة إلى طرفين ، كإقراره بان فلانا ولد له ، أوان فلانة زوجته ، فإن الزوجية ، أو الأبوة ، والبنوة ، أمر قائم بشخصين فهل يقبل قوله فيما يكون عليه ، مع ان الطرف الأخر لا يعترف بهذا؟ وكيف يمكن ان يكون هذا زوجا مع ان الطرف المقابل ليست زوجة ولو بحسب الظاهر أو يكون هو أبا ولا يكون في مقابله ابنا أي لا يحكم ظاهرا ببنوته.

الثالث : إذا كان هناك أمر واحد ذا جهتين : جهة الضرر وجهة النفع كأن يقول هذا عبدي ، فهل يجب عليه نفقته مع عدم استحقاقه لخدمته ، وكيف يمكن التفكيك بين الأمرين؟

الرابع : إذا كان المقر به عقدا فيه جهة النفع والضرر كما إذا قال لزيد علي ألف درهم قيمة فرس اشتريته منه ، فهل يقبل إقراره بالنسبة إلى أصل اشتغال ذمته بألف درهم ولا يقبل مالكيته للفرس ، فكيف يمكن التفرقة بين الأمرين؟

والمعروف المحكى عن الفقهاء الأخذ بالإقرار مهما أمكن والتجزئة في مفاده فيؤخذ بما يكون عليه ويطرح ما يكون له مع انه في الواقع الخارجي هذا التفرقة أمر غير ممكن.

٤٠٦

وقد تصدى المحقق النراقي في عوائده للجواب عن هذا الاشكال بمقدمات كثيرة طويلة والانصاف ان حل أمثال هذه الشبهات بعد حل مشكلة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في أصولنا الحديث بسيط جدا نعم في الأزمنة السابقة التي لم تنقح أصول الفقه فيها بمثل ما نقح في اعصارنا ببركة جهد علمائنا الراسخين رضوان الله تعالى عليهم كان حل هذه المشكلات صعبا ولكن الان سهل جدا.

وحاصل الكلام فيها ان ملازمة حكمين شرعيين في الواقع لا يكون دليلا على التلازم بينهما في الحكم الظاهري بل يجوز التفرقة بينهما في هذا المجال وأي مانع من حكم الشرع في الظاهر بوجوب نفقة من أقر بعبوديته له عليه مع عدم جواز استخدامه وكذا بالنسبة الى من اعترف بزوجيتها اللهم الا ان يكون داخلا تحت عنوان النشوز وهذا أمر آخر وبالجملة الملازمة في الحكم الواقعي لا تكون دليلا على الملازمة في الحكم الظاهري وكم له نظير في الفقه.

مثلا إذا غسل الثوب النجس بماء كر يشك في انه مضاف أو مطلق وليس له حالة سابقة فاللازم الحكم ببقاء نجاسة الثوب وطهارة الماء مع انه في الواقع غير ممكن لان الماء ان كان مضافا فقد تنجس وان كان مطلقا فقد طهر الثوب فكيف يمكن الجمع بين الحكم بنجاسة الثوب وطهارة الماء الى غير ذلك من أشباهه.

وقد فرغنا عن هذا البحث في محله من الأصول.

الخامس : هل الإقرار امارة لإثبات المقر به أو مخصوص بما إذا كان في مقابل من يدعى ما أقر به الظاهر انه أمارة مطلقا لإطلاق الأدلة ولما عرفت في الوجه في حجيته عند العقلاء.

السادس : يشترط في نفوذ إقرار العاقل على نفسه ان لا يكون معارضا بإقرار مخالف له

٤٠٧

فاذا قال لزيد علي كذا ولكن زيدا أنكر الطلب منه فإنه لا يقبل والوجه فيه ظاهر فإنه يتساقط الاقراران عن الاعتبار ولا يكون شيء منهما حجة.

قاعدة من ملك

واما القاعدة الثانية أعني قاعدة «من ملك شيئا ملك الإقرار به» ، وهي العمدة في المقام ، وقلما يبحث عنها في كلماتهم ، مسلطا على عقد أو إيقاع ، أو غير ذلك من الافعال ، وكان ذلك جائزا له ، ممضى في حقه لو فعله ، فإذا أقر بأنه فعله يقبل إقراره منه ، من دون اي فرق ، بين ان يكون له أو عليه ، أو لم يكن لا له ولا عليه ، كما إذا أقر الوكيل ببيع أو شراء لموكله مع شرط كذا وثمن كذا.

