القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

ويقرب منه ما ذكره في الرياض : «هل النماء بعد العقد قبل التلف بالافة للمشتري أو البائع وجهان مبنيان على ان التلف هل هو امارة الفسخ للعقد من حينه أو من أصله؟ ظاهر المسالك وغيره الأول مشعرا بدعوى الوفاق عليه ، وهو مقتضى القاعدة واستصحاب الحالة السابقة ، لكن ينافيه ظاهر النص والعبارة كعبارات الجماعة فيحتاج الى تقدير دخوله في ملك البائع آنا ما ويكون التلف كاشفا عنه (١).

وقال السبزواري في الكفاية : «إذا حصل للمبيع النماء كالنتاج وثمرة النخل كان ذلك للمشتري ، قالوا فان تلف الأصل سقط الثمن عن المشتري ، وله النماء ، وهذا مبني على ان التلف انما يبطل البيع من حينه» (٢).

وحيث قد عرفت انه لا طريق لنا الى الحكم في المسألة الا من طريق روايات الباب ، فاللازم ملاحظة مفادها ، نعم لو وصل الأمر إلى الشك فالقاعدة تقتضي كونها للمشتري لأن الملك كان ملكه ، بمقتضى العقد فالنماءات له ، فما لم يقم دليل على خلافه فاللازم إلحاق المنافع به.

فنقول : اما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه» فلا دلالة فيه على شيء من الأمرين ، وكونه من مال البائع لا دلالة على ان الفسخ من أصله ، بل لعله بمعنى انه بحكم مال البائع ، أو انه يقع الفسخ قبل التلف آنا ما ، فيعود الملك إلى البائع ويكون التلف من ملكه ، فلا دلالة لها على شيء.

وكذلك قول الصادق عليه‌السلام في رواية عقبة بن خالد بعد السؤال من ان المتاع إذا سرق من مال من يكون؟ قال : «من صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع».

وبالجملة لا يظهر من روايات المسألة بالنسبة إلى النماءات شيء وقد عرفت

__________________

(١) الرياض ج ١ ص ٥٢٨.

(٢) الكفاية ص ٩٦.

٣٦١

ان القاعدة تقتضي كونها للمشتري.

نعم لو دلت رواية «علي بن يقطين» على القاعدة كان قوله «والا فلا بيع بينهما» ظاهرا في الفسخ من أصله ولكن قد عرفت عدم دلالتها على المطلوب.

الثاني : إذا حصل التلف بفعل البائع أو المشتري

ظاهر كلام غير واحد منهم في عنوان المسألة من تقييده بتلف سماوي ان هذا الحكم لا يجري إذا حصل الإتلاف من البائع أو المشتري أو أجنبي ، وهو كذلك لقصور النص عن شمول مسألة الإتلاف ، لأن العنوان فيه هو التلف ، فاللازم الرجوع الى مقتضى القاعدة ، ومن الواضح ان مقتضاها كون المتلف ضامنا للمثل أو القيمة ، إذا كان المتلف البائع أو الأجنبي ، لأن المبيع دخل في ملك المشتري بمجرد إنشاء البيع ، ولا يكون القبض والإقباض شرطا هنا.

واما لو كان الإتلاف من المشتري فالظاهر انه بحكم قبض المتاع ، لأنه هو الذي أخرجه من قابلية القبض والإقباض ، وقد ادعى عدم الخلاف في ذلك لأنه قد ضمن ماله بإتلافه.

الثالث : إلحاق تلف الثمن قبل قبضه بتلف المبيع

وقع الكلام بينهم في اختصاص هذه القاعدة بالمبيع أو لشمولها للثمن أيضا.

ظاهر كلام غير واحد منهم العموم ، بل قد يدعى عدم الخلاف فيه ، بل قد يشعر بعض كلماتهم بالإجماع.

قال في مفتاح الكرامة :

«ثمَّ ان ظاهر العبارات في البابين ومقتضى الأصل وظاهر النبوي ان تلف

٣٦٢

ثمن المعين قبل قبضه يكون من مال البائع ، لأنه صار ماله بالعقد على عينه ، لكن ظاهر مجمع البرهان انه كالمبيع وانه لا خلاف فيه ، قلت : قد صرحوا بذلك في باب الشفعة ، بل ظاهرهم هناك الاتفاق على ذلك من دون تأمل ولا اشكال ، وقال في مجمع البرهان ان في خبر عقبة إيماء إلى التعميم في البائع والمشتري ويمكن ارادة المشتري من البائع في النبوي فإنه لغة يطلق عليهما ولا يضر عدم صحة السند لعدم الخلاف في العمل والقبول على الظاهر» انتهى (١).

