نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

ثمّ أشار سبحانه إلى قصص الامم الكثيرة الاخر بقوله : ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً﴾ وأقواما ﴿آخَرِينَ﴾ كقوم لوط وشعيب وغيرهم ، ولقد كان لكلّ قرن وامّة أجل مقدّر مكتوب لموتهم وهلاكهم و

﴿ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عنه.

قيل : يعني لا يتقدّمون الوقت المؤقّت لعذابهم إن لم يؤمنوا ، ولا يتأخّرون عنه ، وذلك الوقت وقت علم الله أنّهم لا يزدادون إلّا كفرا وعنادا ، ولا يلدون إلّا فاجرا كذّابا ، ولا نفع لأحد في بقائهم ، ولا ضرر على أحد في هلاكهم (١) .

ثمّ بيّن سبحانه أنّه كما أنشأ الامم الكثيرة بعضهم بعد بعض ، أرسل إليهم الرّسل واحدا بعد واحد بقوله : ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنا﴾ إليهم ﴿رُسُلَنا﴾ حال كونهم ﴿تَتْرا﴾ ومتعاقبة على نحو تعاقب الامم ، فكان لكلّ قرن وأمّة رسول ، ولكن ﴿كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ﴾ وعارضوه ﴿فَأَتْبَعْنا﴾ القرون ﴿بَعْضَهُمْ بَعْضاً﴾ في الإهلاك ﴿وَجَعَلْناهُمْ﴾ بعد إهلاكهم وإذهاب أعيانهم وآثارهم من وجه الأرض ﴿أَحادِيثَ﴾ وحكايات لمن بعدهم يتحدّثون بها في أنديتهم ، ويحكون قضاياهم ، ويتعجبون منها ، ويعتبرون بها. وقيل : إنّه جمع أحدوثة ، وهي ما يتحدّث به تلهيّا أو تعجّبا (٢) .

ثمّ ذمّهم سبحانه ووبّخهم بقوله : ﴿فَبُعْداً﴾ أبديّا وهلاكا دائميّا ، أو المراد يكون انقطاعا أبديّا من الرّحمة ﴿لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بآيات الله ورسله.

﴿ثُمَّ أَرْسَلْنا﴾ بعد انقراض تلك الامم وإهلاكهم ﴿مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا﴾ التّسع ﴿وَسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ وحجّة واضحة على رسالتهما وصحّة دعواهما من البراهين العقليّة ، أو أعظم معجزاته وهي العصا ، أو المراد منه قوّة دلالة معجزاتهما على مدّعاهما ﴿إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ﴾ وأشراف قومه ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ وتعظّموا من قبول قولهما ، وتأنّفوا عن الإيمان بهما والاعتراف بمعجزاتهما ﴿وَكانُوا قَوْماً عالِينَ﴾ ومجاوزين عن الحدّ في الكبر والتّمرّد والطّغيان ﴿فَقالُوا﴾ فيما بينهم تكبّرا أو نصحا : لا ينبغي منّا الإيمان بهما ﴿أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا﴾ ونتّبعهما ، والحال أنّ بني إسرائيل الذين هم يكونون أقرباؤهما ﴿وَقَوْمُهُما﴾ جميعا ﴿لَنا عابِدُونَ﴾ وكالمماليك لنا خادمون. قيل : إنّ فرعون كان يعبد الصّنم ، وبنو إسرائيل كانوا يعبدونه (٣)﴿فَكَذَّبُوهُما﴾ مصرّين على معارضتهما حتى يئسا من إيمانهم ﴿فَكانُوا﴾ بسبب تكذيبهما محكومين بكونهم ﴿مِنَ الْمُهْلَكِينَ﴾ بالغرق في البحر.

﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ١٠٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ١٠٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٨٤.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٨٦.

٣٨١

وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٤٩) و (٥٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد إخباره بسخطه على مكذّبي موسى ، أخبر بلطفه به وبالمؤمنين به بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى﴾ في الطّور لطفا به وبامّته ﴿الْكِتابَ﴾ المعهود المسمّى بالتّوراة بعد إهلاك فرعون وقومه وإنجاء بني إسرائيل ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ بذلك الكتاب وبما فيه من العلوم والشّرائع ﴿يَهْتَدُونَ﴾ إلى كلّ حقّ وخير.

ثمّ ذكر سبحانه ألطافه بعيسى ومريم رغما لليهود بقوله : ﴿وَجَعَلْنَا﴾ عيسى ﴿ابْنَ مَرْيَمَ﴾ بسبب ولادته بنفخ روح القدس وتكلّمه في المهد وإجراء المعجزات العظيمة على يده ﴿وَأُمَّهُ﴾ مريم بسبب تكلّمها في الصّغر كابنها ، على ما قيل (١) . وعدم ارتضاعها من ثدي قطّ ، واحتبالها بغير فحل ﴿آيَةً﴾ عظيمة على كمال قدرتنا. وقيل : يعني جعلناهما عبرة لبني إسرائيل بعد موسى (٢)﴿وَآوَيْناهُما﴾ وأسكنّاهما بعد فرارهما من اليهود ﴿إِلى رَبْوَةٍ﴾ ومكان مرتفع من الأرض. قيل : هو إيليا من أرض بيت المقدس ، فإنّها مرتفعة (٣) . وقيل : إنّها كبد الأرض (٤) . وقيل : هو قرية ناصرة (٥) كانت ﴿ذاتِ قَرارٍ﴾ وانبساط تسهل السّكونة فيها ، أو ذات ثمار وزروع ﴿وَ﴾ ذات ﴿مَعِينٍ﴾ وماء جار.

عن الصادق عليه‌السلام : « الرّبوة : نجف الكوفة ، والمعين الفرات » (٦) . قيل : إنّ مريم وعيسى ويوسف بن ماثان ابن عمّها ، أقاموا بها اثنتي عشرة سنة ، وكانت تفتل الحبل وعيسى عليه‌السلام يبيعه ويأكل من ثمنه (٧) .

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى الصّبح بمكّة فقرأ سورة المؤمنين ، فلمّا أتى على ذكر عيسى وأمّه أخذته شرقة فركع (٨) . قيل : الشّرقة : شدّة البكاء.

﴿يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ

 هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ

 حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥١) و (٥٤)

ثمّ أخبر الله تعالى بتكاليف الأنبياء تهييجا للعباد على العمل بها بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ﴾ المأكولات ﴿الطَّيِّباتِ﴾ والأغذية المستلذّات المحلّلات ﴿وَاعْمَلُوا﴾ لله كلّما كان ﴿صالِحاً﴾ فإنّه المقصود منكم والنّافع لكم ﴿إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الأعمال الظّاهرة والباطنة ﴿عَلِيمٌ﴾ فاجازيكم

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ١٠٢.

(٢-٥) تفسير روح البيان ٦ : ٨٦.

(٦) كامل الزيارات : ٤٧ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٣٨ / ٧٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠١.

(٧و٨) تفسير روح البيان ٦ : ٨٦.

٣٨٢

عليه ﴿وَإِنَّ هذِهِ﴾ الملّة التي هي ملّة الإسلام والتّوحيد ﴿أُمَّتُكُمْ﴾ وملّتكم حال كونها ﴿أُمَّةً﴾ وملّة ﴿واحِدَةً﴾ وشريعة متّحدة في الاصول وإن اختلفت في الفروع.