وفي الحقيقة نسبة بين مفاد القاعدتين هي التباين ، والنسبة بين مواردهما هي العموم من وجه ، ومادة الاجتماع هو ما إذا كان مالكا لأمر يكون نتيجته عليه كملك الإنسان للوصية بماله ، أو الوقف أو الهبة ، فإذا أقر بأنه وهب ماله لفلان فهذا يدخل في القاعدتين : قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم وقاعدة من ملك ، اما الأول فواضح واما الثاني فلأنه مالك ومسلط على هبة أمواله فيقبل إقراره إذا أقر.

واما مادة الافتراق من ناحية قاعدة إقرار العقلاء فكما إذا أقر بقتل شخص ، أو ضربه ، عمدا أو خطأ ، وهو داخل في القاعدة الاولى ، لا في الثانية فإنه ليس هنا مالكا ومسلطا على هذا الفعل.

ومادة الافتراق من ناحية الثانية ما إذا أقر الوكيل عن شخص بتجارة له أو عليه فإنه لا يدخل في قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم ولكنه داخل في قاعدة من ملك.

ومن هنا يعلم من ان ما توهمه غير واحد من جواز الاستدلال على الثانية بأدلة الاولى بل ربما توهموهما قاعدة واحدة بعضها من بعض ليس في محله.

بل مثل ذلك شاهد على عدم الدقة اللازمة في محتوى قاعدة من ملك.

٤٠٨

إذا عرفت هذا فنعود الى بيان محتوى هذه القاعدة وأدلتها فنقول ومن الله التوفيق ، والهداية :

محتوى قاعدة من ملك

اما محتواها على التفصيل لا يظهر الا بعد المراجعة إلى كلمات الأصحاب في أبواب الفقه ، وما استدلوا له بهذه القاعدة أو يستشم منهم ذلك.

هذا وقد عرفت انهم قلما وقع البحث عن هذه القاعدة في كلماتهم نعم يظهر منهم الاستدلال بها في موارد كثيرة في طيات الفقه بل ربما أرسلوها إرسال المسلمات لا بأس بالإشارة إلى بعضها كي يعلم المراد منها ومحتواها :

١ ـ منها ما ذكروه في باب الإقرار من نفوذ إقرار غير المهجور في كل ما يقدر على إنشائه كما قال العلامة في القواعد.

المطلق (اي غير المهجور) ينفذ إقراره بكل ما يقدر على إنشائه وقال في مفتاح الكرامة في شرح هذه العبارة ما نصه :

هذا معنى قولهم كل من ملك شيئا ملك الإقرار به ، وهي قاعدة مسلّمة لا كلام فيها ، وقد طفحت بها عباراتهم (١).

وصرح العلامة في القواعد بعد قليل بنفس القاعدة وقال : «كل من ملك شيئا ملك الإقرار به» وأرسله إرسال المسلمات (٢).

٢ ـ ما ذكروه في باب العبد المأذون في التجارة (في كتاب الإقرار) قال في الشرائع :

لو كان ـ اي العبد ـ مأذونا في التجارة فأقر بما يتعلق بها قبل ، لأنه يملك

__________________

(١) مفتاح الكرامة ج ٩ كتاب الإقرار ص ٢٢٥.

(٢) مفتاح الكرامة ج ٩ كتاب الإقرار ص ٢٢٦.

٤٠٩

التصرف ، فيملك الإقرار.

وقال في الجواهر ، في شرح هذه العبارة ، بعد قوله على المشهور : «نقلا ان لم يكن تحصيلا» لما عرفت من انه من ملك شيئا ملك الإقرار به لكن في التذكرة استشكله (١).

وقال السبزواري في الكفاية : انه لو كان مأذونا في التجارة فأقر بما يتعلق بها فالمشهور انه ينفذ فيما في يده واستشكله العلامة في التذكرة والأقرب النفوذ فيما هو من لوازم التجارة طرفا إذ دل الاذن في التجارة على الاذن فيما يتعلق به تضمنا أو التزاما قال بعض الأصحاب لو قلنا انه مطلقا أو على بعض الوجوه نفذ إقراره بما حكم له به وهو حسن (٢).

وقال الشهيد الثاني في نفس هذه المسألة :

انه انما قبل إقرار المأذون في التجارة لأن تصرفه نافذ فيما اذن له فيه منها ، فينفذ إقراره بما يتعلق بها ، لان «من ملك شيئا ملك الإقرار به» ولأنه لولاه لزم الإضرار وانصراف الناس عن ملاينة العبيد ، فيختل نظام التجارة ، وفي التذكرة استشكل هذا القول وعذره واضح لعموم الهجر على المملوك (٣).

