نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

النوافل بالليل فاقضه في [ نهارك ، وما فاتك من النهار فاقضه في ] ليلك (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « كلّ ما فاتك بالليل فاقضه بالنهار ، قال الله تبارك وتعالى » وتلا هذه الآية. ثمّ قال : « يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل » (٢) .

وقيل : يعني جعلهما مختلفين بالسواد والبياض والطول والقصر (٣) ، كلّ هذه النّعم العظام نافع أو مخلوق ﴿لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ﴾ ويتفكّر فيها ، فيستدلّ بها على عظمة خالقها وكمال قدرته ولطفه ﴿أَوْ أَرادَ شُكُوراً﴾ لمنعمه والقيام بحقّ نعمته بالجدّ في الطاعة ، والجهد في العبادة.

وقيل : إنّ المعنى جعل الليل والنهار ليكونا وقتين للمتذكّرين والشاكرين ، فمن فاته في أحدهما شيء من العبادة قام به في الآخر (٤) .

﴿وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ

 قالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٣) و (٦٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المشركين وعبّاد الشياطين بالامتناع عن السجود للرحمن والخضوع له ، مدح عباده بالخضوع والتواضع والسجود له والتضرّع إليه والاقتصاد في المعيشة بقوله : ﴿وَعِبادُ الرَّحْمنِ﴾ هم ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ﴾ بين الناس ﴿عَلَى﴾ وجه ﴿الْأَرْضِ﴾ في النهار حال كونهم ﴿هَوْناً﴾ ومتذلّلين متواضعين ليّنين ، لا يضربون بأقدامهم أشرا ولا بطرا ، ولا يتجبّرون ، ولا يتبخترون ، لعلمهم بعظمة ربهم وهيبته ، وشهودهم كبرياءه وجلاله ، فخشعت لذلك أرواحهم ، وخضعت نفوسهم وجوارحهم.

وفي الحديث : « المؤمنون هيّنون ليّنون ، كالجمل الانف إن قيد انقاد ، وإن استنيخ (٥) على صخرة استناخ » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « هو الرجل يمشي بسجيّته التي جبل عليها لا يتكلّف ولا يتبختر » (٧) .

والقمي ، عن الباقر عليه‌السلام ، أنّه قال في هذه الآية : « الأئمّة يمشون على الأرض هونا خوفا من عدوّهم » (٨) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣١٥ / ١٤٢٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٧.

(٥) في تفسير روح البيان : انيخ.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ٢٤٠.

(٧) مجمع البيان ٧ : ٢٧٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣.

(٨) تفسير القمي ٢ : ١١٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣.

٥٠١

وعن الكاظم عليه‌السلام : « هم الأئمّة عليهم‌السلام يتقون في مشيهم » (١) .

﴿وَإِذا خاطَبَهُمُ﴾ وكلّمهم ﴿الْجاهِلُونَ﴾ بكلام فيه خرق وهزء وقباحة ﴿قالُوا﴾ نطلب منكم ﴿سَلاماً﴾ وأمنا من الشرّ والضرّ ، لا نجاهلكم ولا نخالط بشيء من اموركم ، بل بيننا متاركة تامة.

وقيل : يعني قالوا قولا سلاما ، أي سدادا ، يسلمون فيه من الأذى والإثم (٢) .

وقيل : قالوا سلاما أي سلام توديع لا تحية (٣) ، والمراد أنّا لا نقابلكم بسوء ، بل نعدل عن طريقتكم ونحلم عنكم.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سيرتهم في النهار مع الخلق ، بيّن سيرتهم في الليل مع الخالق بقوله : ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ﴾ ويصبحون لياليهم حال كونهم ﴿لِرَبِّهِمْ سُجَّداً﴾ لله ﴿وَقِياماً﴾ قيل : يبيتون لله على أقدامهم ، ويفرشون له وجوههم ، تجري دموعهم على خدودهم خوفا من ربّهم (٤) .

وقيل : يصلّون في جميع الليل ، وإنّما ذكر عبادتهم بالليل لكونها أشقّ وأبعد من الرياء (٥) ، وفي الخبر : من كثّر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار (٦) .

﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً *إِنَّها

 ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً * وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ

 ذلِكَ قَواماً (٦٥) و (٦٧)

ثمّ ذكر سبحانه أنّهم مع اجتهادهم في العبادة خائفون من عذاب الله بقوله : ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ في صلاتهم ، أو في سجودهم وقيامهم ، كما عن ابن عباس (٧) ، أو في عامّة أوقاتهم (٨)﴿رَبَّنَا اصْرِفْ﴾ وادفع ﴿عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً﴾ وشرا دائما ، وهلاكا لازما لكلّ من ابتلى به.

عن الباقر عليه‌السلام يقول : « ملازما لا يفارق » (٩) .

وعن ابن عباس : الغرام هو الموجع (١٠) .

وقيل في تفسير الغرام : إنّه تعالى سأل الكفار ثمن نعمه ، فما ادّوها إليه ، فأغرمهم فأدخلهم النار(١١) .

ثمّ ذكروا علّة مسألتهم النجاة من جهنّم بقولهم : ﴿إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً﴾ قيل : إنّها مستقرّ

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١١٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢٤١.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٨.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٨.

(٥و٦) تفسير روح البيان ٦ : ٢٤٢.

(٧) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٨.

(٨) تفسير روح البيان ٦ : ٢٤٣.

(٩) تفسير القمي ٢ : ١١٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣.

(١٠) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٨.

(١١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٨.

٥٠٢

للعصاة من المؤمنين ، حيث إنّهم لا يقيمون فيها ، ومقام للكفّار (١) . ويحتمل أن يكون هذا كلام الله تعالى (٢) .

في بيان المراد من الاسراف والتقتير

ثمّ مدحهم سبحانه بالاقتصاد في المعيشة بقوله : ﴿وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا﴾ على أنفسهم وعيالهم ، وعلى الفقراء ﴿لَمْ يُسْرِفُوا﴾ ولم يتجاوزوا فيه عن حدّ التوسّط ﴿وَلَمْ يَقْتُرُوا.

وعن ابن عباس : الاسراف : هو الانفاق في معصية الله تعالى ، والاقتار منع حقّ الله تعالى (٣) .

وعن مجاهد : لو أنفق رجل مثل جبل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله تعالى ، لم يكن سرفا ، ولو أنفق صاعا في معصية الله تعالى يكون سرفا (٤) .

وقيل : يعني لم ينفقوا في معاصي الله ، ولم يمسكوا عمّا ينبغي ، وذلك قد يكون في الإمساك عن حقّ الله ، وهو أقبح تقتير ، وقد يكون في الامساك عن المندوب ، كالانفاق على الفقير (٥) .

وقيل : إنّ السرف مجاوزة الحدّ في التنعّم والتوسّع في الدنيا ، وإن كان من حلال ، كالأكل فوق الشّبع بحيث يمنع النفس من العبادة ، والاقتار : هو التضييق ، كالأكل أقلّ من الحاجة. قال : وهذه صفة الصحابة ، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعّم واللذّة ، ولا يلبسون ثيابا للتجمّل والزينة ، ولكن يأكلون ما يسدّ جوعهم ، ويعينهم على عبادة ربّهم ، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم عن الحرّ والبرد (٦) .

