نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

الله قال : ادعوا لي فاطمة فدعيت له ، فقال يا فاطمة ، قالت : لبيك يا رسول الله. فقال : هذه فدك ، وهي ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، وهي لي خاصّة دون المسلمين ، فقد جعلتها لك لما أمرني الله به ، فخذيها لك ولولدك » (١) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « أنّ الله تعالى لمّا فتح على نبيّة صلى‌الله‌عليه‌وآله فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فأنزل الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ﴾ فلم يدر رسول الله من هم ، فراجع في ذلك جبرئيل ، وراجع جبرئيل ربّه ، فأوحى الله إليه : أن ادفع فدك إلى فاطمة ، فدعاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال [ لها : ] يا فاطمة ، إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك. فقالت : قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك » (٢) .

وقال العلّامة في ( نهج الحق ) : روى الواقدي وغيره من نقلة الأخبار وذكروه في أخبارهم الصحيحة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا فتح خيبر اصطفى قرى من قرى اليهود ، فنزل جبرئيل بهذه الآية ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ﴾ فقال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ومن ذو القربى ، وما حقّه ؟ قال : فاطمة ، فدفع (٣) إليها فدك والعوالي ، فاستغلّتها حتى توفّي أبوها ، فلمّا بويع أبو بكر منعها ، فكلّمته في ردّها عليها ، وقالت : إنّهما لي [ وإنّ أبي دفعهما لي ] فأبى عمر دفعهما إليها ، فقال أبو بكر : لا أمنعك ما دفع إليك أبوك. فأراد أن يكتب [ لها ] كتابا ، فاستوقفه عمر بن الخطاب ، وقال : إنّها امرأة ، فطالبها بالبيّة علىّ عليه‌السلام ما ادّعت ، فأمرها بها أبو بكر ، فجاءت بامّ أيمن وأسماء بنت عميس مع علي ، فشهدوا بذلك ، فكتب لها أبو بكر فبلغ ذلك عمر ، فأخذ الصحيفة (٤) فمحاها ، فحلفت أن لا تكلمهما ، وماتت ساخطة عليهما » (٥) . انتهى.

ونسب السيد الأجلّ القاضي نور الله هذه الرواية إلى ابن مردويه (٦) وصدر الأئمّة أيضا.

وعن الصادق عليه‌السلام - في حديث - « ثمّ قال جلّ ذكره : ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ﴾ وكان عليّ عليه‌السلام ، وكان حقّه الوصية التي جعلت له والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار (٧) النبوة » (٨) .

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر ببذل المال للأقارب ، نهى عن التبذير وإفساد المال وصرفه في المصارف السفهية بقوله : ﴿وَلا تُبَذِّرْ﴾ ولا تفسد المال بصرفه فيما لا ينبغي ﴿تَبْذِيراً﴾ يسيرا ، فكيف بالكثير.

روي عن ابن عمر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسعد وهو يتوضأ : « ما هذا أتسرف يا سعد ؟ » فقال : أو في الوضوء سرف ؟ قال : « نعم ، وإن كنت على نهر جار » (٩) .

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٦١٩ / ٨٤٣ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٣٣ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٦.

(٢) الكافي ١ : ٤٥٦ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٦.

(٣) في المصدر : تدفع.

(٤) زاد في المصدر : ومزقها.

(٥) نهج الحق : ٣٥٧.

(٦) إحقاق الحق ٣ : ٥٤٩.

(٧) زاد في الكافي وتفسير الصافي : علم.

(٨) الكافي ١ : ٢٣٣ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٧.

(٩) تفسير الرازي ٢٠ : ١٩٣.

٤١

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال لرجل : « اتق الله ولا تسرف ولا تقتّر ، وكن بين ذلك قواما ، إنّ التبذير من الأسراف ، قال [ الله ] : ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (١) .

وعنه عليه‌السلام ، أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : « من أنفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذّر ، ومن أنفق في سبيل الله فهو مقتصد » (٢) .

وعنه عليه‌السلام ، أنّه سئل أفيكون تبذير في حلال ؟ قال : « نعم » (٣) .

وعنه عليه‌السلام : أنّه دعا برطب فأقبل بعضهم يرمي بالنّوى ، فقال : « لا تفعل ، إن هذا من التبذير ، وإن الله لا يحبّ الفساد » (٤) .

﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً * وَإِمَّا

 تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٧) و (٢٨)

ثمّ ذمّ سبحانه المبذّرين بقوله : ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ﴾ والموافقين له في الصفة والعمل ، أو أعوانهم في إهلاك أنفسهم تابعين لهم في كفران النعمة ﴿وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾ مبالغا في صرف نعم الله من عقله وحياته وقواه في المعصية.

وعن مجاهد : أنّه رفع رأسه إلى أبي قبيس وقال : لو أنّ رجلا أنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين ، ولو أنفق درهما واحدا في معصية الله كان من المسرفين (٥) .

ثمّ أمر سبحانه بمواجهة الأقارب والمساكين بالبشر وجميل القول إذا لم يتمكّن الانسان من مساعدتهم بالمال بقوله : ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَ﴾ وصرفت وجهك ﴿عَنْهُمُ﴾ حياء من التصريح بردّهم بسبب كونك صفر اليد عديم المال ﴿ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ﴾ وطلب السعة ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ إذا كنت ﴿تَرْجُوها﴾ منه تعالى ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً﴾ وكلاما لينا جميلا ، كأن تعدهم بوعد يودع قلوبهم راحة وسرورا.

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا سئل شيئا وليس عنده سكت حياء ، وأمر بالقول الجميل لئلا يعتريهم الوحشة بسكوته (٦) .

وقيل : القول الميسور الدعاء لهم باليسر (٧) .

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٤٧ / ٢٤٩٩ ، الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٨.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٤٦ / ٢٤٩٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٨.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٤٦ / ٢٤٩٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٨.

(٤) تفسير العياشي ٣ : ٤٧ / ٢٥٠٢ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٨.

(٥) تفسير الرازي ٢٠ : ١٩٣.

(٦) تفسير أبي السعود ٥ : ١٦٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٥١.

(٧) تفسير البيضاوي ١ : ٥٦٩ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٦٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٥١.

٤٢

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لمّا نزلت [ هذه ] الآية إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي قال : « يرزقنا الله وإياكم من فضله » (١) .

﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً

 مَحْسُوراً (٢٩)

ثمّ علّمه الله تعالى أدب الانفاق بقوله : ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ﴾ منقبضة وممسكة عن الانفاق ، كأنّها تكون ﴿مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ﴾ لا تقدر على مدّها وإعطاء شيء بها ﴿وَلا تَبْسُطْها﴾ ولا توسعها ﴿كُلَّ الْبَسْطِ﴾ وكمال السعة بحيث لا يستقرّ فيها شيء ﴿فَتَقْعُدَ﴾ وتمكث بين أهلك ومعارفك ﴿مَلُوماً﴾ يلومونك (٢) بسوء التدبير وإضاعة المال وإلقاء الأهل والأولاد في المحنة والمشقّة و﴿مَحْسُوراً﴾ ومنقطعا عن الحيل والتدابير في تنظيم أمورك وأمور عيالك.

