نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

﴿إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ

 لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها

 وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧) و (٨)

ثمّ شرع سبحانه في بيان قصة موسى عليه‌السلام بقوله : ﴿إِذْ قالَ﴾ والتقدير اذكر يا محمّد إذ قال. وقيل : إنّ كلمة ( إذ ) متعلّقة بعليم (١) . والمعنى عليم بمقال موسى عليه‌السلام ﴿إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ﴾ وزوجته بنت شعيب وأولاده حين رجوعه من مدين إلى مصر. وقد ضلّوا الطريق في الليلة المظلمة الباردة : يا أهلي ، قفوا مكانكم ﴿إِنِّي آنَسْتُ﴾ وأبصرت من البعيد ﴿ناراً﴾ مشتعلة اريد أن أذهب إليها ، ولا يخلو ذهابي من أحد الأمرين : إما ﴿سَآتِيكُمْ مِنْها﴾ ومن الذين حولها ﴿بِخَبَرٍ﴾ عن حال الطريق ﴿أَوْ آتِيكُمْ﴾ منها ﴿بِشِهابٍ قَبَسٍ﴾ وشعلة مأخوذة من تلك النار ، إن لم أجد عندها أحدا ﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ وتدفعون بحرّها عن أنفسكم البرد ، وإنما وعدهم بأحد الأمرين لقوّة رجائه بأنّه إن لم يظفر بكليهما يظفر بأحدهما ، لأنّه لا يجمع الله بين الحرمانين على عبده.

قيل : لم يكن معه إلّا زوجته ، فكنّى سبحانه عنها بالأهل ، ثمّ أتى بضمائر الجمع تبعا له (٢) .

وقيل : لمّا أقام زوجته عند جماعة كانوا هناك لتأنس بهم ، خاطبهم بضمائر الجمع.

وعلى أي تقدير خلّف أهله وذهب إلى النار ﴿فَلَمَّا جاءَها﴾ وقرب منها رأى شجرة مخضرة عليها نار لا تحرقها ولا تحرق أوراقها ، فعجب من ذلك ثمّ همّ أن يأخذ منها ، فلمّا رفع عصاه إلى رأس الشجرة نزلت إلى أصلها ، فلمّا أراد أن يأخذ من أصلها علت على الشجرة ، فبقي متفكّرا في أمرها ، فإذن ﴿نُودِيَ﴾ من الشجرة. وقيل له بصوت عال : ﴿أَنْ بُورِكَ﴾ وكثر خير ﴿مَنْ فِي﴾ البقعة المباركة التي هي مكان ﴿النَّارِ﴾ التي على الشجرة ﴿وَمَنْ حَوْلَها﴾ من أراضي الشام التي هي مبعث أنبياء الله ومحلّ أحيائهم وأمواتهم ومهبط الوحي إليهم (٣) .

عن ابن عباس : المعنى تبارك من في النور وهو الله ، ومن حولها يعني الملائكة (٤) .

أقول : لا بدّ من حمل كلامه على إرادة أنّ كلامه تعالى أو قدرته أو سلطانه أو عظمته في النّار ، وقيل : إنّ المراد ممّن في النار ، هو موسى عليه‌السلام وحده (٥) . أو هو وجميع من كان في تلك البقعة ، ومن قوله

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ١٧١.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٨١.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٧٣ و٢٧٤ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٢١.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ١٨٢.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٨٢ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٣٧٤.

٥٦١

﴿وَمَنْ حَوْلَها﴾ كلّ من كان في أرض الشام (١) .

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن الحاجة إلى المكان والعوارض الامكانية بقوله : ﴿وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ دفعا لتوهّم التشبيه من سماع كلامه ، أو تعجيبا من عظمة ذلك الأمر.

﴿يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ

 وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلاَّ

 مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩) و (١١)

ثم أعلم أنّ في ابتداء خطاب الله لموسى عليه‌السلام عند مجيئه بشارة له بأنّه قد قضي له أمر عظيم تنتشر منه البركة في أرض الشام ، وهو رسالته وظهور معجزاته ، وفي تنزيه ذاته وتوصيفه بالربوبية تمهيد مقدمة لصحّة رسالة موسى ، وأنّها من شؤون ربوبيته للعوالم ، ومن جلائل الامور وعظائم الوقائع.

ثمّ أنّه روي أن موسى عليه‌السلام لمّا سمع النداء قال : من المنادي ؟ فناداه الله ثانيا بقوله : ﴿يا مُوسى إِنَّهُ﴾ الشأن أو المنادى ﴿أَنَا اللهُ﴾ ثمّ عرف نفسه بقوله : ﴿الْعَزِيزُ﴾ القويّ القادر على ما لا تناله الأوهام والعقول من خوارق العادات ﴿الْحَكِيمُ﴾ في فعاله.

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف ذاته بالوصفين تمهيدا لاظهار إرادة إيجاد المعجز على يديه قال له : ﴿وَأَلْقِ﴾ من يدك ﴿عَصاكَ﴾ فألقاها بلا ريث فانقلبت حية عظيمة تسعى ﴿فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ﴾ وتتحرّك بسرعة ﴿كَأَنَّها جَانٌ﴾ أو حية صغيرة في سرعة الحركة والالتواء ﴿وَلَّى﴾ منه ﴿مُدْبِراً﴾ وفرّ معقّبا ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ ولم يرجع إليه بعد ما فرّ منه. قيل : كان عند فرعون ثعبان وفي الطّور جان (٢) ، فنودي ﴿يا مُوسى﴾ ثق بي و﴿لا تَخَفْ﴾ من غيري ﴿إِنِّي﴾ إله ﴿لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ قيل : يعني حين نزول الوحي لاستغراقهم في مطالعة شؤون الله ، فانّهم حينئذ لا يخطر ببالهم الخوف ، وأما في سائر الاوقات هم أخوف الناس منه تعالى (٣) .

أو المراد أنه لا يكون لهم سوء العاقبة فيخافون منه (٤) ، وإنما يخاف غيرهم من الظالمين ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ منهم نفسه بارتكاب عمل سوء وترك الاولى ﴿ثُمَّ بَدَّلَ﴾ وصيّر عمله ﴿حُسْناً﴾ بالتوبة والتدارك ﴿بَعْدَ﴾ كونه عمل ﴿سُوءٍ﴾ وعصيان في حقّه ، فانّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ﴿فَإِنِّي﴾ بعد التوبة والتدارك ﴿غَفُورٌ﴾ للتائبين ﴿رَحِيمٌ﴾ بالمؤمنين.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٣٧٤.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٧٤ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٢٢.

(٣و٤) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٧٤ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٢٣.

٥٦٢

وقيل : إن الاستثناء منقطع ، والمعنى ولكن من ظلم نفسه من المرسلين بارتكاب ما هو ذنب بالنسبة إليه من الترك للأولى ، كآدم الذي قال : ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا(١) وداود ، وسليمان ، وموسى حيث قال : ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي(٢) وإنّما حسن هذا الاستثناء للتعريض بما وجد من موسى عليه‌السلام من قتل القبطي بغير إذن من الله ، أو للاعلان بسعة رحمته للمذنبين.

﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ

 وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ * فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ

 مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ

 الْمُفْسِدِينَ (١٢) و (١٤)

ثمّ أراه المعجزة الاخرى بقوله : ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ قيل : لم يقل في كمّك ؛ لأنّه كان عليه جبّة صغيرة من صوف لا كمّ لها ، كان يلبسها بدل القميص (٣) ، فامر بإدخال يده فيها ، ثمّ كأنه قال : فان أدخلت يدك فيها ﴿تَخْرُجْ﴾ منها حال كونها ﴿بَيْضاءَ﴾ براقة لها شعاع كشعاع الشمس ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ وآفة فيها من برص ونحوه.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « من غير برص » (٤) .

