القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

السبب وان قاعدة الغرور ناظرة الى غير هذا المقام.

وقال شيخنا العلامة الأنصاري في مكاسبه :

واما الثاني وهو ما غرمه (اي ما غرمه المشتري للمالك فيما إذا اشترى شيئا مغصوبا جاهلا) في مقابل النفع الواصل اليه من المنافع والنماء ، ففي الرجوع بها خلاف ، اقويها الرجوع وفاقا للمحكي عن المبسوط ، والمحقق ، والعلامة في التجارة ، والشهيدين ، والمحقق الثاني ، وغيرهم ، وعن التنقيح ان عليه الفتوى ، لقاعدة الغرور المتفق عليها ظاهرا فيمن قدم مال الغير الى غيره الجاهل فأكله ويؤيده قاعدة نفي الضرر (١).

وما استدل به قدس‌سره على محل كلامه بقاعدة لا ضرر دليل عام يشمل جميع موارد قاعدة الغرور الا ان فيه اشكالا يتبنى على ما هو المعروف في قاعدة لا ضرر من انها لا تثبت حكما بل تنفي الأحكام الضررية ، ولكن على القول بعمومها وشمولها لنفي الاحكام وإثباتها في موارد الضرر ، كما هو المختار ، فهو استدلال جيد يجري في جميع موارد قاعدة الغرور.

ولو قيل ان ضرر المغرور معارض بضرر الغار ، أجيب عنه بان الغار أقدم على ضرر نفسه فلا تشمله قاعدة نفي الضرر.

__________________

(١) المكاسب كتاب البيع ص ١٤٧.

٣٠١
٣٠٢

١٤ ـ قاعدة الخراج

(الخراج بالضمان)

المراد من القاعدة

مداركها من الروايات من طرق الأصحاب وغيرهم

معنى «الخراج» ومعنى «الضمان» ونقد ما ذكروه في هذا الباب

٣٠٣
٣٠٤

قاعدة الخراج

هذه القاعدة (قاعدة الخراج بالضمان) من القواعد المعروفة عند العامة ، ولم يعتمد عليها من الخاصة ، إلا قليل منهم في موارد معينة ، ولكن على كل حال لا بد من تحقيق مدركها عندهم ، وعندنا لو كان ، ثمَّ الكلام عن محتواها وما يتفرع عليها من الفروع.

والمراد منها ـ على سبيل الاجمال قبل ان نبحث عن تفاصيله ـ انه إذا ضمن الإنسان شيئا بحكم الشرع ، بحيث لو تلف ، تلف من ماله ، ثمَّ انتفع منه بمنافع ، ثمَّ أراد رد المال الى صاحبها فيرد الأصل دون منافعه ، لأنه كان ضامنا للمال فالمنافع والخراج له في مقابل ضمانه ، فكما ان الغرم عليه الغنم له.

مثال ذلك ما لو اشترى شيئا وانتفع من ثمرته أو منافعه الأخرى ثمَّ وجد بها عيبا فأراد فسخ البيع ورد العين ، فهل يرد المنافع الحاصلة منها أيضا أولا؟ قد يستند الى هذه القاعدة لكونها له فإنه لو تلف قبل ذلك كان من ملكه على كلام فيه.

والذي يظهر من بعض كلمات فقهاء الجمهور انها لا تختص بباب البيوع عندهم ، بل تجري في غيره أيضا ، كالفتوى المعروف عن أبي حنيفة الذي ورد في رواية أبي ولاد فيمن اكترى حيوانا ثمَّ جاوز به عن الشرط ، وبعد ما أراد رده الى صاحبه ، طلب منه الكراء بالنسبة الى ما انتفع منه زائدا على الشرط ، فاختلفا ورضيا

٣٠٥

بأبي حنيفة وافتى بأنه لا يرى عليه شيئا لأن ضمانه في هذه المدة كان على المستأجر فخراجه ومنافعه له! (١).

