نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

يبطله (١) .

﴿فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ﴾ قيل : كان كلّ من الحبال والعصي سبعون ألفا (٢) ، ﴿وَقالُوا﴾ غرورا باتيانهم بأقصى ما يمكن من السحر نقسم ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ﴾ وعظمته ﴿إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ﴾ على موسى وهارون.

عن ابن عباس : قد كانت الحبال مطلية بالزّئبق والعصيّ مجوّفة مملوءة منه ، فلمّا ألقوها حميت بحرّ الشمس ، واشتدّت حركتها ، [ فصارت ] كأنّها حيّات تتحرّك من كلّ جانب من الأرض ، فهاب موسى عليه‌السلام ذلك (٣) ، فأوحى الله إليه أن ألق ما في يمينك ﴿فَأَلْقى﴾ عند ذلك ﴿مُوسى عَصاهُ﴾ من يده باذن الله ﴿فَإِذا هِيَ﴾ ثعبان مبين ﴿تَلْقَفُ﴾ وتبلع بسرعة ﴿ما يَأْفِكُونَ﴾ وما يظهرون على خلاف الواقع ، وما يقلبونه بسحرهم عن صورته فيخيّلون في حبالهم وعصيّهم أنّها حيّات ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ﴾ على وجوههم ﴿ساجِدِينَ﴾ لله تعظيما له أثر ما رأوا من بلع العصا جميع آلاتهم ، لعلمهم بأنّه خارج عن حدّ السّحر ، وأنّه معجزة عظيمة ، وإنّما قال سبحانه ( ألقى ) تشبيها ، لعدم تمالكهم للخرور للسجود بإلقاء غيرهم إياهم و﴿قالُوا﴾ عن صدق وخلوص : ﴿آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ ثمّ لمّا كان فرعون مدّعيا لربوبية العالمين فسّروه بقولهم : ﴿رَبِّ مُوسى وَهارُونَ﴾ الذي أرسلهما بهذه المعجزة المعظّمة التي لا تشبه السّحر.

فلمّا رأى فرعون إيمان السّحرة بموسى الدالّ على صدقة ﴿قالَ﴾ للسحرة تلبيسا على أتباعه وإظهارا لبقائه على قدرته : يا قوم ﴿آمَنْتُمْ لَهُ.﴾ قيل : إنّ همزة الاستفهام التوبيخي محذوفة ، والمعنى أ آمنتم بموسى ﴿قَبْلَ أَنْ﴾ تستأذنوا منّي (٤) و﴿آذَنَ لَكُمْ﴾ في الايمان به مع أنّكم عبيدي ، وإنّما كانت هذه الجرأة عليّ والمسارعة في الايمان به لمواطاتكم معه و﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾ واستاذكم ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ فواضعكم على إهلاكي وتغليبه عليّ وإذهاب سلطاني قبل أن تأتوني وتجيئوا إلى هذا الموضع ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ جزاء عملكم ، وعن قريب ترون وبال صنيعكم ، ثمّ بيّن جزاءهم تفصيلا بقوله : ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ﴾ من شقّ ﴿وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ﴾ شقّ ﴿خِلافٍ﴾ آخر جزاء على مخالفتي ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ بعد القطع.

قيل : إنّه أول من قطع من خلاف وصلب. وقيل : كلمة ( من ) للتعليل ، والمعنى لخلاف صار منكم (٥) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٣٤.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٣.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١٣٤.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٤ ، و٣ : ٢١٤.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٥.

٥٢١

فلما سمع السّحرة تهديده ﴿قالُوا﴾ مجيبين له : ﴿لا ضَيْرَ﴾ فيه علينا ، ولا بأس به ، فإنّا لا نبالي بالموت ﴿إِنَّا إِلى رَبِّنا﴾ بعد الموت ﴿مُنْقَلِبُونَ﴾ وراجعون ، وهذا أقصى منانا ، لأنّه تعالى يكرمنا ويثيبنا أفضل الثواب على إيماننا بالصبر على ما أصابنا في مرضاته.

﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)

ثمّ نبّهوا على أنّ الكفر ومعارضة النبيّ من أعظم المصائب بقولهم : ﴿إِنَّا نَطْمَعُ﴾ ونرجو ﴿أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا﴾ ومعاصينا من الكفر ومعارضة موسى وغير ذلك لأجل ﴿أَنْ كُنَّا﴾ من بين الناس ، أو الذين حضروا الموقف ، أو اتّبعوا فرعون ﴿أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالله وبنبوة موسى عليه‌السلام.

وعن الصادق عليه‌السلام - في رواية - : « فألقى موسى عصاه ، فذابت في الأرض مثل الرّصاص ، ثمّ طلع رأسها ، وفتحت فاها ، ووضعت شدقها العليا على رأس قبة فرعون ، ثمّ دارت وأرخت شفتها السّفلى والتقمت عصيّ السّحرة وحبالهم ، وغلب كلّهم ، وانهزم الناس اجمعون حين رأوها وعظمها وهولها بما لم تر العيون ، ولا وصف الواصفون مثله ، فقتل في الهزيمة من وطء الناس بعضهم بعضا عشرة آلاف رجل وامرأة وصبيّ ، ودارت على قبّة فرعون ، فأحدث هو وهامان في ثيابهما ، وشاب رأسهما (١) من الفزع ، وفر (٢) موسى في الهزيمة مع الناس ، فناداه الله عزوجل : ﴿خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى(٣) فرجع موسى عليه‌السلام ولفّ على يده عباءا كانت عليه ، ثمّ أدخل يده في فيها فاذا هي عصاه (٤) كما كانت ، وكان كما قال الله عزوجل ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ﴾ لما رأوا ذلك و﴿قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ﴾ فغضب فرعون غضبا شديدا و﴿قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾ يعني موسى ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ الآية فقالوا له كما حكى الله عزوجل ﴿لا ضَيْرَ﴾ الآيتان ، فحبس فرعون من آمن بموسى في السجن حتى أنزل الله عزوجل عليهم الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم ، فأطلق عنهم » (٥) .

وقيل : إنّ اللّعين قطع أيدي السّحرة وأرجلهم من خلاف ، وصلبهم على شاطيء النيل ، وكان موسى ينظر إليهم ويبكي ، فأراه الله منازلهم في الآخرة ، فسلّى قلبه (٦) .

﴿وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي

__________________

(١) زاد في تفسير القمي : وغشي عليهما.

(٢) في تفسيري القمي والصافي : مر.

(٣) طه : ٢٠ / ٢١.

(٤) في تفسيري القمي ، والصافي : عصا.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١٢٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٦.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٥.

٥٢٢

الْمَدائِنِ حاشِرِينَ * إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ * وَإِنَّا

 لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ * فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ *

 كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٢) و (٥٩)

فأقام موسى عليه‌السلام بين أظهرهم سنين يظهر لهم الآيات ، فلم يزيدوا إلّا عتوّا وفسادا ، فلمّا أراد الله تخليص موسى وقومه من أذى القبط وتمليكهم بلاد فرعون وقومه وأموالهم ، بيّن تدبيره فيه بقوله : ﴿وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى﴾ بعد الغلبة الظاهرة على فرعون وقومه ﴿أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي﴾ المؤمنين بك من بني إسرائيل وأخرجهم من مصر لئلّا يستأصلهم فرعون بالعذاب بغضا عليك ﴿إِنَّكُمْ﴾ بعد الخروج من مصر ﴿مُتَّبَعُونَ﴾ يتّبعكم فرعون وجنوده ، فأخبر موسى عليه‌السلام قومه بما أوحى الله إليه فقالوا للقبط : إنّ لنا عيدا في هذه الليلة ، فاستعاروا منهم حلّيهم وحللهم ، ثمّ خرجوا بتلك الأموال إلى جانب البحر ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ﴾ بعد ما سمع بخروجهم ﴿فِي الْمَدائِنِ﴾ والبلاد التي تحت سلطانه شرطا ﴿حاشِرِينَ﴾ وجامعين للعساكر ، وأمرهم أن يقولوا لأهل المدائن تضعيفا لبني اسرائيل : ﴿إِنَّ هؤُلاءِ﴾ القوم ﴿لَشِرْذِمَةٌ﴾ وعدّة ﴿قَلِيلُونَ.

