نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

على هذا الضعف (١) حتى تنزل ملائكة سبع سماوات ، فيظهر الغمام وهو كالسّحاب الأبيض فوق سبع سماوات ، ثمّ ينزل الأمر بالحساب ، فذلك قوله تعالى : ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ(٢) .

وقيل : إنّ الملائكة في زمان (٣) الأنبياء عليهم‌السلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة [ والسماء على اتصالها ] ، وفي ذلك اليوم تنشقّ السماء ، فاذا انشقّت خرجت من أن تكون حائلا بين الملائكة وبين الأرض ، فينزلون (٤) إلى الأرض (٥) .

وعن مقاتل : تشقّق السماء الدنيا ، فينزل أهلها وهم أكثر من سكّان الدنيا ، كذلك تشقّق سماء سماء ، ثمّ ينزل الكروبيون وحملة العرش (٦) .

وعن ابن عباس : تنشقّ كلّ سماء ، وينزل سكّانها ، فيحيطون بالعالم ، ويصيرون سبع صفوف حوله (٧) .

﴿الْمُلْكُ﴾ والسّلطان القاهر والاستيلاء التامّ الكامل في الظاهر والواقع والصورة والمعنى ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وفي ذلك الوقت ، أعني الملك المتّصف بأنّه ﴿الْحَقُ﴾ الثابت يكون ﴿لِلرَّحْمنِ﴾ والفيّاض المطلق خاصة ، فانّ كلّ ملك يزول ويبطل إلّا ملكه يوم القيامة ﴿وَكانَ﴾ ذلك اليوم ﴿يَوْماً﴾ عظيما ﴿عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً﴾ وشديدة (٨) أهواله ﴿وَيَوْمَ يَعَضُ﴾ ويمسك بالنّواجذ [ مسكا ] شديدا ﴿الظَّالِمُ﴾ على الله وعلى رسوله بعصيانهما ﴿عَلى يَدَيْهِ﴾ من فرط التحسّر والنّدم.

عن ابن عباس : المراد عقبة بن أبي معيط ، كان لا يقدم من سفر إلّا صنع طعاما يدعو إليه جيرته من أهل مكّة ، ويكثر مجالسة الرسول ويعجبه حديثه ، فصنع طعاما ، ودعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين » ففعل ، فأكل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من طعامه ، فبلغ هذا امية بن خلف ، فقال : صبوت يا عقبة وكان خليله ، فقال : إنّما ذكرت ذلك ليأكل من طعامي. فقال : لا أرضى ابدا حتى تأتيه فتبرق في وجهه وتطأ على عنقه ، ففعل ، فقال عليه‌السلام : « لا ألقاك خارجا من مكّة إلّا علوت رأسك بالسيف » فنزل ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ﴾ ندامة ، يعني عقبه(٩).

القمي قال : روي أنّه يأكل يديه حتى يبلغ مرفقيه ، ثمّ تنبتان ، ثمّ يأكلهما ، هكذا كلّما نبتتا أكلهما تحسّرا وندامة على التفريط والتقصير (١٠) ، وهو ﴿يَقُولُ﴾ تمنّيا : ﴿يا﴾ هؤلاء ﴿لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ﴾ في

__________________

(١) في تفسير روح البيان : التضعيف.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢٠٣.

(٣) في تفسير الرازي : أيام.

(٤) في تفسير الرازي : فنزلت الملائكة.

(٥و٦) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٤.

(٧) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٤ ، وفيه : حول العالم.

(٨) في النسخة : شديدا.

(٩) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٥. (١٠) تفسير روح البيان ٦ : ٢٠٤ ، وقد نسبه المصنّف إلى تفسير القمي سهوا.

٤٨١

الدنيا ﴿مَعَ﴾ محمّد ﴿الرَّسُولِ﴾ الصادق ﴿سَبِيلاً﴾ وطريق مودة وتبعية ، وكنت معه على الاسلام ، أو سبيلا إلى النجاة من العذاب.

وعن الباقر عليه‌السلام : « يعني عليا وليا » (١) .

﴿يا وَيْلَتى﴾ ويا هلكتا احضري فهذا أوانك ﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً﴾ الضالّ المضلّ ﴿خَلِيلاً﴾ لنفسي وصديقا ، فانّه والله ﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي﴾ وصرفني ﴿عَنِ﴾ قبول ﴿الذِّكْرِ﴾ وموعظة الرسول ، أو عن الإقرار بالقرآن والايمان به بعد إذ جاءني من جانب الله بتوسّط محمّد ، وتمكّنت من العمل به.

عن ابن عباس : ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ﴾ ندامة ، يعني عقبة يقول : يا ليتني لم اتّخذ امية خليلا ﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ﴾ وهو القرآن والإيمان به ﴿بَعْدَ إِذْ جاءَنِي﴾ مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢)﴿وَكانَ الشَّيْطانُ﴾ المغوي لي ولخليلي ، والمضلّ عن اتّباع الرسول والايمان بالقرآن ﴿لِلْإِنْسانِ﴾ المطيع له ﴿خَذُولاً﴾ وتاركا لنصرته مع أنّه يعده نصره ويمنّيه نفعه.

قيل : إنّ الذيل (٣) من كلام الله تعالى (٤) .

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة الوسيلة. قال : « في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع ، وطال لها الاستماع ، ولئن تقمّصها دوني الأشقيان ، ونازعا (٥) في ما ليس لهما بحقّ ، وركباها ضلالة ، واعتقداها جهالة ، فلبئس ما عليه وردا ، ولبئس ما لأنفسهما مهدا ، يتلاعنان في دورهما ، ويبرأ كل منهما من صاحبه ، يقول لقرينة إذا التقيا : ﴿يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ(٦) فيجيبه الأشقى على رثوثة (٧) يا ﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً﴾ فأنا الذّكر الذي عنه ضلّ ، والسبيل الذي عنه مال ، والإيمان الذي به كفر ، والقرآن الذي إيّاه هجر ، والدين الذي به كذب ، والصراط الذي عنه نكب » (٨) .

وعنه عليه‌السلام في احتجاجه على بعض الزنادقة ، قال : « إنّ الله ورّى أسماء من اغتّر وفتن خلقه وضلّ وأضلّ ، وكنّى عن أسمائهم في قوله : ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ﴾ الآيتان » (٩) .

قال الفخر الرازي : قالت الرافضة ، هذا الظالم هو رجل بعينه ، وإنّ المسلمين غيّروا اسمه وكتموه ، وجعلوا فلانا بدلا من اسمه ، وذكروا فاضلين من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ أطال الكلام في إثبات

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١١٣ ، تفسير الصافي ٤ : ١١.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٥.

(٣) أي ذيل الآية ، قوله تعالى : وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٥.

(٥) في الكافي وتفسير الصافي : نازعاني.

(٦) الزخرف : ٤٣ / ٣٨.

(٧) في النسخة : وثوبه ، ورثّت هيئة الرجل رثوثة : قبحت وهانت.

(٨) الكافي ٨ : ٢٧ / ٤ ، تفسير الصافي ٤ : ١١.

(٩) الاحتجاج : ٢٤٥ ، تفسير الصافي ٤ : ١١.

٤٨٢

دلالة لفظ الظالم على العموم ، ثمّ قال : وأمّا قول الرافضة فذلك لا يتمّ إلّا بالطعن في القرآن و[ إثبات ] أنّه غيّر وبدّل ، ولا نزاع في أنّه كفر (١) .

وفيه : أنّه لم يقل أحد من أصحابنا رضوان الله عليهم في خصوص الآية بالتغيير والتبديل ، كما افتراه عليهم ، بل يقولون : إنّ المراد من لفظ فلان ولفظ الشيطان هو الثاني ، وإنّما كنّى الله عنه ولم يصرّح باسمه لحكم كثيرة منها : عدم سدّ باب الضلال والامتحان على الناس ، وكذلك لفظ الظالم في الآية - وإن كان عاما - إلّا أنّ المراد أو أظهر مصاديقه هو الظالم لآل محمّد حقهم ، وهو الأول ، كما أنّ المراد من لفظ الفاسق في قوله : ﴿إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ(٢) هو الوليد بن المغيرة (٣) ، وإن كان اللفظ عاما ، والمراد من لفظ المؤمن في كثير من الآيات ومن قوله : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ(٤) خصوص أمير المؤمنين ، (٥) وإن كان اللفظ عاما.