وقال في الرياض :

«ان مقتضى الأصل واختصاص ظاهر الفتاوى والنص بالبيع كون الحكم في تلف الثمن تلفه من مال البائع لأنه صار بالعقد ماله ، فيجب ان يكون التلف منه ، الا ان ظاهر بعض الأصحاب إلحاقه بالأول ، مشعرا بدعوى الوفاق عليه ، وعلى ارادته من المبيع ، وارادة المشتري من البائع ، التفاتا الى صدقهما عليهما لغة» (٢).

هذا ولكن لا ينبغي الإشكال في ان مقتضى انتقال الثمن بمجرد العقد الى ملك البائع انه إذا تلف تلف من ملكه ، ومن يدعي كونه من ملك المشتري لا بد له من اقامة الدليل على انفساخ العقد آنا ما من حينه أو من أصله ، وبدون اقامة الدليل لا يمكن المصير اليه.

وغاية ما يستدل به للعموم ، فيما عرفت من كلماتهم وغيرها أمور :

١ ـ شمول النبوي «كل بيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» للبائع والمشتري والثمن والمثمن بناء على صدق هذا العنوان على كليهما كما أشار إليه غير واحد منهم.

ولكن الإنصاف انه مخالف للظاهر جدا ، لا يمكن المصير اليه من دون قرينة.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ج ٤ ص ٥٩٧.

(٢) الرياض ج ١ ص ٥٢٨.

٣٦٣

٢ ـ شمول رواية «عقبة بن خالد» له فان قوله عليه‌السلام في ذيل الرواية «فإذا أخرجه من بيته (اي أقبض البائع المتاع) فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله اليه» ان المشتري ضامن للثمن بعد قبض المثمن.

وأورد عليه بأمور : أحدها ـ ان رواية «عقبة» انما تدل بعد القبض.

ثانيها ـ انه يمكن حملها على كون الثمن كليا كما هو الغالب ، والضمان أعم من الانفساخ الحاصل بتلف المبيع.

ثالثها ـ انه لا جابر لهذه الرواية الضعيفة بالنسبة الى ذلك (وان تمت دلالتها بالنسبة إلى المبيع لانجبارها كما عرفت) «انتهى» (١).

هذا ولكن العمدة من إشكالاته هو الإشكال الأول لأن كون الثمن كليا خلاف ظاهر الحديث جدا ، لأنه لا معنى حينئذ لضمان المشتري لحق البائع حتى يرد ماله إليه ، فإن هذا كالصريح في كون الثمن شخصيا ، بل لا يتصور التلف في الثمن الكلي ، وكذا التفكيك في العمل بين الفقرتين مشكل بل قد يظهر منهم العمل بهما كما عرفت.

ولكن هنا «اشكال آخر» يرد على الاستدلال بالرواية وهو ان كون المشتري ضامنا لحق البائع حتى يرد ماله اليه لا يدل على كون تلف الثمن من ماله ، ليكون ملازما للفسخ من حينه أو من الأصل ، بل لعل الضمان هنا انما هو بالمثل أو القيمة ، والوجه فيه عدم العذر للمشتري بعد قبض المتاع في تأخير أداء الثمن.

فالاستدلال بهذه الرواية أيضا ضعيف.

٣ ـ «إلغاء الخصوصية» عن حكم المثمن وتنقيح المناط فيه ، بان يقال : ان العلة لانفساخ البيع انما هو عدم استحكامه قبل القبض ، وهذا أمر مشترك بين الثمن والمثمن ، والانصاف ان هذا أيضا تخرص على الغيب ، وقول بلا دليل.

__________________

(١) جواهر الكلام ج ٢٣ ص ٨٥.

٣٦٤

نعم قد يقال ان المسألة عقلائية ولا فرق عندهم بين الثمن والمثمن في ذلك ولكن قد عرفت عدم ثبوت هذه الدعوى ، فاذا لا يسعنا إلحاق الثمن بالمثمن ، فيبقى الحكم على الأصل ، وهو كون تلفه من مال البائع إذا لم يكن من ناحية المشتري تقصير ، والا فهو ضامن له بمثله أو قيمته (والله العالم).

٤ ـ هل القاعدة تختص بباب البيع أو تشمل سائر المعاوضات أيضا؟

لم نر في كلماتهم ذكرا له الا نادرا وأدلة المسألة أيضا خاصة بالبيع من دون فرق بين النبوي المشهور وما رواه عقبة بن خالد ، والإجماع.

