نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

ثمّ استدلّ سبحانه على علمه بأعمالهم بقوله : ﴿أَ لَمْ تَعْلَمْ﴾ أيّها الإنسان بشهادة عقلك ﴿أَنَّ اللهَ﴾ الخالق لجميع الأشياء ﴿يَعْلَمُ﴾ لا محالة ﴿ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ﴾ لعدم إمكان خفاء مخلوقاته عليه ﴿إِنَّ ذلِكَ﴾ المذكور ممّا في السّماء والأرض مثبوت ﴿فِي كِتابٍ﴾ مبين ولوح محفوظ من قبل أن يبرأه ويخلقه ﴿إِنَّ ذلِكَ﴾ المذكور من إحاطة علمه بالموجودات وثبتها في اللّوح ﴿عَلَى اللهِ﴾ الخالق لها سهل ﴿يَسِيرٌ﴾ بحيث لا يحتاج إلى إرادته.

قيل : فائدة ثبت الموجودات في الكتاب نظر الملائكة فيه ، فإذا رأوه مطابقا للموجودات يزيد معرفتهم بسعة علمه تعالى (١) .

وقيل : إنّ المراد بالكتاب حفظه تعالى لجميع الأشياء (٢) ، ومعنى قوله : ﴿إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ﴾ إنّه محفوظ عنده.

﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ

 مِنْ نَصِيرٍ * وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا

 الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ

 ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧١) و (٧٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نعمه وكمال قدرته وعلمه ، وبّخ المشركين على عبادة الأصنام بقوله : ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً﴾ وحجّة من السّمع والعقل ﴿وَما لَيْسَ لَهُمْ﴾ بأحد الطّرق الموجبة للعلم ﴿بِهِ﴾ وبجواز عبادته ﴿عِلْمٌ﴾ فإذا لم يستند مذهب الشّرك إلى دليل ، ولم يكن التزامهم به من علم ، فيكون تقليدا ، أو جهلا واتّباعا للهوى ، وهذا من أقوى الدّليل على بطلانه ، ومن المعلوم أنّ الالتزام به عين الظّلم على النّفس ﴿وَما لِلظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم باختيار الشّرك ﴿مِنْ نَصِيرٍ﴾ ومدافع ينصرهم ويدفع العذاب عنهم.

وقيل : يعني مالهم ناصر بالحجّة ، لأنّ الحجّة لا تكون إلّا للحقّ (٣) .

ثمّ ذمّهم سبحانه على شدّة عنادهم للحقّ بقوله : ﴿وَإِذا تُتْلى﴾ وتقرأ ﴿عَلَيْهِمْ آياتُنا﴾ القرآنيّة حال كونها ﴿بَيِّناتٍ﴾ وواضحات الدّلالات على أنّها كلام الله ﴿تَعْرِفُ﴾ وتتبيّن ﴿فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ﴾ والجحود بكونها من الله. أو تعرف في وجوههم التجبّر والتّرفّع ، كما عن ابن عباس (٤) . أو

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٦٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٦٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٦٧.

٣٦١

الكراهيّة للقرآن بحيث ﴿يَكادُونَ يَسْطُونَ﴾ ويبطشون ﴿بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا﴾ ويثبون عليهم من شدّة غيظهم وانضجارهم من تلاوتها ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ردّا عليهم وإقناطا لهم ممّا يقصدونه من الإضرار بالتّالين : ﴿أَ فَأُنَبِّئُكُمْ﴾ واخبركم ﴿بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ﴾ الذي تهمّون به من البطش والوثوب على تالي القرآن ، أو الكراهيّة والضّجر الذي يصيبكم باستماع ما تلي عليكم ، وهو ﴿النَّارُ﴾ التي تصلونها بسوء فعالكم ، وهي التي ﴿وَعَدَهَا﴾ الله ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إذا ماتوا على كفرهم ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ النّار وساء المرجع هي.

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ

 يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ

 ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم الحجّة على جواز عبادة الأصنام ، أقام الحجّة على عدم جوازها بقوله: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ بديع وذكر لكم برهان قاطع على عدم جواز عبادة الأصنام ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ وتدبّروا فيه حقّ التدبّر ﴿إِنَ﴾ الأصنام ﴿الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ وتعبدون ﴿مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً﴾ مع غاية صغره وضعفه ، بل لن يقدروا على إيجاد جزء منه ﴿وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ وتظاهروا عليه ، فكيف بحال انفراد كلّ فرد ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ﴾ ويجتذب منهم ﴿شَيْئاً﴾ قليلا أو جليلا ﴿لا يَسْتَنْقِذُوهُ﴾ ولا يستردّوه ﴿مِنْهُ﴾ مع كمال ضعفه ﴿ضَعُفَ﴾ عابد الصّنم ﴿الطَّالِبُ﴾ منه النّفع والشّفاعة ﴿وَ﴾ الصّنم ﴿الْمَطْلُوبُ﴾ منه العون ، أو ضعف الذّباب الطالب لما يسلبه من الصّنم ، والصّنم المطلوب منه.

قيل : إنّ المشركين كانوا يطلون أصنامهم بالعسل والخلوق ، ويسدّون أبواب بيوت الأصنام عليها ، ثمّ يدخل الذّباب عليها ويأكل جميع الطّيب والعسل الذي عليها ، ثمّ يجيئون بعد أيّام ويفتحون الأبواب ، فإذا لم يجدوا أثر العسل والطّيب عليها فرحوا (١) .

وقيل : إنّ الصّنم كالطّالب لخلق الذّباب ، والمطلوب الذّباب (٢) .

﴿ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً

 وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٦١.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٦٨.

٣٦٢

تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٤) و (٧٦)

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين على غاية جهلهم بقوله : ﴿ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ وما عرفوه معرفة يعدّها العقل معرفة ، وما عظّموه تعظيما يليق به ، حيث جعلوا الأصنام التي تكون في غاية الخساسة والضّعف شركاء لله القادر العظيم في الالوهيّة والعبادة ﴿إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ﴾ على خلق الممكنات وإعدام الموجودات ﴿عَزِيزٌ﴾ وغالب على جميع الأشياء ولا يغلب عليه شيء.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب عبدة الأصنام ، أبطل القول بالوهيّة الملائكة بقوله : ﴿اللهُ يَصْطَفِي﴾ ويختار بعضا ﴿مِنَ الْمَلائِكَةِ﴾ كجبرئيل وميكائيل ﴿رُسُلاً﴾ بينه وبين أنبيائه ﴿وَ﴾ بعضا ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ أيضا رسلا بينه وبين عباده ، فالملائكة كلّهم كالأنبياء عبيده وخدمه ، مطيعون لأمره ، محكومون بحكمه ، مقهورون تحت قدرته وإرادته ﴿إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ﴾ لأقوالهم ﴿بَصِيرٌ﴾ بأحوالهم وأعمالهم ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ وما مضى من أعمالهم ﴿وَما خَلْفَهُمْ﴾ ويأتي من أعمالهم ، أو العكس ، أو من أمر آخرتهم وأمر دنياهم.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان إحاطة علمه بهم ، بيّن كمال قدرته عليهم بقوله : ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ كلّها ؛ لأنّه مالكها ومدبّرها ، فلا يملك أحدهم لنفسه نفعا ولا ضرّا.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ

 تُفْلِحُونَ (٧٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده ، وإبطال عبادة الأصنام والملائكة ، دعا النّاس إلى عبادة ذاته المقدّسة والخضوع له بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ووحدانيّته ﴿ارْكَعُوا﴾ لله ﴿وَاسْجُدُوا﴾ له واخضعوا وتواضعوا لعظمته.

