القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

والأحاديث في هذا الباب أيضا كثيرة رواه في الوسائل في ذاك الباب أو أبواب أخر.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا على ان هناك عشرات أو مئات من الروايات تبلغ حد التواتر تدل بعمومها أو خصوصها على ان الأمين غير ضامن إجمالا ، وان كان فيها شرائط أو خصوصيات أخر سيأتي الكلام فيها ان شاء الله في التنبيهات.

وبالجملة هذه المسئلة من ناحية الأدلة النقلية من الوضوح بمكان لا يرتاب فيها من كان له أدنى إحاطة بكتب الاخبار ، وروايات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله الاطهار عليهم‌السلام.

الروايات المعارضة :

ولكن مع ذلك هناك روايات يبدو منها في ابتداء النظر انها معارضة لما مر ، ويظهر منها ضمان الأمين ، لا بد من التعرض لها وبيان طريق الجمع فيها.

وهي أيضا طوائف :

١ ـ ما ورد بطرق المختلفة ان أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يضمن الصباغ والقصار والصائغ احتياطا على أمتعة الناس ، وكان لا يضمن من الغرق والحرق والشيء الغالب (١).

ولكن لا يبعد ان يكون هذا من قبيل الأحكام السلطانية التي أمرها بيد حاكم الشرع ، فقد يرى المصلحة في حفظ نظام المجتمع على ان يضمن أرباب الحرف بالنسبة إلى أموال الناس ، بعد ما راى منهم قلة المبالاة في حفظ أمتعة الناس ، ووقوع الفوضى من هذه الناحية.

ولذا ورد في روايات اخرى على ان الرضا عليه‌السلام وكذا ابي جعفر الباقر عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ ح ٤ و ٦ و ١٢ و ٢٢.

٢٦١

لم يضمناهم ، (اما تطولا عليهم ، واما لملاحظة احتياطهم في أموال الناس في عصرهما).

٢ ـ ما دل على ان كل أجير يعطى الأجرة على إصلاح شيء فيفسده فهو ضامن له ، مثل ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن القصار يفسد فقال : كل أجير يعطى الأجرة على ان يصلح فيفسد فهو ضامن (١).

وما رواه إسماعيل بن أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن الثوب ادفعه الى القصار فيخرقه ، قال : أغرمه ، فإنك إنما دفعته اليه ليصلحه ولم تدفع اليه ليفسده (٢).

ومثله بهذه العبارة أو ما يقرب منه عن الحلبي فيمن يعطي الثوب للصباغ (٣).

وكذا مرسلة الصدوق في المقنع ، قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يضمّن القصار والصائغ وكل من أخذ شيئا ليصلحه فأفسده (٤).

ويمكن الجواب عن هذه الطائفة من طرق عديدة :

الأول ـ انه من شؤون قاعدة «من له الغنم فعليه الغرم» قال هذه القاعدة بعمومها وان لم تثبت عندنا ، ولكنها ممضاة في بعض الموارد ، ويمكن ان يكون الموارد منها ، فحينئذ تكون هذه القاعدة حاكمة على قاعدة عدم ضمان الأمين أو مخصصة لها.

الثاني ـ يمكن ان يكون من باب ولاية الحاكم وتضمينه لأرباب الحرف احتياطا على أموال الناس فيما إذا رأى منهم قلة المبالاة فيها كما مر في سابقة.

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ ح ١.

(٢) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ ح ٨.

(٣) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ الحديث ١٩.

(٤) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ الحديث ٢٣.

٢٦٢

الثالث ـ هذه الروايات ناظرة الى باب الإتلاف ، وهو أجنبي عما نحن فيه ، فان الكلام في عدم ضمان الأمين انما هو في التلف فقط ، ومن الواضح ان كل من أتلف مال الغير فهو له ضامن ولا معنى للتعدي وعدمه فيه ولا للعلم والجهل ، ولكن قوله : كل أجير يعطى الأجرة ينافي هذا المعنى فان هذا القيد في مقام الاحتراز ، ومفهومه عدم الضمان بالإتلاف لو لم يعطى الأجرة.

ولكن يمكن حل هذه العويصة بأنه إذا دخل الإنسان في عمل تبرعا بإذن صاحبه ولم يتعد ولم يفرط لا يبعد عدم كونه ضامنا لما يتلفه إذا كان الإتلاف من اللوازم القهرية لعمله ، ولو بعض الموارد ، ولكن هذا المعنى لا يجري في حق من يأخذ الأجر على إصلاح شيء فيفسده ، ولو لم يكن عن تعد ولا تفريط فتأمل.

الرابع ـ مع قطع النظر عن جميع ذلك تكون النسبة بين هذه الروايات وعموم عدم ضمان الأمين نسبة الخصوص والعموم المطلق فيخص بها في خصوص هذا المورد ، وتبقى القاعدة سليمة عن المعارض في غير هذا الباب.