﴿وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً * وَكَذلِكَ جَعَلْنا

 لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣٠) و (٣١)

ثمّ حكى سبحانه شكاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قومه المعترضين عليه بقوله : ﴿وَقالَ الرَّسُولُ﴾ شكاية إلى ربّه إثر ما شاهد من قومه العتوّ والطّغيان والطّعن في القرآن : ﴿يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي﴾ قريشا ﴿اتَّخَذُوا﴾ وجعلوا ﴿هذَا الْقُرْآنَ﴾ الذي أنزلته لهدايتهم ﴿مَهْجُوراً﴾ ومتروكا ، بأن أعرضوا عنه ، وصدّوا الناس عن الايمان به ، أو مهجورا فيه ومستهزءا به بقولهم : إنّه شعر ، أو سحر ، أو كهانة ، أو كذب.

قيل : إنّ الرسول يقول ذلك في الآخرة (٦) .

ثمّ سلّى سبحانه قلب حبيبه بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ العدوّ الذي جعلنا لك من مجرمي قومك كأبي جهل وأضرابه ﴿جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍ﴾ قبلك ﴿عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ والمتمرّدين من قومهم كنمرود لابراهيم ، وفرعون لموسى ، واليهود لعيسى ، فاصبر أنت كما صبروا وتظفر كما ظفروا ﴿وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً﴾ لك إلى جميع مطالبك التي منها رواج شرعك ﴿وَنَصِيراً﴾ لك على أعدائك ، فاجتهد في التبليغ ولا تبال أحدا.

﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ

 وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٢) و (٣٣)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٥.

(٢) الحجرات : ٤٩ / ٦.

(٣) مجمع البيان ٩ : ١٩٨.

(٤) البقرة : ٢ / ٢٠٧.

(٥) تفسير الرازي ٥ : ٢٠٤ ، كفاية الطالب : ٢٣٩.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٧.

٤٨٣

ثمّ حكى سبحانه اعتراض المشركين على القرآن بنزوله نجوما بقوله : ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قريش طعنا على القرآن : ﴿لَوْ لا﴾ وهلّا ﴿نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً﴾ ودفعة ﴿واحِدَةً﴾ كتوراة موسى ، وإنجيل عيسى على ما قاله أهل الكتاب ؟ فأجاب سبحانه عنه بقوله : ﴿كَذلِكَ﴾ التفريق فرّقناه ﴿لِنُثَبِّتَ﴾ ولنقوّي ﴿بِهِ فُؤادَكَ﴾ وقلبك في التبليغ ، لكون كلّ آية في حادثة وواقعة معجزة ظاهرة مستقلة ، فعجزهم عن إتيان مثلها دليل واضح على صدقك ، فيكون القرآن معجزات كثيرة بحسب كثرة آياته ، فلو نزل جملة واحدة لعدّ جميعه معجزة واحدة ، ولكون نزوله على حسب أسئلة الناس والوقائع موجبا (١) لازدياد بصيرتهم ، لانضمام فصاحته بالأخبار المغيبة ، مع أنّ في نزوله مفرّقا رفقا بالعباد وتسهيلا (٢) للعمل بالأحكام قليلا قليلا ، فلو نزلت الأحكام جملة واحدة لثقلت عليهم ، وخرجوا من الدين ، ففي ثباتهم عليه مع ما استلزم التفريق من رؤية جبرئيل وقتا بعد وقت وحالا بعد حال تقوية لقلبك الشريف.

﴿وَ﴾ كذلك ﴿رَتَّلْناهُ﴾ وقرأناه عليك شيئا فشيئا ، وعلى تؤدة ومهل ﴿تَرْتِيلاً﴾ حسنا موجبا لتيسّر فهمه وحفظه والالتفات إلى جهات إعجازه ﴿وَلا يَأْتُونَكَ﴾ يا محمّد ﴿بِمَثَلٍ﴾ وسؤال عجيب واعتراض غريب يعدّ في الغرابة من الأمثال ، يريدون به القدح في نبوّتك ، والطعّن في كتابك ﴿إِلَّا جِئْناكَ﴾ وأوحينا إليك جوابا مقرونا ﴿بِالْحَقِ﴾ المبطل لما أتوا به ﴿وَ﴾ بما يكون ﴿أَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ وألطف بيانا وتفصيلا ، لما هو الصواب ومقتضى الحكمة.

قيل : إنّ كلّ نبي إذا اعترض عليه قومه ، كان هو بنفسه يردّ عليهم ، وأما نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان إذا قال له قومه شيئا كان الله يردّ عليهم (٣) .

﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)

ثمّ هدّد الله الطاعنين في القرآن المعترضين عليه بقوله : ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ﴾ ويساقون من قبورهم إلى المحشر ماشين ﴿عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ ويسحبون عليها ويجرّون ﴿إِلى جَهَنَّمَ.

في الحديث : « يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف على الدوابّ ، وصنف على الأقدام ، وصنف على الوجوه » فقيل : يا نبي الله ، كيف يحشرون على وجوههم ؟ فقال : « إنّ الذي أمشاهم على أقدامهم ، فهو قادر على أن يمشيهم على وجوههم » (٤) .

__________________

(١) في النسخة : موجب.

(٢) في النسخة : رفق بالعباد وتسهيل.

(٣و٤) تفسير روح البيان ٦ : ٢٠٩.

٤٨٤

﴿أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً﴾ وأسوء مقاما ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ أخطأ طريقا من كلّ أحد ، لأنّ طريقهم مود إلى الهلاك الأبد والعذاب المخلّد.

﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى

 الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً * وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ

 أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً * وَعاداً

 وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً * وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ

 تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٥) و (٣٩)

ثمّ لمّا أخبر سبحانه بأنّه جعل لكلّ نبي عدوا ، ذكر جماعة من الأنبياء الذين ابتلوا بالأعداء فأهلكهم الله بعداوتهم لهم ، فابتدأ بذكر موسى عليه‌السلام بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا﴾ وأعطينا ﴿مُوسَى الْكِتابَ﴾ كما أعطيناك القرآن ﴿وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ﴾ النبي الذي كان اسمه ﴿هارُونَ وَزِيراً﴾ ومعينا يعاونه في الدعوة وتحمّل أعباء الرسالة ، كما جعلنا معك أخاك الحسبي عليا وزيرا وخليفة يعاونك في إعلاء كلمة التوحيد ، وترويج دينك في حياتك ، وحفظ شريعتك بعد وفاتك ﴿فَقُلْنَا﴾ لهما بعد تشريفهما بمنصب الرسالة : ﴿اذْهَبا﴾ بالرسالة من قبلي ﴿إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ الدالة على توحيدي وكمال صفاتي ، والمعجزات الباهرات التي أجريناها بيدكما تصديقا لرسالتكما ، وهم فرعون وقومه من القبط ، فذهبا إليهم وأرياهم أياتنا فكذبوهما وعادوهما ﴿فَدَمَّرْناهُمْ﴾ وأهلكناهم بالعذاب المستأصل بعد التكذيب ﴿تَدْمِيراً﴾ وإهلاكا عجيبا هائلا ، وهو الغرق في بحر القلزم ، ﴿وَ﴾ دمّرنا ﴿قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا﴾ عادوه وكذّبوه و﴿كَذَّبُوا الرُّسُلَ﴾ الذين قبله ، أو الذين قبله وبعده بتكذيبه ، لاستلزام تكذيبه تكذيب الكلّ ، وكان تدميرهم أنّه ﴿أَغْرَقْناهُمْ﴾ بالطوفان ﴿وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ﴾ إلى يوم القيامة ﴿آيَةً﴾ عظيمة على توحيدنا وكمال قدرتنا ، وعظة ظاهرة يعتبر بها كلّ من شاهدها أو سمع قصّتها ﴿وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ﴾ المغرقين بظلمهم ، أو لكلّ من سلك سبيلهم ﴿عَذاباً أَلِيماً﴾ في الآخرة ، ﴿وَ﴾ دمّرنا ﴿عاداً﴾ بتكذيبهم هودا ﴿وَثَمُودَ﴾ بتكذيبهم صالحا ﴿وَأَصْحابَ الرَّسِ﴾ بتكذيبهم شعيبا على ما قيل من أنهم كانوا عبدة أصنام وأصحاب آبار ومواش فبعث الله إليهم شعيبا ، فدعاهم إلى الاسلام ، فتمادوا في الطغيان و[ في ] إيذائه ، فبينما هم حول الرّس خسف الله بهم وبدارهم (١) .

