نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

الذي هو (١) العلم ، وقوله : ﴿الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ﴾ يقول : إني اريد أن أقبضك فأجعل الذي عندك عند الوصيّ ، كما يجعل المصباح في زجاجة كأنّها كوكب درّي ، فاعلمهم فضل الوصي ﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ﴾ فأصل الشجرة المباركة إبراهيم عليه‌السلام ، وهو قول الله عزوجل : ﴿رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ(٢) وقوله : ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(٣) .

﴿لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ﴾ يقول : لستم بيهود فتصلوا قبل المغرب ، ولا نصارى فتصلّوا قبل المشرق ، وأنتم على ملّة إبراهيم عليه‌السلام ، وقد قال الله عزوجل : ﴿ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(٤) .

وقوله عزوجل : ﴿يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ﴾ يقول : مثل أولادكم الذين يولدون منكم مثل الزيت [ الذي ] يعصر من الزيتون ، يكادون أن يتكلّموا بالنبوة ولم لم ينزل عليهم الملك (٥) .

أقول : لا يخفى اغتشاش متن الرواية.

﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ *

 رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ

 يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا

 وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٦) و (٣٨)

ثمّ إنه تعالى بعد بيان عظمته وظهور توحيده بالآيات التكوينية ، وظهور هدايته لأهل العالم ، وأن هداية المهتدين بتوفيقه ، ذكر حال المهتدين واستغراقهم في ذكره وتسبيحه بقوله : ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ عظيمة الشأن التي ﴿أَذِنَ اللهُ﴾ وأعلن بالاجازة والرّخصة في ﴿أَنْ تُرْفَعَ﴾ تلك البيوت قدرا وتعظيما وتقديسا ﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ بالثناء والتمجيد ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ﴾ والصباح والمساء.

قيل : إن ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ صفة ( مشكاة ) والمعنى : كمشكاة فيها مصباح في بيوت (٦) .

وقيل : متعلّق بيوقد ، والمعنى : يوقد من شجرة مباركة في بيوت (٧) ، أو بالفعل المقدر ، والمعنى : صلّوا في بيوت.

__________________

(١) في الكافي : النور الذي فيه.

(٢) هود : ١١ / ٧٣.

(٣) آل عمران : ٣ / ٣٣ و٣٤.

(٤) آل عمران : ٣ / ٦٧.

(٥) الكافي ٨ : ٣٨٠ / ٥٧٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٥.

(٦ و٧) تفسير الرازي ٢٤ : ٢.

٤٤١

قيل : إنّ المراد المساجد الأربعة (١) .

وعن ابن عباس : جميع المساجد (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « هي بيوت (٣) الأنبياء والرّسل والحكماء وأئمة الهدى » (٤) .

والقمي عنه عليه‌السلام : « هي بيوت الأنبياء ، وبيت عليّ عليه‌السلام منها » (٥) .

وعن الصادق : « هي بيوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٦) .

وروى أن قتادة قال للباقر عليه‌السلام : والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدّامهم (٧) فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. فقال له : « أتدري أين أنت ؟ بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع » إلى آخر الآية « فأنت ثمّ ونحن اولئك » .

وقيل : إنّ المراد بالتسبيح مطلق تنزيه الله تعالى ممّا لا يليق به (٨) .

وقيل : إنه الصلوات الخمس كلّها (٩) .

وعن ابن عباس : أنّ صلاة الضّحى لفي كتاب الله تعالى مذكورة ، وتلا هذه الآية (١٠) .

وقيل : إنه صلاة الصبح والعصر (١١) .

ثمّ كأنه قيل : من يسبّح فيها ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿رِجالٌ﴾ مؤمنون ﴿لا تُلْهِيهِمْ﴾ ولا تشغلهم ﴿تِجارَةٌ﴾ ومعاملة مالية رابحة ﴿وَلا بَيْعٌ﴾ ومبادلة مال بمال ﴿عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾ قلبا ولسانا ﴿وَإِقامِ الصَّلاةِ﴾ وأدائها بآدابها وشرائطها ، فرائضها ونوافلها كما عن ابن عباس (١٢) و﴿إِيتاءِ الزَّكاةِ﴾ الواجبة ، وصرفها في مصارفها المقرّرة وعن ابن عباس المراد منها طاعة الله تعالى والاخلاص (١٣) ، وهم مع ذلك ﴿يَخافُونَ يَوْماً﴾ هائلا عظيما ﴿تَتَقَلَّبُ﴾ وتتغير ﴿فِيهِ﴾ من حال إلى حال ﴿الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ﴾ من شدّة أهواله كما قال تعالى : ﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ(١٤) .

قيل : تقلّب القلوب بالتفقّه بعد الطبع ، وتقلّب الأبصار بالتبصّر بعد العمى (١٥) .

وقيل : تقلّب القلوب بلوغها الحناجر ، وتقلب الأبصار صيرورتها زرقا (١٦) .

وقيل : تغيّرهما بالحرقة والنّضج بسبب العذاب ، إذ تقلبهما على جمر جهنم (١٧) .

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٣.

(٣) في كمال الدين وتفسير الصافي : بيوتات.   (٤) كمال الدين : ٢١٨ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٦.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١٠٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٦.   (٦) الكافي ٨ : ٣٣١ / ٥١٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٦.

(٧) في الكافي : وقدام ابن عباس.    (٨) الكافي ٦ : ٢٥٦ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٧.

(٩-١١) تفسير الرازي ٢٤ : ٤.

(١٢و١٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٥.

(١٤) إبراهيم : ١٤ / ٤٣.

(١٥) تفسير الرازي ٢٤ : ٥.

(١٦ و ١٧) تفسير الرازي ٢٤ : ٦.

٤٤٢

وقيل : إن القلوب تتقلّب طمعا في النجاة ، وحذرا من العذاب ، والأبصار تتقلّب ليرى من أي ناحية يؤمر بهم إلى النار ، ومن أيّ جهة يعطون كتابهم.

وانما يداومون على التسبيح ، ويستغرقون في الذّكر ، ويهتمون بالعبادات البدنية والمالية ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ﴾ ويثيبهم في ذلك اليوم ﴿أَحْسَنَ﴾ جزاء ﴿ما عَمِلُوا﴾ من العبادات والطاعات حسبما وعدلهم ﴿وَيَزِيدَهُمْ﴾ على ما وعدهم ألطافا وأنعاما اخر لم يعدهم بها ولا تخطر على قلب أحد ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وكرمه ﴿وَاللهُ يَرْزُقُ﴾ ويعطي نعمه ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ إعطاءه الرزق والنّعم ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ وبحيث لا يقدر أحد على تعداده وتقديره.

ثمّ اعلم أنّ بعض العامة نسب إلى كثير من الصحابة أنّهم قالوا : نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها ، لا في أصحاب الصّفة (١) الذين تركوا التجارة ولزموا المسجد (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام - في هذه الآية - قال : « كانوا أصحاب تجارة ، فاذا حضرت الصلاة تركوا التجارة وانطلقوا إلى الصلاة ، وهم أعظم أجرا ممّن لا يتجر » (٣) .