وعن القمي : ﴿لَمْ يُسْرِفُوا﴾ يعني لم ينفقوا (٧) في المعصية ﴿وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ يعني لم يبخلوا عن حقّ الله (٨) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أعطى في غير حقّ فقد أسرف ، ومن منع من حقّ فقد قتر » (٩) .

وعن علي عليه‌السلام : « ليس في المأكول والمشروب سرف وإن كثر » (١٠) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « إنّما الإسراف في ما أفسد المال وأضرّ بالبدن » .

قيل : فما الاقتار ؟ قال : « أكل الخبز والملح وأنت تقدر على غيره » .

قيل : فما القصد ؟ قال : « الخبز واللّحم واللبن والخلّ والسّمن ، مرّة هذا ، ومرّة هذا » (١١) .

وعنه عليه‌السلام : أنّه تلا هذه الآية ، فأخذ قبضة من حصى ، وقبضها بيده ، فقال : « هذا الاقتار الذي ذكره [ الله ] في كتابه » ثمّ قبض قبضة اخرى ، فأرخى كفّه كلّها ، فقال : « هذا الإسراف » الخبر(١٢) .

__________________

( ١-٣ ) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٩.

(٤ و٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٩.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٩.

(٧) في المصدر : والإسراف الإنفاق.

(٨) تفسير القمي ٢ : ١١٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣.

(٩ و١٠) مجمع البيان ٧ : ٢٨٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤.

(١١) الكافي ٤ : ٥٤ / ١٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤. (١٢) الكافي ٤ : ٥٤ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤.

٥٠٣

﴿وَكانَ﴾ الانفاق ﴿بَيْنَ ذلِكَ﴾ المذكور من الاسراف والاقتار ﴿قَواماً﴾ ووسطا عدلا.

وفي الخبر ثمّ أخذ قبضة اخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها ، وقال : « هذا القوام » (١) .

وعن القمي : القوام : العدل [ والانفاق ] في ما أمر الله به (٢) .

﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ

 وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨)

ثمّ لمّا كانت هذه الأعمال من المشركين القاتلين للبنات ممكنة ، وصف عباده بالتوحيد واجتناب الكبائر بقوله : ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ﴾ ولا يعبدون ﴿مَعَ اللهِ﴾ الحقّ ﴿إِلهاً آخَرَ﴾ ولا يشركون به غيره ﴿وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ﴾ قتلها بوجه ﴿إِلَّا بِالْحَقِ المبيح لقتلها كالقصاص أو الحدّ ﴿وَلا يَزْنُونَ﴾ ولا يجامعون امرأة بغير الاسباب المبيحة لجماعها ، وفيه تعريض للكفّار بأنّهم يعبدون إلها آخر ، ويقتلون البنات ، ويزنون ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ﴾ المذكور من القبائح ﴿يَلْقَ أَثاماً﴾ وينل وبال تلك الأعمال.

وقيل : إنّ الآثام واد في جهنّم (٣) .

وعن القمي : آثام : واد من أودية جهنّم من صفر مذاب ، قدّامها خدّة (٤) في جهنّم ، يكون فيه من عبد غير الله ومن قتل النفس التي حرّم الله ، ويكون فيه الزّناة (٥) .

وقيل : هو جهنم (٦) .

وفي الحديث : الغيّ والآثام بئران يسيل فيهما صديد أهل النار (٧) .

وعن ابن مسعود ، قلت : يا رسول الله أيّ ذنب أعظم ؟ قال : « أن تجعل لله ندّا وهو خلقك » قلت : ثمّ أيّ ؟ قال : « أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك » . قلت : ثمّ أيّ ؟ قال : « أن تزني بحليلة جارك » فأنزل الله تصديقه (٨) .

﴿يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً * إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ

 عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥٥ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١١٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١١١.

(٤) في الخدّة : الحفرة المستطيلة في الأرض. وفي النسخة : حدّة.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١١٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ١١١.

(٧) تفسير روح البيان ٦ : ٢٤٧.

(٨) تفسير الرازي ٢٤ : ١١١.

٥٠٤

رَحِيماً (٦٩) و (٧٠)

ثمّ بيّن سبحانه الآثام ، وأكّد تهديد المرتكبين لتلك القبائح العظام بقوله : ﴿يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ﴾ ويتزايد له العقاب وقتا بعد وقت ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ بسبب انضمام شركه بالمعاصي ﴿وَيَخْلُدْ﴾ في العذاب ويقيم ﴿فِيهِ﴾ ابدا حال كونه ﴿مُهاناً﴾ وذليلا ﴿إِلَّا مَنْ تابَ﴾ ورجع عن شركه وعصيانه ، وآمن بوحدانية ربّه ﴿وَعَمِلَ﴾ بعد إيمانه ﴿عَمَلاً صالِحاً﴾ مرضيّا عند الله ﴿فَأُوْلئِكَ﴾ التائبون الصالحون ﴿يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ بأن تمحى سيئاتهم من صحيفة عملهم ، ويكتب مكانها الحسنات ، كما عن سعيد بن المسيّب وجماعة من مفسري العامّة (١) .

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه [ قال ] : « ليتمنين أقوام أنّهم أكثروا من السيئات » قيل من هم يا رسول الله ؟ قال : « الذين ﴿يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ (٢) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّه يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، ويخبّأ عنه كبارها ، فيقال : عملت يوم كذا وكذا وهو مقرّ لا ينكر ، وهو مشفق من الكبائر ، فيقال : أعطوه مكان كلّ سيئة عملها حسنة ، فيقول : إنّ لي ذنوبا ما أراها هاهنا » . قال : فلقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يضحك حتى بدت نواجذه ، ثمّ تلا ﴿فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ﴾ إلى آخره (٣) .

في بيان المراد من تبديل السيئات بالحسنات

أقول : يحتمل كون المراد من الرواية المحو والاثبات للذين (٤) ذكرنا ، وإخفاء الصورة وإظهارها.

عن الباقر عليه‌السلام : أنّه سئل عن الآية ، فقال : « يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة فيوقف بموقف الحساب ، فيكون الله تعالى هو الذي يتولّى حسابه ، لا يطلع على حسابه أحدا من الناس فيعرّفه ذنوبه ، حتى إذا أقرّ بسيئاته قال الله عزوجل للكتبة : بدّلوها حسنات ، وأظهروها للناس. فيقول الناس حينئذ : ما (٥) كان لهذا العبد سيئة واحدة » إلى أن قال : « هي للمذنبين (٦) من شيعتنا خاصة » (٧) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « إذا كان يوم القيامة أوقف الله عزوجل المؤمن بين يديه ، وعرض عليه عمله ، فينظر في صحيفته ، فأول ما يرى سيئاته ، فيتغيّر لونه ، وترتعد فرائصه ، ثمّ تعرض عليه حسناته فتقرّ حينئذ لذلك (٨) نفسه ، فيقول الله عزوجل : بّدلوا سيئاته حسنات ، وأظهروها للناس. فيبدّل الله لهم

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٢ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٤٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٢.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٢٤٧.

