نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

الأخضر وبالعكس (١) .

ثمّ ظنّت أنّ سليمان أراد اختبار عقلها وإظهار معجزة لها ، قالت : ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ﴾ بنبوتك ﴿مِنْ قَبْلِها﴾ لدلالة غيرها من المعجزات على صدق دعواك ﴿وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ ومؤمنين بك من ذلك الوقت.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إخفائها الايمان به قيل بقوله : ﴿وَصَدَّها﴾ ومنعها من إظهار الايمان بالله وبنبوّة سليمان قبل الوقت ﴿ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ من الشمس ، أو النّار ، وعبادتها القديمة لها.

ثمّ نبّه سبحانه على نكتة سببية عبادتها السابقة لصدّها بقوله : ﴿إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ﴾ وناشئة بين أظهرهم ، فلم يمكنها إظهار الاسلام حتى دخلت في مملكة سليمان فصارت من قوم مسلمين.

وقيل : إنّ المراد صدّها الله أو سليمان عن عبادة غير الله (٢) ، أنّها كانت قبل توفيق الله وهداية سليمان من قوم كافرين ، لا تعرف غير مذهبهم.

وقيل : إنّ قوله : ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ﴾ إلى آخره ، من كلام سليمان عليه‌السلام والمؤمنين به حيث إنّهم لمّا رأوا أنّها قالت : ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ قالوا : إنّها أصابت في الجواب ، فهي عاقلة ، وقد رزقت الاسلام (٣) .

ثمّ عطفوا على ذلك قولهم : ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ﴾ بالله وبقدرته الكاملة ( قبل علمها ) إظهارا للشكر على تقدّمهم في الاسلام عليها.

قيل : لمّا قالت الشياطين : إنّ ساقيها شعراوان وإنّ رجليها كحافر الحمار لا أصابع لها ، أمر سليمان عليه‌السلام ببناء قصر صحنه من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء ، وألقى فيه السّموك (٤) ودوابّ البحر ، ووضع سريره في وسطه ، فجلس عليه ، وعكف عليه الطير والجنّ والإنس ، فلمّا جاءت بلقيس إلى باب القصر (٥)﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ والقصر الرفيع ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ﴾ والشمس تشرق عليه ، والماء يموج في صحنه ، والسّموك تسبح فيه ﴿حَسِبَتْهُ﴾ وتوهّمته ﴿لُجَّةً﴾ وماء قليلا يبلغ الكعبين ، أو أنصاف السوق ، أو ماء كثيرا تردّد أمواجه ، فشمّرت ذيلها ﴿وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها﴾ لئلا تبتلّ ثيابها ، فرأى سليمان عليه‌السلام أنّها أحسن النساء ساقا وقدما ، خلا أنّها شعراء ﴿قالَ﴾ سليمان لها : لا تكشفي عن ساقيك ، فان ما ترينه ليس بماء ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ﴾ وقصر ﴿مُمَرَّدٌ﴾ ومسوّى ﴿مِنْ قَوارِيرَ﴾ ومصنوع من الزجاج الأبيض الصافي فوق ماء ، أو لم يكن ماء ، بل كان الزجاج الصافي شبيها بالماء.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٠٠.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١٩٩ و٢٠٠.

(٤) السّموك ، جمع سمك.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٣.

٥٨١

قيل : إنّه لمّا رأى ساقها شعراء كرهه ، وأمر الشياطين أن يتّخذوا لها شيئا يذهب الشعر ، فقالوا :

نحتال لك حتى تصير كالفضّة ، فاتّخذوا النّورة والحمّام ، فكانت النّورة والحمّام من يومئذ (١) .

وقيل : إنّ الحمّام الذي ببيت المقدس بباب الأسباط بني لها ، وهو أوّل حمّام بني على وجه الأرض (٢) .

وقيل : إنّ جنّيا قال لسليمان : ابني لك دارا تكون في بيوته الأربعة الفصول الأربعة ، فبنى الحمّام(٣) .

فلمّا علمت بلقيس أنّه قوارير ، استحيت وتستّرت وكمّلت إيمانها بالتوحيد ونبوّة سليمان عليه‌السلام ﴿قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ باختيار الشرك قبل اهتدائي إلى التوحيد بهداية سليمان.

وقيل : حسبت أنّ سليمان عليه‌السلام أراد غرقها بالماء ، فلمّا تبيّن لها خطأ ظنّها قالت : ﴿ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ بسوء ظنّي بسليمان (٤)﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ﴾ وأخلصت التوحيد اقتداء به ﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ فأظهرت كمال معرفتها بألوهيّته تعالى ، وتفردّه باستحقاق العبادة ، ومعرفتها بالربوبية لجميع الموجودات التي من جملتها الشمس التي كانت تعبدها من قبل ، بالجمع بين ذكر اسم الجلالة ووصفه بالربوبية ، ثمّ تزوّجها سليمان ، ومن قال بذلك استدلّ عليه بنظره عليه‌السلام إلى ساقها ، فلو لم يكن مريدا لتزويجها لم يكن له ذلك ، ولم يشاور الإنس والجنّ في علاج إزالة شعرها مع أنّه شاور الإنس فقالوا : موسى ، فقال : الموسى يخدش ساقها ، ثم شاور الجنّ فما اهتدوا إلى شيء ، ثمّ شاور الشياطين فعبؤوا النّورة والحمّام.

قيل : أحبّها حبّا شديدا ، وأقرّها على ملكها ، وأمر الجنّ فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير مثلها في الارتفاع والحسن ، وكان عليه‌السلام يزورها في كلّ شهر مرّة ، ويقيم عندها ثلاثة أيام ، وولدت له داود بن سليمان ، ثمّ مات في حياة أبيه (٥) .

وقيل : إنّه عليه‌السلام عرض عليها النكاح فأبته ، وقالت : مثلي لا ينكح الرجال ، فأعلمها سليمان عليه‌السلام أنّ النكاح من شريعة الاسلام ، فقالت : إنّ كان ذلك فزوّجني من ذي تبّع ، وكان هو فتى من أبناء ملوك اليمن ، فزوّجها إياه ، ثمّ ردّها إلى اليمن ، وسلّط زوجها على اليمن ، ودعا زوبعة أمير جنّ اليمن ، فأمره أن يكون في خدمته ، ويعمل له ما أستعمله فيه (٦) .

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ

__________________

(١-٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٤.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٠١.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٤.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٣.

٥٨٢

يَخْتَصِمُونَ * قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ

 اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ

 أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٥) و (٤٧)

ثمّ حكى سبحانه لطفه بصالح بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى﴾ قبيلة ﴿ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً﴾ وكان ما ارسل به ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ ولا تعبدوا غيره ، فآمن به جمع منهم ﴿فَإِذا هُمْ﴾ بعد هذه الدعوة ﴿فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ ويجادلون في صدق نبوته ودعواه التوحيد وكذبهما ﴿قالَ﴾ صالح - للفرقة المكذّبة القائلين له : ﴿ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(١) - : ﴿يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ وتطلبون سرعة نزول العقوبة عليكم ﴿قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ والتوبة ﴿لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ﴾ وهلّا تتوبون إليه قبل نزول العذاب ؟ ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ بقبولها وصرفه عنكم ، كيلا تعذّبون بل تنعمون.

قيل : إنّهم كانوا يقولون من جهلهم وغوايتهم : إن أتيتنا بما تعدنا من العذاب تبنا حينئذ وإلّا فنحن على ما كنا عليه (٢) ، فوبّخهم صالح على هذا القول ، وحثّهم على استعجال التوبة.