وبالجملة روايات تضمين أرباب الحرف الذين يأخذون الأجر على أعمالهم فيفسدون أموال الناس أحيانا ، مع انها معارضة بما ورد من عدم ضمانهم بالخصوص كما يظهر على من راجع أبواب الإجارة (١) أخص مما نحن بصدده ، ولها محامل أخر غير التخصيص كما عرفت فلا تنافي قاعدة عدم ضمان الأمين.

٣ ـ ما دل على الأجير المشارك والظاهر انه هو الذي يكون له حرفة يراجعه الناس ، فهو بعلمه مشارك لهم ، ولا يختص بواحد منهم ، مثل ما رواه مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام الأجير المشارك هو ضامن

__________________

(١) لا سيما الباب ٢٩ و ٣٠ من أحكام الإجارة.

٢٦٣

الأمن سبع أو من غرق أو حرق أو لص مكابر (١).

وهي وان كانت أعم من سابقها لعدم تقييدها بالإتلاف ، بل تشمل بعمومها للتلف والإتلاف معا ، ولكن الجواب منها هو الجواب عن الطائفة السابقة ، من إمكان حملها على قاعدة «من له الغنم» أو على «ولاية الحاكم» وان أبيت عن جميع ذلك فهي تخصيص في قاعدة عدم ضمان الأمين لا مضاد لها بعمومها.

٤ ـ الروايات الكثيرة الدالة على ضمان عارية الدرهم والذهب والفضة مثل ما رواه عبد الله بن سنان قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام لا تضمن العارية ، الا ان يكون قد اشترط فيها ضمان ، الا الدنانير ، فإنها مضمونة وان لم يشترط فيها ضمانا (٢).

وفي معناها روايات أخر في نفس ذاك الباب صرح في بعضها بعنوان الدراهم أو الدنانير وبعضها الأخر بعنوان الذهب والفضة.

ولكن الأمر فيها أيضا سهل ، لان تخصيص قاعدة «عدم ضمان الأمين» في بعض مواردها أدلة خاصة لا ينافي عمومها في غير تلك الموارد ، فقد تكون مصلحة في التخصيص في مثل الذهب والفضة مما يحتاج الى التحفظ الشديد ، بحيت لو لم يكن المستعير ضامنا لا يتحفظ عليه كل التحفظ ، فالشارع رأى المصلحة في تضمينه في خصوص هذا المورد ، ولا يمكن التعدي إلى غيره.

هذا كله إذا لم نقل بأن إطلاق الذهب والفضة في هذه الروايات محمول على الدرهم والدينار ، وعاريتهما كناية عن الاقتراض ، لعدم كون العارية في الدرهم والدينار معمولا بين الناس ، وحينئذ يخرج هذا العنوان عن محل الكلام بالتخصص لا بالتخصيص ، وتمام الكلام فيه في محله.

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٣٠ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ج ١٣ أحكام العارية الباب ٣ الحديث ١.

٢٦٤

٥ ـ ما ورد في باب المضاربة بمال اليتيم وان العامل ضامن على كل حال ، مع انه أمين مثل ما رواه بكر بن حبيب قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل دفع اليه مال اليتيم بمضاربة قال فان كان ربح فلليتيم ، وان كان وضيعة فالذي أعطى ضامن (١).

ومثله ما ورد في أبواب الوصية عن إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال سألته عن مال اليتيم هل للوصي أن يعينه أو يتجر فيه قال ان فعل فهو ضامن (٢).

الى غير ذلك مما ورد في هذه الأبواب ، ولا سيما في أبواب الزكاة ، وانه من اتجر بمال اليتيم فالربح لليتيم وان وضع فعلى الذي يتجر به (٣).

ولكن يمكن الجواب عن جميع ذلك بان الضمان في هذه الموارد من جهة التصرف فيما لا يجوز له التصرف فيه ، وهو موجب للضمان ، واما كون الربح لليتيم فإنه كالفضولي الذي اجازه مالكه ، أو من بيده ولاية الأمر ، فالشارع أذن التجارة الرابحة في مال اليتيم ، غبطة له ، فالربح يكون في ماله ، واما التجارة الخاسرة وضمانها على تاجرها بغير اذن من الشارع.

٦ ـ ما دل على ضمان الوصي للزكاة أو لمال الغرماء والذي في يده ، فإنه ضامن مع انه أمين مثل ما رواه سليمان بن عبد الله الهاشمي عن أبيه قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل اوصى الى رجل فأعطاه ألف درهم زكاة ماله ، فذهبت من الوصي قال هو ضامن ، ولا يرجع على الورثة ، وما رواه ابان عن رجل قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل اوصى الى رجل ان عليه دينا فقال : يقضي الرجل ما عليه من دينه ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام المضاربة الباب ١٠ الحديث ١.

(٢) الوسائل ج ١٣ احكام الوصايا الباب ٣٦ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ج ٦ أبواب من تجب عليه الزكاة الباب ٢ الحديث ٢.

٢٦٥

ويقسم ما بقي بين الورثة ، قلت : فسرق ما اوصى به من الدين ، ممن يؤخذ الدين؟ أمن الورثة ، أو من الوصي؟ قال لا يؤخذ من الورثة ولكن الوصي ضامن لها (١).

