نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

كنصل السيف فيه الشّمراخ الذي هو للنخيل كالعنقود للكرم ﴿هَضِيمٌ﴾ وداخل بعضها في بعض ، أو متدلّ لثقل الحمل ، أو لطيف وهو كناية عن لطافة ثمره ، لأنّه كلّما لطف الثمر لطف طلعه ، أو كناية عن كون النخل انثى لأنّ طلع الذّكر صلب غليظ ، كذا قيل (١) .

وقيل : إنّ الطّلع زهرة النخل (٢) ، وقيل : إنّه أطيب الرطب (٣) ، وإنّما خصّ النّخل بالذكر مع دخولها في البساتين للتنبيه على فضلها.

﴿وَتَنْحِتُونَ﴾ لسكونتكم ﴿مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً﴾ ومساكن حال كونكم ﴿فارِهِينَ﴾ ومتنشّطين وطيبي القلوب بالنّحت ، أو حاذقين فيه ، فاذا علمتم أنّ الله هو الذي أنعم عليكم بتلك النّعم ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ بترك الشّرك وطول الأمل ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في أحكامي التي جئتكم بها من الله ﴿وَلا تُطِيعُوا﴾ وتتّبعوا ﴿أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ﴾ والمفرّطين في اتباع الشهوات ، المتجاوزين عن الحدّ في حبّ اللذات ، وهم ﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي﴾ هذه ﴿الْأَرْضِ﴾ التي تسكنونها باشاعة الكفر والعصيان وإضلال الناس وصدّهم عن الحقّ ﴿وَلا يُصْلِحُونَ﴾ أمرا من الامور ، ولا يصدر منهم شيء من الخير ، بل كلّما يصدر منهم محض الشرّ وشرّ محض ، فأجابه قومه و ﴿قالُوا﴾ ردا عليه وتكذيبا له في دعواه الرسالة : يا صالح ﴿إِنَّما أَنْتَ﴾ أحد ﴿مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ والمغلوبين على عقولهم بكثرة سحر السحرة بهم لما نرى منك من كلمات لا يتفوّه بها عاقل ، أو المراد إنّما أنت من الذين لهم بطون يأكلون ويشربون ﴿ما أَنْتَ﴾ إذن ﴿إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ لا مزيّة لك علينا ، ولو كنت ملكا لكنّا نقبل دعواك بلا آية ولا بيّنة ، ولكن لمّا تحقّق أنّك بشر ﴿فَأْتِ بِآيَةٍ﴾ وحجّة واضحة الدلالة على صحّة دعواك ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فيه وقد مرّ تفصيل اقتراحهم الناقة في الأعراف (٤) .

﴿قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ

 عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي

 ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ

 الرَّحِيمُ (١٥٥) و (١٥٩)

فلمّا خرجت الناقة من الصخرة ، وبركت بين أيديهم ﴿قالَ﴾ صالح يا قوم ﴿هذِهِ﴾ الناقة التي ترونها ﴿ناقَةٌ﴾ اقترحتموها عليّ ، وليكن ﴿لَها شِرْبٌ﴾ ونصيب من الماء في يوم معين ﴿وَلَكُمْ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٩٨.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢٩٨.

(٣) الكشاف ٣ / ٣٢٨ ، الدر المنثور ٦ / ٣١٥.

(٤) راجع تفسير الآية (٧٣) وما بعدها من سورة الأعراف.

٥٤١

شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ لا تشرب هذه من نصيبكم ، ولا تشربوا أنتم من نصيبها ﴿وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ﴾ ولا تقصدوها بمكروه وإيذاء وضرب وعقر وقتل ﴿فَيَأْخُذَكُمْ﴾ عند ذلك من قبل الله ﴿عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ لعظم ما يحلّ فيه ﴿فَعَقَرُوها﴾ ببغيهم ﴿فَأَصْبَحُوا﴾ بعده ﴿نادِمِينَ﴾ عليه لما رأوا من آثار غضب الله عليهم ﴿فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ﴾ الموعود إجمالا ، وهو صيحة جبرئيل عليه‌السلام ، فهلكوا جميعا بها ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ الاهلاك ﴿لَآيَةً﴾ وعبرة عظيمة للناس ﴿وَما كانَ﴾ مع ذلك ﴿أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ به ، قيل : ما آمن به منهم إلّا أربعة آلاف (١) ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.

﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ

 رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ

 عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ * أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ * وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ

 رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ * قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ

 مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٠) و (١٦٨)

ثمّ ذكر سبحانه قصّة لوط بمبالغة في تسلية حبيبه بقوله : ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ﴾ وصاحبهم ﴿لُوطٌ﴾ بن هادان نصحا لهم ﴿أَ لا تَتَّقُونَ﴾ وكيف لا تخافون عذاب الله على الشرك والعصيان ﴿إِنِّي لَكُمْ﴾ من جانب الله ﴿رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ على دينكم ودنياكم ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾ في ما ابلّغكم من الله ﴿وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ.

ثمّ إنّه تعالى بعد إعلامهم برسالته ودعوتهم إلى التوحيد وطاعة الله وإظهار عدم طمعه في أموالهم ، وبّخهم على عملهم الشنيع من وطئهم الرجال بقوله : ﴿أَ تَأْتُونَ﴾ يا قوم ﴿الذُّكْرانَ﴾ وتطؤونهم أنتم ﴿مِنَ﴾ أهل ﴿الْعالَمِينَ﴾ ولا يشارككم فيه غيركم ، لكونه أقبح القبائح عند كلّ أحد ، أو المراد أتاتون الذكور من أولاد آدم ﴿وَتَذَرُونَ﴾ وتدعون ﴿ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ﴾ ونسائكم ، ولا تجامعونهن مع كونهنّ مخلوقات لاستمتاعكم بهنّ بأيّ نحو شئتم ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ﴾ ومتجاوزون عن الحدّ في جميع المعاصي التي من جملتها هذا العمل الشنيع ، أو المراد : بل أنتم قوم أحقّاء بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم هذه الفاحشة ، فأجابه قومه و﴿قالُوا﴾ تهديدا له : ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ ولم ترتدع ﴿يا لُوطُ﴾ عن تقبيح عملنا والانكار علينا ﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾ من بلادنا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٠٠.