نعم ذكر شيخنا الأعظم في مكاسبه : انهم ذكروا في الإجارة والصداق وعوض الخلع ضمانها لو تلف قبل القبض ، لكن ثبوت الحكم عموما مسكوت في كلماتهم ، الا انه يظهر من بعض مواضع التذكرة عموم الحكم لجميع المعاوضات.

وعلى كل حال لا دليل على التعميم وما قد يقال ان مدرك المسألة هو بناء العقلاء وهو عام قد عرفت ما فيه.

نعم بالنسبة إلى العقود القائمة بالمنافع (مثل الإجارة) إذا تلف العين المستأجرة فلا شك في بطلان الإجارة وكذا إذا كانت العين باقية ، ولكن تلف المنافع قبل قبضها لمانع حصل من القبض ، كوقوع العين في معركة القتال ، أو في وسط السيل ، أو غير ذلك ، فلا يبعد الحكم بالانفساخ لبناء العقلاء عليه في خصوص هذه الموارد ، ولكن مع ذلك لا يمكن استفادة الحكم منها كليا فتأمل.

٣٦٥
٣٦٦

١٨ ـ قاعدة تبعية العقود للقصود

(العقود تابعة للقصود)

محتوى القاعدة

ما ذكر في مدركها مما لا يعتمد عليه

العمدة في مستند القاعدة

القصد انما يعتبر في موضوع العقد لا في حكمه

التبعية إنما هي في الحدوث لا في البقاء

التبعية انما هي في مقام الثبوت لا الإثبات

النقوض التي أوردت على القاعدة والجواب عن جميعها

٣٦٧
٣٦٨

من القواعد المعروفة المتداولة بين أصحابنا رضوان الله عليهم هو قاعدة تبعية العقود للقصود.

وهذه القاعدة على إجمالها مجمع عليها بين الأصحاب ، بل بين علماء الإسلام جميعا ، بل وغيرهم من العقلاء في كل عرف وزمان ، فهم بأجمعهم قائلون بتبعية العقود ، بل الإيقاعات أيضا ، لما يقصده العاقدون ، فلا إشكال في شيء من ذلك ، وانما الكلام في بعض خصوصيات المسألة وما يتصور انه كالاستثناء بالنسبة إليها فهو العمدة والمقصود في هذا الباب.

والكلام هنا يقع في مقامات :

الأول في محتوى القاعدة

ذكر «في العناوين» : «ان هذه القاعدة محتملة لأمرين ليس بينهما منع جمع :

أحدهما : ان العقد تابع للقصد ، بمعنى انه لا يتحقق الا بالقصد ، كما ذكره الفقهاء في شرائط العقود ، مع الشرائط الأخر ، بمعنى انه لا عبرة بعقد الغافل والنائم والناسي والغالط والهازل والسكران ، فيكون معنى التبعية عدم تحققه بدونه إذ لا وجود للتابع بدون متبوعه.

٣٦٩

ثانيهما : ان العقد تابع للقصد بمعنى ان العقد يحتاج الى موجب وقابل ، وعوض ومعوض ، وبعد حصول هذه الأركان لكل عقد اثر خاص» (انتهى).

ولكن الظاهر ان المراد من هذه القاعدة معنى ثالث ، وحاصله انه بعد الفراغ عن لزوم القصد في العقود بما ذكر في محله من الدليل ، ان ما يتحقق في الخارج من حيث نوع العقد وكمه ، وكيفه ، وشرائطه ، وغير ذلك من خصوصياته ، تابع للقصد فلو قصد النكاح وقع نكاحا ، ولو قصد العارية وقعت عارية ، ولو قصد هبة كانت هبة ، كما انه لو قصد على امرأة معينة بصداق معين وأجل وشروط وغير ذلك كل هذه الأمور تابعة لقصد الموجب والقابل ، فهذا هو المراد بتبعية العقود للقصود واما مسألة اعتبار القصد في مقابل الهازل والغالط وغيرهما فهو أمر آخر.

وبعبارة أخرى حاجة العقد في تحققه الى القصد أمر وتبعيته في أصوله وفروعه للقصد أمر آخر ، كما يعرف بمراجعة كلام الأصحاب عند الاستدلال بهذه القاعدة وتنبه له صاحب العناوين وغيره أيضا في سائر كلماتهم في المقام.

ومن هنا يعلم انه لا يتفاوت فيه بين البيع والنكاح والعقود اللازمة والجائزة ، بل الإيقاعات أيضا كذلك ، فلو طلّق امرأة خاصة أو وقف شيئا (بناء على كون الوقف من الإيقاعات) كان تابعا لقصد الموقع من جهة خصوصياتها.