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا يسألة احد من الدنيا شيئا إلا أعطاه ، فأرسلت إليه امرأة ابنا لها فقالت : انطلق إليه فاسأله فان قال [ لك : ] ليس عندنا شيء ، فقل : أعطني قميصك. قال : فأخذ قميصه وأعطاه ، فأدّبه الله على القصد » (٣) .

والقمي ، قال : كان سبب نزولها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا يردّ أحدا يسأله شيئا عنده ، فجاءه رجل فسأله فلم يحضره شيء ، فقال : « يكون إن شاء الله » . فقال : يا رسول الله ، أعطني قميصك ، فأعطاه قميصه ، فأنزل الله : ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ﴾ نهاه الله أن يبخل أو يسرف ويقعد محسورا من الثياب. فقال الصادق عليه‌السلام : « المحسور : العريان » (٤) .

وعنه عليه‌السلام - في حديث - « علّم الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف ينفق ، وذلك أنّه كان عنده اوقية من ذهب ، فكره أن تبيت عنده فتصدّق بها ، فأصبح وليس عنده شيء ، وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه ، فلامه السائل ، واغتمّ هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه ، وكان رحيما رفيقا (٥) ، فأدّب الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمره فقال : ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ﴾ الآية. يقول : [ إنّ النّاس ] قد يسألونك ولا يعذرونك ، فاذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال » (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « الإحسار : الفاقة » (٧) .

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٦٣٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٨.

(٢) في النسخة : يلامونك.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٤٨ / ٢٥٠٣ ، الكافي ٤ : ٥٥ / ٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٩.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٩.

(٥) في الكافي وتفسير الصافي : رقيقا.

(٦) الكافي ٥ : ٦٧ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٩.

(٧) الكافي ٤ : ٥٥ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٩.

٤٣

وعنه عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الآية : الإحسار ، الإقتار » (١) .

وعنه عليه‌السلام ، في قوله : ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ﴾ قال : ضمّ يده فقال : « هكذا » ﴿وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ،﴾ قال : وبسط راحته وقال : « هكذا » (٢) .

﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)

ثمّ بيّن سبحانه أن مقتضى ربوبيته رعاية صلاح العباد في توسعة المعاش وتضييقه تسكينا لقلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ﴾ توسعة رزقه ﴿وَيَقْدِرُ﴾ ويضيق على من يشاء التضييق عليه على حسب اختلاف مصالح الأشخاص ونظام العالم ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿كانَ بِعِبادِهِ﴾ ومصالحهم ﴿خَبِيراً بَصِيراً﴾ فالتفاوت بينهم في الغنى والفقر إنّما هو لاختلافهم في الأحوال والمصلحة ، والله العالم بها ، فلا تغتمّ لفقر أحد.

في الحديث القدسي : « أنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك » وقال : « وإنّي لأعلم بمصالح عبادي»(٣).

وفي ( نهج البلاغة ) : « وقدّر الأرزاق ، فكثّرها وقلّلها ، وقسّمها على الضيق والسّعة ، فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها ، وليختبر بذلك الشّكر والصبر من غنيّها وفقيرها » (٤) .

﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً

 كَبِيراً (٣١)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الرزق والتوسعة والتضييق فيه بتقدير الله ، وكان العرب على ما قيل يقتلون أولادهم خوفا من الفقر (٥) ، نهاهم عن ذلك بقوله : ﴿وَلا تَقْتُلُوا﴾ أيّها العرب ﴿أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ ولمخافة الفقر ، فانّ رزقهم ليس عليكم حتى تخافوا منه ، بل ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ لا غيرنا ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ﴾ لأيّ داع ﴿كانَ خِطْأً كَبِيراً﴾ وذنبا عظيما.

قيل : إنّ هرم بن حيّان قال لأويس : أين تأمرني أن أكون ؟ فأومأ إلى الشام ، فقال هرم كيف المعيشة

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٤٨ / ٢٥٠٥ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٩.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٤٨ / ٢٥٠٤ ، التهذيب ٧ : ٢٣٦ / ١٠٣١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٩.

(٣) الكافي ٢ : ٢٦٣ / ٨ « نحوه » ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٩.

(٤) نهج البلاغة : ١٣٤ / ٩١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٠.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٠ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٥٣.

٤٤

بها ؟ فقال أويس : افّ لهذه القلوب التي قد خالطها الشكّ فما تنفعها العظة (١) .

قيل : إنّ العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن التكسّب ، ولأنّ فقرها ينفّر أكفاءها عن تزويجها ، فيحتاجون إلى تزويجها بغير أكفائها ، وهو عار شديد (٢) .

﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢)

ثمّ لمّا وصف سبحانه قتل الأولاد بالذنب الكبير ، أردفه بذكر بعض الكبائر التي منها الزنا بقوله : ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى﴾ ولا ترتكبوه أبدا ﴿إِنَّهُ كانَ﴾ فعله ﴿فاحِشَةً﴾ شديدة القباحة ﴿وَساءَ سَبِيلاً﴾ سبيله ، وبئس طريقا طريقه ، فانّه موجب لاختلال الأنساب وهيجان الفتن وشيوع الفساد.

وعن الباقر عليه‌السلام - في حديث - قال : ﴿وَساءَ سَبِيلاً﴾ وهو أشدّ الناس عذابا ، والزنا من أكبر الكبائر » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن علي عليهم‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيته له : « يا علي ، في الزنا ست خصال ؛ ثلاث منها في الدنيا ، وثلاث في الآخرة ، فأمّا التي في الدنيا : فيذهب بالبهاء ، ويعجّل الفناء ، ويقطع الرزق. وأمّا التي في الآخرة : فسوء الحساب ، وسخط الرحمن ، والخلود في النّار » (٤) .

وروى بعض العامة عن بعض الصحابة : « إياكم والزنا ، فانّ فيه ستّ خصال ؛ ثلاث في الدنيا ، وثلاث في الآخرة ، فأما التي في الدنيا : فنقصان الرزق ، ونقصان العمر ، والبغض في قلوب الناس.

وأما الثلاث التي في الآخرة : فغضب الربّ ، وشدّة الحساب ، والدخول في النّار » (٥) .

﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)

ثمّ ذكر سبحانه قتل النفس المحترمة التي هي أكبر الكبائر العملية بقوله : ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ﴾ قتلها بوجه من الوجوه ﴿إِلَّا بِالْحَقِ﴾ المقرّر في الشرع المطهّر من القصاص والحدّ والدفاع.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ١٥٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ١٩٦ - ١٩٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٠.

(٤) الخصال : ٣٢١ / ٣ ، من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٦٦ / ٨٢٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٠.

(٥) تفسير أبي السعود ٥ : ١٧٠ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٥٤.

٤٥

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إني امرت أن اقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله ، فاذا قالوا عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها ، وحسابهم على الله » (١) .

قيل : وما حقّها ، يا رسول الله ؟ قال : « زنا بعد إحصان ، وكفر بعد إيمان ، وقتل نفس فيقتل بها » (٢) .