فهذان الآيتان ﴿فِي﴾ جملة ﴿تِسْعِ آياتٍ﴾ التي أعطيكها ، وقيل : إنّ كلمة ( في ) بمعنى ( مع ) (٥) والمعنى : اذهب مع تسع آيات معهودة من العصا ، واليد البيضاء ، والجدب ، والطّوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، والطّمس ﴿إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ﴾ القبطيين داعيا لهم إلى توحيدي وطاعتي ﴿إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ﴾ وخارجين عن الحدّ في الكفر والطّغيان.

ثمّ بيّن سبحانه كثرة شقاوتهم بقوله : ﴿فَلَمَّا جاءَتْهُمْ﴾ توسّط موسى عليه‌السلام ﴿آياتُنا﴾ التسع حال كونها ﴿مُبْصِرَةً﴾ مستنيرة واضحة الدلالة مفرطة في الإنارة ووضوح الدلالة بحيث كادت أن تبصر نفسها لو كانت قابلة للإبصار ﴿قالُوا﴾ عنادا وشقاقا : ﴿هذا﴾ الذي جاء به موسى ﴿سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ وشعبذة ظاهرة لكلّ أحد ﴿وَجَحَدُوا بِها﴾ وأنكروا كونها آيات إلهية ومعجزات باهرة بألسنتهم ﴿وَ﴾ الحال أنّه قد ﴿اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ﴾ وعرفوا إعجازها بقلوبهم ، وإنما كان جحودهم بها

__________________

(١) الأعراف : ٧ / ٢٣.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٣٢٣ ، والآية من سورة القصص : ٢٨ / ١٦.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٢٤.

(٤) معاني الأخبار : ١٧٣ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٩.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٣٣٢.

٥٦٣

﴿ظُلْماً﴾ على أنفسهم ﴿وَعُلُوًّا﴾ وطلبا للرفعة بين الناس ، أو استكبارا من الايمان بموسى عليه‌السلام.

قيل : كان ظهور استيقانهم من استغاثتهم بموسى عليه‌السلام عند نزول كلّ آية في كشفها فكشفها عنهم (١) .

﴿فَانْظُرْ﴾ يا نبي الرحمة ، أو أيّها الناظر العاقل ﴿كَيْفَ كانَ﴾ وإلى ما صار ﴿عاقِبَةُ﴾ أمر ﴿الْمُفْسِدِينَ﴾ في الأرض ، وما كان نتيجة إفسادهم ، كان إغراقهم في الدنيا في الماء ، وإحراقهم في الآخرة بالنار.

﴿وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ

 عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تفضّله على موسى عليه‌السلام بإعطائه الآيات التسع ، وتخصيصه بمناجاته معه ، ذكر تفضّله على داود وسليمان بالعلم بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً﴾ شريفا عزيزا لائقا بهما ، وهي معرفة كاملة بربّهما وبحقائق الأشياء وبالأحكام الشرعية ، فشكرا ذلك ﴿وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا﴾ بما آتانا من العلم ﴿عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين هم أفضل مخلوقاته.

أقول : فيه دلالة واضحة على كون العلم أفضل الكمالات الدنيوية والاخروية.

﴿وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ

 شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦)

ثمّ شرع سبحانه في بيان ما خصّ به سليمان من الفضائل والنّعم بقوله : ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمانُ﴾ أباه ﴿داوُدَ﴾ ماله وملكه ونبوّته. وقال بعض مفسري العامة : المراد إرث المال (٢) . وعن بعضهم : إرث الملك والسياسة (٣) . وعن الحسن وكثير منهم : إرث المال والملك ، وهو مروي عن أهل البيت عليهم‌السلام (٤) ، ولا يردّه الحديث الموضوع « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة » كما زعمه الفخر الرازي (٥) وغيره من العامة (٦) ، بل تردّ الآية الرواية المذكورة ، لكونها مخالفة لكتاب الله ، كما استدلّت فاطمة عليها‌السلام على بطلان الرواية بهذه الآية ونظائرها (٧) . نعم يمكن إرادة المال والملك والنبوّة كما فسرّناها أولا بطريق عموم المجاز.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٢٤.

(٢و٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١٨٦.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٣٣٤.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٨٦.

(٦) تفسير القرطبي ١٣ : ١٦٤.

(٧) راجع : بلاغات النساء : ٢٦ ، الطرائف : ٢٦٥ ، كشف الغمة ١ : ٤٨٨ ، الاحتجاج : ١٠٢.

٥٦٤

ويؤيده ما روي عن الجواد عليه‌السلام من أنّه قيل له : إنّهم يقولون في حداثة سنّك ؟ فقال : « إنّ الله تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان عليهما‌السلام وهو صبي يرعى الغنم ، فأنكر ذلك عبّاد بني إسرائيل وعلمائهم ، فأوحى الله إلى داود عليه‌السلام أن خذ عصيّ المتكلّمين وعصا سليمان واجعلها في بيت واختم عليها بخواتيم القوم ، فاذا كان من الغد فمن كانت عصاه قد أورقت وأثمرت فهو الخليفة ، فأخبرهم داود عليه‌السلام فقالوا : قد رضينا وسلّمنا » الخبر (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « يعني الملك والنبوّة » (٢) وعلى أي تقدير جلس سليمان بعد أبيه على سرير الملك ﴿وَقالَ﴾ تحديثا بنعمة الله وفضله عليه ودعوة إلى تصديق نبوته ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ اعلموا أنّا ﴿عُلِّمْنا﴾ من قبل الله والهمنا ﴿مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ وفهم مراداتهم من أصواتهم التي يصوّتون بها لتفهيم أغراضهم.

ثم بعد حديثه بنعمة علمه بمنطق الطير حدّث بعلمه لمنطق الحيوانات وسائر ما تفضل الله عليه بقوله : ﴿وَأُوتِينا﴾ واعطينا حظّا وافرا ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ كالملك والنبوّة والكتاب وتسخير الرياح والجنّ والشياطين ومنطق الدوابّ وعين القطر (٣) والصّفر وغير ذلك ﴿إِنَّ هذا﴾ المذكور من العلوم والنّعم ﴿لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ والعطاء الجسيم والمزيّة الظاهرة التي لا يشاركنا فيها أحد.

قيل : اعطي سليمان جميع ما اعطي داود ، وزيد له تسخير الجنّ والريح ومنطق (٤) الطير ، ولمّا تولّى الملك جاءه جميع الحيوانات يهنّئونه إلّا نملة واحدة ، فجاءت تعزّية فعاتبها النمل في ذلك ، فقالت :

كيف اهنّئه وقد علمت أنّ الله إذا أحبّ عبدا زوى عنه الدنيا وحبّب إليه الآخرة ، وقد شغل سليمان بأمر لا يدرى [ ما ] عاقبته ، فهو بالتعزية أولى » (٥) .

عن الصادق عليه‌السلام : « اعطي سليمان بن داود مع علمه معرفة المنطق بكلّ لسان (٦) ، ومنطق الطير والبهائم والسّباع ، وكان إذا شاهد الحروب تكلّم بالفارسية ، وإذا قعد لعماله وجنوده وأهل مملكته تكلّم بالرومية ، وإذا خلا بنسائه تكلّم بالسريانية والنبطية ، وإذا قام في محرابه لمناجاة ربه تكلّم بالعربية ، وإذا جلس للوفود والخصماء تكلّم بالعبرانية » (٧) .

أقول : الحقّ أنه عليه‌السلام كان يتكلّم مع أهل كلّ لسان بلسانهم ، وإنّما أتى في كلامه بنون الواحد المطاع لقضاء صلاح الملك إظهار عظمته ونفوذ سلطانه.

__________________

(١) الكافي ١ : ٣١٤ / ٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٠.

(٢) جوامع الجامع : ٣٣٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٠.

(٣) القطر : النحاس.

(٤) في تفسير روح البيان : وفهم نطق.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣١.