استنادا الى ما رووه من طرقهم من ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قضى في بعض قضاياه بان «الخراج بالضمان».

لكن الذي يتراءى من كلمات بعض الأصحاب في الاستناد بهذه القاعدة انهم يقتصرون فيها بأبواب البيوع وما أشبهها وإليك شطر من كلماتهم :

١ ـ قال شيخ الطائفة في «الخلاف» : إذا حصل من البيع فائدة من نتاج أو ثمرة قبل القبض ثمَّ ظهر به عيب كان ذلك قبل العقد كان ذلك للمشتري ، وبه قال الشافعي ، وقال المالك : الولد يرده مع الام ولا يرد الثمر مع الأصول ، وقال أبو حنيفة : يسقط رد الأصل بالعيب.

ثمَّ قال : دليلنا إجماع الفرقة وروت عائشة ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قضى ان الخراج بالضمان ، ولم يفرق بين الكسب والولد والثمرة فهو على عمومه (٢).

أقول : اما قول أبي حنيفة بسقوط رد الأصل بالعيب لا ينافي ما حكى عنه من قوله بعموم الخراج بالضمان كما لا يخفى.

وقال في المسألة ١٧٦ : إذا اشترى جارية حاملا فولدت في ملك المشتري عبدا مملوكا ثمَّ وجد بالأم عيبا فإنه يرد الام دون الولد ، وللشافعي فيه قولان أحدهما مثل ما قلناه ، والثاني : له ان يردهما معا لأنه لا يجوز ان يفرق بين الام وولدها فيما دون سبع سنين والأول أصح عندهم ، دليلنا عموم قوله «الخراج بالضمان» (٣).

__________________

(١) راجع الحديث ١ من باب ١٧ من أبواب الإجارة من المجلد ١٣ من الوسائل.

(٢) كتاب الخلاف البيوع المسألة ١٧٤ ج ٢ ص ٤٧.

(٣) كتاب الخلاف البيوع المسألة ١٧٦ ، ج ٢ ص ٤٧.

٣٠٦

وقال في «المبسوط» : فصل في ان الخراج بالضمان ، ثمَّ ذكر تحت هذا العنوان ما يلي :

إذا كان لرجل مال فيه عيب فأراد بيعه وجب عليه ان يبيّن للمشتري عيبه ولا يكتمه أو يتبرء اليه من العيوب ، والأول أحوط فان لم يبينه واشتراه إنسان فوجد به عيبا كان المشتري بالخيار ، ان شاء رضى به ، وان شاء رد بالعيب ، واسترجع الثمن فان اختار فسخ البيع ورد المبيع نظر فان لم يكن حصل من جهة المبيع نماء رده ، واسترجع ثمنه وان كان حصل نماء وفائدة فلا يخلو من ان يكون كسبا من جهته أو نتاجا وثمرة ، فإن كان كسبا مثل ان يكتسب بعلمه أو تجارته أو يوهب له شيء ، أو يصطاد شيئا أو يحتطب أو يحتش فإنه يرد المبيع ، ولا يرد الكسب بلا خلاف ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الخراج بالضمان» فالخراج اسم للغلة والفائدة التي يحصل من جهة المبيع ، ويقال للعبد الذي ضرب عليه مقدار من الكسب في كل يوم أو في كل شهر «عبد مخارج» وقوله : «الخراج بالضمان» معناه ان الخراج لمن يكون المال يتلف من ملكه. (انتهى موضع الحاجة من كلامه) (١).

ووافق شيخ الطائفة في هذا المعنى «ابن حمزة» في الوسيلة قال فيما حكى عنه في فصل عقده للبيع الفاسد ما هذا نصه : «فاذا باع احد بيعا فاسدا وانتفع به المبتاع ولم يعلما بفاسده ، ثمَّ عرفا واسترد البائع المبيع ، لم يكن له استرداد ثمن ما انتفع به أو استرداد الولد ان حملت الام عنده وولدت ، لأنه لو تلف لكان من ماله و «الخراج بالضمان» (انتهى محل الحاجة).

