نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

لأنّه ليس ثمّ ربّ البيت (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « الرجل [ يكون ] له وكيل يقوم في ماله ، فيأكل بغير إذنه » (٢) .

وعن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : « ليس عليك جناح فيما أطعمت أو أكلت ممّا ملكت مفاتحه ما لم تفسده » (٣) .

وعن ( المجمع ) عن أئمة الهدى عليهم‌السلام أنهم قالوا : « لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره الله تعالى (٤) قدر حاجتهم من غير إسراف » (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : ما يعني بقوله : ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ ؟﴾ قال : « هو والله الرجل يدخل بيت صديقه فيأكل بغير إذنه » (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « هؤلاء الذين سمّى الله عزوجل في هذه الآية ، تأكل بغير إذنهم من التمر والمأدوم ، وكذلك طعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه ، فأما ما خلا ذلك من الطعام فلا » (٧) .

وعنه عليه‌السلام قال : « للمرأة أن تأكل وأن تتصدّق ، وللصديق أن يأكل من منزل أخيه ويتصدّق»(٨) .

ثمّ لمّا ذكر أن الأنصار كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصناف الثلاثة ويعزلون لهم طعامهم على ناحية ، وهم أيضا كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصحّاء خوفا من تأذيّهم ، نفى الله الجناح في مؤاكلتهم بقوله : ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ أيّها الأصحّاء وذوي العاهات ﴿جُناحٌ﴾ في ﴿أَنْ تَأْكُلُوا﴾ الطعام ﴿جَمِيعاً﴾ ومجتمعين ﴿أَوْ أَشْتاتاً﴾ ومتفرّقين.

عن ابن عباس : أنّها نزلت في بني ليث بن عمرو ، وهم حيّ من كنانة ، كانوا يتحرّجون أن يأكلوا طعامهم منفردين ، وكان الرجل لا يأكل ، ويمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا ، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرّواح ، وربما كان معه الإبل المملؤة الضّرع لبنا ، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، فرخّص الله في هذه الآية الأكل وحده (٩) .

وقيل : إنّ الأنصار كانوا إذا نزل بواحد منهم ضيف ، لم يأكل إلّا وضيفه معه ، فرخّص الله لهم أن

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٥.

(٢) الكافي ٦ : ٢٧٧ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٩.

(٣) الكافي ٦ : ٢٧٧ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٩.

(٤) زاد في المصدر : بغير إذنهم.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٢٤٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٩.

(٦) الكافي ٦ : ٢٧٧ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٩.

(٧) الكافي ٦ : ٢٧٧ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٩.

(٨) الكافي ٦ : ٢٧٧ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٩.

(٩) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٧ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٩٦ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٨١.

٤٦١

يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين أو متفرّقين (١) .

وقيل : إنّهم كانوا يأكلون فرادى خوفا من أن يحصل عند الجمعية ما ينفّر أو يؤذي فنفي (٢) الله الجناح في أن يأكلوا معا (٣) .

ثمّ إنّه تعالى بعد الإذن في الأكل من البيوت المذكورة ، بيّن آداب الدخول فيها بقوله : ﴿فَإِذا دَخَلْتُمْ﴾ أيّها المسلمون ﴿بُيُوتاً﴾ من البيوت المذكورة ﴿فَسَلِّمُوا عَلى﴾ أهلها الذين هم بمنزلة ﴿أَنْفُسِكُمْ﴾ لما بينكم وبينهم من القرابة النسبية والدينية الموجبة لذلك.

عن الباقر عليه‌السلام : « هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ، ثمّ يردّون عليه ، فهو سلامكم على أنفسكم » (٤) فانّ السّلام يكون ﴿تَحِيَّةً﴾ وتكرمة ، أو المعنى فحيّوا تحية تكون ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ ومشروعة من لدنه مأمورا بها من قبله ، وتكون ﴿مُبارَكَةً﴾ ومستتبعة لزيادة الخيرات والبركات في الدنيا والثواب في الآخرة ، وتكون أيضا ﴿طَيِّبَةً﴾ تطيب بها نفس المستمع.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله - في حديث - « إذا دخلت بيتا (٥) فسلّم عليهم ، يكثر خير بيتك » (٦) .

عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « إذا دخل الرجل منكم بيته ، فان كان فيه أحد فليسلّم عليه (٧) ، وإن لم يكن فيه أحد فليقل : السّلام علينا من عند ربّنا يقول الله : تحية من عند الله مباركة طيبة » (٨) .

عن ابن عبّاس : من قال : السّلام عليكم ، [ معناه ] اسم الله عليكم (٩) .

وعن الطبرسي : وصفها بالبركة والطيب لأنّها دعوة مؤمن لمؤمن يرجو بها (١٠) . زيادة الخير وطيب الرزق (١١) .

ثمّ منّ سبحانه على العباد بإيضاح الأحكام الفخيمة بقوله : ﴿كَذلِكَ﴾ التبيين ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وتفهمون ما في تضاعيفها من الأحكام ، وتعملون بها وتحوزون به سعادة الدارين.

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ

 يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٧.

(٣) في النسخة : يأكلوا معه.

(٤) معاني الأخبار : ١٦٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٥٠.

(٥) في تفسيري أبي السعود وروح البيان : بيتك.

(٦) تفسير أبي السعود ٦ : ١٩٧ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٨٢ ، وفيه : يكثر خيرك.

(٧) في تفسير القمي : يسلم عليهم.

(٨) تفسير القمي ٢ : ١٠٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٥٠.

(٩) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٨.

(١٠) زاد في جوامع الجامع : من الله.

(١١) جوامع الجامع : ٣١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٥٠.

٤٦٢

وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ

 إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان آداب الدخول في البيوت والورود على الأهل ، بيّن آداب الخروج من عند الرسول بقوله : ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ الخالصون في الايمان الصادقون في تصديق الرسول هم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن صميم القلب ﴿بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ وأطاعوهما في جميع الأحكام واتّبعوا الرسول ﴿وَإِذا كانُوا مَعَهُ﴾ مجتمعين ﴿عَلى أَمْرٍ جامِعٍ﴾ وفي خطب مهمّ موجب لاجتماع المؤمنين عليه ، كالتشاور في أمر عظيم ، ومقاتلة الأعداء والجمعة والأعياد ﴿لَمْ يَذْهَبُوا﴾ من عنده ، ولم يخرجوا من محضره ﴿حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ ولم يتفرّقوا عنه حتى يستجيزوا منه ، ويأذن لهم ويخبرهم ، فانّ الاستئذان وأخذ الإذن منه صلى‌الله‌عليه‌وآله مميّز المخلص من المنافق. ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ يا محمّد ، تعظيما لك ورعاية للأدب (١)﴿أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ حقا ، لا الذين لا يستأذنون لأنّهم عملوا بوظيفة الإيمان ، فاذا علمت أنّ المستأذنين هم المخلصون في الإيمان ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ﴾ في الخروج والانصراف من عندك ﴿لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ﴾ المهمّ وخطبهم العظيم الملمّ ﴿فَأْذَنْ﴾ أيّها الرسول ﴿لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ ورأيت الصلاح في الإذن له ، ولا اعتراض عليك ﴿وَاسْتَغْفِرْ﴾ بعد الإذن ﴿لَهُمُ اللهَ﴾ فانّ الاستئذان - وإن كان للأمر المهمّ - لا يخلو عن شائبة ترجيح أمر الدنيا على الآخرة ، كما استأذن عمر في غزوة تبوك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرجوع إلى أهله ، فأذن له (٢)﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ لفرطات العباد ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم.

