نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا

 تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ

 وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ

 يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠) و (٢١)

ثمّ بيّن سبحانه منّته على ناشر الفواحش بقوله : ﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ بإمهالكم وتمكينكم من تدارك ما فرّطتم على أنفسكم ﴿وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ﴾ وشديد المودّة بكم ﴿رَحِيمٌ﴾ وعطوف عليكم بالنّعم لعذّبكم ، ولكن لرأفته ورحمته يراعي ما هو أصلح لكم ، وإن عصيتموه.

ثمّ وعظهم بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ بإشاعة الفاحشة ، ولا تسلكوا مسالكه ولا تعملوا بسيرته ، كما عمل أهل الإفك بإشاعة الفواحش ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ ويحذو حذوه ﴿فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ بتزيينهما في نظره وترغيبه إليهما بوسوسته ﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ بوعظكم وتوفيقكم للتوبة ، وتشريع الحدود المكفّرة للذنب ، وتأييده إياكم لتهذيب الأخلاق ﴿ما زَكى﴾ وما طهر من دنس الذنب والأخلاق الرذيلة ﴿مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾ وإلى آخر الدهر ﴿وَلكِنَّ اللهَ﴾ بفضله ورحمته ﴿يُزَكِّي﴾ ويطهّر من الذنوب بالحدود والتوفيق للتوبة وقبولها ، والتأييد لتهذيب الأخلاق ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ من عباده ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ﴾ لأقوال عباده التي من جملتها ما قالوه من حديث الإفك والتكلّم بالفواحش ، وما أظهروه من التوبة ﴿عَلِيمٌ﴾ بأعمالهم من السعي في إشاعة المنكر ، وأحوالهم من النفاق والخلوص في الإيمان والتوبة ، أو عليم بما في قلوبهم من حبّ إشاعة الفاحشة وكراهتها.

﴿وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ

 وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ

 وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا

 فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٢) و (٢٣)

ثمّ لمّا حلف أبو بكر على أن يقطع نفقته عن مسطح ابن خالته مع كونه بدريا مهاجرا فقيرا على ما قيل (١) ، نهى سبحانه أبا بكر عن الحلف المذكور وبرّه بقوله : ﴿وَلا يَأْتَلِ﴾ ولا يحلف ﴿أُولُوا الْفَضْلِ

__________________

(١) جوامع الجامع : ٣١٤ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٣٢.

٤٢١

وأصحاب الثروة ﴿مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ في العيش والمال على ﴿أَنْ يُؤْتُوا﴾ أو المراد لا يقصّروا في أن يعطوا من أموالهم ﴿أُولِي الْقُرْبى﴾ وذوي الأرحام ﴿وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ.

قيل : نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا على أن لا يتصدقوا على من تكلّم بشيء من الإفك ولا يواسوهم (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « هم قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢) .

ثمّ حثّ سبحانه على العفو والصّفح بقوله : ﴿وَلْيَعْفُوا﴾ البتة عنهم ﴿وَلْيَصْفَحُوا﴾ وليغضوا عن ذنوبهم وليعرضوا عن لومهم.

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ والترغيب بقوله : ﴿أَ لا تُحِبُّونَ﴾ أيّها المؤمنون ﴿أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾ بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم.

وعن الباقر عليه‌السلام : « يعفو بعضكم عن بعض ويصفح بعضكم عن بعض ، فإذا فعلتم ذلك كان رحمة من الله لكم ، يقول الله : ﴿أَ لا تُحِبُّونَ﴾ الآية » (٣) .

﴿وَ﴾ إنّ (٤)﴿اللهُ غَفُورٌ﴾ ومبالغ في ستر الذنوب مضافا إلى العفو و﴿رَحِيمٌ﴾ بعباده المذنبين مع كمال قدرته على المؤاخذة.

ثمّ أكّد سبحانه تهديد قاذفي المحصنات بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ﴾ بالفاحشة ، ويقذفون النساء ﴿الْمُحْصَناتِ﴾ والعفيفات ﴿الْغافِلاتِ﴾ عنها بحيث لا يخطر ببالهنّ شيء منها و[ لا ] من مقدماتها أصلا ، كما قيل (٥)﴿الْمُؤْمِناتِ﴾ بم يجب الايمان به إيمانا حقيقيا خالصا من الشّرك والشكّ ﴿لُعِنُوا﴾ بما قالوا في حقّهنّ ، وابعدوا من الرحمة ﴿فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ﴾ أو يدعوا عليهم باللعن المؤمنون والملائكة أبدا ﴿وَلَهُمْ﴾ مع ذلك ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ لعظم ذنوبهم إذا لم يحدّوا ولم يتوبوا.

قيل : إنّ المراد من المحصنات خصوص عائشة ، ومن الموصول خصوص ابن ابي (٦) ، لدلالة الآية السابقة على العفو عن غيره.

﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ

__________________

(١) جوامع الجامع : ٣١٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٦.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٠٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٦.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٠٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٦.

(٤) كذا ، والتعبير لا يتفق مع حركة لفظ الجلالة ، فهو مرفوع والسياق يقتضي النصب.

(٥) تفسير أبي السعود ٦ : ١٦٥ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٣٣.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ١٣٤.

٤٢٢

يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٤) و (٢٥)

ثمّ قرّر سبحانه الوعد بالعذاب بتعيين وقت حلوله وتهويله ببيان ظهور موجبة من القذف وسائر المعاصي في ذلك الوقت بشهادة الجوارح عليها على رؤس الأشهاد بقوله : ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ التي نطقوا بها بالقذف وغيره من الكلمات المحرّمة ﴿وَأَيْدِيهِمْ﴾ التي عملوا بها المعاصي ﴿وَأَرْجُلُهُمْ﴾ التي سعو إليها ﴿بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من القذف وغيره ممّا صدر عنهم بانطاق الله جميعها بقدرته ، فكلّ جارحة تشهد بما صدر عن صاحبها من القبائح والمعاصي ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ﴾ ويعطيهم كاملا ﴿دِينَهُمُ﴾ وجزاءهم ﴿الْحَقَ﴾ الثابت الذي يستحقونه بمعاصيهم ﴿وَيَعْلَمُونَ﴾ عند شهادة الجوارح ومعاينة الأهوال وحكمه تعالى بتعذيبهم ﴿أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ﴾ والثابت الذي لا زوال لذاته وصفاته التي منها الحكمة والعدل ، وأفعاله التي منها إعطاء كلّ مستحقّ ما يستحقّه من الثواب والعقاب ﴿الْمُبِينُ﴾ والمطهّر للأشياء كما هي في أنفسها ، أو الثابت في الوهيّته الظاهر فيها ، أو العادل الظاهر في عدله.

قيل : لو تتبّعت ما في القرآن المجيد من آيات الوعيد الواردة في حقّ كلّ كفّار مريد وجبّار عنيد لا تجد شيئا منها فوق هاتيك القوارع المشحونة بفنون التهديد والتشديد ، وما ذاك إلّا لأجل إظهار منزلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في علوّ الشأن والنباهة وإبراز عصمة أزواجه (١) من الفحش المنافي لشأن النبوة.