ثمّ ذكر حكم القصاص بقوله : ﴿وَمَنْ قُتِلَ﴾ من المؤمنين حال كونه ﴿مَظْلُوماً﴾ ومحترما دمه بأن لم يصدر منه ما يجوّز قتله ﴿فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ﴾ ووارث دمه من ورّاث ماله إن كانوا ، ومن الإمام الذي هو وارث من لا وارث له ﴿سُلْطاناً﴾ واستيلاء على القاتل إن شاء قتله ، وإن شاء أخذ الدّية ، فان اختار القتل ﴿فَلا يُسْرِفْ﴾ ولا يتجاوز الحدّ المقرّر ﴿فِي الْقَتْلِ﴾ بأن يقتل غير القاتل مع القاتل ، أو يمثّل بالمقتصّ منه ، أو يقتل عوض القاتل أشراف قومه ، وليس لأحد مزاحمة القاتل في استيفاء حقّه ﴿إِنَّهُ﴾ في شرع الاسلام ﴿كانَ مَنْصُوراً﴾ من قبل الله.

القمي : يعني ينصر ولد المقتول على القاتل (٣) .

عن الكاظم عليه‌السلام ، أنّه سئل عن هذه الآية ، وقيل له : فما هذا الاسراف الذي نهى الله [ عنه ؟ ] قال : « نهى أن يقتل غير قاتله ، أو يمثّل بالقاتل » .

قيل : فما معنى قوله : ﴿إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ؟﴾ قال : « وأيّ نصرة أعظم من أن يدفع القاتل [ إلى ] أولياء المقتول فيقتله ، ولا تبعة تلزمه من قتله في دين أو دنيا » (٤) .

عن العياشي [ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ] : « إذا اجتمع العدّة على قتل رجل واحد ، حكم الوالي أن يقتل أيّهم شاءوا ، وليس لهم أن يقتلوا أكثر من واحد ، إنّ الله عزوجل يقول : ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً﴾ إلى قوله : ﴿فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « نزلت في الحسين عليه‌السلام ، لو قتل أهل الأرض به ما كان سرفا » (٦) .

وقيل : إنّ الاسراف في القتل ترجيحه على أخذ الدّية ، والمراد بالنهي النهي عن اختيار القتل (٧) ، وإنّما قدّم النهي عن الزنا على النهي عن القتل ، مع أنّ القتل أكبر الكبائر العملية ؛ لأنّ الجماع مقدّمة وجود الانسان ، والقتل إعدامه بعد الوجود ، وبيان حكم مقدمة وجود الانسان مقدّم بالطبع على حكم مترتّب

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٤٣٩ / ٣٣٤١ ، مسند أحمد ٤ : ٨.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٠٠ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٥٥.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩١.

(٤) الكافي ٧ : ٣٧٠ / ٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩١ ، وفيهما : ولا دنيا.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ٤٩ / ٢٥١٠ ، الكافي ٧ : ٢٨٤ / ٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩١.

(٦) الكافي ٨ : ٢٥٥ / ٣٦٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩١.

(٧) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٠٢.

٤٦

على وجوده ، كذا قيل (١) .

ثمّ أعلم أنّ بالتفسير الذي ذكرنا للمظلوم ، يندفع الاعتراض على الآية بأنّها تدل على أن موجب جواز القتل منحصر في كون المقتول مظلوما ، مع أنّ سببه غير منحصر فيه ، بل له أسباب كثيرة كالكفر بعد الايمان وكثير من المعاصي التي حدّها (٢) القتل.

﴿وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ

 الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن إتلاف النفوس نهى عن إتلاف مال اليتامى الذين هم أضعف الضعفاء بقوله : ﴿وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ﴾ ولا تتصرّفوا فيه بطريقة من الطرق وخصلة من الخصال ﴿إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ الطّرق والخصال ، وهو التصرّف الذي لا يكون فيه إفساد والذي تكون فيه الغبطة ، وكونوا مستمرّين على ذلك ﴿حَتَّى يَبْلُغَ﴾ اليتيم ﴿أَشُدَّهُ﴾ وكمال قواه وعقله ورشده.

ثمّ أكّد العمل بالأحكام المذكورة التي هي عهود الله بقوله : ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾ الذي بينكم وبين ربّكم من العمل بأحكامه والنّذر واليمين ، أو بينكم وبين الناس كالبيوع وغيرها من المعاملات.

ثمّ هدّد سبحانه على مخالفته بقوله : ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كانَ﴾ يوم القيامة عنه ﴿مَسْؤُلاً﴾ حين المحاسبة قيل : إنّه بتقدير المضاف ، والمعنى أنّ صاحب العهد (٣) .

وقيل : المسؤول بمعنى المطلوب ، والمراد أنّه يطلب من المعاهد أن يفي به (٤) . وقيل : إنّه فرض العهد شخصا عاقلا يسأل عنه ، ويقال له : لم يوف بك ، تبكيتا للناكث (٥) .

﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً

* وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ

مَسْؤُلاً (٣٥) و (٣٦)

ثمّ بعد إيجاب الوفاء بالعهد ، أوجب سبحانه إيفاء الحقوق بقوله : ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ﴾ وأتمّوه ﴿إِذا كِلْتُمْ﴾ لمستحقّه ولا تخسروه حين عاملتم بالكيل ﴿وَزِنُوا﴾ ما عاملتموه بالوزن ﴿بِالْقِسْطاسِ﴾ والميزان ﴿الْمُسْتَقِيمِ﴾ والعدل السويّ.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٩٩.

(٢) في النسخة : حدّه.

(٣ و٤) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٠٦.

(٥) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٠٦.

٤٧

عن الباقر عليه‌السلام : « هو الميزان الذي له لسان » (١) . ﴿ذلِكَ﴾ الايفاء بالكيل والوزن ﴿خَيْرٌ﴾ لكم في الدنيا ؛ لأنّه موجب لرغبة الناس في معاملتكم ، ولذكركم بالجميل في الناس ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ وعاقبة في الآخرة.

ثمّ لمّا نهى سبحانه عن قتل النفوس وإتلاف أموال اليتيم ، وأمر بتأدية حقوق الناس ، نهى عن إتلاف نفوسهم وأموالهم وأعراضهم بالقول بقوله : ﴿وَلا تَقْفُ﴾ ولا تقل ، كما عن القمي (٢)﴿ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ عن محمد ابن الحنفية : يعني شهادة الزور (٣) . وعن ابن عباس : يعني لا تشهد إلّا بما رأته عيناك وسمعته اذناك ، ووعاه قلبك (٤) .

وقيل : إن المراد [ منه : النهي عن ] القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب (٥) .

وقيل : المراد النهي عن الكذب. وقيل : إنّ المراد النهي عن البهتان (٦) .

وعن القمي : لا ترم أحدا بما ليس لك به علم ، قال رسول الله : « من بهت مؤمنا أو مؤمنة أقيم في طينة خبال ، أو يخرج ممّا قال » (٧) . قيل : إنّ طينة خبال صديد جهنّم.

وقيل : إنّ المراد مطلق القول بما لا علم به ، سواء أكان على الله ، أو على الناس. وقيل : إنّ المعنى لا تتبع ما لا تعلم.

واستدلّ جماعة بهذه الآية بناء على حرمة العمل بالظنّ والخبر غير العلمي في الأحكام الشرعية ، وفيه أنّه صحيح لو لم يكن على حجيتهما دليل قطعي ، وإلّا كان العمل بهما عملا بالعلم ، أو كان عموم النهي مخصصا به.