قيل : نسخت الآية بقوله : ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ(٣) وفيه ما لا يخفى من الضّعف.

قيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم ، فينظر المنافقون يمينا وشمالا ، فإذا راوا أنّ المسلمين لا يرونهم انسلّوا وخرجوا ولم يصلّوا ، وإن رأوا أنهم يرونهم ثبتوا وصلّوا خوفا فنزلت ، فكان بعد نزول الآية لا يخرج المؤمن لحاجة حتى يستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان المنافقون يخرجون بغير إذن (٤).

وقيل : نزلت في حفر الخندق (٥) . وكان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان الحفر من أهمّ الامور حتى حفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه.

__________________

(١) في النسخة : الأدب.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٩ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٨٣.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٩ ، والآية من سورة التوبة : ٩ / ٤٣.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٩.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ٤٠.

٤٦٣

وعن القمي : نزلت في حنظلة بن أبي عامر (١) ، وذلك أنه تزوّج في الليلة التي في صبيحتها حرب احد ، فاستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقيم عند أهله ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية ﴿فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ فأقام عند أهله ، ثمّ أصبح وهو جنب ، فحضر القتال واستشهد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء والأرض ، فسمّي غسيل الملائكة » (٢) .

﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ

 يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ

 يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إذن الخروج من عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بيّن آداب مخاطبته بقوله : ﴿لا تَجْعَلُوا﴾ أيّها المسلمون ﴿دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ﴾ ونداءه ﴿كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ آخر وندائه.

عن سعيد بن جبير : يعني لا ينادى كما ينادي بعضكم بعضا : يا محمّد ، يا أبا القاسم ، ولكن قولوا : يا رسول الله ، يا نبيّ الله (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام [ قال ] : « يقول : لا تقولوا يا محمّد ، ولا يا أبا القاسم ، ولكن قولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : « قالت فاطمة عليها‌السلام : لما نزلت هذه الآية هبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن أقول له يا أبه ، فكنت أقول : يا رسول الله ، فأعرض عنّي مرّة أو اثنتين أو ثلاثا ، ثمّ أقبل إليّ فقال : يا فاطمة ، إنّها لم تنزل فيك ، ولا في أهلك ، ولا في نسلك ، أنت منّي وأنا منك ، إنّما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش أصحاب البذخ والكبر ، قولي : يا أبه ، فإنّها أحيى للقلب ، وأرضى للرب » (٥) .

وعن ابن عباس : يعني لا ترفعوا أصواتكم في دعائه (٦) .

وقيل : لا تجعلوا أمره [ إياكم ] ودعاءه لكم ، كما يكون من بعضكم لبعض ، إذ كان أمره فرضا لازما (٧) .

وقيل : أحذروا دعاءه عليكم إذا أسخطتموه ، فانّ دعاءه مستجاب ليس كدعاء غيره (٨) .

ثمّ هدّد سبحانه المنافقين الخارجين بلا إذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللهُ﴾ المنافقين ﴿الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ﴾ ويخرجون ﴿مِنْكُمْ﴾ قليلا قليلا من بين المؤمنين ﴿لِواذاً﴾ وتستّرا ببعض لئلا يراهم

__________________

(١) في تفسيري القمي والصافي : ابن أبي عياش ، تصحيف انظر اسد الغابة ٢ : ٥٩.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١١٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٥١.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٤٠.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١١٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٥١.

(٥) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٢٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٥١.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ٤٠.

(٧) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٩.

(٨) تفسير الرازي ٢٤ : ٤٠.

٤٦٤

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون أنّهم يخرجون بغير إذن.

وقيل : كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيؤذن له ، فينطلق الذي لم يؤذن له معه (١) ، وعلى أي تقدير فيه تهديد شديد.

ثمّ هدّد سبحانه المعرضين عن أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسنتّه بقوله : ﴿فَلْيَحْذَرِ﴾ ألبتة ﴿الَّذِينَ يُخالِفُونَ﴾ ويتخلّفون ﴿عَنْ أَمْرِهِ﴾ ويعرضون أو عن أمر الله من ﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ وعقوبة عظيمة في الدنيا ، كما عن ابن عبّاس (٢) ، أو الزّلازل والأهوال (٣) ، أو ظهور نفاقهم (٤) ، أو تسلّط السلطان الجائر عليهم ، كما عن الصادق عليه‌السلام (٥)﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة.

﴿أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ

 فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)

ثمّ أعلن سبحانه بكمال قدرته وسعة علمه إرعابا للقلوب ، وزجرا عن مخالفته ومخالفة رسوله بقوله : ﴿أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ إيجادا وإعداما ، وتصرّفا وتدبيرا ، وإبداء وإعادة ﴿قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ أيّها الناس من الأحوال التي من جملتها النفاق وخلوص الايمان والطاعة والمخالفة ﴿وَ﴾ يعلم ﴿يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ﴾ ويردون إلى محضر عدله ودار جزائه ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ﴾ ويعلمهم ﴿بِما عَمِلُوا﴾ من الأعمال السيئة ، ويظهر لهم على رؤوس الأشهاد شنائعهم ، ويرتّب عليها ما يليق بها من الجزاء ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الجليّات والخفيّات ﴿عَلِيمٌ﴾ محيط لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.

عن الصادق عليه‌السلام : « حصّنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النور ، وحصّنوا بها نساءكم ، فانّ من أدمن قراءتها في كلّ يوم ، أو في كلّ ليلة ، لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتى يموت ، فاذا هو مات شيّعه سبعون ألف ملك كلّهم يدعون ويستغفرون الله حتى يدخل في قبره » (٦) .

وعنه عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلّموهن الكتابة ، وعلّموهن المغزل وسورة النور » (٧) .

الحمد لله الذي منّ عليّ لإتمام تفسير سورة النور وأسأله التوفيق لاتمام تفسير ما يليها من السور.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٤٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٤٢ ، ولم ينسب إلى أحد.

(٣و٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٤٢.

(٥) جوامع الجامع : ٣٢٠ ، تفسير الرازي ٢٤ : ٤٢.

(٦) ثواب الاعمال : ١٠٩ ، مجمع البيان ٧ : ١٩٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٥٢.

(٧) الكافي ٥ : ٥١٦ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٥٢.