﴿الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ

 لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)

ثمّ ختم سبحانه قصّة الإفك بالحكم بطهارة أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفحش بقوله : ﴿الْخَبِيثاتُ﴾ من أقاويل أهل الإفك ، أو الكلمات الدالة على الذمّ واللّعن ، أو النساء الزانيات ﴿لِلْخَبِيثِينَ﴾ من الأقاويل ، أو الذمائم ، أو النساء الزواني بحيث لا يتجاوزوهنّ ومن الرجال والنساء على التفسيرين الأولين ، ومن الرجال على الثالث ﴿وَالْخَبِيثُونَ﴾ من الفريقين ، أو من الرجال ﴿لِلْخَبِيثاتِ﴾ على المعنيين الأولين ، أو من الرجال على الثالث.

القمي قال : الخبيثات من الكلام والعمل للخبيثين من الرجال والنساء (٢) .

﴿وَالطَّيِّباتُ﴾ من أقاويل منكري الإفك ، أو الكلمات المحسنات ممّا فيه رضا الله ، أو النساء العفيفات ﴿لِلطَّيِّبِينَ﴾ والأعفّاء من الرجال والنساء ، يسلمونهم ويصدق عليهم من قال

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ١٦٧.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٠١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٧.

٤٢٣

﴿وَالطَّيِّبُونَ﴾ من الرجال والنساء ﴿لِلطَّيِّباتِ﴾ من الكلام والعمل.

وفي الإحتجاج عن الحسن المجتبى عليه‌السلام وقد قام من مجلس معاوية وأصحابه ، وقد ألقمهم الحجر قال : ﴿ الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ﴾ هم والله يا معاوية أنت وأصحابك هؤلاء وشيعتك ﴿وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ﴾ إلى آخر الآية ، هم علي بن أبي طالب عليه‌السلام [ وأصحابه ] وشيعته (١) .

﴿أُولئِكَ﴾ المذكورون من الطيبين والطيبات من النساء ، أو الطيبين على المعنيين الآخرين للطيبات ﴿مُبَرَّؤُنَ﴾ ومنزّهون ﴿مِمَّا يَقُولُونَ﴾ فيهم ، أو من أن يقولوا مثل قولهم ، أو من أن يقال بشيء في حقّهم من الذّم واللّعن.

ثمّ أنّه تعالى بعد تنزيههم من الفحش ، أو القول والعمل السيئين ، أثبت لهم الكرامة عنده بقوله :

﴿لَهُمْ﴾ بالاستحقاق ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ عظيمة ، لما لا يخلوا البشر من الزلّات ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ،﴾ وكثير أو الحسن الطيب في الآخرة من الجنّة والدرجات العالية والنّعم الدائمة والكرامات الفائقة.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا

 عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا

 تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ

 بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٧) و (٢٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم الرمي والقذف وعقابهما وسائر ما يتعلّق بهما ، نهى عن الدخول في الخلوات الموجب للتهمة بغير إذن بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً﴾ مسكونة بالملك أو الإجارة أو العارية حال كونها ﴿غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ التي تسكنونها بأنفسكم ﴿حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ وتستأذنوا من ساكنيها في الدخول ، وتستعلموا رضاهم به بالتسبيح أو التكبير أو التنحنح ، كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) أو وقع النّعل كما عن الصادق عليه‌السلام (٣)﴿وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها﴾ وساكنيها من وراء الباب بأن تقولوا : السّلام عليكم أهل البيت أ أدخل.

روي أنّه جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله ، إنّي أكون في بيتي على الحالة التي

__________________

(١) الإحتجاج : ٢٧٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٧.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ١٣٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٠١ ، معاني الأخبار : ١٦٣ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٨.

٤٢٤

لا احبّ أن يراني عليها أحد ، فيأتي الآتي فيدخل ، فكيف أصنع ؟ قال : « ارجعي » فنزلت هذه الآية(١) .

وفي ( المجمع ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن رجلا استأذن عليه فتنحنح ، فقال [ رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ] لامرأة يقال لها روضة : « قومي إلى هذا فعلّميه ، وقولي له : قل السّلام عليك (٢) أ أدخل ؟ » فسمعها الرجل فقالها ، فقال : « ادخل » (٣) .

وروي الفخر الرازي أنّه استأذن رجل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أ ألج ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لامرأة يقال لها روضة : « قومي إلى هذا فعلّميه ، فانّه لا يحسن أن يستأذن ، قولي له يقول : السّلام عليكم أ أدخل ؟ » فسمعها الرجل فقالها ، فقال : « أدخل » فدخل ، وسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أشياء ، وكان يجيبه ، إلى أن قال : وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته : حيّيتم صباحا ، وحييتم مساء ، ثمّ يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فصد الله تعالى عن ذلك ، وعلم الأحسن والأجمل (٤) .

وروى أبو هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « الاستئذان ثلاث : بالاولى يستنصتون ، وبالثانية يستصلحون ، وبالثالثة يأذنون أو يردّون » (٥) .

وعن جندب ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع » (٦) .

وعن عطاء قال : سألت ابن عباس وقلت : أستأذن على اختي وأنا (٧) انفق عليها ؟ قال : نعم ، إن الله تعالى يقول : ﴿وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا(٨) ولم يفرّق بين من كان أجنبيا أو ذا رحم (٩) .

وروي أن رجلا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أستأذن على اختي ؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم ، أتحبّ أن تراها عريانة ! » (١٠) .

وعن ( المجمع ) أن رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أستأذن على أمّي ؟ قال : « نعم » قال : إنّها ليس لها خادم غيري ، أفأستأذن عليها كلّما دخلت ؟ قال : « أتحبّ أن تراها عريانة ! » قال الرجل : لا. قال : « فاستأذن عليها » (١١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « يستأذن الرجل إذا دخل على أبيه ، ولا يستأذن الأب على ابنه ، ويستأذن الرجل

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ١٣٧.  (٢) في مجمع البيان وتفسير الصافي : عليكم.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢١٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٨.

(٤-٦) تفسير الرازي ٢٣ : ١٩٧.

(٧) في تفسير الرازي : ومن.   (٨) النور : ٢٤ / ٥٨.

(٩) تفسير الرازي ٢٣ : ١٩٩ ، وزاد فيه : محرم.

(١٠) تفسير الرازي ٢٣ : ١٩٩.

(١١) مجمع البيان ٧ : ٢١٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٨.

٤٢٥

على ابنته واخته إذا كانتا متزوّجتين ؟ » (١)

وعنه عليه‌السلام : « إنّما الإذن على البيوت ، ليس على الدار إذن » (٢) .

ثمّ حثّ سبحانه على الاستئذان والتسليم بقوله : ﴿ذلِكُمْ﴾ المذكور من الاستئذان والتسليم ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من الدخول بغتة ، وإنما أمرتم بهما ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ وتعلمون ما هو أصلح لكم ، أو المراد تتّعظون وتعملون بموجبه ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا﴾ في البيوت ، ولم تعلموا أنّ ﴿فِيها أَحَداً﴾ من ساكنيها أصلا ﴿فَلا تَدْخُلُوها﴾ واصبروا ﴿حَتَّى يُؤْذَنَ﴾ في الدخول ﴿لَكُمْ﴾ لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه ، أو تهمة السرقة.

