نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

وهل شيء أبلغ من هذه الأشياء من القرآن ؟ ! أ ليس الله يقول : ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ الخبر (١) .

﴿وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بالشرك والكفر به ﴿إِلَّا خَساراً﴾ وهلاكا وكفرا باصرارهم على تكذيبه والطعن فيه.

وعن الباقر عليه‌السلام : « نزل جبرئيل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله [ بهذه الآية ] ولا يزيد الظالمين آل محمّد حقّهم إلّا خسارا » (٢) .

﴿وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ

 يَؤُساً (٨٣)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الظلم إنّما هو بكفران النعم بقوله : ﴿وَإِذا أَنْعَمْنا﴾ النّعم الدنيوية من الصحّة والمال والجاه ﴿عَلَى﴾ نوع ﴿الْإِنْسانِ﴾ وبني آدم ﴿أَعْرَضَ﴾ وحوّل وجهه عن الحقّ ، ولم يعتن بدعوة الرسول ، ولم يقبل دين الله ﴿وَنَأى﴾ وتباعد من الهدى ﴿بِجانِبِهِ﴾ ونفسه ، أو لوى عنه عطفه وولّاه ظهره استكبارا وتعظّما ، وامتنع عن طاعة الله ورسوله حبا للدنيا وغفلة عن العقبى ﴿وَإِذا مَسَّهُ﴾ وأصابه ﴿الشَّرُّ﴾ من المرض والفقر وسائر الشدائد ﴿كانَ يَؤُساً﴾ ومنقطع الرجاء من رحمة الله جهلا بسعة كرمه وفضله ، فلا يذكر الله ولا يقبل إليه ، ولا يقبل دعوة الرسول ، ولا يطيعه في حال من الأحوال ، وهذا غاية من هو في الضلال ، ودونه من إذا مسّه الشّر فذو دعاء عريض.

وفي إسناد الإنعام إلى نفسه دون الشرّ إيذان بأنّ النعمة من فضله ، دون الشرّ فانّه بذنوب الخلق ، أو بأنّ الأول هو المقصود بالذات ، والثاني مقصود بالتّبع.

عن ابن عباس : أنّ المقصود بالانسان هنا الوليد بن المغيرة (٣) .

قال الفخر الرازي : هذا بعيد ، بل المراد أنّ نوع الانسان [ من ] شأنه ذلك (٤) .

أقول : فيه أنّ المراد أنّ مورده خاص ، وإن كان موضوع الحكم عاما ، كما في قوله تعالى : ﴿إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا(٥) .

﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً * وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ

 الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٤) و (٨٥)

__________________

(١) طب الأئمة عليهم‌السلام : ٤٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٣.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٧٩ / ٢٥٩٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٣.

(٣ و٤) تفسير الرازي ٢١ : ٣٥.

(٥) الحجرات : ٤٩ / ٦.

٨١

ثمّ بيّن سبحانه أن اختلاف النفوس ناشيء عن اختلاف طيناتهم وقلوبهم المستلزمة لاختلاف نياتهم وقصورهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ﴿كُلٌ﴾ من المؤمن والكافر ﴿يَعْمَلُ﴾ عمله ﴿عَلى شاكِلَتِهِ﴾ وسجيته وجبلته (١) التي اختلافها يلازم اختلاف النية والطريقة ، فاستعمل اللازم في الملزوم.

عن الصادق عليه‌السلام : « النية أفضل من العمل ، ألا وإن النيّة هي العمل ، ثمّ تلا : ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ﴾ يعني على نيّته » (٢) .

وعنه عليه‌السلام : « إنّما خلّد أهل النار في النار ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء » ثمّ تلا : ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ(٣) .

وعنه عليه‌السلام أنه سئل عن الصلاة في البيع والكنائس ، فقال : « صلّ فيها » قلت : اصلّي فيها وإن كانوا يصلّون فيها ؟ قال : « نعم ، أما تقرأ ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ (٤) .

ثمّ بشّر سبحانه المهتدين وهدّد الضالين بقوله : ﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً﴾ وأصوب طريقا ، وبمن هو أضلّ سبيلا وأسوء منهجا ، فيجازي كلا بطريقته وسيرته ، ثمّ لمّا كان اختلاف الطينات ملازما لاختلاف الأرواح المتعلّقة بها ، حكى سبحانه سؤال الناس عن الروح بقوله : ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ﴾ جوهرة شريفة قدسية مخلوقة ﴿مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ وقدرته في عالم الملكوت ، لا مادّة لها ولا مدّة ، بل هي من الابداعيات الموجودة بصرف الإرادة المعبرة عنها بلفظ ( كن ) كسائر المجرّدات البسيطة ، ويعبّر عن عالمها بعالم الأمر والبقاء ، كما يعبّر عن عالم الماديات والأجسام بعالم الخلق والفناء ، وعليه يكون الجواب بينا ومفصلا لا إبهام فيه.

في بيان الروح وتجرده

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن الروح ، فقال : « هي من قدرته من الملكوت » (٥) .

وعنه عليه‌السلام : « مثل روح المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق ، إذا أخرجت الجوهرة منه طرح الصندوق ولم يعبأ به » . وقال : « إنّ الأرواح لا تمازج البدن ولا تداخله ، إنّما هي كالكلل للبدن محيطة به » (٦) .

أقول : أي متعلّقة به تعلّق التدبير والتصرّف.

__________________

(١) الجبلة : الخلقة والطبيعة.

(٢) الكافي ٢ : ١٣ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٤.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٨٠ / ٢٦٠٠ ، الكافي ٢ : ٦٩ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٤.

(٤) تفسير العياشي ٣ : ٨٠ / ٢٥٩٩ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ١٥٧ / ٧٣١ ، التهذيب ٢ : ٢٢٢ / ٨٧٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٤.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ٤٢٨ / ٢٣٢٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٠٨.

(٦) بصائر الدرجات : ٤٨٣ / ١٣ ، تفسير الصافي ٣ : ١٠٨.

٨٢

[ في ( الاحتجاج ) عن الصادق عليه‌السلام : « الروح لا يوصف بثقل ولا خفّة ، وهي جسم رقيق ألبس قالبا كثيفا ] فهي بمنزلة الريح في الزّق (١) ، فاذا نفخت فيه امتلأ الزّقّ منها ، فلا يزيد في وزن الزّق ولوجها ، ولا ينقصه خروجها ، وكذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن » .

قيل : افيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق ؟ قال : « بل هو باق إلى يوم ينفخ في الصّور ، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى ، فلا حسّ ولا محسوس ، ثمّ اعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها ، وذلك أربعمائة سنة يسبت (٢) فيها الخلق ، وذلك بين النّفختين » .

وقال : « إنّ الروح مقيمة في مكانها ؛ روح المؤمن (٣) في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا » (٤) .

وعن كميل بن زياد ، قال : سألت مولانا أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، اريد أن تعرّفني نفسي. قال : « يا كميل ، وأيّ الأنفس تريد أن اعرّفك ؟ » قلت : يا مولاي ، هل هي إلّا نفس واحدة ؟ قال : « يا كميل ، إنّما هي أربعة : النامية النباتية ، والحسية الحيوانية ، والناطقة القدسية ، والكلية الالهية - إلى أن قال : - والناطقة القدسية لها خمس قوى : فكر ، وذكر ، وعلم ، وحلم ، ونباهة ، وليس لها انبعاث ، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الفلكية ، ولها خاصيتان : النزاهة والحكمة.

والكلية الالهية لها خمس قوى : بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعزّ في ذلّ ، وفقر في غناء ، وصبر في بلاء ، ولها خاصيتان : الرضا ، والتسليم ، وهذه هي التي مبدؤها من الله ، وإليه تعود ، قال الله: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي(٥) وقال تعالى : ﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً(٦) والعقل [ في ] وسط الكلّ » (٧) .