الى غير ذلك مما في معناه.

ويمكن الجواب عن الجميع بحملها على ما إذا وجد مستحق الزكاة ، أو صاحب الدين وتوانى في دفعها اليه ، كما يشهد له صحيحة محمد بن مسلم قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل بعث بزكاة ماله لتقسم فضاعت ، هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن ـ الى ان قال ـ وكذلك الوصي الذي يوصى اليه يكون ضامنا لما دفع إليه إذا وجد ربه الذي أمر بدفعه إليه ، فان لم يجد فليس عليه ضمان (٢).

وبالجملة لا تنثلم قاعدة «عدم ضمان الأمين» بشيء من هذه ، غاية الأمر يكون تخصيصا لها في بعض مصاديقها وقد عرفت ان لها محامل أخر غير التخصيص فتدبر جيدا.

٧ ـ ما وردت في أبواب اللقطة وانه إذا تلفت فالواجد ضامن له ، مثل ما رواه عبد الله بن جعفر في قرب الاسناد بسنده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : وسألته عن الرجل يصيب اللقطة دراهم أو ثوبا أو دابة كيف يصنع؟ قال يعرفها سنة فان لم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله ، حتى يجيء طالبها ، فيعطيها إياه ، وان مات اوصى بها فإن أصابها شيء فهو ضامن (٣).

ولكن يمكن حملها على صورة التعدي أو التفريط في حفظها أو على من نوى

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ احكام الوصايا الباب ٣٦ الحديث ٣ و ٤.

(٢) الوسائل ج ١٣ احكام الوصايا الباب ٣٦ الحديث ١.

(٣) الوسائل ج ١٧ كتاب اللقطة الباب ٢ الحديث ١٣.

٢٦٦

أخذ الجعل لوجدانها بقرينة ما رواه عن حسين بن زيد عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول في الضالة يجدها الرجل فينوي أن يأخذ لها جعلا فتنفق (١) قال عليه‌السلام هو ضامن فان لم ينو أن يأخذ لها جعلا ونفقت فلا ضمان عليه (٢).

والرواية وان كان غير نقي الاسناد ولكن يصلح قرينة وتأييدا للجمع ، ولو أغمضنا عن جميع ذلك فهو تخصيص في مورد خاص ولا ينافي أصل قاعدة نفي الضمان على الأمين.

الثالث بناء العقلاء :

ومما يدل على هذه القاعدة بعمومها بناء العقلاء من أرباب الملل وغيرهم حتى من لا ينتمي إلى دين ، فإنهم لا يزالون يحكمون بعدم ضمان من ائتمنوه على شيء إذا علم عدم تعديه وتفريطه ، فهل ترى أحدا منهم يحكم بضمان الأجير إذا حفظ العين المستأجرة كأحد أمواله ولكن تلفت بمتلف سماوي لا دخل له فيه.

وكذا المستعير إذا حفظ العين المستعارة فتلفت لقضاء أجلها أو بوقوع غرق أو صاعقة عليها مما لا دخل للمستعير فيه ، لا سيما إذا لم يتفاوت الأمر فيه بين ما إذا كان في يد المستعير أو المالك ، إلا إذا كان هناك شرط أو قرينة تقوم مقام الشرط.

وأوضح من ذلك الودعي فاذا حفظ الوديعة كأحد أمواله من دون اي تفريط ، ولكن سرقها سارق من بيته في جملة أمواله ، فلا شك انه لا يعد ضامنا عند العقلاء وأهل العرف.

نعم إذا وقع الاشتباه في مقام الإثبات ولم يعلم انه خان في الأمانة أو لم يخن تعدى في العين المستعارة أو لم يتعد ، فرط في العين المستأجرة أو لم يفرط ، فهل

__________________

(١) أى تهلك.

(٢) الوسائل ج ١٧ كتاب اللقطة الباب ١٩ الحديث ١٩.

٢٦٧

يقبل قوله في مقام الإثبات أو يحتاج الى دليل ، ولا أقل من كونه مأمونا ثقة؟ فهذا أمر آخر أجنبي عما نحن بصدده ، وسنتكلم فيه إنشاء الله في أول تنبيهات المسئلة.

ولو شك في بعض مصاديق القاعدة فلا أقل من انه على إجمالها مما لا كلام فيه عندهم ، ولا سيما في الاعذار العامة كخرابه بوقوع الزلزلة ، أو الغرق أو الحرق ، أو الآفات السماوية أو الأرضية وحيث ان هذا البناء منهم كان مستمرا حتى قبل ورود الشرع وكان بمرأى من الشارع المقدس وسمعه ولم يردع عنه فيعلم انه رضى به.