٥٤٢

والمنفيين من ديارنا بأسوء حال ﴿قالَ﴾ لوط : يا قوم ﴿إِنِّي﴾ أبغض المقام فيكم ، واتمنّى الخروج من بينكم ، لأنّي ﴿لِعَمَلِكُمْ﴾ الشنيع من وطئ الرجال ونكاح الذكور ﴿مِنَ الْقالِينَ﴾ والمبغضين أشدّ البغض ، فكيف ارتدع عن نهيكم عنه وإنكاره عليكم بسبب تهديدكم بإخراجي من بينكم ، مع أنه غاية أملي ؟

﴿رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِي

 الْغابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ *

 إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ

 الرَّحِيمُ (١٦٩) و (١٧٥)

ثمّ أعرض عنهم وتضرّع إلى ربّه في إخراجه من بينهم ، وخلاص نفسه وأهله من شؤم عملهم بقوله : ﴿رَبِّ نَجِّنِي﴾ وخلّصني ﴿وَأَهْلِي﴾ من سوء ما ﴿يَعْمَلُونَ﴾ من العمل الشنيع وعذابه بإخراجي من بينهم ﴿فَنَجَّيْناهُ﴾ وخلّصناه ﴿وَأَهْلَهُ﴾ ومن تعلّق به ﴿أَجْمَعِينَ﴾ استجابة لدعائه ﴿إِلَّا عَجُوزاً﴾ وامرأة مسنّة اسمها والهة على ما قيل (١) ، فانّها لكفرها ورضاها بعمل القوم بقيت ﴿فِي الْغابِرِينَ﴾ والباقين في البلد والعذاب.

روي أنّها خرجت مع لوط ، فلمّا سمعت الرّجفة التفتت فأصابها حجر فهلكت (٢) . وقيل : إنّها بقيت في البلد ولم تخرج مع لوط (٣) .

﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا﴾ وأهلكنا أفظع الهلاك وأشدّه ﴿الْآخَرِينَ﴾ من قومه وأهل بلده حيث قلبت عليهم بلادهم وجعل عاليها سافلها ﴿وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً﴾ عجيبا هائلا وهو مطر الحجارة ﴿فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾ والقوم الذين خوّفوا من العذاب ولم يؤمنوا ولم يرتدعوا من أرتكاب الفاحشة.

قيل : إنّ الحاضرين في البلاد أهلكوا بانقلاب بلادهم ، والمسافرون منهم اهلكوا بمطر الحجارة(٤).

﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ العذاب المستأصل الذي على هؤلاء القوم ﴿لَآيَةً﴾ وعبرة عظيمة لمن بعدهم ، ولمن بقي في الأرض من العصاة ﴿وَما كانَ﴾ مع ذلك ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ مع إبلاغ لوط في النّصح ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ به قيل : ما آمن به إلا بنتيه وصهره (٥)

﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ والقادر على تعذيب أعدائه وقهرهم لكنّه ﴿الرَّحِيمُ﴾ بهم لإمهالهم.

__________________

(١-٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٠٢.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٠٢.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣٠٢.

٥٤٣

﴿كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ

 رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ

 عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٧٦) و (١٨٠)

ثمّ حكى سبحانه كيفية دعوة شعيب ، وامتناع قومه من الايمان به بقوله : ﴿كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ﴾ وأهل الغيظة التي كانت بقرب مدين ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ كلّهم بتكذيبهم شعيبا ، أو كذّبوا جميع الرسل ومنهم شعيب المبعوث لدعوتهم ودعوة أهل مدين ﴿إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ﴾ نصحا وإنذارا : يا قوم ﴿أَ لا تَتَّقُونَ﴾ الله ولا تخافون عقابه على الشرك والعصيان.

فى حديث عامي : أنّ شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة (١) .

وروي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتفّ كان حملها المقل (٢) .

ثمّ قال : ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ﴾ من الله مبعوث لدعوتكم إلى التوحيد وإلى ما هو خير لكم في الدارين ﴿أَمِينٌ﴾ عنده على وحيه ، وعندكم على دينكم ودنياكم ، وقد عرفتموني أنّي [ أدعوكم ] إلى الايمان لم أطلب إلّا ما هو صلاح حالكم ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ إذن ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في ما آمركم به ، فانّ أمري أمر الله ، وطاعتي طاعته ، واعلموا أنّ وظيفتي تبليغ أحكام ربّي ﴿وَما أَسْئَلُكُمْ﴾ ولا أطلب منكم ﴿عَلَيْهِ﴾ شيئا ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ وجعل ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾ وما جعلي ﴿إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ ومالك السماوات والأرضين ، لأنّ عملي له.

﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ *

 وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨١ و) (١٨٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد الاعلان برسالته ، ودعوتهم إلى طاعته ، واظهار عدم طمعه في دنياهم وأموالهم ، شرع في بيان ما أمر بتبليغه من الله إليهم من الأحكام ، ونهيهم عمّا تداول بينهم من أقبح الأعمال بقوله : ﴿أَوْفُوا﴾ للناس ﴿الْكَيْلَ﴾ وأتموه كاملا إذا استحقّوا منكم الكيل ﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ﴾ والمنقصين لحقوقهم بتنقيص أكيالهم ﴿وَزِنُوا﴾ الموزونات من حقوقهم ﴿بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ والميزان العدل السويّ. قيل : إنّ القسطاس روميّ معرّب (٣) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٦٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٦٣ ، المقل : حمل الدّوم ، وهو يشبه النخل.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٠٣.

٥٤٤

ثمّ عمّم سبحانه النهي عن تنقيص الحقوق سواء أكانت مكيلة أو موزونة ، أو معدودة أو غيرها بقوله : ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ﴾ ولا تنقصوا أموالهم وحقوقهم ، [ سواء ] أكان الحقّ عينا كنقص العدد والزرع ، أو كيفية كدفع الرديء مكان الجيّد ، أو سلطنة كمنع المالك عن التصرّف في ملكه بالغصب والسرقة ، أو ذي الحقّ عن استيفاء حقّه ، كمنع الزوجة زوجها عن التمتع بها ، وامتناع الزوج من أداء حقوق زوجته ﴿وَلا تَعْثَوْا﴾ ولا تعتدوا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ حال كونكم ﴿مُفْسِدِينَ﴾ كالقتل والغارة ، وقطع الطريق ، وإهلاك الزرع ، وإشاعة الكفر والعصيان. قيل : كان قومه يفعلون جميع ذلك(١).

﴿وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ * قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ *

 وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٤) و (١٨٦)

ثمّ حثّهم على إطاعة تلك الأحكام بقوله : ﴿وَاتَّقُوا﴾ الله العظيم القادر ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ بقدرته ﴿وَ﴾ خلق ﴿الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ﴾ والخلائق السابقين فرهّبهم عن العصيان بكمال قدرته ، ورغّبهم في الطاعة ببيان أعظم نعمه من خلقهم وخلق أسلافهم الذين لولاهم لما خلقوا.

ثمّ أنهم بعد استماع البيانات التي لا تصدر إلّا من أعقل الناس ، نسبوه إلى الجنون و﴿قالُوا :﴾ يا شعيب ﴿إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ والمجانين الذين سحرهم الساحرون مرة بعد اخرى حتى زال عقلهم ولذا تقول ما تقول.

ثمّ نفوا عنه قابلية الرسالة (٢) بقولهم : ﴿وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ وليس لك فضل علينا ، والرسول لا بدّ أن يكون ملكا منزّها من شؤون البشرية ثمّ صرّحوا بتكذيبه الذي هو نتيجة المقدّمتين بقولهم : ﴿وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ﴾ في دعواك الرسالة.

﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما

 تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي

 ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٨٧) و (١٩١)

ثمّ لمّا كان شعيب عليه‌السلام يهددهم بالعذاب على تكذيبه وعدم الايمان به ، رتّبوا على تكذيبه طلب نزول العذاب عليهم استهزاء بقولهم : ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً﴾ وقطعة ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ والسّحاب ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في دعواك ووعيدك بالعذاب.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٦٣.

(٢) يريد استحقاقه لها.

٥٤٥

قيل : إنّما طلبوا العذاب لاستبعادهم وقوعه ، وظنّهم بأنّه إذا لم يقع ظهر كذبه (١) . فعند ذلك ﴿قالَ﴾ شعيب : ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الإصرار على الكفر والتكذيب ، فيعامل معكم بما تستحقّون ، فأمركم مفوّض إليه ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ بعد وضوح الحقّ وتمامية الحجّة كما كذّبوه من قبل ﴿فَأَخَذَهُمْ﴾ وشملهم ﴿عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ حسبما اقترحوه.

روي أنّه حبس عنهم الريح سبعا ، وسلّط عليهم الرمل ، فأخذ بأنفاسهم ، لا ينفعهم الظل والماء ، فاضطرّوا إلى الخروج إلى البرّ ، فاظلّتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا (٢)﴿إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ بعظم ما وقع فيه من العذاب.

روي أنّه عليه‌السلام بعث إلى أصحاب مدين وأصحاب الأيكة ، فأهلكت مدين بصيحة جبرئيل عليه‌السلام وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلّة (٣)﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ العذاب الهائل ﴿لَآيَةً﴾ وعبرة للنّاس ﴿وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.

قيل : لم يؤمن من أصحاب الأيكة أحدا ، وإنّما آمن به جمع من أهل مدين (٤) .

﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ

 الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٢) و (١٩٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر القصص التي كان الإخبار بها من النبيّ الامي من الإخبار بالمغيّبات ، أعلن بكون القرآن نازلا منه بقوله : ﴿وَإِنَّهُ﴾ بدلالة إعجاز البيان والاشتمال على المغيبات والله ﴿لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ لا اختلاق البشر ﴿نَزَلَ بِهِ﴾ بأمره جبرئيل الذي يقال له ﴿الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ على وحيه، وتلاه عليك بحيث وعاه قلبك وحفظه كأنه نزل به أولا ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ ثمّ على ظاهرك.

وقيل : لمّا كان المخاطب في الحقيقة القلب لكونه محل التميّز والاختبار وسائر الأعضاء مسخرة له (٥) ، يكون هو محلّ النزول في الحقيقة ، فكأنّه قال : نزل عليك بحيث تفهمه حقّ الفهم ﴿لِتَكُونَ﴾ منذرا ﴿مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ ورسولا من المرسلين الذين ارسلوا ﴿بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ واضح المعنى لقومهم ، كهود وصالح وشعيب وإسماعيل ، أو المراد نزل به على قلبك بلغة عربية حتى لا يقول قومك : لا نفهم كتابك.

عن أحدهما عليهما‌السلام أنّه سئل عنه فقال : « يبين الألسن ، ولا تبينه الالسن » (٦) .

__________________

(١-٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١٦٤.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٠٥.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٦٦.

(٦) الكافي ٢ : ٤٦٢ / ٢٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٥١.

٥٤٦

وعن الصادق ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : « ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا ولا وحيا إلّا بالعربية ، فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم ، وكان يقع في مسامع نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعربية ، فاذا كلّم به قومه كلّمهم بالعربية ، فيقع في مسامعهم بلسانهم ، وكان احد (١) لا يخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأيّ لسان خاطبه إلّا وقع في مسامعه بالعربية كلّ ذلك يترجم جبرئيل عليه‌السلام عنه تشريفا من الله عزوجل له » (٢) .

﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ * أَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ *

 وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذلِكَ

 سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ *

 فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (١٩٦) و (٢٠٣)

ثمّ استدلّ سبحانه على نزول القرآن منه بقوله : ﴿وَإِنَّهُ﴾ بمعناه وأوصافه وعلائمه ﴿لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ وكتب الأنبياء السابقين ، فانّه تعالى أخبر فيها بنزوله على النبي المبعوث في آخر الزمان ، أو المراد أنّ ذكر النبي كان في الكتب السابقة كما روي أنّ أهل مكة بعثوا إلى يهود المدينة يسألونهم عن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعثته ، فقالوا : إنّ هذا لزمانه ، وإنّا نجد في التوراة نعته وصفته (٣) ، فنزل ﴿أَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً﴾ ودلالة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحّة كتابه ﴿أَنْ يَعْلَمَهُ﴾ ويشهد بصدق نبوته أو كتابه ﴿عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ كعبد الله بن سلّام وأضرابه من أحبارهم.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ قريش مع كون القرآن نازلا بلسان عربي مقترنا بشواهد الصدق كفروا به بقوله :

﴿وَلَوْ نَزَّلْناهُ﴾ بهذه الفصاحة التي عجّزت العرب عن إتيان مثله ﴿عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ﴾ الجاهلين بلغة العرب

﴿فَقَرَأَهُ﴾ ذلك الأعجمي ﴿عَلَيْهِمْ﴾ قراءة صحيحة خارقة للعادة ﴿ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ أيضا لفرط عنادهم ولجاجهم مع انضمام القراءة إلى إعجاز العبارة مع عدم احتمال كونه من تقوّلات الأعجميّ.

وقيل : إنّ المراد لو أنزلنا هذا القرآن بلسان العجم على رجل أعجمي فقرأه على قريش ، لامتنعوا من الايمان به اعتذارا بعدم فهمه ، فأنزلناه بلسانهم قطعا لعذرهم ، ومع ذلك لا يؤمنون به (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لو نزلنا (٥) القرآن على العجم ما آمنت به العرب ، وقد نزل على العرب فآمنت به

__________________

(١) في علل الشرائع : أحدنا.

(٢) علل الشرائع : ١٢٦ / ٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٥١.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٠٧ و٣٠٨.

(٤) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٦٥.

(٥) في تفسير القمي : انزل.

٥٤٧

العجم » (١) وفيه دلالة على كمال عصبية العرب وفضيلة العجم عليهم بالانصاف.

وقيل : إنّ المعنى لو أنزلنا القرآن على بعض الحيوانات فقرأه ذلك الحيوان عليهم بلسان فصيح ما كانوا به مؤمنين (٢) .

وعن ابن مسعود : أنّه سئل عن هذه الآية فأشار إلى ناقته فقال : هذه من الأعجمين (٣) .