(٦) زاد في تفسيري القمي والصافي : ومعرفة اللغات.

(٧) تفسير القمي ٢ : ١٢٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٠.

٥٦٥

﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذا

 أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ

 سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ

 أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً

 تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ * وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ

 لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (١٧) و (٢٠)

ثمّ حكى سبحانه عظمة ملكه بقوله : ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ﴾ وجمع من أطراف مملكته عسكره ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ﴾ واحضروا عنده ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ ويكفّون عن الخروج عن طاعته ويحبسون عليها ، أو يمنعون من تقدّم بعض على بعض ليكون سيره على ترتيب واحد ، أو يوقفون في مكان واحد ويمنعون عن التفرّق.

روي أنّ معسكره كان مائة فرسخ في مائه ، خمسة وعشرون منه للإنس ، وخمسة وعشرون للجنّ ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش ، وقد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه ، وهو من الذهب فيقعد عليه ، وحوله ستمائة ألف كرسيّ من ذهب وفضّة ، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجنّ والشياطين ، وتظلّه الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع الريح (١) البساط فتسير به مسيرة شهر (٢) ،

فسار سليمان عليه‌السلام وجنوده يوما على البساط ﴿حَتَّى إِذا أَتَوْا﴾ وأشرفوا ﴿عَلى وادِ النَّمْلِ﴾ أو بلغوا آخره. قيل : هو بالشام (٣) . وقيل : بالطائف كثير النّمل (٤) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أن لله واديا ينبت الذهب والفضّة ، وقد حماه الله بأضعف خلقه وهو النمل ، لو رامته البخاتي (٥) ما قدرت عليه » (٦) .

ثمّ قيل : إنّهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي ومنتهاه (٧) ، إذن ﴿قالَتْ نَمْلَةٌ﴾ حين ما رأتهم متوجّهين إليهم ، قاصدين للنزول قريبا منهم : ﴿يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾ لأجل أن ﴿لا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ ولا يقتلنّكم بأرجلهم ﴿سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ﴾ إذا نزلوا بواديكم ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ أنّهم

__________________

(١) في تفسير روح البيان : وترفع ريح الصبا.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٢.

(٣و٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٣.

(٥) زاد في تفسير القمي : من الإبل ، والبخاتيّ ، جمع بختي : وهي الإبل الخراسانية.

(٦) تفسير القمي ٢ : ١٢٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٢.

(٧) تفسير الرازي ٢٤ : ١٨٧ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٣.

٥٦٦

يحطمونكم. وقيل : يعني لا يحطمنّكم جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ (١) .

قيل : إنّها كانت نملة عرجاء في عظم الدّيك ، أو النّعجة ، أو الذئب ، لها جناحان ، وكانت ملكة النّمل ، وكان اسمها منذرة أو طاخية أو جرمي ، سميّت بهذا الاسم في التوراة ، أو الانجيل ، أو في بعض الكتب السماوية (٢) ، سمّاها الله تعالى بهذا الاسم وعرفها به الأنبياء قبل سليمان (٣) .

روي أنّ سليمان يأمر الريح العاصف بحمله (٤) ، ويأمر الرّخاء بسيره (٥) ، فأوحى الله تعالى إليه وهو يسير بين السماء والأرض : أنّي قد زدت في ملكك أن لا يتكلم بشيء إلّا ألقته الريح في سمعك فألقت الريح كلام النّملة في سمع سليمان من ثلاثة أميال (٦)﴿فَتَبَسَّمَ﴾ سليمان حال كونه ﴿ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها﴾ متعجبا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى مصالح بني نوعها.

روي أنّه عليه‌السلام لمّا سمع قول النملة قال : ائتوني بها ، فأتوا بها ، فقال لها : أما علمت أن جندي لا يظلمون ؟ قالت : بلى ، ولكن لمّا كنت أميرهم كان عليّ نصحهم. فقال سليمان : إنّ جندي كانوا يسيرون في الهواء ، فكيف كانوا يحطمونكم ؟ قالت : ما أردت حطمهم في الأرض ، بل أردت أن لا ينظروا إلى سلطانك وحشمتك ، فيشغلهم ذلك عن ذكر الله ، فيحطمهم الخذلان فتقبل قلوبهم إلى الدنيا ، والدنيا مبغوضة عند الله. فقال سليمان : صدقت. فقالت : أعلمت لم سمّي أبوك داود ؟ قال : لا قالت : لأنّه داوى جراحة قلبه بالودّ ، وهل تدري لم سمّيت سليمان ؟ قال : لا. قالت : لأنك سليم الصدر والقلب (٧) .

وعن الرضا عليه‌السلام ، أنّه قال : « قالت النملة : ﴿يا أَيُّهَا النَّمْلُ﴾ الآية ، حملت الريح صوت النملة إلى سليمان عليه‌السلام ، وهو (٨) [ مارّ ] في الهواء ، والريح قد حملته ، فوقف وقال : عليّ بالنملة ، فلمّا اتي بها قال سليمان : [ يا ] أيّتها النملة ، أما علمت أنّي نبيّ الله ، وأنّي لا أظلم أحدا ؟ قالت النملة : بلى. قال سليمان عليه‌السلام : فلم تحذرينهم ظلمي وقلت : يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم ؟ قالت النملة : خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيعبدوا غير (٩) الله عزوجل.

ثمّ قالت النملة : أنت أكبر أم أبوك داود ؟ قال سليمان : [ بل ] أبي داود. قالت النملة : فلم زيد في حروف اسمك حرف على حروف اسم ابيك ؟ قال سليمان : ما لي بهذا علم. قالت النملة : لأنّ أباك

__________________

(١) جوامع الجامع : ٣٣٦.

(٢) في تفسير روح البيان : الصحف الالهية.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٣.

(٤) في تفسير روح البيان : تحمله.

(٥) في تفسير روح البيان : تسيره.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٢.

(٧) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٤.

(٨) زاد في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ، وتفسير الصافي : مارّ.

(٩) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : فيبعدون عن ذكر.

٥٦٧

داوي جرحه بودّ فسمّي داود ، وأنت يا سليمان أرجو أن تلحق بأبيك.

ثمّ قالت النملة : هل تدري لم سخّرت لك الريح (١) ؟ قال سليمان : ما لي بهذا علم ، قالت النملة : يعني عزوجل بذلك لو سخرت لك [ جميع المملكة كما سخرت لك ] هذه الريح لكان زوالها من يدك كزوال الريح. فحينئذ تبسّم ضاحكا من قولها » (٢) .

وروى أنه عليه‌السلام قال لها : كم عدد جندك ؟ قالت : إن لي أربعين ألف أمير ، تحت كلّ أمير أربعون ألف نقيب ، تحت كلّ نقيب أربعون ألف نملة. قال : لم لم تسكني أنت وجندك فوق الأرض ؟ قالت : اخترنا تحت الأرض لأن لا يطلّع على حالنا غير الله.

ثمّ قالت النملة : يا نبي الله أخبرني عن عطية من عطايا ربّك قال : إنّ الله سخّر لي الريح ، فتحمل بساطي وتسير به إلى أي مكان اريد. قالت : أتدري حكمة ذلك ؟ قال : لا. قالت : أراد الله أن ينبّهك بأن ملك الدنيا كالريح تجيء سريعا وتذهب سريعا ، فمن اعتمد على الدنيا فكأنّما اعتمد على الريح ، فعند ذلك ناجى سليمان ربه (٣)﴿وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ وأحبسني على ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ﴾ من العلم والنبوّة والملك والعدل وفهم منطق الطير والحشرات وسائر الحيوانات ونحوها ﴿وَعَلى والِدَيَ﴾ داود وتيشائع بنت البائن (٤)﴿وَ﴾ على ﴿أَنْ أَعْمَلَ﴾ عملا ﴿صالِحاً﴾ وحسنا ﴿تَرْضاهُ﴾ وتقبله منّي إتماما للشكر واستدامة للنعمة ﴿وَأَدْخِلْنِي﴾ الجنة بعد ما قبضتني إليك ﴿بِرَحْمَتِكَ﴾ وفضلك ﴿فِي﴾ زمرة ﴿عِبادِكَ الصَّالِحِينَ.