بل الظاهر ان هذه القاعدة لها مفهوم ومنطوق فكل ما قصده يقع ، وكل ما لم يقصده فهو غير واقع ، ومن هنا اشتهر بينهم في موارد الحكم بإبطال عقد لم يتحقق مضمونه ، بل تحقق غيره بدعوى الخصم ، «ان ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، فهذه القضية صحيحة من الجانبين ، فمقتضى القاعدة ان ما يقصده المتعاقدان يقع في الخارج كما ان مقتضى القاعدة انه لا يقع ما لم يقصداه فلو ادعى مدع خلافهما كان محجوجا بالقاعدة.

٣٧٠

الثاني ـ مدرك قاعدة تبعية العقود للقصود

قد يتمسك لها بالإجماع ، وبأن الأصل في العقود الفساد ، الا ما خرج بالدليل ويظهر الاستناد الى هذين من المحقق النراقي في عوائده ، وصاحب العناوين في عناوينه ، وبعض من تأخر عنهما ، وان استدلوا أيضا ببعض ما سنتكلم فيه ان شاء الله.

ولكن الإنصاف ان شيئا منهما غير تام لان دعوى الإجماع في هذه المسائل التي فيه مدارك أخر معتبرة يمكن استناد المجمعين إليها غير مفيد كما عرفت مرارا.

بل هذه القاعدة لا زالت معروفة حتى قبل الإسلام ، ولما جاء الإسلام أمضاها فليست قضية تعبدية متخذة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

بل لا حاجة الى الأصل هنا ، لأنه في مورد الشك ، ومن المعلوم انه لا شك في تبعية العقد للقصد ، فاذا كان في المسألة دليلا عمليا قطعيا لا معنى للرجوع إلى الأصول.

كما ان الاستدلال عليها بأن «الأعمال بالنيات» و «لا عمل إلا بالنية» كما عن بعضهم أيضا فاسد.

قال في العناوين : «ويمكن ان يتمسك في هذه المقام بمثل قول لا عمل إلا بالنية وانما الأعمال بالنيات ، فان ظاهر الروايتين ان ماهية العمل من دون نية غير متحققة فاما ان يحمل على معناه الحقيقي الظاهر ، وتكون الأعمال التي تتحقق بغير قصد خارجة عن العموم ، واما ان يحمل على نفي الصحة ، لأنه أقرب المجازات ، فيكون المراد عدم الصحة إلا بالنية ، ولا ريب ان عموم الاعمال يشمل العقود والإيقاعات أيضا ، فيدل على انها لا تصح بدون القصد (انتهى موضع الحاجة).

ويرد عليه ان الاعمال في هذه الأحاديث عام لا تختص بالأمور القصدية ، بل تشمل العبادات بالمعنى الأخص والأعم ، وكما تشمل الصلاة والزكاة كذلك الجهاد وسائر الواجبات والمستحبات ، بل سيأتي ان بعض هذه الأحاديث ورد في مورد

٣٧١

الجهاد وان كان مفهومه عاما.

وحينئذ الظاهر ان المراد منها هو تبعية ثواب العمل بنية القربة والإخلاص ، فلو أخلص نيته كان عمله لابتغاء وجه ربه كان له اجره ، ولو عمل لا لابتغاء وجه الله كان العمل تابعا لنيته لا يترتب عليه أي أجر الهي.

ويشهد لذلك ما رووه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث قال : «إنما الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى ، فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع اجره على الله عزوجل ، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له الا ما نوى» (١)! وروى في المجالس صدر هذا الحديث هكذا : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اغزى عليا عليه‌السلام في سرية فقال علي عليه‌السلام لعلنا نصيب خادما أو دابة أو شيئا يتبلغ به فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله فقال : إنما الأعمال بالنيات (٢).

ويشهد له أيضا ما رواه أبو عثمان العبدي عن جعفر عن أبيه عن علي عليه‌السلام : «قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا قول الا بعمل ونية ، ولا قول وعمل إلا بنية (٣).

وكذا ما رواه انس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقبل قول الا بالعمل ، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية ، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بإصابة السنة (٤).

فان التعبير بعدم القبول ظاهر فيما ذكرنا من عدم الأجر.

وبالجملة احاديث النية التي مرت الإشارة إليها انما هي ناظرة إلى القبول الإلهي ، وترتب الثواب ، ومسألة الإخلاص ولا دخل لها بتبعية المعاملات للقصود.