ثمّ هدّد الله على القول أو العمل بغير العلم بقوله : ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُ﴾ واحد من ﴿أُولئِكَ﴾ الأعضاء التي رئيسها الفؤاد ﴿كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً﴾ في القيامة ، فيشهد بأعمالكم ومعاصيكم ، فلا تستطيعون ردّها ، فانّ جميع الأعضاء في الآخرة حيّة بحياة مستقلة شاعرة ناطقة ، كما قال تعالى : ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ(٨) .

عن الصادق عليه‌السلام : في هذه الآية : « يسأل السمع عمّا سمع ، والبصر عمّا نظر إليه ، والفؤاد عمّا عقد عليه » (٩) .

وعنه عليه‌السلام ، قال له رجل : إنّ لي جيرانا ولهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود ، فربما دخلت المخرج

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٢.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٢.

(٣-٥) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٠٧.

(٦) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٠٨.

(٧) تفسير القمي ٢ : ١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٢.

(٨) النور : ٢٤ / ٢٤.

(٩) تفسير العياشي ٣ : ٧٥ / ٢٥١٩ ، الكافي ٢ : ٣١ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٢.

٤٨

فاطيل الجلوس استماعا منّي لهن ؟ قال عليه‌السلام : « لا تفعل » .

فقال : والله ما هو شيء آتيه برجلي ، إنما هو سماع أسمعه باذني ؟ فقال عليه‌السلام : « تالله كذبت (١) ، أما سمعت الله يقول : ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٢) الخبر.

وعن السجاد عليه‌السلام : « ليس لك أن تتكلّم بما شئت ؛ لأنّ الله يقول : ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ ولأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : رحم الله عبدا قال خيرا فغنم ، أو صمت فسلم ، وليس لك أن تسمع ما شئت ؛ لأنّ الله يقول : ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣) .

﴿وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً *

كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٧) و (٣٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الكبائر الموبقة ، والأمر بالوفاء بالعهد وإيفاء الحقوق ، وكلّها من وظائف اليد واللسان والقلب ، وبيان مسؤولية الأعضاء والجوارح ، نهى عن مشي الخيلاء (٤) والتكبّر الذي هو وظيفة الرّجلين بقوله : ﴿وَلا تَمْشِ﴾ أيّها الانسان ﴿فِي﴾ وجه ﴿الْأَرْضِ مَرَحاً﴾ وتكبّرا ، أو فخرا ، أو بطرا ، أو فرحا ، كما عن القمي رحمه‌الله (٥) .

ثمّ نبّه سبحانه على عدم لياقته للتعظّم والتكبّر بقوله : ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ﴾ ولن تنقب حال انخفاضك في المشي ﴿الْأَرْضِ﴾ بقوة قدميك وشدّة وطئك ﴿وَلَنْ تَبْلُغَ﴾ حال ارتفاعك ﴿الْجِبالَ﴾ ولن تصل إلى رؤوسها ﴿طُولاً﴾ وبتطاولك ، فمع هذا العجز يكون التكبّر عين الحماقة ، إذ التكبّر إنّما يكون بكثرة القوة وعظم الجثّة ، وكلاهما مفقودان فيك.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيته لمحمّد بن الحنفية : « وفرض على الرّجلين أن تنقلهما في طاعته ، وأن لا تمشي بهما مشية عاص ، فقال عزوجل : ﴿وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً(٦) » .

ثمّ بيّن سبحانه علّة النهي عن الخصال الاثني عشر بقوله : ﴿كُلُّ ذلِكَ﴾ المذكور في تضاعيف الآيات المشتملة على الأوامر والنواهي من الخصال الخمس والعشرين ﴿كانَ سَيِّئُهُ﴾ وقبيحه ، وهو الذي نهى عنه ، وهي اثنتا عشرة خصلة ﴿عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾ ومبغوضا.

__________________

(١) في الكافي والعياشي : لله أنت ، وفي من لا يحضره الفقيه والتهذيب : يالله أنت. وفي الصافي : تالله أنت.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٥٢ / ٢٥٢٠ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٥ / ١٧٧ ، التهذيب ١ : ١١٦ / ٣٠٤ ، الكافي ٦ : ٤٣٢ / ١٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٢.

(٣) علل الشرائع : ٦٠٦ / ٨٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٢.

(٤) في النسخة : المشي عن الخيلاء.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٢٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٣.

(٦) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٣٨٣ / ١٦٢٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٣.

٤٩

قيل : إنّما وصف المنهيات بمطلق الكراهة مع كون جميعها أو جلّها من أكبر الكبائر ، إيذانا بكفاية مجرّد كراهة الله تعالى لشيء في وجوب الالتزام بتركه (١) .

﴿ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي

 جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩)

ثمّ حثّ سبحانه في العمل بالتكاليف المفصّلة بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من التكاليف ﴿مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ وما يستقلّ بحسنه وصلاحة العقل السليم ، أو من الأحكام المحكمة التي لا تقبل النّسخ ، أو من الأحكام التي كانت في ألواح موسى ، كما عن بن عباس (٢) .

ولمّا كانت دليلا على الوحدانية ، ختم سبحانه الأحكام بما بدأها بقوله : ﴿وَلا تَجْعَلْ﴾ أيّها الانسان ﴿مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ﴾ تنبيها على أنّ التوحيد أول المقاصد وآخرها ، وأنّ عمدة الغرض منها تكميله.

ثمّ أنّه تعالى بعد التهديد أولا على الشّرك بالعذاب الدنيوي ، هدّد عليه آخرا بالعذاب الاخروي بقوله : ﴿فَتُلْقى﴾ في الآخرة ﴿فِي جَهَنَّمَ﴾ حال كونك ﴿مَلُوماً﴾ عند نفسك وغيرك على ما كنت عليه من الشّرك ﴿مَدْحُوراً﴾ ومطرودا من رحمة الله.

عن القمي : المخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمعنى للناس (٣) .

عن الباقر عليه‌السلام - في حديث - « ثم بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بمكة عشر سنين ، فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله إلا أدخله الله الجنة بإقراره ، وهو إيمان التصديق ، ولم يعذّب الله أحدا ممن مات وهو متّبع لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك إلّا من أشرك بالرحمن ، وتصديق ذلك أنّ الله عزوجل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل آية (٤)﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً﴾ إلى قوله : ﴿إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً(٥) أدب وعظة وتعلّم ونهي خفيف ، ولم يعد عليه ، ولم يتواعد على اجتراح شيء ممّا نهى عنه ، وأنزل نهيا عن أشياء حذّر عليها ولم يغلظ فيها ، ولم يتواعد عليها ، وقال : ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ وتلا الآيات إلى قوله : ﴿مَلُوماً مَدْحُوراً(٦) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٥ : ١٧٢ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٥٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ٢١٤ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٧٣ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٣.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٢٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٣.

(٤) في الكافي وتفسير الصافي : بمكة.

(٥) الإسراء : ١٧ / ٢٣ - ٣٠.

(٦) الكافي ٢ : ٢٥ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٤ ، والآيات من سورة الإسراء : ١٧ / ٣١ - ٣٩.