عن ابن عباس : أراد من الصالحين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وسائر الأنبياء (٥) .

وقيل : إن المعنى اجعلني أزع شكر نعمتك عندي ، وأكفه وأربطه بحيث لا ينفلت عنّي ولا أنفكّ عنه أصلا (٦) .

وفي الحديث : « النعمة وحشية ، قيّدوها بالشّكر » (٧) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفّروا أقصاها بقلّة الشكر » انتهى (٨) .

وإنّما شكر على النعم التي أنعم الله بها على والديه ، لأنّ النعمة على الوالدين نعمة على الولد ، فانّ

__________________

(١) زاد في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام وتفسير الصافي : من بين سائر المملكة.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٧٨ / ٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٢.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٤.

(٤) في تفسير روح البيان ٦ : ( ٣٣٥ : بتشايع بنت اليائن.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٣٣٦.

(٦) تفسير البيضاوي ٢ : ١٧٣ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٧٩ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٥.

(٧و٨) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٥.

٥٦٨

شرافة الوالدين موجبة لشرافة الولد ، لكونه فرعا للأصل الكريم ، وأمّا النّعم التي أنعم الله بها على داود فهي النبوة ، والملك ، وخلافة الله في الأرض ، وتسبيح الجبال والطير معه ، وحسن الصوت ، وإلانة الحديد في يده ، وتعليمه صنعة اللبوس ، وإنزال الزّبور عليه ، وأمّا النعمة على والدته فهي تزويجها من داود بعد أن كانت زوج أوريا ، وإسلامها ، وتزكيتها ، وطهارتها.

ثمّ قيل : إنّ سليمان كان إذا قعد على الكرسي جاءت جميع الطيور التي سخّرها الله له فتظلّ الكرسيّ والبساط وجميع من عليه من حرّ الشمس (١) .

قيل : إنّه عليه‌السلام قعد يوما على كرسيه ، فوقع الشمس ، في حجره ، فرفع رأسه (٢) .

﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ وتعرّف أحوالها وتصفحها ، فلم ير الهدهد فيما بينها ، وكان رئيس الهداهد على ما قيل (٣)﴿فَقالَ﴾ لحاضري مجلسه : ﴿ما لِيَ﴾ وأيّ حال عرض لي فصار (٤) سببا لأن ﴿لا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ في مكانه ؟ أساتر بيني وبينه يمنعني من رؤيته ؟ ﴿أَمْ كانَ﴾ اليوم ﴿مِنَ﴾ جملة ﴿الْغائِبِينَ﴾ عن محضري ؟

قيل : خرج سليمان عليه‌السلام من مكة عند طلوع الشمس متوجّها إلى اليمن ، وكان بينهما مسيرة شهر ، فسار حتى أتى إلى واد كثير الأشجار حسن الهواء ، فنزل لأن يتغدّى فيه ، فجاء وقت الصلاة ، فأراد أن يتوضّأ فلم يجد ماء ، وكان الهدهد دليل الماء ، فطلبه فلم يجده (٥) .

وعن العياشي أنه قال أبو حنيفة لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف تفقّد سليمان عليه‌السلام الهدهد من بين الطير ، قال : « لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم [ الدهن ] في القارورة » .

فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه فضحك. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « ما يضحكك ؟ » قال : ظفرت بك جعلت فداك. قال : « وكيف ذلك ؟ » قال : الذي يرى الماء في بطن الأرض لا يرى الفخّ في التّراب حتى يؤخذ بعنقه !

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « يا نعمان ، أما علمت أنّ القدر إذا نزل عمي البصر » (٦) .

وقيل : إنّ سليمان عليه‌السلام جلس على سريره في نواحي بيت المقدس ، واشتغل بامور المملكة والدين ، فقال هدهد في نفسه : إنّ سليمان مشغول عنّي ، فأرتفع في الهواء ساعة لأنظر في فسحة الدنيا وطولها وعرضها ، فطار في الهواء ، فوقعت فرجة في مظلّة الطيور ، فوقع شعاع الشمس على

__________________

(١و٢) تفسير القمي ٢ : ١٢٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٣.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٦.

(٤) في النسخة : علي صار.

(٥) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٧٩ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٧.

(٦) مجمع البيان ٧ : ٣٤٠ ، وفيه : أنه إذا نزل القدر اغشى البصر.

٥٦٩

سليمان ، فنظر إلى الطيور فرأى مكان الهدهد خاليا منه ، فتفحّص عنه ، واحتمل أن يكون عدم رؤيته إياه لتغييره مكانه ، أو لعروض مانع عن رؤيته فقال : ما لي لا أرى الهدهد ؟

﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ

 بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢١) و (٢٢)

ثمّ [ لمّا ] احتاط وبالغ في التفتيش والسؤال عنه ، حتى علم أنه غائب ، أضرب عمّا احتمل ، وقال : بل كان من الغائبين ، وغضب عليه ، وقال : والله ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾ تأديبا وصلاحا لانتظام الملك ﴿عَذاباً شَدِيداً﴾ وهو نتف ريشه (١) وإلقاؤه في الشمس ، كما عن بن عباس (٢) ، أو ألقاؤه حيث النمل فتأكله ، أو طليه بالقطران وتشميسه ، أو عزله من خدمته ، أو إلزامه خدمة أقرانه ، أو التفريق بينه وبين إلفه وزوجته ، أو تزويجه من عجوز ، أو جعله مع ضدّه في قفص (٣)﴿أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾ لتعتبر به أبناء جنسه ، ولئلّا يكون له نسل ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ وحجّة واضحة على عذره في غيبته.

وإنّما كان الحلف في الواقع على أحد الفعلين الأولين على تقدير عدم الثالث ، ولكن لمّا كان مقتضيا لوقوع أحد الثلاثة جعل الثلاثة في الظاهر متعلّقا للحلف على سبيل المجاز ، فحلف على أنّه لا بدّ من وقوع أحد الثلاثة.

حكي أنّه لما أرتفع الهدهد إلى الهواء رأى هدهدا آخر واقفا فانحطّ إليه في الهواء ، ووصف له ملك سليمان وما سخّر له من كلّ شيء ، ووصف له صاحبه ملك بلقيس واقتدارها ، وأنّ تحت يدها اثني عشر ألف قائد ، تحت يد كلّ قائد مائة ألف ، فذهب معه لينظر ، فما رجع إلّا بعد العصر (٤) ﴿فَمَكَثَ﴾ سليمان وانتظره زمانا قريبا ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ وأمدا غير مديد.

قيل : دعا سليمان عليه‌السلام عريف الطير ، وهو النسر ، فسأله عن الهدهد فلم يجد علمه عنده ، ثمّ قال لسيد الطير وهو العقاب : عليّ به ، فارتفعت فنظرت ، فاذا هو مقبل فقصدته ، فناشدها الله تعالى وقال : بحقّ الذي قوّاك وأقدرك إلّا رحمتني ، فتركته وقالت : ثكلتك امّك ، إنّ نبيّ الله حلف ليعذّبك ، قال : أو ما استثنى ؟ قالت : بلى. قال : أو ليأتيني بعذر مبين ، فلمّا قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّهما على الأرض تواضعا له ، فلمّا دنا منه أخذ عليه‌السلام برأسه فمدّه إليه ، فقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله ، فارتعد سليمان ، ثمّ قال له : يا هدهد ، كيف أنت إن نتفت ريشك وألقيتك في حرّ

__________________

(١) في النسخة : شعره.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٨٩.

(٣و٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٧.