وفي ( الكافي ) رفعه قال : « التجّار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله عزوجل ، إذا دخلت مواقيت الصلاة أدّوا إلى الله حقّه فيها » (٤) .

وعنه عليه‌السلام أنّه سأل عن تاجر ما فعل ؟ فقيل : صالح ولكنه قد ترك التجارة ، فقال : « عمل الشيطان - ثلاثا - أما علم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اشترى عيرا أتت من الشام ، فاستفضل فيها ما قضى دينه ، وقسّم في قرابته ، يقول الله عزوجل ﴿رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾ الآية ، يقول القصاص : إنّ القوم لم يكونوا يتجرون ، كذبوا ولكنّهم لم يكونوا يدعون الصلاة في ميقاتها ، وهو أفضل ممّن حضر الصلاة ولم يتجر » (٥) .

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ

 يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ * أَوْ كَظُلُماتٍ

 فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ

 بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ

__________________

(١) زاد في تفسير روح البيان : وأمثالهم.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ١٦٠.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٩٩ / ٥٠٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٧.

(٤) الكافي ٥ : ١٥٤ / ٢١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٧.

(٥) الكافي ٥ : ٧٥ / ٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٧.

٤٤٣

نُورٍ (٣٩) و (٤٠)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان حسن حال المؤمنين ، وأنّهم في الدنيا في النور ، وفي الآخرة في النعيم والسرور ، بيّن سوء حال الكفّار في الدارين بقوله : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله ﴿أَعْمالُهُمْ﴾ الخيرية كصلة الأرحام وإطعام الطعام وأمثالهما ممّا لو قارنه الايمان كان لهم أجرا عظيما عند الله يكون ﴿كَسَرابٍ﴾ وسبخة تلمع الشمس عليها عند الظهيرة ، فيرى أنّها ماء جار ﴿بِقِيعَةٍ﴾ وأرض منبسطة مستوية ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ﴾ ويتوهّمه العطشان إذا رآه من البعيد ﴿ماءً﴾ جاريا ، ويسعى في الوصول إليه ﴿حَتَّى إِذا﴾ قرب منه و﴿جاءَهُ﴾ طامعا لرفع العطش به ﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ قابلا للشّرب والانتفاع به ، فيخيب رجاؤه ، كذلك الكافر يعمل عمل البرّ في الدنيا [ و] يطمع الانتفاع به في الآخرة ، ثمّ إذا وافى عرصات القيامة وجد ما عمل هباء منثورا ، لا يكون له فيه نفع وثواب ، بل حاله أسوأ من الظمآن الذي قصارى أمره الخيبة ، فانّ الكافر الخائب خيبته أعظم من خيبة الظمآن ، ومع ذلك ﴿وَوَجَدَ اللهَ﴾ ورأى عقابه الشديد ، أو وجد زبانية الله ﴿عِنْدَهُ﴾ فانقلب ظنّ الانتفاع به بيقين الضرر العظيم فيه لكفره ، فتعظم حسرته ، ويتناهى غمّه وكربته ﴿فَوَفَّاهُ﴾ الله وأعطاه بنحو الكمال ﴿حِسابَهُ﴾ وجزاءه بلا ريث ﴿وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ﴾ وإنّما أفرد سبحانه الضميرين الراجعين إلى الكفار والضمير الراجع إلى أعمالهم للحمل على إرادة كلّ واحد منهم ومنها.

قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة ، فانّه كان قد تعبّد في الجاهلية ، ولبس المسوح (١) ، والتمس الدين ، فلما جاء الاسلام كفر (٢) .

ثمّ ضرب سبحانه مثلا آخر لأعمالهم الفاسدة بقوله : ﴿أَوْ كَظُلُماتٍ﴾ كائنة ﴿فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ﴾ وبعيد القعر حين ﴿يَغْشاهُ﴾ ويستره ﴿مَوْجٌ﴾ عظيم ﴿مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ عظيم آخر ، فلمّا تراكمت الأمواج ارتفع على الموج الأعلى وحدث ﴿مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ﴾ غليظ ظلماني ساتر أضواء النجوم ، فتحصل بسبب ظلمة البحر العميق وظلمة الأمواج المتراكمة ظلمة السّحاب ﴿ظُلُماتٌ﴾ عديدة متكاثفة ﴿بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ﴾ فتشتدّ الظّلمة بحيث إنه ﴿إِذا أَخْرَجَ﴾ المبتلى بها ﴿يَدَهُ﴾ من جيبه وقرّبها من عينيه ﴿لَمْ يَكَدْ يَراها﴾ فضلا من أن يراها مع كونها أقرب شيء منه ، وكذا لا يمكن أن يرى الكافر المبتلى بظلمة الكفر وظلمة الأخلاق السيئة وظلمة حبّ الدنيا عمله.

قيل : إنّ المثل الأول لأعمالهم الحسنة ، والثاني لأعمالهم القبيحة (٣) .

__________________

(١) المسوح : جمع مسح ، وهو كساء من شعر.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٨ ، تفسير البيضاوي ٢ : ١٢٦ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٨١.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٨.

٤٤٤

وقيل : إنّ الأول لأعمالهم ، والثاني لعقائدهم ، كما قال تعالى : ﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ(١) واستدل عليه بقوله : ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً﴾ وإيمانا وهداية ﴿فَما لَهُ﴾ شيء ﴿مِنْ نُورٍ﴾ وهداية إلى خير أصلا.

وقيل : إن المثل لمجموع عقائدهم وأعمالهم ، والمراد من الظلمات ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل (٢) .

وعن ابي بن كعب : الكافر يتقلّب في خمس من الظّلم : ظلمة كلامه ، وظلمة عمله ، وظلمه مدخله ، وظلمة مخرجه ، وظلمة مصيره إلى النار (٣) .

وقيل : إنّه مثل للكافر نفسه (٤) .

عن ابن عباس : شبّه قلبه وبصره وسمعه بهذه الظلمات الثلاث (٥) .

وقيل : قلبه مظلم وصدره مظلم ، وجسده مظلم (٦) .

وقيل : إنّ الكافر في ظلمات ثلاث ، حيث إنّه لا يدري ، [ ولا يدري ] أنّه لا يدري ، ويعتقد أنّه يدري (٧) .

﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ

 عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

 وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢)

ثمّ لمّا بيّن الله سبحانه حال رجال مهتدين بنوره ، مستغرقين في أنوار توحيده ومعارفه ، ومتوجّهين إلى ذكره وتسبيحه والقيام إلى الصلاة له ، بخلاف المشركين المنغمرين في الظلمات ، بيّن أنّ لكلّ موجود معرفة بتوحيد خالقه وذكرا وتسبيحا (٨) وصلاة له تعالى على حسبه بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ﴾ وينزّهه في ذاته وصفاته وأفعاله ممّا لا يليق به من النقص والخلل ﴿مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وما فيهما (٩) من العقلاء وغيرهم تنزيها معنويا بلسان الحال ، وهو إمكانه وتكوينه وتغييره ، أو تعبير مناسب بحيث تفهمه العقول السليمة ، وذكر ( من ) في الآية لتغليب العقلاء ﴿وَ﴾ تسبّح ﴿الطَّيْرُ﴾ بأنواعها حال كونها ﴿صَافَّاتٍ﴾ بأجنحتها ، باسطات لها في الهواء ، متمكّنات من الوقوف والحركة في الجوّ كيف تشاء ، مع اقتضاء ثقل جسمها السقوط وإنّما أفردها بالذّكر مع كونها داخلة (١٠)

__________________

(١) البقرة : ٢ / ٢٥٧.