٥٠

﴿أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً

 * وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٠) و (٤١)

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الاشراك ، ذمّ المشركين القائلين بأنّ الملائكة بنات الله على هذا القول الفضيع ، وأنكر عليهم بقوله : ﴿أَ فَأَصْفاكُمْ﴾ وخصّكم ﴿رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ﴾ وفضّلكم على نفسه بأفضل الأولاد في اعتقادكم ﴿وَاتَّخَذَ﴾ لنفسه ﴿مِنَ الْمَلائِكَةِ﴾ أولادا ﴿إِناثاً﴾ وبنات مع اعتقادكم بأنهنّ أخسّ الأولاد ، وهذا ممّا تنكره العقول ، فانّ الموالي لا يختارون لأنفسهم الأردأ ويعطون الأجود الأصفى للعبيد ﴿إِنَّكُمْ﴾ أيّها الجهّال الحمقاء ، والله ﴿لَتَقُولُونَ﴾ بقولكم : إنّ الله اتّخذ لنفسه ولدا ، وهو إناث ﴿قَوْلاً عَظِيماً﴾ وكلاما شنيعا في الغاية ، بحيث لا يقول به من له أدنى مسكة ، لبداهة أن الولادة من خصائص الجسم ، والله تعالى مجسّم الأجسام وخالق الوالد والولد ، ولا يعقل أن يكون جسما ، ومن لوازم الحاجة ، وهو تعالى غني بالذات. وعلى فرض المحال لا يمكن أن يختار لنفسه أخسّ الأولاد ، وهو موجد لهم ، فيالها من ضلالة ، وما أقبحها !

﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا﴾ وبيّنا أو كررنا ﴿فِي هذَا الْقُرْآنِ﴾ الحجج والحكم والعبر ﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ وليتنبّهوا ويتدبّروا ﴿وَما يَزِيدُهُمْ﴾ هذا القرآن وتصريف البراهين والمواعظ التي منه ﴿إِلَّا نُفُوراً﴾ واشمئزازا منه ومن الحقّ.

﴿قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحانَهُ

 وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٢) و (٤٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الشرك ، استدلّ على بطلانه بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، للمشركين ﴿لَوْ كانَ مَعَهُ﴾ تعالى ﴿آلِهَةٌ﴾ اخرى من الأصنام والكواكب وغيرها ﴿كَما﴾ هم ﴿يَقُولُونَ :﴾ إنّ لله شركاء في الالوهية ﴿إِذاً﴾ البتة ﴿لَابْتَغَوْا﴾ ولطلبوا ﴿إِلى﴾ معارضة ﴿ذِي الْعَرْشِ﴾ وخالق الموجودات والغلبة عليه في الالوهية والايجاد والتدبير في العالم ﴿سَبِيلاً﴾ ووسيلة ، كما هو دأب الملوك بعضهم مع بعض ، ولو طلبوا لفسد نظام العالم. وقيل : يعني لطلبوا لأنفسهم إلى التقرّب إليه تعالى سبيلا بتحصيل الكمالات الفائقة والمراتب العالية ، حتى يمكنهم أن يقرّبوكم إليه ويشفعوكم لديه (١) .

ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن الشرك بقوله : ﴿سُبْحانَهُ وَتَعالى﴾ وتنزّه وارتفع بذاته ﴿عَمَّا يَقُولُونَ﴾ من وجود الشريك والولد له ﴿عُلُوًّا كَبِيراً﴾ وارتفاعا عظيما لا غاية له ، لأنّ المنافاة بين وجوب الوجود

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ٢١٧.

٥١

لذاته والقديم والحادث والباقي والفاني والغني المطلق والمحتاج المطلق بحدّ لا تعقل الزيادة عليه.

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ

 بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ تسبيحه لا ينحصر بذاته المقدسة بل ﴿تُسَبِّحُ لَهُ﴾ ما في ﴿السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ﴾ من الملائكة والأرواح المقدّسة ، وتنزّهه عن جميع النقائص الامكانية والضدّ والندّ والولد ، ثمّ عمّم تسبيحه لجميع الموجودات بقوله : ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ﴾ من الأشياء ، وما من موجود من الموجودات ﴿إِلَّا﴾ وهو ﴿يُسَبِّحُ﴾ ربّه ملابسا ﴿بِحَمْدِهِ﴾ على نعمه ﴿وَلكِنْ﴾ أنتم ﴿لا تَفْقَهُونَ﴾ ولا تفهمون ﴿تَسْبِيحَهُمْ﴾ لقصور فهمكم واحتجاب أسماعكم وعدم التدبّر في آيات حدوثهم وإمكانهم.

عن الصادق عليه‌السلام : « تنقّض الجدر تسبيحها » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : سئل هل تسبّح الشجرة اليابسة ؟ فقال : « نعم ، أما سمعت خشب البيت كيف ينقض ، وذلك تسبيحه لله ، فسبحان الله على كلّ حال » (٢) .

أقول : ظاهر الروايتين أنّ طروّ النقص على الموجودات ، وظهور التغيير فيها ، دالّ على تنزّه خالقها من النقص والتغيير ، وكون جميعها تحت قدرة موجدها وتدبيره وإرادته ، ولمّا لم يتدبّر المشركون في تلك الآيات لغفلتهم وجهلهم وانهماكهم في الشهوات ، صاروا مستحقّين للعذاب ، ولكن لا يعاجلهم الله به ﴿إِنَّهُ كانَ حَلِيماً﴾ غير عجول في تعذيب العصاة غير الأهلين للغفران ﴿غَفُوراً﴾ لذنوب الأهلين له.

وقيل : إن التسبيح في الآية على معناه الحقيقي ، وهو قول : سبحان الله ، كما عن ابن مسعود ، قال : لقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل (٣) .

وعن ابن عبّاس ، في قوله تعالى : ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ(٤) كان داود إذا سبّح جاوبته الجبال بالتسبيح (٥) .

وعن مجاهد : كلّ الأشياء تسبح الله ، حيّا كان أو جمادا ، وتسبيحها : سبحان الله وبحمده (٦) .

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٥٤ / ٢٥٢٣ ، الكافي ٦ : ٥٣١ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٥.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٥٤ / ٢٥٢٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٥.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٦٣.

(٤) سورة ص : ٣٨ / ١٨.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ١٦٣.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ١٦٣.

٥٢

وروي أنّ الحصاة سبّحت في كفّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) . وفي الحديث : « ما من طير يصاد إلّا بتضييعه التسبيح » (٢) .

أقول : الحقّ أنّ جميع الموجودات لها تسبيح تكويني وتسبيح اختياري ، وإنّما يسمعه من له اذن سامعة كالنبيّ والكمّلين من المؤمنين.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « إنّي لأعرف حجرا بمكّة كان يسلّم عليّ قبل أن ابعث » (٣) .

ويمكن أن يكون المراد من الآية المباركة كلا التسبيحين بإرادة القدر المشترك ، أو عموم المجاز.

﴿وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً

* وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي

 الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٥) * (٤٦)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه آيات توحيده وكمال ذاته ، وذمّ المشركين بعدم فهمهم وتفقّههم لها ، ذمّهم بإعراضهم عن القرآن المبين لمعارفه وللبراهين الدالة على توحيدة ، وتنزّهه عما لا يليق بوجوب وجوده وكمال ذاته ، وعدم فهمهم وتفقّههم ما فيه ، ومعاداتهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَإِذا قَرَأْتَ﴾ يا محمّد ﴿الْقُرْآنَ﴾ الحاوي للحكم والمعارف ﴿جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ﴾ المشركين ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ والبعث بعد الموت ﴿حِجاباً﴾ وسترا يسترك عنهم حتّى لا يؤذونك ، وكان ذلك الحجاب أيضا ﴿مَسْتُوراً﴾ عن أعينهم ، أو المراد حجابا ذا ستر يسترك عنهم ﴿وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ وأغطية كراهة ﴿أَنْ﴾ يفهموا القرآن و﴿يَفْقَهُوهُ﴾ حقّ فهمه وفقهه ، ويعرفوا جهات إعجازه ودلائل صدقه ﴿وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً﴾ وثقلا عن سماعة اللائق به ، قيل : إنّ الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قرأ القرآن على الناس (٤) .

