نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

وصل إلى آدم عليه‌السلام حتى أخرجه من الجنّة ، ولم يزل على ذلك حتى رفع عيسى فحجب عن أربع سماوات ، فكان بعد ذلك يصعد إلى ثلاث إلى زمان نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحجب عند ذلك عن جميع السماوات إلّا من استرق السّمع.

فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيّوب عليه‌السلام ، فأدركه الحسد ، فصعد سريعا حتى وقف من السّماء موقفا كان يقفه ، فقال : يا ربّ ، إنّك أنعمت على عبدك أيّوب فشكرك ، وعافيته فحمدك ، وأنت لم تجرّبه بشدّة ولا بلاء ، وأنّا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك.

فقال الله تعالى : إنطلق فقد سلطّتك على ماله ، فانقضّ الملعون حتى وقع على الأرض ، وجمع عفاريت الشياطين ، وقال : ماذا عندكم من القوّة ، فإنّي سلّطت على مال أيوب ؟ فقال عفريت : اعطيت من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارا من نار فأحرقت كلّ شيء آتي عليه. فقال إبليس : فأت الإبل ورعاءها. فذهب ولم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها شيء إلّا اخترق ، فلم يزل يحرقها ورعاءها حتى أتى على آخرها.

فذهب إبليس على شكل بعض اولئك الرعاة إلى أيّوب عليه‌السلام ، فوجده قائما يصلّي ، فلمّا فرغ من صلاته قال : يا أيّوب ، هل تدري ما صنع ربّك الذي اخترته بإبلك ورعائها ؟

فقال أيّوب : إنّها ماله أعارنيه ، وهو أولى به إذا شاء نزعه.

قال إبليس : إنّ ربّك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاؤها كلّها ، وتركت الناس مبهوتين متعجّبين منها ، فمن قائل يقول : ما كان أيّوب يعبد شيئا ، وما كان إلّا في غرور. ومن قائل يقول : لو كان إله أيّوب يقدر على شيء لمنع من وليّه ، ومن قائل آخر يقول : بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت عدوّه به ، ويفجع صديقه به.

فقال أيّوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع منّي ، خرجت من بطن امّي عريانا ، وأحشر إلى الله تعالى عريانا ، ولو علم الله تعالى فيك خيرا أيّها العبد لنقل روحك مع تلك الأرواح ، وصرت شهيدا وآجرني فيك ، ولكنّ الله علم فيك شرّا فأخّرك.

فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ، فقال عفريت آخر : عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلّا خرجت روحه. فقال إبليس : فأت الغنم ورعاءها ، فانطلق فصاح بها ، فماتت ومات رعاؤها ، فخرج إبليس متمثّلا بقهرمان الرعاة إلى أيّوب عليه‌السلام ، فقال له القول الأوّل ، وردّ عليه أيّوب عليه‌السلام الجواب الاوّل.

فرجع إبليس صاغرا ، فقال عفريت آخر : عندي من القوّة ما إذا شئت تحوّلت ريحا عاصفة أقلع كلّ

٣٠١

شيء أتيت عليه قال : فاذهب إلى الحرث والثّيران ، فأتاها وأهلكها ، ثمّ رجع إبليس متمثّلا حتى جاء أيّوب عليه‌السلام وهو يصلّي ، فقال مثل القول الأوّل ، فردّ عليه أيّوب عليه‌السلام مثل الردّ الأوّل.

فجعل إبليس يصيب أمواله شيئا فشيئا ، حتى أتى على جميعها ، فلمّا رأى إبليس صبره على ذلك ، وقف الموقف الذي كان يقفه عند الله ، وقال : يا إلهي ، هل أنت مسلّطي على ولده ، فإنّها الفتنة المضلّة ؟ فقال الله تعالى : إنطلق فقد سلّطتك على ولده.

فأتى أولاد أيّوب في قصرهم ، فلم يزل يزلزله من قواعده حتى قلب القصر عليهم ، ثمّ جاء إلى أيّوب عليه‌السلام متمثّلا بالمعلّم وهو جريح مشدوخ (١) الرأس يسيل دمه ودماغه ، فقال : لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤسهم تسيل أدمغتهم من أنوفهم لتقطّع قلبك. فلم يزل يقول هذا ويرقّقه حتى رقّ أيّوب عليه‌السلام وبكى ، وقبض قبضة من التراب ووضعها على رأسه ، فاغتنم ذلك إبليس ، ثمّ لم يلبث أيّوب عليه‌السلام حتى استغفر واسترجع ، ثمّ صعد إبليس حتى وقف موقفه وقال : يا إلهي ، إنّما يهون خطر المال والولد على أيّوب لعلمه أنّك تعيدهما له ، فهل أنت مسلّطي على جسده ، وإنّي لك زعيم لوابتليته في جسده ليكفرنّ بك. فقال الله تعالى : إنطلق فقد سلّطتك على جسده ، وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه.

فانقضّ عدوّ الله سريعا ، فوجد أيّوب عليه‌السلام ساجدا لله تعالى ، فأتاه من قبل الأرض فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده ، وخرج به من قرنه إلى قدمه ثآليل ، ووقعت فيه حكّة لا يملكها ، وكان يحكّ بأظفاره حتى سقطت أظفاره ، ثمّ حكّها بالمسوح الخشنة ، ثمّ حكّها بالفخّار والحجارة ولم يزل يحكّها حتى تقطّع لحمه وتغبّر ونتن ، فأخرجه أهل القرية ، وجعلوه على كناسة ، وجعلوا له عريشا ، ورفضه الناس كلّهم غير امرأته [ فكانت ] تصلح أموره.