وقيل : إنّهم بقية ثمود ، سكنوا الرّس ، وهي قرية بفلج اليمامة ، قتلوا نبيّهم فهلكوا (٢) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٨٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٨٢.

٤٨٥

وقيل : إنّهم بقية ثمود ، وكان نبيّهم حنظلة بن صفوان ، وكان قبل موسى ، وكانوا على بئر يرويهم ماؤها ، ويكفي أرضهم جميعا ، فرسّوا حنظلة فيها ، فغار ماؤها ويبست أشجارهم ، وانقطعت ثمارهم فهلكوا (١) .

وقيل : ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم ذي عنق طويل ، كان فيه من كلّ لون ، فكان إذا أعوزه الصيد يخطف صبيانهم ويذهب بهم إلى جهة المغرب ، فسمّوه لطول عنقه وذهابه إلى جهة المغرب عنقاء المغرب ، فخطف يوما ابنة مراهقة فشكوا ذلك إلى حنظلة ، وشرطوا إن كفوا شرّه أن يؤمنوا به ، فدعا حنظلة على تلك العنقاء ، فأرسل الله [ عليها ] صاعقة فأحرقتها ولم تعقب ، أو ذهب الله بها إلى بعض جزائر البحر المحيط تحت خطّ الاستواء ، وهي جزيرة لا يصل إليها الناس ، ثمّ خالفوا شرطهم وقتلوه ، أو رسّوه في البئر (٢) .

وقيل : هم أصحاب الاخدود ، والرّسّ هو الاخدود (٣) .

وقيل : هم قوم نساؤهم سحّاقات ، فسلّط الله عليهم صاعقة في أول الليل ، وخسفا في آخره ، وصيحة مع الشمس ، فلم يبق منهم أحد (٤) .

وقيل : هم قوم كذّبوا نبيا أتاهم فحبسوه في بئر ضيقة القطر ، ووضعوا على رأسها صخرة عظيمة لا يقدر على حملها إلّا جماعة من الناس ، وما آمن به إلّا عبد أسود ، وكان العبد يأتي الجبل فيحتطب ، ويحمل على ظهره ، ويبيع الحزمة ، ويشتري بثمنها طعاما ، ثمّ يأتي البئر فيلقي إليه الطعام من خروق الصخرة ، وكان على ذلك سنين ، ثمّ إنّ الله أهلك القوم ، وأرسل ملكا فرفع الحجر ، وأخرج النبي من البئر (٥) .

وقيل : إنّ الأسود رفع الصخرة ، فقوّاه الله لرفعها ، وألقى حبلا إليه واستخرجه من البئر فأوحى الله إلى ذلك النبي أنّه رفيقه في الجنة (٦) .

والقمي : قال الرّسّ نهر بأذربايجان (٧) .

وعن الرضا ، عن آبائه ، عن الحسين بن علي عليهم‌السلام ، قال : « أتى علي بن أبي طالب عليه‌السلام قبل مقتله بثلاثة أيام رجل من أشراف تميم ، يقال له عمرو ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن أصحاب الرّسّ في أي عصر كانوا : وأين كانت منازلهم ، ومن كان ملكهم ، وهل بعث الله إليهم رسولا أم لا ،

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢١٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٨٢.

(٤و٥) تفسير روح البيان ٦ : ٢١٢.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ٢١٣.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٣٢٣ ، تفسير الصافي ٤ : ١٥.

٤٨٦

وبماذا اهلكوا ؟ فإنّي أجد في كتاب الله تعالى ذكرهم ، ولا أجد خبرهم ؟

فقال علي عليه‌السلام : لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك ، ولا يحدّثك به أحد بعدي إلّا عنّي ، وما في كتاب الله عزوجل آية إلّا وأنا أعرفها ، وأعرف تفسيرها ، وفي أيّ مكان نزلت من سهل أو جبل ، وفي أيّ وقت من ليل أو نهار ، وإن [ ها ] هنا لعلما جمّا - وأشار إلى صدره - ولكن طلابه يسير ، وعن قليل تندمون لو فقدتموني (١) .

وكان من قصّتهم يا أخا تميم أنّهم كانو يعبدون شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت ، كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها دوشاب ، كانت انبطّت (٢) لنوح عليه‌السلام بعد الطّوفان ، وإنّما سمّوا أصحاب الرّسّ لأنهم رسّوا نبيهم في الارض ، وذلك بعد سليمان بن داود عليه‌السلام وكانت لهم اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرّسّ من بلاد المشرق ، وبهم سمّي ذلك النهر ، ولم يكن يومئذ نهر أغزر منه ولا أعذب منه ، ولا قرى أكثر ولا أعمر منها ، تسمّى إحداهن أبان ، والثانية آذر ، والثالثة دي ، والرابعة بهمن ، والخامسة اسفندار ، والسادسة فروردين ، والسابعة أردي بهشت ، والثامنة خرداد ، والتاسعة مرداد ، والعاشرة تير ، والحادية عشرة مهر ، والثانية عشرة شهريور.

وكانت أعظم مدائنهم إسفندار ، وهي التي ينزلها ملكهم ، وكان يسمّى تركور بن عابور (٣) بن يارش بن سار (٤) بن نمرود بن كنعان فرعون إبراهيم عليه‌السلام ، وبها العين والصّنوبرة ، وقد غرسوا في كلّ قرية منها حبّة من طلع تلك الصّنوبرة ، فنبتت الحبّة وصارت شجرة عظيمة ، وحرّموا ماء العين والأنهار ، فلا يشربون منها ولا أنعامهم ، ومن فعل ذلك قتلوه ، ويقولون : هو حياة آلهتنا ، فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتها ، ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرّسّ الذي عليه قراهم.

وقد جعلوا في كلّ شهر من السنة في كلّ قرية عيدا تجتمع إليه أهلها ، فيضربون على الشجرة التي بها كلّة من حرير فيها من أنواع الصّور ، ثمّ يأتون بشاة وبقر يذبحونهما (٥) قربانا للشجرة ، ويشعلون فيها النيران بالحطب ، فاذا سطع دخان تلك الذبائح وقتارها (٦) في الهواء ، وحال بينهم وبين النظر إلى السماء خرّوا سجّدا للشجرة ، ويبكون ويتضّرعون إليها أن ترضى عنهم ، وكان الشيطان يجيء فيحرك أغصانها ، ويصيح من ساقها صياح الصبي : إنّي رضيت عنكم عبادي ، فطيبوا نفسا ، وقرّوا عينا ،

__________________

(١) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : يندمون لو فقدوني.

(٢) في النسخة : أنبتت.

(٣) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : تركوذ بن غابور.

(٤) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : سازن.

(٥) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : فيذبحونها.

(٦) القتار : دخان ذو رائحة خاصة ينبعث من الطبيخ أو الشّواء أو البخور.

٤٨٧

فيرفعون رؤوسهم عند ذلك ، ويشربون الخمر ، ويضربون بالمعازف ، ويأخذون « الدست بند » (١) ، فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم ، ثمّ ينصرفون.