٤٦٥
٤٦٦

في تفسير سورة الفرقان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ

 السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ

 شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختم سبحانه السورة المباركة بتوصيف المؤمنين الخلّص (١) وإيجاب طاعة النبيّ وتعظيمه ، وتهديد المنافقين والمخالفين لأمره بالعذاب ، وبيان كمال قدرته وسلطنته وعلمه ترهيبا للقلوب ، اردفت بسورة الفرقان التي افتتحت بإثبات التوحيد ونبوة نبيّه ، وذكر أهوال القيامة ، وختمت بذكر صفات العباد المخلصين ، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات حسب دأبه بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ثمّ لمّا كان إثبات الصانع وكمال صفاته أهمّ الامور افتتحها بقوله : ﴿تَبارَكَ﴾ وتكاثر خير الإله ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ﴾ وأنزل نجوما القرآن الذي هو معدن العلوم والمعارف والحكم ، ومنبع جميع الخيرات ، والفارق بين الحقّ والباطل ﴿عَلى عَبْدِهِ﴾ ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿لِيَكُونَ﴾ هو ، أو الفرقان ﴿لِلْعالَمِينَ﴾ وكافّة الجنّ والإنس إلى يوم القيامة ﴿نَذِيراً﴾ ومخوّفا من العذاب على عصيان الله ﴿الَّذِي﴾ يكون من شواهد عظمته وعظيم سلطانه وكمال قدرته أنّ ﴿لَهُ﴾ وحده ﴿مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ والسلطنة التامة في عالم الوجود من الجبروت والملكوت والناسوت ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ﴾ لنفسه ولم يختر لذاته ﴿وَلَداً﴾ يعبد من دونه ويرث ملكه ﴿وَلَمْ يَكُنْ﴾ له من الأزل ﴿شَرِيكٌ﴾ وندّ ﴿فِي الْمُلْكِ﴾ والسلطنة ، بل هو متفرّد في الالوهية والربوبية ﴿وَخَلَقَ﴾ وأوجد ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ قابل للوجود ﴿فَقَدَّرَهُ﴾ وهيّأه لما يصلح من الكمال والادراك والنظر والتدبير في امور المعاش والمعاد ﴿تَقْدِيراً﴾ بديعا وتهيأ عجيبا.

__________________

(١) في النسخة : الخلّصين.

٤٦٧

عن الرضا عليه‌السلام قال : « أتدري ما التقدير ؟ » قيل : لا. قال : « هو وضع الحدود من الآجال والأرزاق والبقاء والفناء » (١) .

﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ

 ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً * وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ

 هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً * وَقالُوا

 أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٣) و (٥)

ثمّ وبّخ المشركين العابدين لغيره بقوله : ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ﴾ وممّا سواه ﴿آلِهَةً﴾ كثيرة ، ومعبودين وفيرون (٢) من الأصنام والأوثان مع أنّهم ﴿لا يَخْلُقُونَ﴾ من الموجودات ﴿شَيْئاً﴾ وإن كان حقيرا ، ولا يقدرون على إيجاد شيء وإن كان يسيرا ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ بقدرة الغير وهواه كسائر الموجودات ﴿وَلا يَمْلِكُونَ﴾ ولا يستطيعون ﴿لِأَنْفُسِهِمْ﴾ التي هي أعزّ الأنفس عند ذوي الشعور أن يدفعوا ﴿ضَرًّا وَلا﴾ أن يجلبوا (٣)﴿نَفْعاً﴾ فكيف لغيرهم ﴿وَلا يَمْلِكُونَ﴾ أن يوجدوا ﴿مَوْتاً﴾ لحيّ ﴿وَلا حَياةً﴾ لميّت ﴿وَلا نُشُوراً﴾ وبعثا من القبور للجزاء يوم القيامة ، وفيه تنبيه على أنّ القدرة على الإحياء والإماته والبعث للجزاء من لوازم الالوهية ، فمن لا يقدر عليها فهو بمعزل من الالوهية.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد وإبطال الشرك ، شرع في إثبات نبوة خاتم الأنبياء وردّ شبهات منكريها بقوله : ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿إِنْ هَذا﴾ القرآن الذي يستدلّ به على نبوته ما هو ﴿إِلَّا إِفْكٌ﴾ وكذب وشيء مصروف عمّا هو عليه من الباطل إلى صورة الحقّ هو ﴿افْتَراهُ﴾ واختلقه من عند نفسه ﴿وَأَعانَهُ﴾ وساعده ﴿عَلَيْهِ﴾ في إخباره بتواريخ الامم الماضية لكونه اميا لم يقرأ الكتب ﴿قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ مطّلعون على كتب التواريخ من اليهود.

قيل : نزلت في النّضر بن الحارث ، فانّه الذي قال هذا القول ، والمقصود من القوم الآخرين عداس مولى حويطب بن عبد العزّى ، ويسار غلام عامر بن الحضرمي ، وجبير (٤) مولى عامر ، فإنّهم كانوا من أهل الكتاب ، وكانوا يقرؤن التوراة ، ويحدّثون منها أحاديث ، فلمّا أسلموا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يتعهّدهم ، فلذا قال النظر ذلك (٥) .

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٤.

(٢) في النسخة : وفيرة.

(٣) في النسخة : ( ضرا ) أو يجلبوا.

(٤) في تفسير الرازي : وجبر.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ٥٠.

٤٦٨

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله : ﴿فَقَدْ جاؤُ﴾ وأتوا بما قالوا ﴿ظُلْماً﴾ عظيما حيث جعلوا الكلام المعجز إفكا واختلاقا مفتعلا من اليهود ﴿وَزُوراً﴾ وكذبا واضحا حيث نسبوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما هو برئ منه ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تحدّى بالقرآن مع كون معارضيه مهرة الكلام وخراريت (١) فنّ الفصاحة ، قادرين على الاستعانة بأهل الكتاب والمطّلعين على التواريخ السالفة ، حريصين على إبطال أمره وإطفاء نوره ، ومع ذلك عجزوا عن إتيان أقصر سورة مثله ، ولو كان من كلام البشر لأتوا به ﴿وَقالُوا﴾ أيضا هذا القرآن الذي جاء به ﴿أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وخرافات المتقدّمين والأحاديث الملفّقات المنقولة من السابقين هو ﴿اكْتَتَبَها﴾ وأمر غيره بثبتها في أوراق ﴿فَهِيَ تُمْلى﴾ وتقرأ ﴿عَلَيْهِ﴾ بعد كتابتها ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ وأول النهار وآخره ليحفظها من أفواه الذين يقرءونها ، لكونه اميا لا يعرف الخطّ حتى يقدر على قراءتها بنفسه.

﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً *

وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ

 فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ

 الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٦) و (٨)

ثمّ أمر سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بجوابهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، إنّ ما أتاكم به من القرآن إنّما ﴿أَنْزَلَهُ﴾ علىّ الإله ﴿الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ﴾ الكامن ﴿فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وخفيّات الموجودات ، لأنّ القادر على تركيب الألفاظ تركيبا يعجز عنه جميع الفصحاء مع اشتمالها على الأخبار بالمغيبات والعلوم الكثيرة والأحكام الموافقة لصلاح العباد ونظام العالم ، لا يكون إلّا من العالم بجميع الامور حتى الأسرار والخفيات في عالم الكون ، فهو يعلم سرّكم وجهركم ، وظاهركم وباطنكم ، وباطن أمر الرسول ، وبراءته ممّا تتهمونه به ، ويجازيكم على ما علم منكم ، ولكن لا يعاجلكم بالعقوبة ﴿إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾ مع استحقاق العقوبة.