ثمّ أطال وهب في الحكاية إلى أن قال : إنّ أيّوب عليه‌السلام أقبل على الله مستغيثا متضرّعا إليه ، فقال : يا ربّ ، لأيّ شيء خلقتني ؟ يا ليتني كنت حيضة ألقتني امّي ، ويا ليتني عرفت الذّنب الذي أذنبته والعمل الذي عملته حتى صرفت وجهك الكريم عنّي ؟ ألم أكن للغريب دارا ، وللمسكين قرارا ، ولليتيم وليّا ، وللأرامل قيّما ؟

إلهي ، أنا عبدك الذّليل إن أحسنت إليّ فالمنّ لك ، وإن أسأت فبيدك عقوبتي ، جعلتني للبلاء غرضا ، وللفتنه نصبا ، سلّطت عليّ ما لو سلّطته على جبل لضعف من حمله.

إلهي ، تقطّعت أصابعي ، وتساقطت لهواتي ، وتناثر شعري ، وذهب مالي ، وصرت أسأل اللّقمة

__________________

(١) في النسخة : مخدوش.

٣٠٢

فأطعمني من يمنّ بها عليّ ، ويعيّرني بفقري وهلاك أولادي (١) . وبقي في البلاء ثلاث سنين (٢) .

وعن الحسن : أنّه عليه‌السلام مكث بعد ما ألقى على الكناسة سبع سنين وأشهرا (٣) .

وعن مقاتل : بقي أيّوب عليه‌السلام في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيّام وسبع ساعات (٤) .

وعن أنس ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّه بقي في البلاء ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلّا رجلين من إخوانه كانا يغدوان ويروحان إليه ، فقال أحدهما للآخر ذات يوم : والله لقد أذنب أيّوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين. فقال له صاحبه : وما ذاك ؟ فقال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه‌الله تعالى ولم يكشف ما به.

فلمّا راحا إلى أيّوب ، لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيّوب ، فقال أيوب عليه‌السلام : ما أدري ما تقولان غير أنّ الله تعالى يعلم أنّي كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله عزوجل ، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهيّة أن يذكر الله إلّا في حقّ » (٥) .

وفي رواية : أنّ الرجلين لمّا دخلا عليه وجدا ريحا فقالا : لو كان لأيّوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة ، قال : فما شقّ على أيّوب شيء ممّا ابتلي به أشدّ ممّا سمع منهما ، فقال : اللهمّ إن كنت تعلم أنّي لم أبت شبعانا وأنا أعلم بمكان جائع فصدّقني. فصدّقه وهما يسمعان ، ثمّ خرّ أيّوب ، ساجدا. ثمّ قال : أللهمّ إنّي لا أرفع رأسي حتى تكشف مابي (٦) .

وعن الحسن : أنّه لم يبق لأيّوب عليه‌السلام مال ولا ولد ولا صديق إلّا امرأته رحمة صبرت معه ، وكانت تأتيه بالطّعام ، وتحمد الله تعالى مع أيّوب عليه‌السلام ، وكان أيّوب مواظبا على حمد الله ، والثناء عليه ، والصبر على ما ابتلاه ، فصرخ إبليس صرخة جزعا من صبر أيّوب ، فاجتمع جنوده من أقطار الأرض ، وقالوا له : ما خبرك ؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلّطني عليه وعلى ماله وولده ، فلم أدع له مالا ولا ولدا ، ولم يزدد بذلك إلّا صبرا وحمدا لله تعالى ، ثمّ سلّطت على جسده ، فتركته ملقى على كناسة وما يقربه إلّا امرأته ، وهو مع ذلك لا يفتر عن الذّكر وحمد الله ، فاستعنت بكم لتعينونني عليه.

فقالوا له : أين مكرك ؟ أين عملك الذي أهلكت به من مضى ؟ قال : بطل ذلك كلّه في أيّوب ، فأشيروا عليّ.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٧.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٧.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٥.

(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٦.

٣٠٣

قالوا : أدليت آدم حين أخرجته من الجنّة من أين أتيته ؟ قال : من قبل امرأته. قالوا : إئت أيّوب أيضا من قبل امرأته ، قالوا : فإنّه لا يستطيع أن يعصيها لأنّه لا يقر به أحد غيرها. قال : أصبتم.

فانطلق حتى أتى امرأته ، فتمثّل لها في صورة رجل ، فقال لها : أين بعلك يا أمّة الله ؟ قالت : هو هذا الذي يحكّ قروحه ويتردّد الدوابّ في جسده. فلمّا سمع منها ذلك طمع أن يكون ذلك كلّه جزعا ، فوسوس إليها وذكّرها ما كان من النّعم والمال ، وذكّرها جمال أيّوب وشبابه فصرخت ، فلمّا صرخت علم أنّها [ قد ] جزعت فأتاها بسخلة وقال : قولي لأيّوب ليذبح هذه لي ويبرأ.

فجاءت تصرخ إلى أيّوب فقالت : يا أيّوب حتى يعذّبك ربّك ؟ ألا يرحمك ؟ ! أين المال ، أين الماشية ، أين الولد ، أين الصديق ، أين اللّون الحسن ، أين جسمك الذي قد بلى وصار مثل الرّماد وتردّد فيه الدوابّ ؟ إذبح هذه واسترح.

فقال أيّوب عليه‌السلام : أتاك عدوّ الله ونفخ فيك فأجبتيه ، ويلك أترين ما تبكين عليه من المال والولد والصّحة ، من أعطانا ذلك ؟ قالت : الله. قال : فكم متّعنا به ؟ قالت : ثمانين سنة. قال : فمنذكم ابتلانا الله بهذا البلاء ؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر ، قال : ويلك ما أنصفت ربّك ، ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة ، كما كنّا في الرّخاء ثمانين سنة ؟ والله لئن شفاني الله لأجلدنّك مائة جلدة ، أمرتيني أن أذبح لغير الله ؟ حرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك الذي تأتيني به ، فطردها فذهبت ، فلمّا نظر أيّوب عليه‌السلام في شأنه وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق ، وقد ذهبت امرأته خرّ ساجدا وقال : ربّ ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(١) .