وقد تعرض للقاعدة غير واحد من المعاصرين ، وردوا الاستدلال بها ، ولكن أكثر الأصحاب أهملوا ذكرها ولم يعتمدوا عليها في كتبهم.

ولعل بعض من استند الى هذه القاعدة رآها موافقة لأدلة أخرى كما في أبواب

__________________

(١) المبسوط ج ٢ كتاب البيوع ص ١٢٦.

٣٠٧

العيب على ما سيأتي الإشارة اليه ان شاء الله ، ولكن لما أرادوا المشي على مذهب المخالفين استندوا الى ما هو المقبول عندهم من رواية «الخراج بالضمان» وهذا المعنى يجري فيما نقلناه عن شيخ الطائفة في أبواب العيوب ، وان كان لا يجري فيما حكى عن ابن حمزة في الوسيلة فإنه استند إليها في البيع الفاسد.

وعلى كل حال ليست هذه القاعدة مما اشتهرت بين أصحابنا وسيأتي انها ليست مما اشتهر بين العقلاء وأهل العرف أيضا إلا في موارد خاصة بملاكات أخرى ستأتي الإشارة إليها.

مدارك القاعدة

عمدة ما استدل به لقاعدة «الخراج بالضمان» هي ما ورد من طرق «العامة» وهي عدة روايات رووها عن عائشة كما يلي :

١ ـ ما رواه عروة بن زبير عن عائشة ان رسول الله (ص) قضى ان خراج العبد بضمانه (١).

٢ ـ وهناك رواية أخرى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ان رجلا اشترى عبدا فاستغله ثمَّ وجد به عيبا فرده فقال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قد استغل غلامي فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الخراج بالضمان (٢).

والظاهر أنهما حكاية عن واقعة واحدة حكيت ملخصة تارة ومفصلة أخرى ، والمراد من استغلال العبد انتفاعه بخدمته.

٣ ـ ما رواه أيضا عروة عن عائشة ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الخراج بالضمان (٣). وهذا الحديث عام لا يختص بالعبد ولا بخيار العيب.

__________________

(١) السنن لابن ماجه ج ٢ كتاب التجارات الباب ٤٣ ح ٢٢٤٣ ٧٥٤.

(٢) السنن لابن ماجه ج ٢ كتاب التجارات الباب ٤٣ ح ٢٢٤٢ ص ٧٥٤.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ج ٦ ص ٤٩.

٣٠٨

ورواه بعينه في محل آخر من كتابه (١).

ورواه بعينه عن عروة عن عائشة النسائي في سننه (٢).

٤ ـ ما رواه «مخلد بن خفاف» قال اتبعت غلاما فاستغللته ثمَّ ظهرت منه عليّ عيب فخاصمت فيه الى عمر بن عبد العزيز ، فقضى لي برده ، وقضى عليّ برد غلته ، فأتيت «عروة» فأخبرته ، فقال أروح اليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قضى في مثل هذا ان الخراج بالضمان فعجلت الى عمر فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عمر فما أيسر عليّ من قضاء قضيته الله يعلم اني لم أرد فيه الا الحق فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فارد قضاء عمر ، وأنفد سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فراح اليه عروة فقضى لي ان آخذ الخراج من الذي قضى به عليّ له (٣).

ورواه البيهقي في سننه بطرق أخرى كلها تنتهي إلى عائشة وفي طريقها عروة وفي بعضها ثمَّ رواه عن شريح غير مستند الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه العبارة «ولك الغلة بالضمان» (٤).

والظاهر انها بأجمعها حكاية لقضية واحدة ، ويستفاد من ضم بعضها الى بعض انها وردت في خصوص أبواب البيع ، ولكن بعض الرواة نقلوها تارة بدون ذكر المورد ، فيتوهم منه العموم ، وأخرى بذكر المورد.