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية قدح المشركين في القرآن ، حكى قدحهم في الرسول بقوله : ﴿وَقالُوا﴾ اعتراضا على رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتصغيرا لشأنه ، وإظهارا للتعجّب من ادّعائه واستهزاء به بتسميته بالرسول ﴿ما﴾ هذا الحال المعجب الذي يكون ﴿لِهذَا الرَّسُولِ﴾ على قوله ، وهو أنه ﴿يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ كما نأكل ﴿وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ﴾ لحوائجه وطلب معاشه كما نمشي ، إذن هو بشر مثلنا لا

__________________

(١) الخراريت ، جمع خرّيت : أي الحاذق الماهر ، والدليل الحاذق بالدلالة ، وفي النسخة : خراريط.

٤٦٩

فضيلة له علينا ، مع أنّ الرسول لا بدّ أن يكون ملكا لا يأكل ولا يحتاج إلى ما نحتاج إليه.

ثمّ لو سلّمنا إمكان كون الرسول بشرا نقول : ﴿لَوْ لا أُنْزِلَ﴾ من قبل ربّه ﴿إِلَيْهِ مَلَكٌ﴾ من الملائكة على صورته المباينة لصورة الجنّ والإنس ﴿فَيَكُونَ﴾ ذلك الملك باتّفاق هذا الرسول و﴿مَعَهُ﴾ للناس ﴿نَذِيراً﴾ ومبلّغا عن الله ، وشاهدا له على رسالته حتى يعلم الناس صدقه ﴿أَوْ يُلْقى﴾ من السماء ﴿إِلَيْهِ كَنْزٌ﴾ ومال كثير مجتمع حتى ينفق منه على نفسه ، ويعيش بالسّعة ، وعلى الفقراء المؤمنين به ، وعلى غيرهم ، ترويجا لدينه ﴿أَوْ تَكُونُ لَهُ﴾ على فرض التنزيل ﴿جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها﴾ ويعيش بثمارها كواحد من الدهاقين حتى يخرج من ذلّ الفقر والحاجة ﴿وَقالَ الظَّالِمُونَ﴾ والمتجاوزون عن حدود العقل ، المتعدّون على أنفسهم باهلاكها ، وعلى سائر الناس باضلالهم : أيها المؤمنون بمحمّد ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ﴾ وما تقلّدون في دينكم ﴿إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً﴾ ومغلوبا على عقله ، لأنّه يقول على خلاف قومه قولا لا يقبله منه عاقل.

﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩)

ثمّ لمّا كان قولهم في نهاية القباحة والشناعة وغاية البعد عن حدود العقل ، أعرض سبحانه عن جوابهم ، وخاطب نبيه بقوله : ﴿انْظُرْ﴾ يا محمّد إلى مقالة هؤلاء السفهاء ، وتعجّب من أنهم ﴿كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ﴾ وقالوا في حقّك تلك ﴿الْأَمْثالَ﴾ والأقاويل الغريبة المعجبة الخارجة عن العقول ، فانّهم أرادوا القدح في نبوّتك ﴿فَضَلُّوا﴾ وتاهوا عن سلك العقل وطريق معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ ولا يقدرون أن يجدوا إلى الطعن فيك أو إلى الرشد والهدى ﴿سَبِيلاً﴾ فانّ الطعن في نبوة مدّعيها لا يكون إلّا بالطعن في معجزاته لا بهذه الأباطيل.

روي عن العسكري عليه‌السلام قال : « قلت لأبي ، علي بن محمّد : هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجّهم ؟ قال : [ بلى ] مرارا كثيرة ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة ، فابتدأ عبد الله بن [ أبي ] امية المخزومي فقال : يا محمّد ، لقد ادعّيت دعوى عظيمة ، وقلت مقالا هائلا ؛ زعمت أنّك رسول ربّ العالمين ، وما ينبغي لربّ العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشرا مثلنا ، يأكل كما نأكل ، ويمشي في الأسواق كما نمشي ، فهذا ملك الروم ، وهذا ملك فارس لا يبعثان رسولا إلّا كثير المال عظيم خطير (١) ، له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدّام ، وربّ العالمين فوق هؤلاء كلّهم ، فهم عبيده ، ولو كنت نبيا لكان معك ملك يصدّقك

__________________

(١) في تفسير العسكري والاحتجاج : عظيم الحال.

٤٧٠

ونشاهده ، بل لو أراد الله أن يبعث نبيا لكان إنّما يبعث ملكا لا بشرا مثلنا ، ما أنت يا محمّد إلّا مسحورا ، ولست بنبيّ ، ثمّ اقترحوا أشياء كثيرة » .

إلى أن قال الامام : « فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم أنت السامع لكلّ صوت ، والعالم بكلّ شيء ، تعلم ما قاله عبادك ، فأنزل الله عليه : يا محمّد ﴿وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ﴾ إلى قوله : ﴿قُصُوراً﴾ مع آيات اخر. قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عبد الله ، أمّا ما ذكرت [ من ] أنّي آكل الطعام كما تأكلون ، وزعمت أنّه لا يجوز لأجل هذه أن أكون لله رسولا ، فانّما الأمر لله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وهو محمود ، وليس لك ولا لأحد الاعتراض [ عليه ] بلم وكيف ، ألا ترى أنّ الله تعالى كيف أفقر بعضا وأغنى بعضا ، وأعزّ بعضا وأذل بعضا وأصح بعضا وأسقم بعضا ، وشرّف بعضا ووضع بعضا ، وكلّهم ممن يأكل الطعام ؟

ثمّ ليس للفقراء أن يقولوا : لم أفقرتنا وأغنيتهم ، ولا للوضعاء أن يقولوا : لم وضعتنا وشرفتهم ، ولا للزّمناء والضعفاء. أن يقولوا لم أزمنتنا وأضعفتنا وصحّحتهم ؟ ولا للأذلاء أن يقولوا : لم أذللتنا وأعززتهم ؟ ولا لقباح الصور أن يقولوا : لم أقبحتنا وجمّلتهم ؟ بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادّين ، وله في احكامه منازعين ، وبه كافرين ، ولكان جوابه لهم : أنا الملك الخافض الرافع ، المغني المفقر ، المعزّ المذلّ ، المصحح المسقم ، وأنتم العبيد ، ليس لكم إلّا التسليم لي والانقياد لحكمي ، فإن سلمتم كنتم عبادا مؤمنين ، وإن أبيتم كنتم بي كافرين [ وبعقوباتي ] من الهالكين.