وعن أحدهما عليهما‌السلام في هذه الآية ، سئل ما الروح ؟ قال : « التي في الدوابّ والناس » ؟ قيل : وما هي ؟ قال : « هي من الملكوت والقدرة » (٨)

وقيل : إنّ المراد أن الروح وحقيقته من الأسرار الخفية التي استأثر الله بعلمه لا يكاد يحوم حولها عقول البشر (٩) .

﴿وَما أُوتِيتُمْ﴾ أيها الناس ﴿مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ في جنب علم الله ، وإن كان كثيرا بالنسبة إليكم ،

__________________

(١) الزّقّ : وعاء من جلد يجزّ شعره ولا ينتف.

(٢) سبت : نام واستراح وسكن.

(٣) في المصدر : المحسن.

(٤) الاحتجاج : ٣٥٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٠٩.

(٥) الحجر : ١٥ / ٢٩.

(٦) الفجر : ٨٩ / ٢٧ و٢٨.

(٧) بحار الأنوار ٦١ : ٨٥ ، تفسير الصافي ٣ : ١١١.

(٨) تفسير العياشي ٣ : ٨١ / ٢٦٠٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٤ ، وفيهما : من القدرة.

(٩) تفسير أبي السعود ٥ : ١٩٢.

٨٣

فانّ كثيرا من الامور لا يمكنكم العلم بحقيقته وحدوده ، ومنها الروح ، فانّه لا يعرف إلّا بآثاره وعوارضه الخاصة به.

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قال ذلك قالوا : نحن مختصّون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه ؟ فقال: « بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلّا قليلا » فقالوا : ما أعجب شأنك ، ساعة تقول : ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً(١) وساعة تقول : هذا ؟ ! فنزلت ﴿وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ﴾ الآية » (٢) .

القمي ، قال : إنّ اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الروح ، فقال : ﴿الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ قالوا : نحن خاصة ؟ قال : بل النّاس [ عامّة ] قالوا : فكيف يجتمع هذان يا محمّد ؛ تزعم أنّك لم تؤت [ من ] العلم إلّا قليلا ، وقد اوتيت القرآن ، وأوتينا التوراة ، وقد قرأت ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ فأنزل الله : ﴿وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ﴾ إلى آخره (٣) .

يقول : علم الله أكبر من ذلك ، وما أوتيتم كثير فيكم قليل عند الله (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « تفسيرها في الباطن أنه لم يؤت العلم إلا اناس يسير فقال : ﴿وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ منكم » .

وعن الصادق عليه‌السلام - في حديث - « ووصف الذين لم يؤتوا من الله فوائد العلم ، فوصفوا ربّهم بأدنى الأمثال ، وشبّهوه بالمتشابه منهم فيما جهلوا به ، فلذلك قال : ﴿وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ فليس له شبه ولا مثل ولا عدل » (٥) .

وقيل : إنّ نظر السائلين إلى السؤال عن حقيقة الروح وقدمه وحدوثه ، فأجاب عن كليهما بكون الروح خالية عن العلوم ، ثمّ تحدث فيها العلوم قليلا قليلا ، فلا تزال في التغيير من حال إلى حال ، ومن النقص إلى الكمال ، وهو آية الحدوث (٦) .

وقيل : إن المراد بالروح هنا هو القرآن ، حيث إنه تعالى سمّاه في آيات عديدة روحا ، لأنّ به تحصل حياة القلوب ، وهو المناسب لما قبل الآية من قوله : ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ(٧) الآية ، ولما بعده من قوله : ﴿وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَ(٨) الآية ، وقوله : ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ(٩) الآية ، فيكون المراد أنّ القرآن هل هو سحر أو كهانة أو شعر أو نازل من الله ؟ (١٠)

__________________

(١) البقرة : ٢ / ٢٦٩.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ٥٣ ، والآية من سورة لقمان : ٣١ / ٢٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٦٦ ، تفسير الصافي ٤ : ١٥٠.

(٤) تفسير العياشي ٣ : ٨٢ / ٢٦٠٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٥.

(٥) التوحيد : ٣٢٤ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٥.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ٣٨.

(٧) الإسراء : ١٧ / ٨٢.

(٨) الإسراء : ١٧ / ٨٦.

(٩) الإسراء : ١٧ / ٨٨.

(١٠) تفسير الرازي ٢١ : ٣٨.

٨٤

في وصف الملك المسمى بالروح

وقيل : إنّ المراد به جبرئيل (١) ، وقيل : إنّ المراد به الملك الذي هو أعظم من سائر الملائكة قدرا وقوة (٢) .

وروى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : « هو ملك له سبعون ألف وجه ، لكل وجه سبعون ألف لسان ، لكل لسان سبعون ألف لغة ، يسبّح الله بتلك اللغات كلّها ، ويخلق الله من كلّ تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة » .

قال (٣) : ولم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش ، ولو شاء أن يبتلع السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهنّ بلقمة واحدة لفعل (٤) .

ثمّ اعترض الناصب عليه بوجوه لا يليق بالمؤمن العاقل نقلها والجواب عنها.

القمي عن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « خلق (٥) أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مع الأئمة ، وهو من الملكوت » (٦) .

وعنه عليه‌السلام أيضا أنّه سئل عنه فقال : « خلق عظيم ، أعظم من جبرئيل وميكائيل ، لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد و[ هو ] مع الأئمة يسدّدهم ، وليس كلّما طلب وجد » (٧) .

وعنهما عليهما‌السلام : « إنّما الروح خلق من خلقه ، له بصر وقوة وتأييد يجعله في قلوب المؤمنين والرّسل » (٨) .

أقول : يحتمل أن يكون المراد بذلك الملك النفس الكلية التي تتحرّك بها المتحرّكات من الأفلاك والملائكة والكواكب والحيوانات ، والمراد من رؤوسها الموجودات التي تعلّق بها ، ومن تكلّمه باللغات الكثيرة ، نطق تلك الموجودات بالتسبيح وغيره ، ومن كونها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام قوة ظهورها فيهم بحيث لم يكن في غيرهم هذا الظهور والآثار.

﴿وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً * إِلاَّ

رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٦) و (٨٧)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه قلّه علم الناس بالنسبة إلى علمه ، نبّه على أنّ هذا القليل بفضل منه تعالى وإنعامه

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٣٩.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ٣٩.

(٣) في المصدر : قالوا.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ٣٩.

(٥) في المصدر : ملك.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٢٦ ، الكافي ١ : ٢١٥ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٤.

(٧) تفسير العياشي ٣ : ٨١ / ٢٦٠٣ ، الكافي ١ : ٢١٥ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٤.

(٨) تفسير العياشي ٣ : ٨١ / ٢٦٠٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٤.

٨٥

بتوسط إنزاله القرآن ، ولو شاء لسلبه عنهم بقوله : ﴿وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ﴾ من القرآن العظيم الذي فيه تبيان كلّ شيء ونمحوه من صدورهم وصحفهم بحيث لا يبقى منه في العالم أثر ﴿ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ﴾ بعد ذهاب القرآن ﴿بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً﴾ ووليا يردّه إليك ويعيده في الصدور والدفاتر ﴿إِلَّا رَحْمَةً﴾ كائنة ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ فانّها هي التي تردّه إليك ، كما أنّها هي التي أبقته في حفظك وحفظ غيرك ﴿إِنَّ فَضْلَهُ﴾ وإحسانه ﴿كانَ عَلَيْكَ﴾ من بدو خلقك في العوالم إلى الآن ﴿كَبِيراً﴾ وعظيما حيث ختم بك الرسل ، وأتاك بالقرآن ، وأعطاك أفضل الأوصياء في الدنيا ، والمقام المحمود في الآخرة.

﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ

 بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)

ثمّ لمّا بيّن تفضّله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإنزاله القرآن عليه ، أمره بالتحدّي به بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد للذين يقولون إنّه كلام البشرك والله : ﴿لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ﴾ واتّفقوا ﴿عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ﴾ في الفصاحة والبلاغة ، وجزالة المعنى ، وبداعة الاسلوب وكثرة العلوم ﴿لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ ولا يقدرون على ترتيب مشابه ﴿وَلَوْ﴾ فرض أنه ﴿كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ﴾ آخر منهم ﴿ظَهِيراً﴾ ومعاضدا ومعاونا في الاتيان بمثله مع أنّ فيهم الفصحاء ومهرة البيان والخطباء والشعراء.

عن ( العيون ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « أنّ الله تعالى نزّل هذا القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب » ثمّ قال : ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ﴾ الآية » (١) .

وروي أن ابن أبي العوجاء وثلاثة نفر من الدهرية (٢) اتفّقوا على أن يعارض كلّ واحد منهم ربع القرآن ، وكانوا بمكة ، وعاهدوا على أن يجيئوا بمعارضته في العام القابل ، فلمّا حال الحول واجتمعوا في مقام إبراهيم ، قال أحدهم : إني لمّا رأيت قوله : ﴿يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي(٣) الآية ، كففت عن المعارضة. وقال الآخر : وكذا أنا لمّا وجدت قوله ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا(٤) أيست عن المعارضة. وكانوا يسرّون ذلك ، إذ مرّ عليهم الصادق عليه‌السلام وقرأ عليهم ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ﴾ الآية ، فبهتوا (٥) .

إن قيل : إنّه ظهر عجز الإنس عن الاتيان بمثله ، فمن أين يعلم عجز الجنّ عنه مع احتمال أن يكون

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣٠ / ٢٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٦.

(٢) الدّهرية : قوم يقولون : لا ربّ ولا جنّة ولا نار ، ويقولون : ما يهلكنا إلّا الدهر.

(٣) هود : ١١ / ٤٤.

(٤) يوسف : ١٢ / ٨٠.

(٥) الخرائج والجرائح ٢ : ٧١٠ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٦.

٨٦

القرآن من كلام الجنّ ونظمهم ، وإنّما ألقوه إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لإضلال الناس ، وإن قلنا : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر بعجزهم يلزم الدور.

قلنا : إنّ قاعدة اللّطف مقتضية لاظهار معارضه بنحو من الانحاء ، فلمّا لم يظهر علمنا أنّهم أيضا عاجزون عن إتيان مثله وأنّه من الله تعالى.

﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ

 كُفُوراً (٨٩)

ثمّ وصف سبحانه القرآن بجامعية العلوم بقوله : ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا﴾ وكرّرنا ﴿لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِ﴾ نحو من أنحاء التحدّي ، وبرهان من براهين المبدأ والمعاد وصحّة النبوة وردّ شبهات المشركين فيها ، وكلّ صنف من أصناف العلوم والأحكام والوعد والوعيد ، وأحوال الأنبياء ، وكيفية دعواهم وبيان معاجزهم ، ومعارضة اممهم وإصرارهم على التمرّد والعناد ، وابتلائهم بالعذاب ، وذكر الوعظ والنّصح وغيرها ممّا يحتاج إليه الناس ببيان يكون بمنزلة ﴿مَثَلٍ﴾ في الغرابة والوقع في النفس ﴿فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ﴾ من مشركي مكة ﴿إِلَّا كُفُوراً﴾ وجحودا للحقّ وإنكارا للنعمة العظيمة من القرآن ورسالة الرسول.

عن الباقر عليه‌السلام : « نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا : ﴿فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ﴾ - بولاية علي - ﴿إِلَّا كُفُوراً (١) .

﴿وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ

 نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ

 عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ

 تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ

 رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٠) و (٩٣)

ثمّ بيّن الله سبحانه كفران المشركين نعمة القرآن بعدم اكتفائهم به في الاعجاز والتماسهم المعجزات الاخر تعنّتا ولجاجا بقوله : ﴿وَقالُوا﴾ يا محمّد ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ ولا نعترف بنبوتك أبدا ﴿حَتَّى تَفْجُرَ﴾ وتخرج ﴿لَنا مِنَ﴾ هذه ﴿الْأَرْضِ﴾ التي نسكنها ﴿يَنْبُوعاً﴾ وعينا كثيرة الماء ﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ﴾ وبستان كثير الأشجار ، وكانت أشجارها ﴿مِنْ﴾ جنس ﴿نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٨٢ / ٢٦٠٨ ، الكافي ١ : ٣٥١ / ٦٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٦.

٨٧

وتجري ﴿الْأَنْهارَ﴾ العديدة ( خلالها ) وفيما بين أشجارها ( تفجيرا ) وإجراء كثيرا ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ﴾ ومثلما توهّمت أنك نبيّ ذو معجزة ، أو أن الله يفعل ما يشاء ﴿عَلَيْنا كِسَفاً﴾ وقطعا ، أو كما قلت ، أو يسقط عليهم كسفا من السماء فيقولون : سحاب مركوم ﴿أَوْ تَأْتِيَ﴾ إلينا ﴿بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً﴾ ومقابلا لنا بحيث نراهم ، أو فوجا كما عن ابن عباس (١) ، أو ضامنا أو كفيلا ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ﴾ وذهب تسكن فيه وتخلص من الفقراء ﴿أَوْ تَرْقى﴾ وتصعد ﴿فِي﴾ معارج ﴿السَّماءِ﴾ ومدارجها ونحن ننظر إليك ﴿وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ﴾ ولا نصدّق نبوتك أبدا لأجل عروجك في السماء ﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا﴾ من السماء ﴿كِتاباً﴾ فيه تصديق نبوتك ونحن ﴿نَقْرَؤُهُ﴾ كي لا يبقى لنا فيه شبهة السحر.

﴿قُلْ﴾ يا محمد ، لهؤلاء المقترحين تعجبا من اقتراحهم ، أو تنزيها لساحة الربوبية من أن يكون محكوما بحكمهم ، أو من ما لا يفيد في إيمانهم : ﴿سُبْحانَ رَبِّي﴾ وتنزّه عمّا لا ينبغي له من إجابتكم فيما تسألونه تعنّتا ولجاجا ، وإن تسألوني أن أفعل تلك الامور بقوّة نفسي وقدرتي ، فأخبروني ﴿هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً﴾ عاجزا مثلكم ؟ وإنّما أكون ﴿رَسُولاً﴾ والرسول ليس فاعلا لما يشاء ، ولا حاكما على الله ، وإنّما عليه أن يأتي معجزة كافية في إثبات نبوته ، وقد أتيتكم فوق ما فيه الكفاية.

عن ابن عباس : أنّ عتبة وشيبة وأبا سفيان والنّضر بن الحارث وأبا البختري والوليد بن المغيرة وأبا جهل وعبد الله بن أبي امية [ وامية ] بن خلف ورؤساء قريش ، اجتمعوا عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمّد فكلّموه وخاصموه حتّى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك اجتمعوا لك ليكلّموك ، فجاءهم سريعا وهو يظنّ أنّه بدا لهم في أمره بداء ، وكان عليهم حريصا يحبّ رشدهم ويعزّ عليه عتبهم ، حتّى جلس إليهم فقالوا : يا محمّد ، إنا لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وسفّهت الأحلام ، وشتمت الآلهة ، وفرّقت الجماعة ، وما بقي أمر قبيح إلّا وقد جئته فيما بيننا وبينك ، فإن كنت إنّما جئت بهذا تطلب به مالا جعلنا لك من الأموال ما تكون به أكثرنا مالا ، وإن كنت إنّما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا ، وإن [ كنت ] تريد ملكا ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الرّئيّ (٢) الذي يأتيك قد غلب عليك - وكانوا يسمّون التابع من الجنّ الرأي - بذلنا أموالنا في طلب الطبّ لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ، ولا للشرف فيكم ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٥٧.