وتلخص ان شيئا من ذلك لا دخل له بهذه القاعدة ، بل العمدة فيها بعد بناء العقلاء بأجمعهم عليه أمر آخر وهي :

__________________

(١ و ٢) الوسائل ج ١ أبواب مقدمات العبادات الباب ٥ الحديث ١٠.

(٣) الوسائل ج ١ أبواب مقدمات العبادات الباب ٥ الحديث ٤.

(٤) المستدرك ج ١ أبواب مقدمات العبادات الباب ٥ الحديث ٣.

٣٧٢

ان العقود والإيقاعات أمور قصدية ، بل القصد قوامها ، وداخل في هويتها ، وبعبارة أوضح حقيقة العقود والإيقاعات أمور اعتبارية إنشائية ، ومن الواضح ان الإنشاء والاعتبار قائم بقصد المعتبر ، وهو كالإيجاد في عالم التكوين ، فكما ان الخالق تعالى شأنه يوجد الأشياء بإرادته ، وإذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فكذلك المعتبر في عالم الاعتبار ، فهو بحول الله وقوته يعتبر الأمور الاعتبارية وينشأها فلو لا القصد لم يكن منها عين ولا أثر.

أضف الى ذلك ان العقد ، هو «الإلزام» و «الالتزام» وماهية الالتزام هو قبول شيء وجعله في عهدته وهل يمكن قبول شيء بلا قصد؟

فقد ظهر مما ذكرنا انا لا نحتاج في هذه المسألة إلى التمسك بالأصل ، لأن الأصل انما يحتاج إليه في موارد الشك وليس هنا شك ، لأنه لا يتصور وجود العقد بدون القصد ، وكذلك كيفيتها وأركانها وشرائطها تتبع القصود ، لأن شيئا يكون قوامه بالقصد جميع خصوصياته أيضا تنشأ منه لا محالة ، فتمسك بعض الأعيان بأصالة الفساد هنا لم يظهر له وجه.

كما قد ظهر أيضا انه لا يمكن التمسك في هذه المسألة بالإجماع ، لأنه ليست قضية متخذة من الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام بل هو مبني على بناء العقلاء بل مقتضى حكم العقل الممضاة من قبل الشارع المقدس.

كما ان الاستدلال عليه بان الأعمال بالنيات أيضا أجنبي عن موضوع البحث لما أشرنا إليه آنفا.

وبالجملة هذه المسألة أوضح من ان تحتاج الى مزيد بحث بعد وضوح قيام العقود في وجودها وهويتها وذاتها بالقصد.

٣٧٣

تنبيهات :

الأول : الحاجة الى القصد انما هو في موضوع العقد لا في حكمه

قد ظهر مما ذكرنا ان العقود تتبع القصود في تحقق موضوعها ، لا في أصل العقد فقط ، بل في جميع أركانها وشرائطها وخصوصياتها ، فالبيع يتبع القصد في أصله ، وفي المتعاقدين ، والثمن والمثمن ، وما يتبعها من الشروط ، وكما ان وقوع عقد بعنوان البيع أو الهبة يتبع القصد فكذلك وقوعها لزيد أو لعمرو ، وعلى هذا العين أو ذاك العين ، ومع هذا الشرط أو غيره ، من الشرائط كلها تتبع القصود لعين ما مر من الدليل.

ولكن إذا تحقق الموضوع تترتب احكامه عليه سواء قصدها ، أم لم يقصدها مثلا حكم الشرع بخيار المجلس والعيب والحيوان وغيرها ، وكذلك حكمه بلزوم الأرش في بعض الموارد ، وكون ضمان المثمن على البائع قبل إقباضه وغير ذلك من الاحكام لا تترتب على قصد المتبايعين لها ، بل لو كانوا جاهلين بهذه الاحكام أو عالمين بخلافها تترتب عليها بلا ريب.

وكذلك إذا لم يعلم الزوج احكام النفقة ، والزوجة مثلا بعدم جواز خروجها عن بيتها من دون اذن زوجها وكذا أحكام الإرث وغيرها لزمهما هذه الاحكام من دون حاجة الى قصدها.

والسر في جميع ذلك ان الحاجة الى القصد انما هو في قوام العقد وتحققه ، واما الأحكام فهي أمور أخر ترتبط بالشارع وارادته ، ولا دخل لقصد العاقد فيها ابدا والأمر واضح.