وقيل : إنّ المعنى لم تسألون البلاء والعقوبة قبل سؤال العافية والرحمة ، ولم لا تقدّمون طلب الرحمة على طلب العقوبة (٣) .

ثمّ إنّهم بعد دعوة صالح بألطف بيان ونصحه لهم بأبلغ وجه ، عارضوه بأسوأ قول حيث ﴿قالُوا﴾ في جوابه : يا صالح إنا ﴿اطَّيَّرْنا﴾ وتشاء منا ﴿بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ﴾ من المؤمنين حيث تتابعت علينا بعد دعوتك وإيمانهم بك الشدائد والبلايا.

قيل : أنّهم قحطوا فقالوا : أصابنا هذا الشرّ من شؤمك وشؤم أصحابك (٤)﴿قالَ﴾ صالح : ﴿طائِرُكُمْ﴾ وما جاء به الشرّ إليكم كائن ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ وسابق في علمه ، أو مكتوب في اللّوح المحفوظ ، وهو تقديره وإرادته ، أو عملكم الذي هو محفوظ عنده.

ثمّ أضرب عليه‌السلام عن إسناد شرّهم إلى الطائر الذي هو السبب لابتلائهم إلى الإسناد إلى الحكمة الداعية له بقوله : ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ بالبلايا وتختبرون بإنزال الشرور عليكم ، ليتّضح أنّكم ترتدعون عن الكفر والمعاصي أم لا ، و تنصرّفون عن قبائح الأعمال أم تديمون عليها ؟ أو المراد بل أنتم قوم تعذّبون على معاصيكم ، أو أنتم قوم تقعون في الفتنة بوسوسة الشيطان.

__________________

(١) العنكبوت : ٢٩ / ٢٩.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٩٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٥.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٥.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٦.

٥٨٣

﴿وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قالُوا

 تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا

 لَصادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ

 عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا

 إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٤٨) و (٥٣)

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم بعد إساءتهم القول أساءوا في معاملتهم معه بقوله : ﴿وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ التي فيها صالح من أرض الحجر ﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ وجماعة أو أشخاص ، كانت أسماؤهم على ما قيل : هذيل بن عبد الرب ، وغنم بن غنم ، وياب بن مهرج ، ومصدع بن مهرج ، وعمير بن كردية ، وعاصم بن مخزمة ، وسبيط بن صدقة ، وسمعان بن صفي ، وقدار بن سالف ، وهو رئيسهم (١) .

وقيل : قدار بن سالف ، ومصدع بن دهر ، وأسلم ، ورهمي ، ورهيم ، ودعمي ودعيم ، وقبال ، وصداف ، وكانوا عتاة القوم وأبناء أشرافهم (٢) .

وهم ﴿يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ التي سكنوها بالاشتغال بالمعاصي وإشاعة الكفر ﴿وَلا يُصْلِحُونَ﴾ أمرا من الامور ، ولا يمزجون شرّهم بشيء من الخير ، وفسادهم بشيء من الصلاح ، وكان من إفسادهم المحض أن ﴿قالُوا﴾ في أثناء مشاورتهم في أمر صالح حال كونهم ﴿تَقاسَمُوا﴾ وتحالفوا ﴿بِاللهِ﴾ على نحو معتبر عندهم : ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ ولنهاجمنّ عليه في الليل بغتة ولنقتلنّه ﴿وَأَهْلَهُ﴾ ومن معه ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ﴾ ووارث دمه إذا سئلنا عن قاتله : ﴿ما شَهِدْنا﴾ وما حضرنا مهلك صالح و﴿مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ ومقتلهم ، أو هلاكهم وقتلهم حتى تعرف قاتلهم ﴿وَإِنَّا لَصادِقُونَ﴾ فيما نقول من عدم حضورنا في ذلك المكان فضلا عن التولي له.

﴿وَمَكَرُوا﴾ في قتل صالح ﴿مَكْراً﴾ ضعيفا ، واحتالوا حيلة هيّنة بهذه المواضعة ﴿وَمَكَرْنا﴾ في إهلاكهم ﴿مَكْراً﴾ عجيبا ، ودبّرنا تدبيرا متينا بجعل مواضعتهم سببا لهلاكهم ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ بذلك.

روي أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه ، فلمّا وعدهم بعد عقرهم الناقة بالعذاب إلى ثلاثة أيام ، قالوا : زعم صالح أنّه يفرغ منّا إلى ثلاث ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فخرجوا إلى الشّعب ليقتلوه إذا جاء للصلاة ثمّ يرجعوا إلى أهله فيقتلوهم ، فبعث الله صخرة

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٦.

٥٨٤

من جبالهم ، فبادروا فطبقت عليهم في الشّعب ، فهلكوا ثمّة وهلك الباقون في أماكنهم بالصيحة (١) .

وعن ابن عباس : أنّه كان لصالح مسجد في غار يجيئه في الليل ويصلّي فيه ، فقالت التسعة : إنّ صالحا وعدنا العذاب بعد ثلاثة أيام ، ونحن نقتله قبلها ، فجاءوا أول الليل إلى باب الغار ، فكمنوا له وسلّوا سيوفهم كي يقتلوه إذا جاء ، فأرسل الله ملائكة ، فاهبطوا على رأس كلّ واحد حجرا ، وقتلوا جميعهم (٢) .

وفي رواية : أنّهم دخلوا الغار ، فأنزل الله صخرة من الجبل ، ووقعت في باب الغار فسدّه فهلكوا(٣).

وعن مقاتل : أنّهم انتظروا صالحا في أصل الجبل ، فانحطّ عليهم الجبل فهلكوا (٤) .

والقمي : فأتوا صالحا ليلا ليقتلوه ، وعند صالح ملائكة يحرسونه ، فلمّا أتوا قاتلهم - أو قتلهم (٥) - الملائكة في دار صالح رجما بالحجارة ، فأصبحوا في داره مقتولين ، فأخذت (٦) قومه الرجفة فأصبحوا في دارهم (٧) جاثمين (٨) .

﴿فَانْظُرْ﴾ يا محمد ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾ وهي ﴿أَنَّا دَمَّرْناهُمْ﴾ وأهلكناهم ﴿وَقَوْمَهُمْ﴾ الذين لم يكونوا معهم في التثبيت ﴿أَجْمَعِينَ﴾ بحيث لم يبق منهم أحد ﴿فَتِلْكَ﴾ البيوت الخربة التي تمرّون عليها في أسفاركم ﴿بُيُوتُهُمْ﴾ حال كونها ﴿خاوِيَةً﴾ وخالية ، أو ساقطة ومنهدمة ﴿بِما ظَلَمُوا﴾ على أنفسهم بالكفر والطغيان ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ التدمير العجيب ﴿لَآيَةً﴾ وعبرة عظيمة كافية ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ذلك فيتّعظون به ﴿وَأَنْجَيْنَا﴾ من العذاب ومجاورة العتاة صالحا و﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما آمن به ﴿وَكانُوا يَتَّقُونَ﴾ الله ، أو يحترزون من الكفر والعصيان.

قيل : هم أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت (٩) .

﴿وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ

 شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٤) و (٥٥)

ثمّ ذكر سبحانه تفضّله على لوط بانجائه من قومه والعذاب النازل عليهم بقوله : ﴿وَلُوطاً﴾ والتقدير : وأرسلنا أو أذكر يا محمّد لوطا ﴿إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ﴾ إنكارا عليهم وتوبيخا لهم : ﴿أَ تَأْتُونَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٠.

(٢) تفسير الكشاف ٣ : ٣٧٣.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٧.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٣٥٥.

(٥) في تفسيري القمي والصافي : أتوه قاتلتهم.

