القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

قلنا : ليس المدار في المعاملات على الدواعي الشخصية ، بل الملاك على الدواعي النوعية ، فبحسب النوع ، الشرط تابع ، وأصل المتاع مقوم ، وهذا هو معيار تعدد المطلوب عند العقلاء ، ولذا لا يفرقون في مباحث خيار العيب بين من يكون وصف الصحة مقوما عنده شخصيا ، ومن لا يكون كذلك.

والحاصل ان قواعد الشرط وبناء العقلاء لا تدور مدار الدواعي الخاصة لا في مقامنا هذا ولا في غيره وانما تدور مدارها نوعيا.

ومن هنا يظهر ان ما افاده «المحقق النراقي» في «عوائده» ما لفظه :

«لا يخفى ان ما ذكروه ان العقود تابعة للقصود فإنما هو على سبيل الأصل والقاعدة على ما عرفت ، ويمكن ان يتخلف في بعض المواضع ، لدليل خارجي ، كان يحكم الشارع بصحة عقد مع فساد شرطه ، فيقال ان ذلك خارج عن القاعدة بالدليل» (١).

منظور فيه ، لما عرفت من ان هذا ليس تخصيصا في القاعدة ، ولا يكون خارجا عنها بدليل.

ومنه يظهر الحال في تخلف وصف الصحة ومسئلة خيار العيب فلا نحتاج الى مزيد بحث فيه.

هذا كله بناء على كون الشرط الفاسد غير مفسد واما بناء على الإفساد فلا كلام.

٦ ـ وقد يورد عليها أيضا بما إذا باع ما يملك على ما لا يملك (مبنيا على المعلوم) أو باع ما يملك على ما لا يملك (مبنيا على المجهول) فان المتعاقدين قصدا المعاملة في مجموع المبيع والثمن ، واما المبادلة بين بعض الثمن والمثمن

__________________

(١) العوائد ص ٥٤.

٣٨١

فشيء لم يقصداه ، فلو صحت بالنسبة الى ما يملك ، وبطل فيما لا يملك ، عد جزء من الثمن ، «فما قصداه لم يقع ، وما وقع لم يقصداه» ولذا قال العلامة الأنصاري (قدس‌سره الشريف) بخروجه عن تلك القاعدة بالنص والإجماع (١).

والانصاف انه يمكن تطبيقه أيضا على القواعد ، بحيث لا يكون استثنائا في قاعدة التبعية بما عرفته من البيان في الشرط الفاسد ، من ان العقد فيه «أركان» و «توابع» وتخلف الأركان يوجب الفساد قطعا ، واما تخلف التوابع لا يوجبه ، بل قد يوجب الخيار ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

فان نوع المتاع وان كان ركنا في المعاملة كالفرس والحمار والحديد والنحاس ، ولكن مقداره وكميته ليس ركنا في الغالب عند العقلاء ، بل من قبيل تعدد المطلوب فمن اشترى عشرين منّا من الحنطة بعشرين درهما ، ثمَّ ظهر نصفه مما لا يملكه ، فالمعاملة تتجزى في هذه الاجزاء وتصح في العشرة في مقابل العشرة ، لما عرفت من ان المقدار من قبيل تعدد المطلوب ، ولكن وقوع هذا التخلف يوجب خيار تبعض الصفقة.

وقد عرفت ان المدار في هذه المقامات على الدواعي النوعية ، لا الشخصية.

نعم إذا كان الربط بين ما يملك وما لا يملك بحيث لا تتعلق بواحد منهما الدواعي النوعية كما في النعلين ومصراعي الباب فلا يبعد الحكم بالفساد حينئذ فتدبر.

٧ ـ ومما أورد على عمومية القاعدة أيضا مسألة المتعة إذا لم يذكر فيها الأجل فإنها تنقلب دائما عند المشهور كما ذكره في المسالك ، حتى عند قصدهما الأجل ، قال ما لفظه :

«ولو قصدا المتعة وأخلا بذكر الأجل ، فالمشهور بين الأصحاب انه ينعقد

__________________

(١) راجع المكاسب كتاب البيع (بيع ما يملك وما لا يملك) ص ١٥١.

