نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

في تفسير سورة الحجّ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ

كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى

 وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختم الله سورة الأنبياء المبتدئة بتهديد المشركين باقتراب القيامة ، وذمّهم على غفلتهم عنها ، وإعراضهم عن آيات الله ، وجدالهم في رسالة رسوله ، ونسبة معجزاته إلى السحر ، المختتمة بأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بدعوة الناس إلى التوحيد ، وتهديدهم على الشرك ، وحكاية شكاية نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ربّه من تمرّدهم ، أردفت بسورة الحجّ المبتدئة بتحذير الناس عن الشرك ، وتهديد المشركين بأهوال القيامة ، وذمّهم على مجادلة الرسول ، واستدلاله تعالى على المعاد ، المختتمة بتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في مجادلة قومه ، وأمر المؤمنين بجهادهم ، وتوجّههم إلى عبادة الله والتوكّل عليه ، ووعدهم بالنصر ، فأبتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ شرع سبحانه فيها بتحذير الناس عن الشّرك بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ واحذروا عذابه بقبول التوحيد والتوبة من الشرك والعصيان ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ﴾ التي تكون حين طلوع الشمس من مغربها ، أو حين قيام الساعة ﴿شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ لا يحيط به الوصف ، وأمر شديد لا يحويه البيان.

عن ابن عباس : أنّ زلزلة الساعة حين قيامها (١) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث الصّور : « أنّه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصعقة ، ونفخة [ القيام ] لربّ العالمين ، وأنّ عند نفخة الفزع يسيّر [ الله ] الجبال ، وترجف الأرض الراجفة تتبعها الرادفة ، قلوب يومئذ واجفة ، وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلّق ترجرجه الرياح » (٢) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٩١ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٢.

٣٢١

وعنه عليه‌السلام : « معاشر النّاس ، التقوى التقوى ، إحذروا الساعة كما قال الله عزوجل : ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) .

ثمّ بيّن سبحانه بعض آثار عظمة تلك الزّلزلة بقوله : ﴿يَوْمَ﴾ تشاهدون فيه الزّلزلة و﴿تَرَوْنَها﴾ ترون ﴿تَذْهَلُ﴾ وتغفل لهول مطّلعها ﴿كُلُ﴾ امرأة ﴿مُرْضِعَةٍ﴾ لولدها ﴿عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ وعن الطّفل الذي ألقمت ثديها في فيه مع غاية جهالة اهتمامها (٢) بإرضاعه ﴿وَتَضَعُ﴾ وتلقى ﴿كُلُ﴾ امرأة ﴿ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها﴾ وجنينها من بطنها لغير تمام.

القمي : كلّ امرأة تموت حاملة عند [ زلزلة ] الساعة تضع حملها يوم القيامة (٣) .

والظاهر أنّ الامور الثلاثة تمثيل لتهويل الأمر ﴿وَتَرَى﴾ أيّها السامع ﴿النَّاسَ﴾ في ذلك اليوم كأنّهم ﴿سُكارى﴾ من غاية البهت ﴿وَما هُمْ﴾ حقيقة ﴿بِسُكارى﴾ من الخمر ﴿وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾ فمن هوله تطير عقولهم ويسلب تمييزهم.

روي أنّ هاتين الآيتين نزلتا باللّيل في غزوة بني المصطلق ، وهم حيّ من خزاعة ، فنادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاجتمع النّاس حوله ، فقرأهما عليهم ، فلم ير أكثر باكيا من تلك اللّيلة ، فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السّروج ، ولم يضربوا الخيام ، ولم يطبخوا القدور ، والناس بين باك وجالس حزين متفكّر ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتدرون أيّ ذلك اليوم [ هو ] ؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « ذلك يوم يقول الله لآدم : قم فابعث بعث النار من ولدك ، فيقول آدم : وما بعث النار ؟ يعني من كم [ وكم ] ، فيقول الله عزوجل : من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النّار وواحد إلى الجنّة ، فعند ذلك يشيب الصّغير ، وتضع كلّ ذات حمل حملها ، وترى النّاس سكارى » .

فكبر ذلك على المؤمنين ، وبكوا وقالوا : فمن ينجو يا رسول الله ؟ فقال : « ابشروا وسدّدوا وقاربوا ، فإنّ معكم خليقتين ما كانا في قوم إلّا كثّرتاه : يأجوج ومأجوج » .

ثمّ قال : « إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة فكبّروا » . ثمّ قال : « إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة » فكبّروا وحمدوا الله ، ثمّ قال : « إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة ، إنّ أهل الجنّة مائة وعشرون صفا ، ثمانون منها امّتي ، وما المسلمون في الكفّار إلّا كالشّامة في جنب البعير ، أو كالشّعرة البيضاء في الثّور الأسود » .

ثمّ قال : « ويدخل من امّتي سبعون ألفا في الجنّة بغير حساب » فقال عمر : سبعون ألفا ؟ قال : « نعم ،

__________________

(١) الاحتجاج : ٦٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦١.

(٢) في النسخة : واهتمامها.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٧٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦١.

٣٢٢

ومع كلّ واحد سبعون ألفا » الخبر (١) .

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ *  كُتِبَ عَلَيْهِ

 أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٣) و (٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالتّقوى وبيان أهوال القيامة ، بيّن لجاج القوم الموجب لغاية استحقاقهم العذاب بقوله : ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ كالنّضر بن الحارث وأضرابه من المشركين المنكرين للبعث ﴿مَنْ يُجادِلُ﴾ ويخاصم ﴿فِي﴾ صفات ﴿اللهِ﴾ وإنّما يكون جداله ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ وعرفان وحجّة وبرهان ﴿وَيَتَّبِعُ﴾ في جداله وأقواله ﴿كُلَّ شَيْطانٍ﴾ إنسيّ أو جنّي ﴿مَرِيدٍ﴾ مبالغ في الفساد ومجاوز الحدّ في الطّغيان والعناد ﴿كُتِبَ﴾ وأثبت على ذلك الشيطان أو المجادل في اللّوح المحفوظ أو قضي ﴿عَلَيْهِ﴾ في الأزل ، أو جعل في طبعه كأنّما كتب عليه ﴿أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ﴾ واتّبعه ﴿فَأَنَّهُ﴾ بإغوائه وتسويلاته في قلب وليّه ﴿يُضِلُّهُ﴾ ويحرفه عن طريق الحقّ والخير ﴿وَيَهْدِيهِ﴾ بحمله على المعاصي ﴿إِلى عَذابِ السَّعِيرِ﴾ والنار الحريق.

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ

 ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما

 نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى

 وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ

 هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذلِكَ

 بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ

 آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٥) و (٧)

ثمّ لمّا هدّدهم الله بعذاب الآخرة ، وكانوا منكرين للبعث ومجادلين فيه ، استدلّ سبحانه عليه بقوله: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ وشكّ ممّا وعدناكم ﴿مِنَ الْبَعْثِ﴾ والإحياء بعد الموت ، فأذكروا خلقكم الأوّل. وتفكّروا فيه حتى يزول ريبكم ﴿فَإِنَّا﴾ بقدرتنا ﴿خَلَقْناكُمْ﴾ وجعلنا مبدأ تكوّنكم ﴿مِنْ تُرابٍ﴾ حيث خلق أبوكم آدم عليه‌السلام منه ﴿ثُمَ﴾ خلقنا كلّ فرد منكم ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ وماء متكوّن في صلب الرّجل خارج منه بدفق وشهوة ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ وقطعة دم جامدة مكوّنة من النّطفة ﴿ثُمَّ مِنْ

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ١١٢ ، تفسير الرازي ٢٣ : ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦١.

