نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كون عذابه حقيقا بأن يحذر منه ، بيّن ابتلاء الكفّار في الدنيا بشديد عذابه بقوله : ﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ من قرى المشركين ، وما من بلدة من بلادهم ﴿إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها﴾ بعذاب الاستئصال المفني لجميع أهلها ﴿قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً﴾ دون عذاب الاستئصال من قبل أكابرهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية ﴿كانَ ذلِكَ﴾ الحكم والدأب الالهي ﴿فِي الْكِتابِ﴾ المبين واللوح المحفوظ ﴿مَسْطُوراً﴾ ومكتوبا لا يتطرّق إليه التغيير.

وقيل : إنّ المراد به القرية (١) الصالحة والطالحة ، أما الصالحة فتهلك بالموت ، وأما الطالحة فبالعذاب (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « بالقتل أو الموت وغيره » (٣) .

وعنه عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : « هو الفناء بالموت » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « إنّما امّة محمد من الامم ، فمن مات فقد هلك » (٥) .

﴿وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ

 مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه ابتلاء بعض القرى بعذاب الاستئصال لتكذيبهم الرسل مع ظهور المعجزات القاهرة ، أظهر منّته على هذه الامّة بعدم تعذيبهم بقوله : ﴿وَما مَنَعَنا﴾ من ﴿أَنْ نُرْسِلَ﴾ وننزل ﴿بِالْآياتِ﴾ القاهرة والمعجزات المقترحة من المشركين شيئا ﴿إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا﴾ العتاة ﴿الْأَوَّلُونَ﴾ والكفّار السابقون ، كقوم عاد وثمود وأضرابهما ، فاستحقّوا لذلك عذاب الاستئصال ، فلو أرسلنا المعجزات التي اقترحها المشركون وكذّبوا بها ، لاستوجبوا عذاب الاستئصال كسابقيهم ، فمننّا على هذه الامة ببركة نبي الرحمة بأن لا نستأصلهم بالعذاب ، ألم يسمعوا أنّا أرسلنا صالحا بالنبوة ، واقترح قومه عليه وسألوه معجزة قاهرة فأجبناهم ﴿وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ﴾ بأن أخرجناها من الصخرة لتكون لهم معجزة ﴿مُبْصِرَةً﴾ وموجبة لليقين بصدق صالح وصحّة دينه بحيث لم يبق معها لأحد مجال الشكّ في كونها معجزة ، وفي صدق نبوة صالح ﴿فَظَلَمُوا﴾ الناقة بأن عقروها وكذّبوا ﴿بِهَا﴾ وعرّضوا

__________________

(١) في النسخة : المراد بالقرية.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٣.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٥٧ / ٢٥٣٦ ، وفيه : والموت أو غيره ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٨.

(٤) من لا يحضره الفقيه ١ : ١١٨ / ٥٦٢ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٨.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ٥٦ / ٢٥٣٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٨.

٦١

أنفسهم للهلاك ، وإنما ذكر سبحانه من الامم المهلكة خصوص ثمود لأنّهم كانوا من العرب مثلهم ، وكانوا عالمين بحالهم ومشاهدين آثار هلاكهم.

عن القمي ، عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله سأله قومه أن يأتيهم بآية ، فنزل جبرئيل وقال : إنّ الله يقول : ﴿وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾ وكنّا إذا أرسلنا إلى قرية آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم ، فلذلك أخّرنا عن قومك الآيات » (١) .

﴿وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ﴾ غير المقترحة من القرآن وسائر المعجزات ﴿إِلَّا﴾ لتكون ﴿تَخْوِيفاً﴾ وإنذارا لهم بعذاب الآخرة ، فإنّ أمر أمّتك التي بعثت إليهم مؤخّر إلى يوم القيامة كرامة لك.

عن سعيد بن جبير : أنّ القوم قالوا : يا محمّد ، إنّك تزعم أنّه كان قبلك أنبياء ، فمنهم من سخّرت له الريح ، ومنهم من كان يحيي الموتى ، فأتنا بشيء من هذه المعجزات ، فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله : ﴿وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ﴾ الآية (٢) .

وعن ابن عباس : أنّ أهل مكة سألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن يزيل الجبال لهم حتى يزرعوا [ تلك ] الأراضي التي تحتها ، فطلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك من الله تعالى ، فقال الله تعالى : إن شئت فعلت ذلك ، لكن بشرط أنّهم إن كفروا أهلكتهم. فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا اريد ذلك بل نتأنّى (٣) بهم » ، فنزلت (٤) .

وقيل : إنّ وجه الجواب أن الأولين شاهدوا هذه المعجزات ، وكذّبوا بها ، فعلم الله منكم أنّكم لو شاهدتموها لكذّبتم ، فكان إظهارها عبثا (٥) .

﴿وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً

 لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً

 كَبِيراً (٦٠)

ثمّ لمّا صار عدم إجابة الرسول مسألة المشركين في ما اقترحوه من الآيات سببا لجرأتهم عليه وطعنهم في رسالته ، قوّى سبحانه قلبه الشريف بوعده النصر عليهم بقوله : ﴿وَإِذْ قُلْنا لَكَ﴾ بتوسّط جبرئيل :  إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ﴾ قدرة وعلما ، فلا يقدر أحد على أمر إلّا بقضائه وإرادته ، فلا تنال بهم ولا تخف منهم فانّهم لن يضرّوك شيئا ، وإنّ ربك سينصرك عليهم ، ويؤيّدك حتى يظهر دينك

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٤.

(٣) في تفسير الرازي : تتأنّى.

(٤) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٤.

(٥) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٤.

٦٢

على سائر الأديان.

وقيل : إنّ المراد من الناس أهل مكّة ، والمعنى : وإذ بشّرناك بأنّ الله أحاط بأهل مكة بالقهر والغلبة ، ويظهر دولتك عليهم ، فهو نظير قوله : ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(١) .

روي أنّه لمّا تزاحف الفريقان يوم بدر ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في العريش ، كان يدعو ويقول : اللهم إنّي أسألك عهدك ووعدك لي ، ثمّ خرج وعليه الدرع يحرّض الناس ويقول : سيهزم الجمع ويولّون الدّبر(٢).

في ذكر رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

ثمّ قيل : إنّ الله أرى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فى المنام مصارع الكفّار ، فأخبرهم بها فكذّبوه ، فذكّره الله تلك الرؤيا (٣) بقوله : ﴿وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ﴾ لغرض من الأغراض ﴿إِلَّا﴾ لتكون ﴿فِتْنَةً﴾ وابتلاء ﴿لِلنَّاسِ﴾ وسببا لتكذيبهم.

وقيل : إنّ المراد بالرؤيا الرؤيا التي رآها أنه يدخل مكة ، وأخبر بذلك أصحابه ، فلمّا منع [ عن البيت الحرام ] عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم ، وقال عمر لأبي بكر : أ ليس قد أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّا ندخل البيت ونطوف به ؟ فقال أبو بكر : [ إنّه ] لم يخبر أنّا نفعل ذلك في هذه السنة ، فسنفعل ذلك في سنة اخرى ، رواها الفخر الرازي (٤) .

وقيل : المراد رؤياه المعراج (٥) ، فإنّه كما كان له معراج في اليقظة كان له معراج في النوم.