٣٨٢

دائما» ثمَّ المستدل عليه بان لفظ الإيجاب صالح لهما ، وانما يتمحض للمتعة بذكر الأجل ، وللدوام بعدمه ، فاذا انتفى الأول ثبت الثاني.

ولأن الأصل في العقد الصحة ، والفساد على خلاف الأصل.

ولموثقة عبد الله بن بكير عن الصادق عليه‌السلام قال ان سمي الأجل فهو متعة ، وان لم يسم الأجل فهو نكاح ثابت.

ثمَّ أورد على الجميع بقوله : «وفيه نظر لان المقصود انما هو المتعة ، إذ هو الغرض ، والأجل شرط فيها وفوات الشرط يستلزم فوات المشروط ، وصلاحية العبارة غير كافية ، مع كون المقصود خلاف ما يصلح له اللفظ ، والمعتبر اتفاق اللفظ والقصد على معنى واحد ، وهو غير حاصل هنا ـ الى ان قال :

والخبر مع قطع النظر عن سنده ليس فيه دلالة على ان من قصد المتعة ولم يذكر الأجل يكون دائما بل انما دل على ان الدوام لا يذكر فيه الأجل ، وهو كذلك لكنه غير المدعى.

ثمَّ استنتج من جميع ذلك ان القول بالبطلان أقوى (١).

وقال السبزواري في «الكفاية» في كتاب النكاح : «لو لم يذكر الأجل وقصد المتعة قيل ينعقد دائما ، وقيل يبطل مطلقا ، وقيل ان كان الإيجاب بلفظ التزويج والنكاح انقلب دائما وان كان بلفظ التمتع بطل العقد ، وقيل ان الإخلال بالأجل ان وقع على وجه النسيان والجهل بطل ، وان وقع عمدا انقلب دائما والقول الأول مذهب الأكثر ـ ثمَّ استدل له بمثل ما ذكره الشهيد الثاني ، وأورد عليه بما يشبهه ـ ثمَّ قال ـ والمسألة محل اشكال (٢).

هذا ولكن ذهاب المشهور الى هذا الحكم غير ثابت ، بل يمكن ان يكون

__________________

(١) المسالك ج ١ ص ٥٠٣.

(٢) كفاية الأحكام ص ١٧٠.

٣٨٣

من قبيل ما ذكره الشيخ (قدس‌سره) في «الخلاف» حيث قال :

النكاح المتعة عندنا مباح جائز ، وصورته ان يعقد عليها مدة معلومة بمهر معلوم فان لم يذكر المدة كان النكاح دائما» (١).

والظاهر ان مراده من هذه العبارة ما إذا لم ينو الأجل بل نوى معنى اللفظ على إطلاقه ، ولا أقل من الاجمال.

ويشهد له ما استدل لمذهب المشهور ـ كما في الرياض ـ بصلاحية العقد لكل منهما ، وانما يتمحض للمتعة بذكر الأجل وللدوام بعدمه ، فمع انتفاء الأول يثبت الثاني لأن الأصل في العقد الصحة (٢).

فإن من المعلوم ان مجرد صلاحية اللفظ عند قصد خلاف معناه غير كاف في صحة العقد ، بل الصلاحية انما تنفع مع القصد.

وعلى كل حال لا دليل على أصل هذه المسألة ، لا من القواعد العامة والعمومات ولا من الروايات الخاصة ، فحينئذ لا يكون نقضا على عموم هذه القاعدة ، أي قاعدة تبعية العقود للقصود.

وقد تلخص من جميع ما ذكرنا ان شيئا مما أورد على هذه القاعدة بعنوان النقض لا يكون نقضا عليها بل هو بين ما لم يثبت وما يكون ثابتا وليس نقضا.