عن ابن عباس : كانوا ستمائة ألف مقاتل ، لا شابّ فيهم دون عشرين سنة ، ولا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم ، وفرعون يقلّلهم لكثرة من معه (١) . والمقصود إظهار عدم مبالاته بهم وعدم احتمال غلبتهم.

وعن الصادق (٢) عليه‌السلام يقول : « عصبة قليلة » (٣) .

وقيل : اريد بالقلة الذلة ، لا قلة العدد (٤) .

﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ(٥) : على الفتنة ، ومحترزون عن الفساد على حسب عادتنا وحزمنا في الامور.

عن الصادق عليه‌السلام : « خرج موسى عليه‌السلام ببني إسرائيل ليقطع بهم البحر ، وجمع فرعون أصحابه ، وبعث في المدائن حاشرين ، وحشر الناس ، وقدّم مقدّمته في ستمائة ألف ، وركب هو في ألف ألف»(٦).

روي أنّ فرعون ركب (٧) على فرس (٨) حصان كان في عسكره على لونه ثلاثمائة ألف (٩) ، فخرج كما

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٣٧.

(٢) في تفسيري القمي والصافي : الباقر.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٢٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٧.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ١٣٧.

(٥) لم يتعرض المصنف لتفسير الآية ( ٥٥ ..

(٦) تفسير القمي ٢ : ١٢١ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٧.

(٧) في تفسير الرازي : خرج.

(٨) زاد في تفسير الرازي : أدهم.

(٩) تفسير الرازي ٢٤ : ١٣٧.

٥٢٣

حكى الله بقوله : ﴿فَأَخْرَجْناهُمْ﴾ بتدبيرنا من تهيئة أسباب الخروج لهم ، وإيجاد الداعي فيهم ﴿مِنْ جَنَّاتٍ﴾ وبساتينهم التي فيها كثير أنهار ﴿وَعُيُونٍ﴾ ومنابع ماء ﴿وَ﴾ من ﴿كُنُوزٍ﴾ وأموال وفيرة لم ينفقوها في طاعة كما قيل (١)﴿وَ﴾ من ﴿مَقامٍ كَرِيمٍ﴾ ومنازل حسنة ومجالس بهيّة والأمكنة التي كانوا يتنعّمون فيها ، وإنّما يكون الإخراج الذي هو من غضب الله ﴿كَذلِكَ﴾ الإخراج العجيب الهائل من جميع الأحوال والأمكنة ﴿وَأَوْرَثْناها﴾ وملكناها بعدهم ﴿بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ قيل : إنّهم رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر ، وتصرّفوا [ في ] أموال القبط (٢) . وقيل : إنّهم تصرفوا فيها (٣) في زمن داود (٤) .

﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا

 لَمُدْرَكُونَ * قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٠) و (٦٢)

ثمّ بيّن كيفية إهلاك فرعون وقومه بقوله : ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ﴾ ولحقوهم حال كونهم ﴿مُشْرِقِينَ﴾ وداخلين في وقت طلوع الشمس ، وقيل : يعني ذهبوا وراءهم من ناحية المشرق (٥)﴿فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ﴾ وتقارب كلّ من أصحاب فرعون أصحاب موسى من الآخر ﴿قالَ أَصْحابُ مُوسى﴾ له يا موسى ﴿إِنَّا﴾ والله ﴿لَمُدْرَكُونَ﴾ وملحقون ومأخوذون ، أو مهلكون حين لحوقهم بنا ﴿قالَ﴾ موسى تسلية وزجرا لهم عن هذا الوهم : ﴿كَلَّا﴾ لن يدركوكم أبدا ، وكيف يدركونكم و﴿إِنَّ مَعِي﴾ بالنّصرة والحفظ ﴿رَبِّي﴾ وانه ﴿سَيَهْدِينِ﴾ ويدلّني البته إلى طريق النجاة منهم وكيفية إهلاكهم.

روي أنّ أصحاب فرعون لمّا قربوا من بني إسرائيل ، خلق الله بخارا حال بين الفريقين بحيث لم ير أحد منهم الآخر ، فقال فرعون لأصحابه : انزلوا وتوقفوا حتى ترتفع الشمس ويزول البخار ، فإنّه لا مفرّ لبني إسرائيل لأنّ أمامهم البحر ، ونحن وراءهم (٦) .

وروي أنّ مؤمن آل فرعون كان عند موسى ، فقال له : أين امرت ، فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون ؟ ! فقال موسى : امرت بالبحر ، ولعلي أؤمر بما أصنع (٧) .

﴿فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ

 الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ

 أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٨.

(٣) في النسخة : تصرّفوها.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٨.

(٥) تفسير القرطبي ١٣ : ١٠٦ ، تفسير روح المعاني ١٩ : ٨٤.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ١٣٩.

(٧) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٩.

٥٢٤

الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٣) و (٦٨)

ثمّ بيّن سبحانه طريق نجاته ونجاة أصحابه وإهلاك أعدائه بقوله : ﴿فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى﴾ عند انتهائه وانتهاء أصحابه إلى بحر القلزم الذي كان بين اليمن ومكّة ، أو إلى النّيل الذي كان بين أيلة ومصر ﴿أَنِ اضْرِبْ﴾ يا موسى ﴿بِعَصاكَ الْبَحْرَ﴾ فضربه ﴿فَانْفَلَقَ﴾ البحر ، وانشقّ الماء ، وانفرق اثني عشر فرقا بعدد الأسباط ﴿فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ﴾ وقطعة ماء مجتمع بعضه فوق بعض ﴿كَالطَّوْدِ﴾ والجبل المتطاول ﴿الْعَظِيمِ.

عن ابن عباس : لمّا انتهى موسى مع بني إسرائيل إلى البحر ، أمرهم أن يخوضوا البحر فامتنعوا إلّا يوشع بن نون ، فانّه ضرب دابّته وخاض في البحر حتى عبر ، ثمّ رجع إليهم فأبوا أن يخوضوا ، فقال موسى عليه‌السلام للبحر : انفرق لى. فقال : ما امرت بذلك ، ولا يعبر عليّ العصاة. قال موسى عليه‌السلام : يا ربّ ، قد أبى البحر أن ينفرق. فقيل له : اضرب بعصاك البحر ، فضربه فانفرق ، فكان كلّ فرق كالطّود العظيم ، أي كالجبل العظيم ، وصار فيه اثنى عشر طريقا ، لكلّ سبط منهم طريق ، فقال كلّ سبط : قتل أصحابنا ، فعند ذلك دعا موسى عليه‌السلام ربّه ، فجعلها مناظر كهيئة الطبقات ، حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة (١) .

روي أنّ جبرئيل عليه‌السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون ، وكان يقول لبني إسرائيل : ليلحق آخركم بأولّكم ، ويستقبل القبط فيقول : رويدكم ليحلق آخركم (٢) .

وعن عبد الله بن سلام : لمّا انتهى موسى ٧ إلى البحر ، قال : « يا من كان قبل كلّ شيء ، والمكّون لكل شيء ، والكائن بعد كلّ شيء ، اجعل لنا فرجا ومخرجا » (٣) .

وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا أعلّمك الكلمات التي قالهنّ موسى حين انفلق البحر ؟ » قلت : بلى قال : « قل اللهمّ لك الحمد ، وإليك المشتكى ، وبك المستغاث ، وأنت المستعان ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله » (٤) .

قيل : لمّا انفلق البحر أرسل الله ريحا فجف بها قعر البحر ، ثمّ دخل بنو إسرائيل في شعاب جبل الماء ومسالك البحر (٥) .