٣ ـ منها ما ذكروه في باب الإقرار بالوصية انه لو أقر بماله ان يفعله كالوصية صح.

قال في الجواهر في كتاب الإقرار (على ما صرح به غير واحد «لقاعدة من ملك شيئا ملك الإقرار به» التي طفحت بها عباراتهم بل صريح بعضهم انه لا خلاف فيها عندهم).

__________________

(١) الجواهر ج ٣٥ كتاب الإقرار ص ١١٠.

(٢) كفاية الأحكام ص ٢٣١.

(٣) المسالك ج ٢ ص ١٧٤.

٤١٠

ثمَّ أضاف اليه : «وان كان لنا فيها اشكال فيما زاد على مقتضى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ونحوه ، مما سمعته في محله ، ومنه ما نحن فيه ، ضرورة عدم التلازم بين جواز وصيته بذلك وجواز إقراره به ، ولعله لذا قال الكركي في حاشيته لا يصح» (١).

أقول : قد وقع الخلط في كلامه قدس‌سره بين القاعدتين وقد عرفت انهما قاعدتان مختلفتان وناظرتان الى معنيين مختلفين لا ينبغي خلط إحداهما بالأخرى ، وهذا الخلط في كلامه وكلام غيره من مهرة الفن عجيب.

٤ ـ ما ذكروه في باب الجهاد كما عن «العلامة» في «التذكرة» من ان المسلم يسمع دعواه في انه أمّن الحربي في زمان يملك امانه مدعيا عليه الإجماع ، ونحوه المحقق في الشرائع ، تبعا للمبسوط ، من دون دعوى الإجماع (٢).

قال المحقق في الشرائع انه لو أقر المسلم انه أذمّه (اي أمن واعطي الذمام) فان كان في وقت يصح منه إنشاء الأمان قبل.

وقال في الجواهر في شرح هذه العبارة : إجماعا كما في المنتهى لقاعدة من ملك شيئا ملك الإقرار به ، والا فلا بان كان إقراره بعد الأسر لم يصح ، لأنه لا يملكه حينئذ ، حتى يملك الإقرار به (٣).

٥ ـ ما ذكروه في باب الإقرار بالرجوع فيمن يصح له الرجوع في الزوجية وان أشكل فيه بعض ، قال بعضهم يقبل وقال بعضهم لا يقبل (٤).

هذه جملة مما استدل فيها بالقاعدة أو يستشم ان يكون هي الدليل فيها.

__________________

(١) جواهر الكلام ج ٣٥ كتاب الإقرار ص ١٠٤.

(٢ و ٤) نقله الشيخ الأعظم الأنصاري في رسالته الشريفة المعمولة في القاعدة في ملحقات مكاسبه ص ٣٦٨.

(٣) جواهر الكلام ج ٢١ كتاب الجهاد ص ١٠٠.

٤١١

إذا عرفت هذه تعلم ان المراد من القاعدة عندهم انه إذا كان الإنسان بحكم الشرع قادرا على إنشاء عقد أو إيقاع أو شبه ذلك قبل إقراره في فعل ذلك ويحكم بوقوع ذاك العقد أو الإيقاع أو شبهه لمكان هذه القاعدة.

مدرك قاعدة من ملك

اعلم انه لم يرد فيها أية رواية من معصوم عليه‌السلام بل ولم يدعه احد.

وما استدل أو يمكن الاستدلال به عليها بعد عدم ورود رواية خاصة فيها أمور :

الأول ـ الإجماع الذي صرح به غير واحد منهم فيما مر عليك من كلماتهم ويؤيده إرسال غيرهم للقاعدة إرسال المسلمات.

ولكن يرد عليه أولا انه لا يمكن الاستدلال بمثله في مثل هذه المسألة التي فيها مدارك أخر يمكن استناد المجمعين إليها ، مضافا الى ما قد عرفت من الاشكال فيه في بعض الموارد من التذكرة وصاحب الجواهر (قدس‌سره).

نعم قد يستدل بالقدر المتيقن منها مما لا خلاف فيه بينهم ، ولكنه وان سلم من الإشكال الأخير لكنه لا يسلم من الإشكال الأول وعلى كل حال الإنصاف ان دعوى الإجماع وظهور التسالم مؤيد قوي للأدلة الاتية وان لم يكن بنفسه دليلا.