٣٢٣

مُضْغَةٍ﴾ وقطعة لحم مكوّنة من علقة ﴿مُخَلَّقَةٍ﴾ ومصوّرة وتامّة الحواس والتخاطيط ﴿وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ وغير مصوّرة وناقصة الحواسّ والتخاطيط ، أو المراد تامّة الخلق وغير تامّة ، أو خارجة من الرّحم حيّة ، أو ساقطة منه ميتة ، وإنّما نقلنا مبدأ وجودكم من حال إلى حال ومن هيئة إلى هيئة ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ أنّكم تتقلّبون تحت قدرتنا ، وأن تغيير المضغة إلى المخلّقة إنّما هو باختيار الفاعل القادر الحكيم المختار ، ولولاه لما صار بعضه مخلّقة وبعضه غير مخلّقة ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ﴾ بعد ذلك ﴿ما نَشاءُ﴾ قراره فيها ﴿إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ووقت مضروب للولادة أدناه ستّة أشهر عند الكلّ ، وأقصاه عند المشهور من الخاصة تسعة أشهر ، وعند قليل منهم عشرة ، وعند الأقلّ سنة ، وعند أبي حنيفة سنتين ، وعند الشافعي أربع سنين ، وعند مالك خمس سنين (١) .

عن الباقر عليه‌السلام : « النّطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة ، فتمكث [ في الرّحم ] إذا صارت فيه أربعين يوما ، ثمّ تصير علقة ، وهي علقة كعلقة دم المحجمة الجامدة ، تمكث في الرّحم بعد تحويلها من النّطفة أربعين يوما ، ثمّ تصير مضغة وهي مضغة لحم فيها عروق خضر مشتبكة ، ثمّ تصير إلى عظم ، ويشقّ له السمع والبصر ، وترتّب جوارحه » (٢) .

وسئل عن المخلّقة فقال : « المخلّقة هم الذرّ الذين خلقهم الله في صلب آدم ، وأخذ عليهم الميثاق ، ثمّ أجراهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، وهم الّذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. وأمّا قوله : ﴿وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ فهم كلّ نسمة لم يخلقهم الله في صلب آدم حين خلق الذرّ وأخذ عليهم الميثاق ، وهم النّطف من العزل والسّقط قبل أن ينفخ فيه الرّوح والحياة والبقاء » (٣) .

وعنه عليه‌السلام : « أنّ النّطفة تكون في الرّحم أربعين يوما ، ثمّ تصير علقة أربعين يوما ، ثمّ تصير مضغة أربعين يوما ، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلّاقين فيقولان : يا ربّ ، ما نخلقه ذكرا أم انثى ؟ فيؤمران ، ويقولان : يا ربّ شقيّا أم سعيدا ؟ فيؤمران ، فيقولان : يا ربّ ما أجله ؟ وما رزقه ؟ وكلّ شيء من حاله ، وعدّد من ذلك أشياء ، ويكتبان الميثاق بين عينيه ، فإذا أكمل الله [ له ] الأجل بعث الله ملكا فزجره زجرة ، فيخرج وقد نسي الميثاق » (٤) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا تلد المرأة لأقلّ من ستّة أشهر » (٥) .

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن غاية الحمل بالولد في بطن امّه كم هي ، فإنّ الناس يقولون : ربما بقي

__________________

(١) راجع : كنز العرفان ٢ : ٢٣٥ ، وتفسير روح البيان ٦ : ٦.

(٢) الكافي ٧ : ٣٤٥ / ١٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٣.

(٣) الكافي ٦ : ١٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٣.

(٤) الكافي ٦ : ١٣ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٣.

(٥) الكافي ٥ : ٥٦٣ / ٣٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٤.

٣٢٤

في بطنها سنين ؟ فقال : « كذبوا ، أقصى حدّ الحمل تسعة أشهر لا يزيد لحظة ، ولو زاد ساعة لقتل امّه قبل أن يخرج » (١) .

﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ﴾ بعد ذلك من بطون امّهاتكم حال كونكم ﴿طِفْلاً﴾ ضعيفا لا تقومون باموركم ﴿ثُمَ﴾ سهّل في تربيتكم وأغذيتكم امورا ﴿لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ وكمالكم في القوّة والعقل والتمييز ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى﴾ ويقبض روحه قبل بلوغ الأشدّ أو بعده ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ﴾ يبقى حيّا و﴿يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ من الهرم والخرف.

عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه : « إذا بلغ العبد مائة سنة ، فذلك أرذل العمر » (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يعني خمسا وسبعين » (٣) . ﴿لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ﴾ كثير ﴿شَيْئاً﴾ من الأشياء ، أو من العلم ، لقلّة فهمه ، وسخافة عقله ، وغلبة النسيان عليه ، كحاله في أوان طفوليّته.

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته على البعث بقوله : ﴿وَتَرَى﴾ أيّها الرائي ﴿الْأَرْضَ﴾ أوّلا ﴿هامِدَةً﴾ ويابسة خالية من النبات ﴿فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ﴾ من السماء ﴿اهْتَزَّتْ﴾ وتحرّكت بالنبات كما يتحرّك الشابّ النّشيط وزيّنت بالأزهار ﴿وَرَبَتْ﴾ وانتفخت ونمت ﴿وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ﴾ ونوع من الزّرع وصنف من الغرس ﴿بَهِيجٍ﴾ وذي حسن ونضارة ﴿ذلِكَ﴾ الصّنع البديع من خلق الإنسان على أطوار مختلفة ، وإحياء الأرض بعد موتها كائن ﴿بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ﴾ والموجود الثابت لذاته الذي لا عجز له ولا فناء ﴿وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى﴾ كما أمات الأحياء ﴿وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من بدء الخلق وإعادته ﴿قَدِيرٌ﴾ وإلّا لما صدر منه تلك التعاجيب ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ﴾ والقيامة التي تجزى فيها العباد ﴿آتِيَةٌ﴾ لا محالة بمقتضى حكمته ووعده الذي لا خلف فيه ، و﴿لا رَيْبَ فِيها﴾ لوضوح دليلها ﴿وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ إلى المحشر ، فإنّه لو لا الساعة والبعث لما خلق الإنسان وما أحيا الأرض ، بل لما خلق العالم أصلا ، لكون خلقه عبثا.

والحاصل : أنّ خلق الإنسان وإحياء الأرض ، إنّما كان بسبب القدرة وظهور شؤون الالوهيّة وحقّيته في كمال صفاته ، وبسبب حكمته المقتضية لإتيان الساعة والبعث ، وحقّيته في أفعاله.

وقيل : إنّ قوله : ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ﴾ خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : الأمر أنّ الساعة آتية (٤) .

وقيل : إنّ الباء (٥) في قوله : ﴿بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ﴾ ليس للسببيّة ، بل متعلق بالفعل المحذوف(٦)،

__________________

(١) الكافي ٦ : ٥٢ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٧٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٤.

(٣) مجمع البيان ٦ : ٥٧٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٤.