٥٧٠

الشمس ؟ قال : أعلم أنّك لا تفعل ذلك ، لأنّك نبي الله لا ترضى بذلك. قال : إن حبستك في قفص مع ضدّك ؟ قال : أعلم أنك لا تفعل ذلك أيضا لأنّك كريم. إلى أن قال : قل ما أفعل بك ؟ قال : العفو عنّي فانّه سجيّة الكرام ، فعفا عنه (١) .

ثمّ سأله عمّا جاء به ﴿فَقالَ أَحَطْتُ﴾ مع حقارتي وغاية ضعفي ﴿بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ واطّلعت على ما لم تطّلع عليه مع سعة علمك وكمال قدرتك ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ﴾ بلد ﴿سَبَإٍ﴾ يقال له : مدينة مأرب ، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام (٢)﴿بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ وخبر خطير محقّق لا شكّ فيه.

عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ سبأ اسم أبي حيّ باليمن ، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، كان له عشر بنين ، ذهب ستّة منهم إلى اليمن ، وسكنوا فيه ، وهم : كندة والأزد ، ومذحج ، وحمير ، وأشعر ، وأنمار. وكان خثعم وبجيلة من أنمار ، وذهب أربعة منهم إلى الشام ، وهم : لخم وجذام وغسان وعاملة ، فسمّي الحيّ باسم أبيهم (٣) .

وقيل : إنّ اسمه عبد شمس ، ولقّب بسبأ لانّه أول من سبي (٤) .

وقيل : إنّه أول من تتوّج من ملوك اليمن (٥) ، ولعلّ إخفاء أمر مملكة سبأ على سليمان عليه‌السلام مع قربها منه لمصلحة رآها الله تعالى فيه (٦) .

﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُها

 وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ

 عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي

 السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ * اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ

 الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ * اذْهَبْ

 بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ * قالَتْ يا أَيُّهَا

 الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ

 الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٢٣) و (٣١)

ثمّ بيّن الهدهد ما أحاط به بقوله : ﴿إِنِّي وَجَدْتُ﴾ حين ذهبت متفقّدا لما خفي من الامور قياما

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٨.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٨٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٨.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٨ ، ولم ينسبه إلى ابن عباس.

(٤و٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٨.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٩.

٥٧١

بخدمتك ﴿امْرَأَةً﴾ في مملكة سبأ وأهله ﴿تَمْلِكُهُمْ﴾ وتحكم عليهم ، وتدبّر امورهم ، ولها السلطنة عليهم ، اسمها بلقيس بنت شرحبيل ، أو شراحيل بن مالك بن ريان ، من نسل يعرب بن قحطان ، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلّها ، ورث الملك من أربعين أبا ، ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت بعده على الملك ، ودانت لها الامّة (١)﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ تحتاج إليه الملوك من الحشم ، والخيل ، والعدد ، والسياسة ، والهيبة ، والرأي ، والمال ، والنعم ﴿وَلَها عَرْشٌ﴾ وسرير ﴿عَظِيمٌ﴾ بالنسبة إلى عروش غيرها من الملوك.

قيل : كان عرشها ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا عرضا ، في ثمانين ذراعا ارتفاعا (٢) ، مقدّمه من ذهب مفصّص بالياقوت الأحمر ، والزّبرجد الأخضر ، ومؤخرّه من فضة مكلّل بأنواع الجواهر ، له أربع قوائم : قائمة من ياقوت أحمر ، وقائمة من ياقوت أصفر (٣) ، وقائمة من زبرجد ، وقائمة من درّ ، وصفائح السرير من ذهب ، وعليه سبعة أبيات ، لكلّ بيت باب مغلق ، وكان عليه من الفرش ما يليق به(٤) .

﴿وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ﴾ ويعبدونها ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ ومتجاوزين عن عبادته ﴿وَزَيَّنَ﴾ وحسّن ﴿لَهُمُ الشَّيْطانُ﴾ بوسوسته وتسويله ﴿أَعْمالَهُمْ﴾ القبيحة التي منها عبادة الشمس ﴿فَصَدَّهُمْ﴾ ومنعهم بسبب ذلك التزيين ﴿عَنِ﴾ سلوك ﴿السَّبِيلِ﴾ المستقيم ، واختيار المذهب الحقّ ، وهو توحيد الله وعبادته ﴿فَهُمْ﴾ بسبب ذلك الصدّ ﴿لا يَهْتَدُونَ﴾ إلى الحقّ ، ولا يصلون إلى خير أبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة.

ثمّ أن الهدهد أظهر معارفة التي اقتبسها من سليمان عليه‌السلام إظهارا لتصلّبه في التوحيد ، وتوجيها لقلب سليمان نحو قبول قوله ، وصرفا لعزيمته إلى تسخير مملكة بلقيس بقوله : ﴿أَلَّا﴾ وهلا (٥)﴿يَسْجُدُوا لِلَّهِ.

وقيل : إنّ المراد أن تزيين الشيطان عبادة الشمس (٦) ، لأجل أن يعبدوا الله المتفرّد باستحقاق العبادة ، حيث إنّه القادر ﴿الَّذِي﴾ بقدرته ﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ﴾ ويظهر المدّخر المستور ﴿فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ من الكواكب والأمطار والأرزاق والنباتات وغيرها ﴿وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ﴾ من العقائد

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٨١ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٩.

(٢) في تفسير روح البيان : ذراعا وطوله في الهواء ثمانين ذراعا.

(٣) في تفسير روح البيان : اخضر.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٩.

(٥) بل إن إعراب ( ألّا يسجدوا ) هنا مفعول له للصدّ على حذف اللام منه ، أي فصدّهم لئلا يسجدوا. راجع : تفسير روح البيان ٦ : ٣٤٠.

(٦) تفسير البيضاوي ٢ : ١٧٤ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٨١ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٣٩.

٥٧٢

والنيّات ﴿وَما تُعْلِنُونَ﴾ وتظهرون من الأعمال ، ثم صرّح بنفي الشريك له في العبادة بقوله : ﴿اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.

ثمّ لمّا وصف عرش بلقيس بالعظمة ، وصف الله بقوله : ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ الذي لا يعادله في العظمة عرش أحد من الملوك ، بل لا يليق توصيفه بالعظمة في قباله.

في الحديث : « أنهاكم عن قتل الهدهد فانّه كان دليل سليمان على قرب الماء وبعده ، وأحبّ أن يعبد الله في الأرض حيث يقول : ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ* إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ﴾ إلى آخر الآيات (١) .

قيل : إن قول الهدهد إلى ﴿فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ﴾ وما بعده كلام الله (٢) .

ثمّ ﴿قالَ﴾ سليمان عليه‌السلام في جوابه : ﴿سَنَنْظُرُ﴾ في ما أخبرتنا به ونفتّشه حتى نعلم ﴿أَ صَدَقْتَ﴾ في ما قلت ﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ.

روي أنّ سليمان لمّا سمع إشراك أهل سبأ غضب ، وقال ائتوني بدواة وقلم حتى أكتب كتابا أدعوهم إلى دين الحقّ ، فأتي بهما ، فكتب في المجلس أو بعده إلى بلقيس : من عبد الله سليمان بن داود إلى ملكة سبأ بلقيس. بسم الله الرحمن الرحيم ، السّلام على من اتّبع الهدى. أما بعد فلا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين. ثمّ طبعه بالمسك وختمه بخاتمه المنقوش على فصّه اسم الله الأعظم ، وقال الهدهد : إنّك رسول أخلعك بخلعة ، فمسح يده على ريشه ، فظهرت فيه الألوان المختلفة ، ثمّ وضع إصبعه على رأسه فخرج منه تاج ، وإنّما خصّة بالرسالة من سائر رعيّته من الجنّ والطير ، لما رأى فيه من المعارف ، وقوّة الفراسة ، وبذل النّصح له ولملكه ، ورعايته جانب الحق ، فعلّق الكتاب إلى عنقه أو أعطاه بمنقاره وقال له: ﴿اذْهَبْ بِكِتابِي هذا﴾ إلى بلقيس ، وأهل سبأ ﴿فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾ واطرحه لديهم ﴿ثُمَّ تَوَلَ﴾ وأعرض ﴿عَنْهُمْ﴾ وتباعد منهم إلى مكان لا يرونك وتسمع ما يقولون ﴿فَانْظُرْ﴾ وتعرّف ﴿ما ذا يَرْجِعُونَ﴾ واستمع ما يقول بعضهم لبعض بعد قراء كتابي (٣) .