(٢) الرّئيّ : الجنّي يعرض للانسان ويطلعه على ما يزعم من الغيب. ويقال : به رئيّ من الجنّ : أي مسّ.

٨٨

ولا للملك عليكم ، ولكنّ الله بعثني إليكم رسولا ، وأنزل عليّ كتابا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلّغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، فان تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم » .

قالوا : يا محمّد ، فان كنت غير قابل منّا ما عرضناه ، فقد علمت أنه ليس من النّاس أحد أضيق بلادا ولا أقلّ مالا ولا أشدّ عيشا منّا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك ، فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت [ علينا ] ، أو يبسط [ لنا ] بلادنا ، وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب ، فإنّه كان شيخا صدوقا ، فنسألهم عمّا تقول أحقّ هو أم باطل ، فإن فعلت ما سألناك صدّقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنّه بعثك رسولا كما تقول.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « ما بهذا بعثت ، وإنّما جئتكم من عند الله بما بعثني به ، فقد بلّغتكم ما ارسلت به ، فإن تقبلوه فهو حظّكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه أصبر لأمر الله » .

قالوا : فإن لم تفعل هذا ، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدّقك ، وسله أن يجعل لك جنّات وكنوزا وقصورا من ذهب وفضّة ، ويغنيك بها عمّن سواك ، فانك تقوم في الأسواق ، وتلتمس المعاش.

فقال : « ما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا » .

قالوا : سله أن يسقط علينا السماء ، كما زعمت إنّ ربك إن شاء فعل. فقال عليه‌السلام : « ذلك إلى الله ، إن شاء فعل » وقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.

وقام عبد الله بن أبي امية بن المغيرة المخزومي ، [ وهو ] ابن عاتكة بنت عبد المطلب ، ابن عمّة النبي ، ثمّ أسلم بعد وحسن إسلامه ، فقال : لا اؤمن بك أبدا حتى تتّخذ إلى السماء سلّما وترقى فيه ، وأنا أنظر حتى تأتينا وتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنّك كما تقول.

فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أهله حزينا لما فاته من متابعة قومه ، ولما رأى من مباعدتهم عنه ، فأنزل الله الآيات (١) .

وعن تفسير الإمام عليه‌السلام ، عن أبيه : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة ، إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش ، منهم : الوليد بن المغيرة المخزومي ، وأبو البختري بن هشام ، وأبو جهل بن هشام ، والعاص بن وائل السّهمي ، وعبد الله بن أبي امية المخزومي ، وكان معهم جمع ممّن يليهم كثير ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله ، ويؤدّي إليهم من الله أمره

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٠٢ ، أسباب النزول للواحدي : ١٦٦.

٨٩

ونهيه. فقال المشركون بعضهم لبعض : لقد استفحل أمر محمّد ، وعظم خطبه ، فتعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه ، والاحتجاج عليه ، وإبطال ما جاء به ، ليهون خطبه على أصحابه ، ويصغر قدره عندهم ، ولعله ينزع عمّا هو فيه من غيّه وباطله وتمرّده وطغيانه ، فإن انتهى وإلّا عاملناه بالسيف الباتر.

قال أبو جهل : فمن الذي يلي كلامه ومجادلته ؟ قال عبد الله بن أبي امية : أنا إلى ذلك ، أفما ترضاني له قرنا حسيبا ومجادلا كفيا ؟ قال أبو جهل : بلى. فأتوه بأجمعهم ، فابتدأ عبد الله بالكلام ، فقال : يا محمّد ، لقد ادّعيت دعوى عظيمة ، وقلت مقالا هائلا ، زعمت أنّك رسول رب العالمين ، وما ينبغي لربّ العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسولا [ له ] ، وأنت بشر مثلنا تأكل كما نأكل وتمشي في الأسواق كما نمشي ، فهذا ملك الرّوم ، وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا إلّا كثير المال عظيم الخطر (١) له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدّام ، وربّ العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده ، ولو كنت نبيا لكان معك ملك يصدّقك ونشاهده ، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا ، لكان يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا ، ما أنت يا محمّد إلّا مسحور ولست بنبي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل بقي [ من كلامك ] شيء ؟ فقال : بلى ، لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجلّ من [ فيما ] بيننا مالا وأحسنه حالا ، فهلّا نزل القرآن الذي تزعم أنّ الله أنزله عليك وبعثك به رسولا على رجل من القريتين عظيم ؛ إمّا الوليد بن المغيرة بمكة ، وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف ؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل بقي من كلامك شيء ؟ فقال : بلى ، لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعا بمكة هذه ، فإنّها ذات حجارة وعرة وجبال ، تكسح أرضها وتحفرها وتجري فيها العيون ، فإننا إلى ذلك محتاجون ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتأكل منهما وتطعمنا ، فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، فانّك قلت لنا : ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ(٢) فلعلنا نقول ذلك ، وقال : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ، تأتي به وبهم وهم لنا مقابلون ، أو يكون لك بيت من زخرف تعطينا منه وتغنينا به ، فلعلنا نطغى ، فأنّك قلت لنا : ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى(٣) .

ثمّ قال : أو ترقى في السماء ، أي تصعد في السماء ، ولن نؤمن لرقيك ، أي لصعودك ، حتى تنزل علينا كتابا نقرأه فيه : من الله العزيز الحكيم إلى عبد الله بن أبي امية المخزومي ومن معه ، أن آمنوا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فانه رسولي وصدّقوه في مقاله فانه من عندي ، ثمّ لا أدري يا

__________________

(١) في المصدر : عظيم الحال.

(٢) الطور : ٥٢ / ٤٤.

(٣) العلق : ٩٦ / ٦ و٧.

٩٠

محمّد إذا فعلت هذا كلّه أؤمن بك أم لا أؤمن بك ، ولو رفعتنا إلى السماء وفتحت أبوابها وأدخلتناها لقلنا : إنّما سكّرت أبصارنا وسحرتنا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أبقي شيء من كلامك يا عبد الله ؟ قال : أو ليس فيما أوردته عليك كفاية وبلاغ ؟ ! ما بقي شيء ، فقل ما بدا لك ، وأفصح عن نفسك إن كانت لك حجّة ، وآتنا بما سألناك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهمّ أنت السامع لكلّ صوت ، والعالم بكلّ شيء ، تعلم ما قاله عبادك ، فأنزل عليه ﴿وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ﴾ الآية إلى قوله : ﴿قُصُوراً(١) ، وانزل عليه ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ(٢) الآية ، وأنزل عليه ﴿وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً(٣) الآية.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما ما ذكرت من أنّي آكل الطعام ، إلى أن قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأما قولك لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، إلى آخر ما قلت ، فانّك اقترحت على محمّد رسول ربّ العالمين أشياء منها ما لو جاءك به لم يكن برهانا على نبوته ، ورسول الله يرتفع من أن يغتنم جهل الجاهلين ويحتجّ عليهم بما لا حجة فيه.