ومن هنا يظهر النظر فيما ذكره العلامة الأنصاري (قده) في بعض كلماته في مبحث المعاطاة وانه لو قلنا بان نتيجتها الإباحة يلزم انثلام قاعدة تبعية العقود ، وما قام مقامها ، للقصود ، بقوله : «ان تخلف العقد عن مقصود المتبايعين كثير ـ ثمَّ ذكر تأثير العقد الفاسد في الضمان (ضمان المثل أو القيمة) ثمَّ قال : ـ وكذا الشرط الفاسد لم يقصد المعاملة إلا مقرونة به غير مفسد عند أكثر القدماء ، وبيع

__________________

(١) الخلاف ج ٢ ص ٣٩٤ (كتاب النكاح مسألة ١١٩).

(٢) رياض الاحكام ج ٢ ص ١١٥.

٣٨٤

ما يملك وما لا يملك صحيح عند الكل ، وبيع الغاصب لنفسه يقع للمالك مع اجازته على قول كثير ، وترك ذكر الأجل في العقد المقصود به الانقطاع يجعله دائما على قول نسبه في المسالك وكشف اللثام الى المشهور» (١).

وقد عرفت ان شيئا مما افاده (قده) لا يكون نقضا على القاعدة.

__________________

(١) المكاسب ص ٨٤.

٣٨٥
٣٨٦

١٩ ـ قاعدة التلف في زمن الخيار

(التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له)

ما استدل به للقاعدة من السنة وعدم تماميتها

الاستدلال لها بحكم العقل واقتضاء الأصل وعدم تماميتها

في عمومية القاعدة لجميع الخيارات وعدمها

هل الحكم في الجميع خاصة أم يشمل الثمن أيضا؟

هل الضمان هو الضمان المعاملي أو الواقعي؟

٣٨٧
٣٨٨

قاعدة التلف في زمن الخيار

ومما اشتهر بين الأصحاب حتى ادعى عليها الإجماع ان التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له.

قال في «مفتاح الكرامة» : «انه حكم العلامة في القواعد وفي التذكرة والمحقق الثاني والفاضل الميسي انه يكون التلف من المشتري ان كان الخيار للبائع ، أو لهما أو لأجنبي ، وانه ان كان للمشتري خاصة فمن البائع ، وهو فيما عدا الأجنبي وما عدا ما إذا كان الخيار لهما على ما ستعرف الحال فيه موافق لما في السرائر ، وجامع الشرائع والإرشاد ، وشرحه ، ومجمع البرهان ، من ان التلف ان كان في مدة الخيار فهو ممن لا خيار له.

ثمَّ قال : وهو معنى ما في الشرائع والتحرير والتذكرة والمسالك والمفاتيح من انه ان كان الخيار للبائع فالتلف من المشتري ، وان كان للمشتري فالتلف من البائع.

ثمَّ قال ولا أجد في شيء من ذلك خلاف» (١).

ويظهر من هذا الكلام ان أصل المسألة مما لا خلاف فيه بينهم وان وقع الكلام في جزئياته وخصوصياته.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ج ٤ كتاب المتاجر ص ٥٩٨.

٣٨٩

ثمَّ انه لا ينبغي الشك في ان مقتضى الأصل كون تلف كل مال من مال مالكه ، فاذا تمَّ البيع وانتقل المبيع الى ملك المشتري والثمن الى ملك البائع فتلف كل واحد منهما من مال مالكه الفعلي ، ما لم يقع تعد أو تفريط أو إتلاف من ناحية الأخر ، ولا اثر لوجود الخيار وعدمه في هذا الأصل.

ويظهر من ذلك ان الحكم بكون التلف ممن لا خيار له مخالف للقاعدة ، خرج منها بدليل ، وليس وجود الخيار مانعا عن تأثير البيع وانتقال كل من العوضين إلى الأخر ، بل الخيار مجوز لفسخ البيع فقط.

نعم لا يبعد ان يكون الحكم في خيار الحيوان على القاعدة فان حكمة هذا الخيار بل علته انما هو جهالة حال الحيوان من حيث استقرار حياته وعدمه ، وصحته عن المرض وعدمها ، فإنه قد يكون حيوان في معرض التلف وصاحبه يعلم ذلك وليست هذه الحالة ظاهرة في الحيوان فقد يبيعه حتى التلف في ملك المشتري ، ويأخذ ثمنه ، ففي مثل ذلك حكم الشرع بوجود الخيار بل وصرح بأنه لو تلف في زمن الخيار فهو من البائع.