وقيل : كلمة ( هذه ) إشارة إلى جماعة الامم المؤمنة بالرّسل ، والمعنى : إنّ هذه الجماعة المتّفقة على الإيمان بالتّوحيد والرّسل المتّحدة في عبادة الله امّتكم (١)﴿وَأَنَا﴾ وحدي ﴿رَبُّكُمْ﴾ لا شريك لي في الالوهيّة والرّبوبيّة ، إذا ﴿فَاتَّقُونِ﴾ أيّها الرّسل والامم جميعا في اختلاف الكلمة في التّوحيد والدّين ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ﴾ ودينهم ﴿بَيْنَهُمْ زُبُراً﴾ وقطعا ، وقد مرّ تفسيره في سورة الأنبياء (٢)﴿كُلُّ حِزْبٍ﴾ وفرقة من الفرق ﴿بِما لَدَيْهِمْ﴾ واختاروه من الدّين ﴿فَرِحُونَ﴾ ومعجبون ، لاعتقادهم حقّانيّته ﴿فَذَرْهُمْ﴾ ودعهم يا محمّد ﴿فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ وجهالتهم الّتي أحاطت بهم كالماء الذي ارتمسوا فيه ، ولا تشغل قلبك بهم وبتفرّقهم ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ موتهم على الكفر ، أو قتلهم ، أو نزول العذاب عليهم ، وفيه وعيد لهم وتسلية للرّسول ، وفي تنكير ﴿حِينٍ﴾ وإبهام الوقت نهاية التّهويل.

﴿أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ * نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا

 يَشْعُرُونَ (٥٥) و (٥٦)

ثمّ لمّا كان الكفّار يفتخرون على المؤمنين بكثرة المال والبنين ، ويحسبون أنّ تنعّمهم بتلك النّعم لقربهم عند الله والتزامهم بدين الحقّ ، أنكر سبحانه عليهم ذلك الحسبان بقوله : ﴿أَ يَحْسَبُونَ﴾ ويتوهّمون ﴿أَنَّما نُمِدُّهُمْ﴾ ونقوّيهم ﴿بِهِ مِنْ مالٍ﴾ عظيم ﴿وَبَنِينَ﴾ كثيرة أنّا ﴿نُسارِعُ﴾ ونعجّل ﴿لَهُمْ﴾ بهذا الإمداد ﴿فِي الْخَيْراتِ﴾ والمثوبات والأجر على تديّنهم بدين الحقّ وعملهم به ؟ ! ليس الأمر كما يحسبون ﴿بَلْ﴾ هذا الحسبان لأنّهم ﴿لا يَشْعُرُونَ﴾ أنّ هذا الإمداد استدراج واستجرار بهم إلى الشّرّ وزيادة الإثم ، لا مسارعة لهم إلى الخير.

روي أنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّ من الأنبياء : أيفرح عبدي أن أبسط له في الدّنيا وهو أبعد له منّي ؟ ! أيجزع عبدي أن أقبض عنه الدّنيا وهو أقرب له منّي ؟ ! ثمّ قال : ﴿أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ﴾ إلى آخره(٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام عن أبيه ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : [ إنّ الله تعالى ] يقول : يحزن عبدي المؤمن إذا أقترت عليه شيئا من الدّنيا ، وذلك أقرب له منّي ، ويفرح إذا بسطت له الدّنيا ، وذلك أبعد له منّي ، ثمّ تلا هذه الآية ، ثمّ قال : إنّ ذلك فتنة لهم » (٤) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ١٣٨.

(٢) في تفسير الآية ٩٣.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٩٠.

(٤) مجمع البيان ٧ : ١٧٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٣.

٣٨٣

﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ *

 وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ

 إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ * أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٥٧) و (٦١)

ثمّ وصف سبحانه الّذين يسارع لهم في الخيرات بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ﴾ ومهابته وخوف عذابه ﴿مُشْفِقُونَ﴾ ووجلون ، أو مرتعدون. وقيل : إنّ المراد من الخشية نفس العذاب ، والمعنى أنّ الّذين هم من عذاب ربّهم خائفون (١) . وقيل : إنّ المراد من الإشقاق شدّة الخوف (٢) . وقيل : هو الدّوام في الطاعة (٣) .

﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ﴾ وحدانيّة ﴿رَبِّهِمْ﴾ الآفاقيّة والأنفسيّة والمنزلة بتوسّط الأنبياء وشواهد كمال ذاته المقدّسة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ ويصدّقون بالقلب واللّسان والجوارح ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ﴾ في الالوهيّة والرّبوبيّة والعبادة ﴿لا يُشْرِكُونَ﴾ غيره شركا جليّا أو خفيّا ، ولا يقصدون بأعمالهم غيره ، ولا يتوجّهون إلى سواه ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ﴾ ويعطون ﴿ما آتَوْا﴾ وأعطوا من الصّدقات والكفّارات وغيرهما من حقوق الله ، ومن الأمانات والدّيون وغيرهما من حقوق النّاس ﴿وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ وخائفة أو مرتعدة من تقصيرهم وإخلالهم في الأداء بتنقيص أو غيره ، لكونهم معتقدين ﴿أَنَّهُمْ﴾ بعد الموت ﴿إِلى رَبِّهِمْ﴾ ومليكهم ﴿راجِعُونَ﴾ وعن تقصيراتهم مسؤولون ، لعلمه تعالى بما يخفى عليهم من الخلل ويؤاخذهم عليه.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « هي إشفاقهم ورجاؤهم ؛ يخافون أن تردّ عليهم أعمالهم إن لم يطيعوا الله عزّ ذكره ويرجون أن تقبل منهم » (٤) .

وعنه عليه‌السلام : ﴿ وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ معناه خائفة أن لا يقبل منهم » (٥) . وفي رواية : « يؤتى ما أتى وهو خائف راج » (٦) .

وعنه عليه‌السلام في هذه الآية : « يعملون ما عملوا من عمل وهم يعلمون أنّهم يثابون عليه » (٧) .

وعنه عليه‌السلام في رواية : ألا ومن عرف حقّنا ، ورجا الثّواب فينا ، ورضي بقوته نصف مدّ في كلّ يوم ، وما ستر عورته ، وما أكنّ رأسه ، وهم والله في ذلك خائفون ، ودّوا أنّه حظّهم من الدّنيا ، وكذلك وصفهم الله تعالى فقال : ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا﴾ إلى آخره » .

ثمّ قال : « ما [ الذي ] آتوا ؟ والله الطاعة مع المحبّة والولاية ، وهم في ذلك خائفون ، ليس خوفهم

__________________

(١-٣) تفسير الرازي ٢٣ : ١٠٦.

(٤) الكافي ٨ : ٢٢٩ / ٢٩٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٢.

(٥و٦) مجمع البيان ٧ : ١٧٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٢.

(٧) المحاسن : ٢٤٧ / ٢٥٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٢.

٣٨٤

خوف شكّ ، ولكنّهم خافوا أن يكونوا مقصّرين في محبّتنا وطاعتنا » (١) .

﴿أُولئِكَ﴾ المتّصفون بتلك الصفات الحميدة هم الذين بأعمالهم الصالحة ﴿يُسارِعُونَ﴾ إلى نيل المثوبات في الدّنيا ويتقلّبون ﴿فِي الْخَيْراتِ﴾ والمنافع الكثيرة في الدّارين كما قال تعالى : ﴿فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ(٢)﴿وَهُمْ لَها سابِقُونَ﴾ حيث عجّلت لهم في الدّنيا ، ونالوها قبل الآخرة ، فأثبت الله للمؤمنين ما نفاه عن الكفّار.

وفي إسناد المسارعة إليهم إشعار بغاية استحقاقهم ، فكأنّ الله قرّب إليهم الخيرات حتى يسارعوا إليها ويخيّروها.