ومنها ما لو جاءك به لكان فيه هلاكك ، وإنّما يؤتى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الايمان لا بما يهلكون به ، وإنّما اقترحت هلاكك ، وربّ العالمين أرحم بعباده وأعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما يقترحون.

ومنها المحال الذي لا يصحّ ولا يجوز كونه ، ورسول الله يعرّفك ذلك ، ويقطع معاذيرك ، ويضيّق عليك سبيل مخالفته ، ويلجئك بحجج الله إلى تصديقه حتى لا يكون لك عنه محيد ولا محيص.

ومنها ما قد اعترفت على نفسك أنّك فيه معاند متمرد ، لا تقبل حجة ، ولا تصغي إلى برهان ، ومن كان كذلك فداؤه عذاب النار النازل من سمائه أو في جحيمه ، أو سيوف أوليائه.

وأمّا قولك يا عبد الله لن نؤمن لك حتى تفجر [ لنا ] من الأرض ينبوعا بمكة هذه ، فانّها ذات أحجار وصخور وجبال تكسح أرضها وتحفرها وتجري فيها العيون ، فانّنا إلى ذلك محتاجون ، فانّك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله. يا عبد الله ، أ رأيت لو فعلت كنت من أجل ذلك نبيا ، أ رأيت الطائف التي [ لك ] فيها بساتين ، أما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها وذلّلتها وكسحتها وأجريت فيها عيونا استنبطتها ؟ قال : بلى. قال : وهل لك في هذا نظراء ؟ قال : بلى ، قال : أفصرت بذلك أنت وهم أنبياء ! قال : لا. قال : فكذلك لا يصير هذا حجة لمحمّد لو فعله على نبوته ، فما هو إلّا كقولك لن نؤمن لك

__________________

(١) الفرقان : ٢٥ / ٧ - ١٠.

(٢) هود : ١١ / ١٢.

(٣) الأنعام : ٦ / ٨.

٩١

حتى تقوم وتمشي على الأرض ، أو حتى تأكل الطعام كما ياكل الناس.

وأما قولك يا عبد الله : أو تكون لك جنّة من نخيل وعنب فتأكل منها وتطعمنا ، فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو ليس لك ولأصحابك جنان من نخيل وعنب بالطائف تأكلون وتطعمون منها ، وتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا ، أفصرتم بهذا أنبياء ؟ قال : لا. قال : فما بال اقتراحكم على رسول الله أشياء لو كانت كما تقترحون لما دلّت على صدقه ، بل لو تعاطاها لدلّ تعاطيه على كذبه ؛ لأنّه حينئذ يحتجّ بما لا حجّة فيه ، ويخدع الضعفاء عن عقولهم وأديانهم ، ورسول ربّ العالمين يجلّ ويرتفع عن هذا.

ثمّ قال عليه‌السلام : يا عبد الله ، وأمّا قولك : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، فانّك قلت : ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ﴾ فإنّ في سقوط السماء عليكم هلاككم وموتكم ، وإنما تريد بهذا أن تهلك ، ورسول رب العالمين أرحم بك من ذلك ولا يهلكك ، ولكنّه يقيم عليك حجج الله ، وليس حجج الله لنبيه على حسب اقتراح عباده ؛ لأنّ العباد جهّال بما يجوز من الصلاح وبما لا يجوز منه من الفساد (١) ، وقد يختلف اقتراحهم ويتضادّ حتى يستحيل وقوعه ، فإنّه لو كان إلى اقتراحاتهم [ واقعة ] لجاز أن تقترح أنت أن تسقط السماء عليكم ، ويقترح غيرك أن لا تسقط السماء عليكم ، بل أن ترتفع الأرض إلى السماء وتقع [ السماء ] عليها ، وكان ذلك تضادّ وتنافي ويستحيل وقوعه ، والله لا يجري تدبيره على ما يلزمه المحال.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وهل رأيت يا عبد الله طبيبا كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحاتهم ، وإنّما يفعل به ما يعلم صلاحه فيه أحبّه العليل أو كرهه ، فأنتم المرضى والله طبيبكم ، فان انقدتم لدوائه شفاكم ، وإن تمردّتم عليه أسقمكم ، وبعد فمتى رأيت يا عبد الله مدّعي حقّ من قبل رجل أوجب عليه حاكم من حكّامهم فيما مضى بيّنة [ على ] دعواه على حسب اقتراح المدّعى [ عليه ] إذن ما كان يثبت لأحد على أحد دعوى ولا حقّ ، ولا كان بين ظالم ومظلوم ، ولا صادق ولا كاذب فرق.

ثمّ قال : يا عبد الله ، وأمّا قولك : أو تأت بالله والملائكة قبيلا يقابلوننا ونعاينهم. فانّ هذا من المحال الذي لا خفاء به ، إنّ ربي عزوجل ليس كالمخلوقين يجيئ ويذهب ويتحرّك ويقابل شيئا حتى يؤتى به ، فقد سألتم بهذا المحال ، وإنّما هذا الذي دعوت إليه صفة أصنامكم الضعيفة المنقوصة التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تعلم ولا تغني عنك شيئا ولا عن أحد.

يا عبد الله ، أو ليس لك جنان وضياع بالطائف وعقار بمكة وقوّام عليها ؟ قال : بلى. قال : أفتشاهد جميع أحوالها بنفسك أو بسفراء بينك وبين معامليك ؟ قال : بسفراء ، قال : أ رأيت لو قال معاملوك

__________________

(١) في المصدر : وبالفساد.

٩٢

وأكرتك وخدمك لسفرائك : لا نصدّقكم في هذه السفارة إلّا أن تأتونا بعبد الله بن أبي امية لنشاهده ونسمع ما تقولون عنه شفاها ، أكنت تسوّغهم هذا ، أو كان يجوز لهم عندك ذلك ؟ قال : لا. قال : فما الذي يجب على سفرائك ؛ أليس عليهم أن يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلّهم على صدقهم ؟ قال: بلى. قال : يا عبد الله ، أرايت سفيرك لو أنّه لمّا سمع منهم هذا ، عاد إليك فقال : قم معي ، فإنّهم قد اقترحوا عليّ مجيئك ، أليس يكون هذا لك مخالفا ، وتقول لهم : إنّما أنت رسول لا مشير ولا آمر ؟ قال: بلى.

قال : فكيف صرت تقترح على رسول ربّ العالمين ما لا تسوّغ لأكرتك ومعامليك أن يقترحوه على رسولك إليهم ، فكيف أردت من رسول ربّ العالمين أن يستذمّ (١) إلى ربّه بأن يأمر عليه وينهى ، وأنت لا تسوّغ مثل ذلك لرسول لك إلى أكرتك وقوّامك ؟ ! هذه حجّة قاطعة لابطال جميع ما ذكرت في كلّ ما اقترحته [ يا عبد الله ] .

وأمّا قولك يا عبد الله : أو يكون لك بيت من زخرف - وهو الذّهب - أما بلغك أن لعزيز مصر بيوتا من زخرف ؟ قال : بلى. قال : أفصار بذلك نبيا ؟ قال : لا. قال : فكذلك لا يوجب لمحمّد لو كان له نبوة ، ومحمّد لا يغتنم جهلك بحجج الله.

وأمّا قولك : يا عبد الله ، أو ترقى في السماء ، ثمّ قلت : ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه [ يا عبد الله الصعود إلى السماء أصعب من النزول عنها ، وإذا اعترفت على نفسك بأنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول.

ثمّ قلت : « حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ] ، ومن بعد ذلك لا أدري اؤمن بك أو لا أؤمن بك. فأنت يا عبد الله مقر بأنّك تعاند بعد حجّة الله عليك ، فلا دواء لك إلّا تأديبه على يد أوليائه من البشر أو ملائكته الزبانية ، وقد أنزل الله عليّ كلمة (٢) جامعة لبطلان كلّ ما اقترحته.