والظاهر ان الحكم عند العقلاء أيضا كذلك ، وان كان تعيين الخيار في ثلثة أيام غير معروف عندهم.

وكذلك إذا كان البائع في شك من هذا المبيع وشرط الخيار لنفسه وانه لو تلف المبيع في مدة كذا كان من ماله ، فهو مأخوذ بمقتضى هذا الشرط.

والحاصل ان القاعدة في غير الحيوان وخيار الشرط (المراد اشتراط كون التلف على من لا خيار له في مدة معينة) مخالف للأصل لا بد في إثباتها من دليل تعبدي.

إذا عرفت ذلك فلنرجع الى بيان مدركها فنقول ومن الله سبحانه التوفيق والهداية

٣٩٠

مدرك هذه القاعدة

والعمدة في المقام «هي روايات كثيرة» وردت في أبواب خيار الحيوان وغيرها :

١ ـ منها ما رواه عبد الرحمن ابن ابي عبد الله قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل اشترى أمة بشرط من رجل يوما أو يومين فماتت عنده ، وقد قطع الثمن ، على من يكون الضمان؟ فقال ليس على الذي اشترى ضمان حتى يمضى شرطه (١).

ولعل المراد بقطع الثمن هو قطعه عن المشتري وإعطائه للبائع ، ويحتمل بعيدا ان يكون القطع هنا بمعنى المنع.

وعلى كل حال ، الظاهر من اشتراط الخيار هنا ـ بقرينة كونه امة ـ اشتراط خيار الفسخ واشتراط كون التلف على البائع أيضا ولو بعنوان الداعي لخيار الشرط فالحكم فيها على وفق القاعدة كما لا يخفى.

٢ ـ ما رواه عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يشتري الدابة أو العبد ويشترط الى يوم أو يومين فيموت العبد والدابة أو يحدث فيه حدث ، على من ضمان ذلك؟ فقال : على البائع حتى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري (٢).

وروى مثل هذا الحديث الحسن بن محبوب عن ابن سنان الا انه قال ويصير المبيع للمشتري ، شرط البائع أو لم يشترطه.

٣ ـ ما رواه عبد الله بن الحسين عن أبيه عن جعفر بن محمد عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في رجل اشترى عبدا بشرط ثلاثة أيام فمات العبد في الشرط قال يستحلف بالله ما رضيه ، ثمَّ هو برئ من الضمان (٣).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة أبواب الخيار الباب ٥ الحديث ١.

(٢) الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة أبواب الخيار الباب ٥ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة أبواب الخيار الباب ٥ الحديث ٤.

٣٩١

والظاهر ان المراد استحلافه بأنه لم يسقط خيار الحيوان وما رضى استقرار البيع ولزومه.

٤ ـ ما رواه حسن بن علي بن رباط عمن رواه عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال ان حدث بالحيوان قبل ثلاثة أيام فهو من مال البائع (١).

والعمدة في الاستدلال على هذه القاعدة ما عرفت من الروايات الأربع أو الخمس.

وقد يستدل لها أيضا بما ورد في حكم التلف في خيار الشرط.

مثل ما رواه إسحاق بن عمار قال حدثني عن مسمع أبا عبد الله عليه‌السلام وسأله رجل وانا عنده فقال رجل مسلم احتاج الى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال أبيعك داري ، هذه وتكون لك أحب الي من ان تكون لغيرك على أن تشترط لي ان أنا جئتك بثمنها إلى سنة ان ترد علي ، فقال لا بأس بهذا ، ان جاء بثمنها إلى سنة ردها عليه ، قلت فإنها كانت فيها غلة كثيرة فأخذ الغلة لمن تكون الغلة؟ فقال : الغلة للمشتري ، ألا ترى انه لو احترقت لكانت من ماله (٢).

وما رواه معاوية بن ميسرة قال سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل باع دارا له من رجل ، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر فشرط انك ان أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك فأتاه بماله قال له شرطه ، قال أبو الجارود : فان ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين ، قال هو ماله ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام أرأيت لو ان الدار احترقت من مال من كانت؟ تكون الدار دار المشتري (٣).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة أبواب الخيار الباب ٥ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة أبواب الخيار الباب ٨ الحديث ١.