وعن سعيد بن المسيب : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني امية ينزون على منبرة نزو القردة ، فساءه ذلك ، قال الفخر : هذا قول ابن عباس في رواية عطاء. ثمّ قال : واعترضوا على هذين القولين ، بأن هذه السورة مكية ، وهاتان الواقعتان مدنيتان ، ثمّ ردّه بأنّ الواقعتين مدنيتان ، أمّا رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولهما في مكّة (٦) .

وعن ابن عباس : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره (٧) .

وعن العياشي ، عن الباقر عليه‌السلام : أنّه سئل عن هذه الرؤيا. فقال : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اري أن رجالا من بني تيم وعديّ على المنابر يردّون الناس عن الصراط القهقرى » (٨) .

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد رأى رجالا من نار على منابر من نار ، يردّون الناس

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٥ ، والآية من سورة القمر : ٥٤ / ٤٥.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٦ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٨٢.

(٤) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٦.

(٥) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٦ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٨١ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٧٨.

(٦) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٦ ، وفيه : حصولها في مكة.

(٧) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٧.

(٨) تفسير العياشي ٣ : ٥٨ / ٢٥٤٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٩.

٦٣

على أعقابهم القهقرى ، قال : ولسنا نسمّي أحدا » (١) .

وفي رواية اخرى : « إنّا لا نسمّي الرجال ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى قوما على منبره يضلّون الناس بعده عن الصراط القهقرى » (٢) .

وفي رواية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « رأيت الليلة صبيان بني امية يرقون على منبري هذا ، فقلت : يا ربّ معي ؟ فقال : لا ولكن بعدك » (٣) .

وعن ( الكافي ) عن أحدهما عليه‌السلام : « أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كئيبا حزينا ، فقال له علي عليه‌السلام : ما لي أراك يا رسول الله كئيبا حزينا ؟ فقال : وكيف لا أكون وقد رأيت في ليلتي هذه أنّ بني تيم وبني عديّ وبني امية يصعدون منبري هذا ، يردّون الناس عن الاسلام القهقرى. فقلت : يا ربّ في حياتي أو بعد موتي ؟ فقال : بعد موتك » (٤) .

وفي رواية مضمرة أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نام فرأى أنّ بني اميّة يصعدون المنابر ، فكلما صعد منهم رجل رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذلّة والمسكنة ، فاستيقظ جزوعا من ذلك ، فكان الذين رآهم اثني عشر رجلا من بني اميّة ، فأتاه جبرئيل بهذه الآية ، ثمّ قال جبرئيل : [ إنّ بني امية ] لا يملكون شيئا إلّا ملك أهل البيت [ ضعفيه ] » (٥) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام - في حديث - قال : « أمّا معاوية وابنه سيليانها بعد عثمان ، ثمّ يليها سبعة من ولد الحكم بن أبي العاص واحدا بعد واحد تكملة اثني عشر إمام ضلالة ، وهم الذين رآهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على منبره يردّون الناس على أدبارهم القهقرى ، عشرة منهم من بني اميّة ، ورجلان أسّسا ذلك لهم ، وعليهما (٦) أوزار هذه الأمّة إلى يوم القيامة » (٧) .

إلى غير ذلك من الروايات الخاصة المتوافقة على أنّ الرؤيا كانت نزو بني امية على منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ﴿وَ﴾ ذكرنا ﴿الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ﴾ لذلك ، قيل : هي شجرة الزّقّوم ، وسمّيت ملعونة لأنّها في أصل الجحيم ، وهو أبعد الأمكنة من رحمة الله (٨) . أو لأنها طعام الكفّار الملعونين ، أو لأنّها مكروهة مبغوضة ، كما يقال : طعام ملعون ، أي ضارّ مكروه. قيل : انّ أبا جهل قال : إنّ صاحبكم يزعم أنّ نار

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٥٧ / ٢٥٤٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٩.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٥٨ / ٢٥٤١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٠.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٥٨ / ٢٥٤٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٠.

(٤) الكافي ٨ : ٣٤٥ / ٥٤٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٠.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ٥٩ / ٢٥٤٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٠.

(٦) زاد في الاحتجاج : مثل جميع.

(٧) الاحتجاج : ١٥٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٠.

(٨) تفسير روح البيان ٥ : ١٧٨.

٦٤

جهنم تحرق الحجر حيث قال : ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ(١) ثمّ يقول : إنّ في النار شجرا ، والنار تأكل الشجر ، فكيف تولّد فيها الشجر ؟ (٢) .

وقال ابن الزّبعري : ما نعلم الزّقوم إلّا التمر والزّبد ، فتزقّموا منه ، فأنزل الله ﴿إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ(٣) .

وقيل : إنّ المراد بها أبو جهل أو [ الحكم بن أبي ] العاص (٤) . وقيل : إنّها شجرة اليهود (٥) .

وعن ابن عباس : الشجرة الملعونة : بنو اميّة (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام - في رواية - قيل : ﴿وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ؟﴾ قال : « هم بنو اميّة » (٧) .

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان افتتان الناس بهما (٨) ، بيّن أنه يخوّف الناس بالمعجزات والآيات بقوله :

﴿وَنُخَوِّفُهُمْ﴾ بالعذاب الدنيوي والآخروي ﴿فَما يَزِيدُهُمْ﴾ التخويف ﴿إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً﴾ وعتوا عظيما وتماديا في الكفر والضلال.

﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ

 طِيناً * قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ

 لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً * قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ

 جَزاءً مَوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ

 وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ

 غُرُوراً (٦١) و (٦٤)

ثمّ لمّا كان سبب عتوّ المشركين ومعارضتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإيذائه الكبر والحسد ، بيّن أنّ هاتين الرذيلتين أوّل ما عصي الله به ، وأقوى الأسباب للكفر في بدو الخلقة بقوله : ﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ﴾ تكبرا وتعجبا من أمره بالسجود له : ﴿أَ أَسْجُدُ﴾ يا رب ، وأنا مخلوق من نار ﴿لِمَنْ خَلَقْتَ﴾ وكان مبدأ خلقته ﴿طِيناً﴾ قيل : إن ﴿طِيناً﴾ منصوب بنزع الخافض ، والمعنى لمن خلقته من طين (٩) .

ثمّ لمّا رأى اللعين تبعيده وطرده من الرحمة وتقريب آدم وتكريمه ﴿قالَ﴾ حسدا وعدوانا لآدم :

__________________

(١) البقرة : ٢ / ٢٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٧.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٧ ، والآية من سورة الصافات : ٣٧ / ٦٣.

(٤) تفسير البيضاوي ١ : ٥٧٥.

(٥ و٦) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٧.

(٧) تفسير العياشي ٣ : ٥٧ / ٢٥٣٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٩.

(٨) كذا ، ولعلّ المراد الرؤيا والشجرة الملعونة.

(٩) تفسير أبي السعود ٥ : ١٨٣.

٦٥

يا رب ﴿أَ رَأَيْتَكَ﴾ وأخبرني عن ﴿هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ﴾ وفضلّته ﴿عَلَيَ﴾ بأن أمرتني بالسجود له مع ملائكتك ، لم كرّمته عليّ وشرّفته بالخلافة وأنا خير منه بعزّتك ؟ ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ﴾ حيا وأنظرتني ﴿إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ،﴾ وقيل : يعني إن أبقيتني على صفة الإغواء والضلالة (١)﴿لَأَحْتَنِكَنَ﴾ ولأستأصلنّ ﴿ذُرِّيَّتَهُ﴾ بالعذاب ، أو لأستولينّ عليهم بالإغواء ﴿إِلَّا قَلِيلاً﴾ منهم ، وهم المخلصون الذين عصمتهم من اتّباع الشهوات والخطايا والزلات.