﴿وَأَزْلَفْنا﴾ وقرّبنا من بني إسرائيل ﴿ثَمَ﴾ وفي المكان الذي انفلق البحر ، القوم ﴿الْآخَرِينَ﴾ وهم فرعون وجنوده حتى دخلوا على إثرهم مداخلهم. وقيل : يعني قرّبنا بعض قوم فرعون من بعضهم

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٣٩.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٩.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٩.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٩.

٥٢٥

حتى لا ينجو منهم أحد (١) . وقيل : يعني قرّبناهم من الموت (٢) .

﴿وَأَنْجَيْنا﴾ من الغرق ﴿مُوسى وَمَنْ مَعَهُ﴾ من بني إسرائيل ﴿أَجْمَعِينَ﴾ بحفظ البحر على هيئته إلى أن خرجوا إلى أن البرّ ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا﴾ فيه القوم ﴿الْآخَرِينَ﴾ المتّبعين لموسى باطباقه عليهم.

عن الصادق عليه‌السلام : « لمّا قرب موسى من البحر وقرب فرعون من موسى ، قال أصحاب موسى : إنّا لمدركون » إلى أ ، قال : « فدنا موسى عليه‌السلام من البحر ، فقال له انفرق (٣) . فقال البحر : استكبرت يا موسى عن (٤) أن انفرق (٥) لك ولم أعص الله عزوجل طرفة عين ، وقد كان فيكم العاصي (٦) ؟ فقال له موسى عليه‌السلام : فاحذر أن تعصي وقد علمت أن آدم اخرج من الجنة بمعصيته ، وإنّما لعن إبليس بمعصيته. فقال البحر : ربّي عظيم مطاع أمره ، ولا ينبغي لشيء أن يعصيه. فقام يوشع بن نون فقال لموسى يا نبي الله ، ما أمر (٧) ربّك ؟ قال : بعبور البحر فأقحم يوشع فرسه في الماء ، فأوحى الله عزوجل إلى موسى : ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ﴾ فانفق ، فكان كلّ فرق كالطّود العظيم ، أي كالجبل العظيم ، فضرب له في البحر اثني عشر طريقا ، فأخذ كلّ سبط منهم في طريق ، فكان الماء قد ارتفع وبقيت الأرض يابسة ، طلعت فيها الشمس فيبست ، كما حكى الله عزوجل : ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى(٨) ودخل موسى عليه‌السلام وأصحابه البحر » .

إلى أن قال : « فأخذ كل سبط في طريق ، وكان الماء قد ارتفع على رؤوسهم مثل الجبال ، ففزعت (٩) الفرقة التي كانت مع موسى في طريقه ، فقالوا : يا موسى ، أين إخواننا ؟ فقال لهم : معكم في البحر ، فلم يصدّقوه ، فأمر الله عزوجل البحر فصار طاقات ، حتى كان ينظر بعضهم إلى بعض ويتحدّثون ، وأقبل فرعون وجنوده ، فلمّا انتهى إلى البحر قال لأصحابه : ألا تعلمون أنّي ربّكم الأعلى قد فرج لي البحر ، فلم يجسر أحد أن يدخل البحر ، وامتنعت الخيل منه لهول الماء ، فتقدّم فرعون حتى جاء إلى ساحل البحر ، فقال له منجّمه : لا تدخل البحر وعارضه ، فلم يقبل منه ، وأقبل على فرس حصان ، فامتنع الحصان أن يدخل الماء ، فعطف عليه جبرئيل ، وهو على ماديانة (١٠) فتقدّمه ودخل ، فنظر الفرس إلى الرمكة فطلبها ، ودخل البحر ، واقتحم أصحابه خلفه ، فلمّا دخلوا كلّهم - حتى كان آخر من دخل من

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٣٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٤٠.

(٣) في تفسير القمي : انفلق.

(٤) ( عن. ليست في تفسيري القمي والصافي.

(٥) في تفسير القمي : أن تقول لي انفلق.

(٦) في تفسير القمي : المعاصي.

(٧) في تفسيري القمي والصافي : أمرك.

(٨) طه : ٢٠ / ٧٧.

(٩) في تفسيري القمي والصافي : فجزعت.

(١٠) الماديانة : لفظ أعجمي ، يراد به الانثى من الخيل ، ويقال له بالعربية : الرّمكة ، وهي الفرس تتخذ للنتاج.

٥٢٦

أصحابه وآخر من خرج من أصحاب موسى - أمر الله عزوجل الرياح فضربت البحر بعضه ببعض ، فأقبل الماء يقع عليهم مثل الجبال ، فقال فرعون عند ذلك : ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ﴾ الخبر (١) .

وعنه عليه‌السلام « أنّ قوما ممّن آمن بموسى عليه‌السلام قالوا : لو أتينا عسكر فرعون وكنّا فيه ونلنا من دنياه ، فاذا كان الذي نرجوه من ظهور موسى عليه‌السلام ، صرنا إليه ، ففعلوا فلمّا توجّه موسى عليه‌السلام ومن معه [ إلى البحر ] هاربين من فرعون ، ركبوا دوابهم ، وأسرعوا في السير ليلحقوا بموسى عليه‌السلام وعسكره فيكونوا معهم ، فبعث الله عزوجل ملكا فضرب وجوه دوابّهم ، فردّهم إلى عسكر فرعون ، فكانوا في من غرق مع فرعون (٢) .

﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من معاجز موسى عليه‌السلام ، وغلبته على فرعون ، وإنجائه من الغرق وإهلاك أعدائه ﴿لَآيَةً﴾ ظاهرة ودلالة واضحة على وحدانية الله وكمال قدرته وحكمته ، وعبرة عظيمة للمعتبرين ممّن شاهد الوقائع ، ومن جاء بعدهم إلى يوم القيامة وسمعوهان فيدخل فيهم قريش الذين سمعوها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان اميا لم يسمعها من أحد ولم يقرأها في كتاب ، ولذا كان إخباره بها من الإخبار بالمغيبات ، ومن أظهر المعجزات ، ﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.

وقيل : إنّ ضمير الجمع راجع إلى القبط ، وما آمن منهم إلّا خربيل أو حزقيل مؤمن آل فرعون ، وآسية زوجه فرعون ، ومريم بنت موشا (٣) التي دلّت على عظام يوسف حين خروج موسى من مصر (٤).

وقيل : إنّه راجع إلى عموم المصريين (٥) ، أمّا القبط منهم ، فلمّا ذكر ، وأمّا بنو إسرائيل فلقولهم حين عبورهم على عبدة العجل : ﴿يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ(٦) .

وقيل : راجع إلى قوم نبينا الذين سمعوا منه قصة موسى وفرعون ، لعدم تدبّرهم فيها واعتبارهم بها حتى يحذروا من أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم فرعون (٧) .

﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب عى ما أراد من تعذيب المكذبين ﴿الرَّحِيمُ﴾ بهم حيث يمهلهم ولا يعجّل في عقوبتهم ، أو بالمؤمنين. وفي الآيتين تسلية للنبي حيث إنّه كان يغتّم قلبه الشريف بتكذيب قومه مع ظهور معجزاته ، وعرّفه محنة موسى حتى يصبر كما صبر.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٢١ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٨ ، والآية من سورة يونس : ١٠ / ٩٠.

(٢) الكافي ٥ : ١٠٩ / ١٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩.

(٣) في تفسير أبي السعود : يا موشا ، وفي تفسير روح البيان : ناموشا.

(٤و٥) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٤٦ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٠.

(٦) الاعراف : ٧ / ١٣٨.

(٧) تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٠.