ومن هنا يعلم ان الاستناد إليها في غير أبواب العيوب مشكل جدا.

لا يقال كون المورد خاصا لا ينافي كون القاعدة عامة على ما يلوح من قوله «الخراج بالضمان».

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ج ٦ ص ٢٣٧ من طبعة دار الصادر.

(٢) سنن النسائي ج ٧ ص ٢٥٤ وعقد له بابا بهذا العنوان (الخراج بالضمان).

(٣) السنن للبيهقي ج ٥ ص ٣٢١.

(٤) السنن للبيهقي ج ٥ ص ٣٢٢ و ٣٢١.

٣٠٩

لأنا نقول هذا إذا كان الالف واللام في قوله «الخراج» و «الضمان» للجنس واما ان كان للعهد ، يعني خراج الغلام المعيوب في مقابل ضمانه ، لا يمكن التعدي منه الى غير أبواب العيوب ، واختصاص المورد بالعبد غير ضائر بعد ان كان إلغاء الخصوصية منه وشموله لجميع موارد بيع المعيوب.

هذا كله مع قطع النظر عن اسنادها والا فهي ضعيفة على مختار الأصحاب ، فلا يصح الاستناد إليها لإثبات هذه القاعدة كما هو ظاهر.

واما من طرق الأصحاب فلم يرد هذا المعنى إلا في رواية مرسلة رواها ابن أبي جمهور في «غوالي اللئالي» قال : وروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قضى بان الخراج بالضمان (١).

وهي أيضا كما ترى.

ولكن ورد بهذا المعنى روايات في موارد خاصة غير مشتملة على هذا العنوان ولكن يوافقه بحسب المعنى وإليك ما عثرنا عليه :

١ ـ ما رواه إسحاق بن عمار قال حدثني من سمع أبا عبد الله عليه‌السلام وسأله رجل وانا عنده ، فقال : رجل مسلم احتاج الى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال أبيعك داري هذه وتكون لك أحب الي من ان تكون لغيرك على ان تشترط لي ان أنا جئتك بثمنها إلى سنة ان ترد علي فقال : لا بأس بهذا ان جاء بثمنها إلى سنة ردها عليه ، قلت فإنها كانت فيها غلة كثيرة فأخذ الغلة لمن تكون الغلة؟ فقال : الغلة للمشتري ، ألا ترى انه لو احترقت لكانت من ماله (٢).

٢ ـ ما رواه معاوية بن ميسرة قال سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن

__________________

(١) المستدرك ج ٢ أبواب الخيار الباب ٧ ص ٤٧٣.

(٢) الوسائل ج ١٢ أبواب الخيار الباب ٨ الحديث ١.

٣١٠

رجل باع دارا له من رجل ، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاضر فشرط انك ان أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك ، فاتى بماله ، قال : له شرطه ، قال أبو الجارود : فان ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين قال : هو ماله وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أرأيت لو ان الدار احترقت من مال من كانت؟ تكون الدار دار المشتري (١).

٣ ـ ما رواه في دعائم الإسلام عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه سئل عن رجل باع داره على شرط انه ان جاء بثمنها إلى سنة ان يرد عليه ، قال : لا بأس بهذا وهو على شرطه قيل فغلتها لمن تكون؟ قال : للمشتري ، لأنها لو احترقت لكانت من ماله (٢).

ويستفاد من جميع ذكرنا انه لا دليل على اعتبار هذه القاعدة بعنوان عام ، حتى يجوز الاستدلال بها في الأبواب المختلفة من الفقه ، لضعف ما روي من طرق المخالفين سندا ، بل قصور دلالتها واختصاصها بمورد خيار العيب ، وما ورد مطلقا في هذا الباب أيضا ناظر الى هذا المورد كما لا يخفى على من تأمله.