﴿كَذلِكَ﴾ الإنزال بلسان عربي ﴿سَلَكْناهُ﴾ وأدخلناه بمعانيه وجهات إعجازه ﴿فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ المصرّين على الكفر ، ومع ذلك ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ عنادا ولجاجا واستكبارا ﴿حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ﴾ في الدنيا أو الآخرة ، فإذا رأوه يؤمنون به إلجاء واضطرارا ، ولا ينفعهم ذلك الايمان ، أو المراد كذلك الادخال والسلك للقرون بالتكذيب سلكناه وأدخلناه في قلوب المصرّين على الكفر ، ولذا لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الملجئ لهم إلى الايمان ﴿فَيَأْتِيَهُمْ﴾ ذلك العذاب ﴿بَغْتَةً﴾ وفجأه في الدنيا أو الآخرة ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ بوقت إتيانه ﴿فَيَقُولُوا﴾ عند ذلك تحسّرا وتأسّفا على تفريطهم ﴿هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ﴾ وممهلون حتى نتدارك ما فرّطنا في جنب الله ، أو لنؤمن ونصدق.

﴿أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ * أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا

 يُوعَدُونَ * ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٤) و (٢٠٧)

ثمّ وبّخهم سبحانه على تعجيل العذاب الموعود استهزاء بقوله : ﴿أَ فَبِعَذابِنا﴾ والتقدير أيستمهلون عند نزول العذاب فبعذابنا في الحال ﴿يَسْتَعْجِلُونَ﴾ بقولهم : فاتنا بما تعدنا ، ومن المعلوم أنّ بين الاستعجال والاستمهال غاية التنافي.

ثمّ نبّه سبحانه على عدم فائدة الاستمهال بعد نزول العذاب بقوله : ﴿أَ فَرَأَيْتَ﴾ أيّها العاقل ، وأخبرني ﴿إِنْ مَتَّعْناهُمْ﴾ ونفعناهم بالحياة الدنيا ونعمها ﴿سِنِينَ﴾ متطاولة ، أو سنين أعمارهم ، أو من بدو الدنيا إلى آخرها ﴿ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ﴾ من العذاب ﴿ما أَغْنى عَنْهُمْ﴾ وما نفعهم شيئا ﴿ما كانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ وينتفعون به من العمر والنّعم في الدنيا في رفع العذاب وتخفيفه.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « اري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني امية يصعدون منبره من بعده ، ويضلّون الناس عن الصراط القهقرى ، فأصبح كئيبا [ حزينا ] فهبط عليه جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا رسول الله ، مالي

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٢٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٥١.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٣٢٠.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٣٢٠.

٥٤٨

أراك كئيبا حزينا ؟ قال : يا جبرئيل ، إنّي رأيت بني امية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي ، ويضلّون الناس عن الصراط القهقرى ، فقال : والذي بعثك بالحقّ نبيّا إنّ هذا شيء ما اطّلعت عليه ، فعرج إلى السماء ، فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها قال : ﴿أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ﴾ الآيات » (١) .

﴿وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ * ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ * وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ

 الشَّياطِينُ * وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ

 لَمَعْزُولُونَ (٢٠٨) و (٢١٢)

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ عذابه لا يكون إلّا بعد إتمام الحجّة بقوله : ﴿وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ﴾ ظالمة من القرى بالعذاب ﴿إِلَّا﴾ كان ﴿لَها مُنْذِرُونَ﴾ من النبيّ والمؤمنين من أتباعه ، وإنما كان إنذارهم لأجل أن يكون ﴿ذِكْرى﴾ وعظة لهم وإتماما للحجّة عليهم ﴿وَما كُنَّا﴾ باهلاكهم في حال جهلهم ووجود العذر لهم ﴿ظالِمِينَ﴾ بهم ، بل كان محض العدل.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ القرآن تنزيل ربّ العالمين لاشتماله على إعجاز البيان والإخبار بالمغيبات من ذكر قصص الأنبياء كما هي في زبر الاولين مع كون النبي اميا ، دفع قول القائلين بأنّه من إلقاءات الشياطين كسائر ما نزل على الكهنة بقوله : ﴿وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ﴾ وما أتت به مردة الجنّ ﴿وَما يَنْبَغِي لَهُمْ﴾ وما يصحّ منهم إنزاله ، مع اشتماله على المعارف والعلوم الحقّة الحقيقية الموجبة لإرشاد الخلق إلى الحقّ وجميع الخيرات الدنيوية والاخروية ، مع أن شغلهم إضلال الخلق وجدّهم فيه ﴿وَما يَسْتَطِيعُونَ﴾ ذلك أصلا لأنّهم لا يمكنهم العلم بالحقائق والمغيبات إلّا بالسّماع من الملائكة و ﴿إِنَّهُمْ﴾ بالشهب ﴿عَنِ السَّمْعِ﴾ من الملائكة ﴿لَمَعْزُولُونَ﴾ وممنوعون ، ولو كانوا غير معزولين عن السمع لنزلوا بمثله على الكهنة والكفّار مع كمال ارتباطهم بهم والموّدة بينهم ، ولم ينزلوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو أعدى عدوّهم وهم أعدى عدّوه ، لأنّه يلعنهم ويذّمهم دائما ويصرف الناس عن اتّباعهم.

﴿فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ

 الْأَقْرَبِينَ (٢١٣) و (٢١٤)

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٠١ / ٤٥٣ ، الكافي ٤ : ١٥٩ / ١٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٢.

٥٤٩

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات كون القرآن العظيم نازلا من ربّ العالمين بتوسّط جبرئيل ، دعا الناس إلى التوحيد المقصود من إنزاله بنهي نبيه عن الاشراك الدالّ على إرادة نهي امّته عنه بقوله : ﴿فَلا تَدْعُ﴾ ولا تعبد يا محمّد ﴿مَعَ اللهِ﴾ المنزل للقرآن ﴿إِلهاً آخَرَ﴾ ومعبودا غيره ﴿فَتَكُونَ﴾ إذن مع كمال قربك من الله ومحبوبيّتك عنده ﴿مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ بأشدّ العذاب ، فكيف بغيرك ؟ ثمّ بعد نهية عن الشرك وإنذاره وتحذيره عنه ، أمره بإنذار أقاربه الأقرب فالأقرب بقوله : ﴿وَأَنْذِرْ﴾ وخوّف من عقاب الله على الشّرك وعصيانه ﴿عَشِيرَتَكَ﴾ وأرحامك ﴿الْأَقْرَبِينَ﴾ منهم فالأقربين ، لأنّ الاهتمام بشأنهم أهمّ ، فالبدأة بإنذارهم أولى ، ولأنّ تأثير كلامه في الأجانب والأبعدين بعد التشدّد على نفسه ، ثمّ على الأقرب فالأقرب منه أشد.

روي أنّه لمّا نزلت [ هذه ] الآية صعد عليه‌السلام الصّفا فنادى الأقرب فالأقرب ، وقال : « يا بني عبد المطلب ، يا بني هاشم ، يا بني عبد مّناف ، يا عباس عمّ محمّد ، يا صفية عمّة محمّد ، إنّي لا أملك لكم من الله شيئا ، سلوني من المال ما شئتم » (١) .

وفي رواية قال : « افتدوا أنفسكم من النار ، فانّي لا اغني عنكم من الله شيئا (٢) ، أطيعوني واعترفوا بتوحيد الله ورسالتي تنجوا من العذاب ، وسلوني من المال ما شئتم.