وقيل : إنّ المراد من الخيرات الطاعات المؤدّية إلى الثواب ، والمعنى يجتهدون في الطّاعات بأشدّ الشّوق والرّغبة ، وهم لأجلها سابقون النّاس خوفا من أن يدركهم الموت ويبتلوا بحسرة الفوت (٣) .

عن الباقر عليه‌السلام : « هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، لم يسبقه أحد » (٤) .

أقول : يعني هو عليه‌السلام أظهر مصاديقه.

﴿وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)

ثمّ رغّب سبحانه المؤمنين المهتمّين بالطّاعة فيها ، ببيان منّته عليهم بتسهيل تكاليفه ووعدهم بالثّواب بقوله : ﴿وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً﴾ من النّفوس تكليفا ﴿إِلَّا﴾ ما كان ﴿وُسْعَها﴾ ودون طاقتها بحيث لا تكون في امتثاله مشقّة عليها ﴿وَلَدَيْنا كِتابٌ﴾ مكتوب فيه أعمال النّاس أو طاعات المسارعين والسّابقين ﴿يَنْطِقُ﴾ ويبيّن الأعمال للنّاظرين فيه كالنّطق بها حال كونه ملتبسا ﴿بِالْحَقِ﴾ والصّدق ومطابقة الواقع كمّا وكيفا ﴿وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ بتنقيص الثّواب وازدياد العقاب.

عن السجّاد عليه‌السلام أنّه كان إذا دخل شهر رمضان يكتب على غلمانه ذنوبهم حتى إذا كان آخر ليلة منه دعاهم ، ثمّ أظهر لهم الكتاب وقال : « يا فلان فعلت كذا وكذا ولم اؤدّبك » فيقرّون أجمع ، فيقوم وسطهم ويقول : « ارفعوا أصواتكم وقولوا : يا عليّ بن الحسين ، ربّك قد أحصى عليك ما عملت كما أحصيت علينا ، ولديه كتاب ينطق بالحقّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، فاذكر ذلّ مقامك بين يدي ربّك الذي لا يظلم مثقال ذرّة وكفى بالله شهيدا ، فاعف واصفح يعف عنك المليك لقوله تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ(٥) » ويبكي وينوح (٦) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٣٠ / ١٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٢.

(٢) آل عمران : ٣ / ١٤٨.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ١٤٠.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٩٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٣.

(٥) النور : ٢٤ / ٢٢.

(٦) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ١٥٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٣.

٣٨٥

﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ *

 حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا

 لا تُنْصَرُونَ * قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ *

 مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٣) و (٦٧)

ثمّ ذمّ سبحانه الكفّار على غفلتهم من ذلك الكتاب بقوله : ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ﴾ وغفلة ساترة لها ﴿مِنْ هذا﴾ الكتاب الذي فيه جميع أعمالهم ، وقراءته عليهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ، فيجازون عليها ، أو من هذا القرآن ، أو من هذا الذي بيّناه فيه ﴿وَلَهُمْ أَعْمالٌ﴾ سيّئة أخر كمعاداة الرّسول ، والطّعن فيه وفي كتابه ﴿مِنْ دُونِ﴾ ما ذكر من الشّرك والغفلة عن الآخرة ، وسوى ﴿ذلِكَ هُمْ﴾ بخبث ذاتهم ورذالة أخلاقهم ﴿لَها عامِلُونَ﴾ وعليها مستمرّون ﴿حَتَّى إِذا أَخَذْنا﴾ وابتلينا ﴿مُتْرَفِيهِمْ﴾ ومتنعّميهم ﴿بِالْعَذابِ﴾ الدنيويّ والاخروي ﴿إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ ويستغيثون ، أو بأعلى صوتهم يضجّون ، فيقال لهم تقريعا وتبكيتا : ﴿لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ﴾ ولا تستغيثوا في هذا الوقت الّذي هو وقت إعطاء ما تستحقّون من الجزاء ﴿إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ﴾ ولا تعاونون على ما دهمكم من العذاب ، ولا تنجون منه لأنّه ﴿قَدْ كانَتْ آياتِي﴾ القرآنيّة ﴿تُتْلى﴾ وتقرأ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ في الدّنيا ﴿فَكُنْتُمْ﴾ عند سماعها ﴿عَلى أَعْقابِكُمْ﴾ من شدّة النّفرة والإعراض عنها ﴿تَنْكِصُونَ﴾ وترجعون القهقرى ، والحال أنّكم (١)﴿مُسْتَكْبِرِينَ﴾ بالتّباعد من القرآن ومكذّبين ﴿بِهِ. وقيل : إنّ الضّمير راجع إلى الحرم ، لكونهم مفتخرين به ، وكانوا يقولون : لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم ، وشهرتهم به كافية عن ذكره(٢).

وقيل : إنّ ﴿بِهِ﴾ متعلّق بقوله : ﴿سامِراً﴾ والمعنى حال كونكم بذكر القرآن وبالطّعن فيه (٣) كنتم ﴿سامِراً﴾ ومتكلّما باللّيل. كما قيل : إنّهم كانوا يجتمعون باللّيل حول البيت ويسمرون ويتحدّثون بذكر القرآن والطّعن فيه (٤) ، و﴿تَهْجُرُونَ﴾ وتفحشون وتهزؤون بنسبته إلى الشّعر والسّحر وبسبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والقدح فيه.

﴿أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا

__________________

(١) كذا ، ولا تناسب النصب في الآية ، ولعلها تصحيف ( كونكم ) .

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ١١١.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ١١١ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٤٣.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ١١١ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٤٣ ، تفسير روح البيان ٦ : ٩٣.

٣٨٦

رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ

 لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٦٨) و (٧٠)

ثمّ وبّخهم سبحانه على عدم الإيمان بالقرآن بقوله : ﴿أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا﴾ هذا ﴿الْقَوْلَ﴾ والكلام النّازل من الله ، ولم يتفكّروا في وجوه إعجازه ، وبداعة اسلوبه ، ولطافة معانيه ﴿أَمْ جاءَهُمْ﴾ قيل : إنّ المعنى بل أجاءهم (١)﴿ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ من الكتب السّماويّة حتى يستبعدوا إتيانه من السّماء وينكروه ، مع أنّ إنزال الكتب وإرسال الرّسل سنّة قديمة من الله تعالى بحيث لا يمكن إنكارها ؟ فليس لإنكارهم كون القرآن كسائر الكتب نازلا من الله وجه.

ثمّ أنكر عليهم عدم إيمانهم بالرّسول بقوله : ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ﴾ بالصّدق والأمانة وحسن الأخلاق وكمال العلم مع اميّته وغيرها من كمالات الأنبياء ﴿فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ ولنبوّته جاحدون ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ واختلال عقل ، ولذا لا يعتنى بقوله ؟ ليس الأمر كما يقولون ﴿بَلْ﴾ هو أعقل النّاس و﴿جاءَهُمْ بِالْحَقِ﴾ والدّين الثّابت الّذي لا ينبغي الانحراف عنه ﴿وَ﴾ لكنّ ﴿أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ لمخالفته أهواءهم الزائغة وشهواتهم الباطلة ، فلذا تمسّكوا بالتّقليد ، وزاغوا عن نهج الحقّ والدّين القويم ، وأمّا الأقلّون منهم فإنّهم أعرضوا عن الحقّ لاستنكافهم من توبيخ قومهم ، أو لعدم تفكّرهم فيه ، أو لقصور العقل ، لا للكراهة له.

﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ

 بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ

 خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ

 بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧١) و (٧٤)

ثمّ لمّا كان هوى المشركين في كون الشّرك ودينهم الباطل حقّا ، ردّهم الله بقوله : ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُ﴾ والدّين ﴿أَهْواءَهُمْ﴾ ومشتهيات أنفسهم ، ونزل القرآن موافقا لميل قلوبهم في الشّرك وتعدّد الآلهة ﴿لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ﴾ من الملائكة والثّقلين ، لما سبق في سورة الأنبياء من دليل التّمانع ، أو المراد لو اتّبع أحكام الإسلام أهواءهم مع تخالفها ، لوقع التّناقض فيها ، ولاختلّ نظام العالم.

عن القمّي : الحقّ : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام ... وفساد السماء : إذا لم تمطر ، وفساد الأرض

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ١٤٣ ، تفسير روح البيان ٦ : ٩٤.

٣٨٧

إذا لم تنبت ، وفساد الناس في ذلك (١) .

﴿بَلْ أَتَيْناهُمْ﴾ وأنعمنا عليهم ﴿بِذِكْرِهِمْ﴾ والقرآن الذي فيه شرفهم وفخرهم وصيتهم ، أو وعظهم ونصحهم ، وما فيه صلاحهم. وقيل : هو الذكر الذي كانوا يتمنّونه بقولهم : ﴿لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ* لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ(٢) .

﴿فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ﴾ لغاية حمقهم ﴿مُعْرِضُونَ﴾ وبه لا يعتنون ، مع أنّ العاقل مشتاق إلى ما فيه خيره وشرفه ﴿أَمْ﴾ يتوهّمون أنّك ﴿تَسْأَلُهُمْ﴾ وتطلب منهم ﴿خَرْجاً﴾ وأجرا على أداء الرسالة ، فيمنعهم البخل بالمال ، أو اتّهامك بكون دعواك الرسالة لجلب المال وحبّ الدنيا لا لإطاعة الله ﴿فَخَراجُ رَبِّكَ﴾ ورزقه الذي أوجبه لك على نفسه في الدنيا ، وثوابه الذي أعدّه لك في الآخرة ﴿خَيْرٌ﴾ من جميع ما بأيديهم من الأموال ، بل من جميع الدّنيا لسعة عطائه ودوامه ﴿وَهُوَ﴾ تعالى ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ والمعطين لعدم قدرة أحد على مثل عطائه ، فلا وجه لاعراضهم عنك وعدم إيمانهم بك ﴿وَإِنَّكَ﴾ والله ﴿لَتَدْعُوهُمْ﴾ وتهديهم ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ موصل إلى كلّ خير ، وتأويله - كما عن القمّي - إلى ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣) .

﴿وَإِنَ﴾ المشركين ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ ولا يخافون عقاب الله في القيامة ، لانهماكهم في الشهوات وحبّ الدنيا ﴿عَنِ﴾ هذا ﴿الصِّراطِ﴾ المستقيم ﴿لَناكِبُونَ﴾ ولعادلون ؛ لأنّ خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحقّ.

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الله تعالى لو شاء لعرّف العباد نفسه ، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يوتى منه ، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا ، فإنّهم عن الصراط لناكبون » (٤) .

﴿وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ

 أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذا فَتَحْنا

 عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧١) و (٧٧)

ثمّ ذمّهم الله بغاية اللّجاج والتمرّد بقوله : ﴿وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ﴾ كالجوع والمرض والقتل والسبي ﴿لَلَجُّوا﴾ وتمادوا ﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ وإفراطهم في الكفر والشّقاق وعداوة

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٩٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٥.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ١١٢ ، والآية من سورة الصافات : ٣٧ / ١٦٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٩٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٥.

(٤) الكافي ١ : ١٤١ / ٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٦.

٣٨٨

الرسول حال كونهم ﴿يَعْمَهُونَ﴾ عن الهدى ، ويتردّدون في شعب الضّلال ، لا يدرون الى أين يتوجّهون ﴿وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ﴾ وشدّة الجوع ﴿فَمَا اسْتَكانُوا﴾ وما تذلّلوا ﴿لِرَبِّهِمْ﴾ اللّطيف بهم ﴿وَما يَتَضَرَّعُونَ﴾ له أبدا.

روي أنه لمّا أسلم ثمامة بن اثال الحنفي ، ولحق باليمامة ، ومنع الميرة عن أهل مكّة ، وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز (١) - قيل : هو شيء يتخّذونه من الدم والوبر (٢) - وقيل : حتى أكلوا الجيف (٣) ، جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ، فقال : أنشدك بالرّحم ، أ لست تزعم أنّك بعثت رحمة للعالمين ؟ فقال : « بلى » . فقال : قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع ، فادع أن يكشف عنّا هذا القحط ، فدعا فكشف عنهم ، فأنزل الله هاتين الآيتين (٤) .

وقيل : إنّ المراد بالعذاب القتل والأسر يوم بدر (٥) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « الاستكانة : هي الخضوع ، والتضرّع : رفع اليدين والتضرّع بهما » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « الاستكانة : الدعاء ، والتضرّع : رفع اليدين في الصلاة » (٧) .

وحاصل المراد : أنّهم أقاموا على الكفر والاستكبار ﴿حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ في الآخرة ﴿إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ وآيسون من النجاة ومن كلّ خير.

قيل : هو باب من أبواب جهنّم ، عليه من الخزنة أربعمائة ألف ، سود وجوههم ، كالحة (٨) أنيابهم ، قد قلعت الرحمة من قلوبهم ، إذا بلغوه فتحه الله عليهم (٩) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « ذلك حين دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : اللهمّ اجعل عليهم سنين كسنيّ يوسف ، فجاعوا » (١٠) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « هو في الرجعة » (١١) .

﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ * وَهُوَ

 الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ

 اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٧٨) و (٨٠)

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ١٤٦ ، تفسير روح البيان ٦ : ٩٧.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٩٧.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ١١٣.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ١١٣ ، تفسير روح البيان ٦ : ٩٧.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٩٨.

(٦) الكافي ٢ : ٣٤٩ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٦.

(٧) مجمع البيان ٧ : ١٨١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٦.

(٨) كلح : تكشّر في عبوس ، وقيل : الكلوح في الأصل بدوّ الأسنان عند العبوس.

(٩) تفسير روح البيان ٦ : ٩٨.

(١٠ و١١) مجمع البيان ٧ : ١٨١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٦.

٣٨٩

ثمّ ذكر سبحانه كمال قدرته وإنعامه عليهم بقوله : ﴿وَهُوَ﴾ القادر و﴿الَّذِي أَنْشَأَ ،﴾ وخلق ﴿لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ لتستعملوها في تحصيل معرفته ، ولكن ﴿قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ﴾ نعمه العظام ، بل تكفرونها باستعمالها في غير ما خلقت له.

ثمّ أردف ذكر هذه النّعم بذكر ما هو أعظم منها بقوله : ﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ﴾ وخلقكم أو بثّكم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ بالتناسل ﴿وَإِلَيْهِ﴾ تعالى ﴿تُحْشَرُونَ﴾ وتجمعون بعد التفرّق ، وتعذّبون على كفران نعمه ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي﴾ الموتى ﴿وَيُمِيتُ﴾ الأحياء بمقتضى فياضيّته ورحمته وحكمته ﴿وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ﴾ بالتعاقب والزيادة والنقص ﴿أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾ أيّها المشركون تلك الآيات الواضحة الدلالة على التوحيد والقدرة على إعادة الخلق للحساب.

﴿بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ * قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَ إِنَّا

 لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ

 الْأَوَّلِينَ (٨١) و (٨٣)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه الحشر ، حكى من المشركين إنكاره بالتقليد وتبعية الآباء مع دلالة البراهين القاطعة عليه بقوله : ﴿بَلْ﴾ أعرضوا عن البراهين و﴿قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ﴾ والكفار السابقون تقليدا لهم.