ولو استفيد من إطلاقه العموم فالظاهر ان العموم في خصوص موارد يشابه مورد خيار العيب ، بان يكون ضمن شيئا بعقد صحيح ضمانا اختياريا ، وانتفع بالمعقود عليه منفعة مستوفاة ، فحينئذ يكون خراجه في مقابل ضمانه.

واما الروايات الخاصة التي عرفتها آنفا فهي ناظرة إلى مسألة بيع الشرط أو الرهن وسيأتي الكلام ان شاء الله فيها وانه موافق لقواعد أخر ، ولا دخل لها بقاعدة «الخراج بالضمان».

واما بناء العقلاء فقد عرفت عدم استقراره على هذه القاعدة ، بل بناؤهم

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ أبواب الخيار الباب ٨ الحديث ٣.

(٢) المستدرك ج ٢ كتاب التجارة أبواب الخيار الباب ٦ و ٧ ص ٤٧٣.

٣١١

مستقر على خلافها في أبواب الغصب ، فمن غصب دارا أو حيوانا أو شيئا آخر وانتفع بها يكون ضامنا لهذه المنافع اجمع عندهم بلا ريب.

إذا عرفت ذلك فلنعد الى تفسير القاعدة.

معنى «الخراج» ومعنى «الضمان» :

قد وقع الكلام بينهم في المراد من هذين اللفظين الواردين في متن القاعدة (على القول بثبوتها) وذكر فيه احتمالات أو أقوال ، أهمها ما يلي :

١ ـ ان المراد من «الخراج» ما هو المعروف في باب الخراج والأراضي الخراجية ، والمراد من «الضمان» هو ضمان هذه الأراضي بسبب الإجارة والتقبل!

وقد جعله بعضهم أقرب الاحتمالات في الحديث وعليه لا مصاص له بما نحن بصدده (١).

٢ ـ ويقرب منه ما قيل انه يحتمل ان يكون المراد من الخراج هو الخراج المضروب على الأراضي أو الرؤس ومن الضمان ضمان والي المسلمين تدبير أمورهم وسد حاجاتهم ، وجميع ما على الوالي في صلاح دولة الإسلام وحال المسلمين ، فالمراد ان الخراج المعهود من الأراضي وغيرها بإزاء ما على الوالي من الوظائف على ادارة الأمور (٢).

فالخراج في كلا الاحتمالين بمعنى واحد ولكن الضمان في الأول بمعنى إجارة الأرض وتقبلها ، وفي الثاني بمعنى ولاية أمور المسلمين وتعهد أمورهم.

هذا ولكن قلّما يستعمل الضمان في هذا المعنى كما سيأتي ان شاء الله.

__________________

(١) مصباح الفقاهة ج ٣ ص ١٣٣.

(٢) كتاب البيع ج ١ ص ٣١٨.

٣١٢

٣ ـ ان المراد من الخراج مطلق المنافع ، والمراد بالضمان مطلق العهدة ، سواء كان امرا اختياريا مترتبا على العقود الصحيحة أو الفاسدة ، أو كان امرا غير اختياري مترتبا على الغصب.

وهذا ينطبق على ما روي عن أبي حنيفة من عدم تضمين الغاصب بالمنافع المستوفاة نظرا الى ضمانه ، وما عن «ابن حمزة» من قدماء فقهاء أصحابنا ، وان كان في النسبة إليه كلام.

٤ ـ ان يكون المراد من الخراج خصوص المنافع المستوفاة ، والمراد بالضمان ما يكون في خصوص العقود الصحيحة ، فحينئذ يكون المنافع المستوفاة في العقود الصحيحة في مقابل ضمان العين بالضمان الاختياري الناشئ عن عقد صحيح.

٥ ـ المراد من الخراج خصوص المنافع المستوفاة كما في سابقة ، ولكن المراد بالضمان هو الضمان الاختياري ، الأعم مما يحصل من العقود الصحيحة أو الفاسدة ، من دون شمول مثل الغصب الذي حكمه الضمان قهرا.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان اللازم الرجوع الى معنى اللفظتين في اللغة والعرف أولا ثمَّ ملاحظة مورد الأحاديث ثانيا.