قيل : إنّ المراد بالرّكوع والسّجود هنا هو الصلاة ، لكونهما أعظم أجزائها (١) .

وعن ابن عباس : إنّ النّاس في أوّل إسلامهم كانوا يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية (٢).

وقيل : كانوا يسجدون بغير ركوع حتى نزلت (٣) .

وقيل : كانت الصّلاة قياما وقعودا حتى نزلت (٤) .

﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾ في جميع الامور ، وأطيعوا أوامره ونواهيه ، وأخلصوا له في العبادة ، ولا تشركوا

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٧١.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٦٣.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٦٣.

٣٦٣

به شيئا ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ وتحرّوا ما هو صلاحكم ، أو الأصلح لكم في كلّ ما تأتون كالنوافل والفرائض ، وصلة الأرحام ، والبرّ والإنفاق على الإخوان والفقراء ، وحسن البشر والقول ومكارم الأخلاق ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وبكلّ خير من خيرات الدّنيا تفوزون.

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم ، وقسّمه عليها ، وفرّقه فيها ... وفرض على الوجه السّجود له باللّيل والنّهار في مواقيت الصّلاة فقال : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ هذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرّجلين » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « جعل الخير كلّه في بيت ، وجعل مفتاحه الزّهد في الدّنيا » (٢) .

﴿وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ

 حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ

 الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا

 الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)

ثمّ أمر الله تعالى بأعظم أنواع الخيرات بقوله : ﴿وَجاهِدُوا فِي﴾ ذات ﴿اللهِ﴾ أو قاتلوا الكفّار والمشركين في سبيله ، ومن أجله ، وطلبا لرضاه ﴿حَقَّ جِهادِهِ﴾ واستفرغوا الوسع وأخلصوا (٣) النيّة فيه.

وعن ابن عباس : هو أن لا تخافوا في الله لومة لائم (٤) .

وقيل : إنّ المراد إعملوا [ لله ] حقّ عمله (٥) .

وقيل : حقّ جهاده هو مجاهدة النّفس والهوى (٦) .

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا رجع من غزوة تبوك قال : « رجعنا من الجهاد الأصغر ، فعليكم بالجهاد الأكبر » (٧) . قيل : يا رسول الله ، وما الجهاد الأكبر ؟ قال : « هو أن تجاهد نفسك التي بين جنبيك»(٨) .

ثمّ حثّ سبحانه الناس فيه بقوله : ﴿هُوَ﴾ تعالى اللّطيف الّذي ﴿اجْتَباكُمْ﴾ بلطفه واصطفاكم برحمته لدينه ، واختاركم لنصرة رسوله وترويج شريعته ، وخصّكم بالتّوفيق لخدمته والاشتغال بطاعته ، وهذا من أعظم التّشريفات ، وأفضل الكرامات.

عن الباقر عليه‌السلام : « إيّانا عنى ، ونحن المجتبون » (٩) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٩ - ٣١ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩١.

(٢) الكافي ٢ : ١٠٤ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩١.

(٣) في النسخة : وتخلصوا.

(٤-٦) تفسير الرازي ٢٣ : ٧٢.

(٧) تفسير الرازي ٢٣ : ٧٢ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٩٧ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٢٢ ، تفسير روح البيان ٦ : ٦٤.

(٨) معاني الأخبار : ١٦٠ / ١ تفسير الصافي ٣ : ٣٩١.

(٩) الكافي ١ : ١٤٧ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٩.

٣٦٤

ومن ألطافه أنّه تعالى سهّل عليكم تكاليفه ﴿وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ﴾ وتكاليفه شيئا ﴿مِنْ حَرَجٍ﴾ ومشقّة وضيق.

وعن ابن عباس ، أنّه قال لبعض هذيل : ما تعدّون الحرج فيكم ؟ قال : الضّيق (١) .

وعن عائشة : سألت رسول الله عن ذلك فقال : « الضيق » (٢) .

نقل أنّ أبا هريرة قال : كيف قال الله تعالى : ﴿وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ مع أنّه تعالى منعنا عن الزّنا والسّرقة ؟ فقال ابن عباس : بلى ، ولكنّ الإصر الّذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم (٣) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا اجتمع أمران ، فأحبّهما إلى الله ايسرهما » (٤) .

ومن ألطافه الخاصّة عليكم أنّه تعالى جعل ملّتكم - أيّها العرب - ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ﴾ أو المراد وسّع عليكم توسعة ملّة أبيكم إبراهيم ، أو أعني بالدّين ملّة أبيكم إبراهيم ، فإنّ العرب كانوا محبّين لإبراهيم لكونهم أولاده ، فكان التّنبيه عليه حثّا لهم على قبوله وانقيادهم له.

وقيل : إن الخطاب لعموم المؤمنين ، لأنّ الله جعل حرمة إبراهيم كحرمة الوالد على ولده (٥) .

ومن ألطافه أنّه تعالى ﴿هُوَ﴾ الذي ﴿سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ في لسان أنبيائه وكتبه السّماويّة ﴿وَفِي هذا﴾ الزمان ، أو في هذا القرآن.

عن ابن عبّاس : أنّ الله ﴿سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي في كلّ الكتب ﴿وَفِي هذا﴾ أي في القرآن (٦) .

وإنّما شرّفكم الله بهذا التّشريف وسمّاكم بهذا الاسم الأكرم ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ﴾ وقد مرّ بيان كيفية تلك الشهادة في سورة البقرة (٧) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « قال عزوجل : ﴿سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ في الكتب التي مضت ﴿وَفِي هذا﴾ القرآن ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ﴾ - قال عليه‌السلام - : فرسول الله شهيد علينا بما بلّغنا عن الله تبارك وتعالى ، ونحن الشّهداء على النّاس يوم القيامة (٨) ، فمن صدّق يوم القيامة صدّقناه ، ومن كذّب كذّبناه » (٩) .

وقيل : إنّ ضمير ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ﴾ راجع إلى إبراهيم ، فإنّه عليه‌السلام قال : ﴿رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٧٣.

(٣و٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٧٣.

(٥و٦) تفسير الرازي ٢٣ : ٧٤.

(٧) عند تفسير الآية (١٤٣) .

(٨) ( يوم القيامة ) ليس في الكافي.

(٩) الكافي ١ : ١٤٧ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٢.

٣٦٥

ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ(١) .

روي أنّ إبراهيم عليه‌السلام اخبر بأنّ الله سيبعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل ملّته ، وأنّه سيسمّي أمّته بالمسلمين(٢) .

وعن كعب : أنّ الله أعطى هذه الامّة ثلاثا لم يعطهنّ إلّا الأنبياء : جعلهم شهداء على النّاس ، وما جعل عليهم في الدّين من حرج ، وقال : ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ(٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ممّا أعطى الله امّتي ، وفضّلهم به على سائر الامم ، أنّه أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلّا نبيّ : وذلك أنّ الله تبارك وتعالى كان إذا بعث نبيّا قال له : اجتهد في دينك ولا حرج عليك ، وأنّ الله أعطى امّتي ذلك حيث يقول : ﴿وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ يقول : من ضيق. وكان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على قومه ، وإن الله جعل امتي شهداء على الخلق حيث يقول : ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ الحديث (٤) .