﴿قالَ﴾ الله تعالى تبعيدا وإهانة أو تهديدا له : ﴿اذْهَبْ﴾ يا ملعون وافعل ما شئت ﴿فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ على الضلالة والعصيان وأطاعك في الكفر والطغيان ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ﴾ يا إبليس ويا أتباع إبليس ﴿جَزاؤُكُمْ﴾ على مخالفتي حال كونها ﴿جَزاءً مَوْفُوراً﴾ كاملا تاما ﴿وَاسْتَفْزِزْ﴾ وحرّك إلى المعصية ، أو استزلّ ﴿مَنِ اسْتَطَعْتَ﴾ أن تستفزّه أو تزلّه من ذرية آدم وقدرت أن تهيجه لمخالفتي ﴿مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ ودعائك ووسوستك.

وقيل : إنّ المراد بصوته : الغناء والمزامير (٢) . وقيل : الأصوات التي ليس فيها رضا الله. ﴿وَأَجْلِبْ﴾ وصح ، أو اجمع ، أو استعن ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وعلى إغوائهم ﴿بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ﴾ وفرسانك ومشاتك.

وقيل : بجميع جندك. وقيل : بجميع قواك وغاية جهدك (٣) .

عن ابن عباس : كلّ راكب أو راجل في معصية الله فهو من خيل إبليس وجنوده (٤) . ﴿وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ﴾ بترغيبهم إلى تحصيلها من الوجه المحرّم ، أو إلى التصرّفات المحرّمة فيها ، أو إلى جعل البحيرة والسائبة وأخواتهما ، أو إلى أن يجعلوا فيها نصيبا لغير الله ﴿وَ﴾ في ﴿الْأَوْلادِ﴾ بتهييجهم إلى الزنا ، أو تسميتهم بعبد اللات ، أو عبد العزّى ، أو الى دعوة أولادهم إلى اليهودية أو النصرانية أو سائر الأديان الباطلة ، أو إلى الاقدام في قتلهم ، أو إلى ترغيبهم في الفحش أو القتل والقتال والحرف الخبيثة.

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه قرئت عليه هذه الآية ثمّ قال : « إنّ الشيطان ليجيئ حتى يقعد من المرأة كما يقعد الرجل منها ، ويحدث كما يحدث ، وينكح كما ينكح » قيل : بأيّ شيء يعرف ؟ قال : « بحبنّا وبغضنا ، فمن أحبنا كان نطفة العبد ، ومن أبغضنا كان نطفة الشيطان » (٥) .

وعنه عليه‌السلام : « إذا ذكر اسم الله تنحّى الشيطان ، وإن فعل ولم يسمّ أدخل ذكره ، وكان العمل منهما

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ١٨٠ ، وفيه : والإضلال.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ١٨١.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٨١.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ٦ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٨٤.

(٥) الكافي ٥ : ٥٠٢ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٣.

٦٦

[ جميعا ] والنطفة واحدة » (١) .

والقمي قال : ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان ، فاذا اشترى به الإماء ونكحهنّ وولد له فهو شرك الشيطان ، كلّما (٢) تلد [ يلزمه ] منه ، ويكون مع الرجل إذا جامع فيكون الولد من نطفته ونطفة الرجل (٣) . والأخبار في هذا المعنى كثيرة.

﴿وَعِدْهُمْ﴾ يا إبليس بالمنافع الدنيوية ، والأمن من الضرر بها ، بأن ينكر المعاد والجنّة والنار ، أو وعدهم بتسويف التوبة ، أو بالأماني الباطلة ، أو بشفاعة الأصنام عند الله ، أو بالأنساب الشريفة ، ثم زجر عن قبول وعده بقوله : ﴿وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً﴾ وكذبا مزينا في قلوبهم متعقّبا بالندامة والخسران.

﴿إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)

ثمّ عيّن الله القليل الذي استثناه الشيطان من عموم إغوائه بقوله : ﴿إِنَّ عِبادِي﴾ المخلصين ﴿لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ﴾ من حيث الإغواء ﴿سُلْطانٌ﴾ واستيلاء ، لعدم تأثير دعوتك وتسويلك في قلوبهم ، لأنّهم يتوكّلون على ربّهم ﴿وَكَفى بِرَبِّكَ﴾ لهم ﴿وَكِيلاً﴾ وحافظا من كيد الشيطان ، ومدبّرا امورهم على وفق الصلاح ، ومسببا لأسباب سعادتهم وموفّقا لهم لجميع الخيرات.

وقيل : لمّا أخبر سبحانه باستيلاء الشيطان على من سوى المخلصين خاف المؤمنون منه خوفا عظيما ، فأخبرهم عن كمال قدرته ولطفه بهم بقوله : ﴿وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً﴾ والمعنى : أنّ الشيطان ، وإن كان قادرا على الاضلال ، ولكنّ الله أقدر وأرحم بعباده من الكلّ ، فهو يدفع كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه (٤) إذا توكّلوا عليه.

﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً

 * وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ

 أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٦) و (٦٧)

ثمّ استشهد سبحانه على لطفه الخاص بعباده بلطفه العام لجميع الناس بقوله : ﴿رَبُّكُمُ﴾ هو القادر اللطيف ﴿الَّذِي يُزْجِي﴾ ويسيّر أو يسوق نفعا ﴿لَكُمُ﴾ ولطفا بكم ﴿الْفُلْكَ﴾ والسّفن ﴿فِي الْبَحْرِ

__________________

(١) الكافي ٥ : ٥٠١ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٣.

(٢) في تفسير القمي : كما.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٢٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٤.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ٩.

٦٧

بقدرته الكاملة ﴿لِتَبْتَغُوا﴾ وتطلبوا لأنفسكم بعضا ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ ونعمه بالتجارة ﴿إِنَّهُ كانَ﴾ من بدو خلقكم ﴿بِكُمْ رَحِيماً﴾ وعطوفا حيث هيّأ لكم جميع ما تحتاجون إليه ، وسهّل عليكم أسباب معيشتكم ، وحفظكم من خطرات البحر ومهالكه.

ثمّ استدلّ على توحيده بقوله : ﴿وَإِذا مَسَّكُمُ﴾ وأصابكم ﴿الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ﴾ وظهرت لكم أمارات الغرق من تلاطم البحر وتراكم الأمواج من كلّ مكان و﴿ضَلَ﴾ وذهب من خواطركم ﴿مَنْ تَدْعُونَ﴾ وتلتجئون إليه في حوائجكم ﴿إِلَّا إِيَّاهُ﴾ تعالى وحده لارتكاز التوحيد وانحصار القدرة والتصّرف في عالم الوجود في الله الذي هو خالق جميع الموجودات في فطرة الانسان.

روي أن رجلا قال للصادق عليه‌السلام : يابن رسول الله ، دلّني على الله ، فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني. فقال [ له : ] « يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قطّ ؟ » قال : بلى. قال : « فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك ؟ » قال. بلى : قال : « فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ » قال : بلى. قال عليه‌السلام : « فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حين لا منجي » (١) .

﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ﴾ من الغرق وأوصلكم ﴿إِلَى الْبَرِّ﴾ والساحل سالمين (٢)﴿أَعْرَضْتُمْ﴾ عنه تعالى وكفرتم تلك النّعمة وسائر نعمه باشراككم له في العبادة غيره ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ﴾ بجنسه وطبعه ﴿كَفُوراً﴾ لنعم ربّه ، ومبالغا في مقابلتها بالعصيان ، وإنّما يصير شاكرا بتوفيق الله وهدايته.

﴿أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا

 لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ

 الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٨) و (٦٩)

ثمّ هدّدهم على الكفران بقوله : ﴿أَ فَأَمِنْتُمْ﴾ من أن يهلككم الله بسبب ﴿أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ﴾ وقطعته التي تحتكم ، وحسبتم أنّها المأمن لكم مثل قارون ﴿أَوْ يُرْسِلَ﴾ في البرّ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ من فوقكم ريحا ﴿حاصِباً﴾ مراميا بالأحجار الصغار ، فيكون أشدّ من الغرق ، كما أرسل على قوم لوط ﴿ثُمَّ لا تَجِدُوا﴾ أحدا يكون ﴿لَكُمْ وَكِيلاً﴾ وحافظا ومنجيا منه.

وحاصل المراد كما تحتاجون إليه تعالى في أن يحفظكم من الغرق وأنتم في البحر ، كذلك تحتاجون إليه في أن يحفظكم من الهلاك وأنتم في البرّ ، إذ كما أنّه قادر على أن يغرقكم في الماء

__________________

(١) التوحيد : ٢٣١ / ٥ ، وفيه : حيث لا منجي ، تفسير الصافي ١ : ٦٨.

(٢) في النسخة : سالما.

٦٨

قادر على أن يهلككم من جانب التحت ، بأن يغيّبكم في التراب ، أو من جانب الفوق بأن يمطر عليكم الحجارة.

﴿أَمْ أَمِنْتُمْ﴾ بعد خروجكم ونجاتكم من البحر من ﴿أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ﴾ بسبب إيجاد الحوائج المهمّة التي لا يمكنكم صرف النظر عنها ﴿تارَةً﴾ ومرّة ﴿أُخْرى﴾ بعد المرّة الاولى ﴿فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ﴾ وأنتم في البحر ﴿قاصِفاً﴾ وشديدا ﴿مِنَ الرِّيحِ﴾ فيكسر فلككم ﴿فَيُغْرِقَكُمْ﴾ في البحر جزاء ﴿بِما كَفَرْتُمْ﴾ بالله وبنعمة إنجائه الأول ، وأشركتم به غيره في العبادة ﴿ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ﴾ بسبب إغراقكم ، ولا تألفوا ﴿عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً﴾ وحاميا يتبعنا بمطالبة العلّة والسبب.

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ

 وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد المنّة بتسهيل سير الانسان في البحر ، وحفظه من المهالك ، وكفرانهم تلك النعمة ، بالغ في إظهار منّته عليهم بعد إهانة عدوهم إبليس بإكرامهم وتفضيلهم بالنّعم بقوله : ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ وأعلينا شأنهم كرامة وتعلية شأن شاملة لجميع أفرادهم برّهم وفاجرهم ، حيث خصصناهم بأحسن الصّور ، وأشرف الأرواح ، واعتدال القامة ، والأخذ باليدين ، والأكل بالأصابع ، وزينة اللحى والذوائب ، وقابلية الكتابة ، والتكلّم باللسان ، وتعلّم الصنائع والحرف والعلوم ، ووجدان العقل المدرك للكليات ، والمميّز بين الخير والشرّ ، وملاحظة عواقب الامور ، وغير ذلك من الخصائص.

﴿وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ﴾ على الحيوانات الحمولة ﴿وَ﴾ في ﴿الْبَحْرِ﴾ على السّفن والزوارق ﴿وَرَزَقْناهُمْ﴾ وأطعمناهم ﴿مِنَ﴾ أنواع النّعم ﴿الطَّيِّباتِ﴾ والمستلذّات ممّا يوجد بصنعهم وبغير صنعهم ﴿وَفَضَّلْناهُمْ﴾ بالمعارف الالهية والأخلاق النفسانية ﴿عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا﴾ في عالم الوجود ، وهم ما عدا الملائكة ، كما عن ابن عبّاس (١) . أو ماعدا العقول المجرّدة والأنوار الاسفهبدية (٢) ، أو ما عدا آدم وحواء ﴿تَفْضِيلاً﴾ عظيما ظاهرا.

عن الصادق عليه‌السلام : « يقول فضلّنا بني آدم على سائر الخلق ﴿وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ يقول: على الرّطب واليابس ﴿وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ يقول : من طيّبات الثّمار كلّها ﴿وَفَضَّلْناهُمْ﴾ يقول : ما من دابة ولا طائر إلّا وهي تأكل وتشرب بفمها ، لا ترفع بيدها إلى فيها طعاما ولا شرابا ، إلّا ابن آدم

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ١٦.

(٢) الاسفهبد : معرب كلمة ( اسپهبد ) فارسية ، لها معان عدة ، ولعلّ المراد هنا النفس الناطقة ، أو القوة المتكلمة في الإنسان ، كما عرّفها الفلاسفة الاشراقيون من الفرس. راجع : لغت نامة دهخدا ٦ : ٢٠٨٣ و٢٣٣١.

٦٩

فانّه يرفع إلى فيه بيده طعامه » (١) .

عن الباقر عليه‌السلام : ﴿وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ﴾ قال : « خلق كلّ شيء منكبّا غير الانسان ، فانّه خلق منتصبا » (٢) .

وقيل : إنّ المراد ببني آدم خصوص المؤمنين (٣) .

القمي عنه عليه‌السلام (٤) : « أنّ الله لا يكرم روح الكافر ، ولكن الله أكرم (٥) أرواح المؤمنين » إلى أن قال : « والرزق الطيب : هو العلم » (٦) .

﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ

 وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كرامة الإنسان في الدنيا ردعا لهم من الشرك ، بيّن درجاتهم في الآخرة تهديدا لهم على العصيان بقوله : ﴿يَوْمَ﴾ والتقدير : اذكروا يوم القيامة فانّه يوم ﴿نَدْعُوا﴾ فيه ﴿كُلَّ أُناسٍ﴾ وامّة وأهل عصر من بني آدم الذين أكرمناهم وفضّلناهم في الدنيا ونضمّهم في الدعوة ﴿بِإِمامِهِمْ﴾ ومقتداهم وخليفته. وقيل : يعني ندعوهم باسم إمامهم (٧) . فيقال : يا امّة إبراهيم ، ويا امّة موسى ، ويا امّة عيسى ، ويا امّة محمّد ، ويا شيعة عليّ والمعصومين من ذرّيته.

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « بامامهم الذي بين أظهرهم ، وهو قائم أهل زمانه » (٨) .

وعن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية ، قال : « يجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قومه (٩) ، وعليّ عليه‌السلام في قومه ، والحسن عليه‌السلام في قومه ، والحسين عليه‌السلام في قومه ، وكلّ من مات بين أظهر (١٠) قوم جاءوا معه»(١١) .

وعنه عليه‌السلام : « لمّا نزلت هذه الآية قال المسلمون : يا رسول الله ، أ لست إمام [ الناس ] كلهم أجمعين ؟ فقال : أنّا رسول الله إلى الناس أجمعين ، ولكن سيكون بعدي أئمة على الناس (١٢) من أهل بيتي يقومون في الناس فيكذّبون ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم ، فمن والاهم واتّبعهم

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٤٨٩ / ١٠٧٢ ، عن زيد بن علي ، عن أبيه عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٥.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٦٣ / ٢٥٥٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٦.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٨٥.