والانصاف ان شيئا من هذه المعاني لا يناسب مورد الرواية ومصدرها ما عدا القول الرابع.

توضيح ذلك : ان الرواية كما عرفت لم ترد من طرق أهل البيت وانما وردت في طرق الجمهور ومنابعهم المعروفة ، واشتهر بينهم اشتهارا تاما ، ولكنها اجمع تنتهي إلى عروة بن الزبير وهو يرويها عن عائشة تارة مصدرة بمسألة استغلال العبد المعيب الذي اشتراه بظن السلامة ثمَّ وجد به عيبا ، وقد ذكرت مع هذا المتن في كثير من كتبهم وقد أشرنا إليها سابقا ، واخرى من دون ذكر موردها من بيع المعيب.

٣١٣

والظاهر لكل ناظر فيها قضية واحدة ومن البعيد ان يكون الراوي سمعها تارة مع صدرها ، واخرى مطلقة ، لأنها وردت عقيب سؤال واحد ، سلمنا ولكن احتمال ذلك كاف في عدم إمكان الاستدلال بكل واحد كرواية مستقلة الا ان يكون ظاهر كلام الراوي صدورها مستقلة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومع ما عرفت من كيفية نقل الرواية لا ظهور فيها من هذه الناحية ، وبالجملة لم يثبت لنا تعدد الرواية ولا ظهور لها فيه حسب متفاهم العرف.

وعندئذ يكون موردها قرينة على تفسير لفظتي «الضمان» و «الخراج» فالخراج هو المنافع المستوفاة كاستغلال العبد ، والانتفاع بغلته ، والمراد بالضمان هو الضمان بالعقد الصحيح ، لا العقد الفاسد ، ولا الضمان القهري كالغصب.

وأعجب من ذلك كله احتمال كون الخراج بمعناه المعروف في باب الأراضي الخراجية ، فإنه وان كان كذلك في تلك الأبواب ولكن ليس كذلك في محل الكلام قطعا.

وأعجب منه جعل الضمان بمعنى ضمان الحكومة لرعاية الرعية والذب عنهم وتدبير أمورهم! فإن إطلاق الضمان على هذا المعنى بعيد جدا وقلما يستعمل هذه اللفظة في هذا المعنى في كلمات العرب.

بل المراد ان الضمان هنا هو ضمان العين الحاصل في العقود الصحيحة المعاوضية ، فإنها إذا تلفت تلفت من ملك من انتقل اليه بذاك العقد في مقابل الثمن الذي أداه إلى المالك.

فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول أرأيت لو تلفت العين المعيبة تلفت من ملك المشتري؟ فكذلك إذا كان له منافع مستوفاة فهي له ، بل هذا نتيجة انتقال العين اليه كما لا يخفى.

نعم لازم ذلك كون فسخ البيع فيما إذا كان معيبا من حينه ، لا من أصله ، كما ان لازمه عدم سقوط خيار العيب بمثل هذه التصرفات.

٣١٤

وورود مسئلة الرد في كلام السائل كما في الرواية الثانية لا ينافي ما ذكرناه بعد إمضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له على فرض صدور هذه الرواية.

نعم لا يبعد التعدي من مورد الروايات الى مطلق الخيار ، فاذا جاز الرد بالخيار فانتفع منه منافع ، وقلنا بعدم منع الانتفاع من الرد بالخيار ، فمقتضى الرواية عدم ضمان هذه المنافع؟ وكون خراجه بضمانه ، بناء على كون الضمان على المشتري والمنتقل اليه المال في أمثال المقام فتأمل.

هذا بحسب مورد الرواية واما بحسب معناهما في اللغة ، فقد قال الجوهري في الصحاح : الخرج والخراج الاتاوة (١) والخرج أيضا ضد الدخل ، وقال في معنى الضمان : ضمن الشيء بالكسر كفل به ، فهو ضامن وضمين ، وضمنه الشيء تضمينا وتضمنه عنه مثل غرمه.