٥٢٧

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ * إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ * قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً

 فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ * قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ

 * قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ * قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ

 وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ

 يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي

 يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٦٩) و (٨٢)

ثمّ اردف قصة إبراهيم بقصة موسى ، ليعرف حبيبه أنّ حزن جدّه كان أشدّ من حزنه بقوله : ﴿وَاتْلُ﴾ يا محمّد ﴿عَلَيْهِمْ﴾ على مشركي قومك ، واقرأ من كتاب ربك ﴿نَبَأَ﴾ أبيهم ﴿إِبْراهِيمَ﴾ الذي يفتخرون بكونهم أولاده ، ويستظهرون بأنّهم من نسله ﴿إِذْ قالَ﴾ موعظة وإرشادا ﴿لِأَبِيهِ﴾ المجازي ، وكان في الحقيقة عمّه الذي ربّاه ، أو زوج امّه ﴿وَقَوْمِهِ﴾ الذين بعث فيهم من الرجال ، والذين كانوا في بلدة بابل التي ينسب إليها السّحرة إنكارا عليهم عبادة الأصنام ، أو سؤالا مع علمه بالمسؤول عنه توطئة لتنبيههم على ضلالهم : يا قوم ﴿ما تَعْبُدُونَ﴾ وأيّ شيء له تخضعون خضوع المخلوق لخالقه ؟

﴿قالُوا﴾ جوابا له : ﴿نَعْبُدُ أَصْناماً﴾ وتماثيل من الفلزات والحجر والخشب. قيل : إنّها كانت اثنين وسبعين (١)﴿فَنَظَلُ﴾ ونشتغل في نهارنا بالتعظيم ﴿لَها﴾ أو نداوم على عبادتها حال كوننا ﴿عاكِفِينَ﴾ وملازمين لهذ الشّغل ومقبلين عليه.

عن ابن عباس : عاكفين مفتخرين بالأصنام (٢) . قيل : إنّ إبراهيم لمّا خرج من الغار ودخل مصر أراد أن يعلم دين أهله ، فلمّا سمع جوابهم (٣) ﴿قالَ﴾ تنبيها على فساد مذهبهم : ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ﴾ ويدركون دعاءكم ويستجيبون مسألتكم ؟ ﴿إِذْ تَدْعُونَ﴾ وحين تسألون حوائجكم ﴿أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ﴾ على عبادتكم لهم ﴿أَوْ يَضُرُّونَ﴾ كم إن تركتم عبادتها ؟ فانّ العاقل لا يعمل عملا إلّا لجلب المنفعة ، أو دفع الضرر ، فلمّا عجزوا عن إقامة البرهان على صحة عملهم ودفع اعتراض إبراهيم عليهم ، تمسّكوا بالتقليد ، و﴿قالُوا :﴾ لا ما رأينا منهم شيئا من السمع والنفع والضر ﴿بَلْ وَجَدْنا آباءَنا﴾ وكبراءنا ﴿كَذلِكَ﴾ الفعل الذي نحن نفعل كانوا ﴿يَفْعَلُونَ﴾ ومثل هذه العبادة كانوا يعبدون ، وهم لمّا كانوا أعقل وأبصر منّا اقتديا بهم وقلدناهم في رأيهم و﴿قالَ﴾ إبراهيم تقريرا لهم وتبرّئا من عملهم :

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٨١.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٤٢ ، ولم ينسب إلى ابن عباس.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٢٨١.

٥٢٨

﴿أَ فَرَأَيْتُمْ﴾ قيل : إنّ التقدير أنظرتم فأبصرتم ، أو تأملتم فعلمتم (١)﴿ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ﴾ وكبراؤكم السابقون حقّ الإبصار ، أو حقيقة العلم بأن الباطل لا يصير حقّا بكثرة قائليه وقدم عامليه ، لا والله لم تنظروا ولم تقفوا على حال أصنامكم ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ لكثرة ضررهم كأنّهم ﴿عَدُوٌّ لِي﴾ في الدنيا ، أو في الآخرة بعد إحيائهم ، أو عابدهم عدوّ لي ، وفيه تعريض على كونه عدوّ لعبدتهم ، وإظهارا لنصحهم بصورة نصح نفسه ليكون أقرب إلى القبول.

ثمّ نبّههم على حصر النفع في عبادة الله بقوله : ﴿إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ﴾ والتقدير : أنّ جميع الآلهة الذين كانوا يعبدونهم عدوّ إلّا رب العالمين فانّه كان في آبائهم من يعبده ، أو التقدير : لا وليّ لي إلّا ربّ العالمين.

وقيل : إنّ الاستثناء منقطع ، والمعنى : ولكن ربّ العالمين وليي وحبيبي في الدنيا والآخرة لا يزال يتفضّل عليّ بمنافعهما (٢) التي يجب أن يكون المعبود واجدا لها ، بقوله : ﴿الَّذِي خَلَقَنِي﴾ وأخرجني من كتم العدم إلى الوجود الذي هو أعظم النّعم ﴿فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ ويرشدني إلى معرفته ، وطريق تحصيل مرضاته ، وصلاح الدارين من بدو الخلق إلى زهوق الرّوح ، ممّا ينتظم به المعاش والمعاد ، فانّه (٣) يهدي في البدو إلى امتصاص دم الحيض ، وعند الكمال إلى الحقّ ، وفي الآخرة إلى الجنّة.

وقيل : يعني خلقني لاقامة الحقّ ، ويهديني إلى دعوة الخلق ، أو خلقني للطاعة ، ويهديني إلى الجنّة (٤) ، وإنّما اختلف الفعلان بالماضوية والمضارعية لتقدّم الخلق واستمرار الهداية.

﴿وَالَّذِي هُوَ﴾ وحده بعد الخلق ﴿يُطْعِمُنِي﴾ نعمه لتقوية أجزاء بدني ﴿وَيَسْقِينِ﴾ الشراب لتربية أعضاء جسدي بخلق المطعوم والمشروب والتسليط عليهما ، وإيجاد جميع مقدّمات الانتفاع بهما كالشهوة وقوّة المضغ والابتلاع والهضم والدفع وغير ذلك ، وإنّما كرّر الموصول للدلالة على استقلال كلّ واحد من الصلات في استحقاق العبادة وإيجابها ﴿وَإِذا مَرِضْتُ﴾ من التفريط في المطاعم والمشارب ، وفساد الأخلاط ، أو اقتضاء الحكمة ﴿فَهُوَ﴾ بلطفه ﴿يَشْفِينِ﴾ ويبرئني من المرض ، وإنّما أضاف المرض إلى نفسه مع كونه من الله لرعاية الأدب ، أو لكونه بصدد ذكر النّعم ، ولا ينتقض بذكر الموت ، فانّه نعمة من حيث إنّه سبب للتخلّص من آفات الدنيا وشدائدها ، والخلاص من المضيقة وقفص الجسد ، والدخول في فسحة عالم الآخرة ، والنيل بالمحابّ التي تستحقر دونها

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٤٨ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٢.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٤٨ ، تفسير روح البيان ٦ : ٨٢ ، وفي النسخة : منافعه.

(٣) في النسخة : فاية.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٣٠٣.

٥٢٩

الدنيا وما فيها ، وذلك لأهل الايمان والتوحيد.

وعن الصادق عليه‌السلام : « وإذا مرضت بالعصيان فهو يشفيني بالتوبة » (١) .

﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي﴾ ويقبض روحي بقدرته وحكمته ﴿ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ للحساب وجزاء الأعمال وقيل : يعني يميتني بالخذلان أو الجهل ، ثمّ يحييني بالتوفيق للطاعة ، أو بالعقل والعلم (٢)

﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ﴾ وأرجو ﴿أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾ وزّلاتي ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾ والجزاء وعند الحساب ، وفي التعبير عن يقينه بالطمع تأدبّ وتعليم للعباد ، كما أنّ التعبير عما يصدر منه من ترك الأولى بالخطيئة هضم للنفس ، وحثّ للعباد على الحذر من المعاصي وطلب المغفرة.

وقيل : إنّ المراد خطايا امّته ، أو امّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما علّق المغفرة بيوم الدين لظهور فائدتها فيه(٣).

﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي

 الْآخِرِينَ (٨٣) و (٨٤)

ثمّ أنّه عليه‌السلام بعد احتجاجه على قومه بتوصيف المستحق للعبادة بأوصاف فائقة مستلزمة للمعبودية بحيث لا يكون الفاقد لواحد منها قابلا (٤) لها ، سأل لنفسه أهمّ المطالب بقوله : ﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾ وأعطني بكرمك ﴿حُكْماً﴾ وعلما كاملا أستحقّ به خلافتك ورياسة خلقك ، كما عن ابن عباس (٥) ، وهو المعرفة بحقائق الأشياء ورؤيتها كما هي. وقيل : إنّ الحكم قوة بيان كلّ ما يحتاج إليه الناس على مقتضى الحكمة (٦)﴿وَأَلْحِقْنِي﴾ بتوفيقك للعمل بمرضاتك ﴿بِالصَّالِحِينَ﴾ والكاملين في الأخلاق والأعمال والمنزّهين عن النقائص الحيوانية والشهوات النفسانية ، واجعلني في زمرتهم ، أو أجمع بيني وبينهم في الجنّة ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ﴾ وحسن ذكر وجاه عظيم باق ﴿فِي الْآخِرِينَ﴾ وبين الناس إلى يوم الدين.

قيل : إنّه عليه‌السلام ابتدأ في دعائه بطلب الكمال الذاتي وهو العلم ، ثمّ بالكمال الأخلاقي وهو الصلاح ، ثمّ بالكمال الدنيوي الرّوحاني وهو الجاه والذكر الجميل الباقي إلى آخر الدهر (٧) . وعلّة طلبه أنّ النفوس البشرية إذا انصرفت هممهم إلى شخص واحد بالمدح والثناء ، أثّرت في ذلك الشخص كمالا زائدا على ما يكون له ، وإنّ شهرة شخص بين الناس بسبب ماله من الفضائل وجريان مدحه

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٥.

(٢و٣) تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٥.

(٤) يعني مستحقّا.

(٥) تفسير الصافي ٤ : ٤٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٦ ، ولم ينسبه إلى ابن عباس ، مجمع البيان ٧ : ٣٠٤ ، وفيه : إنه العلم.

(٦) مجمع البيان ٧ : ٣٠٤.

(٧) تفسير الرازي ٢٤ : ١٤٩.

٥٣٠

فيهم داعية لهم في اكتساب فضائله.

عن الصادق عليه‌السلام : قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لسان الصدق للمرء يجعله الله في الناس خير له من المال الذي يأكله ويورثه » (١) .

وقيل : إن المراد أن يجعل الله في ذريته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى الله تعالى (٢) . وحاصل الدعاء : واجعل صادقا من ذريّتي يجدّد (٣) ديني ، ويدعو إلى ما أدعو (٤) إليه ، وهو محمّد وأوصياؤهعليهم‌السلام(٥) .

القمي قال : هو أمير المؤمنين عليه‌السلام (٦) .

وقيل : إنّ المراد اتّفاق أهل الأديان على حبّه ، فاستجيب دعاؤه ، فانّه لا يرى أهل دين إلّا وهم يثنون عليه ويوالونه (٧) .

﴿وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا

 تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٥) و (٨٧)

ثمّ أنّه عليه‌السلام بعد طلب السعادة الدنيوية طلب السعادة الاخروية بقوله : ﴿وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ﴾ فيها جميع ﴿النَّعِيمِ﴾ في الآخرة ، ومن مستحقّيها كاستحقاق الوارث لمال مورثه.

ثمّ لمّا وعد عليه‌السلام آزر أن يستغفر له في السورة السابقة ، وفى بوعده بقوله : ﴿وَاغْفِرْ﴾ يا رب ﴿لِأَبِي﴾ آزر ﴿إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾ والمنحرفين عن صراط الحقّ وطريق الجنّة.

قيل : إنّ المراد بالمغفرة هدايته إلى الايمان (٨) .

وقيل : هي بمعناها ، ولكن لمّا كانت مشروطة بالايمان كان طلبها مستلزما لطلبه (٩) .

وقيل : إنّ أباه وعده بالإيمان (١٠) ، فدعا له بهذا الشرط (١١) . وقيل : إنّ أباه : قال له : إنا على دينك باطنا ، وانما اظهر الشرك خوفا من نمرود ، فدعا له بظّن أنّه مؤمن (١٢) . ولذا قال : إنّه كان من الضالين ، وليس الآن منهم ، فلمّا تبيّن له أنّه على كفره تبرأ منه.

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٢٣ / ١٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٤٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٤٩.

(٣) زاد في تفسير الصافي : أصل.

(٤) في تفسير الصافي : ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم.

(٥) تفسير الصافي ٤ : ٤٠ ، وفيه : محمد وعليّ والأئمة عليهم‌السلام من ذرّيتهما.

(٦) تفسير القمي ٢ : ١٢٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٤١.

(٧) تفسير الرازي ٢٤ : ١٤٩.

(٨) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٥٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٦.

(٩) تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٦.

(١٠) في تفسير الرازي : الإسلام.

(١١و١٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٥٠.

٥٣١

ثمّ أنّه عليه‌السلام بعد سؤال العزّ الدنيوي لنفسه ، سأل الاخروي منه بقوله : ﴿وَلا تُخْزِنِي﴾ ولا تهنّي بحطّ درجتي في الجنّة عن درجة غيري ، وبعتابي على ترك ما هو الأولى منّي ، أو لا تفضحني بين الناس باظهاره ، أو لا تخجلني عندهم ﴿يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ من القبور إلى المحشر ويجتمعون فيه ، وإنّما كان سؤاله هذا مع علمه بأنّ الله لا يخزي النبيّ لهضم النفس وإظهار العبودية والحاجة وتعليم العباد وحثّهم على الاقتداء به.

﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ

 لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٨٨) و (٩١)

ثمّ بيّن عظمة ذلك اليوم بقوله : ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ﴾ أحدا في نجاته من أهواله ، وإن صرفه في الدنيا في وجوه الخيرات ﴿وَلا بَنُونَ﴾ نفسا في خلاصها من العذاب بالنصرة والشفاعة

﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ﴾ فيه ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ وبريء من العقائد الفاسدة والأخلاق الرذيلة والشهوات النفسانية ، أو أمن فتنة المال والبنين ، أو من حبّ الدنيا.

عن الصادق عليه‌السلام : « هو القلب السليم من حبّ الدنيا » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم ، لأنّ سلامة القلب من هواجس المحذورات بتخليص النية لله تعالى في الأمور كلّها » ثمّ تلا هذه الآية (٢) .

وعنه عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه » قال : « وكلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط ، وإنّما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة»(٣).

وقيل : إنّه انقطع كلام إبراهيم بقوله : ﴿يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ ووصف اليوم من كلام الله ردّا على الكفار الذين قالوا : نحن أكثر أموالا وأولادا ، فأخبر بأنّهما لا ينفعان من لا سلامة لقلبه في الدنيا ، وأما من سلم قلبه فتنفعه خيراته وأولاده فاذا مات ابنه قبله يكون له ذخرا وأجرا ، وأن تخلّف بعده فانّه يذكره بصالح دعائه ويتوقّع منه شفاعته (٤) .

وقال بعض العامة : القلب السليم من بغض أهل بيت النبي وأزواجه وأصحابه (٥) .

وقيل : إنّ القلب السليم هو القلب القلق المضطرب من خشية الله ، كالذي لدغته الحية (٦) .

﴿وَأُزْلِفَتِ﴾ وقرّبت فيه ﴿الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ من موقفهم لينظروا إليها ويفرحوا بأنّهم يدخلونها

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٣٠٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٤١.

(٢) مصباح الشريعة : ٥٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٤١.

(٣) الكافي ٢ : ١٣ / ٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٤١.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٧.

(٥و٦) تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٨.

٥٣٢

فيعجّل سرورهم ﴿وَبُرِّزَتِ﴾ وأظهرت ﴿الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ﴾ والضالين ، وتجعل بمرآهم لينظروا إليها ويتحسّروا على أنّهم مساقون إليها فيعجّل عمههم.