وعن وهب : لمّا غلب أيّوب إبليس ، ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال ، على مركب ليس كمراكب الناس ، وقال لها : أنت صاحبة أيوب ؟ قالت : نعم.

قال : فهل تعرفيني ؟ قالت : لا. قال : أنا إله الأرض ، أنا صنعت بأيّوب ما صنعت ، لأنّه عبد إله السّماء وتركني فأغضبني ، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك وعليه جميع مالكما من مال وولد فإنّ ذلك عندي.

قال وهب : وسمعت أنّه قال : لو أنّ صاحبك أكل طعاما ولم يسمّ الله لعوفي ممّا هو فيه من البلاء ، وقيل : إنّه قال لها : لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أردّ عليك المال والولد واعافي زوجك.

فرجعت إلى أيّوب ، فأخبرته بما قال لها ، فقال أيوب : أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك ، ثمّ أقسم لئن

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٦.

٣٠٤

عافاني الله لأجلدنّك مائة جلدة ، وقال عند ذلك : ربّ ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ يعني من طمع إبليس في سجودي له وسجود زوجتي ودعائه إيّاها وإيّايّ إلى الكفر (١) .

وعنه أيضا : أنّ امرأة أيّوب كانت تعمل للنّاس وتأتيه بقوته ، فلمّا طال عليه البلاء سئمها الناس ولم يستعملوها ، فالتمست [ ذات ] يوم شيئا من الطّعام فلم تجد ، فجزّت من رأسها قرنا فباعته برغيف فأتته به ، فقال لها : أين قرنك ؟ فأخبرته بذلك. فحينئذ قال : ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ(٢) .

وقيل : كان لها ثلاث ذوائب ، فقطعت إحداهما ، فباعتها بخبز ولحم ، فجاءت إلى أيّوب عليه‌السلام فقال : من أين هذا ؟ فقالت : كل فإنّه حلال ، فلمّا كان [ من ] الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية ، وكذلك فعلت في اليوم الثالث ، وقالت : كل ، فقال : لا آكل ما لم تخبريني فأخبرته ، فبلغ ذلك من أيّوب ما الله أعلم به (٣) .

وقيل : إنّ إبليس تمثّل للقوم في صورة بشر وقال : لئن تركتم أيّوب في القرية تتعدّى إليكم علّته ، فأخرجوه إلى باب القرية ، ثمّ قال لهم : إنّ امرأته تدخل بيوتكم وهي تمسّ زوجها ، فإن تعمل لكم تتعدّى إليكم علّته ، ولذا لم يستعملها أحد ، فباعت ضفيرتها (٤) .

وقيل : سقطت دودة من فخذ أيّوب ، فرفعها وردّها إلى موضعها ، وقال : جعلني الله طعمة لك ، فعضّته عضّة شديدة فقال : ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ فأوحى الله إليه : لو لا أنّي جعلت تحت كلّ شعرة منك صبرا لما صبرت (٥) .

﴿فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا

 وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)

ثمّ أخبر سبحانه بإجابة دعائه بقوله : ﴿فَاسْتَجَبْنا لَهُ﴾ دعاءه ﴿فَكَشَفْنا﴾ وأزلنا ﴿ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾ ومرض.

قيل : أوحى الله إليه : ارفع رأسك فقد استجبت لك ، اركض برجلك الأرض. فركض برجله ، فنبعت عين ماء ، فاغتسل منها ، فلم تبق في بدنه دابّة إلّا سقطت منه عليه‌السلام ، ثمّ ضرب برجله مرّة اخرى فنبعت عين اخرى ، فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلّا خرج ، وقام صحيحا ، وعاد إليه شبابه وجماله ، حتى صار أحسن ما كان ، ثمّ كسي حلّة (٦) .

﴿وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ﴾ وولده ﴿وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ قيل : لمّا قام جعل يلتفت فلا يرى شيئا من أهله وولده

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٧.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٨.

(٤ و٥) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٨.

(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٧.

٣٠٥

وماله إلّا ضعّفه الله تعالى (١) .

قيل : إنّه تطاير من الماء الذي اغتسل منه إلى صدره الجراد من ذهب ، فجعل يضمّه بيده ، فأوحى الله إليه : يا أيّوب ، ألم أغنك ؟ قال : بلى ، ولكنّها بركتك ، فمن يشبع منها ؟ ثمّ جلس على مكان مشرف (٢) .

ثمّ أنّ امرأته قالت : هب إنّه طردني ، أفأتركه حتى يموت جوعا وتأكله السباع ؟ فرجعت ، فما رأت تلك الكناسة (٣) ولا تلك الحالة ، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي ، وأيّوب عليه‌السلام ينظر إليها ، وهابت أن تأتيه وتسأله عنه ، فأرسل إليها أيّوب ودعاها وقال لها : ما تريدين ؟ قالت : أردت المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة ، قال لها : ما كان هو منك ؟ قالت : هو بعلي. قال : أتعرفينه إذا رأيتيه ؟

قالت : وهل يخفى على أحد يراه ؟ فتبسّم وقال : أنا هو ، فعرفته بضحكه فاعتنقته (٤) .

روي أنّ الله ردّ على امرأته شبابها ، فولدت له ستّة وعشرين ولدا (٥) .