(٤) تفسير أبي السعود ٦ : ٩٦.

(٥) في النسخة : إن كلمة باء.

(٦) تفسير أبي السعود ٦ : ٩٦.

٣٢٥

والتقدير : ذلك لتعلموا أنّ الله هو الحقّ.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ * ثانِيَ

 عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ

 الْحَرِيقِ * ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٨) و (١٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ أتباع شياطين الإنس ذمّ المتبوعين بقوله : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً﴾ ودليل واضح ﴿وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ﴾ ووحي موضح للحّق.

وقيل : إنّ الآية السابقة نزلت في النضر بن الحارث ، وهذه الآية نزلت في أبي جهل (١) .

وعن ابن عباس : هذه الآية أيضا نزلت في النّضر (٢) ، ويكون التكرير للمبالغة في الذمّ (٣) .

وقيل : إنّ المراد بالعلم العلم الضروري ، وبالهدى العلم النظري والاستدلالي ، وبالكتاب المنير الدليل السمعي (٤) ، ويحتمل أن يكون المراد بالعلم العلم الكشفي ، وبالهدى البرهان العقلي ، وبالكتاب الوحي السماوي.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذّمهم بضلالة أنفسهم ذمّهم بالتكبّر وإضلال الناس بقوله : ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ﴾ تكبّرا ، ولاوي عنقه وكتفه تعظّما ، ويكون جداله ﴿لِيُضِلَ﴾ النّاس ويحرفهم ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ ودين الإسلام.

ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ وهوان وذلّ وفضيحة ﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ﴾ النار ﴿الْحَرِيقِ﴾ أو العذاب المحرق ، ويقال له : ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من الخزي في الدنيا والعذاب الحريق في هذا اليوم هو ما تستحقّه ﴿بِما قَدَّمَتْ يَداكَ﴾ واكتسبته بسعيك من الكفر والمعاصي ﴿وَ﴾ الأمر ﴿أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ بل هم ظالمون على أنفسهم.

قيل : إنّ ذكر ( ظلّام ) المتضمّن للكثرة في موقع لفظ الظّلم للتنبيه على أنّ قليل الظلم منه تعالى كثير ، أو باعتبار كثرة العبيد (٥) .

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ

 فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المتجاهرين بالكفر المصرّين عليه ، ذمّ المنافقين المبطنين للكفر المظهرين للإسلام بقوله : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ﴾ ويتديّن بدينه ﴿عَلى حَرْفٍ﴾ وطرف واحد من الدّين

__________________

(١-٣) تفسير الرازي ٢٣ : ١١.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ١١.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ١٠.

٣٢٦

وهو لسانه ، لا على وسطه وهو قلبه ، وهو كناية عن قلقه واضطرابه في الدين ، فهو كالذي يقوم على طرف الجيش ليسهل عليه الفرار ، إن أحسّ بشرّ فهو لا سكون له ولا طمأنينة ﴿فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ﴾ من سعة (١) وراحة ﴿اطْمَأَنَ﴾ بسبب ذلك الخير وسكن ﴿بِهِ﴾ في الدين ، وثبت على ما كان عليه من الإيمان الظاهريّ اللّساني ﴿وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ وبليّة من شرّ ومكروه يعتريه في نفسه أو أهله أو ماله ﴿انْقَلَبَ﴾ وانصرف ﴿عَلى وَجْهِهِ﴾ وطريقه السابق من الكفر ، ورجع إلى ما كان عليه من الضّلال ﴿خَسِرَ﴾ وفقد ﴿الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ﴾ وذهبتا من يده وتضرّر فيهما بضياع مقصوده في الدنيا من العزّ والسلامة وسائر المنافع والتمتّعات وفوات غرضه في الآخرة من نيل الثواب والسّلامة من العقاب ﴿ذلِكَ﴾ الخسران ﴿هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ﴾ والضّرر الواضح عند العقلاء ، إذ لا خسران أعظم منه.

عن ابن عباس : نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا صحّ [ بها ] جسمه ، ونتجت فرسه مهرا حسنا ، وولدت امرأته غلاما ، وكثر ماله وماشيته ، رضي بالدّين واطمئنّ إليه ، وإن أصابه وجع ، وولدت امرأته جارية ، أو أجهضت رماكه (٢) ، وذهب ماله ، وتأخّرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان وقال له : ما جاءتك هذه الشّرور إلّا بسبب هذا الدّين ، فينقلب عن دينه (٣) .

وقيل : نزلت في المؤلّفة قلوبهم ، منهم : عيينة بن بدر ، والأقرع بن حابس ، والعبّاس بن مرداس ، قال بعضهم لبعض : ندخل في دين محمّد ، فإن أصبنا خيرا عرفنا أنّه حقّ ، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنّه باطل (٤) .

وقيل : أسلم رجل من اليهود ، فذهب بصره وماله وولده ، فقال : يا رسول الله أقلني ، فإنّي لم أصب من ديني هذا خيرا ، ذهب بصري وولدي ومالي. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الاسلام لا يقال ، إنّ الإسلام ليسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذّهب والفضّة » فنزلت هذه الآية (٥) .

عن الباقر عليه‌السلام قال : « هم قوم وحّدوا الله ، وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله ، فخرجوا من الشّرك ولم يعرفوا أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الله ، فهم يعبدون الله على شكّ في محمّد وما جاء به ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : ننظر ، فإن كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا ، علمنا أنّك صادق ، وأنّك رسول الله ، وإن كان غير ذلك نظرنا. قال الله : ﴿فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ﴾ يعني عافية في الدنيا ﴿وَإِنْ

__________________

(١) في النسخة : وسعة.

(٢) الرماك : جمع رمكة ، وهي الفرس أو البرذونة تتخذ للنسل.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ١٣.

(٤ و٥)  تفسير الرازي ٢٣ : ١٣.

٣٢٧

أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ يعني بلاء في نفسه ﴿انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ﴾ أي انقلب على الشّرك » (١) .

﴿يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا

 لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ * إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ

 آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما

 يُرِيدُ (١٢) و (١٤)

ثمّ ذمّ سبحانه العابد على حرف على شركه المضمر بقوله : ﴿يَدْعُوا﴾ ذلك الضالّ في الباطن ويعبد ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه ﴿ما لا يَضُرُّهُ﴾ إن لم يعبده ﴿وَما لا يَنْفَعُهُ﴾ إن عبده ﴿ذلِكَ﴾ الدّعاء ﴿هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ﴾ عن الحقّ والصواب بحيث لا يرجى هدايته ، لوضوح أنّ الجماد لا يليق بالدعاء ولا يجيىء منه الضّرر والنفع.