عن الصادق عليه‌السلام : « الغاوون [ هم ] الذين عرفوا الحقّ وعملوا بخلافه » (١) .

قيل : يؤتى بالجحيم في سبعين ألف زمام ، وفي اختلاف الفعلين دلالة على ترجيح جانب الوعد ، فانّ التبريز لا يستلزم التقريب ، وفي تقديم ذكر إزلاف الجنّة إشعار بسبق رحمته غضبه (٢) .

﴿وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ *

 فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قالُوا وَهُمْ فِيها

 يَخْتَصِمُونَ * تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ * وَما

 أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ * فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (٩٢) و (١٠١)

ثمّ حكى سبحانه تقريع المشركين بقوله : ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ في ذلك اليوم من قبل الله تعالى تقريعا وتوبيخا أيّها المشركون ﴿أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه من الأصنام الذين تقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴿هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ﴾ اليوم بدفع العذاب عنكم ﴿أَوْ يَنْتَصِرُونَ﴾ بدفعه عن أنفسهم ؟ فلما لم يكن للتقريع جواب ، حكم بدخول الآلهة وعابديهم في النار ﴿فَكُبْكِبُوا﴾ والقوا ﴿فِيها﴾ على الرؤوس منكوسين مرة بعد اخرى ﴿هُمْ وَالْغاوُونَ﴾ والمعبودون والعابدون و ﴿وَجُنُودُ إِبْلِيسَ﴾ من الشياطين الذين يزيّنون في قلوبهم عبادة الأصنام والمعاصي ويوسوسون إليهم ﴿أَجْمَعُونَ﴾ لا يشذّ منهم أحد ، ليجتمعوا في العذاب كما كانوا يجتمعون في الضلال.

ثمّ أنهم بعد اجتماعهم في جهنّم ﴿قالُوا﴾ لآلهتهم ﴿وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ﴾ وينازعون مع آلهتهم بعد ما أحياهم وأنطقهم بقدرته : ﴿تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وانحراف واضح عن الحقّ ﴿إِذْ نُسَوِّيكُمْ﴾ ونعدلكم ﴿بِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ في استحقاق العبادة مع أنّكم أدنى خلقه وأذلّهم وأعجزهم ﴿وَما أَضَلَّنا﴾ عن الهدى ودين الحقّ ، وما صرفنا عن التوحيد إلّا كبراؤنا ورؤساؤنا ﴿الْمُجْرِمُونَ﴾ الطاغون حيث زيّنوا لنا عبادتكم وأمرونا بها ﴿فَما لَنا﴾ اليوم أحد ﴿مِنْ شافِعِينَ﴾ فيشفعوا لنا (٣) عند ربنا كما يشفع الملائكة والأنبياء والائمّة والصديقين للمؤمنين ﴿وَلا﴾ من ﴿صَدِيقٍ﴾ ولا من

__________________

(١) عدة الداعي : ٧٦ ، بحار الأنوار ٢ : ٣٧ / ٥٢.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٨.

(٣) في النسخة : فيشفعونا.

٥٣٣

﴿حَمِيمٍ﴾ وخاصة مهتمّ بأمرنا أو رؤوف وشفيق كما يكون للمؤمنين ، فإنّ بين أهل النار التعادي والتباغض.

وقيل : يعني ما لنا من شافعين ولا صديق من الأصنام الذين كنّا نحسبهم شفعاء ، ومن شياطين الإنس الذين نزعمهم أنّهم أصدقاء (١) .

عن الصادق عليه‌السلام : « الشافعون الأئمّة عليهم‌السلام ، والصديق من المؤمنين » (٢) .

والقمي عنهما عليهما‌السلام : « والله لنشفعنّ في المذنبين من شيعتنا حتى يقول أعداؤنا إذا رأوا ذلك : ﴿فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ(٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ الشفاعة لمقبولة ، وما تقبل في الناصب ، وإنّ المؤمن ليشفع لجاره وماله حسنة ، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في ثلاثين (٤) ، فعند ذلك يقول أهل النار ﴿فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ(٥) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الرجل يقول في الجنة : ما فعل صديقي فلان ؟ وصديقه في الجحيم ، فيقول الله تعالى : أخرجوا له صديقه في (٦) الجنة ، فيقول : من بقي في النار : ﴿فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (٧) .

قيل : إن جمع الشافعين وتوحيد الصديق لكثرة الأول وقلّة الثاني (٨) ، فانّ الصادق في المودة الذي هو المراد من الصديق أعزّ من الكبريت الأحمر ، وقيل : إنّ الصديق يطلق على الجميع كالعدوّ (٩) .

﴿فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ

 مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٢) و (١٠٤)

ثمّ لما يئسوا من النجاة تمنّوا العود إلى الدنيا بقولهم : ﴿فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً﴾ ورجعة إلى الدنيا ، ويا ليت لنا عودة إليها ﴿فَنَكُونَ﴾ فيها ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين تنالهم الشفاعة وتنفعهم الصداقة.

وقيل : إنّ كلمة ( لو ) شرطية ، والمعنى لو أنّ لنا الرجوع فنكون من المؤمنين لفعلنا كذا وكذا (١٠) ، أو لنلنا بغاية آمالنا.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٥٢.

(٢) المحاسن : ١٨٤ / ١٨٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٤٣.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٢٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٤٣.

(٤) في الكافي وتفسير الصافي : ليشفع لثلاثين إنسانا.

(٥) الكافي ٨ : ١٠١ / ٧٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٤٣.

(٦) في مجمع البيان وتفسير الصافي : إلى.

(٧) مجمع البيان ٧ : ٣٠٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٤٣.

(٨) جوامع الجامع : ٣٣٠ ، تفسير البيضاوي ٢ : ١٥٩ ، تفسير الرازي ٢٤ : ١٥٢.

(٩) تفسير البيضاوي ٢ : ١٥٩ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٥٣ ، وفيه : الجمع كالعدوّ.

(١٠) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٥٣.

٥٣٤

القمي قال : من المؤمنين ، أي من المهتدين ، لأنّ الايمان قد لزمهم بالإقرار (١) .

ثمّ حكى سبحانه شدة قساوة قلوب أكثر امّة إبراهيم تسلية لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من احتجاجات إبراهيم عليه‌السلام ولجاج قومه ﴿لَآيَةً﴾ عظيمة وعظة نافعة لمن يتّعظ ، وعبرة لمن يعتبر من قوم إبراهيم ﴿وَما كانَ﴾ مع ذلك ﴿أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ به ، كما لم يكن أكثر قومك مؤمنين بك.

روي أنّه لم يؤمن بابراهيم عليه‌السلام من أهل بابل إلّا لوط وبنت نمرود (٢) .

﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمّد ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ والقادر على الانتقام وتعجيله ، لكنّه ﴿الرَّحِيمُ﴾ بهم لإمهالهم كي يؤمنوا أو يلدوا مؤمنا.

﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ

 رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ

 عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ

 الْأَرْذَلُونَ * قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ

 تَشْعُرُونَ (١٠٥) و (١١٣)

ثمّ ثلّث سبحانه بقصة نوح وقومه التى كانت أعظم من القصّتين (٣) السابقتين ازديادا لتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ نوحا من ابتداء دعوته إلى انتهائها ، وهم بتكذيبه كذّبوا الأنبياء ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ جميعهم ، أو المراد أنّهم كذّبوا جميع المرسلين ، وكان نوح عليه‌السلام منهم ﴿إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ﴾ وواحد منهم معروف بينهم بالصدق وسلامة النفس والشفقة عليهم اسمه ﴿نُوحٌ﴾ نصحا وعظة : يا قوم ﴿أَ لا تَتَّقُونَ﴾ الله في ترك عبادته والاشتغال بعبادة غيره ، واعلموا ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ﴾ من الله مبعوث فيكم لدعوتكم إلى توحيده وعبادته ، وقد علمتم أنّي ﴿أَمِينٌ﴾ في جميع الامور ، فعليكم أن تأمنوني على دينكم ، وما أخبر به عن ربّكم ، ولا تتّهموني بالكذب والخيانة في نصحكم ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ في مخالفتي ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في ما آمركم به من توحيده وعبادته ﴿وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ شيئا ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ وجعل ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾ وما جعلني على تأدية الرسالة ﴿إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ لأن عملي له ، فيكون أجري عليه ، فاذا علمتم عدم طمعي في أموالكم ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ في إنكار رسالتي

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٢٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٤٣.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢٩١.