ثمّ كأنّه قيل : ما قال المشركون ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿قالُوا﴾ انكارا للحشر ﴿أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا﴾ في القبور ﴿تُراباً وَعِظاماً﴾ نخرة ﴿أَ إِنَّا﴾ لمحيون ثانيا و﴿لَمَبْعُوثُونَ﴾ ومخرجون من القبور ؟ !

حاشا لا يكون ذلك أبدا بالإله الذي نعبده ﴿لَقَدْ وُعِدْنا﴾ تخويفا ﴿نَحْنُ وَآباؤُنا﴾ الأقدمون ﴿هذا﴾ البعث البعيد في نظر العقل ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي الأزمنة السابقة على مجيىء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ بالغوا [ في ] إنكاره بقولهم : ﴿إِنْ هذا﴾ الوعد وما ذلك الحديث ﴿إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وأكاذيب السابقين التي لفّقوها وسطّروها في الدفاتر لتقرأ ويضحك منها.

﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ *

 قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا

 تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ

 تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ

٣٩٠

لَكاذِبُونَ (٨٤) و (٩٠)

ثمّ لمّا كان هذا الانكار لقصور عقوله عن إدراك كمال قدرة الله أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإلزامهم عليه ، باعتراف بقدرته تعالى على ما هو أعظم من الإعادة بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد إلزاما لهم : يا أيها المشركون ﴿لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها﴾ من الموجودات وعجائب المخلوقات ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ مبدعهما ، أو تدركون شيئا ؟ أجيبوني بعلم ﴿سَيَقُولُونَ﴾ ويعترفون البتة بأن كّلها ﴿لِلَّهِ﴾ وحده خلقا وتصرّفا وتدبيرا. لاضطرارهم إلى الاعتراف بما هو بديهي العقل ، فاذا اعترفوا بذلك ﴿قُلْ﴾ حثّا لهم على التفكّر والتدبّر ﴿أَ فَلا تَذَكَّرُونَ﴾ وتنتبهون أنّ من كان قادرا على إبداع تلك الموجودات العظيمة العجيبة ، [ فهو ] قادر على إعادتكم للحساب بطريق أولى ، لأنّ الإعادة أهون من الابداع أوّلا بلا مثال سابق.

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتّرقي في إلزامهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهم : قولوا لي ﴿مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ﴾ التي هي أعظم من جميع الموجودات ﴿وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* سَيَقُولُونَ﴾ كلّها ﴿لِلَّهِ﴾ وحده خلقا وترتيبا ﴿قُلْ :﴾ بعد اعترافهم بما هو ضروري العقل توبيخا لهم : ﴿أَ فَلا تَتَّقُونَ﴾ عذابه على الشّرك بتركه ، وعلى إنكار البعث بالاقرار به ؟ وإنّما قدّم التذكّر على التقوى لكون التذكّر موجبا للمعرفة التي هي باعثة على الاتّقاء ﴿قُلْ﴾ لهم : ﴿مَنْ بِيَدِهِ﴾ وفي قدرته ﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ووجوده ، أو سلطانه والتصرّف والتدبير فيه ﴿وَهُوَ يُجِيرُ﴾ ويغيث كلّ مستغيث ﴿وَلا يُجارُ﴾ ولا يغاث ﴿عَلَيْهِ﴾ من أحد لعدم احتياجه واضطراره ؟ ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك ، فأخبروني ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ الملك والملكوت والجوار ﴿قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ ومن أين تخدعون ، وعن الرشد تصرفون ؟

مع علمكم بأنّ ما أنتم عليه من الشرك وإنكار البعث عين الضّلال ﴿بَلْ﴾ لم يبق لهم عذر إذ ﴿أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ﴾ وأنزلنا عليهم دين الاسلام الذي حقيقته معرفة المبدأ والمعاد ، وبالغنا في الحجاج ﴿وَإِنَّهُمْ﴾ مع ذلك ﴿لَكاذِبُونَ﴾ في قولهم بالشّرك وإنكار البعث ومصرّون عليها.

﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا

 بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى

 عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩١) و (٩٢)

ثمّ بالغ سبحانه في إبطال الشّرك بأقسامه بقوله : ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ﴾ وما أختار لنفسه ﴿مِنْ وَلَدٍ﴾ كما يقول به اليهود والنصارى وبعض فرق المشركين لوجوب المماثلة والمجانسة بين الزّوج والزّوجة

٣٩١

والوالد والولد ، وامتناعهما بينه تعالى وبين ما سواه ﴿وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ﴾ لأنّه ﴿إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ﴾ وانفرد كلّ خالق ﴿بِما خَلَقَ﴾ واستبدّ به وامتاز ملك كلّ عن ملك الآخر ، كما هو دأب الملوك ﴿وَلَعَلا﴾ وغلب ﴿بَعْضُهُمْ﴾ في الملك ﴿عَلى بَعْضٍ﴾ آخر كما هو العادة الجارية بين الملوك ، فلم يكن بيد أحد منهم ملكوت كلّ شيء ، فوحدة الملك واتّساق النّظام أقوى دليل على وحدة الإله.

ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن الندّ والولد بقوله : ﴿سُبْحانَ اللهِ﴾ وتنزّه ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ ربّهم من كونه ذا ولد وشريك.

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بسعة علمه بقوله : ﴿عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ﴾ والسرّ والعلانية التي تكون لجميع الموجودات بالاحاطة والقيمومية ، ولو لم يكن جميعها مخلوقاته لم يكن له العلم بجميعها وليس لغيره ذلك ، فكيف يمكن أن يكون له شريك مساو له في الالوهية ﴿فَتَعالى﴾ شأنه ، وتقدّس ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ به ممّا لا علم له بشيء.

قيل : في ذكر الوصفين إشعار بوعيد المشركين (١) .

﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ

 الظَّالِمِينَ (٩٣) و (٩٤)

ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاستعاذة ممّا وعدهم من العذاب بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، متضرّعا إلي : يا ﴿رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ﴾ قيل : يعني يا ربّ إن كان ولا بدّ أن تريني ما وعدت المشركين من العذاب المستأصل في الدنيا (٢) ﴿رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي﴾ ولا تبقني ﴿فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ وأخرجني من بينهم لئلّا يصيبني ما يصيبهم من العذاب.

وفيه بيان لغاية فضاعة ما وعدوه ، بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد أن يحيق به ، وردّ لإنكارهم إيّاه واستعجالهم له بطريق الاستهزاء.

قيل : هضما لنفسه ، أو إنّما أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا القول ؛ لأنّ شؤم الكفرة قد يحيق بمن وراءهم ، كما قال تعالى : ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً(٣) .

روي أنه لمّا أخبر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن له في أمّته نقمة ولم يطلعه على وقتها ، أمره بهذا الدعاء(٤) .

في ( المجمع ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال في حجّة الوداع وهو بمنى : « لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ١١٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ١١٧ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٠٣.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ١٤٩ ، والآية من سورة الأنفال : ٨ / ٢٥.

(٤) تفسير أبي السعود ٦ : ١٤٩.

٣٩٢

بعضكم رقاب بعض ، وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفني في كتيبة يضاربونكم » قال الراوي : فغمز من خلف منكبه الأيسر ، فالتفت فقال : « أو عليّ » فنزلت (١) .

وعن جابر بن عبد الله أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد خطبنا يوم الفتح : « أيها الناس ، لأعرفنّكم (٢) ترجعون بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ولئن فعلتم ذلك أضربكم بالسيف » ثمّ التفت عن يمينه فقال الناس : غمزه جبرئيل ، فقال له : أو عليّ فقال : « أو عليّ » (٣) .

وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام قال : « فنزل عليه جبرئيل فقال : يا محمّد ، [ قل ] إن شاء الله ، أو يكون ذلك علي بن أبي طالب (٤) . فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أو يكون ذلك علي بن أبي طالب إن شاء الله. فقال له جبرئيل : واحدة لك ، واثنتان لعليّ ، وموعدكم السّلام » (٥) .

فقال أبان بن تغلب راوي الحديث : جعلت فداك ، وأين السّلام ؟ فقال : « يا أبان ، السّلام من ظهر الكوفة » (٦) .

أقول : الظاهر أنّه يكون في الرّجعة ، كما قال به الفيض رحمه‌الله (٧) .

﴿وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ * ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ

 أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ

 رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٥) و (٩٨)

ثمّ لمّا كان المشركون يستهزئون بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بوعده بالعذاب ، أعلن سبحانه بقدرته على إنزاله بقوله : ﴿وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ﴾ في حياتك ﴿ما نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب ﴿لَقادِرُونَ﴾ البتة ، ولكن المحكمة البالغة اقتضت تأخيره.

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحلم والصّفح بقوله : ﴿ادْفَعْ﴾ يا محمّد ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ طرق الدفاع - وهي خصلة الصّفح والحلم - أعمالهم ﴿السَّيِّئَةَ﴾ من التكذيب والاستهزاء والإيذاء (٨) .

عن الصادق عليه‌السلام : « التي هي أحسن : التقيّة » (٩)

أقول : يعني أنّها منها.

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ١٨٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٨.

(٢) في النسخة : لاعرفتكم.

(٣) مختصر البصائر : ٢١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٨.

(٤) زاد في مختصر البصائر : إن شاء الله.

(٥) في مختصر البصائر : السلم ، وكذا الذي بعدها.

(٦) مختصر البصائر : ١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٩.

(٧) تفسير الصافي ٣ : ٤٠٩.

(٨) في النسخة : والإبداء.

(٩) المحاسن : ٢٥٧ / ٢٩٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٩.

٣٩٣

ثمّ سلّى سبحانه قلبه الشريف بقوله : ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ﴾ جنابك به من الجنون والشّعر والكهانة فنجازيهم أسوأ الجزاء.

ثمّ لمّا كان الطيش وقلّة الصبر من الشيطان ، أمره بالاستعاذة منه بقوله : ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ﴾ ووساوسهم المغوية على خلاف رضاك ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِ﴾ من ﴿أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ عندي ويحومون حولي في حال الغضب والرضا والشدّة والرّجاء وغيرهما.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان عند استفتاح الصلاة يقول : « لا إله إلّا الله » ثلاثا ، « والله أكبر » ثلاثا ، و « اللهمّ إني أعوذ بك من همزات الشياطين ولمّها (١) ونفثها ونفخها ، وأعوذ بك ربّ أن يحضرون » (٢) .

﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما

 تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٩٥) و (١٠٠)

ثمّ هدّد المشركين على استمرارهم في وصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما ليس فيه بقوله : ﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ وعاين أحوال البرزخ ﴿قالَ﴾ تحسّرا على ما فرّط فيه من الايمان والعمل الصالح : يا ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ إلى الدنيا ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ﴾ وفي زمان قصّرت في الايمان والعمل من أيام عمري في الدنيا.

قيل : إن خطاب الله بلفظ الجمع للتعظيم (٣) .

وقيل : إنّ ذكر الربّ قسم (٤) ، وخطاب ﴿ارْجِعُونِ﴾ للملائكة ، والظاهر أنّ المراد من ( أحدهم ) الكفّار. وقيل : إنّه يعمّ المؤمنين المقصّرين (٥) .

عن الضحاك قال : كنت جالسا عند ابن عباس ، فقال : من لم يزكّ ولم يحجّ سأل الرجعة عند الموت ، [ فقال ابن عباس رضى الله عنه : أنا أقرأ عليك به قرآنا ] فيقول : ﴿رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ(٦) .

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا حضر الانسان الموت جمع كلّ شيء كان يمنعه من حقّه بين يديه ، فعنده يقول : ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ (٧) .

__________________

(١) في تفسير روح البيان : الشياطين من همزها. وفي تفسير الرازي : الشياطين همزه ونفثه ونفخه.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ١١٩ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٠٤.

(٣ و٤) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٠٥.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ١٠٦.

(٦) المنافقون : ٦٣ / ١٠.

(٧) تفسير الرازي ٢٣ : ١١٩.

٣٩٤

قيل : إن الاستغاثة (١) بهذا البيان حسنة ولو مع العلم بامتناع الرجوع ؛ لأنه من باب التمنّي (٢).

ثمّ ردعهم الله من هذا القول بقوله : ﴿كَلَّا﴾ لا رجوع لك إلى الدنيا أبدا ، ثمّ أقنطهم بعد كلمة ﴿ارْجِعُونِ﴾ بقوله : ﴿إِنَّها كَلِمَةٌ﴾ ولفظة صرفة لا يعمل بها ، وإنّما ﴿هُوَ﴾ عند الموت ﴿قائِلُها﴾ تحسّرا وتندّما ﴿وَمِنْ وَرائِهِمْ﴾ وخلفهم أو أمامهم ﴿بَرْزَخٌ﴾ وحاجز بينهم وبين الرجوع وهو الموت ، أو عالم يعذّبون فيه ﴿إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.

﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١)

ثمّ بيّن سبحانه كيفية ذلك اليوم بقوله : ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ النفخة الثانية التي يحيا بها الأموات ﴿فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ﴾ تفيدهم ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وتنجيهم من أهواله ، وزال التراحم والتعاطف من قلوبهم ﴿وَلا يَتَساءَلُونَ﴾ فيما بينهم عنها ، ولا يقول أحد لأحد : أنت ابن من ، وأبو من ، ومن أيّ قبيلة وعشيرة ؟ بل يفرّ المرء من فرط الدهشة والوحشة من أخيه وصاحبته وبنيه.

روي أنّ عائشة قالت : يا رسول الله ، أما نتعارف يوم القيامة ؟ إنّي أسمع الله يقول : ﴿فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ﴾ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ثلاثة مواطن تذهل فيها كلّ نفس : حين يرمى إلى كلّ إنسان كتابه ، وعند الموازين ، وعلى جسر جهنّم » (٣) .

في ( روح البيان ) عن الأصمعي ، أنه قال : كنت أطوف بالكعبة في ليلة مقمرة ، فسمعت صوتا حزينا فتبعته ، فاذا أنا بشابّ حسن ظريف متعلّق بأستار الكعبة ، وهو يقول : « نامت العيون ، وغارت النجوم ، وأنت الملك الحيّ القيوم ، قد غلّقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حرّاسها (٤) وحجّابها ، وبابك مفتوح للسائلين ، فها أنا سائلك ببابك ، مذنبا فقيرا مسكينا أسيرا ، جئتك (٥) انتظر رحمتك يا أرحم الراحمين » . ثمّ أنشأ يقول :

يا من يجيب دعا المضطرّ في الظّلم

يا كاشف الضّرّ والبلوى مع السّقم

قد نام وفدك (٦) حول البيت قاطبة (٧)

و أنت وحدك (٨) يا قيّوم لم تنم

أدعوك ربّي ومولاي ومعتمدي (٩)

فارحم بكائي بحقّ البيت والحرم

أنت الغفور فجد لي منك مغفرة

أو اعف عنّي يا ذا الجود والنّعم

__________________

(١) في تفسير الرازي : الاستعانة.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢٠.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢٢ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٠٧.

