نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا﴾ وليزيلوا ﴿تَفَثَهُمْ﴾ ووسخهم بحلق الرأس وقصّ الشارب وقلم الأظفار ونتف الإبط. أو المراد : وليؤدّوا مناسك الحجّ كلّها ، كما عن ابن عبّاس (١)﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ وعهودهم بالنّذر من الحجّ وسائر الطاعات في تلك الأيّام ، فيضاعف لهم الثواب.

عن الصادق عليه‌السلام : « التفث هو الحلق وإزالة ما في جلد الإنسان » (٢) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « هو تقليم الأظفار ، وطرح الوسخ وطرح لباس الإحرام عنه » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « التّفث حفوف الرّجل من الطّيب ، فإذا قضى نسكه حلّ له الطّيب » (٤).

وعن الصادق عليه‌السلام : « من التّفث أن تتكلّم في إحرامك بكلام قبيح ، فإذا دخلت مكّة وطفت بالبيت [ و] تكلّمت بكلام طيب فكان ذلك كفّارة » (٥) .

وعن ذريح المحاربي : قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ الله تعالى أمرني في كتابه بأمر فاحبّ أن أعلمه ، قال : « وما ذاك ؟ » قلت : قول الله تعالى : ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ قال عليه‌السلام: ﴿ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ لقاء الإمام ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ تلك المناسك » .

قال عبد الله بن سنان : فأتيت أبا عبد الله ، فقلت : جعلت فداك ، قول الله تعالى : ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ؟﴾ قال : « أخذ الشّارب ، وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك » .

قلت : جعلت فداك ، إنّ ذريح المحاربي حدّثني عنك بأنّك قلت له : ﴿ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ لقاء الإمام ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ تلك المناسك » ؟ قال : « صدق وصدقت ، إنّ للقرآن ظاهرا وباطنا ، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح ؟ » (٦) .

أقول : لا شبهة أنّ لقاء الإمام يزيل الأوساخ الباطنيّة من الذنوب والأخلاق الرّذيلة ، فإزالة الأوساخ الظّاهرية ظاهر القرآن ، وإزالة الأوساخ الباطنية بلقاء الإمام باطنه.

وعن الباقر عليه‌السلام يقول - ويرى الناس بمكّة وما يعملون - : « فعالهم كفعال الجاهليّة ، أما والله ما امروا إلّا أن يقضوا تفثهم ويوفوا نذورهم ، فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ، ويعرضوا علينا نصرتهم » (٧) .

﴿وَلْيَطَّوَّفُوا﴾ وجوبا طواف النساء ، كما عن الصادق عليه‌السلام (٨) ، أو طواف الزيارة والنساء والعمرة

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ١٣٠.

(٢) الكافي ٤ : ٥٠٣ / ٨ ، من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٩٠ / ١٤٣٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٦.

(٣) الكافي ٤ : ٥٠٤ / ١٢ ، من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٩٠ / ١٤٣٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٦.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٩٠ / ١٤٣٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٦.

(٥) الكافي ٤ : ٣٣٧ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٦.

(٦) الكافي ٤ : ٥٤٩ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٦.

(٧) الكافي ١ : ٣٢٣ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٦.

(٨) الكافي ٤ : ٥١٣ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٧.

٣٤١

﴿بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ والقديم ، أو الذي أعتقه الله من الغرق يوم الطوفان كما عن الصادق عليه‌السلام (١) ، أو من تسلّط الجبابرة عليه كما عن ابن عباس (٢) ، أو من أن يملكه أحد كما عن الباقر عليه‌السلام (٣) .

﴿ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما

 يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر تشريفات بيته ، قطع الكلام بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ قيل : يعني الأمر أو الشّأن (٤) ذلك الذي ذكر ، ثمّ حثّ الناس على حفظ حرمته بقوله : ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ﴾ وما لا يحلّ هتكه من البيت الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ ثوابا ﴿عِنْدَ﴾ الله ﴿رَبِّهِ﴾ في الآخرة.

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان أحكام الحجّ ، ولمّا كان مجال توهّم حرمة أكل لحوم الأنعام حال الإحرام كحرمة الصيد ، صرّح بحلّيته بقوله : ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ﴾ وجميع أجزائها ﴿إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ في آية اخرى في المائدة ، فلا تحرّموا منها ما أحلّه الله ، ولا تجتنبوا منه ، وإن كنتم مجتنبين عن شيء من القبائح فاحترزوا ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ﴾ والخبيث القذر ﴿مِنَ الْأَوْثانِ﴾ والأحجار التي يعبدها المشركون ويذبحون عندها ، واحترزوا منها احترازكم من النّجس ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ والكلام المنحرف عن الحقّ كالقول بالوهيّة الأصنام ، وحرمة السائبة وأخواتها ، والشهادة بغير الحقّ ، وسائر الأقوال المحرّمة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ، ثلاثا » وتلا هذه الآية (٥) .

وقيل : هو الكذب والبهتان (٦) .

وقيل : هو قول أهل الجاهليّة : لبّيك لا شريك لك ، إلّا شريك هو لك ، تملكه وما ملك (٧) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « الرّجس من الأوثان : الشّطرنج ، وقول الزّور : الغناء » (٨) [ وزاد في المجمع ] « وسائر أنواع القمار والأقوال الملهية » (٩) .

﴿حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٨٤ ، المحاسن : ٣٣٦ / ١١٣ ، علل الشرائع : ٣٩٩ / ١ و٤ و٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٣٠.

(٣) الكافي ٤ : ١٨٩ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٧.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٣١.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣٠.

(٦ و٧) تفسير الرازي ٢٣ : ٣٢.

(٨) تفسير القمي ٢ : ٨٤ ، الكافي ٦ : ٤٣٥ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٧.

(٩) مجمع البيان ٧ : ١٣١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٧.

٣٤٢

الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)

ثمّ كأنّه تعالى قال : اعملوا بأحكامي حال كونكم ﴿حُنَفاءَ﴾ ومخلصين ﴿لِلَّهِ﴾ مائلين عن كلّ باطل إلى التوحيد والدين الحقّ ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ شيئا في الالوهيّة والعبادة.

ثمّ بيّن سبحانه غاية ضرر الشرك وكونه سببا للهلاكة الأبديّة بضرب مثلين بقوله : ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ﴾ غيره في الالوهيّة أو العبادة ﴿فَكَأَنَّما خَرَّ﴾ وسقط ذلك المشرك ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ على الأرض فهلك بالفور ﴿فَتَخْطَفُهُ﴾ وتختلسه ﴿الطَّيْرُ﴾ بسرعة من الأرض فتفرّقه وتمزّقه وتمحي أثره ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ﴾ العاصفة وتسقطه من جبل شامخ ﴿فِي مَكانٍ سَحِيقٍ﴾ وبعيد عن محلّ سقط منه ، أو عن من يغيثه فلا يراه أحد ولا يسمع صوته ، فشبّه سبحانه التوحيد في علوّ رتبته بالسماء ، والمشرك بالساقط منها على الأرض في تنزّله وهلاكه ، والأهواء التي تتوزّع أفكاره بالطّير الّذي تخطفه ، والشيطان المطرح له في وادي الضلال بالرّيح العاصفة التي عصفت به في المهاوي المتلفة.