(٣) الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة أبواب الخيار الباب ٨ الحديث ٢.

٣٩٢

والعجب من استدلال جماعة من أعاظم الأصحاب بهاتين الروايتين كما يظهر من «مفتاح الكرامة» و «جامع الشتات» للمحقق القمي و «غيرهما» مع ان الظاهر انه لا مساس لهما بما نحن بصدده ، لعدم ورود هذا التعبير «ان التلف ممن لا خيار له» أو ما يشبهه في متن الروايتين بل الحكم فيهما في ضمان المشتري للدار انما هو من باب القاعدة فإن الملك ملكه فكما أن الغلة له ، التلف أيضا عليه ، سواء كان للبائع خيار أم لا ، ولحن الحديثين دليل على ما ذكرناه ، فإنه استدل على ملكية المشتري للغلة ، بكون تلف العين أيضا من ملكه ومئالهما إلى شيء واحد وهو كون المتاع ملكا للمشتري بعد البيع من غير تأثير لوجود خيار البائع بعده.

ولو استدل بهما على قاعدة الخراج بالضمان كان اولى من الاستدلال بهما لما نحن بصدده وان كان قد عرفت عدم دلالتها عليها أيضا.

وبالجملة ليس فيهما ما يستشم منه كون ضمان المشتري باعتبار وجود الخيار للبائع ، ومن الواضح ، ان مجرد وجود هذه الخصوصية في الموارد لا يمكن ان يكون دليلا على المطلوب ، وقد مر بعض الكلام في ذلك في قاعدة الخراج بالضمان.

الاستدلال عليها بحكم العقل واقتضاء الأصل

وقد يستدل على القاعدة بحكم العقل وموافقتها للأصل بما حاصله :

ان من له الخيار يقدر على الفسخ في كل زمان ، ومع الفسخ تنتقل العين الى ملك مالكه الأول ، فيكون التلف من ملكه قهرا ، فبهذا الاعتبار لا بد ان يحسب تلف العين على المالك الأول وهو من لا خيار له ، فيكون التلف من ملكه.

ولكنه ضعيف جدا لا ينبغي التفوه به ، لأنه مبني على حكم فرضي ، وهو انه لو فرض اقدام صاحب الخيار على الفسخ لكان التلف من ملك المالك الأول ، ولكن من المعلوم انه فرض غير واقع ، فإنه لم يفسخ ، ولم يرد العين الى مالكه الأول بل

٣٩٣

هو موجود بعد في ملك صاحب الخيار ، فكيف يكون التلف من غيره؟!

وبالجملة : هذا الحكم مخالف للقواعد والأصول كما عرفت سابقا لا ينبغي المسير اليه الا بدليل تعبدي.

وقد عرفت ان الاستدلال بالروايات الخاصة التي هي المدرك الوحيد في المسألة مشكل جدا ، إلا في مورد خيار الحيوان ، والشرط الناظر الى حكم التلف ، وهما أيضا موافقان للأصل للبيان الذي مر آنفا ، فلا يجوز تسرية الحكم الى غيرهما.

وقد يتوهم ان كون هذه القاعدة على خلاف مقتضى الأصول انما هو على القول غير المشهور في باب الخيار ، من ان العين لا ينتقل الى الطرق الا بعد مضي زمان خيارها ، وقبل مضي زمانه تكون العين باقية على ملك مالكها ومقتضى ذلك كون تلفها منه.

هذا ولكنه أيضا ضعيف حتى على مبنى غير المشهور ، فان عدم انتقال العين على هذا المبنى غير مختص بما فيه الخيار ، بل يشمله وما يقابله ، والا يلزم منه الجمع بين العوض والمعوض ، فمن ليس له الخيار لا يملك شيئا من العوضين فان الثمن انتقل من ملكه مثلا ، والمثمن لم ينتقل الى ملكه ، واما من له الخيار فهو مالك لهما جميعا ، وهذا مما لا يظن الالتزام به وان حكى عن الشيخ في بعض كلماته الا انه غير ثابت ، ولا بد من تأويله على فرض ثبوته.