والظاهران الروايات الكثيرة السابقة الدالة على عدم ضمان الأمين أيضا إمضاء لهذا البناء ، ولكن لا يبعد ان يكون هذه القاعدة أوسع نطاقا في الشرع مما عند العقلاء فان عمومها في الشرع واضحة حينما ليس كذلك عند العقلاء ، فقد يقع الخلاف بينهم في بعض مصاديقه ، وكل يتبع ما لديه من العرف والعادة أو القوانين المجعولة عندهم فالشارع المقدس في الإسلام شيّد بنيان هذه القاعدة ، وبناها على مستوى عال ، ودائرة واسعة ، لا يعتريها شك ولا يشوبها ريب.

كما أن الظاهران إجماع الفقهاء رضوان الله عليهم أيضا يرجع الى ما عرفت من الروايات العامة ، والخاصة ، وبناء العقلاء ، فيرسلونها إرسال المسلمات ، ويستندون إليها في مختلف أبواب الفقه.

تنبيهات

الأول : في معنى الأمانة في المقام

قد مر في صدر البحث ان الأمانة تستعمل هنا في معنيين : الأمانة في مقابل الغصب ، والامانة بمعنى الوثاقة.

كما عرفت ان الكلام في القاعدة أولا وبالذات في المعنى الأول ، ولكن قد

٢٦٨

وقع الخلط في كثير من كلماتهم من المعنيين ، نظرا الى وقوع هذا التعبير بعينه في روايات القاعدة تارة في المعنى الأول ، واخرى في المعنى الثاني ، وقد ذكرنا ان المعنى الأول راجع الى «مقام الثبوت» والثاني إلى «مقام الإثبات» ، وحيث ان البحث تمَّ مستوفى في المقام الأول فنتكلم الان في المقام الثاني.

وحاصله : انه لا شك ان الأمانة بمعنى عدم الغصب كافية في نفي الضمان ، فلو كان التسلط على مال أو منفعة بإذن من المالك ، أو بإجازة من الشارع ، ولم يحصل من الإنسان تعد وتفريط في حفظه لم يكن ضامنا ، سواء كان ثقة مأمونا أو فاسقا كذابا.

ولكن إذا حصل الشك في انه خان في الأمانة أو لم يخن ، وتعدى فيها أو لم يتعد ، وفرط أو لم يفرط فهل يقبل قوله مطلقا؟ أو إذا كان له بينة؟ أو يكفي اخباره إذا كان ثقة ، وهذا أمر آخر يرجع الى الشك في المصداق ، وانه داخل في عموم القاعدة أو خارج عنها ، وبعبارة أخرى هذا من قبيل الشبهة المصداقية للمخصص.

واللازم ان يتكلم فيه أولا بحسب القواعد وثانيا نبحث عن النصوص الواردة في هذا المعنى في الأبواب المختلفة فنقول ومن الله التوفيق والهداية.

انه قد يتوهم الرجوع الى أصالة البراءة عن الضمان هنا بعد عدم جواز التمسك بعموم العام بالشبهات المصداقية للمخصص.

كما انه قد يتوهم ان مقتضى الاستصحاب ، وأصالة عدم التعدي والتفريط عدم الضمان ، لكن يشكل الأول بأن المقام ليس مقام البراءة ، بل الأصل في الأموال كما عرفت كونها محترمة إلا بإذن مالكها أو الشارع الذي هو مالك الملوك ، وحيث لا نعلم ان التلف كان بتعد وتفريط أو لم يكن ، فعلى الأخذ إثبات كونه مأذونا غير متعد ولا مفرط

ولذا لا نجد أحدا من العقلاء يكتفي بقول الأجير ان متاعك الذي كان عندي ضاع ، أو سرق من غير اقامة دليل عليه ، ولو أمكن ذلك كان لكل اجير ومضارب

٢٦٩

ومستعير ووكيل دعوى حصول التلف ولزم منه الهرج والمرج والفوضى بين الناس ولم يستقر حجر على حجر ، وانفتح باب الخيانة امام الناس ولم يعتمد احد على احد.

والحاصل ان احترام الأموال يوجب الضمان في موارد الشك الا ان يأتي الأخذ بدليل ، أو كان ثقة مأمونا ، فلذا لا يجوز الرجوع الى أصالة البراءة.

ومن هنا تعرف الكلام في الاستصحاب وانه على فرض إجرائه محكوم بقاعدة احترام الأموال مضافا الى ان الاستصحاب قد يدل على الضمان كما إذا استصحب عدم الحفظ لها وعدم العناية باحتفاظها فتأمل ، والحاصل انه ليس المقام مما يرجع فيه الى الأصول العملية بعد وجود الدليل الخاص.

واما الروايات فهناك طوائف تدل على الضمان عند الشك.

الطائفة الأولى ما دل على ضمانهم الا ان يقيموا البينة :

١ ـ منها ـ ما رواه أبو بصير عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن قصار دفعت اليه الثوب ، فزعم انه سرق من بين متاعه قال فعليه ان يقيم البينة أنه سرق من بين متاعه ، وليس عليه شيء ، فان سرق متاعه كله فليس عليه شيء (١).

٢ ـ وما رواه الحلبي عن ابي عبد الله عليه‌السلام في حمال يحمل معه الزيت فيقول قد ذهب أو أحرق أو قطع عليه الطريق ، فان جاء ببينة عادلة انه قطع عليه ، أو ذهب فليس عليه شيء ، والا ضمن (٢).