وكان ذلك لأجل أنّه رحمنا عليه ﴿رَحْمَةً﴾ خاصة ﴿مِنْ عِنْدِنا﴾ ومن قدرتنا ﴿وَ﴾ تكون ﴿ذِكْرى﴾ وعبرة ﴿لِلْعابِدِينَ﴾ ووسيلة لهم إلى معرفتنا بكمال القدرة والرحمة حتى يصبروا كما صبر أيّوب ، ويثابوا كما اثيب.

وعن الصادق عليه‌السلام : أنّه سئل كيف اوتي مثلهم معهم ؟ قال : « احيي له من ولده [ الذين كانوا ] ماتوا قبل ذلك بآجالهم » (٦) .

وعنه عليه‌السلام قال : « ابتلي أيّوب سبع سنين بلا ذنب » (٧) .

[ وفي العلل عنه عليه‌السلام قال ] : « وإنّما كانت بليّة أيّوب لنعمة أنعم الله بها عليه فأدّى شكرها...» (٨) .

﴿وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْناهُمْ فِي

 رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) و (٨٦)

ثمّ ذكر سبحانه بعض الصابرين من الأنبياء بقوله : ﴿وَإِسْماعِيلَ﴾ بن إبراهيم الذي قال لأبيه : ستجدني إن شاء الله من الصابرين ﴿وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌ﴾ منهم ﴿مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ على طاعة الله

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٧.

(٣) الكناسة : موضع القمامة.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٧.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٥١٤.

(٦) الكافي ٨ : ٢٥٢ / ٣٥٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥١.

(٧) الخصال : ٣٩٩ / ١٠٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥١.

(٨) علل الشرائع : ٧٥ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥١ ، وللحديث تتمة في ( العلل ) ، وقد نقل المصنف هذا المقدار من تفسير الصافي ، وأحال في الصافي إلى تتمة الحديث في سورة ( ص ) .

٣٠٦

وأذى قومهم ﴿وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا﴾ الخاصّة من النبوة والزّلفى ﴿إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ والكاملين في الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة والأعمال الحسنة.

عن ابن عباس : أنّ نبيّا من أنبياء بني إسرائيل آتاه الله الملك والنبوّة ، ثمّ أوحى الله إليه : أنّي اريد أن أقبض روحك ، فاعرض ملكك على بني إسرائيل ، فمن تكفّل لك أن يصلّي باللّيل حتى يصبح ، ويصوم بالنّهار ولا يفطر ، ويقضي بين الناس ولا يغضب ، فادفع ملكك إليه.

فقام ذلك النبيّ في بني إسرائيل ، وأخبرهم بذلك ، فقام شابّ وقال : أنا أتكفّل لك بهذا. فقال : في القوم من هو أكبر منك فأقعد ، ثمّ صاح الثانية والثالثة فقام الرجل وقال : أنا أتكفّل لك بهذه الثلاث ، فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن ، فحسده إبليس ، فأتاه في وقت يريد أن يقيل فقال : إنّ لي غريما مطلني حقّي ، و[ قد ] دعوته إليك فأبى ، [ فأرسل معي من يأتيك به ] فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة ، وعاد إلى صلاته وصلّى ليله إلى الصبح ، ثمّ أتاه من الغد عند القيلولة ، فقال : إنّ الرجل الذي أستأذنتك له في موضع كذا ، فلا تبرح حتى آتيك به ، فذهب وبقي هو منتظرا حتى فاتته القيلولة ، ثمّ أتاه فقال له : هرب منّى ، فمضى ذو الكفل إلى صلاته ، فصلّى ليلته حتى أصبح ، فأتاه إبليس وعرّفه نفسه (١) .

قال الفخر : ذكر عليّ عليه‌السلام نحو ما ذكره ابن عبّاس ، وزاد : « أنّ ذا الكفل قال للبوّاب في اليوم الثالث : قد غلب عليّ النّعاس ، فلا تدعنّ أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام ، فإنّي قد شقّ عليّ النعاس ، فجاء إبليس فلم يأذن له البوّاب ، فدخل من كوّة في البيت ، وتسوّر فيها ، فإذا هو يدقّ الباب من داخل ، فاستيقظ الرجل ، وعاتب البوّاب ، فقال : أمّا من قبلي فلم يأت ، فقام إلى الباب ، فإذا هو مغلق ، وإبليس على صورة شيخ معه في البيت ، فقال له : أتنام والخصوم على الباب فعرفه ، فقال : أنت إبليس ؟ قال نعم ، أعييتني في كلّ شيء ، ففعلت هذه الأفعال لأغضبنّك ، فعصمك الله منّي ، فسمّي ذا الكفل ، لأنّه [ قد ] وفى بما تكفّل به » (٢) .

وعن مجاهد : لمّا كبر اليسع قال : لو أنّي استخلفت رجلا على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل ؟ فجمع الناس وقال : من يتقبّل منّي ثلاثا حتى أستخلفه (٣) ، وذكر الثلاث المذكورة.

وقيل : إنّه لقب زكريا (٤) . وقيل : لقب يوشع بن نون ، كما عن الرضا ، عن أمير المؤمنين عليهما‌السلام (٥) . وقيل :

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٠.

(٢-٤) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١١.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٥ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥١.

٣٠٧

لقب إلياس (١) . وقيل : خمسة من الأنبياء سمّاهم الله باسمين : إسرائيل ويعقوب ، إلياس وذو الكفل ، عيسى والمسيح ، يونس وذو النون ، محمّد وأحمد (٢) .

وقيل : وجه تسميته ذي الكفل ، أنّه تكفّل ضعف عمل الأنبياء في زمانه ، وضعف ثوابهم (٣) .