(٤) في النسخة : الذين.

(٥) في أمالي المفيد : أما.

(٦) في أمالي المفيد وتفسير الصافي : هي في المذنبين.

(٧) أمالي المفيد : ٢٩٨ / ٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤.

(٨) في تفسيري القمي والصافي : فتفرح لذلك.

٥٠٥

فيقول الناس : أما كان لهؤلاء سيئة واحدة ؟ وهو قول الله تعالى : ﴿يُبَدِّلُ اللهُ﴾ إلى أخره » (١) .

وعنه ، عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حبّنا أهل البيت يكفّر الذنوب ، ويضاعف الحسنات ، وإنّ الله تعالى ليتحمّل من (٢) محبّينا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد إلّا ما كان منهم [ على ] إصرار وظلم للمؤمنين ، فيقول للسيئات : كوني حسنات » (٣) .

أقول : الظاهر منه تغيير مجسّمة الأعمال ، وقريب منه رواية اخرى عنه عليه‌السلام (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام - في حديث ما معناه - : « أنّ الله سبحانه يأمر بأن تؤخذ حسنات أعدائنا فتردّ على شيعتنا ، وتؤخذ سيئات شيعتنا فتردّ على مبغضينا ، وهو قول الله تعالى : ﴿فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ﴾ إلى آخره ، يبدّل الله سيئات شيعتنا حسنات ، ويبدّل الله حسنات أعدائنا سيئات » (٥) .

وعن ابن عباس : أنّ التبديل إنّما يكون في الدنيا ، فيبدّل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الاسلام ، فيبدّلهم بالشّرك إيمانا ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين ، وبالزنا عفّة [ وإحصانا ] ، فكأنّه تعالى يبشّرهم بأنه يوفّقهم لهذه الأعمال الصالحة ، فيستوجبوا بها الثواب (٦) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما جلس قوم يذكرون الله إلّا نادى بهم مناد من السماء : قوموا فقد بدّل الله سيئاتكم حسنات » (٧) .

وقيل : إنّ المراد بالتبديل تبديل عقابهم بالثواب (٨) .

ثمّ بيّن سبحانه علّته بقوله : ﴿وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ فمقتضى الصفتين ؛ هذا التبديل وازدياد الثواب.

﴿وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ

 وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً * وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها

 صُمًّا وَعُمْياناً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ

 وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧١) و (٧٤)

ثمّ إنه تعالى بعد البشارة بقبول توبة المشركين المرتكبين للكبيرتين ، بشّر عموم العصاة بقبول توبتهم بقوله : ﴿وَمَنْ تابَ﴾ ورجع عن أيّ معصية وندم عليها ﴿وَعَمِلَ صالِحاً﴾ يتدارك به ما فرّط ،

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١١٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٥.

(٢) في أمالي الطوسي : عن.

(٣) أمالي الطوسي ١٦٤ / ٢٧٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٥.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٣٣ / ٥٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٥.

(٥) علل الشرائع : ٦٠٩ و٦١٠ / ٨١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٥.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٢.

(٧) روضة الواعظين : ٣٩١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٥.

(٨) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٢.

٥٠٦

والتزم بالطاعة ﴿فَإِنَّهُ يَتُوبُ﴾ ويرجع بعد الموت ﴿إِلَى اللهِ﴾ تعالى ﴿مَتاباً﴾ عظيم الشأن مرضيا عنده ماحيا للعقاب ومحصّلا للثواب.

وقيل : يعني من تاب إلى الله من المعاصي الماضية يوفقه الله للتوبة من المعاصي المستقبلة ، وهذه بشارة عظيمة (١) .

وعن القمي : أي لا يعود إلى شيء من ذلك باخلاص ونيّة صادقة (٢) .

﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ﴾ ولا يحضرون ﴿الزُّورَ﴾ والباطل والمجالس التي ترتكب فيها المحرّمات ، أو خصوص الكذب على الله والرسول ، كما عن ابن عباس (٣) .

وقيل : الزّور هو الغناء ، كما عن الصادق عليه‌السلام (٤) ، وابن الحنفية (٥) ، وزاد القمي : مجالس اللهو (٦) .

﴿وَإِذا مَرُّوا﴾ بالمشغولين ﴿بِاللَّغْوِ﴾ والسفهي من القول والفعل ، أو الفحش من الكلام ﴿مَرُّوا﴾ به حال كونهم ﴿كِراماً﴾ ومنزّهين منه ، معرضين عنه.

قيل : إذا سمعوا من الكفّار الشتم والأذى أعرضوا عنهم (٧) .

وقيل : إذا ذكروا (٨) النّكاح كنّوا عنه (٩) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « هم الذين إذا أرادوا ذكر الفرج كنّوا عنه » (١٠) .

وعن الصادق عليه‌السلام : أنّه قال لبعض أصحابه : « أين نزلتم » ؟ قالوا : على فلان صاحب القيان. فقال : « كونوا كراما ، أما سمعتم قول الله عزوجل في كتابه : ﴿وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ ؟ ﴾ الى آخره(١١) .

وقال محمّد بن أبي عبّاد - وكان مشتهرا بالسّماع وشرب النّبيذ - سألت الرضا عليه‌السلام عن السّماع ، فقال : « لأهل الحجاز رأي فيه ، وهو في حيّز الباطل واللهو ، أما سمعت الله عزوجل يقول : ﴿وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ ؟ ﴾ إلى آخره (١٢) .

أقول : الظاهر أنّ الجميع من مصاديق اللغو.

﴿وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا﴾ ونبهوا ﴿بِآياتِ رَبِّهِمْ﴾ الدالّة على المواعظ والحكم ﴿لَمْ يَخِرُّوا﴾ ولم يسقطوا ﴿عَلَيْها﴾ حال كونهم ﴿صُمًّا﴾ وفاقدي الأسماع لا يصغون إليها إصغاء القبول ﴿وَعُمْياناً

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١١٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٣.

(٤) الكافي ٦ : ٤٣١ / ٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٦.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٣.

(٦) تفسير القمي ٢ : ١١٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٦.

(٧) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٤.  (٨) في تفسير الرازي : ذكر.

(٩) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٤.

(١٠) مجمع البيان ٧ : ٢٨٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٦.

(١١) الكافي ٦ : ٤٣٢ / ٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٦.

(١٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٨ / ٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٦.

٥٠٧

وفاقدي الأبصار ، لم يبصروا ما فيها من المعجزات والعبر ، بل أكبّوا عليها وأقبلوا إليها سامعين بآذان واعية ، مبصرين بعيون راغبة ، منتفعين بها حقّ الانتفاع على خلاف الكفار والمنافقين.

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « مستبصرين ليسوا بشكّاك » (١) .

﴿وَالَّذِينَ﴾ يتضرّعون إلى الله و﴿يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ﴾ جهة ﴿أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا﴾ ما يكون لنا ﴿قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ وضياء أبصار ومسرّة قلوب من الطاعة والصلاح وحيازة الفضائل ، ومساعدة في الدين ، وقيل : إنّ المعنى هب لنا قرّة أعين (٢) .