وإنّما سمّيت العجم شهورها بأبان ماه وآذرماه وغيرهما اشتقاقا من أسماء تلك القرى ، يقول (٢) أهلها بعضهم لبعض هذا عيد شهر كذا ، وعيد (٣) شهر كذا ، حتى إذا كان عيد (٤) قريتهم العظمى اجتمع إليه صغيرهم وكبيرهم ، فضربوا عند الصنوبرة والعين سرادقا من ديباج (٥) عليه أنواع الصور ، له اثنا عشر بابا ، كلّ باب لأهل قرية منهم ، ويسجدون للصّنوبرة خارجا من السّرادق ، وما يقرّبون لها من الذبائح أضعاف ما قرّبوا للشجرة التي في قراهم فيجيء إبليس عند ذلك فيحرّك الصنوبرة تحريكا شديدا ، ويتكلّم من جوفها كلاما جهوريا ويعدهم ويمنّيهم بأكثر ممّا وعدتهم ومنّتهم الشياطين كلها ، فيرفعون رؤوسهم من السّجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون ولا يتكلّمون من الشّرب والعزف ، فيكونون على ذلك اثني عشر يوما ولياليها بعدد أعيادهم سائر السنة ، ثمّ ينصرفون.

فلمّا طال كفرهم بالله عزوجل وعبادتهم غيره ، بعث الله سبحانه إليهم نبيا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب ، فلبث فيهم زمانا طويلا يدعوهم إلى عبادة الله عزوجل ومعرفته وربوبيته فلا يتّبعونه ، فلمّا رأى شدّة تماديهم في الغيّ والضّلال ، وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرّشد والنجاح ، وحضر عيد قريتهم العظمى قال : يا ربّ ، إنّ عبادك أبوا إلّا تكذيبي والكفر بك ، وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضرّ ، فأيبس شجرهم أجمع ، وأرهم قدرتك وسلطانك.

فأصبح القوم وقد يبس شجرهم ، فهالهم ذلك ، وفظع (٦) بهم ، وصاروا فرقتين : فرقة قالت : سحر آلهتكم هذا الرجل الذي يزعم أنّه رسول إله السماء والأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه ، وفرقة قالوا : لا ، بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيها ويدعوكم إلى عبادة غيرها ، فحجبت حسنها وبهاءها لكي تغضبوا عليه (٧) ، فتنتصروا منه ، فأجمع رأيهم على قتله ، فاتخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه ، ثمّ أرسلوها في قرار العين إلى أعلى الماء واحدة فوق الاخرى مثل البرابخ (٨) ، ونزحوا ما فيها من الماء ، ثمّ حفروا في قرارها بئرا ضيقة المدخل عميقة ،

__________________

(١) الدست بند : لعبة للمجوس يدورون فيها وقد أمسك بعضهم يد بعض كالرقص.

(٢) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : لقول.

(٣) في النسخة : عيد.

(٤) زاد في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : شهر.

(٥) السّرادق : كل ما أحاط بشىء من حائط أو مضرب ، والديباج : قماش سداه ولحمته حرير.

(٦) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : وقطع.

(٧) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : لها.

(٨) البرابخ : جمع بربخ ، منفذ الماء ومجراه ، والبالوعة من الخزف.

٤٨٨

وارسلوا فيها نبيّهم ، وألقموا فاها صخرة عظيمة ، ثمّ أخرجوا الأنابيب من الماء ، وقالوا : نرجو الآن أن ترضي عنّا آلهتنا إذ رأت أنّا قتلنا من كان يقع فيها ويصدّ عن عبادتها ودفنّاه تحت التّراب ، وإن كبيرها يتشفّى منه ، فيعود لنا نورها ونضرتها (١) كما كان ، فبقوا عامّة يومهم يسمعون أنين نبيهم وهو يقول : سيدي قد ترى ضيق مكاني وشدّة كربي ، فارحم ضعف ركني ، وقلّة حيلتي ، وعجّل قبض روحي ، ولا تؤخّر إجابة دعوتي ، حتى مات.

فقال الله تعالى لجبرئيل عليه‌السلام : يا جبرئيل ، أيظن عبادي هؤلاء الذين غرّهم حلمي ، وأمنوا مكري ، وعبدوا غيري ، وقتلوا رسولي أن يقوموا لغضبي ، ويخرجوا من سلطاني ؟ ! كيف وأنا المنتقم ممّن عصاني ، ولم يخش عقابي ، وإنّي حلفت بعزّتي لأجعلنّهم عبرة ونكالا للعالمين ، فلم يرعهم وهم في عيدهم ذلك إلّا بريح عاصفة شديدة الحمرة ، فتحيّروا فيها وذعروا منها وتضامّ بعضهم الى بعض ، ثمّ صارت الأرض من تحتهم كحجر كبريت يتوقّد ، وأظلّتهم سحابة سوداء ، فألقت عليهم كالقبّة جمرا يلتهب ، فذابت أبدانهم [ في النار ] كما يذوب الرصاص في النار » الخبر (٢) .

وروى بعض العامة هذه الرواية بتفاوت يسير (٣) .

عن علي بن الحسين عليهما‌السلام ، عن أبيه ، عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام ، وعن الصادق عليه‌السلام أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهنّ عن السّحق ، فقال : « حدّها حدّ الزاني ، فقالت : ما ذكر الله عزوجل ذلك في القرآن ؟ فقال عليه‌السلام : « بلى » . فقالت : وأين هو ؟ قال : « هنّ أصحاب الرّسّ » (٤) .

والقمي عنه عليه‌السلام ، قال : دخلت امرأة مع مولاتها على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقالت : ما تقول في اللواتي مع اللواتي ؟ قال : « هنّ في النار ، إذا كان يوم القيامة اتي بهنّ فألبسن جلبابا من نار ، وخفّين من نار ، وقناعا من نار ، وادخل في أجوافهنّ وفروجهنّ أعمدة من نار ، وقذف بهنّ في النار » فقالت : ليس هذا في كتاب الله ؟ قال : « بلى » قالت : أين هو ؟ قال : « قوله : ﴿وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِ﴾ فهن الرّسيّات » (٥) .

أقول : هذه الروايات في بيان سبب إهلاك نسوتهم ، وما سبق في بيان سبب عقوبة الرجال ، فلا تنافي بينها.

﴿وَ﴾ أهلك ﴿قُرُوناً﴾ وامما كانوا ﴿بَيْنَ ذلِكَ﴾ المذكور من الامم حال كونهم ﴿كَثِيراً﴾ لا يعلمهم

__________________

(١) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ونضارتها.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٥ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٣.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٢١٣.

(٤) الكافي ٧ : ٢٠٢ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٥.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١١٣ ، تفسير الصافي ٤ : ١٥.

٤٨٩

إلّا الله.

﴿وَ﴾ ذكرنا ﴿كُلًّا﴾ من الامم المهلّكين و﴿ضَرَبْنا﴾ وبيّنا بتوسّط الرسل ﴿لَهُ الْأَمْثالَ﴾ والقصص العجيبة الزاجرة عمّا هم عليه من الكفر والمعاصي ﴿وَكُلًّا﴾ من الطوائف بعد تكذيبهم الرسل وإصرارهم على الطغيان ﴿تَبَّرْنا﴾ هم وأهلكناهم ﴿تَتْبِيراً﴾ وإهلاكا عجيبا هائلا.

﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا

 لا يَرْجُونَ نُشُوراً * وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ

 رَسُولاً * إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ

 يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٠) و (٤٢)

ثمّ استشهد سبحانه على قدرته على تعذيب المكذّبين للرسل وشدّة غضبه عليهم بما وقع في سدوم من قرى قوم لوط بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا﴾ هؤلاء المشركون من قريش ، ومرّوا مرارا كثيرة في أسفارهم إلى الشام للتجارة ﴿عَلَى الْقَرْيَةِ﴾ الموسومة بسدوم ﴿الَّتِي أُمْطِرَتْ﴾ من السماء ﴿مَطَرَ السَّوْءِ﴾ واهلك أهلها بنزول الحجارة عليهم ﴿أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها﴾ في ذهابهم إلى الشام ، ولم ينظروا إلى آثار العذاب فيها فيخافوا ويعتبروا ويؤمنوا ﴿بَلْ﴾ علّة عدم إيمانهم أنّهم ﴿لا يَرْجُونَ﴾ ولا يتوقّعون ﴿نُشُوراً﴾ ولا يؤمنون به حتى يرجوا ثواب الآخرة على الإيمان وطاعة الله مع وضوحه ، فكيف يعترفون بالجزاء الدنيوي حتى يتّعظوا بما شاهدوا من آثار العذاب ؟ وإنما يحملونه على الاتفاقيات.