روي أنّ الهدهد أخذ الكتاب وأتى بلقيس ، فوجدها راقدة في قصرها بمأرب ، وكانت إذا رقدت غلّقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها ، فدخل من كوّة وألقى الكتاب على نحرها وهي مستلقية ، وقيل : فنقرها وتأخّر يسيرا فانتبهت فزعة ، وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبّع الحميري ، فلمّا رأت الخاتم ارتعدت وخضعت ، لأنّ ملك سليمان كان في خاتمه ، وعرفت أنّ الذي أرسل

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٤٠.

(٢) جوامع الجامع : ٣٣٦.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٤١.

٥٧٣

الكتاب أعظم ملكا منها ، لطاعة الطير إياه وهيئة الخاتم ، فعند ذلك ﴿قالَتْ﴾ لأشراف قومها وأعاظم مملكتها بعد إحضارهم (١) : ﴿يا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾ وعظماء القوم قد حدث لي أمر عظيم ﴿إِنِّي أُلْقِيَ﴾ اليوم ﴿إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ﴾ عليّ ، ومعظّم لدي ، أو مختوم كما عن القمي (٢) ، وفي الحديث : « كرم الكتاب ختمه » (٣) .

قيل : كانت معجزة سليمان عليه‌السلام وملكه في خاتمه ، فختم الكتاب به ، فألقى الرّعب في قلبها حتى شهدت بكرم كتابه (٤) .

وقيل : الكريم يعني حسنا ما فيه (٥) ، أو مرضيّا في لفظه ومعانيه (٦) ، أو شريفا لتصدّره بالبسملة (٧) ، أو واصلا عن نهج غير معتاد (٨) .

قيل : إنها لمّا سمعت قبلها بسلطنة (٩) سليمان على الجنّ والانس والوحش والطير ، عظّمت كتابه(١٠) .

وإنّما رزقت الايمان لتكريمها الكتاب ، ثمّ سألها الأشراف عن مرسله ومضمونه فقالت : ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ﴾ مكتوب في أوله ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ثمّ مكتوب فيه ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ﴾ ولا تترفّعوا عن طاعتي ، ولا تتكبروا بكبر الجبابرة ﴿وَأْتُونِي﴾ جميعا حال كونكم ﴿مُسْلِمِينَ﴾ منقادين لأوامري ، أو مؤمنين موحّدين.

﴿قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ *

 قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ *

 قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ

 يَفْعَلُونَ (٣٢) و (٣٤)

فلمّا رأت أنّه مع إيجازه فيه الدعوة إلى التوحيد بذكر البسملة ، والنهي عن الترفّع الذي هو امّ الرذائل ، والأمر بالاسلام الذي هو أمّ الفضائل ، مع الحجة القاطعة على عظم شأن مرسله وصدقه بارساله بتوسّط الهدهد ، واتّصاله إليها بنحو خارق للعادة ﴿قالَتْ﴾ للأعاظم الذين كانوا بحضرتها ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر أو اثني عشر ألفا : ﴿يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾ وقولوا ما تستفتون في

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٨٣ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٤١.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٢٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٥.

(٣) جوامع الجامع : ٣٣٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٥.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٤١.

(٥) تفسير الرازي ٤ : ١٩٤ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٤٢.

(٦و٧) تفسير روح البيان ٦ : ٣٤٢.

(٨) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٨٣.

(٩) في النسخة : قلبها سلطنة.

(١٠) مجمع البيان ٧ : ٣٤٣.

٥٧٤

شأني ؟ فانّي منذ ملكت زمام السلطنة ﴿ما كُنْتُ قاطِعَةً﴾ ومنفذّة ﴿أَمْراً﴾ من الامور المهمة وغيرها ﴿حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ وتحضرون عندي ، وتصوّبون عملي ، اعتمادا على عقولكم ، واستمدادا بآرائكم ﴿قالُوا﴾ في جوابها : ﴿نَحْنُ﴾ رجال ﴿أُولُوا قُوَّةٍ﴾ وذوو الأجسام العظيمة السليمة والعدد الكثير ، والعدّة الكاملة للحرب ﴿وَأُولُوا بَأْسٍ﴾ وبطش ﴿شَدِيدٍ﴾ ونجدة وشجاعة تامة في قتال العدوّ.

ثمّ لمّا كان حسن الأدب في أن لا يحكم أهل المشورة على الرئيس المستشير بالعمل برأيهم ، بل عليهم أن يخبروه في ما أراد قالوا : ﴿وَالْأَمْرُ﴾ مفوّض ﴿إِلَيْكِ﴾ موكول إلى نظرك ورأيك ، فاذا كان كذلك ﴿فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ﴾ به حتى نطيعك فيه ، فلمّا رأت ميلهم إلى الحرب باظهار قوتهم الذاتية والعرضية ، وكان ذلك عندها خلاف الصواب ، أخذت في تزييف رأيهم.

﴿قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا﴾ بالقهر والغلبة وبطريق المقابلة ﴿قَرْيَةً﴾ من القرى ، وبلدة من البلدان ﴿أَفْسَدُوها﴾ وخرّبوها ، وأتلفوا ما فيها من النفوس والأموال ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها﴾ وصيّروا أشراف ساكنيها ﴿أَذِلَّةً﴾ بالأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الاهانة والاذلال.

ثمّ أكّدت قولها بقولها : ﴿وَكَذلِكَ﴾ الذي قلت ملوك الدنيا ﴿يَفْعَلُونَ﴾ بحسب العادة والسيرة المستمرة ، فعلى هذا يكون في مقاتلتهم وغلبتهم علينا تخريب ملكنا ، وإذلال رعايانا ، فاذن كان الأصلح هو الصلح.

وعن القمي وبعض العامة : أنّ الذليل كلام الله ، تصديقا لقول بلقيس (١) .

﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ

 أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ

 تَفْرَحُونَ (٣٥) و (٣٦)

ثمّ ذكرت مقدمة الصلح بقولها : ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾ عظيمة ﴿فَناظِرَةٌ﴾ ورائية ، أو منتظرة ﴿بِمَ يَرْجِعُ﴾ إليّ من الخبر ﴿الْمُرْسَلُونَ﴾ من قبلي إلى سليمان ، أنّه قبل الهدية أو ردّها ، فنستكشف من معاملته ومكالمته حالته أنّه نبي أو ملك ، ونعلم غرضه أنّه السلطنة أو الهدية ، فنعمل بمقتضاه.

روي أنّها بعثت خمسمائة غلام ، عليهم ثياب الجواري وحليهن (٢) كالأساور والأطواق والقرطة مخضبي الأيدي ، راكبي خيل مغشّاة بالدّيباج ، محلّاة اللّجم والسّروج بالذهب المرصّع بالجواهر ،

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٢٨ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٤٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٥.

(٢) في النسخة : سلبهن.

٥٧٥

وخمسمائة جارية على رماك (١) في زيّ الغلمان ، والف لبنة من ذهب وفضّة ، وتاجا مكلّلا بالدرّ والياقوت المرتفع قيمتة ، ومقدارا كثيرا من المسك والعنبر ، وحقّة فيها درّة ثمينة غير مثقوبة ، وخرزة جزعيّة معوجّة الثقب ، وكتبت كتابا فيه نسخة الهدايا ، وبعثت مع الهدايا رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو ، وضمّت إليه رجالا من قومها ذوي رأي وعقل ، وقالت : إن كان نبيا ميّز بين الغلمان والجواري ، وأخبر بما في الحقّة قبل فتحها ، وثقب الدرّة ثقبات مستقيمات (٢) ، وسلك في الخرزة خيطا. ثمّ قالت للمنذر : إن نظر سليمان إليك نظر غضبان فهو ملك ، فلا يهولنّك منظره ، وإن رأيته هشّا لطيفا فهو نبي.