فإذا علمتم ألطاف ربّكم بكم ﴿فَأَقِيمُوا﴾ له ﴿الصَّلاةَ﴾ التي هي أفضل عباداته ﴿وَآتُوا الزَّكاةَ﴾ التي هي قرينتها وأكمل القربات بعدها ﴿وَاعْتَصِمُوا﴾ وثقوا ﴿بِاللهِ﴾ في جميع امور دينكم ودنياكم ، ولا تستعينوا بغيره ولا تسألوا أحدا سواه.

وقيل : إنّ المراد من الاعتصام به التّمسّك بكتابه وأحكامه (٥) .

عن ابن عباس : سلوا الله العصمة عن كلّ المحرّمات (٦) .

وقيل : يعني اجعلوا الله عصمة وحافظا لكم ممّا تحذرون (٧) .

﴿هُوَ﴾ تعالى ﴿مَوْلاكُمْ﴾ والنّاظر في خيركم وصلاحكم ، والمتصرّف فيكم ، ومن بيده جميع اموركم ﴿فَنِعْمَ الْمَوْلى﴾ لكم ربّكم ﴿وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ والعون إلهكم ، إذ لا تواني منه في القيام بشؤون الولاية والنّصرة ، ولا ينقطعان منه إلى الأبد.

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة الحجّ في كلّ ثلاثة أيّام ، لم تخرج سنته حتى يخرج إلى بيت الله الحرام ، وإن مات في سفره دخل الجنّة » . قيل : وإن كان مخالفا ؟ قال : « يخفّف عنه [ بعض ما هو فيه ] » (٨) .

وفقنا الله تعالى لتلاوتها.

__________________

(١و٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٧٤.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٧٣ ، والآية من سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

(٤) قرب الإسناد : ٨٤ / ٢٧٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٢.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٦٥.

(٦و٧) تفسير الرازي ٢٣ : ٧٤.

(٨) ثواب الأعمال : ١٠٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٢.

٣٦٦

في تفسير سورة المؤمنون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ

 اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (١) و (٣)

ثمّ لمّا ختم الله السّورة المباركة التي في أوّلها إثبات المعاد ، والاستدلال عليه بقدرته على خلق الإنسان من التّراب ، وتقليبه في أطوار مختلفة ، وبخلق النّباتات ، وفي آخرها إثبات التّوحيد وإبطال الشّرك ، والدّعوة إلى الإيمان واقامة الصّلاة وأداء الزكاة برجاء الفلاح ، أردفها بسورة ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ التي في أوّلها تخصيص الفلاح بالمؤمنين ومدحهم ، وبيان رجحان الخشوع في الصّلاة ولزوم الاهتمام بها ، وذكر المعاد والاستدلال عليه بالدّليلين المذكورين ، وحكاية دعوة الأنبياء إلى التّوحيد وابتلاء منكريه بالعذاب ، وفي آخرها تهديد منكر المعاد بأهوال القيامة ، وحرمان الكفّار من الفلاح ، فابتدأها بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ثمّ افتتحها بوعد المؤمنين بالفلاح بقوله : ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ وسعد وفاز ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ والموحّدون بأعلى المقاصد وأسناها.

روي أنّ الله تعالى لمّا خلق جنّة عدن بيده قال : تكلّمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون (١) ، فقال : طوبى لك منزل الملوك ، أي ملوك الجنّة (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام ما يقرب منه إلى قوله : طوبى (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « أتدري من هم ؟ » قيل : أنت أعلم ، قال : « قد أفلح المؤمنون المسلّمون ، إنّ المسلّمين هم النّجباء » (٤) .

ثمّ وصفهم الله بقوله : ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾ وبقلوبهم من مهابة الله خائفون ، وبجوارحهم متواضعون.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٨٢.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٦٦.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٨٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٣ ، وفيهما إلى قوله : المؤمنون.

(٤) الكافي ١ : ٣٢٢ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٣.

٣٦٧

روي أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا صلّى رفع بصره إلى السّماء ، فلمّا نزلت رمى ببصره نحو مسجده ، وأنّه رأى مصلّيا يعبث بلحيته فقال : « لو خشع قلبه لخشعت جوارحه » (١) .

وروي أنّ العبد إذا قام إلى الصّلاة ، فإنّما هو بين يدي الرّحمن ، فإذا التفت يقول الله تعالى : إلى من تلتفت ، إلى خير منّي ؟ أقبل يابن آدم [ إليّ ] فأنا خير ممّن تلتفت إليه (٢) .

ثمّ وصفهم الله بقوله : ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ﴾ وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال ﴿مُعْرِضُونَ﴾ ومتباعدون. قيل : هو القول الحرام (٣) . وقيل : هو كلّ حرام أعمّ من القول والفعل (٤) . وقيل : هو أعمّ من الحرام والمكروه والمباح الذي لا حاجة فيه (٥) .

وقال القمي : يعني الغناء والملاهي ، وهو مرويّ عن الصادق عليه‌السلام (٦) .

وعنه عليه‌السلام أيضا : « هو أن يتقوّل الرّجل عليك بالباطل ، أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله» (٧) .

روى بعض العامة أنّه تكلّم رجل في زين العابدين عليّ بن الحسين عليه‌السلام وافترى عليه ، فقال له زين العابدين عليه‌السلام : « إن كنت كما قلت فأستغفر الله ، وإن لم أكن كما قلت فغفر الله لك » فقام إليه الرّجل وقبّل رأسه وقال : جعلت فداك ، لست كما قلت فاغفر لي ، قال : « غفر الله لك » فقال الرجل : الله أعلم حيث يجعل رسالته.

وخرج يوما من المسجد ، فلقيه رجل فسبّه ، فثارت إليه العبيد والموالي ، فقال زين العابدين عليه‌السلام: « مهلا على الرّجل » ، ثمّ أقبل على الرّجل وقال : « ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها ؟ » فاستحيى الرّجل ، فالقى إليه خميصة (٨) كانت عليه ، وأمر له بألف درهم ، فكان الرّجل بعد ذلك يقول : أشهد أنّك من أولاد الرّسول (٩) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « كلّ قول ليس فيه ذكر الله فهو لغو » (١٠) .

وإنّما ذكر سبحانه الإعراض عن اللّغو بعد ذكر الخشوع في الصّلاة ، لكمال الملابسة بينهما. وقيل: إنّ الإعراض عن اللّغو من متمّمات الصّلاة (١١) .

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاَّ عَلى

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ١٢٣ ، تفسير روح البيان ٦ : ٦٧.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٦٧.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٧٩.

(٤ و٥) تفسير الرازي ٢٣ : ٧٩.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٨٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٤.

(٧) مجمع البيان ٧ : ١٥٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٤.

(٨) الخميصة : ثوب أسود أو أحمر له أعلام.

(٩) تفسير روح البيان ٦ : ٦٣.

(١٠) إرشاد المفيد ١ : ٢٩٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٤.

(١١) تفسير الرازي ٢٣ : ٨٠.

٣٦٨

أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ

 فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٤) و (٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف المؤمنين بالقيام بأداء العبادات البدنيّة ، التي أهمّها الصّلاة والخشوع فيها ، وصفهم بالاهتمام بالعبادات المالية التي أهمّها الزّكاة بقوله : ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ﴾ ومؤدّون.