(٤) أي عن الباقر عليه‌السلام.

(٥) في المصدر : ولكن يكرم.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٢٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٦.

(٧) مجمع البيان ٦ : ٦٦٣.

(٨) الكافي ١ : ٤٥١ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٦.

(٩) في تفسير القمي : في فرقة ، وكذا ما بعدها.

(١٠) في تفسير القمي : ظهراني.

(١١) تفسير القمي ٢ : ٢٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٦.

(١٢) زاد في تفسير العياشي والكافي : من الله.

٧٠

وصدّقهم فهو مني ومعي وسيلقاني ، ألا ومن ظلمهم وكذّبهم فليس منّي ولا معي وأنا منه برئ » (١) .

وعن الحسين عليه‌السلام ، أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : « إمام دعا إلى الهدى فأجابوه إليه ، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها ، هؤلاء في الجنّة ، وهؤلاء في النار ، وهو قوله : ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « سيدعى كلّ اناس بإمامهم ، أصحاب الشمس بالشمس ، وأصحاب القمر بالقمر ، وأصحاب النار بالنار ، وأصحاب الحجارة بالحجارة » (٣) .

وعنه عليه‌السلام : « أنتم والله على دين الله » ثمّ تلا هذه الآية ، ثمّ قال : « عليّ إمامنا ، ورسول الله إمامنا ، وكم من إمام يجيئ يوم القيامة يلعن أصحابه ويلعنونه » (٤) .

وعن ( المجمع ) عنه عليه‌السلام : « ألا تحمدون الله ، إذا كان يوم القيامة يدعى (٥) كلّ قوم إلى من يتولّونه ، وفزعنا (٦) إلى رسول الله ، وفزعتم إلينا ، فإلى أين ترون أن يذهب بكم ؟ إلى الجنّة وربّ الكعبة » قالها ثلاثا (٧) .

وقيل : إنّ المراد بالإمام الكتاب ، فيدعى : يا أهل التوراة ، ويا أهل الانجيل ، ويا أهل القرآن(٨).

وقيل : إنّ المراد بالامام هو الدّين ، فيقال يا يهود ، يا نصارى ، يا أهل الاسلام (٩) .

وقيل : إنّ الامام جمع امّ ، كخفاف جمع خفّ ، فيقال : يابن فلانة ، إجلالا لبعض الناس كعيسى والحسنين ، وسترا على أولاد الزنا (١٠) .

عن ابن عباس وعائشة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إن الله يدعو الناس يوم القيامة بامهاتهم سترا منه على عباده » (١١) .

وعلى أي تقدير ﴿فَمَنْ أُوتِيَ﴾ واعطي ﴿كِتابَهُ﴾ وصحيفة أعماله من السّعداء والصّلحاء ﴿بِيَمِينِهِ﴾ تشريفا وتبشيرا له ﴿فَأُولئِكَ﴾ السعداء ﴿يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ﴾ مسرورين بما فيه من الحسنات ﴿وَلا يُظْلَمُونَ﴾ ولا ينقصون من أجور أعمالهم المكتوبة فيه ﴿فَتِيلاً﴾ وقدرا قليلا.

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٦٥ / ٢٥٦٤ ، الكافي ١ : ١٦٨ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٦.

(٢) أمالي الصدوق : ٢١٧ / ٢٣٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٦ ، والآية من سورة الشورى : ٤٢ / ٧.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٦٤ / ٢٥٦١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٦.

(٤) تفسير العياشي ٣ : ٦٤ / ٢٥٦٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٧.

(٥) في المصدر : فدعا.

(٦) في المصدر : ودعانا.

(٧) مجمع البيان ٦ : ٦٦٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٧.

(٨) تفسير الرازي ٢١ : ١٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٨٧.

(٩) تفسير روح البيان ٥ : ١٨٧.

(١٠) تفسير أبي السعود ٥ : ١٨٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٨٧.

(١١) تفسير روح البيان ٥ : ١٨٧.

٧١

عن ابن عباس الفتيل : هو الوسخ الذي يظهر بفتل الانسان إبهامه بسبابته (١) .

قيل : إنّما خصّ أصحاب اليمين بالقراءة ؛ لأنّ أصحاب الشمال إذا أطّلعوا على ما في كتابهم أخذهم الحياء والخجل والعجز عن إقامة حروف الكتاب ، أو يستولى الخوف والوحشة على قلوبهم ، ويثقل لسانهم فيعجزوا عن القراءة ، وأمّا أصحاب اليمين فهم يقرأون كتابهم على أحسن الوجوه ، ثمّ لا يكتفون بقراءتهم وحدهم ، بل يقولون لأهل المحشر : ﴿هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ(٢) .

﴿وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نعمته العظيمة على الإنسان في الدنيا وإحسانه إليه (٣) في الآخرة ، هدّد الكافرين لنعمه بقوله : ﴿وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ﴾ النعم الجسيمة الدنيوية ، أو في هذه الدنيا ﴿أَعْمى﴾ القلب عن معرفة منعمه ورؤية نعمه عليه ، أو بطريق تقربّه إليه ﴿فَهُوَ فِي﴾ أمر ﴿الْآخِرَةِ﴾ ومعرفة أحوالها وطريق السلامة فيها ، أولى بأن يكون ﴿أَعْمى﴾ القلب وفاقد البصيرة.

عن عكرمة ، قال : جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس ، فسأله رجل عن هذه الآية ، فقال : اقرأ ما قبلها ، فقرأ ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ﴾ إلى قوله : ﴿تَفْضِيلاً(٤) قال ابن عباس : من كان في هذه النّعم التي قد رأى وعاين أعمى ، فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى (٥) . ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلاً.

وفي نقل آخر عنه قال : من كان في الدنيا أعمى عمّا يرى من قدرة الله في خلق السماوات والأرض ، والبحار والجبال ، والناس والدوابّ ، فهو عن أمر الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا ، وأبعد عن تحصيل العلم به (٦) .

وقيل : يعني من كان في الدنيا ضالا كافرا ، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا ، لأنّه في الدنيا يهتدي إلى التخلّص من أنواع الآفات ، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك ، وفي الدنيا تقبل توبته ، وفي الآخرة لا تقبل (٧) .

وقيل : يعني من كان في هذه الدنيا أعمى عن معرفة الله ، فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنّة(٨).

وقيل : يعني من كان في هذه الدنيا منهمكا في الشهوات ، ومنغمرا في ظلمات الجهل ، فهو في الآخرة أعمى ليس معه شيء من أنوار معرفة الله ، فيكون منغمرا في ظلمات شديدة وحسرة

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ١٨.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ١٨ ، والآية من سورة الحاقة : ٦٩ / ١٩.

(٣) في النسخة : إليهم.

(٤) الإسراء : ١٧ / ٦٦ - ٧٠.

(٥) تفسير الرازي ٢١ : ١٨.

(٦ و٧) تفسير الرازي ٢١ : ١٩.

(٨) تفسير الرازي ٢١ : ١٩.

٧٢

عظيمة.