فأقبل الهدهد نحو سليمان مسرعا ، فأخبره الخبر ، فأمر سليمان الجنّ فضربوا لبن الذهب والفضّة ، وفرشوها في ميدان بين يديه طوله ستة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفاته من الذهب والفضّة ، وأمر بأحسن الدوابّ التي في البرّ والبحر ، فربطوها عن يمين الميدان ويسارة [ على اللبن وأمر بأولاد الجنّ وهم خلق كثير فاقيموا على اليمين واليسار ] ، ثمّ قعد على سريره والكراسي من جانبيه ، في يمينه أربعة آلاف كرسيّ من ذهب ، وفي يساره أربعة آلاف ، واصطفّت الشياطين صفوفا فراسخ ، والإنس صفوفا ، والوحش والسباع والهوامّ كذلك فلمّا دنا رسل بلقيس من مجلس سليمان ونظروا إليه بهتوا ، ورأوا الدوابّ تروث على لبن الذهب ، فكان حالهم كحال أعرابي أهدى إلى خليفة بغداد جرّة ماء ، فلمّا رأى دجلة خجل وصبّه.

ولذا قيل : إنّهم لمّا رأوا ما أنعم الله على سليمان من الملك الكبير ، استقلّوا ما عندهم حتّى همّوا بطرح اللّبنات ، إلّا أنّه منعتهم الأمانة من ذلك ، وجعلوا يمرّون بكراديس الجنّ والشياطين فيفزعون ، وكانت الشياطين يقولون : جوزوا ولا تخافوا ، فلمّا وقفوا بين يدي سليمان عليه‌السلام نظر إليهم بوجه حسن طلق ، وقال : ما وراءكم ؟ فأخبر المنذر الخبر ، وأعطى كتاب بلقيس ، فنظر فيه فقال : أين الحقّه ؟ فجيء بها ، فقال : إنّ فيها درة ثمينة غير مثقوبة ، وخرزة جزعية معوجّة الثقب ، وذلك بإخبار جبرئيل أو الهدهد.

فأحضر سليمان عليه‌السلام الجنّ والإنس ، ولم يكن عندهم علم الثقب والسلك ، فقالت الشياطين لسليمان عليه‌السلام : إرسل إلى الأرضة ، فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها ، فدخلت في الدرّة وثقبتها حتى خرجت من الجانب الآخر ، فقال سليمان عليه‌السلام : ما حاجتك ؟ فقالت : تصيّر رزقي في الشجر. قال : لك ذلك ، ثمّ قال : من لهذه الخرزة يسلكها الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء : أنا لها يا أمين الله. فأخذت

__________________

(١) رماك ، جمع رمكة : الفرس.

(٢) في تفسير روح البيان : ثقبا مستويا.

٥٧٦

الخيط في فمها ، ونفذت في الخرزة حتى خرجت من الجانب الآخر. فقال سليمان : ما حاجتك ؟ قالت : تجعل رزقي في الفواكه. قال : لك ذلك ، فجمع سليمان بين طرفي الخيط وختمه ، ودفعها إليهم.

ثمّ طلب سليمان عليه‌السلام الماء ، فأمر الغلمان والجواري أن يغسلوا وجوههم من الغبار ، ليميز بين الجواري والغلمان ، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها فتجعله في الاخرى ، ثمّ تضرب به وجهها ، والغلام كان يأخذه من الآنية ويضرب به وجهه (١) .

وأما الهدية ﴿فَلَمَّا جاءَ﴾ المنذر بها ﴿سُلَيْمانَ﴾ وقد قالت بلقيس : إن قبلها سليمان كان ملكا ، وإن ردّها كان نبيا ، ولذا ﴿قالَ﴾ سليمان عليه‌السلام للمنذر وبلقيس تغليبا للحاضر على الغائبة أو للرسل : ﴿أَ تُمِدُّونَنِ﴾ وتقوّونني ﴿بِمالٍ﴾ لا اعتداد به ﴿فَما آتانِيَ اللهُ﴾ ووهب لي من الملك العظيم الذي لا ينبغي لأحد من بعدي مع العلم والزّلفى والنبوة والمال ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل ﴿مِمَّا آتاكُمْ﴾ وأنعم عليكم من المال القليل والمتاع اليسير الدنيوي ، فلا حاجة لي إلى هديتكم ، ولا وقع لها عندي ﴿بَلْ أَنْتُمْ﴾ لحبّكم الدنيا وحطامها ﴿بِهَدِيَّتِكُمْ﴾ وما يهدى إليكم من المال ﴿تَفْرَحُونَ﴾ فليس لكم أن تستميلوا قلبي إليكم بالأموال.

روى بعض العامة عن الصادق عليه‌السلام قال : « الدنيا أصغر قدرا عند الله وعند أنبيائه وأوليائه من أن يفرحوا بشيء منها أو يحزنوا عليه » (٢) .

وقيل : إنّه عليه‌السلام بعد إنكاره عليهم إمداده بالمال ، أضرب عنه إلى توبيخهم بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه افتخارا وامتنانا واعتدادا بها (٣) .

وقيل : إنّ المعنى بل أنتم من حقّكم أن تأخذوا هديّتكم وتفرحوا بها (٤) .

﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ

 صاغِرُونَ * قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ

 * قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ

 أَمِينٌ * قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ

 طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٤٤ - ٣٤٥.

(٢و٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٤٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ١٩٦.

٥٧٧

وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٣٧) و (٤٠)

ثمّ هدّد سليمان بلقيس وقومها على امتناعهم عن طاعته بقوله : ﴿ارْجِعْ﴾ أيها الرسول المبعوث من قبل ملكة سبأ وقومها ﴿إِلَيْهِمْ﴾ وأخبرهم أنّي لا انخدع بالهدايا والتّحف ، بل اريد منهم الطاعة والانقياد ، فان أطاعوني واستسلموا لي وإلّا ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ﴾ من الجنّ والإنس ﴿بِجُنُودٍ﴾ عظيمة ﴿لا قِبَلَ﴾ ولا طاقة ﴿لَهُمْ﴾ للمقاومة ﴿بِها﴾ أصلا ﴿وَ﴾ والله ﴿لَنُخْرِجَنَّهُمْ﴾ من مملكتهم ولنجلينّهم ﴿مِنْها﴾ حال كونهم ﴿أَذِلَّةً﴾ بعد كونهم أعزّة ﴿وَهُمْ صاغِرُونَ﴾ ومستحقرون بالأسر والإجلاء بعد كونهم معظّمون.

القمي : فرجع إليها الرسول فأخبرها (١) بردّ الهدية وثقب الدرّة وسلك الخيط في الخرزة ، وعظمة حشمة سليمان وكمال قدرته ، فعلمت أنّه لا محيص لها من الانقياد والتسليم ، فبعثت إلى سليمان :

أنّي قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ، ثمّ جعلت عرشها في بيت وقفلت أبوابه ، وجعلت عليه حراسا ، وأخذت مفتاح البيت عند نفسها ، ثمّ توجّهت مع عسكرها نحو سليمان.