عن الصادق عليه‌السلام : « من منع قيراطا من الزّكاة فليس هو بمؤمن ولا مسلم ولا كرامة » (١) .

وقيل : إنّ الزّكاة هنا كلّ فعل محمود مرضيّ (٢) .

ثمّ وصفهم بالتّحرّز عن الحرام المتعلّق بأنفسهم بقوله : ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ﴾ وعوراتهم ﴿حافِظُونَ﴾ وممسكون لها من أن تكشف أو تمسّ ، فإنّهم يحرّمونها على كلّ أحد ﴿إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ﴾ ومنكوحاتهم الدّائمة أو المنقطعة.

وقيل : إنّ التّقدير فإنّهم يلامون على ترك التّحفّظ إلّا على تركه من أزواجهم (٣) . أو التقدير فإنّهم لا يرسلون فروجهم على أحد إلّا على أزواجهم ﴿أَوْ﴾ على ﴿ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ﴾ بالأسر ، أو الإرث ، أو المعاملة. وقيل : إنّ ( على ) بمعنى ( من ) .

﴿فَإِنَّهُمْ﴾ على الكشف لهنّ ومباشرتهنّ ﴿غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ ولا مذمومين

﴿فَمَنِ ابْتَغى﴾ وطلب للمباشرة ﴿وَراءَ ذلِكَ﴾ المذكور من الأزواج (٤) والإماء وسواهنّ ﴿فَأُولئِكَ﴾ المبتغون للحرام ﴿هُمُ العادُونَ﴾ والمتجاوزون عن حدود العقل والشّرع ، أو المتعدّون من الحلال إلى الحرام ، أو المتناهون في العدوان.

بيان حلّية المتعة

إعلم أنّه استدلّ بعض العامة على حرمة المتعة بهذه الآية ، بتقريب أنّها ليست ملك يمين ولا زوجة ، لعدم التّوارث فيها ، فإنّ لازم الزّوجة التّوارث لقوله تعالى : ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ(٥) .

وفيه : أنّ الزّوجة هي المرأة التي حلّ بضعها ، والتّمتّع بها سبب حصول علقة الزّواج بين الرجل والمرأة ، بسبب العقد الخاصّ المفيد لحلّية التّمتّعات وهي صنفان : صنف منها علقة دائمة بنفسها ، لا تزول إلّا بالطّلاق ، أو بحصول أحد موانع النكاح ، كعلقة ملك الأعيان ، ولا تزول إلّا بالمزيل. وصنف

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٨٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٧٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٨٠ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٢٤.

(٤) في النسخة : الازدواج.

(٥) تفسير الرازي ٢٣ : ٨٠ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ١٢.

٣٦٩

منها علقة مقيّدة بأجل معيّن ، تزول ببلوغ أجل تلك العلقة ، نظير إباحة المالك للغير التصرّف في ملكه. فإذا كانت مطلقة أفادت جواز التصرّف فيه مطلقا غير مقيّد بوقت ، ولا ترتفع إلا برجوع المالك عنها أو بانتفاء الموضوع ونظائره ، وإذا كانت مقيّدة بمدّة معيّنة تزول ببلوغ المدّة.

وأمّا التّوارث فهو حكم تعبّدي لخصوص الصّنف الأوّل من العلقة بالأدلّة المخصّصة لعموم الآية ، ولو لم تكن تلك الأدلّة المخصّصة لعموم الآية ، لكنّا نحكم بثبوته لكلا الصّنفين ، كما خصّصت الأدلّة بقيّة الأحكام الاخر من وجوب النّفقة ، والكسوة ، والسّكنى ، والقسم ، وغيرها من الحقوق بالصنف الأوّل.

فتبيّن أنّ التمسّك بالآية لإثبات حرمة المتعة بعد ثبوت شرعيّتها بالكتاب والسّنة والإجماع من غاية الجهل ، وإنّما الكلام بيننا وبين مخالفينا في نسخه ، ولم يدلّ دليل عليه ، بل ثبت بقاؤه بالأدلّة القطعيّة ، بل بقول من أبدع تحريمها حيث قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله ، وأنا احرّمهما (١) . فإنّ إسناده التحريم إلى نفسه دالّ على عدم نسخها من شارعها.

عن الباقر عليه‌السلام ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله أحلّ لكم الفروج على ثلاثة معان : فرج مورّث (٢) وهو الثّبات ، وفرج غير مورّث وهو المتعة ، وملك يمين » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : أنّه سئل عن المتعة فقال : « حلال ، فلا تتزّوج إلّا عفيفة ، إنّ الله يقول : ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٤) .

وعنه عليه‌السلام : « تحلّ الفروج بثلاثة وجوه : نكاح بميراث ، ونكاح بلا ميراث ، ونكاح بملك يمين»(٥) .

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ

 * أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨) و (١١)

ثمّ وصف سبحانه المؤمنين بالتحرّز عن التعدّي على الغير بقوله : ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ﴾ والودائع التي أودعها غيرهم عندهم ﴿وَعَهْدِهِمْ﴾ والميثاق الذي بينهم وبين غيرهم من الخالق والخلق ﴿راعُونَ﴾ وحافظون لا يخونون في مال ، ولا ينقضون عهدا ، ومن جملة الأمانات الولاية والتّكاليف الإلهيّة التي حملها الإنسان كما قال سبحانه : ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ(٦) الآية. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ٢٨٢ / ١٦٤ و٦ : ٥٩ / ٤٣ ، الأوائل للعسكري : ١١٢.

(٢) في التهذيب : موروث ، وكذا التي بعدها.

(٣) التهذيب ٧ : ٢٤١ / ١٠٥١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٤.

(٤) الكافي ٥ : ٤٥٣ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٤.

(٥) الكافي ٥ : ٣٦٤ / ١ - ٣ ، الخصال : ١١٩ / ١٠٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٤.

(٦) الأحزاب : ٣٣ / ٧٢.

٣٧٠

« أعظم النّاس خيانة من لم يتمّ صلاته » (١) . ومن جملة العهود الميثاق الذي أخذه من بني آدم في الذّرّ.

ثمّ وصفهم الله بالاهتمام بالصّلاة بقوله : ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ﴾ المفروضة ﴿يُحافِظُونَ﴾ ويواظبون برعاية شرائطها وحدودها وأوقاتها ، وإنّما غيّر الاسلوب بإتيان الفعل لكون الصّلاة متجدّدة متكرّرة.

وقيل : إنّما فصّل بين توصيفهم بالخشوع في الصلاة ومحافظتهم عليها ، للإيذان بأنّ كلّا منهما فضيلة مستقلّة (٢) ، أو للإشعار بتعظيم الصّلاة حيث ذكرها في مبدأ أوصافهم ومنتهاها.

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة فلاحهم بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ المتّصفون بتلك الصفات ﴿هُمُ الْوارِثُونَ﴾ دون غيرهم ﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ﴾ ويملكونها بحسن عقائدهم وأعمالهم ، أو ينتقل إليهم من الكفّار الذين فوّتوها على أنفسهم و﴿هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ دائمون لا يخرجون منها أبدا.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « ما خلق الله خلقا إلّا جعل له في الجنّة منزلا ، وفي النّار منزلا ، فإذا سكن أهل الجنّة الجنّة وأهل النّار النّار ، نادى مناد : يا أهل الجنّة أشرفوا ، فيشرفون على أهل النّار ، وترفع لهم منازلهم فيها ، ثمّ يقال لهم : هذه منازلكم التي لو عصيتم الله لدخلتموها » قال : « فلو أنّ أحدا مات فرحا لمات أهل الجنّة في ذلك اليوم فرحا ، لما صرف عنهم من العذاب.