وقيل : إنّه لم يكن نبيّا ، بل كان عبدا صالحا (٤) .

﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا

 إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ

 وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)

ثمّ ذكر الله نعمته على يونس عليه‌السلام باستجابة دعائه ونجاته من بطن الحوت بقوله : ﴿وَذَا النُّونِ﴾ وصاحب الحوت وهو يونس بن متّى ، قيل : إنّ متّى اسم أبيه واسم امه بذورة (٥) ، وقيل : متّى اسم امّه ، وكانت من ولد هارون (٦) . وقيل : يعني اذكر خبره (٧)﴿إِذْ ذَهَبَ﴾ من بين قومه - وهم أهل نينوى - حال كونه ﴿مُغاضِباً﴾ ومراغما لهم إلى البحر.

عن ابن عباس : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين ، فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله إلى شعيب عليه‌السلام : أن اذهب إلى حزقيل الملك ، وقل له حتى يوجّه نبيّا قويّا أمينا ، فإنّي ألقي في قلوب اولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل ، فقال له الملك : فمن ترى - وكان في ممكلته خمسة من الأنبياء ؟ - فقال : يونس بن متّى ، فإنّه قويّ أمين ، فدعا الملك بيونس ، وأمره أن يخرج ، فقال يونس عليه‌السلام : هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال : لا ، قال : فهل سمّاني لك ؟ قال : لا ، قال : فها هنا أنبياء غيري ، فألحّوا عليه ، فخرج مغاضبا للملك ولقومه (٨) .

﴿فَظَنَ﴾ يونس عليه‌السلام ﴿أَنْ لَنْ نَقْدِرَ﴾ ولن نضيّق ﴿عَلَيْهِ﴾ بإيجاب الإقامة في القوم ، أو إيجاب الخروج إلى الملك ، بل نوسّع عليه بتخييره بين الإقامة والخروج ، فكان هذا وجه عدم تعمّده المعصية حيث ظنّ أنّ الأمر في خروجه موسّع عليه ، يجوز له تقديمه وتأخيره ، وكان الصلاح خلافه. أو المراد تمثيل حاله بحال من يظنّ أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار أمر الله تعالى. أو المراد فظنّ أن لن نقضي عليه بالشدّة ، كما عن ابن عباس وجمع من المفسرين (٩) .

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١١.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٠.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١١.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٥١٦ ، وفيه : امّه بدورة.

(٦ و٧) تفسير روح البيان ٥ : ٥١٦.

(٨) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٢.

(٩) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٥.

٣٠٨

وقيل : إنّ الظنّ بمعنى الخطور بالبال ، وإن دفعه بالحجّة (١) . وقيل : إنّه استفهام توبيخي ، والمعنى أفظنّ أن لن نقدر عليه ؟ ! (٢)

عن الرضا عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « ذاك يونس بن متّى ، ذهب مغاضبا لقومه ﴿فَظَنَ﴾ يعني استيقن أن لن ﴿نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أي لن نضيّق عليه رزقه » (٣) الخبر.

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : « ولو ظنّ أنّ الله لا يقدر لكان قد كفر » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام في قوله : ﴿إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً﴾ يقول : « من أعمال قومه ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ يقول : ظنّ أن لن نعاقبه بما صنع » (٥) .

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما وكّل الله يونس بن متّى إلى نفسه طرفة عين ، فكان منه ما كان » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام ما يقرب منه (٧) .

وعن ابن عباس : أنّه أتى يونس بحر الروم ، فوجد قوما هيّئوا سفينة فركب معهم ، فلمّا تلجّجت (٨) السفينة تكفّأت بهم ، وكادوا أن يغرقوا ، فقال الملّاحون : هاهنا رجل عاص أو عبد آبق ؛ لأنّ السفينة لا تفعل هذا من غير ريح إلّا وفيها رجل عاص ، ومن رسمنا أنّا إذا ابتلينا بمثل هذا البلاء أن نقرع ، فمن وقعت عليه القرعة القيناه في البحر ، لأنّه إن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة ، فأقرعوا ثلاث مرّات ، فوقعت القرعة فيها كلّها على يونس عليه‌السلام ، فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق ، وألقى نفسه في البحر ، فجاء حوت فابتلعه ، فأوحى الله إلى الحوت : لا تؤذ منه شعرة ، فإنّي حعلت بطنك سجنا له ، ولم أجعله طعاما لك (٩) .

وفي رواية : أنّ جبرئيل قال ليونس : انطلق إلى أهل نينوى ، وأنذرهم أنّ العذاب قد حضرهم ، فقال يونس عليه‌السلام : ألتمس دابّة. فقال : الأمر أعجل من ذلك ، فغضب وانطلق إلى السفينة ... ثمّ ساق الكلام كما سبق ، إلى أن قال : التقمه الحوت فانطلق إلى أن وصل إلى نينوى ، فألقاه هناك (١٠) .

أقول : أكثر المفسرين والعلماء على أن قضيّة إلقائه في البحر ، وابتلاع الحوت إياه ، كان بعد رسالته إلى أهل نينوى ودعوتهم ورفع العذاب عنهم بالتّوبة ، كما مرّت القصّة في سورة يونس.

وعن امّ سلمة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لمّا أراد الله حبس يونس عليه‌السلام أوحى إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ، ولا تكسر له عظما. فأخذه وهوى به إلى أسفل البحر ، فسمع يونس حسّا ، فقال في

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٥.

(٣ و٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٣ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٢.

(٥ و٦) تفسير القمي ٢ : ٧٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٢.

(٧) الكافي ٢ : ٤٢٣ / ١٥.

(٨) أي اضطربت.