وفي رواية : [ أنه ] جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا على رجل شاة وقعب (٣) من لبن ، وكان الرجل منهم يأكل الجدعة ويشرب العسّ (٤) ، فأكلوا وشربوا ثمّ قال : « يا بني عبد المطلب ، لو أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدّقي ؟ » قالوا : نعم. فقال : « إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد » (٥) .

وروي عن البراء بن عازب (٦) أنه لمّا نزلت الآية أرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بني عبد المطلب ، فجمعوا في دار عمّه أبي طالب ، وكانوا أربعين رجلا ، فأمر عليا عليه‌السلام أن يطبخ لهم فخذ شاة ومدّا من حنطة فوضع الطعام عندهم ، وأتاهم بصاع من لبن ، وكان كلّ منهم يأكل جدعا (٧) ويشرب عليه عسا من لبن ، فلمّا رأوا الطعام الذي أحضره عليّ عليه‌السلام عندهم ضحكوا وقالوا : هذا الطعام لا يكفي واحدا منّا ! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلوا بسم الله » فأكلوا منه عشرة عشرة حتّى شبعوا ، فقال : « اشربوا بسم الله » فشربوا الصاع من اللبن حتى رووا جميعا ، فلما رأوا ذلك المعجز قال أبو لهب : هذا ما سحركم به الرجل فسكت

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٧٢.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٣١١.

(٣) القعب : القدح الضخم الغليظ.

(٤) العس : القدح الكبير.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٧٣.

(٦) في النسخة : عن غارب.

(٧) الجذع من الضأن : ما بلغ ثمانية أشهر أو تسعة.

٥٥٠

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقاموا وذهبوا ، ثمّ دعاهم في يوم آخر ، وأحضر لهم مثل ذلك الطعام والشراب ، فأكلوا وشربوا ، ثمّ قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : « يا بني عبد المطلب ، إنّ الله بعثني إلى الخلق كافّة وإليكم خاصة فقال : ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين على الميزان تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الامم ، وتدخلون بهما الجنّة ، وتنجون بهما من النار ، شهادة أن لا إله إلّا الله ، وإنّي رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ، ويؤازرني إلى القيام به يكن أخي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي ؟ » فما أجابه أحد إلّا عليّ عليه‌السلام فانّه قام وقال : « أنا اؤازرك على هذا الأمر » وهو أصغرهم سنا وأحمشهم (١) ساقا ، وأمرضهم عينا ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اجلس ؟ »

ثمّ أعاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلامه ، فلم يجبه أحد ، فقام عليّ عليه‌السلام وقال : « أنا أنصرك يا رسول الله » فقال : « أجلس يا علي ، فانّك أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي » فقام القوم وقالوا لأبي طالب استهزاء : « أطع ابنك فقد أمّر عليك » (٢) .

وروى العلامة رضى الله عنه في ( نهج الحق ) عن ( مسند [ أحمد بن ] حنبل ) : لمّا نزل ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ جمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل بيته ثلاثين رجلا ، فأكلوا وشربوا [ ثلاثا ] ثمّ قال لهم : « من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ، ويكون خليفتي ، ويكون معي في الجنّة » فقال عليّ عليه‌السلام : « أنا » فقال : « أنت » .

قال رضى الله عنه : ورواه الثعلبي في ( تفسيره ) وزاد : يعيد ثلاث مرات في كلّ مرّة يسكت القوم غير عليّ عليه‌السلام » (٣) .

وقال بعض المحقّقين : إنّ لفظ ( ديني ) بكسر الدال ، لأنّه لم يكن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عند وفاته دين (٤) .

وعن أبي رافع أنّه جمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بني عبد المطّلب ، وطبخ لهم فخذ شاة ، فأكلوا منه وشبعوا كلّهم ، ثمّ أعطاهم قدحا من اللّبن فشربوا ، ثمّ قال : « إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، وأنتم عشيرتي ورهطي ، وإنّ الله لم يبعث نبيا إلّا جعل له من أهله أخا ووزيرا ووارثا ووصيا وخليفة في أهله ، فأيّكم يقوم فيبايعني على أنّه أخي ووارثي ووزيري ووصيي ، ويكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي » ثمّ قال : « ليقومنّ قائمكم أو ليكوننّ من غيركم » فاعاد هذا الكلام ثلاثا ، فقام عليّ عليه‌السلام فبايعه ، ثمّ قال : « ادن منّي يا علي » فدنا منه ، ففتح فاه فبزق في فمه ، وتفل بين كتفيه وبين يديه ، فقال

__________________

(١) أي أدقّهم.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٣٢٢ ، الطرائف : ٢٠ / ١٣ ، تأويل الآيات ١ : ٣٩٤ / ٢٠ ، بحار الأنوار ٣٨ : ١٤٤ / ١١١ ، و: ٢٥١ / ٤٦.

(٣) مسند أحمد ١ : ١١١ ، كشف الحق : ٢١٣ / ٢ ، تاريخ الطبري ٢ : ٣١٩ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٦٣ ، معالم التنزيل ٤ : ٢٧٨ ، شرح النهج ١٣ : ٢١٠ ، كنز العمال ١٣ : ١٣١ / ٣٦٤١٩.

(٤) كشف المراد : ٣٩٦ « نحوه » .

٥٥١

أبو لهب بئس ما حبوت ابن عمّك أن أجابك فملأت فاه ووجهه بزاقا. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ملأته حكمة وعلما » (١) .

﴿وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ

 مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ

 فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢١٥) و (٢٢٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بانذار الأقربين من عشيرته أمره بحسن العشرة والتواضع لعموم أهل الايمان بقوله : ﴿وَاخْفِضْ جَناحَكَ﴾ وليّن جانبك وتواضع ﴿لِمَنِ اتَّبَعَكَ﴾ وأطاع أوامرك ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بك.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « قد أمر الله تعالى أعزّ خلقه وسيد بريّته محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتواضع ، فقال عزوجل ﴿وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والتواضع مزرعة الخشوع (٢) والخشية والحياء ، وإنّهن لا ينبتن إلّا منها وفيها ، ولا يسلم الشرف الحقيقي إلّا للمتواضع في ذات الله تعالى » (٣) .

ثمّ أمر الله بالتبري من العصاة من المؤمنين بقوله : ﴿فَإِنْ عَصَوْكَ﴾ وخالفوا حكمك ﴿فَقُلْ﴾ لهم : ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من المعاصي بلا خوف من كيدهم وضررهم ﴿وَتَوَكَّلْ﴾ في جميع حالاتك ﴿عَلَى﴾ الله ﴿الْعَزِيزِ﴾ القادر القاهر لأعدائه ﴿الرَّحِيمِ﴾ بأوليائه المتوكّلين عليه بالنصر والتأييد ، فينصرهم ويكفيهم شرّ كلّ ذي شرّ.