﴿ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢)

ثمّ قرّر سبحانه ذلك بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ الذي ذكرت حقّ ثابت ، أو الأمر أو الشأن ذلك الذي ذكرت ، ثمّ حثّ سبحانه الناس على العمل وطاعة الأحكام بقوله : ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ﴾ ويهتمّ بالعمل بمعالم الحجّ وعلائم دينه من الهدايا والقلائد بأن يختار لها جساما حسانا سمانا غالية الأثمان ، معتقدا بأنّ طاعة الله في التقرّب بها وإهدائها الى بيته المعظّم [ فإنّها ] ناشئة (١) ، ﴿مِنْ تَقْوَى﴾ الذّي مركزه في ﴿الْقُلُوبِ﴾ أو المراد أنّ تعظيمها من أعمال ذوي تقوى القلوب.

القميّ قال : تعظيم البدن جودتها (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « إنّما يكون الجزاء مضاعفا فيما دون البدنة ، فإذا بلغ البدنة فلا تضاعف ؛ لأنّه أعظم ما يكون ، قال الله تعالى : ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ﴾ إلى آخره (٣) .

وعنه عليه‌السلام في قصّة حجّة الوداع : « وكان الهدي الذي جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعة وستّين أو ستّة وستّين ، وجاء علي عليه‌السلام بأربعة وثلاثين أو ستّة وثلاثين » (٤) .

وروى بعض العامة أنّه أهدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مائة بدنة فيها جمل أبي جهل ، وكان في أنفه برة (٥) من

__________________

(١) في النسخة : ناش.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٨٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٨ ، وفيها : وجودتها.

(٣) الكافي ٤ : ٣٩٥ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٨.

(٤) الكافي ٤ : ٢٤٧ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٨.

(٥) البرة : حلقة تجعل في أنف الناقة.

٣٤٣

ذهب (١) .

﴿لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)

ثمّ بيّن سبحانه أحكام الهدايا بقول : ﴿لَكُمْ فِيها مَنافِعُ﴾ كثيرة من ظهرها ولبنها ، فانتفعوا بها ﴿إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ووقت معيّن ، وهو وقت نحرها كما عن ابن عباس (٢) . أو وقت تسميتها أضحيّة وهديا ، كما في رواية اخرى عنه (٣) .

﴿ثُمَّ مَحِلُّها﴾ ووجوب نحرها أو وقت وجوبه منتهى ﴿إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ وهو هنا جميع الحرم كما قيل (٤) .

وقيل : إنّ الآية بيان علّة إيجاب تعظيم ذبح الأنعام ، والمراد أنّ لكم في الهدايا منافع كثيرة في دينكم ودنياكم ، وأعظمها كون محلّها إلى البيت العتيق (٥) .

عن جابر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا » (٦) .

القمّي ، قال : البدن يركبها المحرم من الموضع الّذي يحرم فيه غير مضرّ بها ولا معنف عليها ، وإن كان لها لبن يشرب من لبنها إلى يوم النّحر (٧) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا احتاج إلى ظهرها ركبها من غير أن يعنف عليها ، وإن [ كان ] لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها » (٨) .

﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ

 فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ

 قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ

 يُنْفِقُونَ (٣٤) و (٣٥)

ثمّ حثّ سبحانه الناس على إهداء الهدايا بقوله : ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الامم السالفة من زمان إبراهيم عليه‌السلام ﴿جَعَلْنا﴾ وشرعنا ﴿مَنْسَكاً﴾ وقربانا يتعبّدون به ﴿لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ﴾ وحده ﴿عَلى ما رَزَقَهُمْ﴾ وأنعم عليهم ﴿مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ﴾ عند ذبحها أو نحرها ، ويجعلوا نسكهم وقربانهم لوجهه

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٣٢.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٣٣.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٣٤.

(٥) تفسير الرازي ٢٣ : ٣٤.

(٦) تفسير الرازي ٢٣ : ٣٣.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٨٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٨.

(٨) الكافي ٤ : ٤٩٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٨.

٣٤٤

الكريم ، فالمقصود الأصليّ من القربان تذكّر المعبود ﴿فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ﴾ ومعبودكم فارد ، ودينكم الإسلام ، وإنّما اختلفت الأحكام لاختلاف الأزمنة والأشخاص في المصالح ، فإذا كان إلهكم واحدا ﴿فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ وانقادوا في جميع أحكامه وتكاليفه ، وتواضعوا له ، وأخلصوا ذكره بحيث لا يشوبه إشراك ﴿وَبَشِّرِ﴾ يا محمّد ، بالثواب العظيم الموحّدين ﴿الْمُخْبِتِينَ﴾ لله المتواضعين له المخلصين في عبادته.

وعن القمي : أي العابدين له (١) .

ثمّ وصف الله سبحانه المخبتين المتواضعين لعظمته بقوله : ﴿الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ﴾ عندهم وتوجّهت إليه أفئدتهم ، ظهرت لهم عظمته ومهابته ، ولذلك ﴿وَجِلَتْ﴾ وارتعدت ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ من خشيته وهيبته وخوف عقابة.

ثمّ لمّا كان من آثار خوفه الصبر على المكاره والشّدائد والاجتهاد في عبادته والإنفاق في سبيله ، أردف توصيفهم بالخوف بقوله : ﴿وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ﴾ من المصائب ﴿وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ﴾ التي هي أهمّ العبادات وأفضلها ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ﴾ وأعطيناهم من الأموال ﴿يُنْفِقُونَ﴾ ويبذلون في سبيله ومرضاته.

﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها

 صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ

 سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ

 التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ

 الْمُحْسِنِينَ (٣٦) و (٣٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد مدح المؤمنين بالبذل ، حثّهم في إهداء البدنة التي هي أحبّ الأموال عند العرب بقوله : ﴿وَالْبُدْنَ﴾ والإبل ﴿جَعَلْناها﴾ وقرّرنا نحرها ﴿لَكُمْ﴾ بعضا ﴿مِنْ شَعائِرِ اللهِ﴾ ومعالم دينه التي شرّعها مع أنّه (٢)﴿لَكُمْ فِيها خَيْرٌ﴾ ونفع كثير دنيويّ اخرويّ ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها﴾ عند نحرها حال كونها قائمات ﴿صَوافَ﴾ أيديهنّ وأرجلهن ﴿فَإِذا﴾ نحرت و﴿وَجَبَتْ﴾ وسقطت ﴿جُنُوبُها﴾ على الأرض ، وخرجت روحها ﴿فَكُلُوا مِنْها﴾ ندبا ﴿وَأَطْعِمُوا﴾ منها وجوبا الفقير

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٨٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٨.

(٢) في النسخة : مع أنّ ، ولا تصحّ من حيث إعراب ( خير ) و( نفع ) .

٣٤٥

﴿الْقانِعَ﴾ بما عنده الراضي بقسمة الله ، أو الراضي بما أعطيته ، ولا يسخط ولا يكلح ولا يلوي شدقه غضبا كما عن الصادق عليه‌السلام (١)﴿وَ﴾ الفقير ﴿الْمُعْتَرَّ﴾ المتعرّض للسؤال ، ولم يسأل على قول (٢) ، أو يعتريك ولا يسأل كما عن الصادق عليه‌السلام (٣) ، أو المارّ بك لتعطيه (٤) كما عنه أيضا (٥)﴿كَذلِكَ﴾ التسخير البديع لها مع عظم جثّتها وقوّتها ﴿سَخَّرْناها لَكُمْ﴾ وذلّلناها لمنافعكم بحيث يسهل عليكم التصرّف فيها كيف تشاءون ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ هذه النّعمة العظيمة التي تنتفعون بها في دينكم ودنياكم.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ البدن من الشعائر وتعظيم الشعائر من التّقوى ، رغّب المؤمنين إليها بقوله: ﴿لَنْ يَنالَ اللهَ﴾ ولا يصل إليه أبدا ﴿لُحُومُها وَلا دِماؤُها﴾ بوجه من الوجوه ﴿وَلكِنْ يَنالُهُ﴾ ويرتفع إليه ﴿التَّقْوى﴾ والطاعة ﴿مِنْكُمْ﴾ ويوجب رضاه عنكم فيثيبكم عليها.