٣ ـ وما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال سألته عن رجل استأجر دابة فوقعت في بئر فانكسرت ، ما عليه؟ قال : هو ضامن ان كان لم يستوثق منه فإن أقام البينة أنه ربطها فاستوثق منها فليس عليه شيء (٣).

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٣٠ الحديث ١٩.

(٣) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٣٢ الحديث ٤.

٢٧٠

٤ ـ وما رواه الحلبي عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال سئل عن رجل حمال استكرى منه إبلا (إبل) وبعث معه بزيت إلى أرض وزعم ان بعض زقاق الزيت انخرق فأهراق ما فيه فقال : انه ان شاء أخذ الزيت ، وقال انه انخرق ولكنه لا يصدق إلا ببينة عادلة (١).

ومن بين هذه الروايات روايات صحاح معتمد عليها ، بحسب السند ، ويستفاد من مجموعها ان دعوى الحمال ومثله التلف لا تقبل بدون البينة والأصل كونه ضامنا.

الطائفة الثانية : ما دل على عدم ضمانهم إذا كانوا ثقاة وهي روايات كثيرة نكتفي بذكر شطر منها :

مثل ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الحمال يكسر الذي يحمل أو يهريقه؟ قال : ان كان مأمونا فليس عليه شيء ، وان كان غير مأمون فهو له ضامن (٢).

ومن الواضح انه ليس المراد منه صورة العلم بإتلافه ، لعدم دخالة الامانة والوثاقة في مسألة الإتلاف وانما المراد منها بقرينة ذيلها صورة الشك في صحة دعواه.

وما سأله خالد بن الحجاج ، أبا عبد الله عليه‌السلام عن الملاح أحمله الطعام ثمَّ اقبضه منه ، فينقصه ، قال ان كان مأمونا فلا تضمنه (٣).

وما رواه حذيفة بن منصور قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يحمل المتاع بالأجر فيضيع المتاع ، فتطيب نفسه أن يغرمه لأهله ، أيأخذونه؟ قال فقال لي أمين هو؟ قلت نعم ، قال : فلا يأخذ منه شيئا (٤).

وما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيما رجل تكارى دابة فأخذته الذئبة

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٣٠ الحديث ١.

(٢) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٣٠ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٣٠ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٣٠ الحديث ١٢.

٢٧١

فشقت كرشها فنفقت فهو ضامن الا ان يكون مسلما عدلا (١).

وكيفية الاستدلال بها كالرواية الأولى ، فإن المفروض الشك في صدق دعوى الأجير والا لو علم بصدقه في دعواه لم يكن وجه لضمانه.

وما ورد في أبواب العارية عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العارية فقال لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأمونا (٢).

وما ورد في أبواب الوديعة أرسله الكليني في الكافي قال في حديث آخر إذا كان مسلما عدلا فليس عليه ضمان (٣).

الى غير ذلك مما ورد في أبواب مختلفة.

الطائفة الثالثة : ما دل على جواز استخدامه إذا كان متهما ، وان لم يكن متهما فليس عليه شيء ، مثل ما رواه بكر بن حبيب قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أعطيت جبة الى القصار فذهبت بزعمه قال ان اتهمته فاستحلفه وان لم تتهمه فليس عليه شيء (٤).

وما رواه جعفر بن عثمان قال حمل ابي متاعا الى الشام مع جمال فذكر ان حملا منه ضاع فذكرت ذلك لأبي عبد الله عليه‌السلام فقال أتتهمه؟ قلت لا ، قال فلا تضمنه (٥).

إذا عرفت هذا فاعلم انه وقع الكلام بين فقهائنا في أبواب الإجارة في ان الأجير مثل الصانع أو الملاح أو المكاري إذا ادعى هلاك المتاع من غير تعد ولا تفريط وأنكر المالك هل يقبل قوله بغير البينة أم لا؟ حكى عن المشهور كما عن

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٣٢ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ج ١٣ أحكام العارية الباب ١ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ج ١٣ أحكام الوديعة الباب ٤ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ الحديث ١٦.

(٥) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٣٠ الحديث ٦.

٢٧٢

المسالك ضمانه بغير البينة ، بل ادعي الإجماع عليه ، ولكن اختار جماعة قبول قولهم مع اليمين ، لأنهم أمناء ، بل ادعى المحقق في الشرائع انه أشهر الروايتين ، وحكى هذا القول عن الشيخ في غير واحد من كتبه والمراسم والكافي والسرائر والتذكرة والقواعد وإيضاحها ، وإيضاح النافع وجامع المقاصد والرياض وغيرها.

واستدل عليه بما قد عرفت من رواية بكر بن حبيب في الطائفة الثالثة ، وبما رواه معاوية بن عمار في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن الصباغ والقصار فقال ليس يضمنان (١).

وما رواه أبو بصير المرادي عن الصادق عليه‌السلام أيضا قال : لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك الا أن يكونوا متهمين فيخوف بالبينة ، ويستحلف ولعله يستخرج منه شيئا (٢).