(٦) في تفسير القمي : مقتلين وصبحت ، وفي تفسير الصافي : مقتلين وأخذت.

(٧) في تفسير القمي : ديارهم.

(٨) تفسير القمي ٢ : ١٣٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٠.

(٩) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٨.

٥٨٥

وترتكبون ﴿الْفاحِشَةَ﴾ والفعلة الشنيعة في الغاية ﴿وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ فحشه وشدّة قبحه ، وتعلمون غاية شناعته ؟ ! ومن الواضح أنّ ارتكاب القبيح من العالم بقبحه أقبح ، أو تبصرون عمله فيما بينكم ، وتعلنون به بلا تخفّ وتستّر ، أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم من العذاب.

ثمّ بيّن الفاحشة بقوله : ﴿أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ﴾ في أدبارهم لتقضوا ﴿شَهْوَةً﴾ حيوانية ﴿مِنْ دُونِ النِّساءِ﴾ ومتجاوزين عنهنّ مع كونهنّ محالّ الشهوة ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ سوء عاقبة عملكم ، أو كالذين تجهلون قباحة هذا العمل ، لكونكم غير عاملين بعلمكم ، أو قوم سفهاء لا تميّزون بين حسن الفعل وقبحه.

﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ

 يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ * وَأَمْطَرْنا

 عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٦) و (٥٨)

ثمّ بيّن سبحانه غاية جهلهم بقوله : ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ﴾ له بعد إبلاغه في نصحهم شيء ﴿إِلَّا أَنْ قالُوا :﴾ يا قوم ﴿أَخْرِجُوا﴾ لوطا و﴿آلَ لُوطٍ﴾ ومن تبعه ﴿مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ وبلدكم ، وهي بلدة سدوم ﴿إِنَّهُمْ أُناسٌ﴾ وجماعة ﴿يَتَطَهَّرُونَ﴾ بأنفسهم من دنس الفحش باعتقادهم ، ويتنزّهون عن فعلنا القبيح.

عن ابن عباس : أنّه [ على ] طريق الاستهزاء بلوط (١) .

﴿فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ﴾ وأقاربه من العذاب بأمرهم بالخروج من القرية وقت نزوله ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾ وزوجته الكافرة المسمّاة بواهلة على ما قيل (٢) ، فانّا ﴿قَدَّرْناها﴾ وقضينا كونها ﴿مِنَ الْغابِرِينَ﴾ والباقين في البلدة ، أو في العذاب مع القوم ﴿وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ﴾ بعد خروج لوط وأهله من بينهم وقلب قريتهم ، أو على من كان منهم في الأسفار ﴿مَطَراً﴾ عجيبا غير الأمطار المعتادة ﴿فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾ والكفّار المتوعّدين بالعذاب ؛ لأنّه كان من حجارة من سجّيل ، وهو أفضع العذاب ، كما أنّ اللّواط أفحش الفواحش.

﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ

 خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٩٢ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٩.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٩.

٥٨٦

بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٥٦) و (٦٠)

ثمّ لمّا كان إهلاك أعداء الله نعمة على أوليائه ، أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشّكر عليه بقوله : ﴿قُلِ﴾ يا محمّد : ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على نعمه التي منها إهلاك أعدائه ﴿وَسَلامٌ﴾ وعافية دائمة من كلّ آفة دينية ودنيوية ﴿عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى﴾ هم وخصّهم بالعصمة من كلّ سوء ، والطهارة من كلّ رجس.

وقيل : إنّه تعالى لمّا بيّن ابتلاء امم الماضين بالعذاب ، وكان من النعم على خاتمهم رفع عذاب الاستئصال عن امّته ببركته وحرمته ، أمره بالحمد له والدعاء للأنبياء الذين صبروا على مشاقّ الرسالة (١) ، أو لمّا كان اطّلاعه صلى‌الله‌عليه‌وآله على قصص الأنبياء الماضين التي تكون من الأخبار الغيبية وفيها الآيات والحكم الكثيرة من النّعم العظيمة عليه ، أمره بالحمد عليها والدعاء بالسلامة لامّته (٢) .

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته وحكمته ، وغاية تفضّله على أوليائه وغضبه على أعدائه ، شرع في تقريع العابدين للأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع بقوله : ﴿آللهُ﴾ الذي بيده كلّ خير ﴿خَيْرٌ﴾ للعبادة ﴿أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ به من الأصنام والأوثان التي لا يترتّب على عبادتها فائدة.

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا تلا هذه الآية قال : « بل الله خير وأبقى وأجلّ وأكرم » (٣) .

ثمّ أخذ سبحانه في بيان خيراته وعظائم نعمه الدالة على وحدانيته واستحقاقه للعبادة بقوله : ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ والأجرام العلوية والسفلية التي هي اصول الكائنات ومبادي جميع الخيرات والبركات ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ نافعا بنحو الأمطار.

ثمّ عدل سبحانه عن الغيبة إلى التكلّم لتأكيد الاختصاص بقوله : ﴿فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ﴾ وبساتين ﴿ذاتَ بَهْجَةٍ﴾ وغضارة وحسن لون ومنظرة.

ثمّ نبّه سبحانه على تفرّده بهذه القدرة الكاملة التي خلق بها السماوات والأرض ، وجعل السماء محلا للماء ، والأرض محلا للنبات ، وأنبت بالماء الحدائق التي لها بهاء ورونق بقوله : ﴿ما كانَ﴾ وما استقام ﴿لَكُمْ﴾ مع عقلكم وقوّتكم وتدبيركم ﴿أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها﴾ وإلّا ما كنتم محتاجين إلى الغرس وتحمّل كلفة السقي وغيره ممّا له دخل في نمو الشجر والمصابرة على ظهور الثمر ، فكيف بغيركم من الجمادات ، ومع ذلك أتقولون ﴿أَ إِلهٌ﴾ ومعبود آخر مشارك ﴿مَعَ اللهِ﴾ العظيم القادر على كلّ شيء في الالوهية ، لا يقول ذلك عاقل ﴿بَلْ﴾ المشركون ﴿هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ ويميلون بجهلهم من التوحيد إلى الشّرك ، أو يسوون لسفههم مع الله غيره.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٠٥.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٩٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٠٥ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٦٠.

٥٨٧

﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ

 الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١)

ثمّ أضرب سبحانه عمّا ذكر من التبكيت إلى التبكيت بوجه آخر بقوله : ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ﴾ للانسان وغيره من الحيوانات ﴿قَراراً﴾ ومستقرا بإخراج بعضها من الماء وتسويتهما حسبما تدور عليه منافعهم ﴿وَجَعَلَ﴾ بلطفه ﴿خِلالَها﴾ وفي فرجها ، أو في أوساطها ﴿أَنْهاراً﴾ جارية تنتفعون بها ﴿وَجَعَلَ لَها﴾ جبالا ﴿رَواسِيَ﴾ وثوابت تمنعها من الاضطراب والانقلاب بأهلها ، وتتكون فيها المعادن ، وتنبع منها الينابيع ، وتتعلق بها مصالح لا تحصى ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ﴾ العذب والمالح ، أو بحر فارس والروم ﴿حاجِزاً﴾ مانعا من المخالطة والامتزاج ، فمع ما ترون من قدرته الكاملة ﴿أَ﴾ تقولون : ﴿إِلهٌ مَعَ اللهِ﴾ يشاركه في استحقاق العبادة ؟ ! ﴿بَلْ﴾ المشركون ﴿أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ الحجج والبراهين على التوحيد ، ولا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشّرك مع كمال وضوحه.

﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ

 مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ

 الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٢) و (٦٣)

ثمّ أضرب سبحانه عن تبكيت المشركين بنعمه العامة لجميع الموجودات وانتقل إلى تبكيتهم بشدّة حاجة الخلق إليه بقوله : ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ﴾ ويستجيب دعاء المبتلى بالضيق والشدة مع عدم ملجأ له ولا حيلة ﴿إِذا دَعاهُ﴾ وسأله كشف ضرّه ورفع شدّته وتضرّع إليه ؟ ﴿وَ﴾ من ﴿يَكْشِفُ﴾ عن عباده ﴿السُّوءَ﴾ ويدفع عنهم المكروه كالمرض والفقر والغرق بالشّفاء والغنى والنجاة ، وإن لم يدعوه ؟ ﴿وَ﴾ من ﴿يَجْعَلُكُمْ﴾ بعد إهلاك الامم الماضين ﴿خُلَفاءَ﴾ هم في ﴿الْأَرْضِ﴾ وساكنين في مساكنهم ، ومتصرّفين فيها بعد موتهم مع ذلك ؟ ﴿أَ﴾ تقولون : ﴿إِلهٌ﴾ آخر ﴿مَعَ اللهِ﴾ المنعم عليكم بتلك النّعم الجسام ﴿قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ﴾ آلائه ، وتتوجّهون إلى نعمائه ، أو تتنبّهون للحقّ مع غاية الوضوح.

وقيل : إنّ المراد من القليل العدم (١) .

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « نزلت في القائم من آل محمّد ، هو والله المضطرّ إذا صلّى في المقام

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ١٨١ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٩٥ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٦٣.

٥٨٨

ركعتين ، ودعا الله عزوجل أجابه (١) ، ويكشف السوء ، ويجعله خليفة في الأرض » (٢) .

أقول : يعني أنّه أظهر مصاديق المضطّر ، لا أنّ المراد شخصه فقط ، ثمّ أضرب سبحانه عمّا ذكر إلى التبكيت بذكر نعمة اخرى بقوله : ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ﴾ ويرشدكم إلى الطريق مع كونكم ﴿فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ بالنجوم في السماء وعلامات الطريق في الأرض ؟

وقيل : اريد من الظلمات مشتبهات الطرق (٣)﴿وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ﴾ لتكون ﴿بُشْراً﴾ ومبشّرات ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ؟﴾ وقيل : إنزاله المطر (٤) الذي به حياة الأرض وما فيها مع الوصف.

﴿أَ﴾ تقولون : ﴿إِلهٌ مَعَ اللهِ﴾ يقدر على مثل ذلك ؟ ! ﴿تَعالَى اللهُ﴾ العظيم القدير الحكيم ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ به من الجمادات التي هي أعجز مخلوقاته.

﴿أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ

 هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

 الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ

 فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٤) و (٦٦)

ثمّ أضرب سبحانه من النّعم المذكورة إلى ذكر أصل النّعم الدنيوية والاخروية ، وهو نعمة الايجاد في الدنيا والاعادة في الآخرة بقوله : ﴿أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ﴾ في هذا العالم ويجر من كتم العدم إلى الوجود في الدنيا ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ ويوجده ثانيا في الآخرة بعد إماتته في الدنيا.

ثمّ لمّا كانت نعمة الوجود لا تتمّ إلّا بالبقاء المتوقّف على إيصال ما يحتاج بقاؤهم إليه ، أردفه بذكره بقوله : ﴿وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ﴾ ويوصل إليكم جميع ما يتوقّف عليه بقاؤكم عليه ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ بالأمطار ﴿وَ﴾ من ﴿الْأَرْضِ﴾ بالإنبات ، ومع ذلك ﴿أَ﴾ تقولون ﴿إِلهٌ﴾ آخر يكون ﴿مَعَ اللهِ﴾ ويشاركه في الالوهية واستحقاق العبادة ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، للمشركين هذه المذكورات براهيننا على مدّعانا من التوحيد ، وأنتم ﴿هاتُوا بُرْهانَكُمْ﴾ على أنّ مع الله آلهة اخرى ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في دعواكم.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اختصاصه بالقدرة الكاملة ، بيّن اختصاصه بالعلم غير المتناهي بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ﴿لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ﴾ من الملائكة ﴿وَ﴾ من في ﴿الْأَرْضِ﴾ من الإنس والجنّ

__________________

(١) في تفسير الصافي : فأجابه.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٢٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٧١.

(٣) تفسير البيضاوي ٢ : ١٨١ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٩٥ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٦٣.

(٤) تفسير البيضاوي ٢ : ١٨١ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٦٣.

٥٨٩

﴿الْغَيْبَ﴾ وما لا يدركه الحواسّ ﴿إِلَّا اللهُ﴾ قيل : إنّ الاستثناء منقطع ، والمعنى لكنّه تعالى يعلمه (١).

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه أخبر يوما ببعض الامور التي لم تأت بعد ، فقيل له : أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ؟ فضحك وقال : « ليس هو بعلم غيب ، إنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب علم الساعة وما عدّده الله سبحانه بقوله ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ الآية ، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر وانثى ، وقبيح أو جميل ، وسخيّ أو بخيل وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون للنار خطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلّا الله ، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيه فعلّمنيه ، ودعا لي أن يعيه صدري وتضطمّ عليه جوانحي » (٢) .

وأمّا غيره من الانس والجنّ لا يعلمون ﴿وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ من القبور ، وأيّ وقت ينشرون للحساب ، فانّه من علم الغيب الذي اختصّ بذاته تعالى ﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾ وتكامل واستحكم ﴿عِلْمُهُمْ﴾ بتكامل أسبابه من الدلائل والحجج ﴿فِي﴾ شأن ﴿الْآخِرَةِ﴾ وتمكّنوا من معرفتها ، ومع ذلك لمّا لم يتفكّروا فيها جهلوا بوقوعها.

وقيل : يعني انتهى علمهم وانتفى إدراكهم بلحوقها فجهلوا بها (٣) .

وعن ابن عباس : أن وصفهم باستحكام العلم بالآخرة على سبيل التهكّم والاستهزاء (٤) .

﴿بَلِ﴾ المشركون ﴿هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها﴾ ثمّ أضرب سبحانه عن كونهم شاكّين إلى بيان كونهم في أقطع حال من الشكّ بقوله : ﴿بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ﴾ وفاقدو البصيرة بحيث لا يكادون يدركون دلائلها.

﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنا هذا

 نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ

 فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ

 مِمَّا يَمْكُرُونَ (٦٧) و (٧٠)

ثمّ حكى سبحانه مقالتهم في المعاد الدالة على عميهم منه بقوله : ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من مشركي مكّة : ﴿أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ﴾ كان ﴿آباؤُنا﴾ أيضا ترابا ﴿أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ﴾ من القبور أحياء ؟ ! وإنّما كرّروا الاستفهام الانكاري مبالغة في الإنكار.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٦٤.

(٢) نهج البلاغة : ١٨٦ الخطبة ١٢٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٢ ، وفي النسخة وتفسير الصافي : وتضم عليه جوارحي.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٦٥.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٢١٢ ، وتفسير البيضاوي ٢ : ١٨١ ، ولم ينسب إلى ابن عباس.

٥٩٠

ثمّ حكى استدلالهم على بطلان القول به بقوله : ﴿لَقَدْ وُعِدْنا هذا﴾ الإخراج والحشر والنشر ﴿نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ﴾ وزمان ظهور محمد ، ولم نر أحدا منهم خرج من قبره ، فلذا ﴿إِنْ هذا﴾ الوعد ، وما هو ﴿إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وخرافات السابقين.