ثمّ بيّنها بقوله : ﴿مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا﴾ بأن يجعلهم الله مؤمنين صالحين ﴿وَاجْعَلْنا﴾ بتوفيقك لنا في الايمان والتقوى بحيث نكون ﴿لِلْمُتَّقِينَ إِماماً﴾ ومقتدى في الاجتهاد في الطاعة ، والقيام بمراسم الشريعة.

قال بعض العامة : إنّ الايات نزلت في العشرة المبشّرة (٣) .

وعن سعيد بن جبير : أنّ هذه الآية خاصة في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان أكثر دعائه : ﴿رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا﴾ يعني فاطمة ﴿وَذُرِّيَّاتِنا﴾ يعني الحسن والحسين عليهما‌السلام ﴿قُرَّةَ أَعْيُنٍ.

قال عليه‌السلام : « والله ما سألت ربي ولدا نضير الوجه ، ولا سألت ولدا حسن القامة ، ولكن سألت [ ربي ] ولدا مطيعين لله خائفين وجلين منه ، حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع لله قرّت به عيني » قال : ﴿وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً﴾ [ قال ] : « نقتدي بمن قبلنا من المتقين ، فيقتدي المتّقون بنا من بعدنا» (٤) .

وقال القمي : روي أن ﴿أَزْواجِنا﴾ خديجة ﴿وَذُرِّيَّاتِنا﴾ فاطمة ، و﴿قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ الحسن والحسين ﴿وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً﴾ علي بن أبي طالب والأئمّة عليهم‌السلام (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « إيانا عنى » . وفي رواية : « هي فينا » (٦) .

﴿أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً * خالِدِينَ فِيها

 حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً * قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ

 فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)

ثمّ إنّه تعالى بعد توصيف عباده بالصفات الكريمة ، بيّن الطافه بهم بقوله : ﴿أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ﴾ وأعلى منازل الجنّة التي تكون من ذهب ولؤلؤ ومرجان على ما قيل (٧)﴿بِما صَبَرُوا﴾ على مشاقّ

__________________

(١) الكافي ٨ : ١٧٨ / ١٩٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٦.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٤.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٥.

(٤) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٣٨٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١١٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧.

(٦) جوامع الجامع : ٣٢٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧.

(٧) تفسير روح البيان ٦ : ٢٥٤.

٥٠٨

الطاعات ، ورفض الشهوات ، وتحمّل المجاهدات ﴿وَيُلَقَّوْنَ﴾ في الغرفة من الملائكة ، أو من ربّ العزّة ، وينالون ﴿فِيها تَحِيَّةً﴾ ودعاء بطول الحياة ﴿وَسَلاماً﴾ وصونا من شوائب الضّرر والآفات ، فيكون لهم بقاء بلا فناء ، وغني بلا فقر ، وعزّ بلا ذلّ ، وصحة بلا سقم ، وراحة بلا تعب حال كونهم ﴿خالِدِينَ فِيها﴾ لا يموتون ولا يخرجون منها ﴿حَسُنَتْ﴾ تلك الغرفة من حيث كونها ﴿مُسْتَقَرًّا﴾ ومنزلا ﴿وَمُقاماً﴾ ومحلّ إقامة.

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية دعاء العباد حثّ الناس في الدعاء والعبادة بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد للمؤمنين ﴿ما يَعْبَؤُا﴾ وما يصنع ، أو ما يبالي ، أو ما يعتني ﴿بِكُمْ رَبِّي.

وقيل : إنّ ( ما ) استفهامية (١) ، والمعنى أي شيء يصنع بكم ، أو أيّ وزن لكم ؟ (٢)

وعن الباقر عليه‌السلام : « ما يفعل بكم » (٣)﴿لَوْ لا دُعاؤُكُمْ﴾ ومسألتكم إياه ، أو تضرّعكم إليه في الشدائد ، أو إيمانكم ، أو عبادتكم ، أو شكركم له نعمه.

وقيل : يعني لو لا دعائي إيّاكم إلى الايمان والعبادة (٤) .

﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ أيّها المشركون بما أخبرتكم من أنّ الله خلقكم ، أو من أن الاعتناء بشأنكم إنّما يكون للايمان والعبادة والدعاء ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ﴾ هذا التكذيب ، أو جزاؤه الدنيوي أو الاخروي ﴿لِزاماً﴾ يحيق بكم لا محالة.

عن الباقر عليه‌السلام ، أنّه سئل كثرة القراءة أفضل أم كثرة الدّعاء ؟ قال : « كثرة الدعاء أفضل » وقرأ هذه الآية (٥) .

عن الكاظم عليه‌السلام (٦) : « من قرأ هذه السورة في كلّ ليلة لم يعذّبه الله أبدا ، ولم يحاسبه ، وكان (٧) في الفردوس الاعلى » (٨) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٥٦.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٣٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١١٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٧.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٢٨٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧.

(٦) في مجمع البيان : أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وفي ثواب الاعمال : أبي الحسن عليه‌السلام.

(٧) زاد في ثواب الاعمال وتفسير الصافي : منزله.

(٨) ثواب الاعمال : ١٠٩ ، مجمع البيان ٧ : ٢٥٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨.

٥٠٩
٥١٠

في تفسير سورة الشعراء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿طسم * تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ * لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ

 * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (١) و (٤)

ثمّ لمّا ختم سبحانه السورة المباركة ببيان أنّ الغرض من الخلق الايمان والعبادة ، وأنّه يعذّب مكذّب الرسول على تكذيبه بأشدّ العذاب ، أردفها في النّظم بسورة الشعراء المتضمّنة لبيان عظمة القرآن ، وإصرار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على إيمان قومه ، وامتناعهم منه ، وتهديدهم بما وقع على الامم السابقة من العذاب على تكذيب الرسل ، وذكر بعض أدلّة التوحيد ، ودفع بعض شبهات المشركين في الرسالة.

فابتدأ سبحانه فيها على حسب دأبه في الكتاب الكريم بذكر الأسماء المباركات بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله : ﴿طسم﴾ للحكم التي سبق ذكرها في بعض الطرائف (١) ، ومرّ فيها بعض ما لها من التأويل.

وعن ابن عباس في ﴿طسم﴾ عجرت العلماء عن تفسيرها (٢) .

وروى بعض العامة عن عليّ عليه‌السلام : « أنّه لمّا نزل ﴿طسم﴾ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : طاء : طور سيناء ، وسين : اسكندرية ، وميم : مكّة » (٣) .

وروى بعضهم عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : « أقسم الله بشجرة طوبى ، وسدرة المنتهى ، ومحمّد المصطفى في القرآن بقوله : ﴿طسم﴾ فالطاء : شجرة طوبى ، والسين سدرة المنتهى ، والميم : محمد المصطفى » (٤) .

وفي ( المعاني ) عنه عليه‌السلام : « وأمّا ﴿طسم﴾ فمعناه أنا الطالب السميع المبدي المعيد » (٥) .