(٣) في النسخة : القضيتين.

٥٣٥

﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في أمري.

فلمّا سمع قومه دعوته ﴿قالُوا﴾ له إنكارا عليه : ﴿أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ﴾ نتّبعك في قولك ، والحال أنّه ﴿اتَّبَعَكَ﴾ الفقراء ﴿الْأَرْذَلُونَ﴾ والسّفلة الأدنون جاها ومالا ونسبا فإنّ إيمانهم لا يكون عن نظر وبصيرة لعدم رزانة عقلهم ومتانة رأيهم ، بل نظرهم إلى جلب المال وتحصيل الجاه ، فهم في الباطن كافرون بك ، لا ينبغي لنا أن نجعل أنفسنا في رديفهم.

قيل : كانوا من أهل الصناعات الخسيسة (١) . وقيل : إنّهم كانوا حجّاما (٢) . وعن ابن عباس : كانوا حائكين (٣) .

﴿قالَ :﴾ نوح عليه‌السلام في جوابهم : ما إحاطتي ﴿وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من إيمانهم الحقيقي بربي ، وإقرارهم القلبي برسالتي ، ومالي إطّلاع على خلوصهم في الايمان أو نفاقهم ، وليس عليّ التفتيش عن باطنهم وشقّ قلوبهم ، بل عليّ الاكتفاء والاعتبار بظاهر إقرارهم ﴿إِنْ حِسابُهُمْ﴾ ومؤاخذتهم على بواطنهم وسرائرهم ﴿إِلَّا عَلى﴾ عهدة ﴿رَبِّي﴾ المطّلع على البواطن والسرائر ، العالم بالخفيات ، وأنتم ﴿لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ وتدركون المطالب الواضحة لشعرتم صحّة قولي ، وأدركتم صدق خبري ، ولكنكم تجهلون وتقولون ما لا تعلمون.

﴿وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ * قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ

 لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ * قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ

 فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ

 الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ

 مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١١٤) و (١٢٢)

ثمّ لمّا كان في قدح أتباعه إيهام توقّع طردهم عن مجالسه وإبعادهم عن حوله ، قطع طمعهم هذا بقوله : ﴿وَما أَنَا بِطارِدِ﴾ هؤلاء ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ ومبعدهم عن حولي ومجلسي ، ولا يمكنني موافقتكم في ما تتوقّعون منّي من الاعراض عمّن أقبل على ربي ، لأنّه خلاف وظيفتي ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ﴾ وما أنا إلّا رسول مبعوث لتخويف الناس من العذاب على الكفر بالله وعصيانه ﴿مُبِينٌ﴾ ومتظاهر بالانذار ، أو موضح لما ارسلت به سواء كانوا أعزاء أو أذلاء ، أغنياء أو فقراء ، بل وظيفتي تقريب من قبل قولي ودعوى رسالتي ، وآمن بربي ، فلمّا عجزوا عن معارضته بالحجة أخذوا في تهديده و﴿قالُوا لَئِنْ لَمْ

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٥٥.

(٣) تفسير القرطبي ٩ : ٢٤.

٥٣٦

تَنْتَهِ﴾ ولم تردع ﴿يا نُوحُ﴾ عن الدعوة إلى التوحيد والايمان بك والانذار والوعظ ﴿لَتَكُونَنَ﴾ البتة فيما بيننا ﴿مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ والمطرودين عن أرضنا ، أو من المقتولين بالأحجار ، لأنّه أقبح قتلة ، أو من المشتومين.

عن الثّمالي : الرجم في جميع القرآن بمعنى القتل ، إلّا في سورة مريم في قوله : ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ(١) فانّه بمعنى الشتم (٢) .

فعند ذلك يئس نوح عليه‌السلام من إيمانهم ، واشتكى إلى ربّه و﴿قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾ وأصرّوا في ردّ قولي بعد ما دعوتهم ليلا ونهارا ﴿فَافْتَحْ﴾ واحكم ﴿بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً﴾ بما يستحق كلّ منّا ومنهم من الرحمة والعذاب ﴿وَنَجِّنِي﴾ وخلّصني ﴿وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ من شرّ الكفّار وممّا ينزل بهم من العذاب ، فاستجبنا دعاءه ﴿فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ﴾ من أهله والمؤمنين به بعد إرسال الماء من السماء وفورانه من الأرض بحملهم ﴿فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ والسفينة المملوءة بهم وبكلّ صنف من الحيوانات والأمتعة والمأكولات.

عن الباقر عليه‌السلام : « المشحون : المجهّز الذي قد فرغ منه ولم يبق إلّا دفعه » (٣) .

﴿ثُمَّ أَغْرَقْنا﴾ في الماء ﴿بَعْدُ الْباقِينَ﴾ من الناس ممّن لم يكن في السفينة

﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من الانجاء والاغراق ﴿لَآيَةً﴾ وعظة وعبرة لمن بعدهم من الناس ﴿وَما كانَ﴾ مع ذلك ﴿أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بالله ورسله ، فلا تحزن يا محمّد على عدم إيمان قومك ، واصبر على أذاهم كما صبر نوح عليه‌السلام ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمّد ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ والقادر على الانتقام وتعجيله ، ولكنّه ﴿الرَّحِيمُ﴾ بهم لإمهالهم كي يؤمنوا ، أو يلدوا مؤمنا.

﴿كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ

 أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى

 رَبِّ الْعالَمِينَ * أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ

 تَخْلُدُونَ * وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٢٣) و (١٣٠)

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بذكر قصة هود بقوله : ﴿كَذَّبَتْ﴾ قبيلة يقال لها ﴿عادٌ﴾ انتسابا على جدّهم الأعلى ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ كلّهم بتكذيبه ﴿إِذْ قالَ لَهُمْ﴾ عظة ﴿أَخُوهُمْ﴾ في النسب اسمه

__________________

(١) مريم : ١٩ / ٤٦.

(٢) تفسير القرطبي ١٣ : ١٢١.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٢٥ ، وفيه : إلّا رفعه ، تفسير الصافي ٤ : ٤٥.

٥٣٧

﴿هُودٌ﴾ وقيل : هو لقبه لوقاره وسكينته واسمه عابر (١) : يا قوم ﴿أَ لا تَتَّقُونَ﴾ الله في كفركم وعصيانكم له ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ﴾ من الله ﴿أَمِينٌ﴾ على وحيه ، أو مشهور عندكم بالأمانة ، فاذا سلّمتم ذلك ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ وخافوا من عقابه على الكفر به وإنكار رسالتي ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في ما آمركم به أداء للرسالة ﴿وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ شيئا ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ ولا أتوقّع منكم مثقال ذرّة من جعل ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾ وما جعلي ﴿إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ لأنّ عملي لا يكون إلّا له.

ثمّ نهاهم عن اللغو والعبث بقوله : ﴿أَتَبْنُونَ﴾ يا قوم ﴿بِكُلِّ رِيعٍ﴾ ومكان مرتفع ﴿آيَةً﴾ وعلامة ﴿تَعْبَثُونَ﴾ بها قيل : إنّهم كانوا يبنون في الأماكن الرفيعة (٢) ليعرف غناهم تفاخرا (٣) . وقيل : إنّهم كانوا يبنون بها بروج الحمام (٤) .

وعن ابن عباس : أنّهم كانوا يبنون بكلّ ريع علما يعبثون فيه بمن يمرّ في الطريق إلى هود (٥) .