(٩) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٢ ، روح البيان ٥ : ٥١٧ ، ولم ينسبه إلى ابن عباس.

(١٠) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٣.

٣٠٩

نفسه : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه : هذا تسبيح دوابّ البحر » (١) الخبر.

﴿فَنادى﴾ ودعا ربّه ﴿فِي الظُّلُماتِ﴾ الثلاث : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، كما عن الرضا عليه‌السلام (٢) ، وهذا على تقدير كون النّداء بالليل. أو المراد الظّلمة المتكاثفة ، أو المراد : ظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوتين ، فإنّه ابتلع حوت يونس حوت آخر كما قيل (٣) .

وكان نداؤه ﴿أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ﴾ وانزّهك تنزيها لائقا بك عن كلّ نقص وعيب ، ومنه العجز عن إنفاذ إرادتك ، أو من أن تفعل ذلك جورا أو شهوة للانتقام ، أو عجزا عن تخليصي من هذا الحبس ، بل فعلته بحقّ الالوهيّة وبمقتضى الحكمة البالغة ﴿إِنِّي كُنْتُ﴾ مستحقّا لعقوبتك ، لكوني ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ على النفس بفراري من قومي بغير إذنك ، أو بتركي في المدّة التي كنت على وجه الأرض مثل هذه العبادة التي أشتغل بها حال فراغتي في بطن الحوت ، كما عن الرضا عليه‌السلام (٤) .

روي أنّ الملائكة سمعت تسبيحه فقالوا مثله (٥) .

﴿فَاسْتَجَبْنا لَهُ﴾ دعاءه الذي في ضمن اعترافه بالذنب على ألطف الوجوه ﴿وَنَجَّيْناهُ﴾ وخلّصناه ﴿مِنَ الْغَمِ﴾ الحاصل له من الذنب والحبس في بطن الحوت ، بأن عفونا عنه ، وقذفه الحوت إلى الساحل القريب من نينوى بعد أربع ساعات ، أو ثلاثة أيّام ، أو سبعة ، أو أربعين يوما ، كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد ، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ليستظلّ بها ، ويأكل من ثمرها حتّى يشتدّ ، كما عن ابن عبّاس (٦)﴿وَكَذلِكَ﴾ الإنجاء الذي لا إنجاء أسرع منه ﴿نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ من الغموم التي يدعوننا فيها بالإخلاص.

عن سعد بن أبي وقّاص ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « دعوة ذي النون في بطن الحوت ﴿لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ما دعا بها عبد مسلم قطّ وهو مكروب إلّا استجاب الله دعاءه»(٧).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل أعطى ﴿لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ﴾ إلى آخره (٨) .

وروى بعض العامة عن الصادق عليه‌السلام قال : « عجبت ممّن يبتلى بأربع كيف يغفل عن أربع ؟ ! » إلى أن قال : « وعجبت ممّن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله تعالى : ﴿لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فإنّي سمعت الله يقول بعقبها : ﴿فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٦ ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠١ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٦.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠١ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٢.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٦ ، تفسير روح البيان ٥ : ٥١٨.

(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٣.

(٧) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٦.

(٨) تفسير روح البيان ٥ : ٥١٨.

٣١٠

الْمُؤْمِنِينَ(١) .

﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ

 وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ

 وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٨٩) و (٩٠)

ثمّ ذكر سبحانه نعمته على زكريّا عليه‌السلام باستجابة دعائه بقوله : ﴿وَزَكَرِيَّا﴾ بن آزر ﴿إِذْ نادى﴾ ودعا ﴿رَبَّهُ﴾ متضرّعا بقوله : يا ﴿رَبِّ لا تَذَرْنِي﴾ ولا تدعني في الدنيا ﴿فَرْداً﴾ وحيدا بلا ولد يرثني ويرث من آل يعقوب ، وإن فرض أن لا تستجيب دعائي فلا ابالي ، لأنّك أفضل الأولياء ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ﴾ من كلّ أحد بعد موته ، ففيه إظهار غاية الاستسلام والرضا برضاه ، وإيكال أمره إليه تعالى ﴿فَاسْتَجَبْنا لَهُ﴾ دعاءه في حقّ الولد ﴿وَوَهَبْنا لَهُ﴾ من فضلنا ﴿يَحْيى﴾ ولدا ووليّا ووارثا تقرّ به عينه ، ويحيا به ذكره ودينه ﴿وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ﴾ وصاحبته إيشاع في الأخلاق والدّين ، فإنّها على ما قيل كانت سيّئة الخلق (٢) ، وفي الولادة فإنّها كانت عقيمة كبيرة السنّ.

ثمّ مدح سبحانه زكريّا عليه‌السلام وزوجه وولده ، أو مدح الأنبياء المذكورين في السورة بقوله : ﴿إِنَّهُمْ كانُوا﴾ في مدّة أعمارهم ﴿يُسارِعُونَ فِي﴾ عمل ﴿الْخَيْراتِ﴾ وفعل الطاعات والعبادات الموجبة للمثوبات والدرجات العاليات ﴿وَيَدْعُونَنا﴾ ويتضرّعون إلينا ﴿رَغَباً﴾ في الثواب وشوقا إليه ﴿وَرَهَباً﴾ من عظمتنا ، وخوفا من العذاب والعتاب ﴿وَكانُوا لَنا﴾ بقلوبهم وشراشر (٣) وجودهم ﴿خاشِعِينَ﴾ ومتواضعين ، أو على الدّوام وجلين ، وفي الآية دلالة على غاية فضيلة المسارعة إلى الطاعة كالصّلوات الواجبة في أوّل أوقاتها.

﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ

 * إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ

إِلَيْنا راجِعُونَ (٩١) و (٩٣)

ثمّ ذكر سبحانه نعمته على مريم بنت عمران بقوله : ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها﴾ وحفظت سوأتها من أن تمسّ بحرام أو حلال ﴿فَنَفَخْنا فِيها﴾ بتوسّط جبرئيل ﴿مِنْ رُوحِنا﴾ ووهبنا لها بذلك النّفخ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٥١٨.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٢١٧.

(٣) الشّراشر : الجسم بجملته.

٣١١

ولدا زكيّا ﴿وَجَعَلْناها وَابْنَها﴾ عيسى ﴿آيَةً﴾ عظيمة ودلالة واضحة على قدرتنا الكاملة ﴿لِلْعالَمِينَ﴾ وأهالي الأعصار إلى يوم الدين حيث إنّ مريم ولدت من عجوز عقيم وتكلّمت في الصّبا كما قيل (١) ، وارتزقت ممّا يأتيها من عند ربّها الكريم ، واحتبلت بغير فحل ، وإنّ ابنها عيسى عليه‌السلام ولد بنفخ الرّوح الأمين ، وتكلّم في المهد كما تكلّم في الكهولة ، وأظهر الآيات البيّنات ، ورفع في السماء حيّا ، وإنّما عدّهما آية واحدة مع تعدّدهما لكمال ارتباطهما.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قصص الأنبياء واتّفاقهم على توحيد الله وعبادته ، دعا الناس إليهما بقوله :

﴿إِنَّ هذِهِ﴾ الملّة الإسلاميّة ودين التوحيد ﴿أُمَّتُكُمْ﴾ وملّتكم التي يجب عليكم المحافظة عليها أيّها الناس حال كونها ﴿أُمَّةً﴾ وملّة ﴿واحِدَةً﴾ إتّفق عليها جميع الأنبياء والرسل من أوّل الدنيا إلى فنائها ﴿وَأَنَا﴾ وحدي ﴿رَبُّكُمْ﴾ وإلهكم المدبّر لاموركم ، فإذا علمتم ذلك ﴿فَاعْبُدُونِ﴾ واخضعوا لي ، وتضرّعوا ولا تجاوزوا عنّي إلى غيري.

ثمّ صرف الله الخطاب عنهم إلى العقلاء ، أو إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إعظاما لما ارتكبه المشركون من الإشراك بقوله : ﴿وَتَقَطَّعُوا﴾ وفرّقوا ﴿أَمْرَهُمْ﴾ ودينهم الذي اتّفقت عليه كلمة الأنبياء ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وصاروا فرقا مختلفة وأحزابا شتّى.

ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿كُلٌ﴾ من آحاد الفرق ﴿إِلَيْنا﴾ بعد موتهم ﴿راجِعُونَ﴾ فنجازيهم بحسب عقائدهم وأعمالهم.

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ *

 وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٤) و (٩٥)

ثمّ بيّن سبحانه الفرقة الحقّة منهم بقوله : ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ بالله ورسله وخلفائهم والدّار الآخرة ﴿فَلا كُفْرانَ﴾ منّا ﴿لِسَعْيِهِ﴾ ولا حرمان له من ثواب عمله ، بل نشكره أعظم الشّكر ، ونعطيه أفضل الأجر على عمله وإيمانه ﴿وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ﴾ في صحيفته ومثبتوه في دفتره.

ثمّ بالغ سبحانه في تقرير رجوع الناس إليه للمجازاة بقوله : ﴿وَحَرامٌ﴾ وممتنع ﴿عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها﴾ بإهلاك أهلها ﴿أَنَّهُمْ﴾ في القيامة ﴿لا يَرْجِعُونَ﴾ إلينا للحساب وجزاء الأعمال ، بل يجب رجوعهم بمقتضى العدل والحكمة البالغة.

وقيل : إنّ المعنى وواجب على قرية أهلكناها أن لا يرجعوا إلى التوحيد ، أو إلى الدنيا (٢) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢٢ : ٢١٨.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٢١.

٣١٢

وقيل : إنّ لفظ الحرام مستعمل في معناه لا في ضدّه ، وكلمة ( لا ) في قوله : ﴿لا يَرْجِعُونَ﴾ زائدة والمراد : حرام عليهم أن يرجعوا إلى الدنيا (١) .

وعن ( الفقيه ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة الجمعة. « أ لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون ، والى الخلف الباقين منكم لا يبقون ، قال الله تعالى : ﴿وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ(٢).

وعن القمي عنهما عليهما‌السلام قالا : « كلّ قرية أهلك الله أهلها بالعذاب لا يرجعون في الرّجعة »(٣).

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « كلّ قرية أهلكها الله بالعذاب فإنّهم لا يرجعون » (٤) .

﴿حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ

 الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ

 مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها

 وارِدُونَ (٩٦) و (٩٨)

ثمّ بيّن سبحانه غاية حرمة رجوعهم بقوله : ﴿حَتَّى إِذا فُتِحَتْ﴾ جهة ﴿يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾ أو سدّة القبيلتين اللّتين مرّ تفصيلهما في الكهف (٥)﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ﴾ ومرتفع من الأرض ﴿يَنْسِلُونَ﴾ وينزلون بسرعة ، روي أنّهم يسيرون في الأرض ويقبلون على الناس من كلّ موضع مرتفع (٦) .

القمي : إذا كان آخر الزمان خرج يأجوج ومأجوج إلى الدنيا ويأكلون النّاس (٧) .