ثمّ ذكر سبحانه جواب القسم ، وهو عظمة القرآن وإعجازه بقوله : ﴿تِلْكَ﴾ السورة أو الآيات التي

__________________

(١) راجع : الطرفة (١٨) من مقدمة المؤلف.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢٥٨.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢٨٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٩ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٥٨.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٢٥٩.

(٥) معاني الأخبار : ٢٢ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٩.

٥١١

فيها هي ﴿آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ﴾ والقرآن الظاهر إعجازه لعجز الناس عن الاتيان بمثله ، أو المظهر للمعارف والأحكام والعلوم المحتاج إليها مع أمية من أتى به ، أو المظهر للحقّ والباطل ، أو المراد هي الآيات المكتوبة في اللّوح المحفوظ.

ثمّ لمّا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قوّة دلالة القرآن على صدقه شديد الحزن على عدم إيمان قومه به ، سلّاه سبحانه إشفاقا عليه بقوله : ﴿لَعَلَّكَ﴾ يا محمّد ﴿باخِعٌ﴾ وقاتل ﴿نَفْسَكَ﴾ غمّا على قومك لأجل ﴿أَلَّا يَكُونُوا﴾ مع عظمة معجزتك ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ بتوحيد الله وبرسالتك وصدق كتابك ، لا تغتمّ فانّهم ليسوا بأهل (١) للإشفاق عليهم ، لكونهم في غاية اللّجاج والعناد للحقّ ، فلا يؤمنون بالطّوع ، وإن أحببت إجبارهم على الايمان ، فنحن قادرون عليه لأنّا ﴿إِنْ نَشَأْ﴾ إجبارهم عليه ﴿نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً﴾ عظيمة ملجئة لهم إلى الايمان كإنزال الملائكة أو الصيحة ﴿فَظَلَّتْ﴾ وصارت بسبب تلك الآية ﴿أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ﴾ منقادين بحيث لا يقدر أحدهم أن يميل عنقه إلى المخالفة والعصيان ، وإنّما لم نشأ ذلك لعدم الفائدة في هذا النحو من الايمان ، كما لا فائدة في الايمان في الآخرة.

ثمّ إنه تعالى نسب الخضوع إلى رقابهم ، مع أنه حال يعرض لهم لأنّها محلّة ، ولذا جاء سبحانه بالجمع الذي للعقلاء.

وقيل : إنّ المراد بالأعناق الرّؤساء والكبراء ، كما يقال لهم الرؤوس (٢) .

وقيل : إنّ المراد جماعاتهم كما يقال : جاء عنق من الناس (٣) .

عن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية قال : « سيفعل الله ذلك بهم » قيل : من هم ؟ قال : « بنو امية وشيعتهم » قيل :

وما الآية ؟ قال : « ركود الشمس ما بين زوال الشمس إلى وقت العصر ، وخروج صدر ووجه في عين الشمس ، يعرف بحسبه ونسبه ، وذلك في زمان السفياني ، وعندها يكون بواره وبوار قومه » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ القائم عليه‌السلام لا يقوم حتى ينادي مناد من السماء ، تسمعه الفتاة في خدرها ، ويسمعه أهل المشرق والمغرب ، وفيه نزلت هذه الآية ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ ،﴾ إلى آخرها » (٥) .

والقمي عنه عليه‌السلام قال : « تخضع رقابهم - يعني بني امية - وهي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر عليه‌السلام » (٦) .

﴿وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا

__________________

(١) في النسخة : بآهلين.

(٢و٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١١٩.

(٤) إرشاد المفيد ٢ : ٣٧٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٠.

(٥) غيبة الطوسي : ١٧٧ / ١٣٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٩.

(٦) تفسير القمي ٢ : ١١٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٩.

٥١٢

فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ * أَ وَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها

 مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ

 الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) و (٩)

ثمّ ذمّهم سبحانه على إعراضهم عن الآيات بقوله : ﴿وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ﴾ وعظة ، أو تنبيه وتذكير للحقّ في القرآن الظاهر كونه ﴿مِنْ﴾ قبل ﴿الرَّحْمنِ﴾ بتوسّط نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿مُحْدَثٍ﴾ ومجدّد إنزاله لتكرر التذكير ﴿إِلَّا كانُوا﴾ في كلّ كرة من التذكير ﴿عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ ومولّين ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا﴾ بذلك الذّكر المحدث المكرّر عقيب الإعراض ، وبلغوا النهاية في ردّ الآيات ، حيث نسبوها تارة إلى السحر ، واخرى إلى الشعر ، وثالثة إلى الأساطير ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ﴾ البتة من غير تخلّف بسبب إعراضهم وتكذيبهم المقرون بالاستهزاء ﴿أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ وأخباره من العقوبة الشديدة العاجلة والآجلة التي بمشاهدتها يطّلعون على حقيقة حال القرآن من أنّه كان حقا نازلا من الله ، أو باطلا مختلقا عليه ، وحقيقا بأن يصدّق ويعظّم قدره ، أو يكذّب ويستخفّ به.

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخهم على تكذيب الآيات التدوينية ، أنكر عليهم في ترك النظر والتفكّر في الآيات التكوينية على التوحيد بقوله : ﴿أَ وَلَمْ يَرَوْا﴾ ولم ينظروا ﴿إِلَى﴾ عجائب صنعنا في ﴿الْأَرْضِ﴾ الميتة اليابسة انا ﴿كَمْ أَنْبَتْنا فِيها﴾ بانزال المطر عليها ﴿مِنْ

﴿كُلِّ زَوْجٍ﴾ وصنف ﴿كَرِيمٍ﴾ ومرضي في ما يتعلّق به من المنافع حتى الضارّ منه ، وإن غفل عنه الناس.

وفي ( الجمع ) بين كلمة ( كم ) التي للكثرة ولفظ ( كلّ ) دلالة على الكثرة في كلّ صنف من الأصناف.

﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ الإنبات ، أو في كلّ واحد من الأزواج ﴿لَآيَةً﴾ عظيمة ودلالة واضحة على كمال قدرته وحكمته ووحدانيته ، ووسعة رحمته الموجبة لايمان الناس والانزجار من الكفر ﴿وَما كانَ﴾ مع ذلك ﴿أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لعدم تفكّرهم فيها وانهماكهم في الشهوات ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب القاهر على عباده ، القادر على الانتقام من الكفّار ، ومع ذلك يمهلهم لأنّه ﴿الرَّحِيمُ﴾ بهم ورحمته مانعة من تعجيله في عقوبتهم.

﴿وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ *

 قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ

 إِلى هارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا

 مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ

٥١٣

مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ * قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ *

 وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ * قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ

 الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ

 الْمُرْسَلِينَ (١٠) و (٢١)

ثمّ لمّا وصف ذاته المقدّسة بالوصفين المقتضيين لإرسال الرّسل وإمهال مكذّبيهم والانتقام منهم بعد حين ، شرع في بيان قصصهم ، ولمّا كان قصّة بعث موسى وامّته أعجب بدأ بذكرها بقوله : ﴿وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى﴾ في جانب الطّور الأيمن من الشجرة ﴿أَنِ ائْتِ﴾ يا موسى ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ على ربّهم وعلى أنفسهم بالكفر والطغيان ، وعلى بني إسرائيل باستعبادهم وذبح أولادهم ، أعني بالقوم ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾ لدعوتهم إلى توحيدي وطاعتي ، وإنذارهم من عذابي على الكفر والعصيان.