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بالعلم الكامل بأحواله بقوله : ﴿الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ﴾ بوظائف النبوة ، أو للصلاة بالناس جماعة ، أو للتهجّد ، أو لأمر من الامور ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي﴾ تصفّح أحوال ﴿السَّاجِدِينَ﴾ والعابدين لتطّلع على أسرارهم.

قيل : لمّا نسخ فرض قيام الليل ، طاف عليه‌السلام تلك الليلة ببيوت أصحابه ، لينظر على ما يبيتون (٤) ، لحرصه على طاعتهم ، فوجدها كبيوت الزنابير ، لما سمع منها من دندنتهم (٥) .

أو المراد نرى تصرّفك فيما بين المأمومين (٦) بالركوع والسّجود ، كما عن ابن عباس (٧) ، أو تقلّبك في المؤمنين المصلّين لكفاية امور الدين ، أو تقلّبك في أصلاب آبائك المؤمنين ، أو النبيّين ، كما عن ابن

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٣٢٣ ، تأويل الآيات ١ : ٣٩٣ / ١٩ ، بحار الأنوار ٣٧ : ٢٧١ / ٤١.

(٢) زاد في مصباح الشريعة : والخضوع.

(٣) مصباح الشريعة : ٧٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٤.

(٤) في تفسير الرازي : لينظر ما يصنعون.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٧٣.

(٦) في مجمع البيان : ويرى تصرفك في المصلين.

(٧) مجمع البيان ٧ : ٣٢٣.

٥٥٢

عباس أيضا (١) .

﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأذكارك وأقوالك ﴿الْعَلِيمُ﴾ بضمائرك ونياتك.

عن الباقر عليه‌السلام : « الذي يراك حين تقوم في النبوة ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ قال : أصلاب النبيّين » (٢) .

وعنهما عليهما‌السلام قالا : « في أصلاب النبيين نبيّ بعد نبيّ حتى أخرجه من صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ترفعوا قبلي - يعني رؤوسكم (٤) - فإنّي أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ، ثمّ تلا هذه الآية » (٥) .

﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ * تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ

 السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢١) و (٢٢٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم قدرة الشياطين على إنزال القرآن ، بيّن أنّهم لا ينزلون على النبيّ الذي هو عدوّهم ومخالفهم ، بل ينزلون على أوليائهم وأتباعهم بقوله : ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ﴾ واخبركم أيّها المشركون ﴿عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ﴾ اعلموا أنّه ﴿تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ﴾ وكذّاب ﴿أَثِيمٍ﴾ دائم العصيان ، فانّهم ﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ﴾ إلى الشياطين فيتلقّون منهم ما يوحون إليهم ، أو المراد أنّهم يلقون المسموع من الشياطين إلى النّاس ﴿وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ﴾ في ما يخبرون عن الشياطين ، مفترون عليهم ما لم يوحوا إليهم ولم يسمعوا منهم ، وامّا القليل منهم يكتفون بذكر ما سمعوا بلا زيادة عليه ، وإن كانوا في سائر أخبارهم كاذبين.

وقيل : إنّ المراد بالقليل سطيح وشقّ وسواد بن قارب الذين كانوا يخبرون بالنبيّ ويصدّقونه (٦) ويشهدون بنبوته ، ويدعون الناس إليه (٧) .

وقيل : إنّ المراد من أكثرهم أكثر أقاويلهم لا أشخاصهم ، فيطابق الأفّاكين (٨) .

وقيل : إنّ المراد من أكثرهم كلّهم (٩) .

__________________

(١) متشابه القرآن ومختلفه لابن شهر آشوب ٢ : ٦٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٢٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٤.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٣٢٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٤.

(٤) في مجمع البيان وتفسير الصافي : قبلي ، ولا تضعوا قبلي.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٣٢٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٤.

(٦) في تفسير روح البيان : كانوا يلهجون بذكر رسول الله وتصديقه.

(٧) تفسير روح البيان ٦ : ٣١٤.

(٨) تفسير روح البيان ٦ : ٣١٤.

(٩) تفسير روح البيان ٦ : ٣١٤.

٥٥٣

وحاصل المراد أنّ الأفّاكين يلقون آذانهم إلى الشياطين فيتلقّون منهم أوهاما لنقص عقولهم ، فيضمّون إليها بحسب تخيّلاتهم الباطلة خرافات لا يطابق أكثرها الواقع ، فأين حال هؤلاء من محمّد الصادق الذي لم يصدر منه كذب في ما أخبر به من المغيّبات وغيرها.

وقيل : إنّ المعنى أنّ الشياطين يلقون السمع إلى الملأ الأعلى فيختطفون من الملائكة بعض ما يتكلّمون به من المغيّبات ، ثمّ يوحون به إلى أوليائهم ، وأكثرهم كاذبون في ما يوحون به إليهم ، لأنّهم لم يسمعوا من الملائكة جميع ما يوحون إلى أوليائهم (١) .

أو المراد أنّهم يلقون السمع ، أي المسموع من الملائكة إلى أوليائهم (٢) .

عن الباقر عليه‌السلام : « ليس من يوم ولا ليلة إلّا وجميع الجنّ والشياطين تزور أئمّة الضلال ويزور عددهم من الملائكة أئمّة الهدى ، حتى إذا أتت ليلة القدر ، فيهبط فيها من الملائكة إلى وليّ الأمر عدد خلق الله ، وقد قيّض الله عزوجل من الشياطين بعددهم ، ثمّ زاروا وليّ الضلالة (٣) فأتوه بالإفك والكذب حتى يصبح ليلة (٤) فيقول : رأيت كذا وكذا ، فلو سأل وليّ الأمر عن ذلك لقال : رأيت شيطانا أخبرك بكذا وكذا حتى يفسّر له تفسيرا ، ويعلّمه الضلالة التي هو عليها » (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام - في هذه الآية - قال : « هم سبعة : المغيرة ، وبنان ، وصائد ، وحمزة بن عمارة البريري ، والحارث الشامي ، وعبد الله بن الحارث ، وأبو الخطاب » (٦) .

﴿وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ * أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ

 ما لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا

 مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٤) و (٢٢٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان الفرق بين الكاهن والنبي في جواب القائلين بنزول القرآن على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بتوسّط الشياطين كنزول الكهانة على الكهنة ، أجاب سبحانه القائلين بأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله شاعر من الشعراء ببيان الفرق بين النبيّ والشاعر بقوله : ﴿وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ﴾ والضالّون ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يتبعه الراشدون.

روي أنّ شعراء العرب (٧) كابن الزّبعرى ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ، وهبيرة بن أبي

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٧٤.

(٣) في النسخة : أئمة الضلال.

(٤) في الكافي وتفسير الصافي : حتى لعله يصبح.

(٥) الكافي ١ : ١٩٧ / ٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٥.

(٦) الخصال : ٤٠٢ / ١١١ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٥.

(٧) في مجمع البيان وجوامع الجامع : المشركين.