ولكن من المعلوم ان الدقة في الطوائف الثلث من الروايات التي مرت عليك تدل دلالة واضحة على القول الأول وان أرباب الحرف وغيرهم ضامنون لما يعطون إذا شك في صدق دعواهم في التلف والحرق أو الغرق ، وان الذي ينفى ضمانهم أحد أمرين : إقامة البينة على صدق دعواهم ، وكونهم أمناء ، والمراد بالأمين هنا ليس الأمين في مقابل الغاصب بل الأمين بمعنى الثقة ومن لا يكون متهما في قوله كما صرح به الروايات السابقة.

وبالجملة لا يبقى أي شك لمن راجعها وفسر بعضها ببعض ، وقيّد إطلاق بعضها ببعض آخر ان المراد من الجميع شيء واحد ، وهو نفي الضمان إذا لم يكن هناك قرائن التهمة ، بل لو لم يكن هناك بينة ولا وثوق ولكن قامت أمارات من الخارج على عدم اتهامهم مثل ما إذا سرق جميع أمواله ، أو وقع حريق وذهب أمواله أجمع

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ الحديث ١٤.

(٢) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ الحديث ١١.

٢٧٣

ومن بينها أموال الناس ، وحينئذ لا يضمن كما وقع التصريح به بعنوان الشيء الغالب (كالغرق والحرق) في رواية أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) ومثله ما ورد في حديث أبي بصير انه ان سرق متاعه كله فليس عليه شيء (٢).

وقد عرفت ان مدار العمل بين العقلاء أيضا على ذلك ، فلا تقبل دعوى التلف من المستعير والأجير والودعي وغيرهم ، ولو قبل ذلك لم يستقر حجر على حجر ، نعم إذا كانوا غير متهمين أو كان هناك قرائن خارجية على عدم الاتهام يقبل قولهم.

والحاصل ان المسئلة أوضح من ان يحتاج الى بحث كثير ، ولعل وقوع الخلط بين الامانة بالمعين في كلماتهم صار منشأ لكثير من الأقوال المخالفة (والله العالم).

ومما ذكرنا يعلم انه لا يمكن الاعتماد على ما رواه في المقنع من عدم الضمان ولو كان غير ثقة مع ضعف الحديث بالإرسال (٣).

نعم يظهر من بعض روايات الباب انه يستحب التطول عليهم بعدم أخذ المال منهم عند الشك في صدق كلامهم إذا لم يكونوا أمناء (٤) ولا بأس بالعمل به.

التنبيه الثاني : هل يجوز اشتراط ضمان الأمين؟

قد عرفت ان الأمين غير ضامن بطبيعة الحال ، ولكن الكلام في انه هل يجوز تضمينه بمقتضى الشرط؟ بان يشترط المؤجر ضمان العين المستأجرة ولو لم يتعد ولم يفرط ، وكذلك بالنسبة إلى العامل في المضاربة ، الى غير ذلك من أشباهه.

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ج ١٣ كتاب الوديعة الباب ٤ الحديث ٧.

(٤) راجع رواية ٢٠ من الباب ٢٩ من أبواب الإجارة.

٢٧٤

لا شك في جواز ذلك في بعض مواردها لورود التصريح بالجواز في نصوصها كما في العارية ، فإن النص ناطق بجواز الاشتراط فيها ، وافتى الأصحاب به أيضا بل حكى الإجماع عليه (راجع الباب الأول من أحكام العارية من المجلد ١٣ من الوسائل الرواية الاولى والرابعة والخامسة).

لكن وقع النزاع في موارد أخر ، مثل الإجارة ، فإن جماعة من القدماء والمتأخرين أفتوا بعدم جوار شرط الضمان فيها ولكن الأقوى جوازه.

والعمدة فيها وفيما لم يرد فيه نص على الجواز والمنع إطلاقات أدلة الشروط نعم قد يتوهم ان هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد فان طبيعته عدم الضمان كما عرفت أو لمقتضى حكم الشرع فإنه حكم بعدم الضمان ولكنه توهم فاسد ، لان العقد لا يقتضي الضمان عند الإطلاق ، واما عند الاشتراط فلم يدل دليل على منعه ، وبعبارة أخرى الضمان مخالف لإطلاق العقد ، لا العقد مطلقا ولو مع الشرط.

كما انه قد يتوهم انه غير جائز لأنه من قبيل شرط النتيجة ولكن يمكن الجواب عنه بإمكان جعله من قبيل شرط الفعل مضافا الى ان الأقوى صحة شرط النتيجة فيما لا يتوقف على الإنشاء بصيغة خاصة كما حرر في محله.

ومن أقوى الدليل على صحته ورود جواز اشتراط الضمان في باب العارية وغيرها ، مما يشترك مع ما هو من محل الكلام بحسب الملاك.

مثل ما رواه يعقوب بن شعيب قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبيع للقوم بالأجر ، وعليه ضمان مالهم قال انما كره ذلك من أجل اني أخشى ان يغرموه أكثر مما يصيب عليهم ، فاذا طابت نفسه فلا بأس (١).