في ( الجوامع ) : روي أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا نحروا لطّخوا البيت بالدّم ، فلمّا حجّ المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل ما علّة الاضحيّة ؟ قال : « إنّه يغفر لصاحبها عند أوّل قطرة قطرت (٧) من دمها على الأرض ، وليعلم الله من يتّقيه بالغيب ، قال الله عزوجل : ﴿لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها﴾ الآية » ثمّ قال : « انظر كيف قبل الله قربان هابيل وردّ قربان قابيل » (٨) .

ثمّ حثّهم بتذكير نعمته وذكر علّته بقوله : ﴿كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ﴾ وتعرفوا عظمته وقدرته على ما لا يقدر عليه غيره ، فتوحّدوه بالكبرياء ، أو تكبّروه على إرشادكم إلى طريق تسخيرها وكيفيّة التقرّب بها ﴿وَبَشِّرِ﴾ يا محمّد ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ في عقائدهم وأعمالهم المخلصين لله في ما يأتون ويذرون بقبول الطاعات والفوز بالدّرجات العاليات في الآخرة.

﴿إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ

 يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٨) و (٣٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد ترغيب الناس في الحج ، بشّرهم بتأمينهم من أذى المشركين مع كونهم صادّين عنه بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ يُدافِعُ﴾ ويبالغ في دفع ضرر المشركين ﴿عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ويحميهم أشدّ الحماية من أذاهم ﴿إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ﴾ ومبالغ في تضييع أحكامه التي هي أمانته ، وكلّ

__________________

(١) الكافي ٤ : ٤٩٩ / ١ ، معاني الأخبار : ٢٠٨ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٩.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٣٦.

(٣) معاني الأخبار : ٢٠٨ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٩.

(٤) في معاني الأخبار : تطعمه.

(٥) معاني الأخبار : ٢٠٨ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٩.

(٦) جوامع الجامع : ٣٠١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٠.

(٧) في علل الشرائع : تقطر.

(٨) علل الشرائع : ٤٣٧ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٠.

٣٤٦

﴿كَفُورٍ﴾ ومبالغ في تضييع حقوق نعمه حيث يصرفها في معاصيه ، ويتقّرب بها إلى الأصنام ، ويأكل نعمه ، ويقرّ بأنّه صانعه ويعبد غيره ، فإنّه تعالى لا يريد نصرهم ، ولا يرضى فعلهم ، ويدفع عن أحبّائه شرّهم.

قيل : نزلت حين أمر المؤمنين بالكفّ عن كفّار مكّة قبل الهجرة ، وكانوا يؤذون المؤمنين ، فاستأذنوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قتلهم سرّا ، فنهاهم الله عنه ، وبشّرهم بإعلائهم على الكفّار ودفع بوائقهم عنهم(١) .

ثمّ رخّص سبحانه لهم في قتال الكفّار بعد الهجرة بقوله : ﴿أُذِنَ﴾ ورخّص من قبل الله في قتال الكفّار ﴿لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ﴾ من المؤمنين ﴿بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا.

روي أنّ المشركين كانوا يؤذون المؤمنين ، فيأتونه صلى‌الله‌عليه‌وآله بين مضروب ومشجوج ويتظلّمون إليه ، فيقول لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إصبروا فإنّي لم أومر بقتال » ، حتى هاجروا فنزلت ، وهي أوّل آية نزلت في القتال (٢) .

عن الباقر عليه‌السلام : « لم يؤمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقتال ، ولا اذن له فيه حتى نزل جبرئيل بهذه الآية وقلّده سيفا » (٣) .

ثمّ أنّه تعالى بعد وعد المؤمنين بدفع أذى المشركين عنهم ، وعدهم بالنصر بقوله : ﴿وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ﴾ وتغليبهم على المشركين ﴿لَقَدِيرٌ﴾ فينصرهم لا محالة. وقيل نزلت : في قوم خرجوا مهاجرين ، فاعترضهم مشركو مكّة ، فأذن في مقاتلتهم (٤) .

﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ

 النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا

 اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ سبب الإذن في قتال المشركين ظلمهم على المؤمنين ، بيّن أعظم ظلمهم بقوله : ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ﴾ ومنازلهم ، أو أوطانهم ﴿بِغَيْرِ حَقٍ﴾ وموجب لإخراجهم ﴿إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ﴾ وسوى أن يقرّوا بتوحيده.

عن الباقر عليه‌السلام : « نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وحمزة وجعفر ، وجرت في الحسين عليهم‌السلام أجمعين » (٥) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٣٨.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٣٩ ، مجمع البيان ٧ : ١٣٨.

(٣) مجمع البيان ١ : ٣٥٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٠.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٣٩.

(٥) الكافي ٨ : ٣٣٧ / ٥٣٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨١.

٣٤٧

وعنه عليه‌السلام : « نزلت في المهاجرين ، وجرت في آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين اخرجوا من ديارهم واخيفوا» (١) .

ثمّ بيّن سبحانه حكمة أمره بالقتال بقوله : ﴿وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ﴾ يعني ﴿بَعْضَهُمْ﴾ المشركين ﴿بِبَعْضٍ﴾ المؤمنين في كلّ عصر ﴿لَهُدِّمَتْ﴾ وخرّبت بتعدّي الطغاة ﴿صَوامِعُ﴾ الرّهبان ومعابدهم ﴿وَبِيَعٌ﴾ النصارى وكنائسهم في مدّة بقاء شرع عيسى ﴿وَصَلَواتٌ﴾ ومعابد كانت لليهود في زمان بقاء شريعة موسى ، قيل : هو معرّب ، وبالعبرية صلواث (٢) ، بالثاء المثلثة (٣)﴿وَمَساجِدُ﴾ تكون للمسلمين ﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ﴾ ذكرا ، أو وقتا ﴿كَثِيراً﴾ فبأمر الله بالقتال بقي الدين ومعابد المتديّنين ، وفي توصيف المساجد بكونها محالّ ذكر الله دلالة على فضلها ، ويجوز أن يكون الوصف للأربع ﴿وَ﴾ بالله ﴿لَيَنْصُرَنَّ اللهُ﴾ ويؤيّد ﴿مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ بنصر أوليائه ودينه ، ولقد أنجز سبحانه وعده حيث سلّط المؤمنين على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم ، وأورثهم أرضهم وديارهم ﴿إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ﴾ بذاته قادر على إنفاذ إرادته ﴿عَزِيزٌ﴾ وغالب على كلّ شيء ، لا يمانع ولا يدافع ، فلا يحتاج إلى نصرة أحد ، وإنّما كلّف المؤمنين بالقتال ليصلوا بامتثال أمره إلى منافعهم الدنيوية والاخروية.

﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا

 بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)

ثمّ بيّن غاية شناعة الظّلم على المؤمنين الذين اخرجوا من دريارهم بمدحهم بقوله : ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ وسلّطناهم على أهلها ، وأعطيناهم نفوذ القول ﴿أَقامُوا الصَّلاةَ﴾ بشرائطها وآدابها لتعظيمي ، وحثّوا الناس عليها ﴿وَآتَوُا الزَّكاةَ﴾ أداء لحقّي وتوسعة على عبادي ﴿وَأَمَرُوا﴾ الناس ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ وفعل المستحسن عند الشّرع والعقل ﴿وَنَهَوْا﴾ هم ﴿عَنِ﴾ فعل ﴿الْمُنْكَرِ﴾ والقبيح عند الله وعند العقلاء ، فإن كانوا اليوم عندكم أذلّاء مستحقرين ، فهم أولياء الله ﴿وَلِلَّهِ﴾ وحده ﴿عاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ ولذا لا يبعد أن يصيروا أعزّاء معظّمين ويجعلهم في الأرض متمكّنين.

نقل كلام للفخر الرازي وردّه

قال الفخر الرازي : ولكن ثبت أنّ الله مكّن الأئمّة الأربعة في الأرض ، وأعطاهم السلطنة عليها ، فوجب كونهم آتين بالامور الأربعة ، فإذا كانوا آمرين بكلّ معروف

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ١٣٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨١.

(٢) في روح البيان : صلوثا.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٩.

٣٤٨

[ و] ناهين عن كلّ منكر ، وجب أن يكونوا على الحقّ ، فمن هذا الوجه دلّت الآية على إمامة الأئمّة الأربعة ، ولا يجوز حمل الآية على علي عليه‌السلام وحده ، لأنّها دالّة على الجمع (١) .

في رد كلام الفخر الرازي

أقول : فيه أن الآية خاصّة بالذين اخرجوا من مكّة ظلما ، وابتلوا بأذى المشركين كعليّ عليه‌السلام وجعفر وسلمان وعمّار وأضرابهم ؛ ولا يشمل الذين خرجوا منها طوعا لخدمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كأبي بكر وعمر ، فإنّهم لم يبتلوا بأذى المشركين ، ولم يخرجوا من مكّة ، ولو شملتهم الآية لشملت معاوية أيضا ، لأنّه من المهاجرين إلى المدينة ، ومن كتّاب الوحي فيها ، ومن المتمكّنين في الأرض ، مع ظهور كونه آتيا بالمنكرات التي لا تعدّ ولا تحصى.

مع أنّ الآية ظاهرة في مدح المؤمنين الذين كانوا حين إخراجهم من مكّة ملتزمين بالمعروف تاركين للمنكر مطلقا ؛ بحيث لو مكّنوا في الأرض أمروا غيرهم أيضا بالمعروف ، ونهوا غيرهم عن المنكر في ذلك الوقت ، ولم يكن الثلاثة كذلك في ذلك الوقت ، لوضوح كون عمر وعثمان بالإجماع وأبي بكر في اعتقادنا من الفارّين من الزّحف في احد ؛ فلا بدّ من القول بكون الوصف لخصوص المخرجين الذين كان لهم هذه المرتبة من الكمال ، وإن لم يتمكّنوا في الأرض ، لأنّ صدق الشرطيّة لا يستلزم صدق مقدّمها ، فيكون الممدوح فيها عليا عليه‌السلام وحمزة وجعفرا وسلمان وأبا ذرّ وأضرابهم ، لا المرتكبين للمنكر وإن كانوا من المخرجين.

﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ

 لُوطٍ * وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ

كانَ نَكِيرِ (٤٢) و (٤٤)

ثمّ لمّا أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بدفع الله أذى المشركين عن المؤمنين ونصرته لهم على الكفّار ، وكان المشركون يكذّبونه في ذلك ، سلّى سبحانه قلب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ﴾ في ما تخبرهم عن الله ، فليس تكذيبهم لك أمرا بديعا حتى يحزنك ويغمّك ﴿فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ نوحا ﴿وَعادٌ﴾ هودا ﴿وَثَمُودُ﴾ صالحا ﴿وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ﴾ إبراهيم ﴿وَقَوْمُ لُوطٍ﴾ لوطا ﴿وَأَصْحابُ مَدْيَنَ﴾ شعيبا ﴿وَكُذِّبَ مُوسى﴾ مع وفور معجزاته ووضوح آياته ، فما ظنّك بغيره ؟ ﴿فَأَمْلَيْتُ﴾ وأمهلت ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ المكذّبين لهم إلى أجل معلوم اقتضت المصلحة إمهالهم فيه ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ بالعذاب عقوبة على تكذيبهم ﴿فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ﴾ ي وإنكاري عليهم بإنزال العذاب ، حيث بدّلنا نعمتهم

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٤١.

٣٤٩

نقمة ، وحياتهم هلاكا ، وعمارتهم خرابا ، وصدّقنا الرّسل ما وعدتهم من النّصر والتمكين في الأرض ، فاصبر أنت أيضا على تكذيب قومك كما صبر اولوا العزم من الرّسل ، فإنّي اعامل مع مكذّبيك كما عاملت مع مكذّبيهم ، وإنّما المصلحة والحكمة اقتضت إمهالهم كما اقتضت إمهال الامم السابقة.

﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ

 وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تكذيب الامم رسلهم وأخذهم بعد الإمهال ، بيّن كيفيّة أخذه بقوله : ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ وكم من بلدة ﴿أَهْلَكْناها﴾ بالعذاب من الغرق والصيحة والصاعقة ونظائرها ﴿وَهِيَ ظالِمَةٌ﴾ بالكفر والمعاصي وتكذيب الرسل بمقتضى العدل لا بالتشفّي والجور ﴿فَهِيَ﴾ خربة أفضع الخراب حيث إنّ جدرانها ﴿خاوِيَةٌ﴾ وساقطة ﴿عَلى عُرُوشِها﴾ وسقوفها بعد سقوطها ﴿وَ﴾ كم من ﴿بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ﴾ لا أهل لها يستسقى منها ﴿وَ﴾ كم من ﴿قَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ ومنزل مرتفع البنيان ، أو محكمه ، أو مبنيّ بالجصّ ، أخليناه من ساكنيه.

روي أنّ هذه بئر نزل عليها صالح النبيّ مع أربعة آلاف ممّن آمن به وهي بحضرموت ، وإنّما سميّت بذلك لأنّ صالحا حين حضرها مات ، وكانت بلدة عند البئر اسمها حاضوراء ، بناها قوم صالح ، وأمّروا عليهم جليس بن جلاس ، وأقاموا بها زمانا ، ثمّ كفروا وعبدوا صنما ، فأرسل الله عليهم حنظلة بن صفوان نبيّا ، وكان حمّالا فيهم ، فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله ، وعطّل بئرهم ، وخرب قصورهم (١) .

وقيل : إنّ البئر الرسّ ، وكانت بعدن لأمّة من بقايا ثمّود ، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة ، يقال له العلس ، وكانت البئر تسقي المدينة كلّها وباديتها وجميع ما فيها من الدوابّ والأنعام ، لأنّها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها ، ورجال كثيرون موكلون بها ، وحياض كثيرة تملأ للناس ، واخر للدّوابّ ، واخر للغنم والبقر والهوام ، يسقون عليها بالليل والنهار يتناوبون (٢) ، ولم يكن ماء غيره.