ثمّ أمر سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتهديدهم بما نزل على أضرابهم من مكذّبي الرسل بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمّد : ﴿سِيرُوا﴾ أيّها المشركون وسافروا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ التي كانت مسكن مكذّبي الرسل ، كأرض الحجر والأحقاف وسدوم وغيرها ﴿فَانْظُرُوا﴾ بنظر الاعتبار ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ أمر ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾ ومآل المكذّبين للرسل ، فانّ عاقبتهم التالية الهلاك بالعذاب.

ثمّ سلّى نبيه بقوله : ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ إن أصرّوا على التكذيب ، أو ابتلوا بالعذاب.

ثمّ قوّى قلبه الشريف في تبليغ الرسالة بقوله : ﴿وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ﴾ وحرج وخوف ﴿مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ ويحتالون في قتلك ويدبّرون في إهلاكك ، فانّا كافلوك وناصروك.

﴿وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ

 بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا

 يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧١) و (٧٤)

ثمّ حكى سبحانه استهزاءهم بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين في وعدهم بالعذاب بقوله : ﴿وَيَقُولُونَ﴾ استهزاء : ﴿مَتى هذَا الْوَعْدُ﴾ الذي تعدوننا ؟ وفي أيّ وقت ينزل العذاب الذي تخوّفوننا به ؟ عيّنوه لنا ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في وعدكم به ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، ﴿عَسى﴾ وقرب ﴿أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ﴾ ولحقكم ﴿بَعْضُ﴾ العذاب ﴿الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ وهو عذاب يوم بدر ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ﴾ وإنعام ﴿عَلَى﴾ كافة ﴿النَّاسِ﴾ بتأخير عقوبتهم على الكفر والعصيان ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ لا يعرفون هذه النّعمة ، ولذا ﴿لا يَشْكُرُونَ﴾ بل لجهلهم يستعجلونه.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ تأخير عذابهم ليس لجهله تعالى بأعمالهم بقوله : ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ﴾ وتستر ﴿صُدُورُهُمْ﴾ من النيّات والدواعي ﴿وَما يُعْلِنُونَ﴾ ويظهرون من الأقوال والأفعال من عداوة الرسول واستهزائهم به وتكذيبهم له فيعاقبهم أشدّ العذاب.

﴿وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ * إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ

 عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ

 لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٥) و (٧٧)

٥٩١

ثمّ قرّر سبحانه سعة علمه بقوله : ﴿وَما مِنْ غائِبَةٍ﴾ وأمر خفيّ غاية الخفاء ﴿فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا﴾ وهو مكشوف عنده ، ومكتوب ﴿فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾ واللوح المحفوظ الظاهر للناظرين فيه من الأنبياء الصالحين والملائكة المقرّبين.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده وسعة قدرته وعلمه المستلزمة للمعاد ، شرع في إثبات نبوة نبيه باعجاز القرآن بقوله : ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ﴾ الذي جاء به محمد الامّي الذي لم يخالط عالما ، ولم يستفد من أحد العلماء ، ولم يقرأ كتابا ﴿يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ ويبيّن لهم ﴿أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ كشأن عيسى وعزير ، والمعارف الالهية من التشبيه والتنزيه ، وأحوال المعاد والجنّة والنار ، وقصص الأنبياء وغيرها ، حتى لعن بعضهم بعضا ، ﴿وَإِنَّهُ﴾ بفصاحته وبلاغته البالغتين حدّ الإعجاز ، ومطابقة ما فيه من المعارف والأحكام للعقول السليمة ، وخلوّة من التناقض والتهافت ﴿لَهُدىً﴾ ورشاد إلى نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر العقائد الحقّة ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ ووسيلة للفوز إلى السعادة الأبدية والمقامات العالية ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ.

﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى

 الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا

 مُدْبِرِينَ * وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا

 فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٧٨) و (٨١)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر اختلاف الناس ، بين أنّه مع إنزاله القرآن الرافع للاختلاف ، يكون هو الحاكم بينهم يوم القيامة بقوله : ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ حين حضور المصيب والمخطئ عنده يوم القيامة ﴿يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ﴾ العدل وفصله الحقّ ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ القادر على إنفاذ حكمه من غير مدافع ومزاحم و﴿الْعَلِيمُ﴾ بكلّ شيء ، ومنه الحقّ الذي اختلفوا فيه ، فلا تكن من اختلافهم في تعب ، فاذا كان ربّك قادرا على حفظك عالما بحالك ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ وفوّض أمرك إليه ، ولا تبال بهم ، ولا تلتفت إلى اختلافهم ﴿إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ والدين الواضح صحّته ، ومن المعلوم أنّ من هو على الحقّ حقيق بنصر الله.

ثمّ ذمّ سبحانه المخالفين له ، المصرّين على الكفر والباطل ، وقطع طمعه عن هدايتهم وإيمانهم ، إراحة لقلبه الشريف من تعب اجتهاده في دعوتهم بقوله : ﴿إِنَّكَ﴾ لا تقدر على هداية هؤلاء الكفرة ؛ لأنّهم بمنزلة الموتى ، لسقوط قلوبهم عن قابلية الانتفاع بالآيات واستماع الدلائل والبراهين والاتّعاظ

٥٩٢

بالمواعظ ، وأنت ﴿لا تُسْمِعُ الْمَوْتى﴾ ولا يمكنك تفهيمهم الحكم والحقائق ، وهم بمنزلة الصمّ ﴿وَ﴾ أنت ﴿لا تُسْمِعُ الصُّمَ﴾ والأشخاص الفاقدين لقوّة السمع ﴿الدُّعاءَ﴾ والنداء فضلا عن الآيات القرآنية سيما ﴿إِذا وَلَّوْا﴾ وأعرضوا عنك حال كونهم ﴿مُدْبِرِينَ﴾ وجاعلين ظهورهم نحوك ، فانّ الصّمّ إذا كانوا مقبلين ومتوجّهين نحو الداعي والمتكلّم ، فانّهم بمقابلة صماخهم وقربهم منه لعلّهم يسمعون أو برؤية حركات وجهه وشفتيه لعلّهم يفهمون ، وأمّا إذا كانوا منصرفين عن الداعي ، ومخلّفين له وراء ظهورهم وبعيدين منه ، لا يرجى منهم السمع والفهم ، وهم بمنزلة العمي الذين ضلّوا الطريق ﴿وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ﴾ هداية نافعة ﴿عَنْ ضَلالَتِهِمْ﴾ في الطريق ، لأن الأعمى الضالّ إذا قيل له هذا الطريق لا يراه ولا يهتدي إليه ، بل ﴿إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ﴾ سلم قلبه عن العناد واللّجاج ، فانّه سبق في علمنا أنّه ﴿يُؤْمِنُ بِآياتِنا﴾ لطيب طينته وسلامة قلبه من الأمراض المانعة عن الايمان كالحسد والعناد واللّجاج وحبّ الرئاسة والدنيا ، وغلبة عقله على شهوته وهوى نفسه ﴿فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ومنقادون لما سمعوا من الحقّ ، ومخلصون في الايمان.

﴿وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ

كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢)

ثمّ هدّد سبحانه هؤلاء الكفّار بأهوال قبل القيامة بقوله : ﴿وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ﴾ وقرب العذاب الموعود إليهم ودنا نزوله ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بظهور أمارات القيامة ووقت إنجاز الوعيد ﴿أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ.

قيل : هي دابة طولها ستون ذراعا (١) .