ثمّ أنزل الله تعالى عليه : يا محمّد ﴿قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ يعني آكل الطعام و﴿يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ(١) يعني قل لهم : أنا في البشرية مثلكم ، ولكن ربّي خصّني بالنبوة [ دونكم ] كما يخصّ بعض البشر بالغنى والصحّة والجمال دون بعض من البشر ، فلا تنكروا أن يخصّني أيضا بالنبوة » .

إلى أن قال : « فقال رسول الله : وأما قولك : ما أنت إلّا رجلا مسحورا ، فكيف أكون كذلك وقد تعلمون أنّي في صحة التميّز والعقل فوقكم ؟ فهل جرّبتم عليّ منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خرقة (٢) أو زلّة أو كذبة أو خيانة أو خطأ من القول أو سفها من الرأي ؟ أتظنون أنّ رجلا يعتصم طول هذه المدة بحول نفسه وقوتها ، أو بحول الله وقوّته ؟ وذلك ما قال الله : ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً﴾ إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجّة » الخبر (٣) .

__________________

(١) الكهف : ١٨ / ١١٠.

(٢) في تفسير العسكري : جريرة ، وفي الاحتجاج : خزية.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٠٠ / ٣١٤ ، الاحتجاج : ٢٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٦.

٤٧١

﴿تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

 الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)

ثمّ أجاب سبحانه عن خرافاتهم بقوله : ﴿تَبارَكَ﴾ وتعالى الإله ﴿الَّذِي إِنْ شاءَ﴾ ورأى الصلاح ﴿جَعَلَ لَكَ﴾ في الدنيا ﴿خَيْراً﴾ وأفضل ﴿مِنْ ذلِكَ﴾ الذي يقولون من النّعم الدنيوية كالكنز والجنّة ، وذلك الخير هو ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً﴾ مشيّدة كقصور الجنّة.

روي أن مترفي قريش عيّروا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالفقر ، فجاء رضوان خازن الجنان بعد نزول تلك الآيات إلى النبيّ ، وكانت معه حقّة (١) ، فوضعها عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا رسول الله ، إن فيها مفاتيح خزائن الأرض ، أعطاك ربك [ إياها ] ويقول : خذها وتصرّف في خزائن الأرض كيف شئت من غير أن ينقص من كرامتك عليّ شيء. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « يا رضوان ، مالي إليها حاجة ، فانّ الفقر أحبّ إليّ ، واريد أن أكون عبدا شكورا صبورا » (٢) .

وفي الحديث : أن ربي عرض عليّ أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، قلت : لا يا رب ، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما ، فأمّا اليوم الذي أجوع فيه فاتضرّع إليك وأدعوك ، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك (٣) .

عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس وجبرئيل عليه‌السلام عنده ، قال جبرئيل عليه‌السلام : هذا ملك قد نزل من السماء ، استأذن ربّه في زيارتك ، فلم يلبث إلّا قليلا حتى جاء الملك ، وسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : إنّ الله يخيّرك بين أن يعطيك مفاتيح كلّ شيء ، لم يعطها أحدا قبلك ، ولا يعطيها أحدا بعدك ، من غير أن ينقصك ممّا ادّخر لك شيئا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بل يجمعها جميعا لي في الآخرة » . فنزل [ قوله ]﴿تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ﴾ الآية (٤) .

وعنه رحمه‌الله : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « عرض عليّ حبرئيل بطحاء مكة ذهبا ، فقلت : [ بل ] شبعة وثلاث جوعات ، وذلك أكثر لذكري ومسألتي لربّي » (٥) .

وفي رواية قال : « أشبع يوما وأجواع ثلاثا ، فأحمدك إذا شبعت ، واتضرّع إليك إذا جعت » (٦).

وعن الضحّاك : لمّا عيّر المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالفاقة حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام معزّيا له وقال : إنّ الله يقرئك السّلام ، ويقول : ﴿وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ

__________________

(١) في أسباب النزول : سفط.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ١٨٨ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٩٢.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ١٩٢.

(٤-٦) تفسير الرازي ٢٤ : ٥٤.

٤٧٢

لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ(١) الآية.

قال : فبينما جبرئيل عليه‌السلام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدّثان إذ فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك ، ثمّ قال : ابشر يا محمّد ، هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضا من ربّك ، فسلّم عليه ، وقال : [ إنّ ] ربّك يخيّرك بين أن تكون نبيا ملكا ، وبين أن تكون نبيا عبدا ، ومعه سفط من نور يتلألأ ، ثمّ قال : هذه مفاتيح خزائن الدنيا فاقبضها من غير أن ينقصك الله ممّا أعدّ لك في الآخرة جناح بعوضة ، فنظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جبرئيل كالمستشير ، فأومأ بيده أن تواضع ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بل نبيا عبدا » . قال : فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك لم يأكل متّكئا حتى فارق الدنيا (٢) .

وعن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، ألا تستطعم الله فيطعمك ؟ قالت : فبكيت لما رأيت به من الجوع وشدّ الحجر [ على بطنه ] من السّغب ، فقال : يا عائشة ، والذي نفسي بيده لو سألت ربي أن يجري معي جبال الدنيا ذهبا لأجراها حيث شئت من الأرض ، ولكن اخترت جوع الدنيا على شبعها ، وفقرها على غناها ، وحزنها على فرحها. يا عائشة ، إنّ الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد (٣).

﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ

 بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢)

ثمّ بيّن سبحانه علّة صدور هذه الخرافات عنهم بقوله : ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ﴾ كأنه (٤) سبحانه قال : لم يحملهم على هذه الأقاويل الباطلة شبهة حقيقية في نبوتك ، بل حملهم عليها وعلى تكذيبك عنادهم وعدم خوفهم من الساعة ودار الجزاء ، لأنّهم يكذّبونها ، أو أنّهم كذبّوها لثقل الاستعداد لها عليهم ، أو المراد أنّهم لا ينتفعون بدلائل نبوتك ، ولا يتفكّرون فيها لتكذيبهم بالساعة ، وعدم رجائهم الثواب ، وعدم خوفهم من العقاب ، وقصور أنظارهم على الزّخارف الدنيوية ، وظنّهم أن الكرامة إنّما هي في الغنى والثّروة ، ولذا عيّروك بالفقر.

ثمّ هدّد المكذّبين بالساعة بقوله : ﴿وَأَعْتَدْنا﴾ وهيّئنا في الآخرة ﴿لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ﴾ وأنكر دار الجزاء ﴿سَعِيراً﴾ ونارا شديدة الحرّ والاشتعال.

وقيل : إنّ السعير من أسامي جهنم (٥) .

ثمّ وصف الله السعير بقوله : ﴿إِذا رَأَتْهُمْ﴾ تلك السعير ﴿مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ غاية البعد ، كما بين

__________________

(١) الفرقان : ٢٥ / ٢٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٥٤.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ١٩٣.

(٤) في النسخة : كان.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ٥٥ ، تفسير البيضاوي ٢ : ١٣٦.