ثمّ بالغ سبحانه في تقبيح عملهم وتسفيه أحلامهم بقوله : ﴿يَدْعُوا﴾ ذلك الأحمق الغبيّ ﴿لَمَنْ ضَرُّهُ﴾ بسبب عبادته ودعائه الموجب للقتل والخذلان في الدنيا ، والعذاب بالنّار في الآخرة ﴿أَقْرَبُ﴾ إليه ﴿مِنْ نَفْعِهِ﴾ المتوقّع من عبادته بزعمهم من الشفاعة والقرب من الله ، والله ﴿لَبِئْسَ الْمَوْلى﴾ والناصر ذلك المعبود ﴿وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾ والصاحب ، وإنّما ذكر كلمة ( من ) في قوله : ﴿لَمَنْ﴾ في مورد كلمة ( ما ) وصيغة التفضيل مماشاة للمشركين المنزّلين للأصنام منزلة العقلاء ، والقائلين بأنّها الضارّات النافعات.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الأصنام ، وأنّها لا تنفع ولا تضرّ ، بيّن نفعه بالمؤمنين وتفضّله عليهم بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ﴾ في الآخرة ﴿يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ووحدانيّته ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ بلطفه وتفضّله ﴿إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ﴾ من إثابة الموحّدين وتعذيب المشركين لا دافع لها ولا مانع.

﴿مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى

 السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥)

ثمّ لمّا بيّن تفضّله على المؤمنين (٢) ، بيّن لطفه بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وتفضّله عليه بنصرته بقوله : ﴿مَنْ كانَ يَظُنُ﴾ ويتوهّم في حقّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا﴾ بإعلاء دينه ، وقهر أعدائه ، ﴿وَ

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٠٣ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٦.

(٢) في النسخة : تفضّله بالمؤمنين.

٣٢٨

في ﴿الْآخِرَةِ﴾ بإعلاء درجته ودرجة المؤمنين به ، والانتقام من معارضيه ومكذّبيه ، ويغيظه ما يرى من خلاف ما توهّمه ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾ وليربط عنقه ﴿بِسَبَبٍ﴾ وحبل ﴿إِلَى السَّماءِ﴾ المطلّة ، أو سقف بيته ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ ذلك الحبل فيسقط على الأرض ويموت ، أو ليقطع نفسه ويختنق ﴿فَلْيَنْظُرْ﴾ وليتصوّر في نفسه ﴿هَلْ يُذْهِبَنَ﴾ ويزيلنّ ﴿كَيْدُهُ﴾ وتدبيره وفعله ذلك بنفسه ﴿ما يَغِيظُ﴾ من نصرة الله لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ كلّا ، لا يقدر على دفع نصرة الله له وإن أهلك نفسه من شدّة غضبه ؛ لأنّ الله لا يعجزه شيء عن إنفاذ إرادته.

قيل : كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر ، فنزلت (١) .

وقيل : إنّ أعداءه كانوا يتوقّعون أن لا ينصره الله ، فلمّا شاهدوا أنّ الله نصره غاظهم ذلك ، فنزلت (٢) .

وحاصل المعنى أنّه تعالى ناصر رسوله لا محالة ، فمن كان يغيظه ذلك أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته فليبالغ في الجدّ في دفعه ، فقصارى أمره وعاقبة مكره أن يختنق ممّا يرى من بطلان سعيه في ذلك.

وقيل : إنّ المراد فليمدد حبلا إلى السماء المطلّة وليصعد عليها ، ثمّ ليقطع الوحي ، أو فليقطع نصر الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) .

وقيل : إنّ ضمير ( لن ينصره ) راجع إلى الموصول ، والمراد من النصرة الرزق ، والمعنى من كان يظنّ أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة ، ولذا يعدل عن التمسّك بدين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليبالغ في الجزع ، وغايته الاختناق ، فإنّ ذلك لا يقلب القسمة ولا يجعله مرزوقا (٤) .

عن مقاتل : أنّها نزلت في نفر من أسد وغطفان ، فإنّهم قالوا : نخاف أن لا ينصر الله محمّدا ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود ، فلا يميروننا (٥) .

﴿وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ

 هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ

 يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٦) و (١٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال المشركين والمؤمنين وعدم قدرة أحد على المنع من إنفاذ إرادته بأبلغ

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢٣ : ١٦.

(٣) تفسير الكشاف ٣ : ١٤٨.

(٤) مجمع البيان ٧ : ١٢١.

(٥) تفسير الرازي ٢٣ : ١٦.

٣٢٩

بيان ، بيّن أنّ جميع القرآن في البيان في درجة الإعجاز بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ الإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة في هذا القرآن ﴿أَنْزَلْناهُ﴾ كلّه حال كون جميعه ﴿آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ والبيانات البالغة حدّ الإعجاز الواضحات الدلالة على المعاني الرائقة اللطيفة مع غاية الإيجاز ﴿وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي﴾ به إلى الحقّ والدرجات العالية في الدنيا والآخرة ﴿مَنْ يُرِيدُ﴾ هدايته إليها.

قيل : إنّ التقدير ولأنّ الله يهدي من يريد أنزله كذلك ، أو الأمر أنّ الله يهدي ، إلى آخره (١) .

في الحديث : « أنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ، ويضع به آخرين » (٢) .

ثمّ بيّن الله الفرقة المهديّة والفرق الضّلّال ، وأخبرهم بإعطاء كلّ منهم ما يستحقّه بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما يجب الإيمان به ﴿وَالَّذِينَ هادُوا﴾ واتّخذوا الملّة اليهوديّة ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ وعبدة الملائكة والكواكب الخارجين عن الأديان كلّها ، وقيل : هم المتديّنون بدين نوح (٣)﴿وَالنَّصارى﴾ الّذين اختاروا دين المسيح ﴿وَالْمَجُوسَ﴾ الذين عبدوا النّار ﴿وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ وعبدوا الأصنام ﴿إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ﴾ ويقضي ﴿بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ بإثابة المؤمنين ، وتعذيب الفرق الخمس الاخر المتفقين على الكفر ، ولا تخفى عليه بواطنهم وظواهرهم ومقدار استحقاقهم وما يستحقّون ، بل ﴿إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من خفيّات عوالم الملك والملكوت وجليّاتها ﴿شَهِيدٌ﴾ وبها عليم.

﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ

 وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ

 الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٦) و (١٨)

ثمّ بيّن سبحانه ما يوجب الفصل بينهم من التوحيد والشّرك والخضوع لله والاستنكاف منه بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ ولم تعلم أيّها الّذي من شأنك العلم ﴿أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ﴾ ويخضع ﴿لَهُ﴾ وحده وينقاد لحكمه طوعا أو كرها ﴿مَنْ فِي السَّماواتِ﴾ من الملائكة ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الثّقلين ﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ﴾ كالوحوش والطيور ونظائرهما ﴿وَ﴾ يسجد له ﴿كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ سجود طاعة وعبادة ، أو يوحّده : كما عن ابن عباس (٤) . أو في الجنّة ، أو حقّ له الثواب ﴿وَكَثِيرٌ﴾ منهم ﴿حَقَ﴾ وثبت ﴿عَلَيْهِ الْعَذابُ﴾ بكفره وإشراكه وعصيانه ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللهُ﴾ ويشقيه بخذلانه وتعذيبه ﴿فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ يكرمه بإسعاده وإثابته ﴿أَنَّ اللهَ﴾ وحده هو الذي

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ١٠٠.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ١٤.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ١٥.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٠.

٣٣٠

﴿يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ من الإكرام والإهانة وغيرهما.