وقيل : يبلغ رأسها السّحاب ، وما بين قرنيها فرسخ للراكب ، ولها أربع قوائم وزغب وريش [ وجناحان ] ، ورأسها رأس الثور ، وعينها عين خنزير ، واذنها اذن فيل ، ولها قرن إيل ، وصدر أسد ، ولون نمر ، وخاصرة بقرة ، وذنب كبش ، وخفّ بعير ، تخرج من المسجد الحرام من بين الرّكن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ، أو من الصفا ، ومدّة خروجها ثلاثة أيام (٢) .

وقيل : إنّها جمعت خلق كلّ حيوان ، ولها وجه الآدميين مضيء (٣) ، ومعها خاتم سليمان ، وعصى موسى ، يراها أهل المشرق والمغرب (٤) ، وهم ينظرون وهي ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ بالعربيّ الفصيح ، أو مع كلّ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٢١٧ ، تفسير البيضاوي ٢ : ١٨٣ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٧٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٢١٧.

(٣) في تفسير روح البيان : مضيئة.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٧٢.

٥٩٣

طائفة بلسانهم ، وتقول من قبل الله : ﴿أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا﴾ الناطقة بمجيء الساعة ويوم الجزاء ﴿لا يُوقِنُونَ﴾ بل فيها يشكّون.

وفي الخبر : بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون ، إذ تضطرب الأرض تحتهم وتتحرّك تحرّك القنديل ، فينشقّ جبل الصفا ممّا يلي المسعى ، فتخرج الدابّة منه كما خرجت ناقة صالح من الصخرة ، ولا يتمّ خروجها إلّا بعد ثلاثة أيام ، فقوم يقفون نظّارا ، وقوم يفزعون إلى الصلاة ، فتقول للمصلّي : طوّل ما طوّلت ، فو الله لأحطّمنّك ، فتخرج ومعها عصى موسى وخاتم سليمان فتضرب المؤمن في مسجده بالعصا فيظهر أثره كالنّقطة ، فينبسط نوره على وجهه ، ويكتب على جبهته : هو مؤمن ، وتختم الكافر في أنفه بالخاتم ، فتظهر نكتة فتقشو حتى يسودّ لها وجهه ، ويكتب بين عينيه : هو كافر ، ثمّ تقول لهم : أنت يا فلان من أهل الجنّة ، وأنت يا فلان من أهل النار (١) ، ولم يبق في الدنيا إلّا من ابيضّ وجهه.

وفي الحديث : أنّ خروج الدابة وطلوع الشمس من المغرب متقاربان (٢) .

قيل : إنّه أوّل أشراط الساعة (٣) . وقيل : إنّه آخرها (٤) .

ونسب بعض علماء العامة إلى محدّثيهم أنّ بني الأصفر - وهم الأفرنج - إذا خرجوا وظهروا إلى الأعماق في ستّ سنين يظهر المهدي عليه‌السلام في السنة السابعة ، ثم يظهر الدجّال ، ثمّ ينزل عيسى عليه‌السلام ، ثمّ تخرج دابة الأرض ، ثمّ تطلع الشمس من المغرب ، وقالوا : إذا خرجت الدابة حبست الحفظة ، ورفعت الأقلام ، وشهدت الأجساد على الأعمال (٥) .

أقول : كل ذلك بروايات العامة ، وأما الروايات الخاصة ، فعن القميّ ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه ، فحرّكه برجله ، ثمّ قال له : قم يا دابة الأرض (٦) ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله ، يسمّي بعضنا بعضا بهذا الاسم ؟ ! فقال : لا والله ، ما هو إلّا له خاصة ، وهو الذي ذكره (٧) الله في كتابه ، فقال عزوجل : ﴿وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا﴾ الآية ، ثمّ قال : يا علي ، إذا كان في (٨) آخر الزمان ، أخرجك الله في أحسن صورة ، ومعك ميسم تسم به أعداءك » .

فقال رجل لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن العامّة (٩) يقولون : إنّ هذه الدابة تكلمهم ؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام :

__________________

(١-٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٧٢.

(٤و٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣٧٢.

(٦) في المصدر : دابة الله.

(٧) في المصدر : وهو الدابة التي ذكر ، وفي تفسير الصافي : وهو الدابة الذي ذكره.

(٨) في ليست في المصدر وتفسير الصافي.

(٩) ليس في المصدر : الناس.

٥٩٤

« كلمهم الله في نار جهنّم ، إنّما هو تكلّمهم من الكلام » (١) .

أقول : الظاهر أنّه نسب إلى العامة القول بأنّ يكلمهم من الكلم بمعنى الجرح (٢) ، فردّه عليه‌السلام.

وعنه عليه‌السلام أنّه قال : « [ قال : ] رجل لعمار بن ياسر : يا أبا اليقظان ، آية في كتاب الله قد أفسدت قلبي ؟ فقال : وأيّة آية هي ؟ قال : قوله عزوجل : ﴿وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾ الآية. فأيّة دابة (٣) هي ؟ فقال عمار : والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى اريكها ، فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يأكل تمرا وزبدا ، فقال [ له ] : يا أبا اليقظان هلمّ ، فأقبل عمّار وجلس يأكل معه ، فتعجّب الرجل منه ، فلمّا قام عمّار قال [ له ] الرجل : سبحان الله ! إنّك حلفت أن لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس حتى تريني الدابة ! قال عمار : قد أريتكها إن كنت تعقل (٤) .

وروى العياشي هذه القصة عن أبي ذرّ (٥) ، وعن الباقر عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ولقد اعطيت الستّ : علم المنايا والبلايا ، والوصايا ، وفصل الخطاب ، وإنّي لصاحب الكرّات ودولة الدول ، وإنّي لصاحب العصا والميسم ، والدابة التي تكلّم الناس » (٦) .

وفي ( الاكمال ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام - في حديث بعد أن ذكر الدجّال وقاتله - قال : « ألا إنّ بعد ذلك الطامّة الكبرى. فقيل : وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : خروج دابة الأرض من عند الصفا ، ومعها خاتم سليمان وعصا موسى ، تضع الخاتم على وجه كلّ مؤمن فينطبع فيه : هذا مؤمن حقا ، وتضع العصا (٧) على وجه كلّ كافر فيكتب : هذا كافر حقا ، حتى إنّ المؤمن لينادي : الويل لك يا كافر ، وإنّ الكافر ينادي : طوبى لك يا مؤمن ، وددت أنّي كنت مثلك ، فأفوز فوزا عظيما ، وترفع الدابة رأسها [ فيراها ] من بين الخافقين باذن الله جلّ جلاله ، وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها ، فعند ذلك ترفع التوبة ، فلا تقبل توبة وعمل (٨) ، ولا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.

ثمّ قال عليه‌السلام : لا تسألوني عمّا يكون بعد هذا ، فانّه عهد إليّ حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا اخبر به غير عترتي » (٩) .

وفي ( المجمع ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « دابة الأرض طولها ستون ذراعا ، لا يدركها طالب ، ولا يفوتها هارب ، فتسم المؤمن بين عينيه [ ويكتب بين عينيه ] مؤمن ، وتسم الكافر بين عينيه [ ويكتب بين

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٣٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٢١٨ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٣٠٢.

(٣) في النسخة : آية.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٣١ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٤.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٣٦٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٥.

(٦) الكافي ١ : ١٥٤ / ٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٥.

(٧) في المصدر : ويضعه ، وفي تفسير الصافي : وتضعه.

(٨) في المصدر : فلا توبة تقبل ولا عمل يرفع.

(٩) كمال الدين : ٥٢٧ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٥.

٥٩٥

عينيه ] كافر ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا ، وتختم أنف الكافر بالخاتم حتى يقال : يا مؤمن ويا كافر » (١) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن الدابة ، فقال : « أما والله لا يكون لها ذنب ، وإنّ لها للحية » (٢) .

﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذا

 جاؤُ قالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ

 الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٣) و (٨٥)

ثمّ ذكر سبحانه بعض أهوال يوم القيامة بقوله : ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ﴾ والتقدير اذكروا ، أو اذكر يا محمّد لقومك يوم نحشر ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾ من امم الرسل ، أو كلّ قرن من القرون ﴿فَوْجاً﴾ وجمعا كثيرا ﴿مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا﴾ ودلائل توحيدنا ورسالة رسلنا ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ ويحبسون كي يلحق بهم أسافلهم التابعون.

عن ابن عباس ، قال : أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة ، يساقون بين يدي أهل مكّة ، وهكذا تحشر قادة سائر الامم بين أيديهم إلى النار (٣) .

وقيل : إنّ المراد بالفوج الذين يرجعون إلى الدنيا بعد قيام القائم ﴿حَتَّى إِذا جاؤُ﴾ إلى موقف السؤال والحساب أو التوبيخ (٤)﴿قالَ﴾ الله أو الملك من قبله تعالى توبيخا لهم : ﴿أَ كَذَّبْتُمْ﴾ في الدنيا ، أو في زمان حياتكم ﴿بِآياتِي﴾ الدالة على توحيدي والناطقة بلقاء يومكم هذا ﴿وَ﴾ أنتم ﴿لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً﴾ ولم تنظروا فيها نظرا يؤدّي إلى معرفة حقيقتها وصدقها. ويحتمل أن تكون الواو للعطف لا للحال ، والمعنى : جمعتم بين تكذيبها وعدم التفكّر والتدبّر فيها ﴿أَمَّا ذا كُنْتُمْ﴾ بعد ترك التفكّر فيها ، أو عدم الاعتناء بها ﴿تَعْمَلُونَ﴾ وبأيّ شيء بعد ذلك كنتم تشتغلون غير الكفر والتكذيب والعصيان ؟ فلا يمكنهم إلّا الإقرار بأنّهم ما فعلوا إلّا ذلك.

وعن الصادق عليه‌السلام - في الحديث الذي مضى في تفسير دابّة الأرض - أنّه قال : « والدليل على أنّ هذا في الرجعة : [ قوله ] : ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾ الآية » . وقال : « الآيات أمير المؤمنين والائمّة عليهم‌السلام » (٥) .

أقول : والمعنى على هذا : أنّه يحشر مكذّبو الائمة في الرجعة ، ويحييهم ثانيا ، ويوبّخهم بلسان

__________________

(١و٢) مجمع البيان ٧ : ٣٦٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٥.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ٣٠٢ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٧٣.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٧٣.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١٣٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٦.

٥٩٦

ملك ، ويقول : إنّي نصبت لكم أئمة ليهدوكم ، أكذبتموهم ولم تتفكّروا في دليل امامتهم ؟ ! ﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾ وحلّ العذاب بهم ﴿بِما ظَلَمُوا﴾ به أنفسهم من التكذيب بالآيات ﴿فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ﴾ ولا يقدرون على التكلّم بالعذر وغيره ، لشدة هول ما يشاهدون من أنواع العذاب ، أو للختم على أفواههم.

﴿أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ

 يُؤْمِنُونَ * وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ

 مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٦) و (٨٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد إرعابهم بذكر أهوال القيامة ، بيّن دليلا قاطعا على التوحيد والمعاد بقوله : ﴿أَ لَمْ يَرَوْا﴾ هؤلاء المشركون المنكرون للمعاد ببصيرة قلوبهم ﴿أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ﴾ المظلم ﴿لِيَسْكُنُوا﴾ عن الحركة ويستريحوا ﴿فِيهِ﴾ من التعب بالنوم والقرار ﴿وَالنَّهارَ مُبْصِراً﴾ ومضيئا ليبصروا فيه طرق التقلّب في معاشهم ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من جعل الليل والنهار كما وصفا ﴿لَآياتٍ﴾ عظيمة وبراهين واضحة على التوحيد والمعاد ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ فانّ من كان قدرته وحكمته بحيث يقلّب الليل والنهار ، ويعقب النور بالظلمة وبالعكس ، كان متوحدا بالالوهية ، وقادرا على تقليب الحياة إلى الموت ، والموت إلى الحياة مع اقتضاء الحكمة ذلك.

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان أهوال القيامة ازديادا لإرعاب القلوب بقوله : ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ﴾ النفخة الاولى أو الثانية ﴿فِي الصُّورِ﴾ والقرن الذي بيد إسرافيل ، وهو نافخه مرة للموت واخرى للحشر ﴿فَفَزِعَ﴾ وخاف من هول صوته خوفا موجبا للنّفار ﴿مَنْ فِي السَّماواتِ﴾ السبع من الملائكة ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الجنّ والإنس ﴿إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ﴾ ثبات قلبه وعدم فزعه ، وهم الملائكة أو ساداتهم كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، أو خزنة الجنّة والنار ، أو خصوص إسرافيل ، أو الحور العين أو الحور وخزنة جهنم ، أو حملة العرش.

وعن جابر : أنّ موسى منهم حيث صعق مرّة (١) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّهم الشهداء » (٢) .

﴿وَكُلٌ﴾ منهم ﴿أَتَوْهُ﴾ وحضروا بعد النفخة الثانية في الموقف حال كونهم ﴿داخِرِينَ﴾ وذليلين

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢٠.

(٢) تفسير الطبري ٢٠ : ١٣ ، تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢٠ ، نسبه إلى القيل ، مجمع البيان ٧ : ٣٧٠.

٥٩٧

للسؤال والحساب ، وإنّما عبّر سبحانه عن الفزع والإتيان بصيغة الماضي للدلالة على تحقّق وقوعهما ، وقد مرّ كيفية بيان الصّور ، والنّفخ فيه ، وعدد النّفخ ، والفصل بين النفختين (١) .

﴿وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ

 كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨)

ثمّ ذكر سبحانه من أهوال القيامة حال الجبال بقوله : ﴿وَتَرَى﴾ أيّها الرائي ﴿الْجِبالَ﴾ يومئذ حال كونك ﴿تَحْسَبُها﴾ وتتوهّمها ﴿جامِدَةً﴾ وساكنة في اماكنها ﴿وَهِيَ﴾ في ذلك الوقت ﴿تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ﴾ وتسير كسيره في السرعة ، فانّ الجسم العظيم إذا تحرّك حركة سريعة على نهج واحد في السّمت والكيفية ، ظنّ الناظر أنّه واقف ، مع أنّه متحرّك في غاية السرعة ، وكذا الشيء العظيم الذي لا يحيط بأطرافه البصر ، إذا سار لا يحسّ الناظر سيره ، ويتوهمه واقفا ، وذلك يكون عند النفخة الثانية حين تبدّل الأرض غير الأرض ، وتغيّر هيئتها ، وتسيّر (٢) الجبال عن مقارّها.

وعن بعض العامة ، عن الصادق عليه‌السلام - في تأويل الآية - قال : « وترى الأنفس جامدة عند خروج الرّوح ، والروح تسير (٣) في القدس لتأوي إلى مكانها تحت العرش » (٤) .

ثمّ نبّه سبحانه على عظم شأن تلك الأفعال ، وتهويل أمرها ، وكونها من بدائع صنعه المبنية على الحكمة البالغة المستتبعة للغايات الجميلة التي رتّبت لأجلها مقدّمات الخلق ومبادي الإبداع على الوجه المتقن المستحكم بقوله : ﴿صُنْعَ اللهِ﴾ وفعله الجيّد غايته ﴿الَّذِي أَتْقَنَ﴾ وأحكم ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ خلقه ، وسوّاه على ما ينبغي ، ثم علّل النفخ والبعث وسائر أهوال القيامة بقوله : ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿خَبِيرٌ﴾ وعالم ﴿بِما تَفْعَلُونَ﴾ من الطاعة والعصيان ، فيجازيكم عليه بما تستحقّون.