ثمّ لمّا كان جعل النهي مغيى بالاستئذان موهما للرّخصة في تكرير الاستئذان ولو بعد الردّ دفع الله التوهّم بقوله : ﴿وَإِنْ قِيلَ﴾ من جهة أهل البيت ﴿لَكُمْ﴾ لا مجال للإذن ، ونحن معذرون فيه ﴿ارْجِعُوا﴾ وانصرفوا ﴿فَارْجِعُوا﴾ ولا تلحّوا في الاستئذان بتكريره ، ولا تلجوا في الدخول بالإصرار على الانتظار إلى أن يأتي الإذن ، فإنّ الرجوع ﴿هُوَ أَزْكى﴾ وأطهر ﴿لَكُمْ﴾ ممّا لا يخلو عنه اللّجّ والالحاح من جلب الكراهة في القلوب والقدح في المروءة ﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الالحاح والرجوع ﴿عَلِيمٌ﴾ فيجازيكم عليه.

﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ

 ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم البيوت المسكونة للاشخاص الخاصة ، بيّن حكم البيوت غير الموضوعة لسكنى طائفة خاصة بقوله : ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ﴾ وحرج في ﴿أَنْ تَدْخُلُوا﴾ بغير الاستئذان ﴿بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ لشخص مخصوص ﴿فِيها مَتاعٌ﴾ وانتفاع ﴿لَكُمْ.

روي أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، إنّ الله أنزل عليك آية في الاستئذان ، وإنّا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات ، أ فلا ندخلها إلّا بإذن ؟ فنزلت (٣) .

وعن محمّد بن الحنفية : أنّها الخانات والرباطات وحوانيت البيّاعين والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحرّ والبرد وإيواء الرجال (٤) والسّلع والشراء والبيع (٥) .

__________________

(١) الكافي ٥ : ٥٢٨ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٥٤ / ٦٧٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٨.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٠٠ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٦٩.

(٤) في تفسير الرازي : الرحال.

(٥) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٠٠.

٤٢٦

وقيل : إنّها الحمّامات (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « هي الحمّامات والخانات والأرحية ، وتدخلها بغير إذن » (٢) .

أقول : الظاهر أنّ المراد كلّ بيت معدّ لدخول الناس ولو لبعض حوائجهم ، وما ذكر في الروايات إنّما هو من باب المثال وذكر المصداق ، فيدخل في الآية محكمة القضاة ، ومطب الأطبّاء ، والمكتبة المعدّة لورود الناس ومطالعة الكتب ونظائرها.

ثمّ أوعد الله سبحانه الداخلين في البيوت بقصد الفساد والاطلاع على العورات بقوله : ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ﴾ وتظهرون من الأعمال ﴿وَما تَكْتُمُونَ﴾ وتسترون من الضمائر والنيّات فيجازيكم عليها.

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ

 خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ

 فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ

 وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ

 بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما

 مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ

 يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ

 وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٠) و (٣١)

ثمّ لمّا كان غضّ البصر وحفظ الفروج من شؤون العفاف ووظيفة المستأذنين ، أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبليغ وجوبهما إلى المؤمنين والمؤمنات بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أيّها المؤمنون غضّوا ، كي ﴿يَغُضُّوا﴾ بعضا ﴿مِنْ أَبْصارِهِمْ﴾ عن النساء الأجنبيات وخصوص عورات المحارم سوى الأزواج.

وقيل : إنّ كلمة ( من ) زائدة (٣) والمعنى يغضّوا ابصارهم.

وقيل : إنّ المعنى أن ينقصوا من نظرهم (٤)﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ وعوراتهم من أن ينظر إليها الرجال والنساء من الأجنبيات والمحارم سوى الأزواج.

وقيل : إنّما قال ﴿مِنْ أَبْصارِهِمْ﴾ ولم يقل : من فروجهم ؛ لأنّه قد يجوز النظر إلى ما عدا عورة

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٠٠ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٦٩ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٣٩.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٠١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٩.

(٣) كنز العرفان ٢ : ٢٢٠.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٠٢.

٤٢٧

المحارم وإلى ما يظهر في العادة من وجوه الأجنبيات وأكفّهنّ حال الضّرورة ، وإلى وجوه الإماء المستعرضات للبيع ، وكذا الطبيب للعلاج ، والشاهد لتحمّل الشهادة وإقامتها ، والنظر إلى المخطوبة مع إمكان نكاحها شرعا وعرفا ، ويقتصر على نظر الوجه ، وكذا النظرة الاولى من غير لذّة أو ريبة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ولكم أول نظرة ، فلا تتبعوها بالثانية » (١) وأمّا حفظ الفرج فهو أضيق من الغضّ ، لاختصاص التحريم بمن عدا الزوجة وملك اليمين ، فلذلك لم يقل : من فروجهم.

﴿ذلِكَ﴾ المذكور من غضّ البصر وحفظ الفرج ﴿أَزْكى﴾ وأطهر ﴿لَهُمْ﴾ من دنس الريبة ﴿إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ﴾ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وأحوالهم ، فليكونوا منه على حذر.

روي أنّ النظر سهم من سهام إبليس (٢) .

وعن عيسى بن مريم عليه‌السلام أنّه قال : إياكم والنظرة ، فانّها تزرع في القلوب شهوة (٣) .

وفي الحديث : « احفظوا (٤) لي ستا من أنفسكم ، أضمن لكم الجنّة - إلى أن قال : - واحفظوا فروجكم ، وغضّوا أبصاركم » (٥) .

﴿وَقُلْ﴾ يا محمد ﴿لِلْمُؤْمِناتِ﴾ إنّهنّ ﴿يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ﴾ فلا ينظرون إلى ما لا يحلّ النظر إليه ﴿وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ﴾ بالتستّر والتصوّن ، وإنما قدّم الأمر بالغضّ لأنّ النظر بريد الزنا ورائد الفجور.

عن الصادق عليه‌السلام : « كل آية في القرآن في حفظ (٦) الفروج فهي من الزنا إلّا هذه الآية ، فانّها من النظر ، فلا يحلّ لرجل مؤمن أن ينظر إلى فرج أخيه ، ولا يحلّ للمرأة أن تنظر إلى فرج اختها » (٧) .

وفي رواية عنه عليه‌السلام : « وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم الله عليه ، وأن يعرض عمّا نهى الله عنه ممّا لا يحلّ له ، وهو عمله ، وهو من الإيمان ، فقال الله تعالى : ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ - يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم ، وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه ، ويحفظ فرجه من أن ينظر إليه ، وقال : ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ﴾ فنهاهنّ من أن تنظر إحداهنّ إلى فرج اختها ، وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها » . وقال : « كلّ شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلّا هذه الآية ، فانّها من النظر » (٨) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنعن خلف آذانهن ،

__________________

(١) كنز العرفان ٢ : ٢٢١.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ١٤١.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ١٤٠.

(٤) في تفسير روح البيان اضمنوا.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ١٤٠.

(٦) في تفسيري القمي والصافي : ذكر.

(٧) تفسير القمي ٢ : ١٠١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٩.

(٨) الكافي ٢ : ٣٠ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٢٩.

٤٢٨

فنظر إليها وهي مقبلة ، فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق - سمّاه ببني (١) فلان - فجعل ينظر إليها من خلفها ، فاعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة ، فشق [ وجهه ] فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره فقال : والله لآتين رسول الله ولأخبرنّه ، فأتاه فلمّا رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : ما هذا ؟ فأخبره ، فهبط جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية » (٢) .