ثمّ ينادي مناد : يا أهل النّار ارفعوا رؤوسكم ، فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنّة وما فيها من النّعيم ، فيقال لهم : هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم لدخلتموها ، قال : فلو أنّ أحدا مات حزنا لمات أهل النّار حزنا ، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء [ ويورث هؤلاء منازل هؤلاء ] وذلك قول الله عزوجل : ﴿أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من أحد منكم إلّا وله منزلان ؛ منزل في الجنّة ، ومنزل في النّار ، فإن مات ودخل النّار ورث أهل الجنّة منزله » (٤) .

وقيل : إنّ الله شبّه انتقال الجنّة إليهم بغير محاسبة ومعرفة بمقاديرها بانتقال المال إلى الوارث (٥) .

وقيل : لمّا كانت الجنّة مسكن أبينا آدم ، صار انتقالها إلى أولاده شبيها بالميراث (٦) .

قيل : إنّ الفردوس هو الجنّة بلسان [ الحبشة ](٧) وقيل : بلسان الرّوم (٨) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « الفردوس مقصورة الرّحمن ، فيها الأنهار والأشجار » (٩) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٨١.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ١٢٥.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٨٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٥.

(٤) مجمع البيان ٧ : ١٥٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٥.

(٥) تفسير الرازي ٢٣ : ٨٢.

(٦-٩) تفسير الرازي ٢٣ : ٨٢.

٣٧١

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « سلوا الله الفردوس ، فإنّها أعلى الجنان ، وإنّ أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش»(١) . وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « فيّ نزلت » (٢) .

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ *

 ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا

 الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ

 بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٢) و (١٦)

ثمّ لمّا أخبر باختصاص الفلاح بالمؤمنين في الآخرة ، استدلّ على البعث فيها بقدرته الكاملة على خلق الإنسان وتقليبه في أطوار الخلقة وأكوان مختلفة بقوله : ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ﴾ في بدو خلقته ﴿مِنْ سُلالَةٍ﴾ وخلاصة منسلّة ومستخرجة ﴿مِنْ طِينٍ.

وقيل : إنّ المراد بالإنسان أولاد آدم ، والمراد من الطّين آدم ، ومن السّلالة الأجزاء الطّينيّة المنبثّة في أعضائه التي حين اجتماعها في أوعية المنيّ صارت منيّا (٣) .

وقيل : لمّا كانت الأغذية التي يتكوّن منها المنيّ متولّدة من صفو الأرض والماء ، كان مبدأ خلق الإنسان الطّين لكون المنيّ منه (٤) .

﴿ثُمَّ جَعَلْناهُ﴾ وصيّرناه ﴿نُطْفَةً﴾ وماء صافيا في صلب الرّجل ، ثمّ نقلناه بسبب الجماع ﴿فِي قَرارٍ مَكِينٍ﴾ ومستقرّ حصين ، وهو الرّحم ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا﴾ وصيّرنا ﴿النُّطْفَةَ﴾ بعد أربعين يوما ﴿عَلَقَةً﴾ ودما جامدا ﴿فَخَلَقْنَا﴾ وصيّرنا بعد أربعين يوما ﴿الْعَلَقَةَ﴾ والدّم الجامد ﴿مُضْغَةً﴾ وقطعة لحم ﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ﴾ بعد أربعين يوما ﴿عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً﴾ وسترناها به بعد نبت العروق و الأعصاب والأوتار والعضلات عليها ﴿ثُمَّ أَنْشَأْناهُ﴾ وأوجدناه ﴿خَلْقاً آخَرَ﴾ مباينا للخلق الأوّل بنفخ الرّوح فيه ، فصار حيّا بعد ما كان ميتا ، وحيوانا بعد ما كان جمادا ، وناطقا بعد ما كان أبكم ، وسميعا بعد ما كان صمّا ، وبصيرا بعد ما كان أكمه ، وأودع في كلّ عضو منه عجائب فطرة وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين.

عن ابن عباس : هو تصريف (٥) الله الإنسان بعد الولادة في أطواره في زمن الطفوليّة ، وما بعدها إلى

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٨٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٥ / ٢٨٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٥.

(٣و٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٨٤.

(٥) في تفسير الرازي : تصرّف.

٣٧٢

استواء الشّباب ، وما بعده إلى أن يموت (١) .

ثمّ أثنى سبحانه على نفسه بخلق هذا المخلوق البديع بقوله : ﴿فَتَبارَكَ اللهُ﴾ وتعالى شأنه من قدرته الكاملة وحكمته البالغة وهو ﴿أَحْسَنُ الْخالِقِينَ﴾ خلقا ، وأكمل المقدّرين تقديرا ؛ لأنّه خلق أحسن المخلوقين ، حيث إنّه مع صغر جرمه انطوى فيه العالم الكبير ، وفيه دلالة على أنّ الإنسان مركّب من الرّوح والجسد ، وأنّ في الموجودات خالقين.

عن الرضا عليه‌السلام أنّه سئل : أو غير الخالق الجليل خالق ؟ قال : « إنّ الله تبارك وتعالى قال : ﴿فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ﴾ فقد أخبر أنّ في عباده خالقين ، منهم عيسى بن مريم ، خلق من الطّين كهيئة الطّير بإذن الله ، وخلق السّامريّ لهم عجلا جسدا له خوار » (٢) .

﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ﴾ يا بني آدم ﴿بَعْدَ ذلِكَ﴾ المذكور من أطوار الخلق والتّعيّش إلى الأجل المسمّى والله ﴿لَمَيِّتُونَ﴾ بقدرته ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ﴾ بعد انقضاء الدّنيا ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ وعند النّفخة الثّانية تحيون ثانيا بقدرته الكاملة كما حييتم أوّلا ، و﴿تُبْعَثُونَ﴾ وتخرجون من قبوركم للحساب والمجازاة على الأعمال.

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ * وَأَنْزَلْنا مِنَ

 السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ * فَأَنْشَأْنا

 لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ *

 وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (١٧) و (٢٠)

ثمّ لمّا كانت الإعادة منوطة بكمال القدرة والعلم ، بالغ سبحانه في إثباتهما لنفسه بقوله : ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ﴾ وطبقات من السّماوات كالسّقف المحفوظ ، سمّيت طبقاتها طرائق لطروق بعضها على بعض ، فإنّ كلّ ما فوق مثله طريقه ، أو لأنّها طرق الملائكة والكواكب ومسيرها ﴿وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ﴾ والنّاس ، أو عن السّماوات ، أو عن الموجودات ﴿غافِلِينَ﴾ وذاهلين حتى نهمل أمرها وتدبيرها ، بل نحفظها عن الزّوال والاختلال إلى الأجل المقدّر بمقتضى الحكمة ، ونعلم خيرها وشرّها وجميع ما تحتاج إليه في بقائها.