(٤) في المصدر : حرسها.

(٥) في المصدر : جئت.

(٦) في المصدر : وفدي.

(٧) في المصدر : وانتبهوا.

(٨) في المصدر : يا حيّ.

(٩) في المصدر : ومستندي.

٣٩٥

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف (١)

فمن يجود على العاصين بالكرم

ثمّ رفع رأسه نحو السماء ، وهو ينادي : « يا إلهي وسيدي ومولاي ، إن أطعتك فلك المنّة عليّ ، وإن عصيتك فبجهلي فلك الحجّة عليّ ، اللهم فبإظهار منّتك عليّ وإثبات حجّتك لديّ ارحمني واغفر لي ذنوبي ، ولا تحرمني رؤية جدّي وقرة عيني وحبيبك وصفيّك ونبيّك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » ، ثمّ أنشأ يقول :

ألا أيّها المأمول في كلّ شدة

إليك شكوت الضرّ فارحم شكايتي

ألا يا رجائي أنت كاشف كربتي

فهب لي ذنوبي كلّها واقض حاجتي

فزادي قليل لا أراه مبلّغي

على الزاد أبكي أم لطول (٢) مسافتي

أتيت بأعمال قباح رديّة

و ما في الورى عبد (٣) جنى كجنايتي

فكان يكرّر هذه الأبيات حتى سقط مغشيا عليه ، فدنوت منه فاذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، فوضعت رأسه في حجري ، وبكيت لبكائه بكاء شديدا شفقة عليه ، فقطر من دموعي على وجهه ، فأفاق من غشيته وفتح عينيه وقال : « من الذي شغلني عن ذكر مولاي ؟ » فقلت : أنا الأصمعي يا سيدي ، ما هذا البكاء ، وما هذا الجزع ، وأنت من أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ؟ أ ليس الله يقول : ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً؟! (٤)

قال : فاستوى جالسا ، وقال : « يا أصمعي هيهات ، إنّ الله خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدا حبشيا ، وخلق النار لمن عصاه وإن كان ملكا قرشيا ، أما سمعت قول الله تعالى : ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (٥) .

واعترض بعض الملاحدة على القرآن المجيد بوقوع التناقض بين قوله : ﴿وَلا يَتَساءَلُونَ﴾ وقوله : ﴿وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً(٦) وبين قوله : ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ(٧) وقوله : ﴿يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ(٨) وقد مرّ الجواب عنه في بعض الطرائف (٩) .

﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ

 الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها

كالِحُونَ (١٠٢) و (١٠٤)

__________________

(١) في المصدر : جرم.  (٢) في المصدر : لبعد.

(٣) في المصدر : خلق.

(٤) الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ١٠٧.

(٦) المعارج : ٧٠ / ١٠.

(٧) الصافات : ٣٧ / ٢٧.

(٨) يونس : ١٠ / ٤٥.

(٩) تقدم في الطرفة (٢٦) من مقدمة المصنف.

٣٩٦

ثمّ بيّن سبحانه كيفية المحاسبة وحسن حال المؤمنين بقوله : ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ﴾ ورجحت حسناته على سيئاته في ميزان الأعمال ﴿فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزون بالجنّة والنّعم الدائمة.

ثمّ بيّن سوء حال الكفّار بقوله : ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ﴾ ورجحت سيئاته على حسناته ﴿فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا﴾ وأضرّوا ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ بتضييع ما أعطاهم الله من الاستعداد والجوارح والقوى الظاهرية والباطنية والعمر والعقل ، ليحصّلوا بها السعادة الأبدية والنّعم الدائمة.

عن ابن عبّاس : يعني غبنوا بها (١) بأن صارت منازلهم في الجنة للمؤمنين (٢) .

وقيل : يعني امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب (٣) . وهم ﴿فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ﴾ ومقيمون أبدا.

ثمّ بيّن سبحانه بعض شدائد عذابهم في جهنّم تهويلا للقلوب بقوله : ﴿تَلْفَحُ﴾ وتحرق ﴿وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ عن ابن عباس : أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم (٤)﴿وَهُمْ فِيها كالِحُونَ﴾ ومتقلّصو الشّفتين من شدّة الاحتراق.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « تشويه النار ، فتتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرّته » (٥) .

﴿أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ * قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا

 شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ * رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ * قالَ

 اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٥) و (١٠٨)

ثمّ بيّن عذابهم الروحاني بتقريعهم وتوبيخهم بقوله : ﴿أَ لَمْ تَكُنْ﴾ أيّها المشركون ﴿آياتِي﴾ ومواعظي وزواجري ﴿تُتْلى﴾ وتقرأ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ في الدنيا ﴿فَكُنْتُمْ بِها﴾ حينئذ ﴿تُكَذِّبُونَ وتستهزئون ﴿قالُوا﴾ اعترافا بتقصيرهم : يا ﴿رَبَّنا غَلَبَتْ﴾ واستولت ﴿عَلَيْنا شِقْوَتُنا﴾ وملكتنا شهواتنا المؤدية إلى العاقبة السيئة والجحيم الحاطمة. عن الصادق عليه‌السلام : « بالأعمال شقوا » (٦) ففعلنا ما فعلنا من تكذيب الرسل والآيات والأعمال القبيحة ﴿وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ﴾ وناسا منحرفين عن الصراط المستقيم ، وسالكين طريق الجحيم حتى وقعنا فيها ﴿رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها﴾ وأعدنا إلى الدنيا ﴿فَإِنْ عُدْنا﴾ إلى ما كنّا فيه من الشّرك والتكذيب ﴿فَإِنَّا ظالِمُونَ﴾ ومبالغون في التعدّي عن حدود

__________________

(١) في تفسير الرازي : غبنوها.

(٢-٤) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢٣.

(٥) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢٣ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٠٩.

(٦) التوحيد : ٣٥٦ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤١١ ، وفيهما : بأعمالهم شقوا.

٣٩٧

العقل ﴿قالَ﴾ تعالى قهرا عليهم : ﴿اخْسَؤُا فِيها﴾ وانزجروا زجر الكلاب وأسكتوا سكوت الذّلّ والهوان ﴿وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ بشيء من الاعتذار ، ولا تسألوا رفع العذاب عنكم أو تخفيفه ، لعدم قابليته للقبول والاجابة.

قيل : هو آخر كلام يتكلّمون به ، ثمّ ليس لهم بعد ذلك إلّا الزّفير والشهيق والعواء كعواء الكلب(١) .

عن ابن عباس : لهم ستّ دعوات : إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة : ﴿رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا﴾ فيجابون : ﴿حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي(٢) . ثمّ ينادون ألف سنة ثانية : ﴿رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ فيجابون : ﴿ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ(٣) . ثمّ ينادون ألف سنة ثالثة : ﴿يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ﴾ فيجابون : ﴿إِنَّكُمْ ماكِثُونَ(٤) . ثمّ ينادون ألف سنة رابعة : ﴿رَبَّنا أَخِّرْنا﴾ فيجابون : ﴿أَ وَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ(٥) . ثمّ ينادون ألف سنة خامسة : ﴿أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً﴾ فيجابون ﴿أَ وَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ(٦)

(٧) ثمّ ينادون ألف سنة سادسة ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ فيجابون : ﴿اخْسَؤُا فِيها(٨) .

وعن القمّي : بلغني والله أعلم أنّهم يتداكّون بعضهم على بعض سبعين عاما حتّى ينتهوا إلى قعر الجحيم (٩) .