ثمّ خصّ سبحانه النساء بالنهي عن إظهار الزينة ومواضعها بقوله : ﴿وَلا يُبْدِينَ﴾ ولا يظهرن ﴿زِينَتَهُنَ﴾ قيل : يعني المحاسن التي خلقهنّ الله عليها (٣) .

وقيل : المحاسن المكتسبة كالقلب ، والقلادة ، والقرط ، والخلخال (٤)﴿إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها﴾ على حسب العادة كالكحل ، والخاتم ، والسّوار.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « الزينة الظاهرة الكحل والخاتم » (٥) .

وفي رواية أخرى : « الخاتم ، والمسكة ، وهي القلب » (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « هي الثياب ، والكحل ، والخاتم ، وخضاب الكفّ ، والسّوار » .

وقال : الزينة ثلاثة : زينة للناس ، وزينة للمحرم ، وزينة للزوج ، فأمّا زينة الناس فقد ذكرناها ، وأمّا زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها ، والدملج (٧) وما دونه ، والخلخال وما استفل (٨) منه ، وأمّا زينة الزوج فالجسد كلّه (٩) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل : ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما ؟ قال : « الوجه والكفّان والقدمان » (١٠) .

وعن ( الجوامع ) عنهم عليهم‌السلام : « الكفّان والأصابع » (١١) . وحمل الأخبار المعارضة على الكراهة أولى من حمل هذه الأخبار على التقيّة أو النظر الاتّفاقي.

ثمّ قيل : إنّ نساء الجاهلية كنّ يشددن خمرهنّ ومقانعهنّ من خلفهنّ ، وإنّ جيوبهنّ كانت من قدّام ، فكانت تنكشف نحورهنّ وقلائدهن ، فأمر الله المؤمنات بستر أعناقهنّ ونحورهنّ (١٢) بقوله :

__________________

(١) في تفسير الصافي : لبني.

(٢) الكافي ٥ : ٥٢١ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٠.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٠٥.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٠٥ ، والقلب : السّوار يكون نظما واحدا ، والقرط : ما يعلّق في شحمة الأذن من الحلّي ، والخلخال : حليه كالسّوار تلبسها النساء في أرجلهن.

(٥) الكافي ٥ : ٥٢١ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٠.

(٦) الكافي ٥ : ٥٢١ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٠.

(٧) الدّملج سوار يحيط بالعضد.

(٨) في تفسيري القمي والصافي : وما اسفل.

(٩) تفسير القمي ٢ : ١٠١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٠.

(١٠) الكافي ٥ : ٥٢١ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٠.

(١١) جوامع الجامع : ٣١٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٠.

(١٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٠٦.

٤٢٩

﴿وَلْيَضْرِبْنَ﴾ وليلقين ﴿بِخُمُرِهِنَ﴾ وما يستر به روؤسهنّ من المقانع ﴿عَلى جُيُوبِهِنَ﴾ لتستر أعناقهنّ ونحورهنّ وصدورهنّ وقلائدهنّ وقروطهنّ وشعورهن عن الأجانب.

ثمّ أعاد سبحانه النهي عن إبداء الزينة بقوله : ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ﴾ لتخصيصه بقوله : ﴿إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ﴾ وأزواجهنّ ﴿أَوْ آبائِهِنَ﴾ وإن علوا ﴿أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَ﴾ وفحولهنّ ﴿أَوْ أَبْنائِهِنَ﴾ وإن نزلوا ﴿أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ﴾ كذلك ﴿أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَ﴾ المختصّات بهنّ من حرائر المؤمنات المؤتمنات عن وصفهنّ للرجال ، فانّ الكافرات لا يؤتمنّ على ذلك.

عن الصادق عليه‌السلام : « لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية ، فانهنّ يصفن ذلك لأزواجهنّ » (١) .

أقول : لا شبهة أنّ النهي فيه للكراهة ، كما يشعر به لفظ ( لا ينبغي ) .

﴿أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ﴾ من الإماء دون العبيد ، كما عليه المشهور (٢) أو ولو كان عبدا كما عليه بعض العامة (٣) ، والخاصة لقول الصادق عليه‌السلام : « يعني العبيد والإماء » (٤) .

وقوله عليه‌السلام : « لا بأس أن يرى المملوك الشعر والساق » (٥) ، وفي رواية : « شعر مولاته وساقها » (٦) . وفي اخرى : « إلى شعرها إذا كان مأمونا » (٧) . وعنه عليه‌السلام : « لا يحلّ للمرأة أن ينظر عبدها إلى شيء من جسدها إلّا إلى شعرها غير متعمّد لذلك » (٨) .

أقول : يعني غير مريد للتلذّذ ، وفي صورة الشكّ يحمل نظره على الصحّة ، ويؤيد ذلك نفي الحرج ، وكون الدين سمحا سهلا أو المراد الإماء وخصوص الخصيّ من العبيد ، لنقل الإجماع المعتقد بالشهرة على حرمة النظر في غيره ، والصحاح سئل عن قناع الحرائر من الخصيان ، فقال : « كانوا يدخلون على بنات أبي الحسن عليه‌السلام ولا يتقنعن » .

قلت : إن كانوا أحرارا ؟ قال : « لا » .

قلت : فالأحرار يتقنّع منهم ؟ قال : « لا » (٩) .

__________________

(١) الكافي ٥ : ٥١٩ / ٥ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٦٦ / ١٧٤٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣١.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٢١٧ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٤٣.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٠٧ ، تفسير البيضاوي ٢ : ١٢٢ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٧٠.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٢١٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣١.

(٥) الكافي ٥ : ٥٣١ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣١.

(٦) الكافي ٥ : ٥٣١ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣١.

(٧و٨) الكافي ٥ : ٥٣١ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣١.

(٩) الكافي ٥ : ٥٣٢ / ٣.

٤٣٠

وقيل : المملوك منه داخل في قوله : ﴿أَوِ التَّابِعِينَ(١) لهنّ ، لأجل المعيشة حال كونهم ﴿غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ﴾ والحاجة إلى النساء ﴿مِنَ الرِّجالِ﴾ لعدم الشهوة كالخصيّ المقطوع الانثيين ، والشيوخ الذين سقطت شهوتهم كما عن الكاظم عليه‌السلام.

نعم روي عنه عليه‌السلام أنّه سئل عن الرجل يكون له الخصيّ يدخل على نسائه يناولهنّ الوضوء (٢) ، فيرى شعورهن ؟ قال : « لا » (٣) .

وفي خبر آخر : سئل عن امّ ولد هل يصلح لها أن ينظر إليها خصيّ مولاها وهي تغتسل ؟ قال : « لا يحلّ ذلك » (٤) .

ويمكن حمل الأول على الكراهة ، والظاهر من الثاني السؤال عن رؤيته جميع بدنها ، مع أنّ بعض الأخبار المجوّزة صحاح وبعضها موثقات بخلاف الأخيرين المانعين ، وقيل بترجيح الأخيرين لموافقتهما للمشهور بين الخاصة ، ومخالفتهما لما عليه أساطين (٥) العامة.