وقيل : يعني من كان في هذه الدنيا أعمى القلب ، حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر ، فيقول: ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ؟(١)

وعن الباقر عليه‌السلام : « من لم يدلّه خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الشمس والقمر والآيات العجيبات على أنّ وراء ذلك أمرا أعظم منه ، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا » (٢) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « إياك وقول الجهّال [ من ] أهل العمى والضلال الذين يزعمون أنّ الله جلّ وتقدّس موجود في الآخرة للحساب والثواب والعقاب ، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ، ولو كان في الوجود لله عزوجل نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبدا ، ولكن القوم تاهوا وعموا وصمّوا عن الحقّ من حيث لا يعلمون ، وذلك قوله عزوجل : ﴿وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ يعني أعمى عن الحقائق الموجودة » (٣) .

وعن ( الخصال ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أشدّ العمى من عمي عن فضلنا وناصبنا العداوة بلا ذنب سبق إليه منّا ، إلّا أن دعوناه إلى الحقّ ، ودعاه من سوانا إلى الفتنة في الدنيا فأتاها ، ونصب البراءة منّا والعداوة [ لنا ] » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « ذلك الذي يسوّف نفسه الحجّ - يعني حجّة الاسلام - حتى يأتيه الموت » (٥) .

﴿وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ

 خَلِيلاً  وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٣) و (٧٤)

ثمّ لمّا كان من لوازم عمى القلب الاغترار بوساوس أهل الضلال ، نهى المؤمنين عنه بتهديد نبيه المعصوم من كلّ زلل عليه بقوله : ﴿وَإِنْ كادُوا﴾ والمعنى وإن الشأن أنّ المشركين قربوا ﴿لَيَفْتِنُونَكَ﴾ ويصرفونك بخدعهم ومكرهم ﴿عَنِ﴾ تبليغ ﴿الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ﴾ من الأحكام والوعد والوعيد ﴿لِتَفْتَرِيَ﴾ وتختلق ﴿عَلَيْنا غَيْرَهُ﴾ ممّا يلقونه إليك ﴿وَإِذاً﴾ والله ﴿لَاتَّخَذُوكَ﴾ واختاروك لأنفسهم

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ١٩ ، والآية من سورة طه : ٢٠ / ١٢٥.

(٢) التوحيد : ٤٥٥ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٧.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٧٥ / ١ ، التوحيد : ٤٣٨ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٧.

(٤) الخصال : ٦٣٣ / ١٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٧.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٢٤ ، تفسير العياشي ٣ : ٦٦ / ٢٥٧٠ ، الكافي ٤ : ٢٦٨ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٧.

٧٣

﴿خَلِيلاً﴾ وصديقا مع أنّك تكون لنا حبيبا ﴿وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ﴾ على الحقّ وعصمناك من الزلل بالملكة القدسية وتأييدك بروح القدس ﴿لَقَدْ كِدْتَ﴾ وقربت من أنّه ﴿تَرْكَنُ﴾ وتميل ﴿إِلَيْهِمْ﴾ وتعزم على موافقة مرادهم بمقتضى الطبيعة البشرية ﴿شَيْئاً قَلِيلاً﴾ وركونا يسيرا لقوّة مقتضياته من كثرة خدعهم وشدّة احتيالهم.

عن ابن عبّاس : نزلت في وفد ثقيف ، أتو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسألوه شططا ، وقالوا : متّعنا باللات سنة ، وحرّم وادينا كما حرّمت مكة شجرها وطيرها ووحشها ، فأبى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يجبهم ، فكرّروا ذلك الالتماس ، وقالوا : إنا نحبّ أن تعرف العرب فضلنا عليهم ، فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب : أعطيتهم ما لم تعطنا. فقل : الله أمرني بذلك ، فأمسك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم ، وداخلهم الطمع ، فصاح عليهم عمر ، وقال : أما ترون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله [ قد ] أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه ، فأنزل الله هذه الآية (١) .

وروي أنّهم جاءوا بكتابهم فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب [ من ] محمّد رسول الله إلى ثقيف لا يعشّرون ولا يحشرون. فقالوا : ولا يجبون. فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قالوا للكاتب : كتب ولا يجبون ، والكاتب ينظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام عمر وسلّ سيفه ، وقال : أسعرتم قلب نبينا أسعر الله قلوبكم نارا ، فقالوا : لسنا نكلّمك ، إنّما نكلّم محمّدا ، فنزلت (٢) .

وروي أنّ قريشا قالوا له : اجعل آية العذاب آية رحمة (٣) . حتى نؤمن بك ، فنزلت (٤) .

وقيل : إنّ كفّار مكّة أخذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة بمكة قبل الهجرة ، فقالوا : كف يا محمّد عن ذمّ آلهتنا وشتمها ، فلو كان ذلك حقّا كان فلان وفلان بهذا الأمر أحقّ منك. فوقع في قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ يكفّ عن شتم آلهتهم ، فنزلت (٥) .

وعن سعيد بن جبير أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يستلم الحجر ، فمنعه قريش وقالوا : لا ندعك حتى تستلم آلهتنا ، فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية ، فنزلت (٦) .

عن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « لمّا كان يوم الفتح ، أخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصناما من المسجد ، وكان منها صنم على المروة ، وطلبت قريش أن يتركه ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله مستحييا ، فهمّ بتركه ، ثمّ أمر بكسره ، فنزلت » (٧) .

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠.

(٣) في تفسير الرازي : اجعل آية رحمة آية عذاب ، وآية عذاب آية رحمة.

( ٤-٦ ) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠.

(٧) تفسير العياشي ٣ : ٦٨ / ٢٥٧٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٨.

٧٤

عن الصادق عليه‌السلام : « ما عاتب الله نبيّه فهو يعني به من قد مضى في القرآن ، مثل قوله : ﴿وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ﴾ إلى أن قال : عنى بذلك غيره » (١) .

وعن الرضا عليه‌السلام ، في حديث المأمون في عصمة الأنبياء حيث سأله عن قوله : ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ(٢) قال : « هذا ممّا نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة ، خاطب الله بذلك نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله والمراد به امّته ، وكذلك قوله عزوجل : ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ(٣) وقوله : ﴿وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ﴾ الآية»(٤) .

﴿إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً * وَإِنْ

 كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً

* سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٥) و (٧٧)

ثمّ هدّد على الركون إلى الكفار بقوله : ﴿إِذاً﴾ والله ﴿لَأَذَقْناكَ﴾ عذابا يكون ﴿ضِعْفَ﴾ العذاب الذي يكون لغيرك ومثليه بهذا العمل في ﴿الْحَياةِ﴾ الدنيا ﴿وَضِعْفَ﴾ ذلك في ﴿الْمَماتِ﴾ لكونك أعرف الخلق بعظمة الله وحقوقه ﴿ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً﴾ ومدافعا عنك.

روى الثعلبي : أنّه لمّا نزلت الآية قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اللهمّ لا تكلني إلى نفسي ولو طرفة عين»(٥).

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حيل المشركين في افتتان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تبليغ الوحي والاضرار به في دينه ، ذكر همّهم باخراج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة والاضرار به في دنياه بقوله : ﴿وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾ وليزعجونك ولينزعونك سريعا ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ التي هي وطنك ، وهي مكة ﴿لِيُخْرِجُوكَ مِنْها.

قيل : إنّ أهل مكة شاوروا في إخراج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منها ، فاتّفق رأيهم على أن يفرطوا في إظهار عداوته وإيذائه حتى يضطرّ إلى الخروج ، فنزلت (٦) .

ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ﴾ ولا يمكثون ولا يحيون ﴿خِلافَكَ﴾ وبعد خروجك في الدنيا ﴿إِلَّا﴾ زمانا ﴿قَلِيلاً﴾ ومدّة يسيرة ، وقد كان كذلك ، فانّ الذين توافقوا على إخراجه من مكة واضطرّوه إلى المهاجرة إلى المدينة ، اهلكوا ببدر بعد مدة قليلة ، وذلك الاهلاك كان ﴿سُنَّةَ﴾ الله ودأبه على قانون الحكمة البالغة لأجل ﴿مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا﴾ مع أعدائهم الذين أخرجوهم من بين أظهرهم ﴿وَلا تَجِدُ﴾ يا محمّد ، في شأنك وشأن مخرجيك من أعدائك ﴿لِسُنَّتِنا﴾ وعادتنا القديمة من إهلاكهم ﴿تَحْوِيلاً﴾ وتغييرا.

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٨٤ / ٢٩ ، الكافي ٢ : ٤٦١ / ١٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٩.

(٢) التوبة : ٩ / ٤٣.

(٣) الزمر : ٣٩ / ٦٥.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٠٨.

(٥ و٦) تفسير روح البيان ٥ : ١٩٠.

٧٥

﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ

 مَشْهُوداً (٧٨)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه منّته على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بحفظه من كيد أعدائه وفتنتهم ، ووعده باهلاك مخرجيه من مكة ونصرته عليهم ، أمره بالاقبال إليه والقيام بوظائف العبوديّة التي أهمّها الصلاة بقوله : ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ﴾ وأدمها كما قيل ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ وزوالها عن خطّ نصف النهار إلى غسق الليل وظلمته الشديدة الحاصلة بعد زوال الحمرة المغربية.

عن جابر ، قال : طعم عندي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ، ثمّ خرجوا حين زالت الشمس ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هذا حين دلكت الشمس » (١) .

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « أتاني جبرئيل لدلوك الشمس ، حين زالت الشمس ، فصلى بي الظهر » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، أنّه سئل عمّا فرض الله من الصلاة ؟ فقال : « خمس صلوات في الليل والنهار » فقيل : هل سمّاهنّ وبينهنّ في كتابه ؟ فقال : « نعم ، قال الله تعالى لنبيه : ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ ودلوكها زوالها ، ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات سمّاهن الله وبينهنّ ووقتهنّ ، وغسق الليل : انتصافه ، ثمّ قال : ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً﴾ فهذه الخامسة » (٣) .

والعياشي عنهما عليهما‌السلام ، في هذه الآية ، قال : « جمعت الصلوات كلّهن ، ودلوك الشمس : زوالها ، وغسق الليل : انتصافه » وقال : « إنّه ينادي مناد من السماء كلّ ليلة إذا انتصف [ الليل ] : من رقد عن صلاة العشاء إلى هذه الساعة فلا نامت عيناه ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ قال : صلاة الصبح. وأمّا قوله : ﴿كانَ مَشْهُوداً﴾ قال : تحضره ملائكة الليل والنهار » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن أفضل المواقيت في صلاة الفجر ، فقال : « مع طلوع الفجر ، إنّ الله يقول : ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً﴾ يعني صلاة الفجر يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ، فاذا صلّى العبد الصبح مع طلوع الفجر أثبتت له مرّتين ؛ أثبتتها ملائكة الليل وملائكة النهار » (٥) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٢٥.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ٢٥.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٧٠ / ٢٥٧٨ ، الكافي ٣ : ٢٧١ / ١ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ١٢٤ / ٦٠٠ ، التهذيب ٢ : ٢٤١ / ٩٥٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٠.

(٤) تفسير العياشي ٣ : ٧٢ / ٢٥٨٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٠.

(٥) الكافي ٣ : ٢٨٣ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٠.

٧٦

وروى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ دلوك الشمس غروبها » (١) . ورووه أيضا عن ابن عباس وابن مسعود وابن جبير (٢) ، ورووا عن ابن عباس : أنّ غسق الليل : دخوله بظلمته (٣) .

أقول : على هذين القولين يكون المراد من الصلاة صلاة المغرب ، أو هي مع العشاء ، وقيل : إنّ تسمية صلاة الفجر بقرآن الفجر تدلّ على استحباب إكثار تلاوة القرآن فيها (٤) .

﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)

ثمّ خصّ سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بفريضة زائدة بقوله : ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾ وفي بعض منه ﴿فَتَهَجَّدْ﴾ بالقرآن وأترك النوم مشتغلا بصلاة الليل المصحوبة أو المقرونة ﴿بِهِ﴾ واعلم أنّ هذه الصلاة تكون فريضة ﴿نافِلَةً﴾ وزائدة على الصلوات الخمس ﴿لَكَ﴾ خاصة لا يشاركك في وجوبها أحد من امّتك.

عن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن النوافل فقال : « فريضة » ففزع السامعون ، فقال : « إنّما أعني صلاة الليل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ الله يقول : ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ﴾ الخبر (٥).

ثمّ حثّ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿عَسى﴾ ويرجى ﴿أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ﴾ من قبرك ويقيمك أو يعطيك ﴿مَقاماً مَحْمُوداً﴾ عند جميع الأولين والآخرين من الأنبياء وغيرهم ، وهو مقام الشفاعة. وفي الدعاء المشهور : وابعثه المقام المحمود الذي وعدته (٦) ، يغبطه به الأولون والآخرون (٧) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في هذه الآية : « هو المقام الذي أشفع [ فيه ] لأمّتي » (٨) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكبائر من امّتي ، فيشفّعني الله فيهم ، والله لا تشفّعت فيمن آذى ذرّيتي » (٩) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في أبي وأمّي (١٠) وأخ لي كان في الجاهلية » (١١) .

وعن أحدهما عليهما‌السلام في هذه الآية ، قال : « هي الشفاعة » (١٢) .

وعنه عليه‌السلام ، أنّه سئل عن شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ، فقال : « يلجم الناس يوم القيامة العرق ،

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢١ : ٢٥.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ٢٧.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ٢٧ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٨٩.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٤٢ / ٩٥٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٠.

(٦) زاد في مصباح المتهجد : مقاما.

(٧) مصباح المتهجد : ٤٤٦.

(٨) روضة الواعظين : ٥٠٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١١ ، تفسير الرازي ٢١ : ٣١.

(٩) روضة الواعظين : ٢٧٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١١.

(١٠) زاد في تفسيري القمي والصافي : وعمي.

(١١) تفسير القمي ٢ : ٢٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١١.

(١٢) تفسير العياشي ٣ : ٧٨ / ٢٥٩٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١١.

٧٧

فيقولون : انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا ، فيأتون آدم ، فيقولون : [ يا آدم ] اشفع لنا عند ربّك. فيقول : إنّ لي ذنبا وخطيئة ، فعليكم بنوح فيأتون نوحا فيردّهم إلى من يليه ، ويردّهم كلّ نبي إلى من يليه حتى ينتهوا إلى عيسى ، فيقول : عليكم بمحمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فيعرضون أنفسهم عليه ويسألونه فيقول : أن انطلقوا ، فينطلق بهم إلى باب الجنة ، ويستقبل باب الرحمن ويخرّ ساجدا ، فيمكث ما شاء الله ، فيقول الله : ارفع رأسك واشفع تشفّع وسل تعط ، وذلك قوله تعالى : ﴿عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً(١).

وبهذا المعنى روايات كثيرة ، وادّعى بعض العامة إجماع المفسرين عليه ، وادّعى الفخر الرازي اتّفاق الناس عليه (٢) .