ثم اظهر سبحانه التعجّب من جرأتهم عليه بقوله : ﴿أَ لا يَتَّقُونَ﴾ الله ولا يخافونه ، أو لا يحترزون عن عذابه بالايمان والطاعة.

ثمّ كأنّه قيل : ماذا قال موسى ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿قالَ﴾ موسى متضرّعا إلى الله ﴿رَبِ﴾ العالمين ﴿إِنِّي أَخافُ﴾ من ﴿أَنْ﴾ ينكروا نبوتي و﴿يُكَذِّبُونِ﴾ في دعوى رسالتي ﴿وَيَضِيقُ﴾ لذلك ﴿صَدْرِي﴾ وقلبي ، فينقبض منه روحي ﴿وَلا يَنْطَلِقُ﴾ لذلك ﴿لِسانِي﴾ ويزيد فيه الحبسة (١) ، ويعسر عليّ الدعوة والمحاجّة ﴿فَأَرْسِلْ﴾ جبرئيل بالوحي ﴿إِلى﴾ أخي ﴿هارُونَ﴾ الذي هو أفصح لسانا منّي ، ليكون معينا لي في تبليغ رسالتك ، وهداية خلقك ، وإلّا لاختلّت مصلحة بعثي إليهم ﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿لَهُمْ﴾ بزعمهم ﴿عَلَيَ﴾ وفي عهدتي ﴿ذَنْبٌ﴾ عظيم ، وهو قتل القبطي دفعا عن السّبطي ﴿فَأَخافُ﴾ أن آتيهم وحدي من ﴿أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ قصاصا قبل ادّعاء الرسالة كما ينبغي ، وأما هارون فلا ذنب لهم عليه ، ففائدة بعثي إليهم معه أتمّ وأكمل ، فردعه الله أولا عن احتمال قتله قبل إكمال التبليغ بقوله ﴿قالَ كَلَّا﴾ لا يقدرون على قتلك بالقصاص وغيره ، ثمّ أجاب مسألته في إرسال هارون معه بقوله ، ﴿فَاذْهَبا﴾ أنت وهارون إلى فرعون وقومه برسالتي مستدلّين على صدقكما في دعوتكما ﴿بِآياتِنا﴾ التسع ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ بالعون والنصرة ، ومع عدوّكما بالقهر والشّوكة ، ولمقالكما ومقال عدوكما ﴿مُسْتَمِعُونَ﴾ ولما يجري بينكما وبينه من الكلام سامعون ﴿فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا﴾ لفرعون وقومه : ﴿إِنَّا﴾ معا ﴿رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ إليك ، وإنّما أفرد الرسول للإشعار باستقلاله في الرسالة

__________________

(١) الحبسة : ثقل في اللسان يمنع من الإبانة.

٥١٤

وتبعيه هارون له ، ثمّ بيّن ما أرسل به بقوله : ﴿أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ وأطلقهم من قيد الأسر والعبودية للقبط ، لأذهب بهم إلى أرض الشام ، التي هي مسكن آبائهم.

قيل : كان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة ، فانطلق موسى إلى مصر ، وكان هارون بها ، فلمّا تلاقيا ذهبا إلى باب فرعون ليلا ، ودقّ موسى الباب بعصاه ، ففزع البوابون وقالوا : من بالباب ؟ فقال موسى عليه‌السلام : أنا رسول رب العالمين ، فذهب البوّاب إلى فرعون فقال : إن مجنونا بالباب يزعم أنه رسول ربّ العالمين ، فأذن له في الدخول من ساعته (١) .

وقيل : ترك حتى أصبح فدعاهما (٢) .

وقيل : لم ياذن لهما سنة حتى قال البواب : هاهنا إنسان يزعم أنّه رسول رب العالمين. فقال : إئذن له حتى نضحك منه ، فدخلا عليه ، وأدّيا الرسالة ، فعرف موسى (٣) لأنّه نشأ في بيته فشتمه و

﴿قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ﴾ يا موسى ﴿فِينا﴾ وفي حجرنا ونعمنا حال كونك ﴿وَلِيداً﴾ وصبيا رضيعا قريب الولادة ﴿وَلَبِثْتَ﴾ وأقمت ﴿فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ كثيرة. قيل : كان فيهم (٤) ثلاثين سنة (٥)

﴿وَفَعَلْتَ﴾ أخيرا ﴿فَعْلَتَكَ﴾ القبيحة ﴿الَّتِي فَعَلْتَ﴾ من قتل القبطي ﴿وَأَنْتَ﴾ صرت بفعلتك ﴿مِنَ الْكافِرِينَ﴾ لنعمتي الجاحدين لحقّ تربيتي حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصّي

﴿قالَ﴾ موسى : نعم ، تلك الفعلة التي تقول ﴿فَعَلْتُها إِذاً﴾ وحين فعلت ﴿وَأَنَا﴾ كنت ﴿مِنَ الضَّالِّينَ﴾ والخاطئين فيها ، لا من المتعمّدين ، فليس لك أن تلمني وتؤاخذني بها ، وتعدّ فعلي من كفران نعمتك ، لأن السهو والخطأ عذران عند العقلاء لا يوجبان العتاب والمؤاخذة ، ومع ذلك بلغني أنّكم شاورتم في قتلي ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ﴾ وذهبت من بلدكم إلى مدين ﴿لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ من أن تقتلوني ظلما وتؤاخذوني بما لا أستحقّه ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي﴾ حين رجوعي من مدين إلى مصر ﴿حُكْماً﴾ وعقلا كاملا ، ورأيا رزينا ، وعلما بتوحيده وكمال صفاته ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ الذين اصطفاهم على عباده.

وقيل : إنّ المراد من الحكم النبوة ، والمعنى جعلني أولا نبيا ، ثمّ أعطاني منصب الرسالة (٦) .

﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ * قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ

 الْعالَمِينَ * قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قالَ

__________________

( ١-٣ ) تفسير روح البيان ٦ : ٢٦٧.

(٤) في تفسير الرازي : لبث عندهم ، وفي تفسيري أبي السعود وروح البيان : لبث فيهم.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٢٥ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٣٨ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٣٨.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ٢٦٨.

٥١٥

لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ * قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ

 الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ

 كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٢) و (٢٨)

ثمّ أجاب عليه‌السلام عن منّته عليه بالتربية بقوله : ﴿وَتِلْكَ﴾ التربية ﴿نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ﴾ ولكن كانت لأجل ﴿أَنْ عَبَّدْتَ﴾ واستعبدت ﴿بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ واستخدمتهم وذبحت ابناءهم ولذا ألقتني أمّي في اليمّ ، ولو لا هذا الظلم منك عليهم ما احتجت إلى تربيتك.

وقيل : يعني إنما أنفقت عليّ من أموال قومي الذين استعبدتهم وأخذت أموالهم ، فلا منّه لك عليّ ، أو أنّك وإن ربّيتني إلّا أنك ظلمت قومي ، أو أنّ الذي ربّاني كان من الذين عبدتهم ، وهو أمّي وسائر قومي ، وإنّما الذي كان منك إنّك لم تقتلني (١) .