وبالجملة : لو قلنا بان الملك لا ينتقل في زمن الخيار فلازمه كون تلف كل من الثمن والمثمن من مال مالكه الأصلي ، سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما ، وسواء كان ذو الخيار هو البائع أو المشتري.

تنبيهات

الأول : في عمومية هذه القاعدة وعدمها

اختلف آرائهم في هذه المسألة وفيه وجوه أو أقوال

٣٩٤

١ ـ اختصاص هذا الحكم بخيار الحيوان والشرط إذا كان مورد الشرط بيع الحيوان.

٢ ـ اختصاصه بخيار الحيوان ، والشرط مطلقا سواء كان مورده حيوانا أو دارا أو غيرهما.

٣ ـ جريان القاعدة فيهما وفي خيار المجلس بملاك ان جميعها مشتمل على الزمان.

٤ ـ جريانها في الخيارات الزمانية وغيرها من دون اي تفاوت ، إلا إذا حدث الخيار بعد العقد.

يظهر الأول من بعض الأعاظم في كتاب البيع.

والثاني من صاحب الجواهر.

والثالث فيما يظهر من كلمات شيخنا الأعظم الأنصاري.

والرابع هو مختار السيد المحقق اليزدي في حاشيته على المكاسب.

هذا والمختار هو القول الأول لما عرفت سابقا من ان القاعدة على خلاف مقتضى الأصول ، ولم يدل عليها إلا أخبار خاصة واردة في خيار الحيوان ، وخيار الشرط إذا كان المبيع حيوانا ، واما ما ورد في خيار الشرط مما ليس موردها حيوانا فقد عرفت انه أجنبي عما نحن بصدده.

بل قد عرفت ان جريان هذه القاعدة في مورد الحيوان (سواء كان خيار الحيوان أو الشرط) من قبيل شرط ضمني ، فإن جعل الخيار في هذين الموردين انما هو لاستكشاف حال الحيوان فقد يكون مشرفا على الموت ويبيعه المالك مع حفظ ظاهره فلو كان تلفه من ملك المشتري كان ضررا عظيما.

وان شئت قلت : إذا تلف في الثلاثة يستكشف ان الحيوان لم يكن مستقر الحياة غالبا وانه لم يكن مالا يبذل بإزائه المال ، فيبطل البيع ويعود الثمن الى ملك

٣٩٥

المشتري.

واستدل المحقق اليزدي على مختاره من التعميم بقوله : «ويصير البيع للمشتري» الوارد في صحيحة ابن سنان التي مر ذكرها آنفا.

هذا ولكن الإنصاف انه لا يكون فوق حد الاشعار وليس داخلا تحت عنوان القياس المنصوص العلة كما يظهر لمن تأملها.

الثاني : هل الحكم مختص بالمبيع أو يشمل الثمن أيضا

قد يقال ان الحكم عام للثمن والمثمن فيكون تلف الثمن في مدة خيار البائع المختص به من مال المشتري ، ولكن قال في مفتاح الكرامة :

«اما إذا تلف الثمن بعد قبضه والخيار للبائع فهذا محل إشكال ، لأن الأصل بمعنى القاعدة يقتضي بأن التلف من البائع لا من المشتري ولم يتعرض احد لحال هذا الأصل ، والمقدس الأردبيلي إنما تعرض لحال الثمن قبل القبض ، والاخبار انما وردت في المبيع ، وخبر «عقبة» وان كان يشم منه التعميم ، الا انه صريح فيما قبل القبض ، الا ان نقول إطلاق ان التلف ممن لا خيار له ونحوه يتناوله» (١).

وقال السيد المحقق اليزدي في حاشيته للمكاسب :

«الحق عدم شمول الحكم لتلف الثمن لعدم الدليل ، وكون الحكم على خلاف القاعدة» (٢).

واختار العلامة الأنصاري (ره) العموم نظرا الى المناط ، مضافا الى ضمان المشتري له الثابت قبل القبض (٣).