الثاني ـ سيرة أهل الشرع

قال العلامة الأنصاري (قدس‌سره) في رسالته المعمولة في المسألة ، ويؤيده (أي الإجماع) استقرار السيرة على معاملة الأولياء بل مطلق الوكلاء معاملة الأصل في إقرارهم كتصرفاتهم (انتهى) (١).

والحق ان السيرة بنفسها دليل على المطلوب ، لا انها مؤيدة للإجماع ، ولكن

__________________

(١) ملحقات المكاسب ص ٣٧١.

٤١٢

سيأتي ان شاء الله ان منشأ السيرة أمر آخر وهو العمدة في المسألة.

الثالث : وقد يستدل لها بقاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» الثابتة بالإجماع وسيرة العقلاء والروايات الخاصة المعتبرة كما عرفت فيما مر.

هذا ولكن مر آنفا انهما قاعدتان مستقلتان لا دخل لأحدهما بالآخر ، وانما وقع الخلط بينهما من غير واحد من فقهائنا (رضوان الله عليهم) وهو بمعزل عن التحقيق بل المهم في قاعدة من ملك موارد افتراقها عن قاعدة الإقرار فلو كان الدليل عليها هو قاعدة الإقرار لانحصر بمواردها.

الرابع ـ وقد يتمسك لها بأدلة قاعدة الامانة وان من ائتمنه المالك على ملكه أو اذن له الشارع بأمر لا يجوز اتهامه.

وهو وان كان جيدا في الجملة ولكن لا يشمل جميع موارد قاعدة من ملك ، لأنه قد لا يدخل في عنوان الاذن من المالك أو الشارع بالتصرف في شيء ، وبعبارة أخرى قاعدة الايتمان تختص بموارد الأمانات مع ان قاعدة من ملك تجري في غيرها أيضا كما في مسألة إعطاء الأمان للكافر ، ومسألة الرجوع في الطلاق الرجعي.

الخامس ـ قد يتوهم ان القاعدة مستندة الى قاعدة قبول قول من لا يعلم الأمر الا من قبله ولكن يرده ان بعض مواردها وان كان من هذا القبيل ولكنه أخص من المدعى كما لا يخفى على الخبير.

السادس ـ وهو العمدة : استقرار بناء العقلاء عليه ، والظاهر انه من باب الدلالة الالتزامية الحاصلة من التسلط على أمر.

توضيح ذلك : إذا ملك الإنسان امرا وكان مسلطا عليه بحيث يجوز له التصرف

٤١٣

في أي زمان أراد فلازم ذلك ان يقبل قوله في اعمال هذه السلطنة ، وكيف لا يقبل ، وكيف يطلب منه البينة على اعمال سلطنته مع انه قادر عليه في كل زمان ، وامره بيده فهل يمكن ان يقال للزوج بأي دليل رجعت الى زوجتك المطلقة في عدتها؟ أو ليس يقول ان أمر الرجوع بيدي وتحت اختياري وانا قادر عليه في كل زمان من غير حاجة الى شيء آخر.

وبالجملة لازم هذه السلطة قبول قوله في اعماله ، والملازمة بينهما وان لم يكن عقليا الا انها ملازمة عرفية ظاهرة لكل احد.

ولذا لا يشك أحد في قبول قول الوكيل المأذون في البيع والشراء ، أو النكاح والطلاق ، فيما فعله ، وليس ذلك الا من جهة كون السلطة على هذه الأمور ملازمة لقبول قوله عرفا.

وما وقع من بعضهم من الإشكال في قبول إقرار عبد المأذون (كما عرفته سابقا عند نقل الأقوال) فالظاهر انه من جهة كون محل كلامهم العبد ، واما لو كان المأذون حرا فالظاهر قبول قوله فيما يملك امره ، كما ان الظاهر ان استقرار سيرة أهل الشرع على هذا المعنى ناش من هنا لا من دليل تعبدي وصل إليهم لم يصل إلينا.

وبالجملة لا ينبغي الريب في عموم القاعدة وشمولها لجميع موارد السلطنة ، الا ان يدل دليل خاص على خروج بعض هذه الموارد.

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا ان المراد بالملك هنا ليس «ملكية الأموال» بل هو عبارة عن السلطة على شيء سواء كانت في الأموال والنفوس والحقوق ، وغيرها ، وهذا أمر ظاهر لا يحتاج الى مزيد بيان بعد ما عرفت.