وقال الراغب في المفردات : والخراج يختص في الغالب بالضريبة على الأرض وقيل العبد يؤدي خرجه اي غلته. وقيل الخراج بالضمان اي ما يخرج من مال البائع فهو ما سقط بإزائه عنه من ضمان المبيع.

وقال الطريحي في مجمع البحرين «الخراج» بفتح المعجمة ما يحصل من غلة الأرض ، وقيل يقع اسم الخراج على الضريبة والفيء والجزية والغلة.

وقال : ضمنت المال التزمته ويتعدى بالتضعيف فيقال ضمّنته المال ، اي التزمته إياه ، وما عن بعض الاعلام : «الضمان» مأخوذ من الفم ، غلط من جهة الاشتقاق لان نونه اصلية ، والفم لا نون فيه الى غير ذلك مما ورد في كتب أهل اللغة.

والمناسب من بين هذه المعاني بحسب مورد الرواية هو ما عرفت لا غير ، اعني كون الضمان هو ضمان الحاصل من العقود الصحيحة بالثمن المعلوم والخراج هو المنافع المستوفاة.

__________________

(١) الاتاوة من «اتو» بمعنى «الخراج».

٣١٥

وعندئذ ينطبق مفاد الرواية المعروفة على ما ورد في طرقنا بغير لفظ الضمان والخراج مثل ما مر من روايات عديدة وردت في مورد بيع الشرط ، وانه إذا باع رجل داره ، مثلا وشرط على المشتري انه لو جاء بثمنه إلى سنة فالدار له ، وله فسخ البيع ، وانه لو كان للدار غلة كثيرة كان للمشتري في مقابل انه لو تلفت العين في أثناء هذه المدة في يده كان من ملكه.

وان شئت قلت ما ورد من طرق العامة تحت عنوان الخراج بالضمان ينطبق على ما ورد من طرقنا في أبواب بيع الشرط ولا يستفاد من شيء منهما قاعدة كلية.

نعم هي أوسع نطاقا مما ورد في رواياتنا لأنه يشمل جميع المنافع المستوفاة في موارد يجوز رد العين ، ولو بعد الانتفاع ، من دون اختصاص بباب العيب أو خيار الشرط أو غيره ، ولكن ما ورد من طريق الأصحاب خاص لمورد خيار الشرط ، اللهم الا ان يؤخذ بعموم التعليل الوارد في كلام الامام عليه‌السلام بأنه كلما كان تلف المبيع من المشتري فالمنافع المستوفاة له أيضا فيتطابقان ولا يكون فيها شيء جديد ما عدا ما هو مقتضى البيع الصحيح فان لازم صحة البيع كون المنافع للمشتري كما ان تلف العين عليه.

ثمَّ انه هل تختص القاعدة بضمان المثمن ومنافعها ، أو تعم ضمان الثمن ومنافعها أيضا؟ فبناء على صدور هذه الجملة مستقلا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا شك في كونها عامة لجميع موارد الضمان والخراج ، ولكن لما عرفت انها على فرض صحة الإسناد واردة ذيل بيع المعيب وضمانه ومنافعه المستوفاة يشكل الأخذ بعمومها ، نعم إلغاء الخصوصية عن المثمن وشمولها بالنسبة إلى الثمن غير بعيد.

ومن هنا يظهر ان ما أورد عليها من النقض بمسألة العارية المضمونة فإن ضمانها على المستعير من دون ان يكون منافعها ملكا له ، بل هي من قبيل اباحة المنافع دون التمليك ، غير وارد بعد ما عرفت وكذلك غيرها من أشباهها ، وحيث ان أصل القاعدة غير ثابتة فلا يهمنا البحث عن هذه الفروع.