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان كلّما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان ، وعن يساره آخران من ولد قصيّ ، يصفّقون ويصفرون ويخلّطون عليه بالأشعار (٥) .

وعن أسماء : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان جالسا ومعه أبو بكر ، إذ أقبلت امرأة أبي لهب ومعها فهر (٦) تريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تقول :

مذمّما أتيا

و دينه قلينا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ١٦٤.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٥٤ / ٢٥٢٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٥.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٦٣.

(٤) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٢٠.

(٥) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٢٠ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٧٦.

(٦) الفهر : الحجر.

٥٣

وامره عصينا

فقال أبو بكر ، يا رسول الله ، معها فهر ، أخشاها عليك : فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذه الآية ، فجاءت فما رأت رسول الله ، وقالت : إنّ قريشا [ قد ] علمت أنّي ابنة سيّدها ، وأنّ صاحبك هجاني(١) .

وروي أنّها نزلت في أبي سفيان والنضير (٢) وأبي جهل وامّ جميل امرأة أبي لهب ، كانوا يؤذون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قرأ القرآن ، فحجب الله أبصارهم إذا قرأ ، وكانوا يمرّون به ولا يرونه (٣) .

وقيل : إنّ المشركين كانوا يطلبون موضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الليالي ، لينتهوا إليه ويؤذونه ، ويستدلّون على موضعه باستماع قراءته ، فآمنه الله من شرّهم ، وذكر له أنّه جعل بينه وبينهم حجابا لا يمكنهم الوصول إليه معه ، وبيّن أنّه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن ، وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته. ويجوز أن يكون ذلك مرضا شاغلا يمنعهم عن المصير إليه (٤) .

وقيل : إنّ القوم لشدّة امتناعهم عن قبول دلائل نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صاروا كأنّه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب وساتر ، وإنّما نسب [ الله ] سبحانه ذلك الحجاب إلى نفسه ؛ لأنّه لمّا خلّاهم مع أنفسهم وما منعهم عن ذلك الاعراض ، صارت تلك التخلية كأنّها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة(٥).

وقيل : إنّ المراد من القرآن هو الصلاة ، تسمية للكلّ باسم جزئه (٦) .

روي أنّ المشركين كانوا يؤذون النبي عليه‌السلام مصلّيا ، وجاءت امّ جميل امرأة أبي لهب بحجر لترضخه فنزلت (٧) .

ثمّ ذمّهم الله بالنّفر عن ذكر الله وحده بقوله : ﴿وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ﴾ بأن سمعوا منك آية فيها ذكر الله وذمّ الشرك ، أو لم تذكر مع اسم الله اسم آلهتهم ﴿وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ﴾ وهربوا ونفروا من استماعه ﴿نُفُوراً﴾ واشمئزازا ، وقيل : إنّ المراد أعرضوا عنك حال كونهم نافرين (٨) .

عن الصادق عليه‌السلام : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا دخل إلى منزله ، واجتمعت عليه قريش ، يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ويرفع بها صوته ، فتولّي قريش فرارا ، فأنزل الله في ذلك : ﴿وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ﴾ الآية » (٩) .

والقمي ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا تهجّد بالقرآن تسمع له قريش لحسن صوته ، فكان إذا قرأ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٢١ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٧٥.

(٢) كذا في المصدر أيضا ، ولعلّه النّضر بن الحارث.  

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٦٧.

(٤ و٥) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٢٢.

(٦ و٧) تفسير روح البيان ٥ : ١٦٧.

(٨) تفسير روح البيان ٥ : ١٦٨.

(٩) الكافي ٨ : ٢٦٦ / ٣٨٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٥.

٥٤

( بسم الله الرحمن الرحيم ) فروا عنه (١) .

وعن العياشي ، عنه عليه‌السلام : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا صلّى بالناس جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، فتخلّف من خلفه من المنافقين عن الصفوف ، فاذا جازها في السورة عادوا إلى مواضعهم ، وقال بعضهم لبعض : إنّه ليرّدد اسم ربّه تردادا ، إنّه ليحبّ ربّه ، فأنزل الله ﴿وَإِذا ذَكَرْتَ﴾ الآية » (٢) .

﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ

 الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ

 فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)

ثمّ هدّد الله المستهزئين بالقرآن بقوله : ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ﴾ وبالوجه الذي يصغون ﴿بِهِ﴾ من الاستهزاء والتكذيب ﴿إِذْ يَسْتَمِعُونَ﴾ وحين يصغون ﴿إِلَيْكَ﴾ وأنت تتلو القرآن ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوى﴾ وحين يسارّون في شأنك ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ﴾ والمتجاوزون عن حدّ العقل في نجواهم ومسارّتهم : إنكم إن اتّبعتم محمّدا فيما يدعوكم إليه ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً﴾ ومجنونا أو مخدوعا خدعه الذين علّموه ، أو خدعه الشيطان ، فأوهمه أنّه ملك.

ثمّ أظهر التعجّب من مقالاتهم الواهية بقوله : ﴿انْظُرْ﴾ يا محمّد نظر التعجّب إلى هؤلاء الحمقاء ﴿كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ﴾ وقالوا فيك ما لا يجوز أن يقال من قولهم : هو شاعر ، أو كاهن ، أو مجنون ، أو ساحر ﴿فَضَلُّوا﴾ عن منهاج الحقّ أو الحجاج ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ أن يجدوا ﴿سَبِيلاً﴾ إليه ، ولا يمكنهم الطعن فيك بما يقبله العقل.

نقل الفخر الرازي عن المفسّرين أنّه أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام أن يتّخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش ، ففعل ودخل عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقرأ عليهم القرآن ، ودعاهم إلى التوحيد ، وقال : « قولوا لا اله إلّا الله حتى تطيعكم العرب ، وتدين لكم العجم » ، فأبوا ذلك عليه ، وكانوا عند استماعهم القرآن والدعوة إلى الله يقولون بينهم متناجين : هو ساحر ، أو هو مسحور ، وما أشبه ذلك ، فنزلت الآية (٣) .

وعن ابن عبّاس : أنّ أبا سفيان والنّضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويستمعون إلى حديثه ، فقال النّضر يوما : ما أدري ما يقول محمّد ، غير أنّي أرى شفتيه تتحرّك بشيء.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٥.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٥٥ / ٢٥٣١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٢٣.

٥٥

وقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقا. وقال أبو جهل : هو مجنون. وقال أبو لهب : هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزّى : هو شاعر (١) .