نعم هناك موارد خاصة لا يجوز هذا الشرط فيها ، اما لمنافاته لمقتضى العقد أو للنصوص الخاصة.

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام الإجارة الباب ٢٩ الحديث ١٥.

٢٧٥

اما الأول : مثل المضاربة فإن اشتراط الضمان فيها يوجب انقلابها قرضا كما صرح به الأصحاب فإن رأس المال إذا اعطى لغير المالك ليتجر به على ان يكون الربح بينهما فهي مضاربة ، وان اعطى على أن يكون جميع الخسارة عليه فهو قرض ، فالربح له أيضا بتمامه ، وان اعطى على أن يكون تمام الربح للمالك وهي المسماة باسم البضاعة عندهم.

والعمدة في ذلك مضافا الى ما ذكر صحيحة محمد بن قيس فقد روى ان من ضمن تاجرا فليس له الا رأس ماله وليس له من الربح شيء (١).

وما قد يقال من انه مخالف للقواعد ، لان ما قصده لم يقع وما وقع لم يقصد فإنه لم يقصد عنوان القرض ، ولكن يجاب عنه بان القرض ليس إلا إعطاء مال وتضمين الخسارة ، وبعبارة أخرى التمليك مع الضمان وهو هنا حاصل.

وكذلك الحال في الوديعة فقد ذكر الشيخ (ره) في الخلاف : إذا شرط في الوديعة ان تكون مضمونة كان الشرط باطلا ، ولا تكون مضمونة بالشرط ، وبه قال جميع الفقهاء الا عبيد الله بن الحسن العنبري فإنه قال تكون مضمونة ، دليلنا إجماع الفرقة ، بل إجماع الأمة ، لأن خلاف العنبري قد انقرض ، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ليس على المستودع ضمان ـ ولم يفصل (٢).

ويظهر من ذيل كلامه قدس‌سره ان إسناده هذا القول إلى الأصحاب لعله كان من باب إطلاق كلامه لعدم الضمان ، لا التصريح بفساد الشرط ، ومن هنا يشكل دعوى الإجماع في المسألة ، ولقائل أن يقول ان عدم الضمان في الوديعة هو مقتضى إطلاق العقد ، ولا ينافي الضمان بالاشتراط ، كيف وقد روى زرارة في الصحيح قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن وديعة الذهب والفضة قال : فقال كل ما كان من وديعة ولم

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام المضاربة الباب ٤ الحديث ١.

(٢) الخلاف كتاب الوديعة ج ٢ ص ٣٢٤.

٢٧٦

تكن مضمونة لا تلزم (١).

ومن هنا يعرف الاشكال فيما يمكن أن يقال ان حقيقة الوديعة هي استنابة في الحفظ ، ومن المعلوم ان عمل النائب هو عمل المنوب عنه ، فكما لا يجوز للإنسان أن يضمن نفسه ، فلا يجوز تضمين الودعي أيضا.

ولكنه توهم فاسد ، لان تشبيه الودعي بالمالك ليس من جميع الجهات ، بل انما هو من بعض الجهات ، فلذا لو تعدى المالك في حفظ مال نفسه لم يكن معنى لضمانه ، مع ان الودعي إذا تعدى أو فرط كان ضامنا بلا اشكال.

ومنه يظهر الحال في الوكالة ، فقد يقال ببطلان اشتراط الضمان فيها أيضا ، اما لمخالفته لمقتضى العقد فان الوكيل نائب عن المالك ، وكما لا معنى لتضمين المالك نفسه فكذا لا معنى لتضمين وكيله.

وقد عرفت الجواب عنه ، وان كونه بمنزلة المالك انما هو من بعض الجهات لا من جميع جهاته ، ولذا لو تعدى أو فرط كان ضامنا بلا كلام.

فقد تلخص من جميع ما ذكرنا ان العقود التي مقتضاها الامانة ، تنقسم إلى ثلاثة أقسام من حيث صحة اشتراط الضمان فيها وعدمها.

قسم منها يصح الاشتراط فيها وهو أكثر العقود ، وقسم لا يصح كالمضاربة وقسم يكون محلا للكلام كالوديعة والوكالة وان لم نجد دليلا قاطعا على الفساد فيهما أيضا.

الثالث : ما المراد من التعدي والتفريط؟

قد عرفت ان الأمين ليس بضامن إلا إذا تعدى أو فرط فحينئذ يأتي الكلام

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أحكام الوديعة الباب ٤ الحديث ٤.

٢٧٧

في معنى التعدي والتفريط ، وفسره في المسالك بأن التعدي فعل ما لا يجوز فعله ، واما التفريط فأمر عدمي وهو ترك ما يجب فعله من الحفظ.

وقد مثل للأول المحقق في الشرائع بأمور مثل ان يلبس الثوب الذي عنده بعنوان الوديعة ، أو يركب الدابة أو يخرجها من حرزها لينتفع بها.