٣١٦

١٥ ـ قاعدة اللزوم

(الأصل في المعاملات اللزوم)

محل الكلام فيها

مداركها من كتاب الله

مداركها من السنة

الاستدلال بالاستصحاب ونقده

بناء العقلاء هنا

٣١٧
٣١٨

قاعدة اللزوم

من القواعد المعروفة المستدل بها في أبواب المعاملات بالمعنى الأعم من البيع والإجارة والنكاح وغيرها ، قاعدة اللزوم في العقود إذا شك في لزوم عقد وجوازه.

وليعلم ان البحث تارة يكون في الشبهات الحكمية كما إذا شككنا في ان عقد المعاطاة جائزة أو لازمة ، أو ان الهبة في بعض مصاديقها جائزة أو لازمة.

واخرى يكون من قبيل الشبهات الموضوعية بان نعلم ان البيع بالصيغة لازم وبيع المعاطاة تكون جائزة مثلا ، ثمَّ شككنا في ان العقد الواقع في الخارج كان من قبيل البيع بالصيغة أو المعاطاة.

ثمَّ ان الشك قد يكون في ابتداء العقد بان شك في ان عقد المعاطاة من أول أمرها لازمة أو جائزة ، واخرى يكون بعد عروض الجواز له كما إذا قلنا بان خيار العين انما يكون بعد ظهوره ، وقبله يكون البيع لازما ، وكذلك بالنسبة إلى خيار الرؤية ، وخيار الشرط ، إذا جعل الخيار في زمان منفصل عن العقد وقلنا بجواز ذلك ، وحينئذ ينقلب العقد اللازم جائزا ، ثمَّ لو شككنا بعد ذلك في صيرورته لازما أو بقائه على الجواز سواء من ناحية الشبهة الحكمية أو الموضوعية فهل الأصل هنا أيضا اللزوم أو الجواز؟

٣١٩

ولا بد من البحث عن القاعدة أو لا بعنوان كلي ، ثمَّ نتكلم في فروعها وخصوصياتها فنقول ، ومن الله سبحانه التوفيق والهداية : ان المعروف بين من تعرض لهذه القاعدة ثبوت اللزوم في جميع العقود الا ما خرج بالدليل ، ولكن لم يتعرض لها بعنوان كلي كثير من الأصحاب ، وان تعرضوا لها بعنوان جزئي في بعض العقود كعقد الإجارة والمساقاة وغيرهما.

وإليك بعض كلماتهم في المقامين :

اما المقام الأول :

قال العلامة الأنصاري في مكاسبه : لا إشكال في أصالة اللزوم في كل عقد شك في لزومه شرعا ، وكذا لو شك في ان الواقع في الخارج هو العقد اللازم أو الجائز ، كالصلح من دون عوض والهبة (١).

وقال الشهيد (ره) في القواعد : «الأصل في البيع اللزوم ، وكذا في سائر العقود ويخرج عن الأصل في مواضع لعلل خارجة» (٢).

وقال الشهيد الثاني في «المسالك» : في شرح قول المحقق «والإجارة عقد لازم» ما نصه : «لزوم عقد الإجارة موضع وفاق وعموم الأمر بالوفاء بالعقود يتناوله ... ، واما الأسباب المقتضية في الفسخ فستأتي مفصلة ان شاء الله (٣).

وذكر الشيخ في «الخلاف» في باب الإجارة : انها من العقود اللازمة ، متى حصل لم يكن لأحدهما فسخ الإجارة ، دليلنا ان العقد قد ثبت. وأيضا قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، فأمر بالوفاء بالعقود والإجارة عقد ، فوجب الوفاء به (٤).

__________________

(١) المكاسب ص ٨٥.

(٢) القواعد والفوائد ج ٢ ص ٢٤٢.

(٣) المسالك ، ج ١ ص ٣٢٠.

(٤) الخلاف ج ٢ كتاب الإجارة مسألة ٢ ص ٢٠٦.

٣٢٠