﴿هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ

 يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ

 مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا

 عَذابَ الْحَرِيقِ (١٩) و (٢٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر فرقة المؤمنين وفرقة الكفّار المنقسمة إلى خمس فرق ، بيّن ما فيه اختلافهم وكيفيّة الفصل بينهم بقوله : ﴿هذانِ﴾ الفريقان ﴿خَصْمانِ﴾ متنازعان ، الذين ﴿اخْتَصَمُوا﴾ وتنازعوا ﴿فِي﴾ ذات ﴿رَبِّهِمْ﴾ وصفاته كما عن ابن عبّاس (١) . أو في دينه المرضيّ عنده ، وإنّما كان تخاصمهم [ يتمثّل في ] بناء أقوالهم وأفعالهم على ما كانوا يعتقدون ، وإن لم يجر بينهما تحاور.

قيل : تخاصمت اليهود والمؤمنون فقالت اليهود : نحن أحقّ بالله ، لأنّ كتابنا أقدم (٢) ، ونبيّنا قبل نبيّكم.

وقال المؤمنون : نحن أحقّ بالله ، لأنّا آمنّا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبنبيّكم ، وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبيّنا ، ثمّ كفرتم به حسدا ، فنزلت (٣) .

وروي أنّ تلك المحاجّة كانت بين عامّة أهل الكتاب والمؤمنين (٤) .

وروي أنّ أبا ذرّ رضوان الله عليه كان يحلف بالله على أنّ الآية نزلت في ستّة من قريش تبارزوا يوم بدر : حمزة ، وعلي ، وعبيدة ، وعتبة ، وشيبة ، والوليد. وقال عليّ عليه‌السلام : « أنّا أوّل من يجثوا للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة » (٥) .

وقيل : إنّ الخصمين الجنّة والنار ؛ قالت النار ، خلقني الله لعقوبته ، وقالت الجنّة : خلقني الله لرحمته ، فقصّ الله خبرهما لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) .

وعن الحسين بن علي عليهما‌السلام قال : « نحن وبنو اميّة ، قلنا : صدق الله ورسوله ، وقالت بنو اميّة : كذب الله ورسوله ، فنحن الخصمان يوم القيامة » (٧) .

وأمّا كيفيّة الفصل ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من الفرق ﴿قُطِّعَتْ﴾ وقدّرت ﴿لَهُمْ﴾ على مقادير جثثهم ﴿ثِيابٌ مِنْ نارٍ﴾ يلبسونها.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١.

(٢) في تفسير أبي السعود : وأقدم منكم كتابا.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ١٠١.

(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١.

(٥ و٦) تفسير الرازي ٢٣ : ٢١.

(٧) الخصال : ٤٢ / ٣٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٨.

٣٣١

وقيل : شبّه الله إحاطة النّار بهم بإحاطة الثياب بلابسها (١) .

وعن سعيد بن جبير : أي من نحاس اذيب بالنّار (٢) .

﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ والماء الحارّ المتناهي في الحرارة. عن ابن عباس : لو قطرت قطرة منه على جبال [ الدنيا ] لأذابها (٣) .

﴿يُصْهَرُ﴾ ويذاب ﴿بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ﴾ من الأحشاء والأمعاء ﴿وَالْجُلُودُ﴾ فتأثيره في بواطنهم كتأثيره في ظواهر [ هم ] .

القمي قال : تشويه النار ، فتسترخي شفته السّفلى حتى تبلغ سرّته ، وتتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه (٤) .

﴿وَ﴾ أعدّ ﴿لَهُمْ مَقامِعُ﴾ وأعمدة كما قال القمي (٥) . أو سياط ﴿مِنْ حَدِيدٍ﴾ محماة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ولهم مقامع من حديد لو وضع مقمع من حديد في الأرض ثمّ اجتمع عليه الثّقلان ما أقلوه من الأرض » (٦) .

﴿كُلَّما أَرادُوا﴾ وأيّ وقت أشرفوا على ﴿أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها﴾ ويتخلّصوا ﴿مِنْ غَمٍ﴾ من غمومها الشديدة التي تصيبهم فيها ، بأن يضربهم لهبها فيرفعهم إلى أعاليها ﴿أُعِيدُوا فِيها﴾ وردّوا من أعاليها إلى أسافلها بضرب الأعمدة على رؤوسهم ﴿وَ﴾ قيل لهم : ﴿ذُوقُوا﴾ وأطعموا ﴿عَذابَ الْحَرِيقِ﴾ وألم النار البالغة في الأحراق ، أو ألم الغليظ من النّار.

عن الصادق عليه‌السلام في رواية : « أنّ أهل النّار [ يعظّمون النار ، وإنّ ] أهل الجنّة [ يعظّمون الجنّة ] والنعيم ، وإنّ أهل جهنّم إذا دخلوها هووا فيها [ مسيرة ] سبعين عاما ، فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد واعيدوا في دركها ، هذه حالهم ، وهو قول الله عزوجل : ﴿كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ﴾ ثمّ تبدّل جلودهم غير الجلود التي كانت عليهم » (٧) الخبر.

﴿إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

 الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ * وَهُدُوا

 إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٣) و (٢٤)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه قضاءه في حقّ الكفّار وسوء حالهم في الآخرة ، بيّن قضاءه في حقّ المؤمنين وحسن حالهم فيها بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ فعظّم الله شأنهم بإسناد إدخالهم الجنة إلى نفسه ، ثمّ بيّن ما أعدّ للمؤمنين بدل ما أعدّ للكفّار

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ١٠١ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٨.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٢ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٠١.

(٤ و٥) تفسير القمي ٢ : ٨٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٨.

(٦) مجمع البيان ٧ : ١٢٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٨.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٨١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٩.

٣٣٢

من المقامع بقوله : ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ ويزيّنون ﴿فِيها﴾ بأمر الله وتصدّي الملائكة ﴿مِنْ أَساوِرَ﴾ كائنة ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾ أحمر على ما قيل (١)﴿وَ﴾ يحلّون ﴿لُؤْلُؤاً﴾ لتزيّنهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان لباس الكفّار في جهنّم ، بيّن لباس المؤمنين في الجنّة بقوله : ﴿وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ﴾ وثوب من إبريسم محض ، وإنّما غيّر الاسلوب ، حيث لم يقل : ويلبسون حريرا ، إشعار بأنّ لباسهم أمر غنيّ عن البيان ، وإنّما المحتاج إلى البيان تعيين جنسه ﴿وَهُدُوا﴾ فيها ﴿إِلَى الطَّيِّبِ﴾ والأحسن ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾ كقول : الحمد لله الّذي هدانا لهذا ، وقوله : الحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن ، وقوله : الحمد لله الّذي صدقنا وعده ، كما عن ابن عباس (٢) .

وقيل : هو البشارة التي تأتيهم من قبل الله (٣) .

وقيل : يعني هدوا في الدّنيا إلى القول الطيّب ، وهو شهادة أن لا إله إلّا الله (٤) .

وقيل : هو القرآن (٥) .

﴿وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ﴾ والطّريق المحمود نفسه أو عاقبته. وقيل : إنّ الصّراط هو الإسلام ، والحميد هو الله المستحقّ للحمد بذاته ، وإنّما أخّر هذه الهداية عن الهداية إلى القول الطيّب مع تقدّمها عليها رعاية للفواصل (٦) .