(٢-٥) تفسير الرازي ٢٤ : ٨.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ٩.

(٧) تفسير الرازي ٢٤ : ٨.

(٨) في النسخة : وذكر وتسبيح.

(٩) في النسخة : وما فيها.

(١٠) في النسخة : داخلا.

٤٤٥

في ما في الأرض ، لكونها حال الطيران بين السماء والأرض ، و﴿كُلٌ﴾ من الأشياء المذكورة مع تنزيهه التكويني ودلالة كمال نقصه على كمال خالقه ﴿قَدْ عَلِمَ﴾ بإلهام الله ﴿صَلاتَهُ﴾ وابتهاله إلى الله في حاجته واستفاضته من فضله ﴿وَتَسْبِيحَهُ﴾ وتنزيهه الاختيارى خالقه.

عن الصادق عليه‌السلام : « ما من طير يصاد في برّ أو بحر ، ولا يصاد شيء من الوحش إلّا بتضييعه التسبيح » (١) .

وروى بعض العامّة عن أبي ثابت ، قال : كنت جالسا عند أبي جعفر (٢) الباقر عليه‌السلام ، فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها ؟ قلت : لا. قال : « إنّهن يقدّسن ربّهن ويسألنه قوت يومهن » (٣) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ لله ملكا في صورة الدّيك الأملح الأشهب ، براثنه (٤) في الأرض السابعة ، وعرفه تحت العرش ، له جناحان : جناح بالمشرق ، وجناح بالمغرب ، فأمّا الجناح الذي في المشرق فمن ثلج ، والجناح الذي في المغرب فمن نار ، فكلّما حضر وقت الصلاه قام [ الديك ] على براثنه ، ورفع عرفه تحت العرش ، ثمّ أمال أحد جناحيه إلى الآخر يصفّق بهما كما يصفّق الديك في منازلكم ، فلا الذي من الثلج يطفئ النار ، ولا الذي من النار يذيب الثلج ، ثمّ ينادي بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيّين ، وأن وصيه خير الوصيّين سبّوح قدّوس رب الملائكة والرّوح. فلا يبقى في الأرض ديك إلّا أجابه ، وذلك قوله عزوجل : ﴿وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ (٥) .

قيل : إنّا نشاهد أنّ الله تعالى ألهم الطيور والحشرات أعمالا لطيفة ، يعجز عنها أكثر العقلاء ، فلم لا يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه ؟ (٦)

وقال آخر : إنّ الله خلق الخلق ليسبّحوه ، فأنطقهم بالتسبيح له والثناء عليه والسجود له ، وأشهد نبيّه (٧) ذلك وأراه ، ولذا قال مخاطبا لنبيه : ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ﴾ إلى آخره ، ولم يقل : ألم تروا ، لأنّا ما رأيناه فهو لنا إيمان ، ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله عيان (٨) .

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٠٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٩.

(٢) في النسخة : جعفر بن محمّد ، وفي تفسير الرازي : محمد بن جعفر.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٦٤.

(٤) البراثن : جمع برثن : وهو مخلب الطائر الجارح.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١٠٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٩.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ١١.

(٧) في تفسير الصافي : والسجود له فقال : أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ ... الآية ، وخاطب بهاتين الآيتين نبيّه الذي اشهده.

(٨) تفسير الصافي ٣ : ٤٣٩.

٤٤٦

وقيل : إنّ المراد قد علم الله صلاته وتسبيحه لقوله بعده : ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ(١) من التسبيح والدعاء ، فيجازيهم بما يستحقّون ، و فيه تهديد للغافلين ثمّ بيّن سبحانه كمال عظمته الموجبة للخضوع له والثناء عليه بقوله : ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ لأنه خالقهما وخالق ما فيهما من الذزرة والدّرة ، والمتصرّف في الجميع إيجادا وإعداما وتقليبا وتغييرا ﴿وَإِلَى اللهِ﴾ خاصة ﴿الْمَصِيرُ﴾ والرجوع للكلّ بالفناء والبعث ، فعلى العاقل أن يخضع لهذا الملك القادر القاهر العظيم ، ويسبحّه ويقدّسه من الشريك والمثل والحاجة والنقائص الإمكانية.

﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ

 يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ

 يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣)

ثمّ استدلّ سبحانه على كمال عظمته وقدرته بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ يا محمّد ، أو أيها الانسان بعين رأسك ﴿أَنَّ اللهَ يُزْجِي﴾ وينشئ شيئا فشيئا ، أو يسوق قليلا قليلا ﴿سَحاباً﴾ متقطعا ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ﴾ ويجمع ﴿بَيْنَهُ﴾ ويضمّ بعض القطعات إلى بعض ﴿ثُمَ﴾ بعد تأليف قطعاته وصيرورته سحابا واحدا ﴿يَجْعَلُهُ رُكاماً﴾ ويصيّره متراكما حتى يكون غليظا قابلا لحمل الماء الكثير ﴿فَتَرَى﴾ بعد ذلك التأليف والتراكم ﴿الْوَدْقَ﴾ و[ الودق ] : المطر ، كما عن ابن عباس (٢)﴿يَخْرُجُ﴾ ويتقاطر ﴿مِنْ خِلالِهِ﴾ وفرجه التي حدثت من تراكمه وتعصيره بسبب الرياح.

عن الباقر عليه‌السلام - في حديث يذكر فيه أنواع الرياح - قال : « ومنها رياح تحبس السّحاب بين السماء والأرض ، ومنها رياح تعصر السّحاب فتمطر بإذن الله ، ومنها رياح تفرّق السّحاب » (٣) .

﴿وَيُنَزِّلُ﴾ الله أيضا ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ المطلّ (٤) أو جهة العلو بعضا ﴿مِنْ جِبالٍ﴾ وقطع عظام يكون ﴿فِيها﴾ مقدار معين ﴿مِنْ بَرَدٍ﴾ ومطر منجمد في الجوّ كالثلج ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ﴾ أن يصيبه ، فيناله ما يناله من الضرر في نفسه وماله ﴿وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ﴾ صرفه عنه ومنعه من السقوط عليه ، كي لا يتضرّر به.

قيل : إنّ أكثر المفسرين قالوا : إنّ في السماء جبالا من برد ، خلقها الله تعالى كذلك ، ثمّ ينزل منها ما شاء (٥) من السّحاب.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٣.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٤٥ / ١٥٢٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٠.

(٤) كذا ، ولفظ السماء مؤنث ، ويجوز تذكيره.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٤.

٤٤٧

عن الصادق عليه‌السلام قال : « البرد لا يؤكل ؛ لأن الله عزوجل يقول : ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ (١).

﴿يَكادُ﴾ ويقرب ﴿سَنا بَرْقِهِ﴾ وضوء لمعانه ﴿يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ﴾ التي للناظرين إليه ، ويخطفها (٢) من شدة الإضاءة وسرعة الورود.