فطال عمر الملك ، فلمّا مات طلي بدهن لتبقى صورته ولا يتغيّر ، وكذلك يفعلون إذا مات منهم ميّت يكرم عليهم ، فشقّ عليهم موته وفساد أمرهم ، وضجّوا جميعا بالبكاء ، فاغتنمها الشيطان منهم ، فدخل في جثّة الملك بعد موته بأيّام كثيرة فكلّمهم وقال : إنّي لم أمت ، بل غبت عنكم حتى أرى صنيعكم بعدي ، ففرحوا فرحا شديدا ، وأمر خاصّته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ، ويكلّمهم من

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٤٣.

(٢) في تفسير روح البيان : يتدالون.

٣٥٠

ورائه ، كيلا يعرفوا الموت من (١) صورته ووجهه ، فنصبوه (٢) صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب ، وأخبرهم أنّي لا أموت أبدا ، وأنّي إله لكم.

كلّ ذلك يتكلّم به الشيطان على لسانه ، فصدّقه كثير منهم ، وارتاب بعضهم ، وكان المؤمن المكذّب منهم أقلّ من المصدّق ، وكلمّا تكلّم ناصح منهم زجر وقهر ، فاتّفقوا على عبادته ، فبعث الله لهم نبيّا كان الوحي ينزل عليه في النوم ، وكان اسمه حنظلة بن صفوان ، فأعلمهم أنّ الصورة صنم لا روح له ، وأنّ الشيطان فيه ، وقد أضلّهم ، وأنّ الله لا يتمثّل بالخلق ، وأنّ الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله ، وأوعدهم ونصحهم وحذّرهم سطوة ربّهم ونقمته ، فآذوه وعادوه حتى قتلوه ، وطرحوه في بئر ، فعند ذلك حلّت عليهم النقمة ؛ فباتوا شباعا رواء [ من الماء ] وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها ، وتعطل رشاؤها ، فصاحوا بأجمعهم ، وضجّ النساء والولدان ، وضجّت البهائم عطشا حتى عمّهم الموت وشملهم الهلاك ، وخلفهم في أرضهم السباع ، وفي منازلهم الثعالب والضّباع ، وتبدلّت بهم جنّاتهم وأموالهم بالسّدر والشّوك ، شوك العضاه والقتاد (٣) . وأمّا القصر المشيد فقصر بناه شدّاد بن عاد بن إرم ، لم يبن في الأرض مثله(٤).

وعن ( المجمع ) : وفي تفسير أهل البيت في قوله : ﴿وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ﴾ « أي وكم من عالم لا يرجع إليه ولا ينتفع بعلمه » (٥) .

وفي ( الاكمال ) عن الصادق و[ في الكافي عن ] الكاظم : « البئر المعطّلة : الإمام الصامت ، والقصر المشيد : الإمام الناطق » (٦) .

وعن [ صالح بن سهل أنّه قال ] : أمير المؤمنين عليه‌السلام [ هو ] القصر المشيد ، والبئر المعطّلة فاطمة عليه‌السلام وولدها معطّلون من الملك (٧) .

أقول : لا شبهة أنّ الروايات في بيان تأويل الآية لا تفسيرها.

وعن القمي : هو مثل لآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبئر معطّلة : هي التي لا يستقى منها ، وهو الإمام الّذي قد غاب ، فلا يقتبس منه العلم إلى وقت ظهوره ، والقصر المشيد : هو المرتفع ، وهو مثل لأمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمّة وقال الشاعر :

__________________

(١) في تفسير روح البيان : في.

(٢) في النسخة : ونصبوا.

(٣) العضاه : كلّ شجر له شوك صغر أو كبر ، والواحدة عضاهة ، والقتاد : نبات صلب له شوك كالإبر.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٤٣.

(٥) مجمع البيان ٧ : ١٤١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٢.

(٦) كمال الدين : ٤١٧ / ١٠ ، معاني الأخبار : ١١١ / ١ ، الكافي ١ : ٣٥٣ / ٧٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٢.

(٧) معاني الأخبار : ١١١ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٣.

٣٥١

بئر معطّلة وقصر مشرف

مثل لآل محمّد مستطرف

فالقصر مجدهم الّذي لا يرتقى

و البئر علمهم الّذي لا ينزف (١)

﴿أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها

 فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)

ثمّ حثّ الله سبحانه المشركين على المسافرة ورؤية مصارع المهلكين من الامم كعاد وثمود للاعتبار بها بقوله : ﴿أَ فَلَمْ يَسِيرُوا﴾ ويسافروا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ ولم يذهبوا إلى اليمن والشام ، ليروا مصارع المهلكين بالعذاب ، كعاد وثمود وقوم لوط.

عن الصادق عليه‌السلام : « أي أ فلم ينظروا في القرآن ؟ » (٢)﴿فَتَكُونَ لَهُمْ﴾ بسبب مشاهدة العبر وبلاد المكذّبين للرّسل وآثار هلاكهم بالعذاب ﴿قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها﴾ ما يجب تعقّله من آيات التوحيد ، وشدّة غضب الله على الشرك ﴿أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها﴾ ما يجب استماعه من المواعظ الإلهيّة التي تكون في القرآن من هلاك الامم الطاغية وكيفية تعذيبهم ﴿فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ﴾ التي في الروؤس ولا تختلّ الحواسّ الظاهرة بالغفلة والجهل والكفر ﴿وَلكِنْ تَعْمَى﴾ بألاهواء الزائغة والشّهوات الباطلة والغفلة والجهل عن رؤية آيات التوحيد والنبوّة وما فيه العظة والاعتبار ﴿الْقُلُوبُ الَّتِي﴾ تكون ﴿فِي الصُّدُورِ.

وفي الحديث : « ما من عبد إلّا وله أربع أعين ؛ عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه ، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه وأكثر النّاس عميان بصر القلب ، لا يبصرون [ به ] أمر دينهم » (٣) .

وعن السجاد عليه‌السلام « انّ للعبد أربع أعين ؛ عينان يبصر بهما أمر دينه ودنياه ، وعينان يبصر بهما أمر آخرته ، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح [ له ] العينين اللّتين في قلبه ، فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته ، وإذا أراد الله غير ذلك ترك القلب بما فيه » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « إنّما شيعتنا أصحاب الأربعة الأعين ؛ عينان في الرأس ، وعينان في القلب ، ألا وإنّ الخلائق كلّهم كذلك ، ألا إنّ الله عزوجل فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم » (٥) .

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٨٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٣.

(٢) الخصال : ٣٩٦ / ١٠٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٣.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٤٥.

(٤) الخصال : ٢٤٠ / ٩٠ ، التوحيد : ٣٦٧ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٣.

(٥) الكافي ٨ : ٢١٥ / ٢٦٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٣.

٣٥٢

وعن الباقر عليه‌السلام : « إنّما العمى عمى القلب » ثمّ تلا الآية (١) .

﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ

 مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين بما نزّل على الامم المكذّبة للرّسل من العذاب ، حكى عنهم الاستهزاء بوعيدهم به بقوله : ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾ يا محمّد ﴿بِالْعَذابِ﴾ الّذي تهدّدهم به استهزاء بتهديدك إيّاهم به مع أنّ الله وعدهم بعذاب الآخرة ﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ﴾ بذلك العذاب بأن يأتيهم به في الدنيا ، بل يأتيه كما وعد بلا خلف ولا تغيير ، ولم يعدهم بعذاب الدنيا ، بل ذكر ما نزّل على الامم من باب العظة والاعتبار ﴿وَإِنَّ يَوْماً﴾ من أيّام الآخرة ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ يكون في كثرة الآلام والشّدائد عندهم ﴿كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ وتحسبون من سنيّ الدنيا لو بقيتم وعذّبتم فيها.