٤٧٣

المشرق والمغرب ، وهو على ما قيل خمسمائة عام (١) ، وعن الصادق : « مسيرة سنة » (٢)﴿سَمِعُوا لَها﴾ من شدّة غضبها عليهم ﴿تَغَيُّظاً﴾ وصوتا هائلا ﴿وَزَفِيراً﴾ وهمهمة ، وهي على ما قيل : صوت خارج من الجوف مع الترديد (٣) . وقيل : يعني علموا لها التغيظ ، وسمعوا لها زفيرا (٤) . وقيل : يعني سمعوا تغيّظ الخزنة (٥) .

وعن عبيد بن عمير : أنّ جهنّم لتزفر زفرة ، لا يبقى نبي مرسل ، ولا ملك مقرّب إلّا خرّ لوجهه ، ترعد فرائصهم حتى أن إبراهيم عليه‌السلام ليجثو على ركبتيه ويقول : يا رب (٦) . لا أسألك إلّا نفسي (٧) .

أقول : ظاهر الآية أنّ النار في الآخرة حيّة شاعرة ، كما يدلّ عليه قوله : ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ(٨) .

﴿وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً

 واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال الكفّار حين البعد من جهنّم ، بيّن حال ورودهم فيها بقوله : ﴿وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً﴾ قيل : إنّ جهنّم لتضيق على الكفار كضيق الزّج (٩) على الرّمح (١٠) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط » (١١) .

وقيل : الأسفلون يرفعهم اللهب ، والأعلون يخفظهم الداخلون فيزدحمون (١٢) ، حال كونهم ﴿مُقَرَّنِينَ﴾ ومقيدين في السلاسل تقرن أيديهم إلى أعناقهم ، أو يقرن بعضهم مع بعض ، أو كلّ مع شيطانه في سلسلة ، مع ما هم عليه من العذاب الشديد والضيق ، وحينئذ ﴿دَعَوْا﴾ ونادوا تمنّيا ﴿هُنالِكَ﴾ وفي ذلك المكان الضيّق ﴿ثُبُوراً﴾ وهلاكا لأنفسهم بقولهم : يا ثبوراه ، أو يا ثبور تعال فهذا حينك وأوانك.

روي أنّ أول من يكسى يوم القيامة إبليس حلّة من النار بعضها على جانبه (١٣) فيسحبها من خلفه ، وذرّيته خلفه ، وهو يقول : واثبوراه ، وهم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار ، فينادي : يا ثبوراه ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ١٩٤.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٢٥٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٧.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ١٩٤.

(٤و٥) تفسير الرازي ٢٤ : ٥٦.

(٦) زاد في تفسير روح البيان : يا رب.

(٧) تفسير روح البيان ٦ : ١٩٤.

(٨) العنكبوت : ٢٩ / ٦٤.

(٩) الزّج : الحديدة في اسفل الرمح.

( ١٠-١٢ ) تفسير الرازي ٢٤ : ٥٦.

(١٣) في تفسير الرازي : جانبيه ، وفي تفسير روح البيان : حاجبيه.

٤٧٤

وينادون : يا ثبورهم (١) ، فيقول الله أو الملائكة : إعلانا لهم بالخلود في العذاب ﴿لا تَدْعُوا﴾ في هذا ﴿الْيَوْمَ﴾ العظيم ﴿ثُبُوراً واحِداً﴾ أو لا تقتصروا على دعاء واحد ﴿وَادْعُوا﴾ لكثرة أنواع العذاب وألوانه ﴿ثُبُوراً كَثِيراً﴾ لكلّ واحد منها ثبور لشدّته وفضاعته ، أو لأنّ العذاب دائم وخالص من شوب غيره ، فلكلّ وقت من الأوقات التي لا نهاية لها ثبور.

﴿قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً *

 لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين للساعة أمر نبيه بإعلامهم بحسن حال المؤمنين ترغيبا إلى الإيمان وترهيبا عن الحسرة والندامة بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم : أنصفوا ﴿أَ ذلِكَ﴾ العذاب الذي لا نهاية لشدّته ومدّته ﴿خَيْرٌ﴾ وأحسن ﴿أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي﴾ لا انقطاع لنعيمها ، ولا انقضاء لمدّة البقاء فيها ، وقد ﴿وُعِدَ﴾ بها ﴿الْمُتَّقُونَ﴾ والمحترّزون من الكفر والشّرك والعصيان ، فانّها ﴿كانَتْ لَهُمْ جَزاءً﴾ على تقواهم وأعمالهم الحسنة ﴿وَمَصِيراً﴾ ومرجعا يرجعون إليه بالموت والخروج من الدنيا ﴿لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ﴾ ويشتهون حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ودائمين في نعيمها ﴿كانَ﴾ ذلك الجزاء المذكور ثابتا ﴿عَلى رَبِّكَ﴾ الكريم ، لأنّه وعد بذلك ﴿وَعْداً مَسْؤُلاً﴾ واجب الوفاء ، أو حقيقا بأن يسأل ويطالب به ، أو مسؤولا للمؤمنين بقولهم : ﴿رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ(٢) أو مسؤول الملائكة للمؤمنين بقولهم : ﴿رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ(٣) .

﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ

 أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ

 مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المنكرين للساعة هدّد المنكرين للتوحيد بقوله : ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ من القبور إلى العرصات ﴿وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ من الأصنام ﴿فَيَقُولُ﴾ الله لهم تقريعا لعبادهم : ﴿أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ﴾ وصرفتم عن طريق توحيدي وعبادتي ﴿عِبادِي﴾ يعني ﴿هؤُلاءِ﴾ المشركين بأن دعوتموهم إلى عبادتكم وأمرتموهم بها ﴿أَمْ هُمْ﴾ بأهوائهم ﴿ضَلُّوا﴾ وأخطأوا ﴿السَّبِيلَ﴾ المرضي عندي الموصل إلى كلّ خير ، وهو التوحيد ، بأن اختاروا الشّرك وعبادتكم ﴿قالُوا﴾ تعجبا من هذا

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٥٧ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٩٥.

(٢) آل عمران : ٣ / ١٩٤.

(٣) المؤمن : ٤٠ / ٨.

٤٧٥

السؤال ، أو تنزيها له تعالى من الأنداد : ﴿سُبْحانَكَ﴾ ربّنا ﴿ما كانَ يَنْبَغِي﴾ وما استقام ﴿لَنا﴾ بعد معرفتنا بألوهيتك وتوحيدك وعظمتك ﴿أَنْ نَتَّخِذَ﴾ لأنفسنا ﴿مِنْ دُونِكَ﴾ وممّا سواك ﴿أَوْلِياءَ﴾ ومعبودين ، فكيف ندعو غيرنا إلى أن يتّخذنا وليا ومعبودا ؟

وقيل : يعني ما كان ينبغي لنا أن نتّخذ الكفّار الذين هم أعداؤك أولياء ، فنكون كالشياطين الذين تولّوا الكفّار كما يولّونهم (١) ، أو ما كان لنا أن نتّخذ من دون رضاك وليا ومحبا فضلا عن أن نتّخذ عبدا (٢) . ﴿وَلكِنْ﴾ يا إلهنا أنت ﴿مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ﴾ من الدنيا ، وأكثرت عليهم نعيمها ﴿حَتَّى﴾ استغرقوا فيها و﴿نَسُوا الذِّكْرَ﴾ والإيمان بك ، أو القرآن والأحكام ، أو ما فيه حسن ذكرهم في الدارين ، أو التذكّر لآلائك ، والتدبّر في آياتك ، أو تركوا ما وعظوا به ﴿وَكانُوا﴾ لذلك ﴿قَوْماً بُوراً﴾ وصاروا جماعة هلكى بعذاب الآخرة.

﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ

 عَذاباً كَبِيراً * وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ

 وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ

 بَصِيراً (١٩) و (٢٠)

ثمّ التفت سبحانه من الغيبة إلى الخطاب للعبيد ، احتجاجا عليهم ، وإلزاما لهم بقوله : ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾ أيّها المشركون ﴿بِما تَقُولُونَ﴾ في الدنيا من أنّهم آلهه وأنّهم أضلّونا ﴿فَما تَسْتَطِيعُونَ﴾ ولا تملكون ﴿صَرْفاً﴾ ودفعا للعذاب عنكم بوجه من الوجوه ﴿وَلا نَصْراً﴾ لأنفسكم من قيد أصنامكم التي تزعمون أنّهم يشفعونكم ويدفعون البليات عنكم ، ثمّ عمّ التهديد لكلّ عاص بقوله : ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ﴾ أيّها الناس على نفسه باختيار الشّرك والعقائد الفاسدة والأعمال السيئة ﴿نُذِقْهُ﴾ في الآخرة ﴿عَذاباً كَبِيراً﴾ وعقوبة شديدة في الغاية.

ثمّ صرّح سبحانه بجواب المعترضين على رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بكونه بشرا بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ﴾ أحدا ﴿مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ العظام الذين ثبتت رسالتهم بالمعجزات الباهرات ﴿إِلَّا إِنَّهُمْ﴾ والله ﴿لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ﴾ كسائر الناس ، ولم يكن ذلك منافيا لرسالتهم ، فلا تكون أنت بدعا منهم ﴿وَجَعَلْنا﴾ الناس ﴿بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ﴾ آخر ﴿فِتْنَةً﴾ وابتلاء وامتحانا الرسل للمرسل اليهم ، والفقراء للأغنياء ، والسّقماء للأصحّاء ، والسّفلة للأعالي ، والعبيد للموالي ، والرعايا للسلاطين.

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٦٣.

٤٧٦

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ويل للعالم من الجاهل ، وويل للسلطان من الرّعيّة ، وويل للرّعية من السلطان ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للشديد من الضعيف ، وللضعيف من الشديد ، بعضهم لبعض فتنة » ثمّ قرأ هذه الآية (١) .

وقيل : إنّ هذا في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة ، فاذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أنف أن يسلم ، فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه (٢) .

وعن ابن عباس : أنّ هذا في أصحاب البلاء والعافية ، هذا يقول : لم لم اجعل مثله في الخلق والخلق وفي العقل والعلم ، والرزق والأجل (٣) . وفيه احتجاج على المشركين في تخصيص محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية ، فابتلي المرسل إليهم بالرّسل ، والرّسل (٤) بالمرسل إليهم (٥) .

فاذا علمتم أيّها المؤمنون أن دأبه تعالى الابتلاء والامتحان ﴿أَ تَصْبِرُونَ﴾ على البلاء والمحن أم لا؟

فان تصبروا فلكم ما وعد الله الصابرين من الأجر الجزيل والثواب العظيم ﴿وَكانَ رَبُّكَ﴾ يا محمّد ، أو أيها الصابر ﴿بَصِيراً﴾ وعالما بالصابر وغيره ، فيجازي كلّا بما يستحقّه من ثواب وعقاب.

﴿وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ

 اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ

 لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢١) و (٢٢)

ثمّ حكى سبحانه اعتراضا آخر من المشركين على رسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَقالَ﴾ المشركون ﴿الَّذِينَ﴾ ينكرون البعث ودار الجزاء و﴿لا يَرْجُونَ لِقاءَنا﴾ ولا يتوقعون الرجوع إلينا بعد الموت ، ولا يخافون عقابنا ضلالا وإضلالا : ﴿لَوْ لا أُنْزِلَ﴾ من قبل الله ﴿عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ﴾ بالرسالة ، فإنّ رسالتهم أولى من رسالة البشر وأقرب بالتصديق ﴿أَوْ نَرى رَبَّنا﴾ جهرة وعيانا ، فيأمرنا بتصديق محمّد واتّباعه ، فانّ أمره شفاها بتصديقه أدلّ على صدقه من المعجزات التي تظهر على يده ، وعلى الحكيم أن يسلك الطريق الأقرب إلى المقصود.

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله : ﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا﴾ ووالله أظهروا ترفّعا مضمرا ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ وقلوبهم ﴿وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً﴾ وطغوا طغيانا مفرطا ، وغلوا في الكفر غلوّا شديدا بسؤالهم الرؤية التي لا تمكن للممكن ، ولو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقربا لفقد شرائط الرؤية. نعم ، يمكن رؤيتهم الملائكة ، ولكن

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٦٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٦٦.

(٤) في تفسير الرازي : فابتلي المرسلين.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ٦٦.

٤٧٧

﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ﴾ الموكلّين بالعذاب عند الموت ، كما عن ابن عباس (١) ، أو في القيامة (٢)﴿لا بُشْرى﴾ ولا خير فيه سرور القلب ﴿يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ والعصاة والمشركين.

قيل : المراد أن ما سألوه من نزول الملائكة عليهم سيكون ، ولكن لا إجابة لما اقترحوه (٣) ، لعدم حسن إجابة السؤال الاقتراحي مع وجود المعجزات الكافية ، بل لعقوبتهم وتعذيبهم على كفرهم وتعنتاتهم ، ﴿وَ﴾ لذا ﴿يَقُولُونَ﴾ عند مشاهدة الملائكة الغلاظ الشداد كراهة للقائهم وفزعا منهم : يا ملائكة العذاب ، أسأل الله ﴿حِجْراً﴾ ومنعا لكم ، وكونكم ﴿مَحْجُوراً﴾ وممنوعا من قربنا. قيل : العرب تقول ذلك عند لقاء العدوّ ونزول نازلة ، وهو في معنى الاستعاذة (٤) .

وقيل : إنّ ( محجورا ) تأكيد للحجر ، كما يقال : ليل أليل ، وموت مائت ، وحرام محرّم (٥) .

وقيل : إنّ الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم ذلك (٦) ومعناه حراما محرّما عليكم الغفران والجنّة.

وقيل : إذا كان يوم القيامة تلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى ، فاذا رأى الكفّار ذلك قالوا لهم : بشّرونا ، فيقولون : ﴿حِجْراً مَحْجُوراً(٧) .