__________________

(١) مفتاح الكرامة ج ٤ ص ٦٠٠.

(٢) تعليقة السيد على المكاسب ص ١٦٩.

(٣) المكاسب ص ٣٠١.

٣٩٦

هذا جملة من كلمات من تعرض للمسئلة وغاية ما يستفاد منهم أو من غيرهم ان الدليل على التعميم أمور :

الأول : استصحاب بقاء الضمان أي ضمان الثمن قبل القبض من ناحية المشتري.

ويرد عليه مضافا الى عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية عندنا ، ان الموضوع قد تغير قطعا وملاك الضمان قبل القبض قد انتفى ، مضافا الى ان الاستصحاب لا يقاوم القاعدة المسلمة من كون تلف كل ملك من مال مالكه إذا لم يكن هناك دليل على ضمان غيره.

الثاني : شمول عنوان القاعدة الذي هو معقد الإجماع له ، فان قولهم «التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له» عام شامل للثمن والمثمن.

وفيه مضافا الى عدم ثبوت الإجماع على هذا العنوان ، انه لو ثبت لم يكن حجة بعد وجود أدلة أخرى في المسألة.

الثالث : ما يستفاد من العلة للحكم من صحيحة «ابن سنان» فان قوله «الضمان على البائع حتى ينقضي الشرط ويصير المبيع للمشتري» بمنزلة قوله انه ما لم ينقض مدة الخيار لا يرتفع الضمان.

وفيه اشكال ظاهر : فإن إشعاره بالمقصود قابل للمناقشة فكيف بالدلالة ، بعد ورود الحديث في خيار الحيوان لخصوص المشتري.

ولقد أجاز صاحب الجواهر قدس‌سره حيث انه بعد ما ذكر كلام بعض الاعلام في عمومية القاعدة للثمن والمثمن ، وما استدل به ، «انه من غرائب الكلام ، ضرورة كون النص والفتوى في خصوص المبيع دون الثمن ، فمن العجيب دعوى ان النص والفتوى على كون الثمن من المشتري إذا كان الخيار للبائع خاصة» (١).

هذا كله إذا قلنا بعمومية القاعدة للخيارات في جانب المشتري ، وقد عرفت

__________________

(١) الجواهر ج ٢٣ ص ٨٨.

٣٩٧

ان الحكم فيه أيضا محل اشكال ، وان هذه القاعدة من أصلها مما لا دليل عليها ما عدا الصور التي يستفاد من دليل الخيار كون مشروعيته لأجل وضوح حال الحيوان من السلامة وبقاء الحياة وعدمه.

الثالث : في المراد من الضمان في القاعدة

هل المراد من الضمان هو الضمان المعاملي ، بمعنى انه لو تلف العين في زمن الخيار بعد قبضه ينفسخ البيع وينتقل كل من الثمن والمثمن الى ملك مالكه آنا ما قبل الفسخ ثمَّ ينفسخ ثمَّ يكون التلف من ملك مالكه ، الذي لا خيار له ، مثلا إذا كان الخيار خيار الحيوان فتلف في الثلاثة ينتقل الحيوان إلى البائع آنا ما قبل التلف ثمَّ يتلف من ملكه ، وان كان الحيوان في يد المشتري وحينئذ فعلى البائع رد الثمن إلى المشتري من غير ان يأخذ منه شيء.

أو ان الضمان هو الضمان الواقعي يعني ان البيع لا ينفسخ بمجرد التلف ، بل يبقى بحاله ولكن على البائع في مثال الفوق ان يؤدي إلى المشتري قيمة الحيوان الذي تلف في زمن الخيار.

لا شك ان ظاهر الضمان هو الضمان الواقعي ، ولكن هنا قرائن تصرفه عن ظاهره ، ويكون بمعنى الضمان المعاملي ، وهو الضمان بالمسمى.

منها ـ ظاهر الروايات الواردة في هذه القاعدة ، مثل ما ورد في ذيل صحيحة عبد الله بن سنان ، في جواب السؤال عن دابة تلفت في زمان الشرط على من ضمان ذلك؟ فقال : على البائع حتى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ، ويصير المبيع للمشتري (١).