فقال الله تعالى : قل يا محمّد ﴿سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً﴾ ما أبعد ربّي من أن يفعل الأشياء على قدر ما يقترحه الجهّال بما يجوز وبما لا يجوز ! وهل كنت إلّا بشرا رسولا ، لا يلزمني إلّا إقامة حجّة الله التي أعطاني ، وليس لي أن آمر على ربّي ولا أنهى ولا اشير ، فأكون كالرسول الذي بعثه ملك إلى قوم من مخالفيه ، فرجع إليه يأمره أن يفعل بهم ما أقترحوه عليه » (٣) .

أقول : لا شبهة في أنّ عبارة عبد الله من مقترحاته لم تكن عبارة الآيات ؛ لأنّه لو كانت عين عبارات

__________________

(١) استذمّ إليه : فعل ما يذّمه عليه.

(٢) في المصدر : حكمة.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٠١ / ٣١٤ ، الاحتجاج : ٢٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٧.

٩٣

الآيات لزم أنهم أتوا بمثل بعض القرآن ، بل إنّما عبّر الامام عن مطالبهم بعبارات القرآن ، والقول بأنّ العبارات قليلة ، والقليل لا ينافي التحدّي ، ضعيف غايته.

﴿وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً

 * قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ

 مَلَكاً رَسُولاً * قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٤) و (٩٦)

ثمّ لمّا حكى سبحانه اقتراحات البشر على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكى بعض شبهاتهم في نبوته بقوله : ﴿وَما مَنَعَ النَّاسَ﴾ من ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا﴾ بالحقّ ﴿إِذْ جاءَهُمُ﴾ سبب ﴿الْهُدى﴾ والرّشاد إليه من النبي والكتاب ، أو ما منعهم من الايمان بالرسول بعد ظهور دلائل صدقه ووفور معجزاته مانع ﴿إِلَّا أَنْ قالُوا﴾ تعجّبا وإنكارا : ﴿أَ بَعَثَ اللهُ بَشَراً﴾ فينا ﴿رَسُولاً﴾ إلينا مع قدرته على بعث الملك ، وكونه أقرب قبولا ؟

﴿قُلْ﴾ يا محمّد في جوابهم : لمّا كنتم بشرا لا تقدرون على رؤية الملك على صورته ، ولا تستأنسون به ، وجب على الله بمقتضى حكمته البالغة أن يبعث الرسول إليكم من البشر حتى يمكنكم مجالسته والاستفادة منه و﴿لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ﴾ مكان البشر ﴿مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ﴾ على أقدامهم ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء ، فيسمعوا من أهلها ويتعلّموا منهم ما يجب عليهم علمه ، وكانوا ﴿مُطْمَئِنِّينَ﴾ ومستقرّين فيها ﴿لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً﴾ ليكون ﴿رَسُولاً﴾ منّا إليهم يبلّغهم المعارف والأحكام ، ويهديهم إلى وظائف العبودية.

و﴿قُلْ﴾ لهم : إن تريدوا الشاهد والدليل على صدق دعواي ﴿كَفى بِاللهِ شَهِيداً﴾ ومصدّقا لدعواي ﴿بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ حيث أظهر المعجزات القاهرات الدالة على صدقي ، بحيث لم يبق لأحد مجال الشكّ فيه ﴿إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ﴾ ظواهرهم وبواطنهم ﴿خَبِيراً بَصِيراً﴾ فيجازي من صدقني وأطاعني بقلبه ولسانه وظاهره وباطنه بأفضل الجزاء ، ويعاقب من أنكرني أشدّ العقاب.

﴿وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ

 يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ

 زِدْناهُمْ سَعِيراً * ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً

٩٤

وَرُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً  (٩٧) و (٩٨)

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ وفور الدلائل لا يوجب الايمان إلّا مع توفيقه بقوله : ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللهُ﴾ ويوفّقه لتبعية الرسول ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾ بالخصوص ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ﴾ الله بسلب التوفيق منه ويخذله ويكله إلى نفسه ﴿فَلَنْ تَجِدَ﴾ يا محمّد ﴿لَهُمْ﴾ في الدنيا ﴿أَوْلِياءَ﴾ وأحبّاء ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى يهدونهم إلى الحقّ.

في الحديث : « إنّما أنا رسول ، وليس إليّ من الهداية شيء ، ولو كانت الهداية إليّ لآمن كلّ من في الأرض ، وإنّما إبليس مزيّن وليس له من الضلالة شيء ، ولو كانت الضلالة إليه لأضلّ كلّ من في الأرض ، ولكن الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء » (١) .

ثمّ هدّد الضالين بقوله : ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ ماشين ﴿عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ بدلا من أقدامهم.

عن أبي هريرة : أنّ رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا نبي الله ، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ قال : « إنّ الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه » (٢) .

وعن أحدهما عليهما‌السلام : ﴿عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ قال : « على جباههم » (٣) حال كونهم ﴿عُمْياً﴾ مكفوفي الأبصار ﴿وَبُكْماً﴾ خرس الألسن ﴿وَصُمًّا﴾ مسدودي الآذان ، لأنّهم غضّوا أعينهم في الدنيا عن النظر في الآيات ، وتصامموا عن استماع الحقّ والنّصح ، وأبوا عن النّطق بما فيه رضا الله.

عن ابن عباس قال : لا يرون ما يسرّهم ، ولا ينطقون بما يقبل منهم ، ولا يستمعون ما يلذّ مسامعهم (٤) .

نقل أنّ رجلا قال لابن عباس : أ ليس أنّه تعالى يقول : ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ(٥) وقال : ﴿سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً(٦) وقال : ﴿دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً(٧) وقال : ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها(٨) وقال حكاية عن الكفار : ﴿وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ(٩) فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلّمون ، فكيف قال هاهنا : عميا وبكما وصما ؟

قال ابن عباس : عميا عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه ، بكما عن مخاطبه الله ومخاطبة الملائكة المقربين ، صمّا عن سماع ثناء الله تعالى على أوليائه (١٠) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٠٥.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ٦٠ ، مجمع البيان ٦ : ٦٨٢ ، عن أنس بن مالك.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٨٢ / ٢٦١٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٢٤.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٠٦.

(٥) الكهف : ١٨ / ٥٣.

(٦) الفرقان : ٢٥ / ١٢.

(٧) الفرقان : ٢٥ / ١٣.

(٨) النحل : ١٦ / ١١١.

(٩) الأنعام : ٦ / ٢٣.

(١٠) تفسير الرازي ٢١ : ٦١.

٩٥

وقال مقاتل : إنّه حين يقال لهم : ﴿اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ(١) يصيرون عميا وبكما وصمّا ، أمّا قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون (٢) .

وقيل : إنّهم راؤون سامعون ناطقون في الموقف ، فاذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار ، جعلهم الله عميا وبكما وصمّا (٣) .

ويمكن القول بأنهم حال حشرهم عمي وبكم وصمّ ، ثمّ عند ظهور أهوال القيامة من ظهور لهب النار وتغيّظ جهنم وزفيرها ، وعتاب الله لهم ، يصيرون رائين سامعين ناطقين.