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكار المشركين نبوّة نبيه وشبهاتهم فيها ، حكى استهزاءهم به بقوله : ﴿وَإِذا رَأَوْكَ﴾ الذين كفروا بالله وبرسالتك من قريش ﴿إِنْ يَتَّخِذُونَكَ﴾ وما يفرضونك ﴿إِلَّا هُزُواً﴾ ومحلا للسّخرية ، وكان كيفية استهزائهم أنه يقول بعضهم لبعض : ﴿أَ هذَا﴾ الرجل الفقير المهين فينا ﴿الَّذِي بَعَثَ اللهُ﴾ إلينا ﴿رَسُولاً﴾ فنتّبعه في ما يقول ، ونطيعه في ما يحكم ؟ ! ويقولون : ﴿إِنْ﴾ الشأن أنّه ﴿كادَ﴾ وقرب أنّه ﴿لَيُضِلُّنا﴾ ويصرفنا ﴿عَنْ﴾ عبادة ﴿آلِهَتِنا﴾ وأصنامنا بلطف بيانه ، وإكثار الحجج على التوحيد ، واجتهاده في الدعوة إليه ﴿لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا﴾ وثبّتنا ﴿عَلَيْها﴾ وأصررنا على عبادتها.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله : ﴿وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ البتة ﴿حِينَ يَرَوْنَ﴾ عيانا في الآخرة ﴿الْعَذابَ﴾ الأليم الشديد بالنار ، أو في الدنيا بالقتل والأسر والذلّ والجلاء ﴿مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ؟﴾ وأي الفريقين

٤٩٠

أفسد مذهبا ، هم أم محمّد والمؤمنون به الذين يدّعون أنّهم في ضلال عن الحقّ ؟

وفيه دلالة على أنهم لم يكونوا على حجّة في مذهبهم الباطل ، وإنما عارضوه بمحض الجحود والتقليد واللّجاج الذي هو دأب الجهّال.

﴿أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ

 يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٣) و (٤٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد الحكم بضلالهم ، وتهديدهم بالعذاب ، زيّف مذهبهم بأنّه في الحقيقة عبادة هوى أنفسهم وشهوتهم لا إطاعة حكم عقولهم بقوله : ﴿أَ رَأَيْتَ﴾ يا محمّد ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ﴾ ومعبوده ﴿هَواهُ﴾ وشهوة نفسه ، وهل تعجّبت من حمق من بني أمر دينه على ميل طبعه ، فكلّما دعاه هواه إليه انقاد له ، سواء منع عنه العقل السليم أم وافقه.

قيل : إنّ قوما من العرب كانوا يعبدون الحجر ، وإذا رأوا حجرا أحسن شكلا ولونا من غيره سجدوا له (١) .

وعن سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الصنم ، فاذا رأى أحسن منه رماه واتّخذ الآخر وعبده (٢) .

وعن ابن عباس : الهوى إله يعبد (٣) .

وفي الحديث : « ما عبد إله أبغض على الله من الهوى » (٤) .

ثمّ آيس سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هدايتهم لأن لا يتعب نفسه الشريفة في دعوتهم بقوله : ﴿أَ فَأَنْتَ﴾ يا محمد ، ببذل جهدك في دعوتهم ﴿تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾ وحفيظا تحفظهم من اتّباع الهوى وعبادة الأصنام ، لا لا تكون حافظا لهم إلّا بالإجبار الذي ليس لك ، بل إنّما أنت منذر ، وقد قضيت ما عليك.

وقيل : إنّ المراد إنكار كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله حفيظا لهم من العذاب بإتعاب نفسه في دعوتهم (٥) .

ثمّ نفى سبحانه عنهم أهلية الهداية بقوله : ﴿أَمْ تَحْسَبُ﴾ وتتوهّم ﴿أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ﴾ حججك وإنذارك ومواعظك ﴿أَوْ﴾ إذا سمعوها ﴿يَعْقِلُونَ﴾ ويتفكّرون فيها ، ولذا تطمع في إيمانهم ، وتهتّم في دعوتهم ، لا تتوهّم ذلك ﴿إِنْ هُمْ﴾ وما هؤلاء ﴿إِلَّا كَالْأَنْعامِ﴾ والبهائم في العزاء من السمع والعقل ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُ﴾ وأبعد من البهائم ﴿سَبِيلاً﴾ وطريقا الى الرشاد ، لأنّها تنقاد لمن يقودها إلى ما فيه خيرها ، وتطلب نفعها ، وتجتنب عمّا فيه ضرّها ، وتعرف من يحسن إليها مع عرائها عن العقل ، وهم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢١٧.

(٢و٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٨٦.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٢١٧.

(٥) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٢١.

٤٩١

مع عقلهم لا يعرفون ربّهم المحسن إليهم ، ولا ينقادون لمن يدلّهم إلى معرفته ، ولا يطلبون ثوابه الذي هو أعظم المنافع ، ولا يجتنبون عقابه الذي هو أعظم المضارّ ، ولأنّها لو لم تعتقد حقّا لا تعتقد باطلا ولا تكسب شرا بخلاف هؤلاء ، ولأنّ جهالتها وضلالها لا تضرّ أحدا ، وجهالة هؤلاء وضلالهم تؤدي إلى هج (١) الفتن وصدّ الناس عن كلّ حقّ وخير ، ولأنّها عاجزة عن تحصيل الكمال ، فلا تقصير منها ولا ذمّ عليها ، بخلاف هؤلاء فانّهم قادرون عليه ، مقصرّون فيه ، مستحقّون لأشد الذمّ والعقاب.

﴿أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ

 دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٥) و (٤٦)

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذمّ المشركين بعدم سماعهم الحجج على توحيده ، وعدم تفكّرهم فيها ، شرع في بيان أوضح الحجج عليها زائدا على ما سبق بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ بعين رأسك ، وبعين قلبك يا محمد ﴿إِلى﴾ صنع ﴿رَبِّكَ﴾ أنّه بقدرته الكاملة ﴿كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ﴾ وبسط الكيفية المتوسطة بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة التي تكون بين الطلوعين وتحت السقوف وأفنية الجدران ، وهي الحالة التي تكون أطيب الأحوال ، لأنّ الظلمة الخالصة يكرهها الطبع ، وينفر عنها الحس ، والضوء الخالص يبهر البصر ، ويؤثّر السخونة الشديدة ، ولذا وصف سبحانه الجنّة بها بقوله : ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ(٢) ومن المعلوم أنه من النّعم العظيمة والمنافع الجليلة التي لا بدّ لها من موجد ، ولا يكون إلّا الله ، لعدم قدرة غيره على إيجاده.

﴿وَلَوْ شاءَ﴾ الله سكونه ، ورأى الصلاح فيه ﴿لَجَعَلَهُ ساكِناً﴾ وثابتا على حالة واحدة من الطول والعرض والامتداد والاقامة ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾ ومعرّفا ، لأنّ الأشياء تعرف بأضدادها ، فانّه لو لا الشمس لما رؤي (٣) غير الجسم ولونه ، ولا يري الظلّ موجودا ثالثا ، فاذا أشرقت الشمس وزال الظلّ بضوئها ، عرف أنّه شيء بحياله ، كما أنّه لو لا الظلمة لما عرف النور ، فالمراد من الآية أنا خلقنا الظلّ أولا لما فيه من المنافع ، ثم هدينا العقول إلى معرفة وجوده باطّلاع الشمس ، فكانت الشمس دليلا على وجود الظلّ الذي هو نعمة عظيمة.

﴿ثُمَّ قَبَضْناهُ﴾ ورفعناه ﴿إِلَيْنا قَبْضاً﴾ ورفعا ، ولكن لا دفعة ، بل يسيرا ﴿يَسِيراً﴾ فانّ الشمس كلّما ازدادت ارتفاعا ازداد الظلّ نقصانا من جانب المغرب.

__________________

(١) يقال : هجّ النار ، أوقدها ، وفي تفسير روح البيان ٦ : ٢١٨ : هيج.

(٢) الواقعة : ٥٦ / ٣٠.

(٣) في النسخة : رأى.