كما ان الظاهر مما عرفت اشتراط كونها فعليا فلو كان السلطة بالقوة على امره لم ينفذ إقراره فيه.

هذا تمام الكلام فيما أردنا شرحه من قاعدة من ملك وقد وقع الفراغ منه في ٦ رجب سنة ١٤٠٥ والحمد لله رب العالمين.

٤١٤

٢١ ـ قاعدة الطهارة

(كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر)

مدارك القاعدة من السنة

جريانها في الشبهات الموضوعية والحكمية

الطهارة والنجاسة حكمان واقعيان لا علميان

محاكمة مع صاحب الحدائق (رضوان الله عليه)

٤١٥
٤١٦

قاعدة الطهارة

من القواعد المشهورة أيضا قاعدة الطهارة التي يتمسك بها الأصحاب في أبواب الطهارات كلها ، وحاصلها الحكم بطهارة كل شيء ما لم يثبت نجاسته.

وهذا الحكم على إجماله مجمع عليه بين الأصحاب كما قال صاحب الحدائق في مقدمات حدائقه في المقدمة الحادية عشرة : «ان أصل الحكم المذكور مما لا خلاف فيه ولا شبهة تعتريه» (١).

وان وقع الخلاف فيها في مواضع تأتي الإشارة إليها ان شاء الله.

فلنذكر أولا ما عثرنا عليه من الروايات الدالة على هذا الحكم ، ثمَّ لنتكلم في موارد الخلاف فيها ، وهي عدة روايات :

١ ـ موثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ، فاذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك» (٢).

٢ ـ ما رواه حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام قال : «ما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم اعلم»؟! (٣).

٣ ـ ما أرسله الصدوق في المقنع : «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر» (٤).

__________________

(١) الحدائق ج ١ ص ١٣٤.

(٢) الوسائل ج ٢ أبواب النجاسات الباب ٣٧ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ج ٢ أبواب النجاسات الباب ٣٧ الحديث ٥.

(٤) المستدرك ج ١ ص ١٦٤ ح ١ من الباب ٢٩ من أبواب النجاسات.

٤١٧

والظاهر انها متحدة مع ما سبق ولا دليل على كونها رواية أخرى.

ويستفاد عموم هذا الحكم من عدة روايات في خصوص أبواب المياه أيضا.

منها ما رواه حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الماء كله طاهر حتى تعلم انه قذر» (١).

وما أرسله المحقق في المعتبر قال قال عليه‌السلام قال : «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء ، إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» (٢).

وما رواه داود بن فرقد من أبي عبد الله عليه‌السلام قال :. «وجعل لكم الماء طهورا» (اقتفاء لما يظهر من آيات الذكر الحكيم من كون الماء طهورا) (٣).

الى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.

ولكن العمدة من ذلك هو «موثقة عمار» لان غيرها وردت في موارد خاصة لا يمكن الاستناد إليه في هذه القاعدة الكلية ، ولكن كفى بها دليلا على المطلوب بعد العمل بها ، من ناحية الأصحاب رضوان الله عليهم مع اعتبار سندها في نفسه.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انه قد يشك في كون شيء طاهرا أو نجسا من ناحية الشبهة الموضوعية ، كما إذا شك في غليان العصير بناء على نجاسته بالغليان ، أو في صيرورة العنب خمرا بناء على ما هو المشهور من نجاسة الخمر ، أو في كون إنسان كافرا أو مسلما إذا لم يكن له حالة سابقة ، بناء على ما هو المعروف من نجاسة الكفار وكذا إذا شك في تغيّر الماء بأحد أوصافه الثلاثة ، أو اصابة الثوب واللباس شيء من النجاسات. أو في البلل المشتبه بالبول والمني فشك انه بلل طاهر أو نجس ، أو غير ذلك مما لا يحصى.

__________________

(١) الوسائل ج ١ أبواب الماء المطلق الحديث ٥.

(٢) الوسائل ج ١ أبواب الماء المطلق الحديث ٩.

(٣) الوسائل ج ١ أبواب الماء المطلق الحديث ٤.

٤١٨

ففي كل هذه الموارد إذا علم بالحالة السابقة فلا شك في انه يؤخذ بها بمقتضى الاستصحاب ، وان لم يكن له حالة سابقة فيحكم بطهارتها بمقتضى هذه القاعدة ، أعني قاعدة الطهارة ، فيجوز استعمالها في كل ما يشترط فيه الطهارة.