وقيل : إنّ المراد بيان طول أيّام الآخرة (٢) ، فالمعنى أنّ العذاب الذي يكون طول أيّامه إلى هذا الحدّ لا ينبغي للعاقل أن يستعجله.

وقيل : إنّ المعنى أنّ اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه تعالى سواء ؛ لأنّه لا يخاف الفوت ، فإذا لم تستبعدوا إمهال يوم واحد فلا تستبعدوا إمهال ألف سنة (٣) .

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ * قُلْ يا أَيُّهَا

 النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

 وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ

 الْجَحِيمِ (٤٨) و (٥١)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ عادته الإمهال ثمّ الأخذ ، أكّده بقوله : ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ وكم من بلدة ﴿أَمْلَيْتُ﴾ وأمهلت ﴿لَها﴾ وأخّرت إهلاكها ﴿وَهِيَ ظالِمَةٌ﴾ مستمرّة على الكفر والطّغيان مستوجبة لتعجيل عقوبتها ، كما أمهلت هؤلاء المستهزئين مع غاية ظلمهم وشدّة استحقاقهم للعذاب ﴿ثُمَّ أَخَذْتُها﴾ بالعقوبة الشديدة ﴿وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ وإلى حكمي المرجع في الآخرة ، فأفعل بهم ما أفعل ممّا يليق بأعمالهم.

ثمّ أمر الله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالثّبات على الدّعوة وعدم المبالاة بتكذيب الكفّار بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد:

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٤٨ / ١١١٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٤.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٤٦.

٣٥٣

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ﴾ من قبل الله ﴿نَذِيرٌ﴾ ومخوّف بما يوحى إليّ من هلاك الامم المكذّبة للرسل ﴿مُبِينٌ﴾ وموضح لكم إنذاري ، وليس لي إتيانكم بالعذاب حتى تستعجلوني به ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ وستر لما مضى من ذنوبه ﴿وَرِزْقٌ﴾ من كلّ نوع وصنف من النّعم بلا كدّ ومنّة ﴿كَرِيمٌ﴾ وجامع للفضائل ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا﴾ واجتهدوا ﴿فِي﴾ الطّعن في ﴿آياتِنا﴾ ومعجزات رسولنا بنسبتها إلى السّحر أو الشّعر أو التّقوّل حال كونهم ﴿مُعاجِزِينَ﴾ وظانين فينا العجز عن الأخذ والانتقام منهم ، أو في الأنبياء العجز عن إثبات نبوّتهم ، أو معاندين لنا أو لهم ، أو مسابقين لهم ليؤخّروهم ويعجزوهم ﴿أُولئِكَ﴾ السّاعون المعاجزون ﴿أَصْحابُ الْجَحِيمِ﴾ وملازمو النّار. وفي بعض الروايات : أنّ الجحيم اسم لدركة من دركات جهنّم (١) .

﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ

 فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢)

ثمّ لمّا أثّر تكذيب المشركين واستهزاؤهم بما وعدهم الرّسول من الثّواب على الإيمان وأوعدهم من العقاب في قلبه الشريف غاية التأثير ، بالغ سبحانه في تسليته بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ﴾ في امّة أو قرية ﴿مِنْ رَسُولٍ﴾ يوحى إليه بتوسّط جبرئيل ﴿وَلا نَبِيٍ﴾ يوحى إليه في منامه على قول بعض المفسرين (٢) ومدلول بعض الروايات (٣)﴿إِلَّا إِذا تَمَنَّى﴾ قبول دعوته ورواج دينه ، أو إذا بلّغ عن الله ما أوحي إليه ﴿أَلْقَى الشَّيْطانُ﴾ الطّعن والقدح ﴿فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ وما أخبر به عن الله ، أو أحدث الموانع عن نفوذ دعوته ﴿فَيَنْسَخُ اللهُ﴾ ويبطل ﴿ما يُلْقِي الشَّيْطانُ﴾ في ألسنة معارضيه من الطّعن والاعتراضات ، ويرفع ما يبدعه من الموانع ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ﴾ ويثبت ﴿آياتِهِ﴾ ويسدّدها في القلوب بإظهار دلائل صدقها ، ودفع الشّبهات عنها ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾ بمقالات الأنبياء والرّسل ، وما يورده الشّيطان عليها من الطّعن والاستهزاء والتّكذيب على لسان العتاة والمردة من الإنس ﴿حَكِيمٌ﴾ في إنزال الآيات وتمكين الشّيطان على إلقاء ما يشاء في ألسنة أتباعه.

﴿لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ

 الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٤٨.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ : ٩٣ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١١٣.

(٣) الكافي ١ : ١٣٤ / ١ ، و: ١٣٥ / ٣.

٣٥٤

فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ

 مُسْتَقِيمٍ (٥٣) و (٥٤)

ثمّ بيّن الله بعض حكمه ومصالحه بقوله : ﴿لِيَجْعَلَ﴾ الله ﴿ما يُلْقِي الشَّيْطانُ﴾ في قلوب الكفّار وألسنتهم ﴿فِتْنَةً﴾ وابتلاء عظيما ﴿لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ مهلك لا مرض أشدّ منه كالشّك والنّفاق والكبر والحسد وحبّ الدّنيا ﴿وَ﴾ للكفرة ﴿الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ الشّديدة الصّلابة أفئدتهم ﴿وَإِنَ﴾ الفرق ﴿الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بالكفر والشّرك والنّفاق ﴿لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ﴾ عن الحقّ والسّعادة وعداوة شديدة للرّسول وكتابه ودينه ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ﴾ آمنوا و﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ بجهات إعجاز القرآن وكمال دين الإسلام ﴿أَنَّهُ الْحَقُ﴾ النازل ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ علما لا يزول بتشكيك المشكّكين ﴿فَيُؤْمِنُوا بِهِ﴾ إيمانا كاملا ﴿فَتُخْبِتَ﴾ وتخشع ﴿لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ وتتواضع لعظمته أفئدتهم وجوارحهم ﴿وَإِنَّ اللهَ﴾ بتوفيقه وتأييده ﴿لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في الامور الدّينية عند تراكم ظلمات الشّبهات واختلاف شعب الضّلال ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ والمنهج القويم الموصل إلى الحقّ.

واعلم أنّ تفسير هذه الآيات من المشكلات التي زلّت فيها أقدام الأعلام من العامّة ، حيث فسّروها بوجوه لا يمكن الالتزام بها للّذين شمّوا رائحة الإيمان ، ولذا أعرضنا عن نقلها ، بل لو كان الأمر إلينا لمحوناها من الدّفاتر والكتب.

وأمّا أصحابنا الإماميّة فقد روى بعضهم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ﴾ الآية أنّه قال : « يعني ما من نبيّ تمنّى مفارقة ما يعانيه من نفاق قومه وعقوقهم ، والانتقال عنهم إلى دار الإقامة ، إلّا ألقى الشّيطان المعرض بعداوته عند فقده في الكتاب الذي أنزل عليه ذمّه والقدح فيه والطّعن عليه ، فينسخ الله ذلك من قلوب المؤمنين فلا تقبله ، ولا تصغي إليه غير قلوب المنافقين والجاهلين. ويحكم الله آياته بأن يحمي أوليائه من الضّلال والعدوان ومشايعة أهل الكفر والطّغيان الّذين لم يرض الله أن يجعلهم كالأنعام حتى قال : ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (١) .