وفي أنّ ذهاب المشهور إلى المنع لعلّه لتوهّم الاجماع عليه ، لا لخلل في الروايات المجوّزة ، ومخالفتها (٦) لما عليه الأساطين (٧) ، لو سلمت المعارضة بموافقتها (٨) لما عليه أساطين العامة ، كأبي حنيفة فإنّه حمل التابعين على العبيد الصغار حتى إنّه قال : لا يحلّ إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم (٩) ، بل لم ينقل الجواز إلّا عن الشافعي فانّه حمل التابعين على الخصيّ والمجبوب (١٠) . وقال الصيّمري : إنّه لم يسبق إلى هذا القول.

والحاصل أنّ الأخبار المانعة موافقة للمشهور بين العامة الذين امرنا بمخالفتهم ، مع أنّه مخالفة لظاهر الكتاب الذي امرنا بالأخذ بما وافقه وطرح ما خالفه ، والأخبار المجوّزة مؤيدة في صورة نظر الخصيّ المملوك للمرأة إلى شعر مولاته بأدلّة نفي الحرج ، وكون الشريعة سمحة سهلة ، وجواز النظر إلى شعر القواعد من النساء لعدم كونها معرضا للشهوة والرّيبة ، ونظر البله (١١) الذين لا يعرفون شيئا من امور النساء ، كما عن الصادق عليه‌السلام تفسير التابعين بهم (١٢) .

والظاهر من عبائر كثير من المانعين المنع من كون الخصيّ محرما لمولاته بحيث يجوز له النظر إلى

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٢١٨.

(٢) الوضوء : الماء يتوضأ به.

(٣) الكافي ٥ : ٥٣٢ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٢.

(٤) الكافي ٥ : ٥٣٢ / ١.

(٥) في النسخة : سلاطين.

(٦) في النسخة : مخالفتهما.

(٧) في النسخة : السلاطين.

(٨) في النسخة : بموافقتهما.

(٩) كنز العرفان ٢ : ٢٢٣.

(١٠) كنز العرفان ٢ : ٢٢٣ ، وفيه الخصي المجبوب ، والمجبوب : المقطوع الأنثيين.

(١١) البله : جمع أبله ، وهو الذي ضعف عقله وغلبت عليه الغفلة.

(١٢) كنز العرفان ٢ : ٢٢٣.

٤٣١

ما عدا عورتها كسائر المحارم ، ولا نقول به ، بل نقول بجواز نظره إلى شعرها وساقها ، وما في ( المسالك ) من جواز نظر الخصيّ بل الفحل إلى مالكته ، وتبعه عليه بعض من تأخّر عنه ، محمول عليه.

فتبين من جميع ما ذكر أنه لو لا الشهرة العظيمة ، ودعوى الاجماع على المنع ، لكان القول بجواز نظر كلّ من المرأة ومملوكها الخصيّ إلى شعر الآخر وساقه هو المتعيّن إلّا أنّ الأحوط خلافه.

﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا﴾ ولم يطلّعوا ، أو لم يقدروا ﴿عَلى عَوْراتِ النِّساءِ﴾ لعدم تميّزهم بينها وبين غيرها ، أو عدم بلوغهم حدّا يشتهون التمتّع منهن ويتمكّنون من جماعهنّ.

ثمّ بالغ سبحانه في نهي النساء عن إظهار زينتهنّ بقوله : ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَ﴾ على الأرض ﴿لِيُعْلَمَ﴾ بصوت الخلخال وغيره ﴿ما يُخْفِينَ﴾ عن أعين الرجال ﴿مِنْ زِينَتِهِنَ﴾ فانّ ذلك ممّا يورث ميل الرجال إليهنّ ، ويؤهم أنّ لهن الميل إلى الرجال.

قيل : كانت الجاهليات يضربن بأرجلهن على الأرض ، ليسمع صوت خلاخلهنّ ، فنهي المسلمات عن ذلك لأنّه في حكم النظر (١) .

وعن ابن عباس : كانت المرأة تمرّ بالناس وتضرب برجلها لتسمع قعقعة الخلخال (٢) . وفي النهي عن استماع صوت الزينة الدالّ على وجودها تأكيد للمنع عن إظهارها.

ثمّ لمّا كان حفظ النفس عن الشهوات في غاية الصعوبة بحيث لا تخلو نفس عن التقصير فيه ، حثّ سبحانه الناس على التوبة بقوله : ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ من التفريط في أوامره ونواهيه ، سيّما في الكفّ عن الشهوات ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ بها ﴿تُفْلِحُونَ﴾ وتفوزون بخير الدنيا والآخرة.

وعن ابن عباس : توبوا ممّا كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلّكم تسعدون (٣) .

﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ

 يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)

ثمّ أمر سبحانه بالنّكاح الصائن عن السّفاح بقوله : ﴿وَأَنْكِحُوا﴾ وزوّجوا أيّها الأولياء والموالي ﴿الْأَيامى﴾ والعزّاب الأحرار من الذكر والانثى ﴿مِنْكُمْ﴾ ومن عشيرتكم ﴿وَالصَّالِحِينَ﴾ والمؤمنين أو الأهلين للنكاح ﴿مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ.

وقيل : إنّ المراد من الصلاح معناه الظاهر ، والتقييد به للترغيب فيه ، فانّهم إذا علموا به رغبوا في

__________________

(١) كنز العرفان ٢ : ٢٢٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٠٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١٠.

٤٣٢

الصلاح والتقوى (١) .

وقيل : إنّه من باب التسمية باسم ما يؤول إليه ، فانّ الفاسق إذا زوّج استغنى بالحلال عن الحرام(٢) .

ثمّ بالغ سبحانه بالحثّ عليه بقوله : ﴿إِنْ يَكُونُوا﴾ الأحرار والمماليك ﴿فُقَراءَ﴾ وعادمي المال ﴿يُغْنِهِمُ اللهُ﴾ ويكفيهم مؤنتهم ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وإحسانه فلا يمنع فقر الخاطب والمخطوبة من المناكحة ؛ لأنّ في فضل الله غنية ﴿وَاللهُ واسِعٌ﴾ فضلا وقدرة ﴿عَلِيمٌ﴾ بمصالح عباده في بسط الرزق والتقتير ، ففي الآية دلالة على استحباب النّكاح للعزّاب [ سواء أ ] كانوا أغنياء أم فقراء تائقين (٣) أم مطيقين.

روي أنّه « من تزوّج فقد أحرز نصف دينه » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من ترك التزويج مخافة العيلة (٥) فقد أساء ظنّه بالله عزوجل ، إنّ الله عزوجل يقول : ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكا إليه الحاجة ، فقال : تزوج فتزوّج فوسّع عليه»(٧).

وروى بعض العامة عنه عليه‌السلام : أنّ رجلا شكا إليه الفقر فأمره أن يتزوّج فتزوّج الرجل ، فشكا إليه الفقر فأمره بأن يطلّقها فسئل عن ذلك فقال : « قلت له تزوّج ، لعلّه من أهل هذه الآية : ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ فلمّا لم يكن من أهلها قلت : طلقها ، لعلّه من أهل آية اخرى : ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ(٨) .

وفي الحديث : « يأتي على الناس زمان لا تنال فيه المعيشة إلّا بالمعصية ، فاذا كان ذلك الزمان حلّت العزوبة » (٩) .