﴿مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ

 فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٩ و) (٩٠)

ثمّ بيّن حال المطيعين والعاصين في ذلك اليوم بقوله : ﴿مَنْ جاءَ﴾ في ذلك اليوم ﴿بِالْحَسَنَةِ﴾ والامور الحميدة من العقائد الصحيحة والطاعات الخالصة ﴿فَلَهُ﴾ من الثواب ما هو ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل ﴿مِنْها﴾ فانّ تجلّياته تعالى في الجنّة أفضل من معرفته له تعالى في الدنيا ، ونعمه الأبدية خير من

__________________

(١) تقدم ذكر الصّور في الأنعام / ٧٣ والكهف / ٩٩ وطه / ١٠٢ والمؤمنون / ٢٣.

(٢) في النسخة : وسير.

(٣) في تفسير روح البيان : تسري.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٧٦.

٥٩٨

طاعاته في الدنيا.

وقيل : يعني له خير حاصل من جهتها (١) .

﴿وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ﴾ عظيم يكون لأهل العصيان ﴿يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ ومأمونون لا يرعبهم بعد الفزع من نفخ الصّور شيء من أهوال الموقف التي هي الفزع الأكبر ﴿وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ من الشّرك والكفر ، وما هو بمنزلته من إنكار الولاية ﴿فَكُبَّتْ﴾ واسقطت منكوسة (٢)﴿وُجُوهُهُمْ﴾ أو المعنى القوا على وجوههم ﴿فِي النَّارِ.﴾ وقيل : إنّ المراد بالوجوه أبدانهم (٣) . ثمّ يقال لهم توبيخا : ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ﴾ اليوم ﴿إِلَّا ما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ من الشرك ، والعقائد الفاسدة ، والأعمال الشنيعة.

في الحديث : « إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان والشّرك يجثوان بين يدي الربّ تعالى ، فيقول الله تعالى للايمان : انطلق أنت وأهلك إلى الجنّة ويقول للشّرك : أنطلق أنت وأهلك إلى النار » . ثمّ قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ إلى قوله : ﴿فِي النَّارِ(٤) .

وروى بعض العامة عن أبي عبد الله الجدلي قال : دخلت على أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : « يا أبا عبد الله ، ألا انبّئك بالحسنة التي من جاء بها أدخله الله الجنة ، والسيئة التي من جاء بها أكبّه الله في النار ولم يقبل معها عملا ؟ » قلت : بلى. قال : « الحسنة حبنّا ، والسيئة بغضنا » (٥) .

وعن الصادق ، عن أبيه ، عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام - في هذه الآية - قال : « الحسنة معرفة الولاية وحبّنا أهل البيت ، والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت » ثمّ قرأ الآية (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام - في قوله تعالى : ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً﴾ - قال : « من تولّى الأوصياء من آل محمّد واتّبع آثارهم ، فذاك يزيده ولاية من مضى من النبيين والمؤمنين الأولين حتى تصل ولايتهم إلى آدم عليه‌السلام ، وهو قوله تعالى : ﴿مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها﴾ يدخله الجنة » (٧) .

وعنه عليه‌السلام - في هذه الآية - قال : « الحسنة ولاية عليّ وحبّه ، والسيئة عداوته وبغضه ، ولا يرفع معهما عمل » (٨) .

﴿إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ

 أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ

 وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢١.

(٢) في النسخة : منكوسا.

(٣ - ٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣٧٧.

(٦) الكافي ١ : ١٤٢ / ١٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٨.

(٧) الكافي ٨ : ٣٧٩ / ٥٧٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٨.

(٨) روضة الواعظين : ١٠٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٨.

٥٩٩

فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩١) و (٩٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد الاحتجاج على التوحيد وإبلاغ البيان فيه ، ختم الكلام بأمر نبيّه بإظهار التزام نفسه به ، قبلوا قوله وحججه أوّلا ، قطعا لطمع المشركين من أن يميل عليه‌السلام إلى دينهم ، وإظهارا لعدم المبالاة بلجاجهم وعنادهم بقوله : ﴿إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ التي هي أحبّ البلاد لديّ وأكرمها وأعظمها عندي وعند ربّي ﴿الَّذِي حَرَّمَها﴾ وجعلها لمن دخلها ، وممنوعة من أن تهتك حرمتها ، ويعضد شجرها (١) ، وينفّر صيدها ، ومن المعلوم أنّ ذلك كلّه من نعم ربّي عليّ وعليكم ، وليس إضافتها إليه لاختصاص ربوبيته بها ، بل ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ من هذه البلدة وغيرها من الموجودات ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ والمنقادين له ، والمطيعين لأحكامه ، أو من الثابتين على دينه ﴿وَ﴾ امرت ﴿أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ﴾ الذي أنزله عليّ ، وإن تجحدونه أنّه منه ، وتنسبونه إلى السّحر مرة ، وإلى الشعر اخرى ، وإلى الكهانة ثالثة ، وإلى الأساطير رابعة ﴿فَمَنِ اهْتَدى﴾ إلى التوحيد ودين الاسلام والسعادة الأبدية بهدايته وإرشادك ﴿فَإِنَّما يَهْتَدِي﴾ إلى كلّ خير عائد ﴿لِنَفْسِهِ﴾ لا يتعدّى إلى غيره ﴿وَمَنْ ضَلَ﴾ بمخالفتك عن الصراط المستقيم ، وانحرف عن الطريق القويم ﴿فَقُلْ﴾ له : ليس عليّ وبال ضلالك و﴿إِنَّما أَنَا﴾ منذر ﴿مَنْ﴾ جملة ﴿الْمُنْذِرِينَ﴾ ورسول من الرسل ليس عليّ إلّا الإنذار والتبليغ ، وقد أدّيت ما عليّ ، وخرجت عن عهدة ما كلّفت به ، وعليكم الاهتداء والايمان ، وبقي ما عليكم والله مجازيكم عليه.

ثمّ لمّا بيّن وظيفته وهو التبليغ ، وخروجه من عهدتها ، وبراءته من وبال مخالفة أمّته ، أمره الله سبحانه بالشكر على نعمه عليه بقوله : ﴿وَقُلِ﴾ يا محمد ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على إكمال نعمه عليّ من العلم والحكمة والنبوة والكتاب ، وتوفيقه للقيام بوظيفة الرسالة وتحمّل أعباء النبوة ، وأمّا أنتم يا مشركي قريش ، فاعلمكم أنّ الله المنتقم ﴿سَيُرِيكُمْ﴾ في الدنيا أو الآخرة ﴿آياتِهِ﴾ القاهرة وعقوباته الشديدة ﴿فَتَعْرِفُونَها﴾ حين لا ينفعكم معرفتها ، وتقرّون بها حين لا يفيدكم الإقرار.

القميّ ، قال : الآيات أمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام إذا رجعوا إلى الدنيا يعرفهم أعداؤهم إذا رأوهم في الدنيا (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : « والله ما لله آية أكبر مني » (٣) .

قال مقاتل : يعني سيريكم آياته عن قريب من الأيام ، فطوبى لمن رجع قبل وفاته ، والويل على من

__________________

(١) يعضد شجرها : أي يقطع.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٣٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٣٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٩.

٦٠٠