عن الصادق عليه‌السلام - في هذه الآية - قال : « ذاك حمزة وجعفر وعبيدة وسلمان وأبو ذرّ والمقداد بن الأسود وعمّار ، هدوا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام » (٧) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « هو والله هذا الأمر الذي أنتم عليه » (٨) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ

 سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قضائه في حقّ الكفّار وشدّة عذابهم ، ذكر أعظم جرائمهم بعد الكفر بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ الناس ويمنعونهم ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ والدخول في دينه وطاعته والهجرة إلى رسوله ﴿وَ﴾ عن دخول ﴿الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ وطواف البيت فيه ، مع أنّه المكان ﴿الَّذِي جَعَلْناهُ﴾ وصيّرناه معبدا ﴿لِلنَّاسِ﴾ كائنا من كان ﴿سَواءً الْعاكِفُ﴾ والمقيم ﴿فِيهِ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٢ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٠٢ ، ولم ينسبه إلى ابن عباس.

(٣-٥) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٢.

(٦) تفسير أبي السعود ٦ : ١٠٢.

(٧) الكافي ١ : ٣٥٢ / ٧١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٠.

(٨) المحاسن : ١٦٩ / ١٣٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٩.

٣٣٣

وَالْبادِ﴾ والمسافر البعيد إليه من حيث السّكنى والطّواف والتّعبّد.

عن ابن عباس : نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عام الحديبية عن المسجد الحرام ، وأن يحجّ ويعتمر وينحر الهدي ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قتالهم ، وكان محرما بعمرة ، ثمّ صالحوه على أن يعود في العام القابل (١) .

وعنه أيضا : أنّهما يستويان في سكنى مكّة والنزول بها ، فليس أحدهما أحقّ بالمنزل الّذي يكون فيه من الآخر إلّا أن يكون واحد سبق إلى المنزل » (٢) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « مكّة مباح لمن سبق إليها » (٣) .

القمي : نزلت في قريش حين صدّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة ، وقوله : ﴿سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ﴾ قال : أهل مكّة ومن جاء [ إليهم ] من البلدان ، فهم فيه سواء ، لا يمنع من النّزول ودخول الحرم (٤) .

في ( نهج البلاغة ) - في كتاب كتبه أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى قثم بن عبّاس ، وهو عامله على مكّة - : « [ ومر أهل مكّة ] أن لا يأخذوا من ساكن أجرا ، فإنّ الله يقول : ﴿سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ﴾ فالعاكف المقيم به ، والبادي الّذي يحجّ إليه من غير أهله » (٥) .

وعنه عليه‌السلام أنّه كره إجارة بيوت مكّة (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أوّل من علّق على بابه المصراعين بمكّة معاوية ، فمنع حاجّ بيت الله ، وقد قال الله عزوجل : ﴿سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ،﴾ وكان النّاس إذا قدموا مكّة نزل البادي على الحاضر حتى يقضي حجّه » الخبر (٧) .

وعنه عليه‌السلام في هذه الآية : « لم يكن ينبغي أن يوضع على دور مكّة أبواب ، لأنّ للحجّاج أن ينزلوا معهم في دورهم في ساحة الدّار حتى يقضوا مناسكهم ، وإنّ أوّل من جعل لدور مكّة أبوابا معاوية»(٨) .

ثمّ بيّن سبحانه حرمة المسجد بقوله : ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ مرادا ﴿فِيهِ﴾ حال كونه متلبّسا ﴿بِإِلْحادٍ﴾ وعدول عن القصد ملتبسا ﴿بِظُلْمٍ.﴾ وقيل : إنّ المراد من يرد أن يأتي فيه بإلحاد ، وهو الشرك بالله ، كما عن ابن عبّاس (٩) .

روي أنّ الآية نزلت في عبد الله بن سعد حيث استسلمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فارتدّ مشركا ، وفي قيس بن ضبابة (١٠) .

وعن مقاتل : نزلت في عبد الله بن خطل حين قتل الأنصاري وهرب إلى مكّة كافرا ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٣.  (٢ و٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٤.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٨٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧١.  (٥) نهج البلاغة : ٤٥٨ كتاب ٦٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧١.

(٦) قرب الإسناد : ١٤٠ / ٤٩٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧١.

(٧) الكافي ٤ : ٢٤٣ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧١. (٨) علل الشرائع : ٣٩٦ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧١.

(٩ و١٠) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٥.

٣٣٤

بقتله يوم فتح مكّة (١) .

وقيل : إنّه قتل ما نهى الله عنه من الصّيد (٢) .

وقيل : إنّه دخول مكّة بغير إحرام وارتكاب ما لا يحلّ للمحرم (٣) .

وقيل : إنّه الاحتكار (٤) .

وقيل : إنّه المنع من عمارته (٥) .

وقيل : هو قول الرجل : لا والله ، وبلى والله (٦) .

وقيل : عامّ في كلّ المعاصي (٧) .

وعن ابن مسعود : لو أنّ رجلا بعدن همّ بأن يعمل سيّئة عند البيت أذاقه الله عذابا أليما (٨) .

ويحتمل أن يكون المراد من يرد فيه مرادا عادلا عن القصد بسبب ارتكابه الظّلم على نفسه أو غيره ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ﴾ فالواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السّداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده.

عن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية : « من عبد فيه غير الله وتولّى فيه غير أولياء الله ، فهو ملحد بظلم ، وعلى الله تبارك وتعالى أن يذيقه من عذاب أليم » (٩) .

وعنه عليه‌السلام فيها : « كلّ ظلم إلحاد ، وضرب الخادم من غير ذنب من ذلك الإلحاد » (١٠) ، وسئل عن أدنى الإلحاد فقال : « إنّ الكبر أدناه » (١١) .

وعنه عليه‌السلام : « كلّ ظلم يظلم به الرجل نفسه بمكّة من سرقة أو ظلم أحد أو شيء من الظّلم ، فإنّي أراه إلحادا ، ولذلك كان ينهى عن أن يسكن [ الحرم ] » (١٢) .

وعنه عليه‌السلام : أنّه قيل له : إنّ سبعا من سباع الطّير على الكعبة ، ليس يمرّ به شيء من حمام الحرم إلّا ضربه ؟ فقال : « انصبوا له واقتلوه ، فإنّه قد ألحد في الحرم » (١٣) .

وعنه عليه‌السلام قال : « نزلت فيهم حيث دخلوا الكعبة فتعاهدوا وتعاقدوا على كفرهم وجحودهم بما نزل في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول ووليّه فبعدا للقوم الظّالمين » (١٤) .

﴿وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ

__________________

(١-٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٥.

(٥-٨) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٥.

(٩) الكافي ٨ : ٣٣٧ / ٥٣٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٢.

(١٠) الكافي ٤ : ٢٧٧ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٢.

(١١) الكافي ٢ : ٢٣٣ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٢.

(١٢) الكافي ٤ : ٢٢٧ / ٣ ، علل الشرائع : ٤٤٥ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٢.

(١٣) الكافي ٤ : ٢٢٧ / ١ ، علل الشرائع : ٤٥٣ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٢.

(١٤) الكافي ١ : ٣٤٨ / ٤٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٢.

٣٣٥

وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)

ثمّ ذكر سبحانه جملة من تشريفات البيت الحرام بقوله : ﴿وَإِذْ بَوَّأْنا﴾ وبيّنا ﴿لِإِبْراهِيمَ﴾ أن يبني ﴿مَكانَ الْبَيْتِ﴾ وقيل : إنّ المعنى اذكر وقت جعلنا مكان البيت مباءة ومرجعا لإبراهيم عليه‌السلام يرجع إليه للعمارة والعبادة (١) .