ثمّ إنّه استدلّ كثير من العامة بهذه الآية على أنّ أمر نكاح النساء بيد الأولياء ، وليس لهنّ الاستبداد به كالإماء اللّاتي أمر نكاحهنّ بيد مواليهنّ. وفيه منع واضح ، مضافا إلى معارضتها بقوله : ﴿فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بِالْمَعْرُوفِ(١٠) وإلى الإجماع المحقّق على استبداد الثّيّبات به.

__________________

(١و٢) كنز العرفان ٢ : ١٣٥.

(٣) التائق : الشديد الاشتياق إلى الوطئ.

(٤) أمالي الطوسي : ٥١٨ / ١١٣٧.

(٥) العيلة : الفقر والحاجة.

(٦) الكافي ٥ : ٣٣٠ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٢.

(٧) الكافي ٥ : ٣٣٠ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٢.

(٨) تفسير روح البيان ٦ : ١٤٧ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ١٣٠.

(٩) تفسير روح البيان ٦ : ١٤٨.

(١٠) البقرة : ٢ / ٢٣٢.

٤٣٣

﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ

 يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ

 مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً

 لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ

 رَحِيمٌ (٣٣)

ثمّ لمّا أمر سبحانه بالتزويج وترك الكفّ عنه مخافة العجز عن النفقة ، أمر من لا يقدر على مقدّماته بالتعفّف بقوله : ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ﴾ وليجتهد في حفظ النفس عن الحرام الرجال ﴿الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً﴾ ولا يقدرون على مقدّماته من المهر وسائر لوازمه المتعارفة بالرياضة الكاسرة للشهوة ، كالصوم كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « يا معشر الشبّان ، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، ومن لم يستطع فعليه الصوم فانّه وجاء » (١) .

أقول : الباءة : هو الجماع ، واستعمل هنا في النّكاح ، والوجاء : رضّ انثيي الفحل رضا شديدا قامعا لشهوة الجماع.

والمراد أنّ الصوم كالرضّ قاطع للشهوة ، فعلى المؤمنين الفقراء أن يروّضوا أنفسهم بالصوم ، ويضعّفوا شهوتهم كي يحصل بذلك صيانة فروجهم وعفّة أنفسهم ﴿حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ﴾ باعطائهم ما يتزوّجون به ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وجوده.

وعن الصادق عليه‌السلام - في تفسيره - قال « يتزوّجون حتى يغنيهم الله » (٢) .

أقول : يعني الذين ليس لهم مؤنة النّكاح زائدة على معاشهم ، فليستعففوا بالتزويج ، بأن يستقرضوا ، أو يبيعوا من أثاثهم وغيره كي يغنيهم الله.

ثمّ إنّه تعالى بعد ترغيب الموالي في الإحسان إلى مماليكهم بالتزويج ، رغّبهم في الإحسان إليهم بمكاتبتهم إذا طلبوها لأن يتحرّروا ويتخلّصوا من ذلّ الرقيّة بقوله : ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ﴾ ويطلبون منكم أيّها الموالي ﴿الْكِتابَ﴾ وجعل مال عليهم بعوض عنتهم ﴿مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ﴾ من عبد أو أمة ﴿فَكاتِبُوهُمْ﴾ وأجيبوهم إلى ما طلبوه من بيعهم من أنفسهم ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ ورشدا لتحصيل مال الكتابة من الحلال وقدرة عليه كما قيل (٣) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن علمتم لهم حرفة ، فلا تدعوهم كلّا على الناس » (٤) .

__________________

(١) تفسير الصافي ٣ : ٤٣٣.

(٢) الكافي ٥ : ٣٣١ / ٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٣.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ١٧٢ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٤٩.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١٧.

٤٣٤

وقيل : يعني إن علمتم لهم صلاحا في الدين (١) .

وعن ابن عباس : إن علمتم لهم مالا ، وهو مرويّ عن الصادق عليه‌السلام (٢) .

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : « إن علمتم دينا ومالا » (٣) .

وفي الثالثة : « الخير أن يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، ويكون بيده عمل يكتسب به ، و(٤) يكون له حرفة » (٥) .

وعنه عليه‌السلام أنّه سئل عن العبد يكاتبه مولاه وهو يعلم أنّه ليس له قليل ولا كثير ؟ قال : « يكاتبه وإن كان يسأل الناس ، ولا يمنعه المكاتبة من أجل أنّه ليس له مال ، فإنّ الله عزوجل يرزق العباد بعضهم من بعض ، والمؤمن معان » (٦) .

أقول : حاصل مجموع الروايات أنّه يعتبر في استحباب المكاتبة إيمان العبد ، وتمكّنه من أداء مال الكتابة ، ولو بإعانة الغير.

ثمّ حثّ سبحانه الموالي إلى إكثار الإحسان إلى المكاتبين بقوله : ﴿وَآتُوهُمْ﴾ أيها الموالي ، وأدفعوا إليهم شيئا ﴿مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ﴾ ولو كان بعضا ممّا جعلتم عليهم من مال الكتابة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « كفى بالمرء شحّا أن يقول : آخذ حقّي ولا أترك منه شيئا » (٧) .

عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاما له ، فترك له ربع مكاتبته ، وقال : إنّ عليا عليه‌السلام كان يأمرنا بذلك ويقول : « هو قول الله تعالى : ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ﴾ فان لم تفعل فالسّبع » (٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « تضع [ عنه ] من نجومه التي لم تكن تريد أن تنقصه [ منها ] ، ولا تزيد فوق ما في نفسك » . فقيل : كم ؟ فقال : « وضع أبو جعفر عليه‌السلام [ عن مملوكه ] الفا من ستّة آلاف » (٩) .

وعنه عليه‌السلام : « لا تقول اكاتبه بخمسة آلاف وأترك له ألفا ، ولكن [ انظر ] إلى الذي أضمرت عليه فأعطه » (١٠) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١٨ ، تفسير البيضاوي ٢ : ١٢٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١٨ ، التهذيب ٨ : ٢٦٨ / ٩٧٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٣.

(٣) الكافي ٦ : ١٨٧ / ١٠ ، التهذيب ٨ : ٢٧٠ / ٩٨٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٣.

(٤) في من لا يحضره الفقيه وتفسير الصافي : أو.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٧٨ / ٢٧٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٣.

(٦) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٧٦ / ٢٦٨ ، وفيه : فالمحسن معان ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٣.

(٧) تفسير روح البيان ٦ : ١٤٩.

(٨) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١٨.

(٩) الكافي ٦ : ١٨٩ / ١٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٤.

(١٠) الكافي ٦ : ١٨٧ / ٧ ، عن أحدهما عليهما‌السلام ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٤.

٤٣٥

وعن ابن عباس : أنّ الخطاب لغير السادات (١) ، والمراد وآتوهم سهمهم الذي جعل الله لهم من الصدقات في قوله : ﴿وَفِي الرِّقابِ(٢) .

وقيل : هذا أمر من الله للسادة وللناس أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم (٣) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من آعان مكاتبا على فكّ رقبته أظلّه الله تعالى في ظلّ عرشه » (٤) .

وروي أن رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : علمني عملا يدخلني الجنّة. قال : « لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعظمت المسألة ، أعتق النّسمة وفكّ الرقبة » فقال : أليسا واحدا ؟ فقال : « لا ، عتق النّسمة أن تنفرد بعتقها ، وفكّ الرقبة أن تعين في ثمنها » (٥) .

روي أن صبيحا مولى خويطب بن عبد العزّى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فنزلت الآية (٦) .