فإن قوله حتى ينقضي الشرط ظاهر في إدامة الخيار الذي ثابت قبل القبض ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ أبواب الخيار الباب ٢ الحديث ٥.

٣٩٨

ويؤكده قوله ويصير المبيع للمشتري فإن ظاهره عدم استقرار المبيع ما لم ينقض ثلاثة أيام ، ولازمه الانفساخ بالتلف ، فيعود المشتري الى ثمنه ، وبعبارة أخرى : ليس في كلام الامام عليه‌السلام اثر من ضمان المبيع ببدله ، بل ظاهر كلامه كون المبيع متزلزلا في زمن الخيار ، والاستناد الى ذلك لازمه انفساخ هذا البيع المتزلزل بتلف المبيع.

ومنها ـ ما هو أوضح من ذلك وهو قوله في مرسلة «ابن رباط» عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ان حدث بالحيوان قبل ثلاثة أيام فهو من مال البائع (١).

فإن التعبير بكونه من مال البائع لا يستقيم الا بانفساخه آنا ما قبل التلف ، حتى يعود كل منهما الى ملك مالكه ، فيكون تلف المبيع من ملك البائع.

ومنها ـ وحدة التعبير في هذه القاعدة ، وقاعدة «تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بايعه» بعد كون المراد من الضمان في تلك القاعدة هو الضمان بالمسمى قطعا فيكون المراد منه في محل الكلام هذا المعنى أيضا فتأمل.

وأوضح من ذلك كله ما عرفت في بيان مفاد هذه القاعدة ومدركها ، بعد اختصاصها بالحيوان وشبهه ، من انه قد يكون حياة الحيوان متزلزلا وحينئذ لا مالية له واقعا ، وان كان في نظر من لا يعلم ذلك بل يظن استقرار حياته مالا ، وان الشارع المقدس جعل هذا الخيار ليتبيّن الحال ، فلو تلف كانت المعاملة واقعة على شيء لا مالية له في الواقع ، فلا بد من رجوع الثمن إلى المشتري فراجع وتأمل ما تلوناه عليك سابقا تجده وافيا بإثبات المطلوب.

ومن هنا تعرف النظر في كلام العلامة في التذكرة حيث قال :

«مسألة» : لو تلف المبيع بآفة سماوية في زمن الخيار فان كان قبل القبض انفسخ البيع قطعا ، وان كان بعده لم يبطل خيار المشتري ولا البائع ، وتجب القيمة

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ أبواب الخيار الباب ٥ الحديث ٥.

٣٩٩

على ما تقدم ، وقال الشافعي ان تلف بعد القبض ، وقلنا الملك للبائع انفسخ البيع ، لأنا نحكم بالانفساخ عند بقاء يده ، فعند بقاء ملكه اولى ، فيسترد الثمن ، ويغرم للبائع القيمة ، وان قلنا الملك للمشتري أو موقوف فوجهان ، أو قولان : أحدهما انه ينفسخ أيضا لوصول الهلاك قبل استقرار العبد ، وأصحهما انه لا ينفسخ لدخوله في ضمان المشتري بالقبض (١).

والعمدة ان الذي يظهر من الأصحاب ان هذا الضمان كبقاء الضمان الموجود قبل القبض فيكون من جنسه.

قال العلامة الأنصاري في مكاسبه : «ان ظاهر كلام الأصحاب وصريح جماعة منهم كالمحقق والشهيدين الثانيين ، ان المراد بضمان من لا خيار له لما انتقل الى غيره هو بقاء الضمان الثابت قبل قبضه ، وانفساخ العقد آنا ما قبل التلف ، وهو الظاهر أيضا من قول الشهيد في الدروس وبالقبض ينتقل الضمان الى القابض ما لم يكن له خيار حيث ان مفهومه انه مع خيار القابض لا ينتقل الضمان اليه بل يبقى على حاله الثابت قبل القبض (انتهى).

فهذا الضمان ضمان معاملي لا غير.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ج ١ احكام الخيارات ص ٥٣٥.

٤٠٠