٢ ـ العقود انما تتبع القصود حدوثا لا بقاءا

قد عرفت ان العمدة في قاعدة تبعية العقود للقصود انما هو من ناحية تقومها

٣٧٤

بالاعتبار والإنشاء والقصد ، ومن الواضح ان قوامها بها انما هو في حدوثها ، فاذا تحقق الإنشاء والاعتبار ، وجد العقد بخصوصياته في عالم الاعتبار ، فكان له وجود اعتباري في هذا الوعاء ، كوجود الأشياء الخارجية بعد تحققها.

ولكن بينهما فرق ظاهر فإن الأشياء في عالم التكوين كما تحتاج الى خالقها وباريها حدوثا ، تحتاج إليها بقاءا ، على ما هو التحقيق في محله من حاجة الممكن الى الواجب في جميع شراشر وجوده ، وفي جميع عمره ، لأنها بذاتها وجودات ربطية ومتدليات بذاته تعالى ، فلو انقطع فيض الوجود فيها آنا ما انعدمت بأجمعها ، ولكن الأمور الاعتبارية إذا حدثت من ناحية المتعاقدين غير محتاجة إليهما في بقائها بل لو قصدا الخلاف بقاءا لم يؤثر شيئا إلا في موارد لهما حق الفسخ والخيار.

وان شئت قلت حدوثها بيد المتعاقدين وبقائها انما هو باعتبار العقلاء ، فإنهم يعتبرون بقائها وان قصدا المتعاقدان خلافه ، وهذا أيضا مما لا يحتاج الى مزيد بحث.

الثالث ـ تبعية العقود للقصود انما هو في مقام الثبوت لا الإثبات

مقتضى ما عرفت من الدليل في هذا الباب ان التبعية إنما هي تبعية ثبوتية ، لأن تقوم العقد بالقصد والاعتبار انما هو بحسب نفس الأمر والواقع ، واما لو ادعى البائع أو المشتري أو غيرهما انه قصد كذا وكذا لا يقبل منهما الا ما وافق ظاهر اللفظ ، فلو كان ظاهر اللفظ أو صريحه ، أو مقتضى إطلاقه بمقدمات الحكمة ، أو ما ينصرف إليه شيئا ، وادعى أحدهما غيره ، لا يقبل منه ، لان طريق الوصول الى القصود في مقام الإثبات انما هو ظواهر الألفاظ المعتبرة عند أهل العرف والعقلاء ، التي أمضاها الشرع ، فمن ادعى خلافها فعليه الإثبات واقامة الدليل ، ولو لم يأت بشيء يؤخذ بظاهر لفظه ، ويكون حجة عليه شرعا ، فالطريق الوحيد للوصول الى المقاصد عند وقوع

٣٧٥

الخلاف فيها انما هو هذه الظواهر لا غير.

نعم إذا كان المعنى مما لا يعلم الا من قبل القاصد له فلا محيص عن قبول قوله كما إذا كان وكيلا عن شخصين في بيع أو شراء أو نكاح أو إجارة أو غيرها ، ثمَّ أنشأ العقد على شيء فادعى انه قصد هذا الموكل أو ذاك ، فلا شك في قبول قوله ، لأنه من قبيل ما لا يعلم الا من قبله فلا يعتنى بدعوى احد الموكلين بأنه كان مقصودا بالمعاملة أو كان غيره مقصودا ، بل المدار على قول الوكيل.

الرابع ـ النقوض التي أوردت على هذه القاعدة :

وقد يورد على القاعدة نقوض كثيرة لا بد من التأمل فيها وانها استثنائات من القاعدة ـ فإن باب الاستثناء والتخصيص واسع ، ولا يمتنع في الشرع أو العقل إلزام إنسان بشيء لم يقصده لمصالح خاصة ـ أو انها بظاهرها استثنائات ولكنها في الواقع من قبيل التخصص والخروج موضوعا أو أصل النقض باطل والقاعدة باقية على عموما؟

وهي أمور :

١ ـ بيع الغاصب لنفسه ـ فان المشهور كما حكى عنهم صحته ووقوع المعاملة للمالك بعد اجازته مع انه قصد البيع لنفسه ، فما قصده لم يقع وما وقع لم يقصد.

قال في «العناوين» قد ذكر بعض الفقهاء منهم المحقق ، انه لو دفع المشتري عين مال لغيره ثمنا عن مبيع وقصد الشراء لنفسه ، أو دفع البائع عين مبيع لغيره وقصد البيع وتملك الثمن لنفسه. فإنه يصير المعاوضة على مالكي العوضين ، دون ذلك الغير المقصود.