وقلنا له : ﴿أَنْ لا تُشْرِكْ بِي﴾ يا إبراهيم في العبادة وعمل العمارة ﴿شَيْئاً﴾ من الأشياء ، وغرضا من الأغراض ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ بعد بنائه من الأوثان والأقذار ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ به ﴿وَالْقائِمِينَ﴾ العاكفين فيه ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.

عن ابن عباس قال : للطّائفين بالبيت من غير أهل مكّة ، والقائمين أي المقيمين بها ، والرّكّع السجود أي من المصلّين (٢) .

وقيل : إنّ المراد من الأوصاف الثلاثة المصلّون ؛ لأنّ الصلاة جامعة للقيام والرّكوع والسّجود (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ الله يقول : ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلّا وهو طاهر قد غسل عرقه والأذى وتطهّر » (٤) .

قيل : لعلّه كان ذلك المكان صحراء ، وكانوا يرمون إليها الأقذار ، فأمر إبراهيم عليه‌السلام ببناء البيت في ذلك المكان ، وتطهيره من الأقذار ، أو كان معمورا ، وكانوا قد وضعوا فيه الأصنام ، فأمره الله بتخريبه ووضع بناء جديد (٥) .

﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧)

ثمّ أوحى الله إليه بعد إتمام البيت بقوله : ﴿وَأَذِّنْ﴾ يا إبراهيم ﴿فِي النَّاسِ﴾ وأعلمهم ﴿بِالْحَجِ﴾ فإذا أذّنت فيهم ﴿يَأْتُوكَ رِجالاً﴾ ومشاة على أرجلهم ﴿وَ﴾ ركبانا ﴿عَلى كُلِّ ضامِرٍ﴾ وبعير مهزول من بعد المسير ﴿يَأْتِينَ﴾ إلى هذا البيت ﴿مِنْ كُلِّ فَجٍ﴾ وطريق واسع ، أو طريق بين الجبلين ﴿عَمِيقٍ﴾ وبعيد منحدر إلى السفل (٦) .

روي أنّ إبراهيم عليه‌السلام لمّا فرغ من بناء البيت قال الله تعالى له : ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ﴾ قال : يا

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٦.

(٢و٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٧.

(٤) الكافي ٤ : ٤٠٠ / ٣ ، التهذيب ٥ : ٩٨ / ٣٢٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٢.

(٥) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٧.

(٦) السفل : نقيض العلو.

٣٣٦

ربّ ، وما يبلغ صوتي ؟ قال تعالى : عليك الأذان وعليّ البلاغ ، فصعد إبراهيم عليه‌السلام على الصّفا (١) . وفي رواية : على أبي قبيس (٢) . وفي اخرى : على المقام (٣) ؛ فارتفع المقام حتى صار كطول الجبال ، فأدخل إصبعيه في اذنيه ، وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا وقال : أيّها النّاس ، ألا إنّ ربّكم قد بنى بيتا ، وكتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق ، فأجيبوا ربّكم ، وحجّوا بيته الحرام ، ليثيبكم به الجنّة ، ويجيركم من النّار.

وفي رواية : قال إبراهيم عليه‌السلام كيف أقول يا جبرئيل ؟ قال جبرئيل : قل لبّيك أللهم لبّيك ، فهو أوّل من لبّى (٤) .

وفي رواية اخرى قال : إنّ الله يدعوكم إلى حجّ البيت الحرام ليثيبكم به الجنّة ، ويخرجكم من النّار ، فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرّجال وأرحام النساء ، وكلّ من وصل إليه صوته من حجر أو شجر أو مدر أو أكمة أو تراب (٥) .

وفي رواية : فسمعه أهل ما بين السماء والأرض ، فما [ بقي شيء ] سمع صوته إلّا أقبل يقول : لبّيك اللهمّ لبّيك ، فأول من أجاب أهل اليمن ، فهم أكثر النّاس حجّا (٦) .

وقال مجاهد : من أجاب مرّة حجّ مرّة ، ومن أجاب مرّتين أو أكثر يحجّ مرّتين أو أكثر بذلك المقدار (٧) .

وعن ابن عباس : لمّا أمر إبراهيم عليه‌السلام بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت ، وارتفعت له القرى(٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « لمّا امر إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ببناء البيت ، وتمّ بناؤه ، قعد إبراهيم عليه‌السلام على ركن ثمّ نادى : هلمّ الحجّ ، هلمّ الحجّ ، فلبى الناس في أصلاب الرجال وقالوا : لبّيك داعي الله ، لبّيك داعي الله ، فمن لبّى عشرا حجّ عشرا ، ومن لبّى خمسا حجّ خمسا ، ومن لبّى أكثر فبعدد ذلك ، ومن لبّى واحدا حجّ مرّة ، ومن لم يلبّ لم يحجّ » (٩) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « إنّ الله جلّ جلاله لمّا أمر إبراهيم عليه‌السلام ينادي في الناس بالحجّ ، قام على المقام فارتفع به حتى صار بإزاء أبي قبيس ، فنادى في الناس بالحجّ ، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٧ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٤.

(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٧ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٥.

(٤ و٥) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٧.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ٢٥.

(٧) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٧ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٥.

(٨) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٧.

(٩) الكافي ٤ : ٢٠٦ / ٦ ، علل الشرائع : ٤١٩ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٣.

٣٣٧

النساء إلى أن تقوم الساعة » (١) .

وقال القمي : لمّا فرغ إبراهيم عليه‌السلام من بناء البيت ، أمره الله أن يؤذّن في الناس بالحجّ ، فقال : يا ربّ ، ما يبلغ صوتي ، فقال الله : أذّن ، عليك الأذان ، وعليّ البلاغ. وارتفع على المقام وهو يومئذ ملصق بالبيت ، فارتفع المقام حتى كان أطول من الجبال ، فأدخل إصبعيه في اذنيه ، وأقبل بوجهه شرقا وغربا ، ونادى : أيّها الناس ، كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق ، فأجيبوا ربّكم ؛ فأجابوه من تحت البحور السبعة ، ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التّراب من أطراف الأرض كلّها ، ومن أصلاب الرجال وأرحام النساء بالتّلبية : لبّيك اللهمّ لبّيك ، ألا ترون يأتون يلبّون ، فمن حجّ يومئذ إلى يوم القيامة ، فهم ممّن استجاب لله سبحانه [ و] ذلك [ قوله : ﴿فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ﴾](٢) .

وقال بعض العامّة : إنّ المأمور بقوله : ﴿أَذِّنْ﴾ هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسب ذلك القول إلى أكثر المعتزلة ، واستدلّ عليه بأنّ الخطابات التي تكون في القرآن إذا أمكن حملها على كون المخاطب بها محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجب حملها على ذلك ، لأنّه أولى (٣) . وعليه يكون معنى الآية : اذكر يا محمّد إذ بوّأنا لإبراهيم ... إلى آخره ، وأذّن أنت يا محمد بالحجّ يأتوك رجالا.

وقيل : إنّ المراد بالأذان إعلانه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتّلبية حتى يعلم الناس أنّه حاجّ فيحجّوا معه ويقتدوا به(٤).