وروى القمي عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصابه خصاصة (٢) ، فجاء إلى رجل من الأنصار فقال له : هل عندك من طعام ؟ قال : نعم يا رسول الله ، وذبح له عناقا (٣) وشواه ، فلمّا أدناه منه تمنّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكون معه عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام فجاء أبو بكر وعمر ، ثمّ جاء علي عليه‌السلام بعدهما ، فأنزل الله في ذلك ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى

__________________

(١) الاحتجاج : ٢٥٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٦ ، والآية من سورة الفرقان : ٢٥ / ٤٤.

(٢) الخصاصة : الحاجة.

(٣) العناق : الأنثى من أولاد المعز والغنم من حين الولادة إلى تمام الحول.

٣٥٥

الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ يعني أبا بكر وعمر ﴿فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ﴾ يعني لمّا جاء عليّ عليه‌السلام بعدهما ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ﴾ يعني سينصر الله أمير المؤمنين عليه‌السلام ﴿لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً﴾ يعني فلانا وفلانا ﴿لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ قال : شكّ » (١) .

أقول : أمّا الرواية الاولى ففهم المراد منها في غاية الإشكال ، وأمّا الثانية فلا شبهة أنّها بيان التأويل لا التّنزيل.

﴿وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ

 عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

 الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ

 عَذابٌ مُهِينٌ (٥٥) و (٥٧)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حال الكفار ثمّ حال المؤمنين ، عاد إلى بيان إصرار الكفّار على الكفر ، واستمرار شكّهم في صدق القرآن أو الرّسول بقوله : ﴿وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ﴾ وشكّ ﴿مِنْهُ﴾ أو في مرية من صدق الرّسول ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ﴾ والقيامة ﴿بَغْتَةً﴾ وفجأة وعلى غفلة منهم ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ لا يوم بعده لأنّه لا ليل له ، أو لا يوم بعده مثله لعظم أمره ، أو المراد أنّه لا يرون لأنفسهم فيه خيرا ، وهو يوم نزول العذاب عليهم.

وقيل : إنّه يوم القيامة والسّاعة من مقدّماته ، فلا تكرار في الآية (٢) .

﴿الْمُلْكُ﴾ والسّلطنة التامّة الظاهريّة والواقعيّة ﴿يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ وحده ، والحكومة بين العباد مختصّة به ، لا حاكم فيهم سواه ، وهو ﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ بالعدل ، ثمّ فسّر حكمه بينهم بقوله : ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالرّسول والقرآن ، ولم يجادلوا في شيء من الحقّ بالباطل ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ وأطاعوا أحكام الله المنزلة في كتابه ، أولئك في الآخرة متمكّنون ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ وبساتين كثيرة النّعم ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله وكتابه ﴿وَكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ المنزلة في القرآن ، وأصرّوا واستمرّوا عليه ﴿فَأُولئِكَ لَهُمْ﴾ في ذلك اليوم ﴿عَذابٌ مُهِينٌ﴾ ومذلّ لهم ، ومذهب بعزّهم وكبرهم.

﴿وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ

 اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٨) و (٥٩)

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٨٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٦.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٥٦.

٣٥٦

ثمّ فخّم شأن المهاجرين من المؤمنين بتخصيصهم بالذّكر والوعد بالثّواب بقوله : ﴿وَالَّذِينَ هاجَرُوا﴾ وخرجوا من أوطانهم ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وطلبا لمرضاته ، وترويجا لدينه ، ونصرة لرسوله ﴿ثُمَّ قُتِلُوا﴾ في الجهاد ، أو في طريق المهاجرة ﴿أَوْ ماتُوا﴾ حتف الأنف فيه ، بالله ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ وينعم عليهم بعيشة مرضيّة ونعمة عظيمة دائمة ﴿وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ حيث إنّه تعالى يرزق بلا عوض ولا منّة ولا حساب.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان رزقهم ، بيّن مسكنهم بقوله : ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً﴾ وليسكننّهم مسكنا ﴿يَرْضَوْنَهُ﴾ ويفرحون به ، وهو الجنّة التي فيها مالا عين رأت ولا اذن سمعت ، ولا خطر في قلب بشر ، فيرضونه ولا يبغون عنها حولا ، كما عن ابن عباس (١) .

وقيل : إنّه خيمة من درّة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم ، لها سبعون ألف مصراع (٢) .

﴿وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ﴾ بما يستحقّونه أو يرضونه فيعطيهم ويزيدهم من فضله ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعجّل بعقوبة أعدائه وعصاة خلقه ليتوبوا.

روي أنّ طوائف من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : يا رسول الله ، هؤلاء الّذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فمالنا إن متنا معك ؟ فأنزل الله هاتين الآيتين(٣).

وعن أنس ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال « المقتول في سبيل الله ، والمتوفّى في سبيل الله بغير قتل [ هما ] في الخير والأجر شريكان » (٤) .

﴿ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

 * ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ

 بَصِيرٌ * ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ

 الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٠) و (٦٢)

ثمّ أكّد سبحانه الوعد بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ قيل : يعني الأمر ما بيّنا لك من إنجاز الوعد للمهاجرين الّذين قتلوا أو ماتوا (٥) .

ثمّ وعد سبحانه المهاجر الذي قاتل اضطرارا بالنّصر في الدّنيا والأجر في الآخرة بقوله : ﴿وَمَنْ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٥٨ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١١٦.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٥٨.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٥٨ ، تفسير روح البيان ٦ : ٥٢.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٥٨.

(٥) تفسير الرازي ٢٣ : ٥٩.

٣٥٧

عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ﴾ وقاتل من يقاتله وجازي الظّالم عليه بمثل ظلمه ولم يزد ﴿ثُمَّ بُغِيَ﴾ وظلم ﴿عَلَيْهِ﴾ بأن اضطرّ إلى الهجرة بالله ﴿لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ﴾ ويعينه على من (١) بغى عليه البتّة ﴿إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ للمنتصر.

قيل : نزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحّرم ، فقال بعضهم لبعض : إنّ أصحاب محمّد يكرهون القتال في الشّهر الحرام ، فاحملوا عليهم. فناشدهم المسلمون أن يكفّوا عن قتالهم فأبوا وقاتلوهم ، فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم ، فنصروا عليهم ، فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشّهر الحرام ما وقع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وعفا عنهم وغفر لهم (٢) .

وعن القمّي : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أخرجته قريش من مكّة ، وهرب منهم إلى الغار ، وطلبوه ليقتلوه ، فعاقبهم الله يوم بدر. وقتل عتبة وشيبة والوليد وأبو جهل وحنظلة بن أبي سفيان وغيرهم.

فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب بدمائهم ، فقتل الحسين عليه‌السلام وآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بغيا وعدوانا ، وهو قول يزيد لعنه الله حين تمثّل بهذا الشعر : ليت أشياخي ببدر شهدوا ... إلى آخره.

فقال الله تعالى : ﴿ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ﴾ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ﴾ يعني حين أرادوا أن يقتلوه ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ﴾ يعني بالقائم من ولده (٣) .