﴿وَتَتَّخِذُونَ﴾ لأنفسكم ﴿مَصانِعَ﴾ وحياضا من ماء ، أو أمكنة شريفة ، أو قصورا مشيدة ، أو حصونا محصّنة ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ وبرجاء أنّكم ﴿تَخْلُدُونَ﴾ أو كأنّكم تدومون (٦) في الدنيا ولا تموتون أبدا.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله - في حديث - قال : « كل بناء يبنى فانّه وبال على صاحبه يوم القيامة إلّا ما لا بدّ منه » (٧) .

﴿وَإِذا بَطَشْتُمْ﴾ وتناولتم سيفا أو سوطا بصولة وقهر ﴿بَطَشْتُمْ﴾ وتناولتم بالقهر حال كونكم ﴿جَبَّارِينَ﴾ ظالمين وقاتلين لمن تغضبون عليه بلا رأفة ورحمة وقصد تأديب ونظر في العاقبة.

والحاصل أنّه عليه‌السلام ذمّهم أولا : ببناء الأبنية الرفيعة بلا حاجة إليها ، بل لإظهار التكبّر والخيلاء ، وثانيا : بإحكام الأبنية الدالّ على طول الأمل والغفلة عن أن الدنيا دار مجاز ، وثالثا : بالظّلم على الناس وقلّة الرأفة والرحمة ، والجميع دالّ على استيلاء حبّ الدنيا عليهم حتى أخرجهم عن حدّ العبودية وادخلهم في حدّ العتو والطّغيان.

﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ

 وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣١) و (١٣٥)

ثمّ بالغ هود في زجرهم عن حبّ الدنيا ودعائهم إلى الآخرة بقوله : ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ وخافوا عقابه على الانهماك في الشهوات ، واتركوا تلك الأعمال الشنيعة ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في ما آمركم به من الإقبال

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٩٤.

(٢) في تفسير الرازي : المرتفعة.

(٣-٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٥٧.

(٦) في النسخة : تديمون.

(٧) مجمع البيان ٧ : ٣١٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٤٥.

٥٣٨

على الله والدار الآخرة والقيام بالعدل والانصاف ، وقصر الأمل فانّه النافع لكم.

ثمّ حثّهم على التقوى بتذكيرهم نعم ربّهم الموجب لإيقاظهم من سنة الغفلة ، ورغبتهم إلى الايمان وقيامهم بالشكر بقوله : ﴿وَاتَّقُوا﴾ الله ﴿الَّذِي أَمَدَّكُمْ﴾ وقوّاكم ﴿بِما تَعْلَمُونَ﴾ به من أنواع نعمه منها أنّه ﴿أَمَدَّكُمْ﴾ وأعانكم ونظم امور معاشكم ﴿بِأَنْعامٍ﴾ كثيرة من الإبل والبقر والغنم لتستفيدوا منها ﴿وَبَنِينَ﴾ عديدة لتستعينوا بهم في الحوائج ﴿وَجَنَّاتٍ﴾ وبساتين ﴿وَعُيُونٍ﴾ غزيرة الماء تشربون منها ، وتسقون بها أنعامكم وزروعكم وبساتينكم.

ثمّ هددهم على بقائهم على الكفر والعصيان مع إظهار الشّفقة عليهم بقوله : ﴿إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ﴾ إن تدوموا (١) على الكفر وكفران النعم من أن ينزل الله عليكم ﴿عَذابَ﴾ الاستئصال في ﴿يَوْمٍ﴾ ذي هول ﴿عَظِيمٍ﴾ في الدنيا والآخرة لعظم ما يحلّ فيه.

﴿قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ * إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ

 الْأَوَّلِينَ * وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٦) و (١٣٨)

ثمّ أنّ القوم بعد إبلاغ هود عليه‌السلام في نصحهم ووعظهم ﴿قالُوا﴾ في جوابه طغيانا وعتوا : يا هود ﴿سَواءٌ عَلَيْنا﴾ ولا يتفاوت في نظرنا ﴿أَ وَعَظْتَ﴾ ونصحتنا ﴿أَمْ﴾ سكتّ و﴿لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ﴾ والناصحين ، فانّا لن نكترث بكلامك ، ولن نعتن بقولك ، ولن ننصرف عمّا نحن عليه بدعواك ﴿إِنْ هذا﴾ الدعوى الذي تدّعي من الرسالة والتوحيد والتحذير من الشرك ﴿إِلَّا خُلُقُ﴾ جماعة من ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ ودأب عدّة من السابقين ، أو المراد ما هذا الذي نحن عليه من العقائد والأعمال إلّا عادة الأقوام السابقين والامم الماضين ، فانّهم كانوا على ديننا وملتزمين بأعمالنا ، ونحن مقتدون بهم ، أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلّا عادة الناس من قديم الدهر جارية فينا نحيا كحياتهم ، ونموت كموتهم ، لا بعث ولا حساب ﴿وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ على عقائدنا وأعمالنا ، لا في الدنيا لعدم المقتضي للعذاب ، ولا في الآخرة لعدم عالم آخر وراء هذا العالم.

﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ

 الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا

 تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ

__________________

(١) في النسخة : تديموا.

٥٣٩

أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٣٩) و (١٤٥)

ثمّ حكى سبحانه إهلاكهم بتكذيب هود بقوله : ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ وأصرّوا على إنكار رسالته عنادا ولجاجا ﴿فَأَهْلَكْناهُمْ﴾ بسبب تكذيبهم إيّاه بريح صرصر عاتية ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ الإهلاك ﴿لَآيَةً﴾ وعبرة عظيمة ﴿وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.

ثمّ ذكر سبحانه قصة صالح بقوله : ﴿كَذَّبَتْ﴾ قبيلة يقال لها ﴿ثَمُودُ﴾ لأنّهم أولاد ثمود بن عبيد بن عوص بن عاد كما قيل (١)﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ كلّهم ﴿إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ﴾ وواحد منهم يقال له ﴿صالِحٌ﴾ نصحا : يا قوم ﴿أَ لا تَتَّقُونَ﴾ الله ولا تخافون عذابه على عبادة غيره ؟ ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ﴾ من قبل الله ﴿أَمِينٌ﴾ على وحيه ، أو مشهور بينكم بالأمانة والصدق ، فاذا سلّمتم ذلك ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ في مخالفتي ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في ما أدعوكم إليه ، فانّ وظيفتي الدعاء إلى التوحيد ﴿وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ وجعل ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾ وجعلي ، وما جزاء عملي ﴿إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ.

﴿أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها

 هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا

 تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قالُوا

 إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ

 الصَّادِقِينَ (١٤٦) و (١٥٤)

ثمّ وبّخ قومه بطول الأمل وإنكار المعاد وكفران نعم الله بقوله : ﴿أَتُتْرَكُونَ﴾ وهل تطمعون أن تبقوا (٢)﴿فِي ما هاهُنا﴾ من الديار والعقار والنّعم حال كونكم ﴿آمِنِينَ﴾ ومحفوظين من الآفات والموت والمجازاة على كفرانه ؟ (٣) لا يكون ذلك أبدا.

ثمّ فسر الموصول وفصّل النّعم بقوله : ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ وبساتين كثيرة الأشجار والثّمار ﴿وَعُيُونٍ﴾ وأنّهار أو آبار كثيرة الماء.

قيل : إنّهم لم يكن لهم أنهار جارية (٤) . وقيل : كانت لهم في الصيف لأنّهم كانوا يخرجون في الصيف إلى القصور والكروم والأنهار ، وأما في الشتاء فلم يكن لهم إلّا الآبار (٥) .

﴿وَزُرُوعٍ﴾ كثيرة من الحنطة وسائر الحبوبات النافعة ﴿وَنَخْلٍ طَلْعُها﴾ وما يخرج منها من غلاف

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٩٧.

(٢) في النسخة : تبقون.

(٣) زاد في النسخة : بعده.

(٤و٥) تفسير روح البيان ٦ : ٢٩٧.

٥٤٠