هذا كله مما لا ريب فيه ولم ينقل خلاف فيها من أحد من الأصحاب.

نعم لا إشكال في رجحان الاحتياط في جميع هذه المقامات بالأدلة العامة الواردة في استحباب الاحتياط في أمور الدين.

هذا ولكن الاولى الاقتصار في الاحتياط فيها بما يكون الشبهة فيه قوية كشرب سؤر من لا يبالي في الدين ، أو يكون متهما جدا ، واما الاحتياط في كل ما يؤخذ من سوق المسلمين ، وأيدي أهل الدين ، بمجرد احتمال النجاسة ، الموجودة في جميع الأشياء ، فلم يثبت في الشرع رجحانه وان كان قد يتراءى العمل به من بعض أهل العلم والتقوى ، بل الظاهر انه مخالف للاحتياط ، لترتب مفاسد كثيرة عليها من إيذاء المؤمنين ، وإتلاف الوقت والمال ، وكونه مظنة للوسواس المرغوب عنها أو مثل ذلك.

بل الظاهر انه مخالف لسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين عليهم‌السلام وأصحابهم لأنهم كانوا يزاولون الناس ، ويأكلون ويشربون معهم ، ويدخلون الحمامات ، ويشترون الألبسة والأطعمة من سوق المسلمين ، ويلبسونها ، أو يأكلون منها من غير غسلها ، مع ما كانت الأسواق والحمامات لا سيما في تلك الأزمنة مشكوكة من حيث الطهارة والنجاسة ، لدخول غير المسلمين فيها ، واعتقاد بعض فرق المسلمين بطهارة الميتة بالدباغة ، أو طهارة العصير العنبي المغلي ، أو حكمهم بطهارة النبيذ ، أو طهارة الأشياء النجسة بزوال عين النجاسة ، الى غير ذلك ، مما يستفاد من الاخبار وفتاواهم في أبواب مختلفة ، من أبواب الطهارات والنجاسات.

فلو كان الاحتياط امرا مرغوبا فيه في باب الطهارة والنجاسة بمجرد الاحتمال

٤١٩

لما خالفه المعصومون المطهرون (عليهم آلاف الصلاة والتحية) فالأولى ترك هذه الاحتياطات إلا في موارد الاتهام الشديد ، وترجيح الأخذ بسيرة المسلمين وأئمة الطاهرين عليهم‌السلام والحكم بطهارة الأشياء مما لم يعلم نجاستها.

واخرى يكون من جهة «الشبهة الحكمية» كما إذا تولد حيوان من طاهر ونجس ، ولم يصدق عليه شيء من عناوين الحيوانات الموجودة ، وشك في طهارته ونجاسته ، وكذا إذا شك في بعض اجزاء الحيوان كبول الطائر الذي لا يؤكل لحمه وغير ذلك مما ليس له حالة سابقة ، حتى يتمسك فيه بالاستصحاب ففيه قولان :

المحكى عن جملة من المتأخرين الحكم بالطهارة بمقتضى هذه القاعدة ، وعن المحدث الأمين الأسترآبادي في كتاب العوائد المدنية ، هو العدم ، حكاهما صاحب الحدائق في حدائقه (١).

وقد يقال بان القدر المتيقن من الاخبار السابقة ، وعمدتها موثقة عمار ، هو ما وقع الاتفاق عليه من الشبهات الموضوعية ، لأن المراد من هذا الخبر وأمثاله انما هو دفع الوساوس الشيطانية ، والشكوك النفسانية ، بالنسبة الى حالة الجهل بملاقاة النجاسة ، وبيان سعة الحنيفية ، السمحة السهلة ، بالنسبة إلى اشتباه بعض الافراد غير المحصورة ببعض ، فيحكم بطهارة الجميع حتى يعلم الفرد النجس بعينه ، واما اجراء ذلك في الجهل بالحكم الشرعي فلا يخلو من الاشكال ، المانع من الجرية على الحكم به في هذا المجال (٢).

ويمكن الاستدلال على ما ذكره من اختصاص الخبر بالشبهات الموضوعية هو تقييده بقوله «حتى تعلم» ، لان هذا التعبير انما هو في الأحكام الظاهرية المناسبة للشبهات الموضوعية ، واما الأحكام الواقعية فهي غير مغياة بالعلم والجهل.

__________________

(١) الحدائق ج ١ ص ١٣٥.

(٢) الحدائق ج ١ ص ١٣٥.

٤٢٠