٤٩٢

وقيل : لمّا خلق الله السماء والأرض والشمس والقمر والكواكب ، وقع الظلّ على الأرض (١) .

﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً * وَهُوَ

 الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً *

 لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٧) و (٤٩)

ثمّ لمّا كانت الأظلال تتحرّك بحركات الأضواء ، جعل ضوء الشمس كالهادي ، والظلّ كالمهتدي في سلوكه بالضوء ، وقبضه إنّما يكون عند قيام الساعة بقبض الأجرام التي يقع الظلّ عليها ، ويكون هذا القبض يسيرا وسهلا على الله ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ﴾ بقدرته وحكمته ﴿لَكُمُ اللَّيْلَ﴾ ساترا بظلامه ، كأنّه يكون ﴿لِباساً﴾ لكم ﴿وَ﴾ جعل ﴿النَّوْمَ﴾ فيه ﴿سُباتاً﴾ وراحة لأبدانكم ، حيث إنّه مستلزم للفراغ من المشاغل والزحمات ، أو موتا كما قال : ﴿هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ(٢) .

﴿وَجَعَلَ النَّهارَ﴾ والوقت الذي ينتشر فيه ضوء الشمس ﴿نُشُوراً﴾ لكم ووقت التفرّق في الأرض لطلب معاشكم وتحصيل رزقكم ، أو وقت القيام من الموت ، فشبّه سبحانه النوم عليه بالموت ، واليقظة بالبعث بعده ، تنبيها على أن النوم واليقظة كما يكونان نعمة عظيمة يكونان انموذج الموت والبعث.

عن لقمان ، أنه قال : يا بني كما تنام فتوقظ ، كذلك تموت فتنشر (٣) ، أو فتحشر (٤) .

﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ﴾ حال كونها ﴿بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ وقدّام المطر النافع الذي فيه حياة كلّ شيء ، ﴿وَأَنْزَلْنا﴾ بقدرتنا ورحمتنا بعد إرسال الرياح ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ المطل ، والسقف المحفوظ ، أو من جهة العلوّ ﴿ماءً طَهُوراً﴾ يتطهّر به من الأحداث والأرجاس والقذارات ، فإن الطهارة نعمة ومنّة زائدة ، حيث إنّ الماء الطهور أنفع وأهنأ ، ويكون إنزاله ﴿لِنُحْيِيَ بِهِ﴾ بالنبت والزرع والأشجار والأزهار والثّمار ﴿بَلْدَةً﴾ وقطعة من الأرض التي تكون ﴿مَيْتاً﴾ لا نبت فيها ولا عمارة ، ولنشرب ذلك الماء ﴿وَنُسْقِيَهُ﴾ بعضا ﴿مِمَّا خَلَقْنا﴾ أعني ﴿أَنْعاماً وَأَناسِيَ﴾ ومواشي وبشرا ﴿كَثِيراً.

قيل : إنّ المراد بهم أهل البوادي ، فانّهم يعيشون بماء المطر ، ولذا نكّر سبحانه الأنعام والاناسي.

وأمّا أهل المدن والقرى ، فانّهم يقيمون بقرب الأنهار والمنابع ، والوحوش والطيور تبعد في طلب

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٨٩.

(٢) الأنعام : ٦ / ٦٠.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٢٢٢.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٩٠.

٤٩٣

الماء (١) .

وإنّما خصّ سبحانه الأنعام بالذكر ، لأنّ غاية معائشهم ومنافعهم منوطة بها ، ولذا قدّم سقيها على سقيهم ، كما قدّم إحياء الأرض على سقيها ، لأنّه سبب لحياتها وتعيّشها.

﴿وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً * وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا

 فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٠) و (٥٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان المنافع الدنيويّة للمطر ، بيّن منافعه الاخروية بقوله : ﴿وَلَقَدْ﴾ أنزلنا المطر و﴿صَرَّفْناهُ﴾ وأجريناه ﴿بَيْنَهُمْ﴾ في أنهارهم وأوديتهم ، أو أنزلناه في مكان دون مكان ، أو في عام دون عام.

روي عن ابن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه [ قال ] : « ما من عام بأمطر من عام ، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل الله ذلك إلى غيرهم ، فاذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي » (٢) .

وعن ابن عباس : ما عام بأمطر من عام ، ولكن الله يصرفه في الأرض (٣) .

وقيل : إن المراد صرفنا وكوّرنا المذكور من الاظلال والرياح والسّحاب والمطر وسائر ما ذكر من الأدلة في القرآن وسائر الكتب السماوية (٤)﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ ويتفكّروا حتّى يعرفوا قدرة الله وحكمته وحقّ نعمته ، ويقوموا بشكره وأداء تكاليفه ﴿فَأَبى﴾ وامتنع مع ذلك ﴿أَكْثَرُ النَّاسِ﴾ ممّن سلف وخلف ﴿إِلَّا كُفُوراً﴾ لنعمه ، وعدم المبالاة بشأنها ، وعدم تأدية شكرها والقيام بحقّها ، بل جحدوها باسنادها إلى الطبائع وتأثير الكواكب.

ثمّ لمّا كان للكفّار اعتراض في بعث الرسول وشخصه ، بيّن أنّ أمره راجع إلى اختياره ومشيئته بقوله : ﴿وَلَوْ شِئْنا﴾ ورأينا الصلاح ﴿لَبَعَثْنا﴾ من قبلنا ﴿فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾ ومجتمع للناس من بلد ومدينة ﴿نَذِيراً﴾ ورسولا من البشر ، ينذر أهلها ، ليخفف عليك أعباء الرسالة ، ولكن أجللناك وعظّمنا شأنك بأن خصصناك بهذا المنصب العظيم ، وبعثناك إلى الخلق أجمعين إلى يوم الدين تفضيلا لك على سائر الأنبياء والمرسلين ،

فليس لأحد أن يعترض علينا في إكثار الرسل أو تخصيصه بشخص واحد من أيّ صنف كان ، فاذا علمت اختيارنا فيه وعظم شأنك لدينا ﴿فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ﴾ في ما يطلبون منك من الإمساك عن الدعوة إلى التوحيد ودعوى الرسالة ، وموافقتهم في عبادة أصنامهم خوفا منهم ، واتل عليهم القرآن الذي هو أعظم معجزاتك ﴿وَجاهِدْهُمْ بِهِ﴾ واجتهد في محاجّتهم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٢٥.

( ٢-٤ ) تفسير الرازي ٢٤ : ٩٨.

٤٩٤

ودفعهم عن باطلهم بهذا القرآن ، أو بسبب علوّ قدرك ، أو بسب كونك نذير جميع القرى ﴿جِهاداً كَبِيراً﴾ وعظيما.

قيل : يعني جامعا لمجاهدات الرسل الكثيرة (١) .

قيل : إن توصيف مجاهدته بالقرآن بالكبر ، لأنّه أكبر وأعظم من الجهاد بالسيف (٢) .

﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما

 بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً

وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٣) و (٥٤)

ثمّ بالغ سبحانه في بيان كمال قدرته بقوله : ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ﴾ وأرسل ، أو خلط ، أو خلّى ﴿الْبَحْرَيْنِ﴾ والماء العظيمين في مجاريهما حال كونهما ممتازين كلّ من الآخر بحيث يقال : ﴿هذا﴾ الماء ﴿عَذْبٌ فُراتٌ﴾ وطيب رافع للعطش لغاية عذوبته وطيبه ﴿وَهذا﴾ الماء الآخر ﴿مِلْحٌ أُجاجٌ﴾ بليغ في الملوحة ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً﴾ وحاجزا وحائلا من الأرض ، أو من قدرته ، كأنّه يتنفّر كلّ منهما من الآخر ، ويقول له : ﴿وَحِجْراً مَحْجُوراً﴾ كما يقول الرجل ذلك لعدوّه تعوّذا من شرّه ، والمعنى أنّه يقول كلّ من البحرين للآخر : حرام محرّم عليك أن تختلط بي ، وتغلب عليّ ، وتزيل صفتي ، أو المراد تنافرا بليغا ، أو حدا محدودا ، والظاهر أنّ المراد بالبحر العذب الأنهار الكبار كالنّيل والفرات ودجلة ، ومن الملح الاجاج البحر المعهود ، لما قيل من أنّه لا وجود للبحر العذب (٣) .