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر الموالي بتزويج العبيد والإماء ومكاتبتهم ، نهى عن الاساءة إليهم بإكراههم على الفجور بقوله : ﴿وَلا تُكْرِهُوا﴾ أيها الموالي ﴿فَتَياتِكُمْ﴾ وإماءكم ﴿عَلَى الْبِغاءِ﴾ والفجور والتكسّب بفروجهن ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾ وتعفّفا.

قيل : إن الشرطية لبيان تحقّق موضوع الاكراه ، لأنّ الإكراه لا يتحقّق إلّا مع إرادة الأمة التعفّف(٧) .

وقيل : إن القيد مبنيّ على الغلبة ، كما في قوله : ﴿وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ(٨) .

وقيل : إنّ كلمة ( إن ) بمعنى إذا التوقيتية (٩) .

﴿لِتَبْتَغُوا﴾ وتطلبوا باكراههنّ على الفجور ﴿عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ وحطامها الفانية الدنيّة. روي أنه كان لعبد الله بن ابي ستّ جوار : معاذة ، ومسيكة ، واميمة ، وعمرة ، وأروى ، وقتيلة ، يكرههنّ على البغاء ، وضرب عليهن الضرائب ، فشكت ثنتان منهنّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت (١٠) .

وقيل : إن عبد الله بن ابي اسر رجلا ، فراود الأسير جارية عبد الله ، وكانت الجارية مسلمة ، فامتنعت منه لاسلامها ، فأكرهها ابن ابي على ذلك رجاء أن تحمل الجارية من الأسير ، فيطلب فداء ولده فنزلت (١١) .

وعن ابن عباس : أن عبد الله بن ابي جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه جارية من أجمل النساء تسمّى معاذة ، فقال : يا رسول الله هذه الأيتام (١٢) ، أ فلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا » فأعاد

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١٨ ، وفيه : السادة.   (٢) البقرة : ٢ / ١٧٧.

(٣و٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١٨.

(٥) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١٨. (٦) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١٧.

(٧) مجمع البيان ٧ : ٢٢١. (٨) النساء : ٤ / ٢٣.

(٩) تفسير الكشاف ٣ : ٢٤٠. (١٠) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٢٠.

(١١) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٢٠. (١٢) في تفسير الرازي : لأيتام فلان.

٤٣٦

الكلام فنزلت (١) .

وعن جابر بن عبد الله ، قال : جاءت جارية لبعض الناس فقالت : إنّ سيدي يكرهني على البغاء ، فنزلت (٢) .

والقمي رحمه‌الله : كانت العرب وقريش يشترون الإماء ، ويضعون (٣) عليهنّ الضريبة الثقيلة ، ويقولون: اذهبن وازنين واكتسبن ، فناههم الله عزوجل عن ذلك (٤) .

ثمّ بيّن سبحانه إحسانه بالمكرهات بقوله : ﴿وَمَنْ يُكْرِهْهُنَ﴾ على البغاء ﴿فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بهن لكونهنّ معذورات بسبب الإكراه ، وإنّما الإثم على المكرهين.

القمي رحمه‌الله : أي لا يؤاخذهنّ الله بذلك إذا أكرهن عليه (٥) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « هذه الآية منسوخة نسختها ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (٦) .

آقول : الرواية مخالفة للقاعدة المتّفق عليها.

﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً

 لِلْمُتَّقِينَ * اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ

 الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ

 زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ

 يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ

 عَلِيمٌ (٣٤) و (٣٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان الأحكام الكثيرة ، مدح كتابه الكريم بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ﴾ أيها الناس ﴿آياتٍ مُبَيِّناتٍ﴾ وأحكام واضحات بلسانكم ﴿وَمَثَلاً﴾ وقصة عجيبة نظيرة للقصص العجيبة المتواترة ﴿مِنَ﴾ الأقوام ﴿الَّذِينَ خَلَوْا﴾ ومضوا ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من الدنيا ، كرمي البرئ الذي وقع في شأن يوسف ومريم ، أو المراد إنا بيّنا قصة حلول العذاب بالامم الذين من قبلكم لتكذيبهم الرسل ، وجعلنا ذلك مثلا لكم ، لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العذاب

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٢٠.

(٣) في تفسير القمي : ويجعلون.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٠٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٤.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١٠٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٤.

(٦) تفسير القمي ٢ : ١٠٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٤ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ٢٥.

٤٣٧

﴿وَ﴾ انزلنا ﴿مَوْعِظَةً﴾ نافعة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ والخائفين من الله ، وسوء العاقبة من الوعيد ، والتحذير عن المعاصي ، كي تتعظوا بها وتتزجروا عنها.

ثمّ لما بيّن سبحانه الأحكام والحدود التي بها ينتظم العالم ، وتتّسق امور عيش بني آدم ، وكان ذلك من شؤون مديريته للكلّ ، وصف ذاته المقدّسة بكمال التدبير وغاية الحكمة ، أو من شؤون كونه هاديا إلى الخيرات ودليلا منجيا من الظلمات بقوله : ﴿اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ ومدبّرهما بقدرته الكاملة وحكمته البالغة ، وسائق الموجودات إلى كمالها اللائق بها برحمته الواسعة ، أو ناظمها أحسن نظام ، أو منوّرهما بالشمس والقمر والكواكب ، أو مظهرهما ومخرجهما من كتم العدم إلى الوجود ، أو مزيّن السماوات بالكواكب ، والأرض بالعلماء ، أو هاد لأهل السماوات ولأهل الأرض ، كما عن ابن عباس وأكثر مفسري العامة (١) . وعن الرضا عليه‌السلام أيضا (٢) .

وعن البرقي هدى من في السماوات ، وهدى من في الأرض (٣) .

ثمّ بيّن وضوح هدايته بقوله : ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ والحالة العجيبة لهدايته التي هي الآيات البيّنات الدالة على توحيده وكمال صفاته ، أو القرآن الذي هو نور ومظهر للصراط المستقيم ، أو الرسول الهادي إلى الدين القويم ، أو معارفه في قلوب المؤمنين كما عن ابن عباس (٤)﴿كَمِشْكاةٍ﴾ ومثل كوّة غير نافذة في الجدار موصوفة بأن (٥)﴿فِيها مِصْباحٌ﴾ وسراج ضخم مثير ثاقب يكون ذلك ﴿الْمِصْباحُ﴾ موضوعا ﴿فِي زُجاجَةٍ﴾ وقنديل صاف أزهر متلألئ ، تلك ﴿الزُّجاجَةُ﴾ بحيث تكون من غاية تلألوءها ﴿كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ﴾ مضيء متلأليء من الكواكب الدراري المشهورة كالمشتري والزّهرة والمرّيخ وعطارد وزحل و﴿يُوقَدُ﴾ ويشتعل ذلك المصباح بدهن ﴿مِنْ﴾ دهن ﴿شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ﴾ عظيمة النفع ، أو النابتة في الأرض المباركة ، تسمّى بشجرة ﴿زَيْتُونَةٍ﴾ التي دعا عليها سبعون نبيا منهم الخليل كما قيل (٦)﴿لا شَرْقِيَّةٍ﴾ تطلع عليها الشمس حين طلوعها دون غيرها ﴿وَلا غَرْبِيَّةٍ﴾ تقع عليها حين غروبها فقط ، بل تكون بين الجهتين كالشام ، فتكون ثمرتها في غاية النّضج ، وزيتها في غاية الصفاء ، لشروق الشمس عليها كلّ حين.