﴿وَقالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجارَةً

 أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي

 فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ

 يَكُونَ قَرِيباً (٤٩) و (٥١)

ثمّ لمّا وصف الله المشركين بأنّهم لا يؤمنون بالآخرة ، حكى شبهتهم في المعاد بقوله : ﴿وَقالُوا﴾ إنكارا للبعث ، وتقريرا لكون النبي فاسد العقل : يا محمّد ﴿أَ إِذا﴾ متنا و﴿كُنَّا عِظاماً﴾ بالية ﴿وَرُفاتاً﴾ وأجزاء متفتّته ﴿أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ من القبور حال كوننا مخلوقين ﴿خَلْقاً جَدِيداً﴾ ومحيين بحياة ثانية مع تفّرق تراب أجسادنا في العالم واختلاطه بغيره وعدم تميّزه ؟ هيهات ، لا يمكن ذلك أبدا ، فردّهم الله بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهم : ﴿كُونُوا﴾ في المثل ﴿حِجارَةً﴾ صلبة ﴿أَوْ حَدِيداً﴾ الذي هو أصلب منها ﴿أَوْ خَلْقاً﴾ آخر ﴿مِمَّا يَكْبُرُ﴾ ويعظم ﴿فِي صُدُورِكُمْ﴾ قبوله للحياة لغاية بعده عنها في نظركم ، فانّكم تحيون وتبعثون لا محالة.

قيل : إنّ المراد ممّا يكبر في صدورهم السماوات والجبال (٢) . وقيل : إنّه الموت ، ونسب إلى جمهور المفسرين ، إذ ليس في النفس شيء أكبر من الموت (٣) .

والقمي عن الباقر عليه‌السلام : « الخلق الذي يكبر في صدوركم الموت » (٤) . والمعنى لو كنتم عين الموت لأميتكم واحييكم لا محالة ، لإمكانه وعدم القصور في القدرة ، واقتضاء الحكمة البالغة وجوبه ، إذ لو لا البعث لكان الخلق الأول عبثا ، وتعالى الله من العبث علوا كبيرا ، فإذا أجبتهم عن شبهتهم تلك (٥)﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ إنكارا واستبعادا : ﴿مَنْ يُعِيدُنا﴾ ويبعثنا مع كمال المباينة بين ترابنا وبين الإعادة والبعث ﴿قُلِ﴾ يا محمّد ، يعيدكم القادر ﴿الَّذِي فَطَرَكُمْ﴾ واخترع خلقكم ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وفي بدو خلقكم في هذا العالم من غير مثال يحتذيه من تراب لم يشمّ رائحة الحياة ، فإذا أجبتهم وعيّنت معادهم (٦)﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ﴾ ويحرّكون نحوك ﴿رُؤُسَهُمْ﴾ تعجبا وانكارا ﴿وَيَقُولُونَ﴾ استهزاء ﴿مَتى﴾ البعث ، وفي أي وقت ﴿هُوَ قُلْ﴾ لهم ﴿عَسى﴾ وأرجو ﴿أَنْ يَكُونَ﴾ ذلك الوقت ﴿قَرِيباً

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٢١.

(٢ و٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٧٠.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٢١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٦.

(٥) في النسخة : ذلك.

(٦) في النسخة : معيدهم.

٥٦

لأنّ كلّ آت قريب ، أو لأنه مضى أكثر الزمان وبقي أقلّه.

﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)

ثمّ عيّن الله وقت الاعادة وسهولتها بقوله : ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ﴾ الله ببعثكم من القبور أو إسرافيل بنفخه الأخير في الصّور ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ﴾ الدعوة ، وتمتثلون [ أمر ]

الداعي [ سواءأ ] كان هو الله أو إسرافيل فيما دعاكم إليه ، وتخرجون من الأجداث سراعا منقادين لله رافعين أصواتكم ﴿بِحَمْدِهِ﴾ على قدرته على إعادتكم.

عن سعيد بن جبير : أنّهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، ويقدّسونه ويحمدونه حين لا ينفعهم ذلك (١) ، أو تستجيبون بأمره على القول بمجئ الحمد بمعنى الأمر ، أو منقادين لاسرافيل حامدين لما فعل بكم غير مستعصين ﴿وَتَظُنُّونَ﴾ بعد البعث ورؤية الأهوال ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ﴾ وما مكثتم في الدنيا ، أو في القبور ﴿إِلَّا قَلِيلاً﴾ اقتصارا للمدّة الماضية ، أو تقريبا لوقت البعث.

عن ابن عبّاس : يريد ما بين النفختين الأولى والثانية ، فإنّه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت ، قال : والدليل عليه قوله في سورة يس : ﴿مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا(٢) فظنّهم بأن هذا لبث قليل عائد إلى لبثهم فيما بين النفختين (٣) الأولى والثانية.

وقيل : يوم يدعوكم خطاب للمؤمنين ، فانّهم يحمدون الله على إحسانه إليهم (٤) .

﴿وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ

 لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ

 وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ

 فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٣) و (٥٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد إقامة الحجّة على التوحيد والمعاد وبيان معارضة المشركين للرسول وشدّة عداوتهم للحق ، أمر المؤمنين بمداراتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن صونا من الفساد (٥) بقوله : ﴿وَقُلْ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٢٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٧٠.

(٢) يس : ٣٦ / ٥٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٢٧.

(٤) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٢٨.

(٥) في النسخة : صونا للفساد ، ويريد صونا من الفساد المترتّب على المخاشنة في القول والسبّ والشتم لأنّ المشركين سيقابلونهم بمثله.

٥٧

لِعِبادِي﴾ المؤمنين الذين يجادلون المشركين ﴿يَقُولُوا﴾ عند محاورتهم معهم الكلمة ﴿الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ الكلم ولا يخاشنونهم في القول ، ولا يخلطون حجّتهم بالشّتم والسّبّ.

ثمّ نبّه سبحانه على فائدة تحسين الكلام بقوله : ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ﴾ ويثير الفتن ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وبين المشركين ، ويغري بعضهم على بعض ، وتشتدّ العداوة بينهم ، ويزداد الغضب والتنافر فيهم ، فيمتنع حصول المقصود ، وهو هدايتهم ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ﴾ من بدو خلقتهم ﴿عَدُوًّا مُبِيناً﴾ في عداواته ، ومبغضا متجاهرا ببغضه.

ثمّ علّم سبحانه المؤمنين تحسين الكلام مع المشركين بقوله : ﴿رَبُّكُمْ﴾ أيّها المشركون ﴿أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ وأخبر بعقائدكم وأعمالكم ﴿إِنْ يَشَأْ﴾ الرحمة عليكم بالتوفيق للايمان والعمل الصالح ﴿يَرْحَمْكُمْ﴾ بلا مزاحم ولا رادّ ﴿أَوْ إِنْ يَشَأْ﴾ تعذيبكم باماتتكم على الكفر يميتكم و﴿يُعَذِّبْكُمْ﴾ بلا عجز ولا دافع ، ولا تصرّحوا لهم بأنّكم أهل النار ، فانّه يهيجهم على الشرّ مع أنّه لا يعلم عاقبة أحد إلّا الله ﴿وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ نكل إليك امورهم من الرحمة والتعذيب ، فتجبرهم على الايمان ، وإنّما أرسلناك بشيرا ونذيرا ، فدارهم ومر أصحابك بالمداراة وترك المخاصمة.

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الله أمرني بمداراة الناس ، كما أمرني باقامة الفرائض » (١) .