قيل : إنّ البرق يحدث من ضرب تلك السّحاب (٣) . وقيل : إنّه نار تنقدح من اصتكاك الأجزاء الدّخانية في جوف السّحاب (٤) ، ومن قدرة الله ظهور النار من البرد الذي هو ضدّها.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الله عزوجل جعل السحاب غرابيل للمطر ، هي تذيب البرد [ حتى يصير ] ماء لكيلا يضرّ شيئا يصيبه ، والذي ترون فيه من البرد والصّواعق نقمة من الله عزوجل يصيب بها من يشاء من عباده » (٥) .

﴿يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ * وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ

 مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ

 يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٤) و (٤٥)

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته ثالثا بقوله : ﴿يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ﴾ ويجعلهما متعاقبين ، أو يغيّرهما بالزيادة والنقص ، والحرّ والبرد ، والنّور والظّلمة ، ممّا يقع فيهما من الامور التي من جملتها إزجاء السّحاب وما يترتّب عليه.

وفي الحديث ، قال : « قال الله تعالى يؤذيني ابن آدم بسب الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر اقلّب الليل والنهار » (٦) .

﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من الآيات المفصّلة ﴿لَعِبْرَةً﴾ وعظة أو دلالة واضحة على توحيد الله وقدرته واستحقاقه للخضوع والتعظيم ﴿لِأُولِي الْأَبْصارِ﴾ الثاقبة وذوي الأنظار الصائبة.

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بما في السماوات والأرض والآثار العلوية ، استدلّ بخصوص خلق الحيوان واختلافه بقوله : ﴿وَاللهُ خَلَقَ﴾ بقدرته ﴿كُلَّ دَابَّةٍ﴾ وحيوان متحرّك ﴿مِنْ ماءٍ﴾ فانّه أصل جميع الموجودات ، كما عن ابن عبّاس قال : إنّ الله خلق جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة ، فصارت ماء ، ثمّ من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور ، فأصل جميع الموجودات حتى الملائكة والجنّ وآدم من ماء (٧) .

__________________

(١) الكافي ٦ : ٣٨٨ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٠.

(٢) في النسخة : ويخطفهما.

(٣و٤) تفسير روح البيان ٦ : ١٦٦.

(٥) الكافي ٨ : ٢٤٠ / ٣٢٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٠.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ١٦٦.

(٧) تفسير روح البيان ٦ : ١٦٧.

٤٤٨

وقيل : إنّ المراد كلّ دابّة متولّدة من ماء خلقها الله (١) .

وقيل : إنّ المراد كلّ دابة سكنت الأرض ، فإنّ غالبها مخلوقة من النّطفة ، والحكم على الغالب ، أو على الكلّ ، لأنّ الماء أحد عناصر الكلّ (٢) .

﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ﴾ لعدم آلة المشي له كالحيّة ، وإنّما قدّم ذكره لكونه أعجب ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ﴾ كالانسان والطير ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ﴾ قوائم كالنّعم والوحش ، أو أربع جهات كالعناكب والعقارب وغيرها ممّا يمشي على أكثر من أربع قوائم.

وقيل : إنّه تعالى نبّه على سائر أقسام الحيوانات بقوله : ﴿يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ﴾ ممّا ذكر وممّا لم يذكر (٣) .

وقيل : عدم ذكرها لعدم الاعتداد بها ، وإنّما أتى سبحانه بضمير جمع العقلاء لتغليبهم ، وأتى بالموصول الذي للعقلاء ليوافق التفصيل الإجمال (٤) .

ثمّ قرّر سبحانه كمال قدرته بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيفعل ما يشاء كما يشاء.

﴿لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ

 آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ

 بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٦) و (٤٧)

ثمّ نبّه سبحانه على تمامية الحجّة على توحيده وكمال صفاته بقوله : ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ﴾ وموضحات لجميع ما يحتاج إليه البشر من دلائل التوحيد وكمال الصفات والأحكام الدينية والأسرار التكوينية ﴿وَاللهُ﴾ بالتوفيق للنظر والتفكّر فيها ﴿يَهْدِي مَنْ يَشاءُ﴾ هدايته ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ والدين القويم المرضي عنده الموصل إلى كلّ خير في الدنيا وإلى كلّ نعمة في الآخرة ، وهو الاسلام.

ثمّ أنّه تعالى بعد التنبيه بنزول الآيات المتمّمة للحجة على التوحيد والرسالة وصحّة دين الاسلام ، ذمّ المنافقين المصرّين على الكفر بقوله : ﴿وَيَقُولُونَ﴾ هؤلاء المنافقون كذبا ونفاقا ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ ووحدانيته ﴿وَبِالرَّسُولِ﴾ عن صميم القلب ﴿وَأَطَعْنا﴾ أحكامهما ، وامتثلنا أوامرهما ونواهيهما بإخلاص النيّة ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى﴾ ويعرض عن قبول حكمه ﴿فَرِيقٌ﴾ وطائفة ﴿مِنْهُمْ﴾ عنادا للحقّ ﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ القول النفاقي من إظهار الايمان والطاعة ﴿وَ﴾ الحال أنه ﴿ما أُولئِكَ﴾ الذين يدّعون

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٦.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ١٦٨.

(٤) تفسير أبي السعود ٦ : ١٨٥.

٤٤٩

الايمان والطاعة ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ بالله والرسول عن صميم القلب.

﴿وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ

 لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)

ثمّ بيّن سبحانه تولّيهم عن حكمه بقوله : ﴿وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ﴾ الرسول ﴿بَيْنَهُمْ﴾ عند تنازعهم في شيء ﴿إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن التحاكم إليه ، لعلمهم بأنّهم على خلاف الحقّ ، وأنّ الرسول لا يساعدهم على باطلهم بالرشوة والمصانعة ﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ﴾ والحكم لا عليهم ﴿يَأْتُوا إِلَيْهِ﴾ للمحاكمة حال كونهم ﴿مُذْعِنِينَ﴾ ومنقادين لحكمه لجزمهم بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يحكم لهم.

قيل : الآيات في بشر المنافق ، خاصم يهوديا في أرض ، فدعاه إلى كعب ابن الأشرف من أحبار اليهود ، ودعاه اليهودي إلى النبي (١) .

وعن الضحاك : أنّها نزلت في المغيرة بن وائل ، كان بينه وبين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أرض فتقاسمها ، فوقع إلى عليّ عليه‌السلام منها ما لا يصله الماء إلّا بمشقّة ، فقال المغيرة : يعني أرضك ، فباعها إياه وتقابضا ، فقيل للمغيرة : أخذت أرضا سبخة لا ينالها الماء ، فقال لعلي عليه‌السلام : اقبض أرضك فإنّما اشتريتها أن رضيتها ولم أرضها لأنّه لا ينالها الماء ، فقال عليّ عليه‌السلام : « بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها لا أقبلها منك » ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال المغيرة : أمّا محمّد فلست آتيه ولا احاكم إليه ، فانّه يبغضني ، وإنيّ أخاف أن يحيف عليّ ، فنزلت (٢) .