ثمَّ قال : وعلله المحقق الثاني بأن قاعدة المعاوضة انتقال كل من العوضين الى مالك عوض الأخر ، لا الى غيره ، والا فخرج عن كونه معاوضة.

٣٧٦

ثمَّ أجاب هو نفسه عن هذا الاشكال بوجوه خمسة جلها أو كلها مما لا يروى الغليل (١).

والعمدة في الجواب ان يقال : لا شك ان حقيقة المعاوضة دخول كل من العوضين في ملك مالك الأخر ، والغاصب انما يقصد ملك العوض لنفسه بعد دعوى كونه مالكا للمعوض ، فبالملكية الادعائية الحاصلة من سلطته على العين غصبا يرى نفسه مالكا ، ثمَّ يقصد المبيع لنفسه ، ففي الحقيقة انه يقصد وقوع البيع لمالك العين ، ولكن حيث يرى نفسه مصداقا للمالك ، يقصد البيع لنفسه فهو من بعض الجهات يشبه الخطأ في التطبيق.

ومن هنا يظهر انه ليس هذا نقضا على القاعدة ولا استثنائا منها.

ولمسئلة بيع الغاصب الفضولي جهات أخر من البحث ليس هنا موضع ذكرها

٢ ـ وقد نوقضت أيضا بعقد المكره بعد لحوق الرضا فان المشهور بين المتأخرين انه لو رضى المكره بما فعله صح العقد ، بل عن الرياض تبعا للحدائق ان عليه اتفاقهم ، مع ان المكره غير قاصد لمضمون العقد والرضا اللاحق ليس عقدا جديدا ، فما وقع لم يقصده.

وبعبارة أخرى المكره كالهازل قاصد للفظ دون المعنى ، فكيف يصح عقده بلحوق الرضا ، مع انه لا يصح عقد الهازل وان رضي بعد ذلك وأجاز.

والعمدة في الجواب عنه كما ذكره غير واحد من المحققين : ان عقد المكره لا يخلو عن القصد ، بل هو قاصد لللفظ والمعنى كليهما ، وان كان عقده خاليا عن الرضا ، وبالجملة يعتبر في صحة العقد أمران : الإنشاء الجدي ، والرضا بمفاده ، وهما ما ذكره تعالى في قوله (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) والركن الأول موجود في عقد المكره ،

__________________

(١) العناوين ص ١٩٦.

٣٧٧

وانما المفقود هو الثاني فإذا تحقق تمَّ الأمران ، وحيث لا يعتبر التقارن بين الإنشاء والرضا يكفي لحوق الرضا لعقد المكره ، ولكن عقد الهازل ليس كذلك بل المفقود فيه كلا الركنين ، وبالرضا اللاحق يتم أحدهما ولكن إنشاء العقد لم يحصل بعد.

٣ ـ وقد أورد عليها أيضا بالمعاطاة على القول بالإباحة أيضا لأن المتعاطيين قصدا الملك ، فما قصداه لم يقع وما وقع لم يقصداه.

قال شيخنا الأعظم : ذكر بعض الأساطين في شرحه على القواعد في مقام الاستبعاد ان القول بالإباحة المجردة مع قصد المتعاطيين التمليك والبيع مستلزم لتأسيس قواعد جديدة ، منها ان العقود وما قام مقامها لا تتبع القصود (انتهى) (١).

وأجاب الشيخ قدس‌سره بما حاصله : ان حكاية تبعية العقود وما قام مقامها للقصود ففيها ان المعاطاة ليست عند القائل بالإباحة من العقود ولا من القائم مقامها شرعا ، فإن تبعية العقد للقصد وعدم انفكاكه عنه انما هو لأجل دليل صحة ذلك العقد بمعنى ترتب الأثر المقصود عليه ، فلا يعقل حينئذ الحكم بالصحة مع عدم ترتب الأثر المقصود عليه ، اما المعاملات الفعلية التي لم يدل على صحتها دليل فلا يحكم بترتب الأثر المقصود عليها ، نعم إذا دل الدليل على ترتب الأثر عليه حكم به وان لم يكن مقصودا (٢).

وحاصل ما ذكره ان المعاطاة على هذا القول ليس عقدا والإباحة ليست إباحة مالكية بل إباحة شرعية بدليل خاص.

هذا ولكن ما ذكره لا يخلو عن بعد ، وكيف يمكن القول بان المالكين لم يقصدا اباحة ، ولكن الشارع ألزمهما بها رغما لأنفسهما؟! ولم لا يقال على هذا القول : بان المالك يقصد في المعاطاة أمرين : التمليك

__________________

(١ و ٢) المكاسب ص ٨٤.