٥٥٤

وهب المخزومي ، ومسافع بن عبد مناف الجمحي ، وأبو عزّة عمرو (١) بن عبد الله ، كلّموا امية ابن أبي الصلت الثقفي بكذب وبطلان (٢) وقالوا : نحن نقول مثل ما قال محمّد ، فقال الشعراء أشعارا في هجو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وذمّ الاسلام ، فاجتمع عليهم غواة قريش ، وسمعوا أشعارهم وحفظوها ، وكانوا ينشدونها فنزلت(٣) .

وقيل : إنّه كان في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شاعران تخاصما ، فهجا كلّ منهما الآخر ، كان أحدهما من الأنصار والآخر من غيرهم ، وكان مع كلّ منهما جمع يعاونوه فنزلت (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ المراد بالشعراء الكفّار الذين هجوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنشدوا أشعارهم ، فاتبعهم جمع من الكفّار حين ينشدونها » (٥) .

وعن ابن عباس : اريد بالشعراء الشياطين ، فانّ العرب كانوا يقولون : الشعراء تبعة الشياطين (٦).

وعن الباقر عليه‌السلام - في هذه الآية - : « هل رأيت شاعرا يتّبعه أحد ؟ إنّما هم قوم تفقّهوا لغير الله فضلّوا وأضلّوا » (٧) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « هم قوم تعلّموا وتفقهوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا » (٨) .

وعنه عليه‌السلام : أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « هم القصّاص » (٩) .

وقيل : إنّ المراد بالشعراء في الآية الذين شغلهم الشعر عن القرآن والسنّة (١٠) .

وقيل : إنّهم الذين إذا غضبوا شتموا ، وإذا قالوا شعرا كان شعرهم الكذب والبهتان ومدح الناس بما ليس فيهم بقصد الصلة والجائزة أو لحميّة الجاهلية » (١١) .

ثمّ بيّن سبحانه غاية غوايتهم بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ أيّها العاقل ﴿أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ﴾ ومسلك في فنّ الكلام من المدح والذّمّ والجدل والغزل والحماسة وغيرها ﴿يَهِيمُونَ﴾ ويذهبون على وجوههم إلى سبيل غير معين كالمتحيّر ، أو المراد أنّهم يتحيّرون في أودية المقال والوهم والخيال والغي والضّلال كالبهائم الضالة ، حيث إنهم يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه ، ويعظّمونه بعد أن استحقروه وبالعكس.

القمي : يناظرون بالأباطيل ، ويجادلون بحجج المضلّين (١٢) ، وفي كلّ مذهب يذهبون (١٣) .

__________________

(١) في النسخة : أبو غرة عمر.

(٢) في مجمع البيان : تكلموا بالكذب والباطل.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٣٢٥ ، جوامع الجامع : ٣٣٤.

(٤) الدر المنثور ٦ : ٣٣٣ ، تفسير روح المعاني ١٩ : ١٤٦.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٣٢٥ عن ابن عباس.

(٦) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٧٠ ، جوامع الجامع : ٣٣٤.

(٧) معاني الأخبار : ٣٨٥ / ١٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٥.

(٨) مجمع البيان ٧ : ٣٢٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٥.

(٩) اعتقادات الصدوق : ١٠٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٥.

(١٠و١١) مجمع البيان ٧ : ٣٢٥.

(١٢) في المصدر : بالحجج المضلة.

(١٣) تفسير القمي ٢ : ١٢٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٦.

٥٥٥

﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ﴾ بأن يعظوا الناس ولا يتّعظون ، وينهون عن المنكر وهم لا ينتهون ، ويرغبون الناس في الأخلاق الحميدة ولا يتخلّقون بها ، وفي الأعمال الخيرية ولا يعملون بها ، بخلاف محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه من أوّل أمره إلى آخره على طريقة واحدة ، وهي الدعوة إلى الله ، والترغيب في الآخرة ، والتزهيد عن الدنيا ، وبدأ في جميع ذلك بنفسه حيث قال في كتابه : ﴿فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ(١) ثمّ بالأقربين منه حيث قال : ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(٢) وكلّ ذلك مخالف لطريقة الشعراء ، فعلم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بشاعر.

والحاصل أنّه لمّا نسب المشركون القرآن العظيم من حيث الإخبار بالمغيبات إلى الكهانة وقالوا :

إنّما تنزّلت به الشياطين ، ومن حيث فصاحة الكلام وبلاغته إلى الشعر وقالوا : إنّ محمّدا شاعر ، ردّ الله الخرافتين ببيان منافاة الكهانة والشاعرية لحال الرسول العاقل الكامل الصادق التارك للهوى والدنيا.

ثمّ أنّه روي أنّه لمّا نزلت الآيات الذامّة للشعراء قال حسان بن ثابت وابن رواحة وجمع من شعراء الصحابة : يا رسول الله ، إنّ الله يعلم أنّا شعراء ، ونخاف أن نموت على هذه الصفة ، ونحسب من أهل الغواية والضّلالة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ المؤمن مجاهد بسيفه ولسانه » فنزلت (٣) .

قوله تعالى : ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ التي منها مدح النبيّ ودين الاسلام وهجو الكفّار ونصرة الرسول ﴿وَذَكَرُوا اللهَ﴾ بأشعارهم ذكرا ﴿كَثِيراً﴾ بأن كانت في إثبات التوحيد ، وبيان المعارف ، وصفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومدحه ومدح المعصومين من آله وترغيب الناس في الاسلام وزجرهم عن الكفر والعصيان ، والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة والحكمة والموعظة ونظائرها ﴿وَانْتَصَرُوا﴾ وانتقموا من الكفّار بهجوهم ﴿مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا﴾ من قبلهم بالهجو والإيذاء.

روي أنه لمّا هجا المشركون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت الصحابة : ما منع المؤمنين الذين ينصرون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بسيوفهم أن ينصروه بألسنتهم ، فقال حسان وابن رواحة : يا رسول الله ، إنّا نكفيهم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اهجوهم وروح القدس معكم » (٤) .

وفي رواية قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لحسان : « اهج المشركين ، فانّ جبرئيل معك » (٥) .

وفي رواية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال لحسان : « اهجهم ، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من [ رشق ] النبل » (٦) .

__________________

(١) الشعراء : ٢٦ / ٢١٣.

(٢) الشعراء : ٢٦ / ٢١٤.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٣٢٦ ، الدر المنثور ٦ : ٣٣٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٧.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٣٢٦.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣١٧.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ١٧٦.

٥٥٦

وعن الشّعبي أنّه قال : كان أبو بكر يقول الشعر ، وكان عمر يقول الشعر ، وكان عثمان يقول الشعر ، وكان عليّ أشعر الخلفاء (١) .

ثمّ هدد الله الهاجين للرسول والمؤمنين بقوله : ﴿وَسَيَعْلَمُ﴾ البتة الكفار ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ على أنفسهم بهجو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ، أو عليهم بهجوهم وإيذائهم ﴿أَيَّ مُنْقَلَبٍ﴾ ومرجع ، أو أي رجوع بعد الموت ﴿يَنْقَلِبُونَ﴾ ويرجعون ، ولا يخفى أنّ في هذا الإيهام تهويلا عظيما ودلالة على أنّ مكانهم في جهنّم أسوأ الأمكنة ، وعذابهم فيها أشدّ العذاب.