وعن ( المجمع ) ، وعن البلخي ، قال : كانت بين عليّ وعثمان منازعة في أرض اشتراها من عليّ عليه‌السلام فخرجت فيها احجار ، فأراد ردّها بالعيب ، فلم يأخذها ، فقال : بيني وبينك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال الحكم بن أبي العاص : إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له ، فلا تحاكمه إليه ، فنزلت. قال : وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام ، أو قريب منه (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام وعثمان ، وذلك أنّه كان بينهما منازعة في حديقة ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : نرضى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال عبد الرحمن بن عوف لعثمان : لا تحاكمه إلى رسول الله ، فانّه يحكم له عليك ، ولكن حاكمه إلى ابن شيبة (٤) اليهودى. [ فقال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : لا

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٦٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٠.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢٣٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٢.

(٤) في تفسير القمي : ابن أبي شيبة.

٤٥٠

أرضى إلّا بابن شيبة اليهودي ] . فقال ابن شيبة لعثمان : تأتمنون محمدا على وحي السماء ، وتتّهمونه في الأحكام ؟ ! فأنزل الله : ﴿وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ الآيات (١) .

﴿أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ

 أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ

 لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ

 وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ

 لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما

 تَعْمَلُونَ (٥٠) و (٥٣)

ثمّ بيّن سبحانه نهاية شناعة إعراضهم ببيان انحصار علّته في أحد الامور التي كلّها من أشنع الشنائع بقوله : ﴿أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ من الكفر والنفاق من أول الأمر ﴿أَمِ ارْتابُوا﴾ وشكّوا في رسالة الرسول بعد اليقين بها ﴿أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ﴾ ويجوز ﴿عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ في حكمهما ، وليس أحد الأمرين مع تحقّقهما فيهم ، لأنّهما مقتضيان لعدم اتيانهما إليه ، ولو كانوا محقّين ، ولا الثالث لوضوح أمانة الرسول وعدم اغماضه عن الحق عندهم ﴿بَلْ أُولئِكَ﴾ المعرضون ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ على المحقّين ، المصرّون على البغي على الناس.

ثمّ بيّن سبحانه صفة المؤمنين المخلصين بقوله : ﴿إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المخلصين ﴿إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ﴾ الرسول ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وبين خصومهم ، ولو كانوا من غيرهم ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾ للداعين ﴿سَمِعْنا﴾ دعاءكم ﴿وَأَطَعْنا﴾ ه بالاجابة والقبول ﴿وَأُولئِكَ﴾ المؤمنون ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ والفائزون بجميع المطالب الدنيوية والاخروية ، الناجون من كلّ محذور.

عن الباقر عليه‌السلام : « إنّ المعنيّ بالآية أمير المؤمنين عليه‌السلام » (٢) .

ثمّ أكّد سبحانه وجوب طاعة الرسول بقوله : ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ في ما ساءه ، وسرّه ، ونفعه وضرّه ﴿وَيَخْشَ اللهَ﴾ في ما مضى من ذنوبه أن يؤاخذه عليه ﴿وَيَتَّقْهِ﴾ ويحذره في ما بقي من عمره ﴿فَأُولئِكَ﴾ المطيعون الخاشعون المتّقون ﴿هُمُ الْفائِزُونَ﴾ بالفيوضات الأبدية والنّعم الدائمة.

قيل : إنّ ملكا سأل علماء عصره عن آية في القرآن إن عمل بها عمل بجميع القرآن ، فاتّفق العلماء

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٠٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٢.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٢٣٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٢.

٤٥١

على هذه الآية (١) حيث إنّها على إيجازها حاوية لجميع ما ينبغي للمؤمن أن يفعله.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه استنكاف المنافقين عن إطاعة الرسول والانقياد لحكمه ، حكى حلفهم الكاذب على طاعتهم له بقوله : ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ﴾ وحلفوا أشدّ حلفهم تقوية لما أخبروا به من قولهم : ﴿لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ﴾ بالخروج ﴿لَيَخْرُجُنَّ.

عن مقاتل لمّا بيّن الله تعالى كراهة المنافقين لحكم الرسول فقالوا : والله لئن امرتنا ان نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا (٢) .

ثمّ أمر سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهيهم عن هذا القسم بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمّد ﴿لا تُقْسِمُوا﴾ على ما تقولون غدرا ونفاقا ، فانّ المطلوب منكم ﴿طاعَةٌ﴾ للرسول ﴿مَعْرُوفَةٌ﴾ لكلّ أحد بالأفعال والإخلاص وصدق النيّة ، لا اليمين الكاذبة. أو المعنى طاعة معروفة أمثل من قسمكم بما لا تصدّقون فيه ، أو المعنى دعوا القسم فانّ عليكم طاعة معروفة فتمسّكوا بها ، أو طاعتكم طاعة نفاقية فانّها معروفة منكم لكلّ أحد ﴿إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الغدر والنفاق لا يخفى عليه سرائركم ، وإنّه فاضحكم ومجازيكم على نفاقكم.

﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما

 حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)

ثمّ بالغ سبحانه في وجوب طاعته وطاعة رسوله بقوله : ﴿قُلْ :﴾ يا محمّد لهؤلاء المنافقين ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ في جميع الفرائض والسنن من صميم القلب وصدق الإيمان برجاء الفوز والفلاح.

ثمّ صرف سبحانه الكلام عن الغيبة إلى الخطاب إبلاغا في تبكيتهم بقوله : ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وتعرضوا عن الطاعة الحقيقية لله والرسول ﴿فَإِنَّما عَلَيْهِصلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿ما حُمِّلَ﴾ وكلّف به من تبليغ الرسالة ﴿وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ﴾ وكلّفتم من الإجابة والطاعة ، فإن لا تطيعوه فقد بقيتم تحت هذا الحمل والثقل ، وبقيت عليكم تبعاته ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ﴾ في ما أمركم به ﴿تَهْتَدُوا﴾ إلى جميع الخيرات الأبدية التي هي أقصى المطالب ، وتخلّصوا من الشرور والمهالك ﴿وَما عَلَى الرَّسُولِ﴾ المكرم ﴿إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ والتبليغ الواضح الموضّح لجميع ما تحتاجون إليه ، وقد فعل وليس عليه إجباركم على الطاعة ، وإنّما بقي ما حمّلتم ، فان أدّيتم فلكم ، وإن تولّيتهم فعليكم.

__________________

(١) الكشاف ٣ : ٢٥٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٧١.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٣.

٤٥٢

عن الصادق عليه‌السلام - في خطبة في وصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « وأدّى ما حمّل من أثقال النبوة»(١).

وعن الباقر عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا معاشر قرّاء القرآن ، أتّقوا الله عزوجل في ما حمّلكم من كتابه ، فإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون ، إنّي مسؤول عن تبليغ الرسالة ، وأمّا أنتم فتسألون عمّا حملّتم من كتاب الله وسنّتي » (٢) .

﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا

 اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ

 وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ

 ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)

ثمّ لمّا وصف سبحانه المؤمنين بالطاعة والانقياد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرّض الناس عليه ، وعد من جمع بين الايمان والعمل بالأحكام بغاية الإعزار والاكرام في الدنيا بقوله : ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ أيها الناس ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ من أداء الواجبات وترك المحرّمات مؤكّدا وعده بالقسم بذاته المقدسة ، إنّه ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ وليجعلنّهم متصرّفين ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ تصرّف الملوك في ممالكهم ، ومسّلطين عليها سلطنة السلاطين في أقاليمهم ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ﴾ المؤمنين ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ في زمن داود وسليمان وغيرهما ﴿وَلَيُمَكِّنَنَ﴾ وليسهّلنّ ﴿لَهُمْ﴾ بالتوفيق والتأييد ﴿دِينَهُمُ﴾ والعمل بأحكام شرعهم ﴿الَّذِي ارْتَضى﴾ واختار ﴿لَهُمْ﴾ من غير مانع ومزاحم ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ﴾ من الأعداء ﴿أَمْناً﴾ من ضرّهم وشرّهم ، بأن ينصرهم عليهم ، فيقتلونهم ويستريحون من كيدهم وبأسهم ، فعند ذلك ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ آمنين و﴿لا يُشْرِكُونَ بِي﴾ في عبادتي ﴿شَيْئاً﴾ ولا يتقون في العمل بأحكامي أحدا ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ وارتدّ عن الدين المرضي له ، أو ثبت على كفره ، أو جحد حقّ هذه النّعمة ﴿بَعْدَ ذلِكَ﴾ الترغيب والترهيب ﴿فَأُولئِكَ﴾ الكافرون ﴿هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ والكاملون في الخروج عن حدود العقل والشرع.

قيل : إنّ الله انجز هذا الوعد بعد هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ، فانّ أصحابه كانوا قبل الهجرة في أكثر من اثنى عشر سنة (٣) خائفين من الكفار ، فلمّا هاجروا كانوا يصبحون ويمسون في السلاح حتى

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٦٩ / ١٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٣.

(٢) الكافي ٢ : ٤٤٣ / ٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٣.

(٣) في تفسيري البيضاوي وروح البيان : من عشر سنين.

٤٥٣

أظهرهم الله على العرب كلّهم ، وفتح لهم بلاد الشرق والغرب (١) ، فدلّت الآية على صحة نبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّ فيها إخبارا بالغيب ، لوقوع ما أخبر في الخارج مطابقا للخبر (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : « هم الائمة عليهم‌السلام » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « ولقد قال الله عزوجل في كتابه لولاة الأمر من بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة : ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ إلى قوله : ﴿فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ يقول : أستخلفكم لعلمي وديني وعبادتي بعد نبيكم ، كما استخلفت (٤) وصاة آدم من بعده حتى يبعث النبيّ الذي يليه ، يعبدونني بإيمان بأنّه لا نبيّ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن قال غير ذلك فأولئك هم الفاسقون ، فقد مكّن ولاة الأمر بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعلم ، ونحن هم ، فاسألونا فان صدقناكم فأقرّوا ، وما أنتم بفاعلين » (٥) .

والقمي : نزلت في القائم من آل محمّد عليهم‌السلام (٦) .

وعن ( المجمع ) : المروي عن أهل البيت عليهم‌السلام : « انها في المهدي من آل محمّد عليهم‌السلام » (٧) .

وعن العياشي ، عن علي بن الحسين عليهما‌السلام : أنه قرأ الآية وقال : « هم والله شيعتنا أهل البيت ، يفعل [ الله ] ذلك بهم على يدي رجل منّا ، وهو مهدي هذه الامّة ، وهو الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا » (٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام في رواية ، قال الراوي : قلت : يابن رسول الله فانّ هذه النواصب تزعم أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليه‌السلام ؟ فقال : « لا يهدي [ الله ] قلوب النواصب ، متى كان الدين الذي ارتضاه الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله متمكنّا بانتشار الأمن (٩) في الامّة ، وذهاب الخوف من قلوبها ، وارتفاع الشكّ من صدورها في عهد واحد من هؤلاء ؟ وفي عهد علي عليه‌السلام مع ارتداد المسلمين والفتن التي كانت تثور في أيامهم ، والحروب التي كانت تنشب بين الكفّار وبينهم ؟ » (١٠) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام - في حديث ذكر [ فيه ] مثالب الثلاثة وإمهال الله إيّاهم - قال : « كلّ ذلك لتتمّ النّظرة التي أوجبها الله تعالى لعدوه إبليس إلى أن يبلغ الكتاب أجله ، ويحق القول على الكافرين

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ١٣٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٧٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٤ المسألة السادسة.

(٣) الكافي ١ : ١٥٠ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٣.

(٤) في الكافي وتفسير الصافي : استخلف.

(٥) الكافي ١ : ١٩٥ / ٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٣.

(٦) تفسير القمي ١ : ١٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٤.

(٧) مجمع البيان ٧ : ٢٣٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٤.

(٨) مجمع البيان ٧ : ٢٣٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٤ ، عن العياشي.

(٩) في النسخة : الأمر.

(١٠) كمال الدين : ٣٥٦ / ٥٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٤.

٤٥٤

ويقرب الوعد (١) الذي بيّنه الله في كتابه بقوله : ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ إلى آخره ، وذلك إذا لم يبق من الاسلام إلّا اسمه ، ومن القرآن إلّا رسمه ، وغاب صاحب الأمر باتّضاح العذر (٢) له في ذلك ، لاشتمال الفتنة على القلوب ، حتى يكون الأقرب إليه أشدّ (٣) عداوة له ، وعند ذلك يؤيّده الله بجنود لم تروها ، ويظهر دين نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله على يديه ، ويظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون»(٤).

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لا تَحْسَبَنَّ

 الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٦) و (٥٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد وعد المؤمنين بالاستخلاف والتمكين لهم ، حثّ إلى الأعمال الصالحات التي أهمّها الصلاة والزكاة وطاعة الرسول بقوله : ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ في جميع أحكامه ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.

ثمّ هدّد سبحانه الكافرين بقوله : ﴿لا تَحْسَبَنَ﴾ ولا تتوهّمن يا أيّها النبي والمؤمنون ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ﴾ الله عن إدراكهم وإهلاكهم ﴿فِي﴾ قطر من أقطار ﴿الْأَرْضِ﴾ بما رحبت ، وإن هربوا كلّ مهرب ، بل هم مقهورون تحت قدرته في كلّ آن وحال ومكان في الدنيا ﴿وَمَأْواهُمُ النَّارُ﴾ في الآخرة ، ﴿وَ﴾ بالله ﴿لَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ والمرجع تلك النار لهم.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا

 الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ

 الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ

 جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ

 وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من أحكام التعفّف والحثّ على امتثالها بالوعد والوعيد ، عاد إلى بقية تلك الأحكام بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ من الرجال والنساء ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ﴾ في الدخول عليكم ﴿الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ﴾ من العبيد ، أو العبيد والجواري ﴿وَالَّذِينَ﴾ يميّزون بين العورة وغيرها من

__________________

(١) في الاحتجاج : ويقترب الوعد الحق.

(٢) في الاحتجاج : بإيضاح الغدر.

(٣) في الاحتجاج : أقرب الناس إليه أشدهم.

(٤) الاحتجاج : ٢٥٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٥.