وقيل : إنّ المراد من العباد في الآية الكفّار ، عبّر عنهم به جذبا لقلوبهم وميلا لطباعهم إلى دين الاسلام (٢) ، والمعنى : قل - يا محمّد - للذين يقرّون بكونهم عبادا لي يعتقدوا بالعقائد التي هي أحسن من التوحيد والمعاد ، ولا يصرّوا على العقائد الباطلة ، فانّ الشيطان يحملهم على التعصّب ، والشيطان عدوّ لهم ، فلا ينبغي أن يلتفتوا إلى قوله وتسويلاته ، وقل لهم : ربّكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم بأن يوفقكم للايمان والهداية ، وإن يشأ يميتكم على الكفر ، وأنتم لا تطّلعون على تلك المشيئة ، فاجتهدوا أنتم في طلب الحقّ ، ولا تقيموا على الباطل ، لئلا تحرموا من السعادات الأبدية ، ثمّ قال : ﴿وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ حتّى تشدّد عليهم وتغلظ لهم في القول ، فانّ اللّين والرّفق آثر في قلوبهم ، وأفيد في حصول المقصود من هدايتهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد قوله : ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ بيّن سعة علمه ، وعدم قصره بأحوال المشركين ، بل محيط بأحوال جميع أهل العالم بقوله : ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وأحوالهم وخصالهم وما يليق بكلّ واحد منهم ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ﴾ كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى بالكتاب والشرع وعموم الرسالة وكثرة المعجزات ﴿عَلى بَعْضٍ﴾ آخر لعلمنا بتفاوت مراتبهم في

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ١٧٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٢٩.

٥٨

الفضائل النفسانيّة والكمالات الروحانيّة.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ التفضيل إنّما هو بالفيوضات المعنوية من العلم والكتاب لا بالسلطنة بقوله: ﴿وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً﴾ وفضلّناه به لا بالملك والسلطنة ، فاذا كان كذلك فلا بعد في أن نفضّل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع الخلق من الأولين والآخرين بإتيانه القرآن الذي هو أفضل الكتب السماوية ، وتعميم رسالته إلى يوم القيامة.

وقيل : إن وجه تخصيص داود وكتابه بالذكر أنّ في الزّبور أنّ محمّدا خاتم الأنبياء ، وأن امّته خير الامم (١) .

وقيل : إنّ وجهه أنّ اليهود كانوا يقولون : إنّه لا نبيّ بعد موسى ، ولا كتاب بعد التوراة. فنقض الله كلامهم بإنزال الزبور على داود (٢) .

أقول : الظاهر أنّ اليهود ينكرون بعث رسول بعد موسى له شرع غير شرعه ، ونزول كتاب ناسخ لكتابه ، لا بعث مطلق الرسول ونزول مطلق الكتاب.

عن الصادق عليه‌السلام : « سادة النبيين والمرسلين خمسة ، وهم اولو العزم من الرسل ، وعليهم دارت الرحى : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ، وفضله على جميع الأنبياء » (٣) .

وفي ( العلل ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الله تعالى فضّل الأنبياء المرسلين على ملائكته المقرّبين ، وفضّلني على جميع النبيين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا عليّ وللأئمّة من ولدك ، وإنّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا » (٤) .

وعن ابن عباس : أنّه جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتذاكرون ، وهم ينتظرون خروجه ، فخرج حتى دنا منهم ، فسمعهم يتذاكرون ، فسمع حديثهم فقال بعضهم : عجبا إنّ الله اتّخذ إبراهيم من خلقه خليلا ! وقال آخر : ماذا بأعجب من أنّ الله كلّم موسى تكليما ؟ وقال آخر : ماذا بأعجب من جعل عيسى كلمة الله وروحه ؟ فقال آخر : ماذا بأعجب من آدم اصطفاه الله عليهم ؟ فسلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أصحابه ، وقال : « قد سمعت كلامكم وعجبكم من أنّ ابراهيم خليل الله وهو كذلك ، وأن موسى كليم الله وهو كذلك ، وأن عيسى روح الله وكلمته وهو كذلك ، وأنّ آدم اصطفاه الله وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين على

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣٠.

(٣) الكافي ١ : ١٣٤ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٨.

(٤) علل الشرائع : ٥ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩٨.

٥٩

الله ولا فخر ، وأنا أوّل من يحرّك حلقة الجنّة فيفتح الله لي فأدخلها ومعي فقراء المهاجرين [ ولا فخر]»(١).

﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا

 تَحْوِيلاً (٥٦)

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب عبدة الأصنام وقولهم بانكار المعاد ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بردّ قول عبدة الملائكة والجنّ والمسيح والعزير بقوله : ﴿قُلِ﴾ يا محمّد ، للذين يعبدون الملائكة والجنّ والمسيح والعزير ﴿ادْعُوا﴾ أيّها المشركون ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ وتخيّلتم بأهوائكم أنّهم آلهتكم ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى وممّا سواه لحوائجكم ، فانّ المعبود لابّد أن يكون قادرا على إزالة الضرر من عابديه ، وإيصال النفع إليهم ، وأما آلهتكم ﴿فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ﴾ من المرض والفقر وغيرهما ، ولا يقدرون على إزالته ﴿عَنْكُمْ﴾ بوجه من الوجوه ﴿وَلا تَحْوِيلاً﴾ ونقلا له منكم إلى غيركم.

قيل : إنّها نزلت في الذين كانوا يعبدون الملائكة (٢) . وقيل : في الذين عبدوا المسيح (٣) . وقيل : في الذين عبدوا نفرا من الجّن ، فأسلم النفر ، وبقي اولئك متمسّكين بعبادتهم (٤) .

﴿أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ

 وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)

ثمّ بيّن سبحانه عجز آلهتهم واحتياجهم إلى الله بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ الآلهة ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ هم ﴿يَبْتَغُونَ﴾ ويطلبون ﴿إِلى رَبِّهِمُ﴾ ومالك أمورهم ﴿الْوَسِيلَةَ﴾ والقربة بالطاعة والعبادة له ﴿أَيُّهُمْ﴾ وكلّ واحد منهم فرض أنّه ﴿أَقْرَبُ﴾ إليه تعالى بكون (٥) شغله ذلك الابتغاء والطلب ﴿وَ﴾ هم ﴿يَرْجُونَ﴾ ويأملون ﴿رَحْمَتَهُ﴾ تعالى بالوسيلة ﴿وَيَخافُونَ عَذابَهُ﴾ بتركها كدأب سائر العباد ، فكيف بمن دونهم ؟ فأين هم من كشف الضرّ فضلا عن الالوهية ﴿إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً﴾ وحقيقا بأن يحترز منه كلّ أحد حتى الرسل والملائكة ، وإن لم يحذره المشركون لغاية غفلتهم وانهماكهم في الشهوات ، وإنّما استدلّ سبحانه بعجز الملائكة وغيرهم ممّن ادّعوا ألوهيتهم عن كشف الضرّ وبابتغائهم الوسيلة لتسليم المشركين كونهم عبادا لله مخلوقين بقدرته مربوبين بتربيته.

﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ١٧٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣١.

(٣ و٤) تفسير الرازي ٢٠ : ٢٣١.

(٥) في النسخة : يكون.

٦٠