قيل : كان لها اثنا عشر ألف ملك كبير ، تحت كلّ ملك الوف كثيرة ، وكان سليمان عليه‌السلام رجلا مهيبا لا يبدأ بشيء حتى يسأل عنه ، فجلس يوما على سريره ، فرأى جمعا جمّا على فرسخ عنه ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : بلقيس بملوكها وجنودها ، فأقبل سليمان عليه‌السلام على أشراف قومه ، وقيل : حين علم بمسيرها إليه (٢)

﴿قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها﴾ من بلدة مأرب ، ويحضره لديّ في مكاني هذا ﴿قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي﴾ حال كونهم ﴿مُسْلِمِينَ﴾ ومنقادين ، أو مؤمنين.

أقول : لعلّه عليه‌السلام أراد من إحضاره عنده إراءتها معجزة اخرى أوّل ورودها عليه ، لتكون في إيمانها على بصيرة كاملة ، أو أراد اختبار عقلها وفطانتها بعد تنكيره عرشها عندها ، لينظر أنّها تعرفه أو تنكره.

قيل : ذلك لأنّ الجنّ قدحوا فيها بنقص العقل لئلا يتزوّجها (٣) . وقيل : إنّه أراد تملّك عرشها قبل إيمانها لاحترام مالها بعده (٤) .

﴿قالَ﴾ ذكوان ، أو كوذي ، أو اصطخر ، وهو ﴿عِفْرِيتٌ﴾ ومارد خبيث ﴿مِنَ﴾ شياطين ﴿الْجِنِ﴾ قيل : كان رئيسهم ، وكان قبل ذلك متمرّدا على سليمان عليه‌السلام ، وكان كالجبل العظيم يضع قدمه عند

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٢٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٦.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٣٤٨.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٠١ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٨٩.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ١٩٧ ، وفيه : قبل إسلامها لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها.

٥٧٨

منتهى طرفه (١) : ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ﴾ واحضره عندك ﴿قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ﴾ ومجلس حكومتك ، وكان جلوسه إلى نصف النهار ﴿وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ على حفظه وحفظ ما فيه من الجواهر والنفائس لا اختلس منه شيئا ولا ابدّله.

قيل : إنّه قال سليمان عليه‌السلام : اريد أسرع من هذا (٢)﴿قالَ﴾ آصف بن برخيا وهو على ما قيل : كان ابن خالة سليمان ووزيره وكاتبه ومؤدّبه في صغره وصديقه (٣)﴿الَّذِي عِنْدَهُ﴾ الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب و﴿عِلْمٌ﴾ كثير ﴿مِنَ الْكِتابِ﴾ المنزل على الأنبياء السابقين كابراهيم وموسى وغيرهما ، وعمله به ، أو علم ببعض اللوح المحفوظ واسراره المكتوبة فيه. عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ذلك وصيّ أخي سليمان بن داود » (٤) - : ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ ويرجع إليك ناظرك ، ويتحرّك جفنك.

قيل : خرّ ساجدا ، وقال : يا حيّ يا قيّوم ، يا ذا الجلال والإكرام (٥) . ثمّ سأل الله إحضار عرش بلقيس فحضر ، وقيل : خسف الله به الأرض (٦) ، ثمّ أخرجه منها في محضر سليمان عليه‌السلام ﴿فَلَمَّا رَآهُ﴾ سليمان ﴿مُسْتَقِرًّا﴾ ومتمكّنا ﴿عِنْدَهُ﴾ وحاضرا لديه في أقلّ من طرفة عين.

عن الباقر : « أن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا ، وإنّما كان عند آصف منه حرف (٧) ، فتكلّم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ، ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين » (٨) .

وفي رواية اخرى : « فتكلّم به ، فانخسفت الأرض ما بيته وبين السرير ، والتقت القطعتان ، وحوّل من هذه على هذه » (٩) .

﴿قالَ﴾ سليمان تشكّرا للنعمة ﴿هذا﴾ الذي أرى من حضور العرش لديّ بأسرع زمان ، وحصول مرادي بأحسن وجه ﴿مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾ عليّ وإحسانه إليّ بلا استحقاق منّي ، وإنّما أعطاني هذه النعمة ﴿لِيَبْلُوَنِي﴾ ويختبرني ﴿أَ﴾ أنا ﴿أَشْكُرُ﴾ ها ، بأن أراها منه بلا حول وقوة منّي ، وأ أدّي حقّها من الطاعة والعبادة ﴿أَمْ أَكْفُرُ﴾ ها ، بأن لا أراها منه ، ولا أقوم بموجبها.

قيل : فلمّا رآه رفع رأسه وقال : الحمد لله الذي جعل في أهلي من يدعوه فيستجيب له (١٠) .

__________________

(١-٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٤٩.

(٤) أمالي الصدوق : ٦٥٩ / ٨٩٢ ، روضة الواعظين : ١١١ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٧.

(٥و٦) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٠.

(٧) في الكافي وبصائر الدرجات وتفسير الصافي : منها حرف واحد.

(٨) الكافي ١ : ١٧٩ / ١ ، بصائر الدرجات : ٢٢٨ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٧.

(٩) بصائر الدرجات : ٢٢٩ / ٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٦٧ ، وفيه : إلى هذه.

(١٠) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٠ و٣٥١.

٥٧٩

ثمّ نبّه عليه‌السلام بحاجة العبد إلى الشكر ، وغنى الربّ عنه بقوله : ﴿وَمَنْ شَكَرَ﴾ نعم الله ﴿فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ ونفعه عائد (١) إليها ، لكونه سببا لدوامها ومزيدها ، والثواب عليه ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ النعم بعدم معرفة قدرها ، وحقّ منعمها ، وترك أداء حقّها ، فانّ ضرر كفرانه عليه ﴿فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ﴾ عن شكر الشاكرين ﴿كَرِيمٌ﴾ ومتفضّل عليهم بجوده بنعمه ، وإن لم يشكروا.

﴿قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا

 جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ

 * وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ * قِيلَ لَهَا

 ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ

 مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ

 الْعالَمِينَ (٤١) و (٤٤)

ثمّ ﴿قالَ﴾ سليمان لخدمه : إذا جاءت بلقيس ﴿نَكِّرُوا لَها عَرْشَها﴾ بأن غيّروا هيئته وشكله بحيث لا تعرفه في بادئ النظر ﴿نَنْظُرْ﴾ ونراها ﴿أَ تَهْتَدِي﴾ إلى معرفته فتظهر كياستها وقوّة فطانتها الناشئة من كمال عقلها ﴿أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ﴾ إلى معرفته فتظهر سخافة عقلها.

قيل : إنّ الشياطين خافوا أن تفشي بلقيس أسرارهم إلى سليمان عليه‌السلام ، لأنّ امّها كانت جنية ، وإن يتزوّجها سليمان عليه‌السلام ، ويكون منهما ولد جامع للجنّ والإنس ، فيرث الملك فيخرجون من ملك سليمان عليه‌السلام إلى ملك هو أشدّ وأفضع ، ولا ينفكّون من التسخير ، فأرادوا أن يبغّضوها إلى سليمان عليه‌السلام ، فقالوا : إنّ في عقلها خللا وقصورا ، وأنّها شعراء الساقين ، وأن رجليها كحافر حمار ، فأراد سليمان عليه‌السلام أن يختبرها في عقلها (٢)﴿فَلَمَّا جاءَتْ﴾ إلى سليمان عليه‌السلام والعرش بين يديه ﴿قِيلَ﴾ لها من قبل سليمان : ﴿أَ هكَذا عَرْشُكِ ؟﴾ وإنما لم يقل : أهذا عرشك ؟ لئلّا يكون تلقينا لها ، فنظرت إليه فعرفته ، ولكن لمّا رأت فيه تغييرا لم تقل لا ولا نعم ، بل ﴿قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ فلوّحت إلى نوع مغايرة له.

قيل : جعلت الشياطين أعلاه أسفله ، وبنوا فوقه قبابا [ اخرى ](٣) ، وجعلوا موضع الجوهر الأحمر

__________________

(١) في النسخة : عائده.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٣٥٢.

(٣) زاد في تفسير روح البيان : هي أعجب من تلك القباب.

٥٨٠