وقيل : إنّه مقام القرب من الله ، عن حذيفة : يجمع الناس في صعيد واحد ، فلا تتكلّم نفس ، فأوّل مدعوّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيقول : « لبيك وسعديك ، والشرّ ليس إليك ، والمهدي من هديت ، وعبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك ، تباركت وتعاليت سبحانك ربّ البيت » . فهذا هو المراد من قوله : ﴿عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ﴾ إلى آخره (٣) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث يذكر أهل المحشر : « ثمّ يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمّد ، وهو المقام المحمود ، فيثني على الله بما لم يثن عليه أحد من قبله ، ثمّ يثني على كلّ مؤمن ومؤمنة ، يبدأ بالصديقين والشهداء ثمّ الصالحين ، فيحمده أهل السماوات والأرض ، فذلك قوله عزوجل : ﴿عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ﴾ إلى آخره ، فطوبى لمن كان له في ذلك اليوم (٤) حظّ ونصيب ، وويل لمن لم يكن له في ذلك اليوم حظّ و[ لا ] نصيب » (٥) .

أقول : لا منافاة بين الروايات ، فانّ مقام القرب والمقام الذي يحمده جميع الخلق هو مقام الشفاعة ، كما يشعر به قوله : « طوبى لمن كان له » إلى آخره.

﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ

 لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره باقامة الصلاة ، أمره بالتوجّة والتوسّل إليه في حفظه عن التوجه إلى غيره وعن شرّ الأعداء بقوله : ﴿وَقُلْ﴾ حين إرادتك الدخول في الصلاة ﴿رَبِّ أَدْخِلْنِي﴾ فيها ﴿مُدْخَلَ

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١١.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢١ : ٣٢.

(٤) في التوحيد : المقام ، وكذا التي بعدها.

(٥) التوحيد : ٢٦١ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١١.

٧٨

صِدْقٍ﴾ وإدخالا حسنا ممدوحا ﴿وَأَخْرِجْنِي﴾ من الصلاة ﴿مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ وإخراجا حسنا ممدوحا ﴿وَاجْعَلْ لِي﴾ في دعوتي إلى دينك وعبادتك ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾ وبرحمتك ﴿سُلْطاناً نَصِيراً﴾ وبيّنة قاهرة تغلبني بها على من خالفني.

وقيل : إنّه تعالى لمّا بشّره بالبعث للمقام المحمود ، أمره بأن يسأل حسن الحال عند دخوله في القبر وخروجه منه (١) .

وقيل : إنّه لمّا أخبره بتصميم المشركين بإخراجه من مكة بقوله : ﴿وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ(٢) أمره بالهجرة ، وأن يسأله أن يجعل دخوله في المدينة وخروجه من مكة ، أو دخوله في مكة بعد الهجرة والعود إليها بعد فتحها ، وخروجه منها ورجوعه إلى المدينة ، دخولا وخروجا مرضيا ، ملقى بالكرامة ، وآمنا من كلّ مكروه (٣) .

القمي : قال : نزلت يوم فتح مكة ، لمّا أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخولها أنزل الله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ﴿أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ الآية (٤) .

أقول : الأقوى نزولها قبل الهجرة ، ولا يبعد النزول ثانيا حين دخوله مكة وفتحها.

وقيل : إن المراد ربّ ادخلني في القيام بمهمات أداء دينك وشريعتك ، وأخرجني (٥) منها إخراجا لا يبقى عليّ منها تبعة وبقيّة (٦) .

وقيل : يعني ربّ أدخلني في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك وتقديسك (٧) ، ثمّ أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفتك. (٨)

أقول : لا يناسب هذا المعنى مقام خاتميته.

﴿وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)

ثمّ لمّا سأل الله النّصرة على الأديان الباطلة ، أمره سبحانه بالاعلان بدينه الحقّ واضمحلال الأديان الباطلة ، تبشيرا باستجابة دعائه بقوله : ﴿وَقُلْ﴾ يا محمّد ، للناس وكافّة أهل الأديان الباطلة ﴿جاءَ﴾ الدين ﴿الْحَقُ﴾ وملّة التوحيد وشريعة الاسلام من جانب الله ﴿وَزَهَقَ﴾ واضمحلّ الدين ﴿الْباطِلُ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٣٣ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٩٠.

(٢) الإسراء : ١٧ / ٧٦.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ٣٢ و٣٣ تفسير أبي السعود ٥ : ١٩٠.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٢٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٢.

(٥) زاد في تفسير الرازي : منها بعد الفراغ.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ٣٣.

(٧) في تفسير الرازي : وقدسك.

(٨) تفسير الرازي ٢١ : ٣٣.

٧٩

ومذهب الشرك والبدع المخترعة بالأهواء الزائغة ﴿إِنَّ الْباطِلَ﴾ كائنا ما كان ﴿كانَ زَهُوقاً﴾ ومضمحلّا.

روى الفخر الرازي وغيره من العامة عن ابن مسعود : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل مكة يوم الفتح ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل ينكت بمخصرة كانت بيده [ في ] عين واحد واحد ويقول : ﴿جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ﴾ فينكبّ لوجهه حتّى ألقى جميعها ، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة ، وكان من صفر ، فقال : يا علي ارم به ، فصعد فرمى به فكسره (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن آبائه : « دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة والأصنام حول الكعبة ، وكانت ثلاثمائة وستين صنما ، فجعل يطعنها (٢) بمخصرة في يده ويقول : ﴿جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً﴾ وما يبدي وما يعيد ، فجعلت تنكبّ لوجهها » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، في هذه الآية : « إذا قام القائم ذهبت دولة الباطل » (٤) .

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ

 خَساراً (٨٢)

ثمّ لمّا أمر سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتلاوة القرآن والتهجّد به ، بيّن فضيلة القرآن وفوائده بقوله : ﴿وَنُنَزِّلُ﴾ السور والآيات التي ﴿مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ﴾ من الأمراض الجسمانية والروحانية ، كالشكّ والزّيغ والأخلاق الرذيلة ﴿وَ﴾ ما هو ﴿رَحْمَةٌ﴾ وهداية ورشاد إلى العقائد الحقّة والأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ به والمتمسّكين بما فيه والعاملين بأحكامه.

عن الصادق عليه‌السلام - في حديث - « إنما الشّفاء في علم القرآن ، لقوله : ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ﴾ لأهله لا شكّ فيه ولا مرية ، وأهله أئمة الهدى » (٥) .

وعنه عليه‌السلام : « ما اشتكى أحد من المؤمنين شكاية (٦) قطّ وقال بإخلاص نيّة ومسح موضع العلّة : ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً﴾ إلّا عوفي من تلك العلّة أية علّة كانت ، ومصداق ذلك في الآية حيث يقول : ﴿شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧) .

وعنه عليه‌السلام : « لا بأس بالّرقية والعوذة والنّشرة إذا كانت من القرآن ، ومن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٣٣ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٩٤ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٩١.

(٢) في أمالي الطوسي : يطفّها.

(٣) أمالي الطوسي : ٣٣٦ / ٦٨٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٢.

(٤) الكافي ٨ : ٢٨٧ / ٤٣٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٢.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ٧٩ / ٢٥٩٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٣.

(٦) في طب الأئمة عليهم‌السلام : شكاة.

(٧) طب الأئمة عليهم‌السلام : ٢٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١٣.

٨٠