وقيل : إنّ الملائكة الذين هم على أبواب الجنّة يبشّرون المؤمنين بالجنّة ، ويقولون للمشركين ذلك(٨) .

وقيل : إنّ الكفّار [ يوم القيامة ] إذا شاهدوا ما يخافونه يتعوّذون منه ، ويقولون : حجرا محجورا ، فيقول الملائكة : لا يعاذ من شرّ هذا اليوم (٩) .

﴿وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)

ثمّ بيّن سبحانه حال أعمالهم الخيرية دفعا لتوهّم فائدتها لهم ، وأزديادا لحسرتهم بقوله : ﴿وَقَدِمْنا﴾ وقصدنا ﴿إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ﴾ خير كانوا يظنون أنّه ينفعهم كالانفاق على الفقراء ، وصلة الرّحم ، وإعانة الملهوفين ونظائرها ﴿فَجَعَلْناهُ﴾ ا وصيّرناها ﴿هَباءً﴾ وغبارا في شعاع الشمس ﴿مَنْثُوراً﴾ ومتفرّقا ، وهذا كناية عن إبطاله بالكلية ، بحيث لا يمكنهم الانتفاع كما لا يمكن قبض الهباء المنثور وجمعه.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « إن كانت أعمالهم لأشدّ بياضا من القباطيّ (١٠) ، فيقول الله عزوجل لها : كوني

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٠.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٢٠٠.

(٤) جوامع الجامع : ٣٢٢ ، تفسير الرازي ٢٤ : ٧١.

(٥-٨) تفسير الرازي ٢٤ : ٧١.

(٩) تفسير الرازي ٢٤ : ٧١.

(١٠) القباطي : ثياب بيض رقاق من كتّان.

٤٧٨

هباء منثورا ، وذلك أنّهم كانوا إذا شرّع لهم الحرام أخذوه » (١) .

وعنه عليه‌السلام : أنّه سئل أعمال من هذه ؟ قال : « أعمال مبغضينا ومبغضي شيعتنا » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، قال : « يبعث الله يوم القيامة قوما بين أيديهم نور كالقباطي ، ثمّ يقول له : كن هباء منثورا ، ثمّ قال : أما والله إنّهم كانوا يصومون ويصلّون ، ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه ، وإذا ذكر (٣) لهم شيء من فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام أنكروه. قال : والهباء المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوّة من شعاع الشمس » (٤) .

أقول : هذه الروايات في بيان تأويل الآية وانطباقها على هذا النوع من المسلمين ، وإن كان نزولها في المشركين.

﴿أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار وغاية حرمانهم من كلّ خير وثواب ، بيّن حسن حال المؤمنين بقوله : ﴿أَصْحابُ الْجَنَّةِ﴾ وهم المؤمنون المطيعون لله ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وفي ذلك الوقت الذي يكون المشركون في أشدّ العذاب ﴿خَيْرٌ﴾ من سائر الناس ﴿مُسْتَقَرًّا﴾ ومنزلا ﴿وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾ ومستراحا.

قيل : إنّ مستقر أهل الجنّة غير مكان قيلولتهم (٥) ، فانّهم يقيلون في الفردوس ثمّ يعودون إلى مستقرّهم (٦) .

قيل : إنّ المقيل زمان القيلولة (٧) ، فبيّن سبحانه أنّ مكانهم أحسن الأمكنة ، وزمانهم أطيب الأزمنة.

قيل : إنّه بعد الفراغ من المحاسبة والذّهاب إلى الجنّة يكون الوقت وقت القيلولة (٨) .

عن ابن مسعود : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنّة في الجنّة ، وأهل النار في النار (٩) .

وعن سعيد بن جبير : أنّ الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء ، قضى بينهم بقدر ما بين صلاة الغداة إلى انتصاف النهار ، فيقيل أهل الجنة في الجنّة ، وأهل النار في النار (١٠) .

وقيل : يخفّف الله الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، ثمّ يقيلون

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٢٦ / ١٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٩.

(٢) بصائر الدرجات : ٤٤٦ / ١٥ ، تفسير الصافي ٤ : ١٠.

(٣) في تفسير القمي والصافي : عرض.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١١٢ ، تفسير الصافي ٤ : ١٠.

(٥) في تفسير الرازي : غير مقيلهم.

(٦-٨) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٢.

(٩) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٢.

(١٠) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٣.

٤٧٩

في (١) يومهم ذلك (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار» (٣) .

وعن أمير المؤمنين - في حديث سؤال القبر - قال : « ثمّ يفتحان له بابا إلى الجنة ، ثمّ يقولان له : نم قرير العين نوم الشاب (٤) الناعم ، فانّ الله عزوجل يقول ﴿أَصْحابُ الْجَنَّةِ﴾ الآية » (٥) .

أقول : لعلّ المراد من قيلولتهم استراحتهم في أحسن مكان وزمان ، كما أنّ موضع القيلولة أحسن المواضع ، وزمانها أطيب الأزمنة ، فلا ينافي ما دلّ على أنّ أهل الجنة والنار لا ينامون.

﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ

 لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ

 يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً

 خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ

 خَذُولاً (٢٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ المشركين المقترحين على النبيّ نزول الملائكة إذا رأوا نزولهم يدهشون ويفزعون أشدّ الدهشة والفزع ، ويكرهون لقاءهم بين أهوال يوم رؤيتهم وكيفية نزولهم المفزعة بقوله : ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ﴾ وتفطّر ﴿السَّماءُ بِالْغَمامِ﴾ والسّحاب الأبيض الرقيق ، كظلّة بني إسرائيل على قول (٦) ، أو الغليظ كغلظ السماوات السبع على آخر (٧) .

قيل إنّ الغمام أثقل من السماوات ، فاذا أراد الله تشقيق السماوات ألقى الغمام عليها فانشقت ، فمعنى الآية يوم تشقق السماء بثقل الغمام ، فيظهر الغمام فيخرج منها وفيها الملائكة ، كما قال تعالى : ﴿وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ(٨) إلى عرصة القيامة ﴿تَنْزِيلاً﴾ عجيبا.

قيل : تشقّق سماء سماء ، وتنزل الملائكة في خلال ذلك [ الغمام ] بصحائف الأعمال (٩) .

وروي أنّه تنشقّ سماء الدنيا فتنزل الملائكة التي فيها بمثل من في الأرض من الجنّ والإنس ، فيقول لهم الخلق : أفيكم ربّنا ؟ يعنون هل جاء أمر ربنا بالحساب. فيقولون : لا ، وسوف يأتي ، ثمّ تنزل ملائكة السماء الثانية بمثلي من في الأرض من الملائكة والجنّ والإنس ، ثمّ تنزل ملائكة كلّ سماء

__________________

(١) في تفسير الرازي : من.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٣.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٥٣١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٠.

(٤) في النسخة : الشباب.

(٥) الكافي ٣ : ٢٣٢ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٠.

( ٦-٨ ) تفسير روح البيان ٦ : ٢٠٣.

٤٨٠