ثمّ يكون ﴿مَأْواهُمْ﴾ ومنزلهم ﴿جَهَنَّمُ﴾ فيستقرّون فيها أبدا ﴿كُلَّما خَبَتْ﴾ وسكنت بسكون لهبها ، وهو حين أكلت جلودهم ولحومهم بحيث لم يبق ما تتعلق به النار ﴿زِدْناهُمْ سَعِيراً﴾ ولهيبا بتبديل جلودهم بجلود غيرها ﴿ذلِكَ﴾ العذاب ليس بسبب التشفّي بل ﴿جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا﴾ وبراهين توحيدنا ومعجزات نبينا ، ﴿وَ﴾ بأنهم ﴿قالُوا﴾ إنكارا للمعاد ﴿أَ إِذا﴾ متنا و﴿كُنَّا عِظاماً﴾ نخرة بالية ﴿وَرُفاتاً﴾ وأجزاء متفرّقة ﴿أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ من القبور إلى المحشر حال كوننا مخلوقين ﴿خَلْقاً جَدِيداً﴾ ومحيون حياة ثانية.

﴿أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ

 وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً * قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ

 خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (٩٩) و (١٠٠)

ثمّ لمّا كان منشأ استبعادهم المعاد الجهل بقدرة الله ، أنكر عليهم ترك التفكّر فيها بقوله : ﴿أَ وَلَمْ يَرَوْا﴾ قيل : إنّ التقدير ألم يتفكّروا ، ولم يعلموا (٤)﴿أَنَّ اللهَ﴾ القادر ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ مع غاية عظمهما ، وكون خلقهما أعجب من خلق الكفّار البتة ﴿قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ ويوجدهم ثانيا بصورتهم الاولى بعد صيرورتهم رمما ورفاتا ﴿وَ﴾ لكن ﴿جَعَلَ﴾ الله بحكمته البالغة لا عادته ﴿لَهُمْ﴾ وبعثه إياهم ﴿أَجَلاً﴾ معينا ووقتا محققا ﴿لا رَيْبَ﴾ للعقلاء ﴿فِيهِ﴾ أنّه آت ، وهو يوم القيامة.

وقيل : إنّ المراد بالأجل وقت الموت (٥)﴿فَأَبَى الظَّالِمُونَ﴾ وامتنع الكافرون عن الانقياد للحقّ ، ولم يرضوا لأنفسهم ﴿إِلَّا كُفُوراً﴾ ونفورا عنه وجحودا به.

__________________

(١) المؤمنون : ٢٣ / ١٠٨.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ٦١ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٠٦.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ٦١.

(٤) تفسير أبي السعود : ٥ : ١٩٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٠٦.

(٥) تفسير البيضاوي ١ : ٥٨٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٢٤.

٩٦

ثمّ لمّا سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تفجير العيون لهم وتكثير أموالهم ، ذمّهم سبحانه بأن كثرة الأموال لا تزيدهم إلّا بخلا بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، لهؤلاء المقترحين عليك المنكرين للمعاد : ﴿لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ﴾ على سبيل الفرض ﴿خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي﴾ ورزقه الذي يقسمه بين الموجودات ﴿إِذاً﴾ والله ﴿لَأَمْسَكْتُمْ﴾ عن بذل شيء منه وبخلتم ﴿خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ﴾ ومخافة النّفاد لطول أملكم ، وتوهّم بقائكم وخلودكم في الدنيا وغفلتكم عن الموت ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ﴾ لجهله بفنائه وتوهّم دوام حاجته ﴿قَتُوراً﴾ ومبالغا في البخل والضّنّة.

القمي في هذه الآية ، قال : لو كانت الامور (١) بيد الناس ، لما أعطوا شيئا مخافة الفناء (٢)﴿وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً﴾ أي بخيلا (٣) .

﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ

 فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً * قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ

 السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً * فَأَرادَ أَنْ

 يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي

 إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠١) و (١٠٤)

ثمّ لما سأل المشركون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معجزات عديدة اقتراحا وتعنّتا ، سلّى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالغ في ردّ المشركين ببيان عدم إيمان معاندي موسى مع رؤيتهم المعجزات العظيمة منه بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ ومعجزات قاهرات ﴿فَسْئَلْ﴾ يا محمّد في حضور المشركين ﴿بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ عن ذلك حتى يصدّقوك ، ويعلم المشركون صدق قولك بتصديقهم إياك ، وشهادتهم بصحة خبرك ﴿إِذْ﴾ من المعلوم أن موسى ﴿جاءَهُمْ﴾ بتلك الآيات وهم مطّلعون عليها.

وقيل : يعني سل مؤمني بني إسرائيل كعبد الله بن سلّام وأضرابه لتزداد [ يقينا وطمأنينة ، أو ليظهر صدقك ](٤) ، أو المراد فقلنا لموسى اسأل من فرعون أن يرسل معك بني إسرائيل (٥) ، أو المراد فأسأل يا محمّد من بني إسرائيل عمّا جرى بين موسى وفرعون.

قيل : إنها صيرورة العصا ثعبانا ، واليد البيضاء ، والطوفان ، والضّفادع ، والجراد ، والقمّل ، والدم ، والطّمس (٦) .

__________________

(١) في المصدر : الأموال.

(٢) في المصدر : النفاد.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٢٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٢٤.

(٤) أثبتناه من تفسير أبي السعود ٥ : ١٩٨.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٢٠٨.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ٦٤ ، تفسير البيضاوي ١ : ٥٨٣ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٩٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٠٨ ، وقد ذكر في المتن ثمان آيات.

٩٧

وعن الصادق عليه‌السلام : « هي : الجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، والطّوفان ، والبحر ، والحجر ، والعصا ويده » (١) .

وعن الكاظم عليه‌السلام وقد سأله يهودي عنها ، فقال : « العصا ، وإخراج يده من جيبه بيضاء والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، ورفع الطّور ، والمنّ والسّلوى آية واحدة [ وفلق البحر ] » (٢) .

روى الفخر الرازي عن صفوان بن عسال أنه قال : إنّ يهوديا قال لصاحبه : أذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات ، فذهبا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسألاه عنها ، فقال : « هنّ أن لا يشركوا بالله شيئا ، ولا يسرفوا ، ولا يزنوا ، ولا يقتلوا ، ولا يسحروا ، ولا يأكلوا الرّبا ، ولا يقذفوا المحصنة ، ولا يولّوا الفرار يوم الزحف ، وعليكم يا يهود أن لا تعدوا في السبت » . فقام اليهوديان فقبّلا يديه ورجليه ، وقالوا : نشهد أنّك نبي ، ولو لا نخاف القتل لاتبعناك ، الخبر (٣) .

فلم ينفع في إيمان المعاندين ، فانّه عليه‌السلام لما أظهرها ﴿فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ﴾ عنادا ولجاجا واستكبارا :

﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ﴾ واتخيّل ﴿يا مُوسى﴾ أنّك صرت ﴿مَسْحُوراً﴾ ومجنونا ، أو مختلّ العقل بسحر السّحرة ، ولذا تتكلّم بمثل هذه الكلمات.

وقيل : يعني أتوهّم أنك ذو السّحر (٤) ، وإنّما تفعل هذه الأفاعيل بالسّحر ﴿قالَ﴾ له موسى : والله ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ﴾ أنّه ﴿ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ﴾ الآيات التي أظهرتها ﴿إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ ومدبّرهما حال كونها ، أو لتكون للناس ﴿بَصائِرَ﴾ ودلائل واضحّة على صدقي فيما أقول ، وإنّما أنت معاند ومكابر ﴿وَإِنِّي﴾ والله ﴿لَأَظُنُّكَ﴾ وأعتقد أنّك ﴿يا فِرْعَوْنُ﴾ تصير ﴿مَثْبُوراً﴾ وهالكا ، أو تكون مصروفا من كلّ خير مطبوعا على الشرّ ، أو غير بصير وناقص العقل ﴿فَأَرادَ﴾ فرعون على حسب ظنّه الكاذب في حقّ موسى عليه‌السلام وأتباعه من بني إسرائيل ﴿أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ﴾ ويزعجهم ﴿مِنَ﴾ وجه ﴿الْأَرْضِ﴾ بالقتل ، أو يخرجهم من أرض مصر ، كما أرادت قريش أن يخرجوك من مكة ﴿فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ﴾ واتّبعه من القبط ﴿جَمِيعاً﴾ في البحر ، ونجّينا موسى عليه‌السلام ومن معه جميعا منه.