وفي ( الكافي ) عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ ، ثمّ أنزل الله تعالى : ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ﴾ الآية ، فأمر المؤذّنين أن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم بأنّ رسول الله يحجّ في عامة [ هذا ] فعلم به من حضر بالمدينة وأهل العوالي والأعراب ، واجتمعوا لحجّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون فيتّبعونه ، أو يصنع شيئا فيصنعونه » (٥) . وإنّما قدّم ذكر المشاة للإشعار بفضيلتهم على الرّكبان.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الحاجّ الراكب له بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة ، وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم » قيل : يا رسول الله ، وما حسنات الحرم ؟ قال : « الحسنة بمائة ألف حسنة » (٦) .

﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ

 بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا

 نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٨) و (٢٩)

__________________

(١) علل الشرائع : ٤١٩ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٨٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٣.

(٣ و٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٨.

(٥) الكافي ٤ : ٢٤٥ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٣.

(٦) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٨.

٣٣٨

ثمّ بيّن سبحانه حكمة الأمر بالحجّ بقوله : ﴿لِيَشْهَدُوا﴾ وليحضروا ﴿مَنافِعَ﴾ مختصّة بهذه العبادة ﴿لَهُمْ﴾ من المنافع الدنيويّة ، كالتجارة في أيّام الحجّ كما قيل (١) ، أو منافع أخرويّة كما رواه بعض العامّة عن الباقر عليه‌السلام (٢) ، أو هما كما عن الصادق عليه‌السلام أنّه يطاف به حول الكعبة في محمل ، وهو شديد المرض ، فكان كلّما بلغ الرّكن اليماني أمرهم فوضعوه على الأرض ، فأخرج يده من كوّة المحمل حتى يجرّها على الأرض ، ثمّ يقول : « ارفعوني » فلمّا فعل ذلك مرارا في كلّ شوط ، قيل له : يابن رسول الله ، إنّ هذا يشقّ عليك ؟ فقال : « إنّي سمعت الله عزوجل يقول : ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ فقيل : منافع الدنيا أو منافع الآخرة ؟ فقال : « الكلّ » (٣) .

وعنه عليه‌السلام : أنّه قيل له : لو أرحت بدنك من المحمل ؟ فقال : « إنّي أحبّ أن أشهد المنافع التي قال الله عزوجل : ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ إنّه لا يشهدها أحد إلّا نفعه الله ، أمّا أنتم فترجعون مغفورا لكم ، وأمّا غيركم فيحفظون في أهاليهم وأموالهم » (٤) .

وفي ( المجمع ) عنه عليه‌السلام : « منافع الآخرة هي العفو والمغفرة » (٥) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « وعلّة الحجّ الوفادة على الله تعالى ، وطلب الزيادة ، والخروج من كلّ ما اقترف ، وليكون تائبا ممّا مضى ، ومستأنفا لما يستقبل ، وما فيه من استخراج الأموال وتعب الأبدان ، وحظرها عن الشّهوات واللذّات ، والتقرّب بالعبادة إلى الله عزوجل ، والخضوع والاستكانة والذلّ ، شاخصا [ إليه ] في الحرّ والبرد والأمن والخوف ، دائبا في ذلك دائما ، وما في ذلك لجميع الخلق من المنافع والرغبة والرّهبة إلى الله تعالى ، ومنه ترك قساوة القلب ، وجسارة الأنفس ، ونسيان الذكر ، وانقطاع الرجاء والأمل ، وتجديد الحقوق ، وحظر الأنفس عن الفساد ، ومنفعة من في شرق الأرض وغربها ، ومن في البرّ والبحر ممّن يحجّ وممّن لا يحجّ من تاجر وجالب ، وبائع ومشتر ، وكاسب ومسكين ، وقضاء حوائج أهل الأطراف والمواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم » (٦) .

وفي رواية : « مع ما فيه من التفقّه » (٧)﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ﴾ عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ﴾ وهي أيّام النّحر ، وقيل : عشر ذي الحجّة (٨)﴿عَلى ما رَزَقَهُمْ﴾ وأنعم عليهم ﴿مِنْ

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٨.

(٣) الكافي ٤ : ٤٢٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٤.

(٤) الكافي ٤ : ٢٦٣ / ٤٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٤.

(٥) مجمع البيان ٧ : ١٢٩ ، عن الباقر عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٤.

(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٩٠ / ١ ، علل الشرائع : ٤٠٤ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٤.

(٧) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١١٩ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٥.

(٨) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٩.

٣٣٩

بَهِيمَةِ﴾ وحيوان ذات أربع يكون من ﴿الْأَنْعامِ﴾ الإبل والبقر والغنم. قيل : كنّى عن الذّبح بذكر الله (١) ، لعدم انفكاك المسلم عن ذكره تعالى عند الذّبح والنّحر ، وللتّنبيه على أنّ الغرض الأصلي في ما يتقرّب به إلى الله أن يذكر اسم الله تعالى وأن يخالف المشركين في ذلك.

قيل : كان التقرّب بإراقة دمها متصوّر بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها ، ويبذل تلك الذبيحة بدل مهجته ، طلبا لمرضاة الله ، واعترافا بأنّ تقصيره موجب لاستحقاق مهجته (٢) .

قيل : إنّ ذكر الله عند الذبح : بسم الله وبالله والله أكبر ، اللهم منك وإليك ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام « ذكر الله هو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة أوّلها ظهر العيد » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « الأيّام المعلومات عشر ذي الحجّة ، والمعدودات أيّام التّشريق » (٥) .

أقول : نسب الفخر الرازي هذا القول إلى ابن عبّاس وكثير من المفسّرين وأكثر العلماء ، وقالوا في وجه تسمية العشر بالمعلومات أنّها معلومة عند النّاس ، لحرصهم على العلم بها ، لكون الحجّ في آخرها(٦).

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « قال علي عليه‌السلام : في قول الله عزوجل : ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ﴾ أيّام العشر » (٧) .

أقول : الظاهر أنّ ما روي عنه عليه‌السلام من عكس ذلك فهو سهو من الرّاوي.

ثمّ بيّن سبحانه مصرف الضحايا بقوله : ﴿فَكُلُوا﴾ أنفسكم ﴿مِنْها﴾ ندبا أو وجوبا ﴿وَأَطْعِمُوا﴾ منها ﴿الْبائِسَ﴾ ومن في شدّة العيش و﴿الْفَقِيرَ﴾ والمحتاجين إلى مؤنة سنة.

عن ابن عباس : البائس : الّذي ظهر بؤسه في ثيابه ووجهه ، والفقير : الذي لا يكون كذلك ، وتكون ثيابه نقيّة ، ووجهه وجه غني (٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « البائس هو الزّمن الّذي لا يستطيع أن يخرج لزمانته » (٩) .

وعنه أيضا : « البائس [ هو ] الفقير » (١٠) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٩.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٩.

(٤) عوالي اللآلي ٢ : ٨٨ / ٢٣٧ ، عن الصادق عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٥ ، عنهما عليهما‌السلام.

(٥) جوامع الجامع : ٣٠٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٥.

(٦) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٩.

(٧) معاني الأخبار : ٢٩٦ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٥.

(٨) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٩.

(٩) الكافي ٤ : ٤٦ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٥ ، والزّمانة : مرض يدوم ، والزّمن : وصف من الزمانة.

(١٠) الكافي ٤ : ٥٠٠ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧٥.

٣٤٠