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ (٢) الطواسين (٣) في ليلة الجمعة ، كان من أولياء الله وفي جواره وكنفه (٤) ، ولم يصبه في الدنيا بؤس أبدا ، وأعطي في الآخرة من [ الأجر ] الجنّة حتى يرضى وفوق الرضا (٥) ، وزوّجه الله مائة زوجة (٦) من الحور العين » (٧) .

نسأل الله التوفيق لتلاوتها ، ونشكره على التوفيق لإتمام تفسير السورة المباركة.

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٣٢٦ ، وفيه : أشعر من الثلاثة.

(٢) زاد في ثواب الاعمال : سورة ، وفي تفسير الصافي : سور.

(٣) زاد في مجمع البيان وتفسير الصافي : الثلاث ، وفي ثواب الأعمال : الثلاثة.

(٤) زاد في مجمع البيان : وأسكنه الله في جنّة عدن وسط الجنّة مع النبيين والمرسلين والوصيين الراشدين.

(٥) في ثواب الأعمال ومجمع البيان وتفسير الصافي : رضاه.

(٦) في مجمع البيان : حوراء.

(٧) ثواب الأعمال : ١٠٩ ، مجمع البيان ٧ : ٢٨٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٧.

٥٥٧
٥٥٨

في تفسير سورة النمل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ * هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ

 يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (١) و (٣)

لمّا ختم سبحانه سورة الشعراء بدفع نسبة الكهانة والشعر عن القرآن العظيم ، ومدح المؤمنين به ، وتهديد الظالمين الهاجين له وللرسول والمؤمنين ، أردفها في النّظم بسورة النمل المفتتحة والمختتمة بمدح القرآن وتعظيمه ، وبيان فوائده المهمة وفضله ، المتضمنة لكثير من المطالب التي تضمّنتها السورة السابقة من بيان كيفية بعثة موسى عليه‌السلام ودعوته لفرعون ، وإظهاره المعجزات الباهرات ، وقصة صالح ولوط ، وبيان التوحيد والمعاد وغيرها ، فابتدأها بذكر أسمائه المباركة بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة من قوله : ﴿طس﴾ لما مرّ في بعض الطرائف من النّكت (١) وقيل : معناه الطاهر السنيّ ، وأنا اللطيف السميع (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أنا الطالب السميع » (٣) .

وعن ابن عباس : أنّه اسم من أسماء الله أقسم به (٤) على أن ﴿تِلْكَ﴾ السورة أو الآيات التي فيها ﴿آياتُ الْقُرْآنِ﴾ الذي بشّر به الأنبياء السابقون ، وعرف بعظم القدر وعلوّ الشأن ﴿وَ﴾ آيات ﴿كِتابٍ﴾ لا يشابهه كتاب ﴿مُبِينٍ﴾ ومظهر ما في تضاعيفه من المعارف والحكم والأحكام والعبر وبيان أحوال الآخرة ، أو ظاهر إعجازه وصدقه لكلّ أحد.

ثمّ بالغ سبحانه في اتّصافه بكونه هاديا ومبشّرا بقوله : ﴿هُدىً﴾ بالبراهين إلى الحقّ وجميع الخيرات ﴿وَبُشْرى﴾ برحمة الله ورضوانه ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ به فانّهم المنتفعون بما فيه وهم ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ حقّ الإقامة ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ الواجبة ، ويؤتونها لمستحقّيها ، ويصرفونها في

__________________

(١) راجع : الطرفة (١٨) من مقدمة المؤلف.

(٢) تفسير الصافي ٤ : ٥٨ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣١٨.

(٣) معاني الأخبار : ٢٢ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٨.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٢٨٨.

٥٥٩

مصارفها ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ﴾ ودار جزاء الأعمال ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ حقّ الإيقان ، ولذا يجتهدون في الطاعات البدنية التي أهمّها الصلاة ، والعبادات المالية التي أهمّها الزكاة رجاء الثواب وخوفا من العقاب ، وإنّما أتى بضمير الجمع للاشارة إلى اختصاصهم بهذا اليقين ووصفهم بهذا الوصف لإخراج من يظهر الإيمان ويعمل تلك الأعمال مع الشكّ احتياطا.

وقيل : إنّ الجملة (١) اعتراضية ، والمعنى أن المؤمنين العاملين هم الموقنون بالمعاد (٢) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلئِكَ الَّذِينَ

 لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ * وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ

 لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٤) و (٦)

ثمّ أنّه تعالى لمّا خصّ البشرى بالمؤمنين الموقنين بالآخرة ، ذمّ الكفّار وذكر ما خصّ بهم من العذاب الشديد بقوله ﴿إِنَ﴾ الكفّار ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ﴾ الحسنة ببيان كثرة ثوابها وترغيبهم إليها ، أو أعمالهم القبيحة بأن جعلناها مشتهاة لطباعهم محبوبة لأنفسهم ، أو بأن سلبنا عنهم التوفيق للأعمال الخيرية الموجبة لسلطنة الشيطان عليهم ، وترغيبه لهم ، وتزيينه الأعمال السيئة في نظرهم ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ عنها ولا يدركون ما يتبعها من الثواب على الوجه الأول ، أو من العقاب على الوجه الثاني ، أو المراد يتردّدون في الاشتغال بالقبائح والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يترتّب عليها من الضّرر والعقوبة.

﴿أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ﴾ وشديده في الدنيا ، أو في الآخرة ﴿وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ والأغبنون لتضييعهم العمر والعقل اللذين هما بمنزلة رأس المال ، وتفويتهم المثوبات العظيمة ، وتحصيلهم العقوبات الشديدة ، فلا يعدلهم خاسر.

ثمّ أنّه تعالى بعد تعظيم القرآن وبيان فوائده وكثرة علومه ، صرّح بكونه نازلا منه بقوله : ﴿وَإِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَتُلَقَّى﴾ ولتعطى ﴿الْقُرْآنَ﴾ وتأخذه بتوسّط جبرئيل ﴿مِنْ لَدُنْ﴾ إله ﴿حَكِيمٍ﴾ أيّ حكيم و﴿عَلِيمٍ﴾ أيّ عليم ! فبحكمته بيّن فيه المعارف والأحكام ، وبعلمه ذكر فيه القصص والعبر الكثيرة.

قيل : إنّ هذا تمهيد لما يريد أن يسوق بعده من القصص ، فكأنه تعالى قال : خذ من آثار حكمته وعلمه قصّة موسى عليه‌السلام المشتملة على العلوم النظرية من توحيده وقدرته وسائر صفاته الكمالية(٣) .

__________________

(١) في النسخة : الجملتين.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٨ ، تفسير البيضاوي ٢ : ١٧٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣١٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١٨٠.

٥٦٠