عن الباقر عليه‌السلام : « أراد فرعون أن يخرجهم من الأرض ، وقد علم فرعون وقومه ما أنزل تلك الآيات إلّا الله » (٥) .

﴿وَقُلْنا﴾ غب (٦) إغراق فرعون وقومه وإهلاكهم ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ بتوسّط موسى ﴿لِبَنِي إِسْرائِيلَ﴾ التابعين لموسى ﴿اسْكُنُوا الْأَرْضَ﴾ التي أراد أعداءكم أن يخرجوكم منها وتعيشوا فيها برفاه وسعة

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٩ ، الخصال : ٤٢٣ / ٢٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٢٥.

(٢) قرب الإسناد : ٣١٨ / ١٢٢٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٢٥.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ٦٤.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٠٨.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٢٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٢٦.

(٦) أي بعد.

٩٨

مدّة أعماركم في الدنيا ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾ ووقت قيام الساعة ﴿جِئْنا بِكُمْ﴾ في عرصة القيامة أنتم وأعداؤكم حال كونكم ﴿لَفِيفاً﴾ ومختلطا بعضكم ببعض ، ثمّ يمتاز المؤمن من الكافر ، فنحكم بينهم بما يستحقّون.

عن الباقر عليه‌السلام : ﴿ لَفِيفاً﴾ يقول ، جميعا » . وفي رواية « أي من كلّ ناحية » (١) .

﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَقُرْآناً فَرَقْناهُ

 لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٥) و (١٠٦)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر معجزات موسى عليه‌السلام وامتناع قومه من الايمان به ، بيّن عظم شأن القرآن الذي هو أعظم معجزات حبيبه بقوله : ﴿وَبِالْحَقِ﴾ ومعه ، أو بغرض إظهار الحقّ محضا ﴿أَنْزَلْناهُ﴾ عليك ﴿وَبِالْحَقِ﴾ ومعه ، أو على النبي الحقّ ﴿نَزَلَ﴾ من عندنا ، وإنّ اقترح الكفّار المعاندين عليك غيره وتمرّدوا من الايمان بك ، فليس عليك شيء ، فانّما بعثناك ﴿وَما أَرْسَلْناكَ﴾ إلى الناس ﴿إِلَّا﴾ لتكون ﴿مُبَشِّراً﴾ للمؤمنين بالثواب ﴿وَنَذِيراً﴾ للكافرين ، ومخوفا لهم من العقاب ﴿وَ﴾ أنزلنا ﴿قُرْآناً﴾ عظيم الشان ، وإنّما ﴿فَرَقْناهُ﴾ وجعلناه مميزا للحق عن الباطل ، أو أقساما من الخبر والأمر والنهي والوعد والوعيد والأمثال والعبر ، أو متفرّقا ومتدرّجا في النزول ﴿لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ﴾ ومهل وتأنّ حتى يكون أيسر للحفظ وأعون للفهم ﴿وَنَزَّلْناهُ﴾ عليك ﴿تَنْزِيلاً﴾ خاصا موافقا للحكمة ومناسبا للمقامات.

﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ

 لِلْأَذْقانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ

 لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٧) و (١٠٩)

ثمّ هدّد سبحانه المنكرين بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، للجاحدين للقرآن المقترحين عليك غيره من المعجزات : إنّ الله قد أتمّ عليكم بنزوله الحجّة إن شئتم ﴿آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا﴾ به لا يتفاوت في علوّ شأنه وعظم قدره وتمامية الحجّة به.

﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ والمعرفة بمعنى النبوة ودلائلها (٢) بقرائتهم الكتب السماوية ، وتمكّنوا من التمييز بين الحقّ والباطل ، والمعجز والسحر ، وبشّروا ببعثة محمّد ونزول القرآن ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ وهم

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٢٦.

(٢) في النسخة : ودلائله.

٩٩

الخصيصون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلّام وورقة بن نوفل وأضرابهما ﴿إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ﴾ هذا القرآن الذي تستهزئون به وتقولون إنّه كلام البشر وأساطير الأولين ﴿يَخِرُّونَ﴾ على الأرض ﴿لِلْأَذْقانِ﴾ ويسقطون على الوجوه حال كونهم ﴿سُجَّداً﴾ لله تشكّرا على إنجاز وعده وإتمام نعمته ﴿وَيَقُولُونَ﴾ في سجودهم : ﴿سُبْحانَ رَبِّنا﴾ وتنزّه إلهنا اللطيف بنا عن الخلف في الوعد ﴿إِنْ﴾ الشأن ﴿كانَ وَعْدُ رَبِّنا﴾ ببعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر الزمان ، وإنزال الكتاب الذي هو أفضل الكتب عليه ، أو وعده بالمعاد والحشر للحساب كما قيل ﴿لَمَفْعُولاً﴾ ومنجزا البتة وواقعا لا محالة ، لاستحالة الخلف منه (١) ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ﴾ عند استماع القرآن وهم ﴿يَبْكُونَ﴾ من خشية الله ومواعظه ، ﴿وَيَزِيدُهُمْ﴾ سماع القرآن ﴿خُشُوعاً﴾ وضراعة ، كما يزيدهم علما وعرفانا بالله ، ويقينا بصدق نبيه وجلالة كتابه ، فاذا كان حال العلماء عند استماع القرآن وتلاوته هذا ، فأيّ اعتناء بتكذيب هؤلاء السّفلة الحمقاء ؟

﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ

 بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه خضوع العلماء وتضرّعهم إليه ، بيّن كيفية الدعاء وتسميته بقوله : ﴿قُلِ﴾ يا محمّد ، لمن يدعو الله ﴿ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ﴾ لا تفاوت بين الاسمين ﴿أَيًّا﴾ من الاسمين ﴿ما تَدْعُوا﴾ وتقولوا في دعائكم كان حسنا مرضيا عند الله ، بل عليكم أن تخصّوه بهذين الاسمين ﴿فَلَهُ﴾ بالخصوص ﴿الْأَسْماءُ الْحُسْنى﴾ لأنّ له الصفات العليا.

روي أنّ اليهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك لتقلّ ذكر الرحمن ، وقد أكثره الله في التوراة ، فنزلت(٢) .

وقيل : إنها نزلت حين سمع المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « يا الله ، يا رحمن » فقالوا : إنّه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر (٣) .

ثمّ أنه تعالى بعد تعليم كيفية دعائه وتسميته ، بيّن كيفية قراءة القرآن بقوله : ﴿وَلا تَجْهَرْ﴾ ولا تعل بصوتك ﴿بِصَلاتِكَ﴾ وقراءتك فيها ﴿وَلا تُخافِتْ بِها﴾ بحيث لا تسمع نفسك ﴿وَابْتَغِ﴾ واطلب في كيفية القراءة ﴿بَيْنَ ذلِكَ﴾ المذكور من النحوين ﴿سَبِيلاً﴾ وطريقة.

عن ابن عبّاس ، في هذه الآية ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرفع صوته بالقرآن (٤) ، فاذا سمعه المشركون

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢١١.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢١٢.

(٣) تفسير الصافي ٣ : ٢٢٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢١٢.

(٤) في تفسير الرازي : بالقراءة.

١٠٠