وعلى أيّ تقدير : لما أجاب عن طعنه فيه ومنّته عليه ، أخذ فرعون في الاعتراض على ما ادّعاه من رسالة ربّ العالمين و﴿قالَ فِرْعَوْنُ﴾ تجاهلا في معرفته [ و] حفظا لملكه ورياسته : يا موسى ﴿وَما﴾ حقيقة مرسلك الذي تقول إنّه ﴿رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ وما كنه ذاته ؟ فإنّ رسوله لا بدّ من معرفته بالذات ، ولمّا لم يكن معرفة ذاته البسيطة من جميع الأجزاء العقلية والخارجية ممكنا ، أجابه موسى ببيان صفاته وآثاره و ﴿قالَ :﴾ هو ﴿رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا﴾ من الموجودات وخالقها ومدبّرها ، فاعرفوه بهذه الصفة ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ بأنّ هذه الموجودات الممكنة لا بدّ أن يكون وجودها مستندا إلى واجب الوجود بالذات ، وأقنعوا بهذا الجواب الذي هو أحسن الأجوبة عن سؤالكم.

وقيل : يعني إنّ كنتم موقنين بالأشياء محقّقين لها بالنظر الصحيح المؤدي إلى الإيقان ، علمتم بأنّ العالم عبارة عمّا ذكرت وربّه خالقه ومدبّره (٢) .

ولمّا لم يفهم فرعون جواب موسى عليه‌السلام ومطابقته لسؤاله تعجّب منه و﴿قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ﴾ وفي مجلسه من الأشراف ﴿أَ لا تَسْتَمِعُونَ﴾ إلى هذا الجواب فإنّي أسأله عن حقيقة مرسله وجنسه ، وهو يجيب بأفعاله وآثاره ، وهذا عجيب من عقل هذا الرجل.

ثمّ لما كان مجال دعوى ، قدّم السماوات والأرض وعدم احتياجهما إلى الموجد والمؤثر ، عدل موسى عليه‌السلام عن الجواب الأول و﴿قالَ رَبُّكُمْ﴾ وخالقكم ومن المعلوم ان الشخص لا يكون خالق

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٢٦.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢٦٩.

٥١٦

نفسه.

ثمّ لمّا كان فرعون مدّعيا أنه خالق أهل عصره دون الذين كانوا قبله عقبه بقوله : ﴿وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ فانّ المستحقّ للربوبية هو الذي يكون ربا لجميع الأعصار ، فلمّا لم يفهم فرعون حقيقة الجواب ﴿قالَ﴾ لأهل مجلسه استهزاء بموسى عليه‌السلام : ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ حيث إنّه لا يفهم السؤال ولا يعرف الجواب ﴿قالَ﴾ موسى عليه‌السلام وهو غير معتن بكلامه السّفهي زيادة في تعريف الربّ هو ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ ومطلع الشمس ومغيبها ﴿وَما بَيْنَهُما﴾ من الموجودات ، وإنّكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ شيئا وتميّزون بين صحيح الكلام وسقيمه ، علمتم أنّ حقّ الجواب عن سؤالكم ما قلت ، وأنّه لا جواب عنه الا ما ذكرت إذ معرفة حقيقة الربّ غير معقولة حيث إنّها بسيطة لا جنس لها ولا فصل ، فاذن لا يمكن تعريفها إلّا بآثارها وأفعالها وعجائب صنعها ، ومن الواضح أنّ سير الشمس من المشرق إلى المغرب على وجه نافع ينتظم به امور الخلق ، لا يكون إلّا بتدبير القدير الحكيم اللطيف الخبير ، ولا تتوقّف الرسالة على معرفة ذات المرسل بكنهها ، بل هي متوقّفه على معرفته بآثاره.

﴿قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قالَ أَ وَلَوْ جِئْتُكَ

 بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ

 ثُعْبانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٢٩) و (٣٣)

ثمّ لمّا عجز فرعون عن معارضة موسى بالحجّة ، عدل إلى التهديد تمرّدا وطغيانا و﴿قالَ :﴾ يا موسى ، وعزّني ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ﴾ واخترت ﴿إِلهَاً غَيْرِي﴾ ومعبودا سواي ﴿لَأَجْعَلَنَّكَ﴾ البتّة ﴿مِنَ﴾ جملة ﴿الْمَسْجُونِينَ﴾ وفي زمرة المحبوسين. قيل : كان يسجنهم في حفرة عميقة حتى يموتوا (١) .

﴿قالَ﴾ موسى عليه‌السلام : اتفعل ذلك ﴿أَ وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ﴾ ومعجز ﴿مُبِينٍ﴾ وموضّح لصدق دعواي في الرسالة ؟ ﴿قالَ﴾ فرعون : ﴿فَأْتِ بِهِ﴾ وأظهره لي ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في دعوى الرسالة والمعجزة.

قيل : كان في يد موسى عصاه ، فقال لفرعون : ما هذه التي بيدي ؟ قال فرعون : هذه عصا (٢)﴿فَأَلْقى﴾ موسى ﴿عَصاهُ﴾ من يده على الأرض ﴿فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ﴾ وحيّة عظيمة ظاهرة ، لم يشكّ أحد

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٤٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٠.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٠.

٥١٧

في كونها حية.

قيل : إنّ فرعون التجأ إلى موسى من شدّة الرّعب ، وقال : يا موسى أسألك بالذي أرسلك أن تأخذها فأخذها فعادت عصا (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « فالتقمت الإيوان بلحييها ، فدعاه : أن يا موسى أقلني إلى غد » (٢) .

والقمي : فلم يبق أحد من جلساء فرعون إلّا هرب ، ودخل فرعون من الرّعب ما لم يملك [ به ] نفسه ، فقال فرعون ، أنشدك بالله وبالرّضاع إلّا ما كففتها عنّي ، فكفّها فلمّا أخذ موسى عليه‌السلام العصا رجعت إلى فرعون نفسه ، وهمّ بتصديقه ، فقام إليه هامان ، فقال له : بينا أنت تعبد إذ صرت تابعا لعبد(٣) .

﴿وَنَزَعَ﴾ وأخرج ﴿يَدَهُ﴾ من جيبه بعد إدخالها تحته ﴿فَإِذا هِيَ﴾ كالقمر ﴿بَيْضاءُ﴾ وذات نور وبياض من غير برص ﴿لِلنَّاظِرِينَ﴾ اليها.