ثمّ بيّن سبحانه خلق ما يحتاج إليه الإنسان في بقائه بقوله : ﴿وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ﴾ بنحو الأمطار ﴿ماءً﴾ نافعا ﴿بِقَدَرٍ﴾ وحدّ فيه صلاح الأشياء من الحيوانات والنّباتات ﴿فَأَسْكَنَّاهُ﴾ ومكّناه ﴿فِي

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٨٥.

(٢) التوحيد : ٦٣ / ١٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٦.

٣٧٣

الْأَرْضِ﴾ لانتفاعكم به ﴿وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ﴾ من وجه الأرض وإزالته بالأسباب العادية وغيرها بالله ﴿لَقادِرُونَ﴾ كما كنّا قادرين على إنزاله وإتيانه.

عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الله أنزل من الجنّة خمسة أنّهار : جيحون ، وسيحون ، ودجلة ، والفرات ، والنّيل ، فأنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنّة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبرئيل ، استودعها الجبال وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للنّاس ، فذلك قوله : ﴿وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾ وإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبرئيل فرفع من الأرض القرآن ، والعلم ، والحجر الأسود من البيت ، ومقام إبراهيم ، وتابوت موسى بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة إلى السّماء ، وذلك قوله : ﴿وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ﴾ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض ، فقد أهلها خير الدّين والدّنيا » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « هي الأنهار والعيون » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « يعني ماء العقيق » (٣) .

أقول : العقيق اسم واد.

﴿فَأَنْشَأْنا﴾ وخلقنا ﴿لَكُمْ﴾ بعد إنزال الماء ﴿بِهِ﴾ في الأرض ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ذات أشجار ﴿مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ﴾ هي أحبّ الأشجار عندكم وأنفعها ، حيث تكون ثمارها غذاء وفاكهة و﴿لَكُمْ فِيها﴾ مع تلك الأشجار النافعة ﴿فَواكِهُ﴾ وثمار ﴿كَثِيرَةٌ﴾ بها تتفكّهون ﴿وَمِنْها﴾ ثمار وزروع ، ﴿تَأْكُلُونَ﴾ وبها تتعيّشون ﴿وَ﴾ أنشأنا لكم ﴿شَجَرَةً﴾ مباركة زيتونة تكون من شرفها أنّها بالخصوص ﴿تَخْرُجُ مِنْ﴾ جبل ﴿طُورِ سَيْناءَ﴾ الذي منه نودي موسى عليه‌السلام وكلّمه الله عليه تكليما.

وهي بين مصر وأيلة ، أو بفلسطين.

وقيل : إنّ سيناء اسم البقعة. وقيل : إنّ معناه حسن. وقيل : أوّل ما نبت الزّيتون هناك (٤) . وقيل : فيه معظمها (٥) .

وفائدتها أنّها ﴿تَنْبُتُ﴾ مستصحبة ﴿بِالدُّهْنِ.﴾ وقيل : إنّ ( الباء ) بمعنى ( مع ) (٦) . وقيل : إنّها للتّعدية ، والمعنى أنّها تنبت بثمرة جامعة لدهن يدّهن ويسرّح به (٧)﴿وَصِبْغٍ﴾ وإدام يصبغ ويغمس فيه الخبز ، ويلوّن به مثل الدّبس والخلّ ﴿لِلْآكِلِينَ.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٧٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٩١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٦.

(٣) الكافي ٦ : ٣٩١ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٦.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٧٦.

(٥) تفسير الرازي ٢٣ : ٨٩.

(٦) تفسير الرازي ٢٣ : ٨٩ ، تفسير روح البيان ٦ : ٧٦.

(٧) تفسير البيضاوي ٢ : ١٠٢ ، تفسير روح البيان ٦ : ٧٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٧.

٣٧٤

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « الزّيت شجرة مباركة فأتدموا به ، وادّهنوا » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن أخرجوني إلى الظّهر ، فإذا تصوّبت أقدامكم واستقبلتكم الرّيح فادفنوني ، فهو أوّل طور سيناء ، ففعلوا ذلك » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام وقد ذكر الغريّ عنده ، قال : « وهو قطعة من الجبل الذي كلّم الله عليه موسى تكليما ، وقدّس عليه عيسى تقديسا ، واتّخذ عليه إبراهيم خليلا ، واتّخذ عليه محمّدا حبيبا ، وجعله للنّبيّين مسكنا ، ووالله ما سكن [ فيه ] بعد أبويه الطّيّبين آدم ونوح أكرم من أمير المؤمنين عليه‌السلام » (٣) .

﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ

 وَمِنْها تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢١) و (٢٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على قدرته بأحوال النّباتات ، استدلّ عليها بأحوال الحيوانات بقوله : ﴿وَإِنَّ لَكُمْ﴾ أيّها الناس ﴿فِي﴾ أحوال ﴿الْأَنْعامِ﴾ وعجائب الأزواج الثمانية : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والمعز ، والله ﴿لَعِبْرَةً﴾ وحجّة واضحة على قدرة خالقها ولطيف حكمته ، فإنّ من عجائب أحوالها أنّا ﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا﴾ يتكوّن ﴿فِي بُطُونِها﴾ وضروعها من الألبان ، أو ممّا في أجوافها من العلف بعد تكوّن اللّبن منه ﴿وَلَكُمْ﴾ مع ذلك ﴿فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ﴾ من أشعارها وأصوآنها وأوبارها ﴿وَمِنْها تَأْكُلُونَ﴾ وبلحومها وأعيانها تنتفعون ، كما تنتفعون بما يحصل منها ﴿وَعَلَيْها﴾ في البراري والجبال ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾ والسّفن في البحار والشّطوط ﴿تُحْمَلُونَ﴾ وتركبون وتنتقلون من بلد إلى بلد.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا

 تَتَّقُونَ * فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ

 يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا

 الْأَوَّلِينَ (٢٣) و (٢٤)

ثمّ شرع سبحانه في بيان أحوال الامم الماضية وعدم اعتبارهم بتلك العبر ، وعدم تفكّرهم في عجائب الخلق ، وعدم تذكّرهم بتذكير الرّسل ، حتّى استحقّوا نزول العذاب عليهم لغفلتهم وشركهم ، فابتدأ بذكر قصّة قوم نوح ، لكونها أقدم القصص وأعظمها وأنسبها بذكر الفلك بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ١٦٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٧.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٤ / ٦٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٧.

(٣) التهذيب ٦ : ٢٣ / ٥١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٧.