قيل : إنّ توصيف ذاته المقدّسة بالعفوّ والغفور مع أنّه لا ذنب للمعاقب ؛ لأنّ العفو عن الباغي في غاية الحسن ، فنزّل سبحانه تركه منزلة الإساءة ، فنبّه على عفوه عنها ، أو للتّنبيه على أنّ الإتّصاف بصفات الله غاية آمال المؤمنين ، ومن صفاته تعالى أنّه عفوّ غفور ، فيحسن منهم العفو والغفران.

﴿ذلِكَ﴾ النصر ﴿بِأَنَّ اللهَ﴾ قادر على كلّ شيء ، بدليل أنّه تعالى ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ﴾ ويغلب أحدهما على الآخر بالزّيادة والنّقص ، فكيف بتغليب المؤمنين على المشركين ﴿وَ﴾ بسبب ﴿أَنَّ اللهَ﴾ مع كمال قدرته ﴿سَمِيعٌ﴾ لمقالات الظّالمين والمظلومين ﴿بَصِيرٌ﴾ بأعمالهم ، فيجازيهم على حسب أعمالهم واستحقاقهم ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من القدرة الكاملة والعلم الشّامل ﴿بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ﴾ الثابت والواجب الوجود الّذي لا زوال له ولا نقص ولا عجز ولا جهل ، وأنّه متفرّد بالالوهيّة واستحقاق العبادة ﴿وَأَنَّ ما يَدْعُونَ﴾ ويعبدون ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ من الكواكب والأصنام ﴿هُوَ الْباطِلُ﴾ والفاني العاطل ، ﴿وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ﴾ الفائق بقدرته الغالب على

__________________

(١) في النسخة : ما.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٥٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٨٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٨.

٣٥٨

كلّ بذاته ﴿الْكَبِيرُ﴾ والعظيم في سلطانه ، المتعالي أن يكون له شريك في ملكه.

﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ

 خَبِيرٌ * لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَ لَمْ

 تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ

 السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ * وَهُوَ

 الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٣) و (٦٦)

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على كمال قدرته بتصرّفه في أجزاء الزمان وتغييره اللّيل والنّهار ، استدلّ عليه بتصرّفه في السّماء والأرض بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ أيّها الإنسان بعين قلبك ونور عقلك ﴿أَنَّ اللهَ﴾ بقدرته ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ نافعا بالأمطار ﴿فَتُصْبِحُ﴾ وتصير ﴿الْأَرْضُ﴾ بنزول المطر عليها ﴿مُخْضَرَّةً﴾ بالنّبات والزّرع ، وإنّما قال ﴿فَتُصْبِحُ﴾ بدل أصبحت للدّلالة على التّجدّد والحدوث وبقاء أثّر المطر زمانا بعد زمان ﴿إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ﴾ بعباده ، ولذا فعل ذلك كي يعظم انتفاعهم ﴿خَبِيرٌ﴾ وعالم بمقادير مصالحهم.

وعن ابن عباس : لطيف بأرزاق عباده ، خبير بما في قلوبهم من القنوط (١) .

وقيل : لطيف باستخراج النّبت ، خبير بكيفيّة خلقه (٢) .

وقيل : لطيف في أفعاله ، خبير بأعمال خلقه (٣) .

﴿لَهُ﴾ تعالى وحده ﴿ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ خلقا وملكا وتصرّفا ﴿وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ﴾ بذاته عن كلّ شيء ﴿الْحَمِيدُ﴾ المستوجب للثّناء عليه في صفاته وأفعاله ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ أيّها الإنسان ببصيرة قلبك ، ولم تعلم بهداية عقلك ﴿أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ﴾ من الموجودات ، وذلّلها تحت إرادتكم تتصرّفون فيها كيف شئتم ﴿وَ﴾ سخّر لكم ﴿الْفُلْكَ﴾ بأن تركبوها وتحملوا الأثقال عليها حال كونها ﴿تَجْرِي﴾ وتسير ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ إلى البلاد البعيدة ﴿بِأَمْرِهِ﴾ تعالى وإرادته ﴿وَيُمْسِكُ﴾ ويأخذ ﴿السَّماءَ﴾ فوقكم ، محفوظة من ﴿أَنْ تَقَعَ﴾ أو كراهة أن تقع ، أو كيلا تقع ﴿عَلَى الْأَرْضِ﴾ بسبب من الأسباب ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ تعالى ومشيئته ﴿أَنَّ اللهَ﴾ أنعم بهذه النّعم العظام لأنّه ﴿بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ﴾ وشديد المحبّة ﴿رَحِيمٌ﴾ وعطوف بهم.

عن الصادق عليه‌السلام [ عن أبيه ، عن آبائه ] عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه بعد ذكر الأئمّة الاثني عشر بأسمائهم قال :

__________________

(١-٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٦٢.

٣٥٩

« ومن أنكر واحدا منهم فقد أنكرني ، بهم يمسك الله السّماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه ، وبهم يحفظ [ الله ] الأرض أن تميد بأهلها » (١) .

﴿وَهُوَ﴾ الإله القادر ﴿الَّذِي أَحْياكُمْ﴾ بعد ما كنتم ترابا ونطفا بلا حياة ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ بعد انقضاء آجالكم المقدّرة ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ في القبور للبعث والنّشور.

قيل : إنّما ذكر هذان الإحياءان (٢) للدّلالة على أنّ سائر النّعم لذلك (٣) .

ثمّ نبّه سبحانه على غاية جهل النّاس بقول : ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ﴾ لنعم منعمه حيث إنّه مستغرق في نعم الله ويعبد غيره.

﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ

 لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٧) و (٦٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر النّعم الدّنيويّة ذكر نعمته الدّينيّة بقوله : ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ وأهل عصر ﴿جَعَلْنا﴾ وشرعنا ﴿مَنْسَكاً﴾ وشرعا ومذهبا خاصّا بهم ﴿هُمْ﴾ بالخصوص ﴿ناسِكُوهُ﴾ وآخذوه ، لا يجوز لهم التّعدّي إلى منسك غيرهم ، والعمل بشريعة امّة اخرى ، فإذا كانت أحكامه تعالى مختلفة باختلاف الأمم ﴿فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ﴾ ولا يجادلنّك في أحكام الدّين ، بل عليهم اتّباعك والعمل بشريعتك ﴿وَادْعُ﴾ جميع النّاس ﴿إِلى﴾ توحيد ﴿رَبِّكَ﴾ ودينه وعبادته ﴿إِنَّكَ﴾ والله ﴿لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ﴾ وطريق موصل إلى كلّ خير ، وهو دين الإسلام ﴿وَإِنْ جادَلُوكَ﴾ في الحقّ الذي أنت عليه ، وعدلوا عن طريق الإنصاف إلى طريق اللّجاج والمراء ، فلا تجادلهم أنت بعد وضوح الحقّ ودلالة البراهين القاطعة على صحّة دينك ﴿فَقُلِ﴾ إعراضا عنهم ورفقا بهم ﴿اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ وترتكبون من المجادلة الباطلة وغيرها من السّيّئات ، فيجازيكم عليها أسوء الجزاء.

﴿اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ

 ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٦٩) و (٧٠)

ثمّ أخبر سبحانه نتيجة علمه بأعمالهم بقوله : ﴿اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من أمر الدّين بإثابة المحقّ وتعذيب المبطل.

__________________

(١) كمال الدين : ٢٥٩ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٨٩.

(٢) في النسخة : هذه الإحياء.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٦٣.

٣٦٠