قيل : إنّ دجلة تدخل في بحر فارس ، وهو المسمّى بالبحر الأخضر ، وتجري في خلاله فراسخ لا يتغيّر طعمها (٤) .

وقيل : إنّ النيل يدخل في البحر الأخضر (٥) ، وهو بحر فارس ، وهو على عذوبته ، والبحر مرّ زعاق.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته بصنعه في الماء ، بيّن قدرته بخلق الانسان الذي هو أحسن مخلوقاته وأشرفها منه بقوله : ﴿وَهُوَ﴾ القادر ﴿الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ﴾ الدافق المخلوق في أصلاب الرجال ﴿بَشَراً﴾ وإنسانا ينطوي فيه العالم الكبير ﴿فَجَعَلَهُ﴾ أو جعل الماء ﴿نَسَباً﴾ وذكرا ينسب إليه ويقال : فلان بن فلان ﴿وَصِهْراً﴾ وإناثا يتزوّج بهنّ.

والظاهر أنّ النسب القرابة بالولادة ، والصّهر القرابة بالتزويج ﴿وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً﴾ بحيث لا حدّ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٠.

(٢) تفسير الصافي ٤ : ١٩ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٢٧.

( ٣-٥ ) تفسير روح البيان ٦ : ٢٢٩.

٤٩٥

لقدرته ، حيث خلق بقدرته من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة ، وجعله قسمين متباينين متقابلين ، وربما يخلق من مادة واحدة في رحم واحدة ذكرا وانثى توأمين.

عن ابن سيرين والسّدّي : أنّ الآية نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، حيث زوّج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ابنته فاطمة عليا عليه‌السلام فكان علي نسبا حيث إنّه ابن عمه ، وصهرا حيث إنّه زوج ابنته (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « ألا وإنّي مخصوص في القرآن بأسماء ، احذروا أن تغلبوا عليها فتضلّوا في دينكم ، أنا الصهر لقول الله عزوجل : ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً (٢) .

وفي ( روضة الواعظين ) أنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خلق الله عزوجل نطفة بيضاء مكنونة ، فنقلها من صلب إلى صلب حتى نقلت النّطفة إلى صلب عبد المطّلب ، فجعلها نصفين ، فصار نصفها في عبد الله ، ونصفها في أبي طالب ، فأنا من عبد الله ، وعلي من أبي طالب وذلك قول الله عزوجل : ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ... (٣) .

وقيل : إنّ المراد من الماء الماء الذي هو أصل الموجودات (٤) ، والمراد من البشر آدم عليه‌السلام (٥) .

عن الصادق عليه‌السلام : أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم من الماء العذب ، وخلق زوجه من سنخه ، فبرأها من أسفل أضلاعه ، فجرى بذلك الضّلع بينهما سبب ونسب ، ثمّ زوّجها إياه ، فجرى بينهما بسبب ذلك صهر ، فذلك قوله : ﴿نَسَباً وَصِهْراً﴾ فالنسب ما كان بسبب الرجال ، والصّهر ما كان بسبب النساء » (٦) .

أقول : يعني بسبب النطفة والتزويج.

وعن الصدوق باسناده عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : قلت له : يا رسول الله ، عليّ أخوك ؟ قال : « نعم ، عليّ أخي » . قلت : يا رسول الله ، صف لي كيف عليّ أخوك ؟ قال : « إنّ الله عزوجل خلق ماء تحت العرش قبل أن يخلق آدم بثلاثة آلاف عام ، وأسكنه في لؤلؤة خضراء في غامض علمه ، إلى أن خلق آدم ، فلمّا خلق آدم نقل ذلك الماء من اللؤلؤة ، فأجراه في صلب آدم إلى أن قبضه الله تعالى ، ثمّ نقله إلى صلب شيث ، فلم يزل ذلك الماء ينتقل من ظهر إلى ظهر حتى صار في عبد المطلب ، ثمّ شقّه

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٢٧٣ ، وتفسير الصافي ٤ : ١٩ ، وتفسير روح البيان ٦ : ٢٣٠ ، عن ابن سيرين.

(٢) معاني الأخبار : ٥٩ / ٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٠.

(٣) روضة الواعظين : ٧١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٠.

(٤) الرازي ٢٤ : ١٠١.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٢٧٣.

(٦) تفسير القمي ٢ : ١١٤ ، تفسير الصافي ٤ : ١٩.

٤٩٦

[ الله ] عزوجل نصفين ، فصار نصفه في أبي عبد الله بن عبد المطلب ، ونصف في أبي طالب ، فأنا من نصف الماء ، وعلي من النصف الآخر ، فعلي أخي في الدنيا والآخرة » (١) .

أقول : للرواية وأمثالها تأويلات لا يفهمها إلّا من نوّر الله قلبه بالايمان ، وأنعم عليه بالفكر الصائب والبصيرة الكاملة.

﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً *

 وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً * قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ

 يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٥) و (٥٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته وعظمته ، وبّخ المشركين على عبادة الأصنام التي لا قدرة لها على شيء بقوله : ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ ومجاوزين عنه ﴿ما لا يَنْفَعُهُمْ﴾ إن عبدوه ﴿وَلا يَضُرُّهُمْ﴾ إن لا يعبدوه ، لأنّها جمادات لا ينبغي لذي مسكة (٢) الاعتماد عليها ﴿وَكانَ الْكافِرُ﴾ المشرك بشركه وعداوته للحقّ ﴿عَلى رَبِّهِ﴾ الخالق له وإلهه المربّي له ﴿ظَهِيراً﴾ وعونا للشيطان. وقيل : يعني هيّنا (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام - في رواية - « علي هو ربّه في الولاية » (٤) .

والقمي ، قال : الكافر هو الثاني ، وكان علي أمير المؤمنين عليه‌السلام ظهيرا » (٥) .

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عداوة الكفّار له ، بيّن لطفه بهم الموجب لحبّهم له بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْناكَ﴾ يا محمّد ، إلى الناس ﴿إِلَّا﴾ لتكون ﴿مُبَشِّراً﴾ لهم بالثواب على الطاعة ﴿وَنَذِيراً﴾ لهم بالعقاب على العصيان ، فمن أجهل ممّن اجتهد في إظهار العداوة لمن يحبّه ويلطف به ويصلح مهماته من دون طمع في مالهم ، ولذا أمر نبيّه بإعلامهم بعدم توقّع أجر منهم على الرسالة بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد ، لهولاء المشركين : أنا مبعوث إليكم لتبليغ الحقّ و﴿ما أَسْئَلُكُمْ﴾ ولا أطلب منكم ﴿عَلَيْهِ﴾ شيئا ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ ومال لنفسي حتى تقولوا : إنّ محمدا يطلب أموالنا بما يدعونا إليه ﴿إِلَّا﴾ عمل ﴿مَنْ شاءَ﴾ واراد ﴿أَنْ يَتَّخِذَ إِلى﴾ قرب ﴿رَبِّهِ﴾ ورحمة مليكة ﴿سَبِيلاً﴾ من الايمان والطاعة له ، فانّه أجري وجعلي على التبليغ والدعوة ، فانّ أجرى على رسالتي طاعتكم لله وتقرّبكم إليه ، فانّ النبي يثاب بقدر

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٣١٢ / ٦٣٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٠ ، ولم نعثر عليه في مصنفات الشيخ الصدوق ، والذي في الصافي : وعن الأمالي ، بدل وعن الصدوق.

(٢) المسكة : العقل الوافر والرأي.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٢٦.

(٤) بصائر الدرجات : ٩٧ / ٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٠.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١١٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٠.

٤٩٧

عبادة امّته ، وفيه المبالغة في دفع شبهة طمعه في الأجر الدنيوي وإظهار غاية الشّفقة بهم ، فهذا نظير قول الوالد لولده : إنّي لا أطلب باحساني إليك وتربيتي إياك أجرا إلّا أن تحفّظ نفسك ومالك من التّلف.