ومثل للثاني بما إذا جعلها في ما ليس بحرز ، أو ترك سقي الدابة أو علفها ، أو نشر الثوب الذي يفتقر الى النشر أو يودعها من غير ضرورة ، ولا اذن صاحبه أو يسافر بها كذلك مع خوف الطريق ، بل ومع أمنه ، ولكن مع ذلك لم يفسرهما بما يكون جامعا في هذا الباب ، وانما اكتفى غالبا بذكر الأمثلة.

هذا والضمان معهما قطعي مجمع عليه ، ولكن من الجدير بالذكر انهما بهذين العنوانين لم يردا في نصوص هذه الأبواب ، وانما ورد فيها عناوين أخر من الاستهلاك والضياع ، أو خالف الشرط وضاع ، أو دفعه الى غيره ، وما ورد في صحيحة أبي ولاد المعروفة من عنوان المخالفة ، وعنوان التجاوز عن الشرط الوارد في غير واحد من روايات أبواب الإجارة ، أو التجاوز عن الموضع الذي تكارى إليه ، الى غير ذلك الذي يمكن استفادة العنوانين واصطيادهما منها.

أضف الى ذلك ما قد عرفت من ان هذه القاعدة من القواعد العقلائية قبل ان تكون شرعية ، ومن الواضح انها مخصصة عند العقلاء بالتعدي والتفريط وقد أمضاها الشرع بما عندهم ، غير انه زاد عليه أشياء أو نقص ، وليس هذا منها.

ومن هنا تعرف انه لا يهمنا البحث عن هذين العنوانين بخصوصها ومقدار شمول لفظهما وان الأول يختص بالأمور الوجودية وفعل ما لا ينبغي فعله ، والثاني بالأمور العدمية ، وهي ترك ما ينبغي فعله وإيجاده.

نعم كلما يوجب خروج الأمين عن الامانة ويجعله غاصبا غير مأذون في التصرف فهو موجب للضمان بمقتضى قاعدة احترام مال المسلم ، فكل تصرف خارج عن

٢٧٨

اجازة المالك فهو داخل في عنوان التعدي موجب للضمان ودليله صيرورة الأمين خائنا والمأذون غاصبا.

وكذلك كلما يجب على الأمين فعله من الحفظ من جهة الحرز والنشر والسقي والعلف وغير ذلك إذا قصّر فيها ، فإنه وان لم يصدق عليه عنوان الغاصب ولكنه مستثنى عن حكم عدم الضمان قطعا فهو ضامن.

وبعبارة أخرى التعدي يوجب خروجه عن الاذن وصيرورته غاصبا ، ولكن التفريط لا يوجب خروجه عن هذا العنوان ولكن يوجب خروجه عن حكم البراءة ، فان عدم الضمان مشروط بشرط وهو قيامه بوظائف الحفظ فاذا لم يقم بها كان ضامنا لا لصدق الغاصب عليه أو الخيانة بل لعدم وجود شرط البراءة فيه فتدبر جيدا.

التنبيه الرابع : في حكم ما لو لم يتلف العين ولكن تعيب

إذا لم يهلك المتاع ولكن نقص منه شيء أو وصف ، أو تعيب بعيب ، والظاهر ان حكمه حكم التلف في عدم الضمان إذا لم يكن خائنا وفي ضمانه إذا كان كذلك لو لم يقم بوظائف الامانة.

ويدل عليه قياس الأولوية في بعض شقوق المسألة ، أعني عدم الضمان إذا كان أمينا ، فإن التلف إذا لم يكن مضمونا لم يكن النقص والعيب مضمونين بطريق أولى.

أضف الى ذلك جريان السيرة العقلائية عليه ، وعدم ردع الشارع عنه.

مضافا الى كون الحكم إجماعيا على الظاهر.

وأوضح من جميع ذلك ورود التصريح به في بعض روايات الضمان كصحيحة أبي ولاد (١) المصرحة بأنه لو أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز فعلى المستأجر قيمة

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ أبواب الإجارة الباب ١٧ الحديث ١.

٢٧٩

ما بين الصحة والعيب.

وما دل على ضمان القصار والصباغ والصائغ فإنه مطلق يشمل التلف والعيب كليهما (١).

وما ورد في ضمان الملاح نقص الطعام إذا لم يكن مأمونا (٢).

بناء على ان النقص مفهوم عام فتأمل.

وكذلك ما دل على ان من استعار عبدا مملوكا لقوم فعيب فهو ضامن (٣).

الى غير ذلك من أشباهه.

إلى هنا تمَّ الكلام في قاعدة عدم ضمان الأمين وما يتفرع عليه من الفروع

الكلية والحمد لله / ٢٧ صفر المظفر ١٤٠٥

__________________

(١) راجع الباب ٢٩ من أبواب الإجارة من المجلد ١٣ الوسائل.

(٢) راجع الباب ٣٠ من أبواب الإجارة من المجلد ١٣ الوسائل.

(٣) الوسائل ج ١٢ أحكام العارية الباب ١ الحديث ١١.

٢٨٠