٣٧٥

نُوحاً إِلى قَوْمِهِ﴾ ليدعوهم إلى التّوحيد وعبادة الله ﴿فَقالَ﴾ داعيا لهم باللّطف ولين القول : ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ الّذي خلقكم وأنعم عليكم بعظائم النّعم ، ولا تشركوا به شيئا في الالوهيّة والعبادة ، لأنّه ﴿ما لَكُمْ﴾ في عالم الوجود ﴿مِنْ إِلهٍ﴾ ومعبود مستحقّ للعبادة ﴿غَيْرُهُ﴾ تعالى ، لأنّ كلّ ما سواه مخلوقون له ومربوبون ﴿أَ فَلا تَتَّقُونَ﴾ ولا تخافون أن يسلب عنكم نعمه وينزّل عليكم عذابة ﴿فَقالَ الْمَلَأُ﴾ والأشراف ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾ لأتباعهم والسّفلة منهم ، توهينا لنوح عليه‌السلام وحطّا له عن قابليّة (١) الرّسالة ، وحثّا لهم على الإعراض عنه ما هذا الرّجل ﴿إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ خلقا وخلقا وأعمالا ، لا مزيّة له عليكم توجب أن يختاره الله تعالى لهذا المنصب ، ومع ذلك ﴿يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ﴾ ويتفوّق ﴿عَلَيْكُمْ﴾ بادّعاء الرّسالة ، ويجعلكم أتباعه ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ﴾ إرسال رسول ﴿لَأَنْزَلَ﴾ من السّماء ﴿مَلائِكَةً﴾ بالرّسالة إليكم من قبله لأقربيّة قولهم إلى القبول ، وكونهم مطيعين له ﴿ما سَمِعْنا بِهذا﴾ الذي يدّعيه هذا الرّجل من رسالة البشر وتوحيد المعبود ﴿فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ وكبرائنا الماضين ، وإنّما قالوا ذلك للإفراط في تكذيبه وعناده ، أو لطول الفترة بين إدريس عليه‌السلام الذي كان نبيّا ظاهرا وبين نوح عليه‌السلام.

﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ * قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ

 * فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ

 فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا

 تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى

 الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي

 مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٥) و (٢٩)

ثمّ بالغوا في توهينه وتكذيبه بقوله : ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ واختلال عقل ، ولذا يقول ما يقول خلافا لأكثر النّاس ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ﴾ واصبروا على ما يقوله وانتظروا ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ موته فتستريحون منه ، أو انتظروا إلى وقت إفاقته من الجنون ، فيكفّ عن أباطيله ، فلمّا يئس نوح عليه‌السلام من إيمانهم وعال صبره (٢) على إيذائهم ﴿قالَ رَبِّ انْصُرْنِي﴾ على هؤلاء المكذّبين بتعجيلك في إهلاكهم بالعذاب جزاء ﴿بِما كَذَّبُونِ﴾ ونسبتهم إيّاي إلى الجنون ﴿فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ﴾ إجابة لدعائه ﴿أَنِ﴾ يا نوح ﴿اصْنَعِ

__________________

(١) كذا ، ولعلّه يريد درجة استحقاق الرسالة.

(٢) أي نفد.

٣٧٦

الْفُلْكَ﴾ متلبّسا (١)﴿بِأَعْيُنِنا﴾ وحفظنا إيّاك من أن تخطىء في صنعها ، ومن أن يفسدها عليك مفسد ﴿وَوَحْيِنا﴾ إليك كيفيّة صنعها ، وتعليمنا إيّاك عملها وتسويتها. روي أنّه اوحي إليه أن يصنعها على مثال الجؤجؤ (٢) .

﴿فَإِذا جاءَ أَمْرُنا﴾ واقترب نزول عذابنا على القوم ﴿وَفارَ التَّنُّورُ﴾ واشتدّ غليان الماء منه ، قيل : كان تنّور آدم (٣) ، وكان من الحجارة. وعن ابن عباس : التّنّور وجه الأرض (٤) . وقيل : أعلى الأرض (٥) . وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : ﴿ وَفارَ التَّنُّورُ﴾ أي طلع الفجر » (٦) .

﴿فَاسْلُكْ﴾ في الفلك وأدخل ﴿فِيها﴾ حينئذ ﴿مِنْ كُلٍ﴾ من أنواع الحيوانات ﴿زَوْجَيْنِ﴾ وفردين مزدوجين ﴿اثْنَيْنِ﴾ الذّكر والانثى ، لئلّا ينقطع نسلها ﴿وَ﴾ أدخل فيها ﴿أَهْلَكَ﴾ وأقاربك من الزّوجة والأولاد والمؤمنين ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ وقضي عليه بالهلاك والعذاب ﴿مِنْهُمْ﴾ كزوجته واغلة ، وابنه كنعان على ما قيل (٧)﴿وَلا تُخاطِبْنِي﴾ ولا تكلّمني ﴿فِي﴾ نجاة الكفّار ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالشّرك والطّغيان ولا تشفع لهم ﴿إِنَّهُمْ﴾ لا محالة ﴿مُغْرَقُونَ﴾ لعدم قابليّتهم (٨) لقبول الشّفاعة في حقّهم.

﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ﴾ وعلوت ﴿أَنْتَ﴾ يا نوح ﴿وَمَنْ مَعَكَ﴾ من أهلك وأشياعك ﴿عَلَى الْفُلْكِ﴾ وركبتهم فيها ﴿فَقُلِ﴾ شكرا لي وثناء على إنعامي ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ﴾ عشرة ﴿الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ فإنّ النجاة من عشرتهم وصحبتهم ومجاورتهم نعمة عظيمة على المؤمنين ﴿وَقُلْ﴾ حين الدّخول في السّفينة ، أو حين الخروج منها ، أو في الحالين : ﴿رَبِّ أَنْزِلْنِي﴾ في السّفينة ، أو في الأرض منها ﴿مُنْزَلاً مُبارَكاً﴾ وإنزالا مستتبعا لكلّ خير.

قيل : الإنزال المبارك هو الورود في منزل مأمون من الهواجس النّفسانيّة والوساوس الشّيطانيّة (٩) .

﴿وَأَنْتَ﴾ يا ربّ ﴿خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ فاستجاب الله دعاءه حيث قال : ﴿يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ(١٠) فبارك فيهم حيث جعل جميع من في الأرض من نسله ونسل من كان معه ، وإنّما خصّه الله بالأمر بالحمد والدّعاء لكونه إماما لمن معه ، فكان قوله قولهم مع ما فيه من الإشعار بنبوّته وعظمة الله وكبرياء ربوبيّته المقتضية لعدم خطابه إلّا إلى ملك مقرّب أو نبيّ مرسل ، وفي النّهي عن شفاعته في حقّ الكفّار والأمر بالحمد على النجاة منهم مبالغة في تقبيحهم

__________________

(١) في تفسير روح البيان ٦ : ٧٩ : ملتبسا.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٧٩.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٨٠.

(٤-٦) تفسير الرازي ٢٣ : ٩٤.

(٧) تفسير روح البيان ٦ : ٨٠ ، وفيه : وامه واغلة.

(٨) يريد عدم استحقاقهم.

(٩) تفسير روح البيان ٦ : ٨٠.

(١٠) هود : ١١ / ٤٨.

٣٧٧

وشدّة استحقاقهم العذاب.

عن ابن عباس : كان في السّفينة ثمانون إنسانا : نوح وامرأته [ سوى ] التي غرقت ، وثلاثة بنين : سام ، وحام ، ويافث ، وثلاث نسوة لهم ، واثنان وسبعون إنسانا ، فكلّ الخلائق نسل من كان في السّفينة (١) .

قيل : علّمكم [ الله ] أن تقولوا عند الرّكوب في السّفينة : ﴿بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها(٢) وعند ركوب الدابّة : ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا [ وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ](٣) وعند النّزول : ﴿رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً [ وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ](٤) .

« وفي ( الفقيه ) : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام : « يا علي ، إذا نزلت منزلا فقل : ( اللهمّ أنزلني منزلا مّباركا وأنت خير المنزلين ) ترزق خيره ويدفع شرّه » (٥) .

﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)

ثمّ نبّه سبحانه المؤمنين على العبر التي تكون في قصة (٦) نوح عليه‌السلام بقوله : ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من إنجاء نوح عليه‌السلام ومن معه ، وإهلاك الكفّار بالطّوفان ﴿لَآياتٍ﴾ ودلالات واضحات يستدلّ بها اولو الأبصار على توحيد الله وعظمته وشدّة غضبه على أعدائه والمشركين به ، وكمال لطفه ورحمته على محبّيه والمؤمنين به ﴿وَإِنْ﴾ الشأن إنّا ﴿كُنَّا﴾ بتلك الآيات ﴿لَمُبْتَلِينَ﴾ ومختبرين عبادنا لننظر من يعتبر ومن لا يعتبر ، أو مبتلين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ، أو كنّا معاقبين من سلك سبيلهم في تكذيب الرّسل.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « أنّ الله تعالى قد أعاذكم من أن يجور عليكم ، ولم يعذكم من أن يبتليكم ، وقد قال جلّ من قائل : ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٧) .

﴿ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ

 ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ * وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا

 بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا

 تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٩٥.

(٢) هود : ١١ / ٤١.

(٣) الزخرف : ٤٣ / ١٣.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٩٥.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٩٥ / ٨٨٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٩.

(٦) في النسخة : قضية.

(٧) نهج البلاغة : ١٥٠ الخطبة ١٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٩٩.

٣٧٨

لَخاسِرُونَ (٣١) و (٣٤)

ثمّ ذكر سبحانه قصّة هود وقومه ازديادا للعبرة بقوله : ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنا﴾ وخلقنا ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾ وهم قوم عاد ، كما عن ابن عباس وجماعة (١) ، لأنّهم بعد قوم نوح. وقيل : هم ثمود لأنّهم الذين هلكوا بالصّيحة (٢) ﴿فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً﴾ كان ﴿مِنْهُمْ﴾ نسبا ، فدعاهم إلى التّوحيد أوّلا بقوله : ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ وحده لأنّه ﴿ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾ ومستحقّ للعبادة سواه ﴿أَ فَلا تَتَّقُونَ﴾ ربّكم ولا تخافون عذابه على الشّرك.

﴿وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ﴾ والكبراء والأشراف من قبيلته ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ﴿وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ﴾ الله ودار ﴿الْآخِرَةِ﴾ والبعث للجزاء ﴿وَأَتْرَفْناهُمْ﴾ وأكثرنا عليهم نعمنا ﴿فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ ومدّة أعمارهم فيها إلقاء للشّبهة في قلوب أتباعهم وإضلالهم : ما هذا الرّجل المدّعي للرّسالة ﴿إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ في الأخلاق والأفعال والحاجة إلى الغذاء والشّراب لما ترون أنّه ﴿يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ﴾ من الأطعمة ﴿وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ منه من الأشربة ، فلا فضيلة له عليكم يستحقّ بها الرّسالة دونكم ﴿وَ﴾ والله ﴿لَئِنْ أَطَعْتُمْ﴾ واتّبعتم ﴿بَشَراً﴾ فيما يقول مع كونه ﴿مِثْلَكُمْ﴾ في الفضل ﴿إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ﴾ ومتضرّرون باتّباعه لإذلالكم أنفسكم له بلا نفع عائد إليكم.

﴿أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهاتَ هَيْهاتَ

 لِما تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ

 هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما

كَذَّبُونِ * قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ

 فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٣٥) و (٤١)

ثمّ بالغوا في تنفير النّاس عن اتّباعه بتسفيهه وتهجين قوله بالبعث بقولهم : ﴿أَ يَعِدُكُمْ﴾ يا قوم ﴿أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ﴾ واقبرتم ﴿وَكُنْتُمْ﴾ في قبوركم بعد مدّة طويلة ﴿تُراباً وَ﴾ قبل ذلك ﴿عِظاماً﴾ نخرة مجرّدة عن اللّحم والعصب ﴿أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ﴾ من قبوركم أحياء كما كنتم ﴿هَيْهاتَ هَيْهاتَ﴾ وبعد بعد في العقل والعادة ﴿لِما تُوعَدُونَ﴾ من الإحياء ثانيا بتلك الأبدان الأولية ، لا يكون ذلك أبدا.

قيل : لمّا استبعدوا بكلمة ﴿هَيْهاتَ﴾ كأنّه قيل : لما استبعادكم ؟ قيل : لما توعدون (٣) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٩٧ ، تفسير روح البيان ٦ : ٨١.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٩٧.

(٣) تفسير البيضاوي ٢ : ١٠٤ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٣٤ ، تفسير روح البيان ٦ : ٨٢.

٣٧٩

ثمّ بالغوا في إنكار المعاد بقولهم : ﴿إِنْ﴾ الحياة وما ﴿هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا﴾ يعني ﴿نَمُوتُ﴾ فيها ونفنى ، ولا حياة بعدها وتولد ﴿وَنَحْيا﴾ ونعيش فيها مدّة معيّنة ﴿وَما نَحْنُ﴾ بعد هذه الحياة والموت ﴿بِمَبْعُوثِينَ﴾ ومنشرين من القبور ، كما يزعم هذا الرّجل ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى﴾ واخترع ﴿عَلَى اللهِ كَذِباً﴾ صريحا في ما يدّعيه من إرساله إلينا وبعثكم بعد الموت ﴿وَما نَحْنُ لَهُ﴾ في ما يقول ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ ومصدّقين ، فلمّا يئس هود أو صالح من إيمانهم ﴿قالَ رَبِّ انْصُرْنِي﴾ على قومي ﴿بِما كَذَّبُونِ﴾ ونسبوني إلى الفرية ﴿قالَ﴾ تعالى إجابة لدعائه : إعلم أنّ قومك ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ من الزّمان وفي أسرع الوقت ، والله ﴿لَيُصْبِحُنَ﴾ وليصيرنّ ﴿نادِمِينَ﴾ على كفرهم وتكذيبهم بمعاينة العذاب ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ التي صاح بها جبرئيل من السّماء ، على ما قيل (١)﴿بِالْحَقِ﴾ والعدل ، أو بغير دافع ، فتصدّعت بها قلوبهم.

وعن ابن عباس : الصّيحة هي الرّجفة ، وقيل : هي نفس العذاب والموت ، كما يقال في من يموت : إنّه دعي فأجاب (٢) . وقيل : هي العذاب المصطلم (٢) .

﴿فَجَعَلْناهُمْ﴾ وصيّرناهم بتلك الصّيحة ﴿غُثاءً﴾ ومثل حميل سيل من الزّبد والحشائش البالية المسودّة في تبدّد الأجزاء وبلاها.

عن الباقر عليه‌السلام « ألغثاء : اليابس الهامد من نبات الأرض » (٣) . وقيل : إنّه كناية عن هلاكهم ؛ لأنّ العرب تقول لمن هلك : سال به الوادي (٤) . ﴿فَبُعْداً﴾ من الخيرات ، ولعنا دائما ، أو سحقا وهلاكا ﴿لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.

﴿ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ * ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ

 * ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً

 وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ

 بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ * إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ *

فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ

 الْمُهْلَكِينَ (٤٢) و (٤٨)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٩٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٩٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٩١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٠٠.

(٤) تفسير البيضاوي ٢ : ١٠٤ ، تفسير روح البيان ٦ : ٨٣.

٣٨٠