وقيل : إنّ المراد لا أسألكم على الدعوة إلى الله إلّا أن يشاء أحد أن يتقرّب إلى الله بالانفاق في الجهاد وسائر الخيرات ، فيتّخذ به سبيلا إلى رحمة ربّه ونيل ثوابه (١) .

وقيل : إنّ الاستثناء منقطع (٢) ، والمعنى لا أسألكم عليه أجرا لنفسي ، ولكن أسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتّخاذ السبيل إلى ربّكم (٣) .

﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ

 خَبِيراً (٥٨)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه تظاهر الكفّار على عداوة الله ورسوله ، أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاعتماد عليه في دفع شرّهم بقوله : ﴿وَتَوَكَّلْ﴾ واعتمد يا محمد في دفع شرّهم وكفاية امور معاشك ومعادك ﴿عَلَى﴾ ربّك ﴿الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ فإنه الحقيق بأن يتوكّل عليه دون الحيّ الذي من شأنه أن يموت ، فانّه بالموت يضيّع من توكّل عليه ﴿وَسَبِّحْ﴾ ونزّه ربّك من النقائص الامكانية كالعجز والحاجة والجهل والغفلة ونظائرها ، أو صلّ لربك ، أو قل : سبحان الله ، حال كونك مقرنا له ﴿بِحَمْدِهِ﴾ والثناء عليه بنعوت الكمال وطلب مزيد إنعامه بشكره على سوابق نعمه.

ثمّ وعد سبحانه نبيّه بالانتقام من أعدائه بقوله : ﴿وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ﴾ ما ظهر منها وما بطن ﴿خَبِيراً﴾ ومطّلعا لا يحتاج إلى غيره في تعذيبهم والانتقام منهم ، لكمال قدرته عليه ، فيجزيهم جزاء وافيا ، فلا عليك أن آمنوا أو كفروا ، أو أطاعوا أو خالفوا.

﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى

 الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)

ثمّ وصف نفسه بالقدرة الكاملة إرعابا للقلوب وتقوية للدواعي على التوكّل عليه بقوله : ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ بقدرته ﴿السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما﴾ من الموجودات ﴿فِي﴾ مدّة مقدارها مقدار ﴿سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ من أيام الدنيا ، أو في ستة أوقات كلّ وقت منها محدود بالاضافة إلى ما خلق فيه ، على

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٢.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٢٦.

٤٩٨

ترتيب اقتضته الحكمة ، فالمدّة المتوّهمة التي خلق فيها الأرض يوم ، والتي خلق فيها السماوات يوم وهكذا ، وإنّما خلق العالم على التدريج مع قدرته على خلقه جميعا في أقلّ من طرفة عين ، لحكم لا يعلمها إلّا هو ، منها تعليم العباد التأني في الامور ﴿ثُمَّ اسْتَوى﴾ واستولى بقدرته الكاملة وعلمه الشامل ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ ونفذ تصرّفه وتدبيره في جميع الموجودات.

قيل : إنّ الاستقرار على سرير الملك ، كما هو الظاهر من الاستواء على العرش ، كناية عن قوة سلطانه ونفاذ أمره (١) ، أو رفعه على السماوات (٢) . فهذا القادر على خلق الموجودات العلوية والسّفلية المنبسطة رحمته على الممكنات هو ﴿الرَّحْمنُ﴾ فانّ الرحمانية هي الاستواء والقاهرية على جميع الممكنات ﴿فَسْئَلْ﴾ يا محمّد ﴿بِهِ﴾ شخصا ﴿خَبِيراً﴾ وعالما بكيفية خلق الموجدات والاستواء عليها.

قيل : هو الله لعدم علم غيره بها (٣) . وعن ابن عباس : هو جبرئيل (٤) . وقيل : هو العالم بالكتب السماوية ليصدقك فيه (٥) .

قيل : إنّ لفظ ( به ) متعلّق بخبير ، وإنّما قدّم تحفّظا على رؤوس آلاي وحسن النظم (٦) .

وقيل : إنّ الباء زائدة ، والمعنى فأسأله حال كونه خبيرا (٧) .

وقيل : إنّها بمعنى ( عن ) (٨) . وقيل : إنّها للتعدية لتضمّن السؤال معنى الاعتناء (٩) . وقيل : إنّها للقسم كقوله : ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ(١٠) .

روي أنّ اليهود حكوا ابتداء خلق الأشياء بخلاف ما أخبر الله تعالى (١١) .

وقيل : إنّ ضمير ( به ) راجع إلى الرحمن ردّا على إنكار المشركين إطلاق اسم الرحمن على الله ، بأنّ العالم بالكتب السماويّة يعلم أنّ ما يرادف هذا الاسم اطلق على الله في الكتب (١٢) .

﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ

 نُفُوراً (٦٠)

ثمّ لما توهّم المشركون من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسجود للرحمن ، أمره بعبادة غير الله ، لجهلهم بان الرحمن من أسمائه تعالى ، ذمّهم سبحانه على ذلك بقوله : ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ﴾ والإله

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٣٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٥.

(٣و٤) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٥.

(٥) تفسير البيضاوي ٢ : ١٤٦.

( ٦-٨ ) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٥.

(٩) تفسير البيضاوي ٢ : ١٤٦.

(١٠) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٥ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ١.

(١١) مجمع البيان ٧ : ٢٧٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١.

(١٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٢٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٢.

٤٩٩

الذي خلق برحمته جميع الموجودات قيل : إنّ المراد بالسجدّة هنا الصلاة (١)﴿قالُوا﴾ اعتراضا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما تقول ﴿وَمَا الرَّحْمنُ﴾ وأي شيء هو ؟ فانّا لا نعرف أن يكون اسما لشيء ﴿أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا﴾ بالسجود له مع عدم معرفتنا إيّاه ، لا نطيعك في ذلك ﴿وَزادَهُمْ﴾ الأمر بالسجود للرحمن ﴿نُفُوراً﴾ وانزجارا عن الايمان.

روي أن أبا جهل قال : إنّ الذي يقوله محمّد شعر. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الشعر غير هذا ، إن هذا إلّا كلام الرحمن » فقال أبو جهل : بخ بخ ، لعمري والله إنّه لكلام الرحمن الذي باليمامة ، هو يعلّمك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الرحمن الذي هو إله السماء ، ومن عنده يأتيني الوحي » فقال : يا آل غالب ، من يعذرني من محمد ، يزعم أنّ الله واحد ، وهو يقول : الله يعلّمني والرحمن ، أ لستم تعلمون أنّهما إلهان ؟ ثمّ قال : « ربّكم الله الذي خلق هذه الأشياء ، أمّا الرحمن فهو مسيلمة » (٢) . قيل : فسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وجماعة الصحابة ، ولمّا رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين ، فهذا هو المراد من قوله : ﴿وَزادَهُمْ نُفُوراً﴾ أي فزادهم سجودهم نفورا (٣) .

﴿تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ

 الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦١) و (٦٢)

ثمّ لمّا ذكر الله نفورهم عن السجود له ، بيّن كمال عظمته الموجبة لسجود جميع الموجودات له بقوله : ﴿تَبارَكَ﴾ وتعالى ، أو تكاثر خير الإله ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ بقدرته وحكمته ﴿فِي السَّماءِ﴾ لنفع الناس ﴿بُرُوجاً﴾ ومنازل الكواكب السبعة السيارة.

وعن ابن عباس : البروج : هي الكواكب العظام (٤) .

﴿وَجَعَلَ فِيها﴾ لهذا العالم المظلم ﴿سِراجاً﴾ وشمسا مضيئة ﴿وَقَمَراً مُنِيراً﴾ بالليل ﴿وَهُوَ﴾ القادر ﴿الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً﴾ وذوي عقبة يعقب كلّ منهما الآخر ، ويأتي خلفه.

وعن ابن عباس : جعل كلّ واحد منهما يخلف صاحبه في ما يحتاج أن يعمل فيه ، فمن فرط في عمل أحدهما قضاه في الآخر (٥) .

وعن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر بن الخطاب : وقد فاتته قراءة القرآن بالليل : يا بن الخطاب ، لقد أنزل الله فيك آية ، وتلا : ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً ...﴾ ما فاتك من

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٣٥.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٦.

(٤و٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٦.

٥٠٠