٤٥٥

الصبيان الذين ﴿لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ﴾ ولم يصلوا إلى حدّ البلوغ ﴿مِنْكُمْ﴾ أيّها الأحرار ﴿ثَلاثَ مَرَّاتٍ﴾ في اليوم والليلة في أوقات تكرهون أن يمرّ عليكم فيها أحد.

أحدها : الوقت الذي يكون ﴿مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ﴾ فانّه وقت القيام من المضاجع وخلع ثياب النوم ، ولبس (١) ثياب اليقظة.

﴿وَ﴾ الثاني : ﴿حِينَ تَضَعُونَ﴾ وتخلعون ﴿ثِيابَكُمْ﴾ التي تلبسونها في النهار ﴿مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾ وشدّة الحرّ لأجل القيلولة ، وهي بعد انتصاف النهار.

وقيل : ﴿مِنَ الظَّهِيرَةِ﴾ بيان للحين (٢) ، والمعنى وقت الظهر ، وإنّما عبّر عن الوقت بملاك الأمر ، وهو وضع الثياب والتجرّد دون الوقت الأول الثالث لمعروفيتهما به دون الوسط.

والثالث : الوقت الذي يكون في الليل حين النوم ﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ﴾ فانّه وقت التجرّد عن اللباس والدخول في فراش النوم والالتحاف باللّحاف ، فتلك الأوقات ﴿ثَلاثُ عَوْراتٍ﴾ وأوقات تكون ﴿لَكُمْ﴾ يختلّ فيها التستّر بحسب العادة.

ثمّ صرّح سبحانه بالترخيص في الدخول بغير الاستئذان للمماليك والصبيان الأحرار بعد كلّ واحد من تلك الأوقات ، وكأنّه قيل : ما حكم الأوقات الاخر ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ﴾ وحرج أو إثم ﴿بَعْدَهُنَ﴾ في الدخول بغير الاستئذان ، لعدم ما يوجبه من الاطّلاع على العورات ، مع أنّ المماليك والصبيان ﴿طَوَّافُونَ﴾ ودوّارون ﴿عَلَيْكُمْ﴾ للخدمة بل ﴿بَعْضُكُمْ﴾ طائف ﴿عَلى بَعْضٍ﴾ هم يطوفون عليكم للخدمة ، وأنتم تطوفون عليهم للاستخدام والتربية فالاستئذان بعد الضرورة إلى المخالطة مستلزم للحرج والضيق ، ولمّا كان الطّواف شاملا للفريقين ، لم يكتف سبحانه بقوله : ﴿طَوَّافُونَ﴾ بل أبدل من ﴿طَوَّافُونَ﴾ بقوله : ﴿بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ﴾ وهذا الأمر بالنسبة إلى البالغين تكليف ، وبالنسبة إلى الصبيان تمرين.

ثمّ أظهر سبحانه المنّة على الناس بقوله : ﴿كَذلِكَ﴾ التبيّن ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ﴾ الدالة على المعارف والأحكام ، وينزلها واضحة الدلالة ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾ بأحوالكم ومصالحكم ﴿حَكِيمٌ﴾ في أفعاله وتشريع أحكامه.

روي أن غلاما لأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت (٣) .

وقيل : إنّه أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مدلج بن عمرو الأنصاري وقت الظهيرة ليدعو عمر ، وكان غلاما ،

__________________

(١) في النسخة : اليوم ، وليس.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ١٧٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٩ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٩٣.

٤٥٦

فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه ، فقال عمر : لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلّا بإذن ، ثمّ انطلق معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية (١) .

روى عكرمة : أن رجلين من أهل العراق سألا ابن عباس عن هذه الآية ، فقال : إنّ الله ستير يحب السّتر ، وكان الناس لم يكن لهم ستور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم ، فربّما فاجأ الرجل ولده أو خادمه أو يتيما في حجره ، ويرى منه ما لا يحبه ، فأمرهم الله تعالى أن يستأذنوا الثلاث ساعات التي سمّاها ، ثمّ جاء باليسر وبسط الرزق عليهم ، فاتخذوا السّتور والحجال ، فرأى الناس أنّ ذلك [ قد ] كفاهم عن الاستئذان الذي امروا به (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « ليستأذن عليك بعد العشاء التي تسمّى عتمة ، وحين تصبح ، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ، إنّما أمر الله عزوجل بذلك للخلوة وإنّها ساعات غرّة وخلوة » (٣) .

﴿وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

 كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم غير البالغين من الأطفال ، ونفي الجناح في الدخول بغير الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة ، بيّن حكم البالغين منهم بقوله : ﴿وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ﴾ الأحرار الكائنين ﴿مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ وحدّ البلوغ ، وأرادوا الدخول عليكم في وقت من الأوقات ﴿فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾ منكم فيه ﴿كَمَا اسْتَأْذَنَ﴾ الأحرار ﴿الَّذِينَ﴾ بلغوا الحلم ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ والذين ذكروا من قبل ، ذكرهم بقوله : ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها(٤) .

ثمّ أكّد سبحانه تفخيم آياته والأمر بالاستئذان بقوله : ﴿كَذلِكَ﴾ التبيّن ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « ليستأذن الذين ملكت أيمانكم ، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات كما أمركم الله » . قال : « ومن بلغ منكم الحلم فلا يلج على امّه ، ولا على اخته ، ولا على خالته - وفي رواية عن الباقر عليه‌السلام بدل الخالة الابنة (٥) - ولا على من سوى ذلك إلّا بإذن ؛ ولا تأذنوا حتى تسلّموا ، فانّ السّلام طاعة لله عزوجل » وقال : « ليستأذن عليك خادمك إذا بلغ الحلم في ثلاث عورات ، إذا

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ١٩٣.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ١٧٦.

(٣) الكافي ٥ : ٥٢٩ / ١.

(٤) النور : ٢٤ / ٢٧.

(٥) الكافي ٥ : ٥٣٠ / ٣.

٤٥٧

دخل في شيء منهنّ ، ولو كان بيته في بيتك » الخبر (١) .

وتخصيص الأمر بالاستئذان بالأحرار يدلّ على أن الأرقّاء البالغين كغير البالغين في اختصاص الاستئذان بالأوقات الثلاثة لبقاء العلّة.

وقيل : إنّ الرقّ البالغ محرم على مولاته ، يجوز له النظر إلى ما يجوز للمحارم (٢) ، وادّعى جمع من الأصحاب الاجماع على عدم محرميته ، وادّعى بعض أنّ الآية منسوخة ، كما عن بن جبير وغيره وهو باطل (٣) .

﴿وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ

 ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر النساء بالتعفّف والسّتر من البالغين ، رخّص للنساء العجائز كشف الرأس والوجه ، ووضع القناع والجلباب بقوله : ﴿وَالْقَواعِدُ﴾ عن الولد والحيض والزوج ﴿مِنَ النِّساءِ﴾ العجائز ﴿اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً﴾ ولا يطمعون في آن يتزوّجهنّ الرجال لكبرهنّ ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ﴾ وإثم في ﴿أَنْ يَضَعْنَ﴾ ويلقين عند الرجال وفي مرآهم ﴿ثِيابَهُنَ﴾ الساترة لرؤوسهن وشعورهنّ كالجلباب والإزار والقناع ، حال كونهن ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ﴾ ومنكشفات للرجال مصاحبات ﴿بِزِينَةٍ﴾ ومحاسن امرن أن يخفينها من الرجال كالسّوار والخلخال والقلادة ، وغير مظهرات لها لعدم خوف الفتنة في حقّهن.