وقيل : يعني أنها لا توصف بالشرقية والغربية لأنّها من شجر الجنّة (٧) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٢٤ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٧٥ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٥٣.

(٢و٣) التوحيد : ١٥٥ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٣٨.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٣٣.

(٥) كذا ، والسياق يقتضي نصب كلمة ( مصباح ) وما بعدها ، إلّا أن تكون ( أن ) مخفّفة من الثقيلة مهملة.

(٦) مجمع البيان ٧ : ٢٢٥ ، تفسير الرازي ٢٣ : ٢٣٦ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٥٥.

(٧) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٣٦ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٥٥.

٤٣٨

ومن صفات تلك [ الشجرة ] أنّه ﴿يَكادُ زَيْتُها﴾ ودهن ثمرها ﴿يُضِيءُ﴾ بنفسه وينوّر ما حوله ﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ﴾ ولم تصبه ﴿نارٌ﴾ لغاية صفائه وتلألئه ، فكيف إذا أصابته نار ، فذلك المصباح الموقد المنير غايته مع اجتماع نوره في المشكاة والكوّة ، وانضمام نوره بصفاء دهنه وتلألؤ زجاجته كان له ﴿نُورُ﴾ شديد مضاعف ﴿عَلى نُورٍ﴾ شديد بحيث بلغت شدّته غايتها.

وحاصل المعنى أنه بناء على كون المراد بالنور في قوله : ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ الهداية أو القرآن أنّ هداية الله تعالى أو حقّانية القرآن قد بلغت في الظهور والجلاء الى أقصى الغايات ، وصارت في الظهور بمنزلة المشكاة التي فيها زجاجة صافية متلألئة ، وفي الزجاجة مصباح متوقّد بزيت له نهاية الصفاء ، وإنّما شبّهها سبحانه بذلك ، مع أنّ التشبيه بضوء الشمس أبلغ ؛ لأنّ المقصود التشبيه بضوء كامل ظاهر بين الظلمات ، وليس ضوء الشمس كذلك ، لأنّه إذا ظهر امتلأ العالم ولا تبقى ظلمة فيه ﴿يَهْدِي اللهُ﴾ بهدايته الخاصة الموصلة ﴿لِنُورِهِ﴾ وشرعه وأحكامه ، أو إلى فهم ما في القرآن من دلائل حقانيته والعلوم والمعارف ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ هدايته من عباده ﴿وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ﴾ ويقرب المطالب العقلية العالية إلى الأفهام القاصرة بتصويرها بصورة المحسوسات لطفا بالعباد ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من المعقولات والمحسوسات ودقائقها وجلائلها ، وضرب الأمثال وغيرها ﴿عَلِيمٌ ،﴾ وأمّا بناء على كون المراد من النور نور الايمان ، فالمراد تشبيه صدر المؤمن بالمشكاة ، وقلبه بالزّجاجة الكائنة في المشكاة ، والإيمان بالمصباح المنير ، وحصوله من البرهان والعيان بتوقّد المصباح من دهن الزيتون الصافي.

عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه ، في هذه الآية : ﴿اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال : « بدأ بنور نفسه ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ يعني مثل هداه في قلب المؤمن ﴿كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ﴾ المشكاة جوف المؤمن ، والقنديل قلبه ، والمصباح النّور الذي جعله الله فيه (١)﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾ قال : الشجرة المؤمن ﴿لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ﴾ قال : على سواء الجبل ، لا شرقية أي لا شرق لها ، ولا غربية أي لا غرب لها ، إذا طلعت الشمس طلعت عليها ، وإذا غربت غربت عليها ﴿يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ﴾ يكاد [ النور ] الذي جعله الله في قلبه يضيء وإن لم يتكلّم ﴿نُورٌ عَلى نُورٍ﴾ فريضة بعد (٢) فريضة ، وسنّة بعد (٣) سنّة ﴿يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ﴾ قال : يهدي الله لفرائضه وسننه من يشاء ﴿وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ﴾ قال : فهذا مثل ضربه الله للمؤمن ، قال : فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور : مدخله

__________________

(١) في تفسير القمي : الله في قلبه.

(٢و٣) في تفسير القمي : على.

٤٣٩

نور ، ومخرجه نور ، وعلمه نور ، وكلامه نور ، ومصيره يوم القيامة إلى الجنّة والنور » (١) .

قال الراوي : قلت لجعفر عليه‌السلام : إنّهم يقولون مثل نور الرب ؟ قال : « سبحان الله ليس لله مثل ، أما قال ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ؟ (٢) .

وقيل : إن المراد بالنور هو المعارف الالهية (٣) ، فشبّه سبحانه صدر المؤمن بالمشكاة ، وقلبه بالزّجاجة ، وعرفانه بالمصباح ، وتوقّده من الشجرة المباركة حصوله من إلهامات الملائكة ، وإنّما شبّه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم ، وإنما وصفها بأنها لا شرقية ولا غربية لأنها روحانية ، وإنما وصفهم بقوله : ﴿يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ﴾ لكثرة علومهم وإطلاعهم على أسرار ملكوت الله.

وقيل : إن المراد من النور دين الإسلام (٤) ، فشبّه سبحانه صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمشكاة ، وقلبه بالزّجاجة ، ودينه بالمصباح ، وتوقّده من شجرة مباركة وصوله إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من إبراهيم ، فانّ دين الاسلام هو ملّة إبراهيم ، ثمّ وصف إبراهيم بكونه لا شرقية ولا غربية ، لأنّه لم يصلّ قبل المشرق كالنصارى وقبل المغرب كاليهود ، بل صلّى إلى الكعبة.

وقيل : إن المراد من النور نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فشبّه صلب عبد الله بالمشكاة ، وجسد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالزّجاجة ، ونبوّته في قلبه بالمصباح (٥) .

وقيل : إنّ في الآية قلبا ، والتقدير : مثل نوره كمصباح في مشكاة (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام ﴿اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال : « كذلك الله عزوجل ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ قال : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿كَمِشْكاةٍ﴾ قال : صدر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿فِيها مِصْباحٌ﴾ قال : فيه نور العلم ، يعني النبوة ﴿الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ﴾ قال : علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صدر إلى قلب علي عليه‌السلام ﴿الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ﴾ قال : ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، لا يهودي ولا نصراني ﴿يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ﴾ [ قال : يكاد ] يخرج العلم من فم [ العالم من ] آل محمّد من قبل أن ينطق به ﴿نُورٌ عَلى نُورٍ﴾ قال : الامام في أثر الإمام » (٧) .

« وعن الباقر عليه‌السلام - فى حديث - « يقول الله : أنا هادي السماوات والأرض ، مثل العلم الذي أعطيته وهو النور الذي يهتدى به مثل المشكاة فيها المصباح ، المشكاة قلب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والمصباح نوره

__________________

(١) في تفسير القمي والصافي : الجنة نور.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٦ ، والآية من سورة النحل : ١٦ / ٧٤.

(٣و٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٣٢ و٢٣٣.

(٥و٦) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٣٥.

(٧) التوحيد : ١٥٧ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٣٥.

٤٤٠