﴿قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ

 فَما ذا تَأْمُرُونَ * قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ * يَأْتُوكَ

 بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ

 أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٤) و (٣٩)

روي أنّ فرعون لمّا رأى الآية الاولى قال : فهل غيرها ؟ فأخرج يده فقال : ما هذه (٤) ؟ قال فرعون : يدك فما فيها فادخلها في إبطه ثمّ نزعها ولها شعاع كاد يغشي الأربصار ويسدّ الافق (٥) ، فلمّا خاف فرعون أن يؤمن به خواصّه ﴿قالَ﴾ احتيالا في الصرف عنه ، وتعمية لهم هذه الحجّة ﴿لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ﴾ والأشراف الذين كانوا في مجلسه من القبط : ﴿إِنَّ هذا﴾ الرجل ﴿لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ بالسّحر فائق على الناس فيه ، ثمّ قال تنفيرا لقلوبهم من موسى عليه‌السلام : ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ ومملكتكم هذه ، ويقهركم على تبعيته ﴿بِسِحْرِهِ﴾ ثمّ قال تحبيبا لقلوبهم : ﴿فَما ذا تَأْمُرُونَ﴾ وتشيرون عليّ في أمره ؟ وترون رأيكم في دفعه حتى اتّبعكم وأنقاد لقولكم فحطّته معجزات موسى عليه‌السلام عن الاستقلال بالرأي مع دعواه الربوبية إلى إظهار الطاعة لرأي عبيده ، فأجابه الملأ و﴿قالُوا﴾ له : ﴿أَرْجِهْ﴾ وأخّر موسى ﴿وَأَخاهُ﴾ ولا تعجل في أمرهما ، ولا تبادر إلى قتلهما قبل أن يظهر كذبهما حتى لا يسيء ظنّ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧١.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٣٩٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٣.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١١٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٣.

(٤) في النسخة : هي.

(٥) تفسير البيضاوي ٢ : ١٥٤ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٤١ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٧١.

٥١٨

الناس بك ، فاذا ظهر كذبهما كنت معذورا فيما فعلت بهما من الحبس والقتل ﴿وَابْعَثْ﴾ وارسل الشّرط ﴿فِي الْمَدائِنِ﴾ قيل : يعني مدائن الصعيد في نواحي مصر (١) حال كونهم ﴿حاشِرِينَ﴾ وجامعين الناس حتى ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ في فنّ السحر يفضلون عليه فيه.

روي أنّ فرعون أراد قتل موسى ، ولم يكن يصل إليه ، فقالوا له : لا تفعل فانّك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهه ، ولكن أرجه وأخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه ، فلا تثبت له عليك حجّة ، ثمّ أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يحشرون ويجمعون السّحرة ظنّا منهم بأنّهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله وعارضوا قوله : ﴿إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ بقولهم : ﴿بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ [ فجاءوا بكلمة الإحاطة وبصيغة المبالغة ] ليطيّبوا قلبه ، وليسكّنوا قلقه (٢) .

فبعث فرعون الشّرط إلى المدائن ﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ﴾ وهم اثنان وسبعون ، أو سبعون ألفا ، على اختلاف فيه في الإسكندرية على ما قيل (٣)﴿لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ وزمان معين لحضورهم ، وهو وقت الضحى ، ويوم معين وهو يوم الزينة.

﴿وَقِيلَ﴾ من قبل فرعون ﴿لِلنَّاسِ﴾ من أهالي مصر وغيره ممّن يمكن حضوره : ﴿هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾ في مجمع موسى والسّحرة ، ولتشاهدوا تعارضهم وتغالبهم ؟ وإنما قالوا ذلك حثّا على مبادرتهم إليه.

﴿لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ * فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ

 أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ * قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ

 الْمُقَرَّبِينَ (٤٠) و (٤٢)

ثمّ بيّنوا الغرض من الاجتماع بقولهم : ﴿لَعَلَّنا﴾ ورجاء منّا أن ﴿نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ﴾ في دينهم ﴿إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ﴾ على موسى في السّحر.

﴿فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ﴾ إلى باب فرعون ، وأذن لهم في الدخول عليه ، واستمال قلوبهم ، وحثّهم على معارضة موسى ﴿قالُوا لِفِرْعَوْنَ﴾ يا فرعون ﴿أَ إِنَّ لَنا﴾ عندك ﴿لَأَجْراً﴾ جزيلا وجعلا عظيما من المال أو الجاه ﴿إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ﴾ على موسى ؟ ﴿قالَ﴾ فرعون : ﴿نَعَمْ﴾ لكم عندي أجر عظيم من المال ﴿وَإِنَّكُمْ﴾ مع ذلك ﴿إِذاً﴾ وحين غلبتموه ﴿لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ عندي.

قيل : وعدهم أن يكونوا أول من يدخل عليه وآخر من يخرج من عنده ، وكان ذلك أعظم الشأن

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧١.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٣٢.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٢.

٥١٩

عندهم (١) .

وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام : « بعث في المدائن حاشرين - يعني مدائن مصر كلّها - فجمعوا الف ساحر ، واختاروا من الألف مائة ، ومن المائة ثمانين ، فقال السحرة لفرعون : قد علمت أنّه ليس في الدنيا أسحر منّا ، فان غلبنا موسى فما يكون لنا عندك ؟ قال : إنّكم لمن المقرّبين عندي ، اشارككم في ملكي. قالوا : فإن غلبنا موسى وأبطل سحرنا ، علمنا أنّ ما جاء به ليس من قبل السّحر ، ولا من قبل الحيلة ، وآمنّا به وصدّقناه. قال فرعون : إنّ غلبكم موسى صدّقته أنا أيضا معكم ، ولكن اجمعوا كيدكم (٢) ، وكان موعدهم يوم عيد لهم ، فلمّا ارتفع النهار جمع فرعون الخلق والسّحرة ، وكانت له قبّة طولها في السماء ثمانون ذراعا ، وقد كانت البست الحديد والفولاذ المصقول ، وكانت إذا وقعت الشمس عليها لم يقدر أحد أن ينظر إليها من لمع الحديد وهج الشمس ، فجاء فرعون وهامان وقعدا عليها ينظران ، وأقبل موسى ينظر إلى السماء ، فقالت السّحرة لفرعون : إنّا نرى رجلا ينظر إلى السماء ، ولم يبلغ سحرنا السماء » (٣) الخبر.

﴿قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ

 فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ * فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ *

 فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ * قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ * رَبِّ مُوسى وَهارُونَ *

 قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ

 تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قالُوا

 لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٤٣) و (٥٠)

وأحضروا حبالهم وعصيّهم واصطفّوا في قبال موسى عليه‌السلام ، ثم قالوا تأدبّا وتعظيما له : يا موسى إما أن تلقي عصاك أولا ، وإما أن نلقي حبالنا وعصينا ، الأمر إليك. فلمّا تواضعوا له تواضع هو أيضا لهم وقدّمهم على نفسه و﴿قالَ لَهُمْ مُوسى :﴾ بل ﴿أَلْقُوا﴾ واطرحوا أولا ﴿ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ ومطرحون ، وافعلوا ما أنتم فاعلون ، فانّي لا ابالي بكم وبصنيعكم ، وهذا الأمر إذن لا إيجاب. وقيل : إنّه إيجاب لكونه طريقا إلى كشف الحقّ (٤) .

وقيل : إنّه إيجاب مشروط ، والمعنى ألقوا إن كنتم محقّين ، أو تهديد والمعنى إن ألقيتم فانّي آت بما

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٣.

(٢) زاد في تفسير القمي والصافي : أي حيلتكم ، قال.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٢٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ١٣٤.

٥٢٠