﴿إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ

 الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ

 تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ * قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ

 فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ * قالَ

 إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٠٩) و (١١٤)

ثمّ بيّن سبحانه علّة استحقاقهم العذاب المهين بقوله : ﴿إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي﴾ وطائفة من المؤمنين بوحدانيتي ورسالة رسولي ﴿يَقُولُونَ﴾ في الدنيا : ﴿رَبَّنا آمَنَّا﴾ بك وبما جاء به رسولك ، وصدّقنا جميع ما أردت تصديقه منّا ﴿فَاغْفِرْ لَنا﴾ ذنوبنا ، واسترها بكرمك ﴿وَارْحَمْنا﴾ وأنعم علينا بنعمك الواسعة الدنيوية والاخروية ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ وأفضل المنعمين ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢٥.

(٢) السجدة : ٢ / ١٢ و١٣.

(٣) غافر : ٤٠ / ١١ و١٢.

(٤) الزخرف : ٤٣ / ٧٧.

(٥) إبراهيم : ١٤ / ٤٤.

(٦) فاطر : ٣٥ / ٣٧.

(٧) فاطر : ٣٥ / ٣٧.

(٨) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢٥.

(٩) تفسير القمي ٢ : ٩٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٤١٢.

٣٩٨

سِخْرِيًّا﴾ وتشاغلتم بالاستهزاء بهم ﴿حَتَّى أَنْسَوْكُمْ﴾ اولئك المؤمنون بسبب الاستهزاء بهم ﴿ذِكْرِي﴾ والتدبّر في آياتي ، وأداء شكري ، والعمل بطاعتي ، فلم تخافوني في الاهانة بأوليائي ﴿وَكُنْتُمْ﴾ مبالغين في الاستهزاء بهم ، حتّى إنّكم كنتم ﴿مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ.

قيل : إن رؤساء قريش كأبي جهل وعتبة وأبي بن خلف ، كانوا يستهزئون بأصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويضحكون بالفقراء منهم مثل بلال وخبّاب وعمّار وصهيب (١) .

ثمّ بيّن سبحانه من حال المؤمنين عنده ما يوجب ازدياد أسف المستهزئين وحسرتهم بقوله : ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ﴾ الجنّة ونعمها ﴿بِما صَبَرُوا﴾ على استهزائكم بهم وإيذائكم لهم ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ﴾ بجميع مقاصدهم من الايمان والأعمال الصالحة والنّعم الاخروية.

ثمّ أنّه تعالى بعد إقناطهم من الرجوع إلى الدنيا ﴿قالَ﴾ لهم تذكيرا لقلّة مكثهم فيها ، أو قال الملك المأمور بالسؤال عنهم : ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ وأيّ مقدار من الزمان مكثتم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ التي تدّعون الرجوع إليها ﴿عَدَدَ سِنِينَ﴾ ومن حيث تعداد الأعوام

﴿قالُوا﴾ استقصارا لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى مدّة إقامتهم في النار ، أو بالنظر إلى انقضائها ، فإنّ المنقضي في النظر قليل ، أو بالنظر إلى كونها أيّام سرورهم وهي قصار : ﴿لَبِثْنا﴾ ومكثنا فيها ﴿يَوْماً﴾ واحدا ﴿أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ وإن أردت تحقيق المدّة ﴿فَسْئَلِ الْعادِّينَ﴾ والمتمكّنين من تعداد الأيام والسنين ، فانّا بسبب ما دهمنا من العذاب لا يمكننا إحصاؤها.

وقيل : إنّ المراد من العادّين الملائكة العادّون لأعمار الناس وأنفاسهم وأعمالهم (٢) .

القمي ، قال : يعني سل الملائكة الذين يعدّون علينا الأيام ، ويكتبون ساعاتنا وأعمالنا التي اكتسبناها فيها (٣) .

﴿قالَ﴾ الله تعالى أو الملك : ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ﴾ وما مكثتم في الدنيا متمتّعين بنعمها ﴿إِلَّا﴾ زمانا ﴿قَلِيلاً﴾ لم يكن للعاقل أن يعتدّ بالتنعّم والتلذّذ فيه ، وأنتم انهمكتم في الشهوات في ذلك الزمان القليل ، وغفلتم عن سوء العاقبة ، وأتّبعتم هوى أنفسكم ، وهيّأتم لها بأعمالكم العذاب المخلّد ، وأهلكتموها إلى الأبد ، وحرمتموها من النّعم التي ليس لها حدّ و﴿لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ سوء عاقبة التنعّم في الدنيا والغفلة عن الآخرة ، لما فعلتم ما فعلتم ، أو لو كنتم تعلمون الحشر والبعث لعلمتم قلّة لبثكم في الدنيا كما علمتم اليوم.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢٥.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ١١٠.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٩٥ تفسير الصافي ٣ : ٤١٢.

٣٩٩

﴿أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ

 الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٥) و (١١٦)

ثمّ وبّخهم سبحانه على إنكارهم البعث مع دلالة البرهان القاطع عليه وغفلتهم عنه بقوله : ﴿أَ فَحَسِبْتُمْ﴾ قيل : التقدير أغفلتم عن البعث فحسبتم (١)﴿أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً﴾ ولعبا بلا حكمة وصلاح ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ بل تموتون وتفتّتون (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثا ، ولم يتركهم سدى ، بل خلقهم لاظهار قدرته ، وليكلّفهم طاعته ، فيستوجبوا بذلك رضوانه ، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ، ولا ليدفع بهم مضرّة ، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى النعيم » (٣) .

وعنه عليه‌السلام أنّه قيل له : خلقنا للفناء ؟ فقال : « خلقنا للبقاء ، وكيف وجنّته لا تبيد ، وناره (٤) لا تخمد ، ولكن [ قل : ] إنّما نتحوّل من دار إلى دار » (٥) .

ثّم نزّه سبحانه ذاته المقدسة عن العبث بقوله : ﴿فَتَعالَى اللهُ﴾ وارتفع بذاته عن العبث ، وتقدّس عن اللغو ، وتنزّه عن فعل ما لا حكمة فيه لأنّه ﴿الْمَلِكُ الْحَقُ﴾ والسلطان الحقيق بالسلطنة ، الغنيّ بذاته عمّا سواه ، وكلّ شيء محتاج إليه.

قيل : إنّ الحقّ هو الموجد للشيء بمقتضى الحكمة (٦) ، والثابت الذي لا يزول ذاته ، ولا يبيد ملكه وقدرته ، ولذا ﴿لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ ولا معبود سواه.

ثمّ قرّر كمال سلطنته واستحقاقه العبادة بقوله : ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ فكيف بما هو دونه وتحته ، وإنما وصف العرش بالكريم لنزول الرحمة والبركات منه ، أو لانتسابه إلى الله الكريم.

وقيل : إنّ المراد بالعرش هنا السماوات وما فيها (٧) .

﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ

 الْكافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٧) و (١١٨)

ثمّ هدّد المشركين بقوله : ﴿وَمَنْ يَدْعُ﴾ ويعبد ﴿مَعَ اللهِ﴾ المتفرّد بالالوهية ﴿إِلهاً﴾ ومعبودا ﴿آخَرَ﴾ مع أنّه ﴿لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ﴾ ولا حجّة على جواز عبادته ﴿فَإِنَّما حِسابُهُ﴾ وجزاؤه اللائق به

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ١١١.

(٢) في النسخة : وتفتّون.

(٣) علل الشرائع : ٩ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤١٢.

(٤) في علل الشرائع : وكيف تفنى جنة لا تبيد ، ونار.

(٥) علل الشرائع : ١١ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٤١٢.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ١١٢.

(٧) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢٨.

٤٠٠