عن الصادق عليه‌السلام : « أنه قرأها فقال : الجلباب والخمار إذا كانت المرأة مسنّة » (٤) .

وعنه عليه‌السلام ، قال : « الخمار والجلباب » . قيل : بين يدي من كان ؟ فقال : « بين يدي من كان » (٥) .

وفي رواية اخرى : « تضع الجلباب وحده » (٦) ، [ وفي اخرى ] : « إلّا أن تكون أمّة ، فليس عليها جناح أن تضع خمارها » (٧) .

وعن الرضا عليه‌السلام ، قال : « أي غير (٨) الجلباب » قال : « فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهنّ»(٩) .

أقول : حاصل المراد أنّهنّ إذا خرجن من بيوتهنّ بالزّينة التي يجب سترها من الحليّ وثياب التجمّل ، يجب عليهنّ أخذ الجلباب ، لأنّ هذا النحو من الخروج يدلّ على أنّهن متبرّجات وداعيات

__________________

(١) الكافي ٥ : ٥٢٩ / ١.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٨.

(٣) الكشاف ٣ : ٢٥٤.

(٤) الكافي ٥ : ٥٢٢ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٧.

(٥) الكافي ٥ : ٥٢٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٧.

(٦) الكافي ٥ : ٥٢٢ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٧.

(٧) التهذيب ٧ : ٤٨٠ / ١٩٢٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٧.

(٨) في النسخة : عنى.

(٩) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٩٨ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٧.

٤٥٨

للشبّان إلى التفرّج ، لا طالبات لحاجتهنّ ، وإذا خرجن بغير زينة فلا جناح عليهنّ أن يضعن الجلباب والبرد والقناع ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ﴾ بترك الوضع ويستترن بالجلباب ونظائره ﴿خَيْرٌ لَهُنَ﴾ من الوضع لبعده عن التهمة ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ﴾ لما يجري بينهنّ وبين الرجال من المقال ﴿عَلِيمٌ﴾ بضمائرهنّ ومقاصدهنّ.

﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا

 عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ

 بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ

 بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ

 عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى

 أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ

 تَعْقِلُونَ (٦١)

ثمّ لمّا نفى سبحانه الجناح عن المرأة المسنّة في وضع الثياب ، نفى الحرج عن أصناف في ترك العمل ببعض التكاليف بقوله : ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ﴾ ووبال وإثم ﴿وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ﴾ والزمن ﴿حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ في ترك الجهاد على قول (١) أو في مؤاكلة الأصحّاء على آخر (٢) .

قيل : إنهم كانوا يمتنعون من مؤاكلة الأصحّاء ، أما الأعمى فلاحتمال أكله الأجود وتركه الاردأ للمبصر ، وأما الأعرج فلا احتمال تضييق المكان على جليسه لاحتياجه إلى مكان زائد ، وأما المريض فلاحتمال تأذّي الصحيح من مجالسته لمرضه ، أو كانوا جميعا يتحذّرون من استقذار الأصحّاء إياهم (٣) .

وقيل : إنّ الأصحّاء كانوا لا يأكلون مع الفرق الثلاث ، لأنّ الأعمى لا يبصر الطعام الجيد فلا يأخذه ، والأعرج لا يستطيع الجلوس فيأكل هو لقمة ويأكل غيره لقمتين ، والمريض لا يمكنه أن يأكل كما يأكل الصحيح (٤) ، وعلى هذا الوجه يكون ( على ) بمعنى ( في ) ولا بدّ من تقدير المضاف ، والمعنى ليس في مؤاكلة الأعمى حرج.

وعن عبيد الله بن عبد الله : أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم (٥) ، وكانوا يسلّمون إليهم مفاتيح

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٥.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٥ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٧٩.

(٣و٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٥.

(٥) أي مرضاهم.

٤٥٩

أبوابهم ، ويقولون [ لهم ] : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ممّا في بيوتنا ، فكانوا يتحرّجون من ذلك ، وقالوا : لن ندخلها وهم غائبون ، فنزلت الآية رخصة لهم (١) .

وعن ابن عباس ، نزلت في الحارث بن عمرو ، وذلك أنّه خرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غازيا ، وخلّف مالك (٢) بن زيد على أهله ، فلمّا رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله ، فقال : تحرّجت أن آكل من طعامك بغير إذنك (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية. قال : « وذلك أنّ أهل المدينة قبل أن يسلموا كانوا يعتزلون (٤) الأعمى والأعرج والمريض ، وكانوا لا يأكلون معهم ، وكان الأنصار فيهم تيه (٥) وتكرّم (٦) ، فقالوا : إنّ الأعمى لا يبصر الطعام ، والأعرج لا يستطيع الزّحام على الطعام ، والمريض لا يأكل كما يأكل الصحيح ، فعزلوا لهم طعامهم على ناحية ، وكانوا يرون [ عليهم ] في مؤاكلتهم جناحا ، وكان الأعمى والأعرج والمريض يقولون : لعلّنا نؤذيهم إذا أكلنا معهم ، فاعتزلوا من مؤاكلتهم » الخبر (٧) .

ثمّ أباح سبحانه للناس الأكل من بيوت أزواجهم وأولادهم وأقاربهم بقوله : ﴿وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ﴾ حرج في ﴿أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ﴾ بيوت أزواجكم وأولادكم التي هي بمنزلة ﴿بُيُوتِكُمْ﴾ لشدّة الاتصال بينكم وبينهم ﴿أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ﴾ من ﴿بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ﴾ من ﴿ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ﴾ وتملّكتم التصرّف فيه باذن ربّه ﴿أَوْ﴾ من بيت ﴿صَدِيقِكُمْ.

قيل : كان المؤمنون يذهبون بالضّعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وقراباتهم وأصدقائهم ، فيطعمونهم منها ، فلمّا نزل قوله تعالى : ﴿لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً(٨) فعند ذلك أمتنع الناس أن يأكل بعضهم من طعام بعض فنزلت (٩) .

وقيل : كانت الأنصار في أنفسهم قزازة (١٠) ، وكانوا لا يأكلون من هذه البيوت إذا استغنوا (١١).

وقيل : كان الرجل يدخل بيت أبيه ، أو بيت أخيه ، أو اخته ، فتتحفه المرأة بشيء من الطعام ، فيتحرّج

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٥.

(٢) في تفسير الرازي : بن مالك.

(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٥.

(٤) في تفسير القمي : يعزلون.

(٥) التية : التكبر.

(٦) في تفسير القمي : تكرمة.

(٧) تفسير القمي ٢ : ١٠٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٤٨.

(٨) زاد في تفسير الرازي : أي بيعا ، والآية من سورة النساء : ٤ / ٢٩.

(٩) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٥.

(١٠) التقزّز : التباعد عن المعايب والمعاصي ترفّعا وتنزّها.

(١١) تفسير الرازي ٢٤ : ٣٥.

٤٦٠