٣٧٨

والإباحة ، فإذا لم يتحقق التمليك لمنع شرعي تتحقق الإباحة ، والإباحة وان كانت متفرعة على الملك ، ولكن السيرة اقتضت باستقلالها هنا ولو خلت عن التمليك ، فان الغرض في المعاطاة نهائيا تسلط كل واحد من المالكين على ملك الأخر والانتفاع به.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في تصحيح هذا القول ولكن الأمر سهل بعد فساد هذا القول من أصله (أعني القول بكون المعاطاة موجبة للإباحة) بل الحق في المعاطاة الملكية بل اللزوم أيضا!.

٤ ـ وأورد عليها أيضا بالنقض بقاعدة ضمان تلف المبيع قبل قبضه ، فإنه على بايعه بمعنى ان المعاملة قبل تلف المبيع آنا ما تنفسخ من حينه أو من الأصل ويعود كل من الثمن والمثمن الى ملك صاحبه ، فيكون تلف المبيع من ملك البائع وهذا أمر لم يقصداه.

وفيه اشكال واضح وهو انك قد عرفت ان القصد انما يعتبر في أركان المعاملة وشرائطها ، وما فيها من القيود ، واما الاحكام فلا تأثير للقصد وعدمه فيها ، وكون تلف المبيع قبل قبضه من مال بايعه وكذا مسئلة الفسخ آنا ما قبل التلف كلها أحكام شرعية لا دخل للقصد فيها ابدا ، وقد عرفت انه لو لم يعلما ببعض أحكام المعاملة مثل خيار المجلس والحيوان وغيرهما بل وان علم بخلافها فإنه تترتب عليها من دون اشكال ، ولا يكون أمثال هذه نقضا على القاعدة بل هي أجنبية عنها.

٥ ـ وأورد عليها أيضا بصحة العقد مع فساد الشرط ، بناء على ان فساد الشرط لا يوجب فساد العقد كما عليه أكثر القدماء فيما حكي عنهم ، فان المتعاقدين قصدا المعاملة مع الشرط ، فوقوعها بدون الشرط أمر لم يقصداه ، فما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

٣٧٩

وقد يجاب عنه بان هذا من قبيل الاحكام وقد عرفت ان الحكم لا يتبع قصد المتعاملين.

وفيه ان الشرط من خصوصيات المعاملة ، بل قد يكون له قسط من الثمن في المعنى ، وان لم يقابل به في الظاهر ، وقد يرضى إنسان بالعقد مع شرط خاص ولا يرضى بدونه ابدا ، فهذا داخل في موضوع المعاملة فكيف يصح الحكم بتبعية العقود للقصود مع الانفكاك بين الشرط والمشروط؟ وبالجملة وقع الخلط في هذا الجواب بين الموضوع والحكم.

والحق في الجواب ان يقال : ان قضية الشروط ليست كقضية الثمن والمثمن ، أو الزوج والزوجة في النكاح ، بل هي أمور تعتبر في المعاملة بعنوان تعدد المطلوب ، فتخلفها لا يوجب فسادا في العقد ، وانما هو تخلف في بعض المطلوب منه فيوجب الخيار فقط.

وان شئت قلت للعقد أركان وتوابع ، فاذا تخلف أركانها فسدت ، واما عند تخلف التوابع لا يفسد ، بل يكون فيه الخيار ، نظير تخلف الوصف أو وجود عيب في المتاع ، فإنه لا يوجب فسادا في العقد قطعا ، مع ان وصف الصحة ربما يكون قيدا في قصد المتبايعين بلا اشكال فلما ذا لا يوجب تخلفه فساده ، والوجه ربما يكون قيدا في قصد المتبايعين بلا اشكال فلما ذا لا يوجب تخلفه فساده ، والوجه ظاهر وهو ان أصل المعاملة مطلوب ، ووصف الصحة مطلوب آخر ، وهذا بخلاف ما إذا باع الفرس فبان حمارا ، أو باع الحديد فبان نحاسا ، فإنه تخلف في أركان المعاملة.

وبالجملة الفرق بين المقدمات والتوابع ، وكون الأول من قبيل الركن ، والثاني من قبيل تعدد المطلوب أصل مهم يتبنى عليه حل كثير من المشكلات في أبواب المعاملات فلا تغفل.

ان قلت : قد يكون تمام مقصود المتبايعين ذاك الوصف أو الشرط ، وحيث لا يرضى واحد منهما بدونه بل لا يكون عندهما فرق بين الركن والتابع ، بل التابع قد يكون ركنا عندهما.

٣٨٠