﴿وَاقْتَرَبَ﴾ عند ذلك ﴿الْوَعْدُ الْحَقُ﴾ بالحشر للحساب بعد النّفخة الثانية ﴿فَإِذا﴾ القصّة ﴿هِيَ شاخِصَةٌ﴾ ومنفتحة من غير طرف ﴿أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ممّا يرون من الأهوال والشّدائد قائلين تحسّرا وتندّما : ﴿يا وَيْلَنا﴾ ويا هلاكنا احضر إنّا ﴿قَدْ كُنَّا﴾ في الدّنيا منغمرين ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾ عظيمة ﴿مِنْ هذا﴾ الذي نرى من البعث وأهواله ﴿بَلْ﴾ لم نكن في غفلة عنه لكثرة الآيات الدالّة عليه ، وإنّما ﴿كُنَّا ظالِمِينَ﴾ على أنفسنا بتعريضها للهلاك بسبب الإعراض عن الآيات وتكذيب الرّسل.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان بعض أهوال القيامة صرف الخطاب إلى مشركي مكّة بقوله : ﴿إِنَّكُمْ﴾ يا معشر المشركين ﴿وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ من الأصنام كلّكم ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ ووقودها الذي يرمى به فيها لتشتعل ﴿أَنْتُمْ﴾ مع أصنامكم ﴿لَها وارِدُونَ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٢١.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٧٦ / ١٢٦٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٤.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٧٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٤.

(٤) مجمع البيان ٧ : ١٠٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٥.

(٥) في تفسير الآية (٩٣) من سورة الكهف.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٥٢٣.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٧٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٥.

٣١٣

﴿لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ * لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا

 يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ * لا

 يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ

 الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٩٩) و (١٠٣)

ثمّ بيّن سبحانه امتناع كون الأصنام آلهة بقوله : ﴿لَوْ كانَ هؤُلاءِ﴾ المعبودون ﴿آلِهَةً﴾ على الحقيقة كما تزعمون ﴿ما وَرَدُوها﴾ وما دخلوها البتّة ﴿وَكُلٌ﴾ من المعبودين وعابديهم ﴿فِيها﴾ بعد الورود ﴿خالِدُونَ﴾ لا خلاص لهم منها أبدا ، هذا حال جميعهم ، وأمّا حال خصوص عبدتهم فهو أنّه (١)﴿لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ﴾ وأنين وتنفّس شديد عن غمّ مالئ للصدور ﴿وَهُمْ فِيها﴾ مع كونهم عميا وبكما ﴿لا يَسْمَعُونَ﴾ زفير أنفسهم فضلا عن زفير غيرهم.

عن ابن مسعود قال : يجعل المشركون في توابيت من نار ، ثمّ تجعل التوابيت في توابيت اخرى ، ثمّ تجعل تلك في اخرى عليها مسامير من نار ، فلا يسمعون شيئا ، ولا يرى أحد منهم أنّ في النّار أحدا يعذّب غيره (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الله تبارك وتعالى يأتي يوم القيامة بكلّ شيء يعبد من دونه ، من شمس أو قمر أو غير ذلك ، ثمّ يسأل كلّ إنسان عمّا كان يعبد ، فيقول كلّ من عبد غير الله : ربّنا إنّا كنّا نعبده ليقرّبنا إليك زلفى. فيقول الله تبارك وتعالى للملائكة : إذهبوا بهم وبما كانوا يعبدون إلى النّار ما خلا من استثنيت ، فأولئك عنها مبعدون » (٣) .

وعنه عليه‌السلام : « إذا كان يوم القيامة أتي بالشمس والقمر في صورة ثورين ، فيقذف بهما وبمن عبدهما في النّار ، وذلك أنّهما عبدا فرضيا » (٤) .

أقول : فيه دلالة على أنّ الأجرام الفلكية لها حياة وشعور.

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم (٥) ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما ، فجلس إليهم ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأفحمه ، ثمّ تلا عليهم ﴿إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ﴾ الآية ، فأقبل عبد الله بن الزّبعرى ، فرآهم يتهامسون فقال : فيما خضتم ؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عبد الله : أما والله لو وجدته لخصمته فدعوه ، فقال ابن

__________________

(١) في النسخة : أنّ ، ولا تناسب من حيث الإعراب.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٥٢٤.

(٣) قرب الإسناد : ٨٥ / ٢٧٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٥.

(٤) علل الشرائع : ٦٠٥ / ٧٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٥.

(٥) الحطيم : بناء قبالة الميزاب من خارج الكعبة.

٣١٤

الزبعرى : أ أنت قلت ذلك ؟ قال : « نعم » ، قال : قد خصمتك وربّ الكعبة ، أ ليس اليهود عبدوا العزير ، والنّصارى عبدوا المسيح ، وبنو مليح عبدوا الملائكة ؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فضحك القوم ، فنزل ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً(١) وقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ﴾ الآية (٢) .

وفي رواية اخرى قال : « بل هم عبدوا الشياطين الذين أمروهم بذلك » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « لمّا نزلت هذه الآية ، وجد منها أهل مكّة وجدا شديدا ، فدخل عليهم عبد الله بن الزّبعرى وكفّار قريش يخوضون في هذه الآية ، فقال ابن الزّبعرى : أتكلّم محمّد بهذه الآية ؟ قالوا : نعم ، قال : لئن اعترف بها لأخصمنّه ، فجمع بينهما ، فقال : يا محمّد ، أ رأيت الآية التي قرأتها آنفا ، أفينا وفي آلهتنا خاصّة ، أم في الامم وآلهتهم ؟ قال : بل فيكم وفي آلهتكم ، وفي الامم وآلهتهم إلّا من استثنى [ الله ] . فقال ابن الزّبعرى : خصمتك والله ، أ لست تثنى على عيسى خيرا ، وقد عرفت أنّ النصارى يعبدون عيسى وأمّه ، وأنّ طائفة من النّاس يعبدون الملائكة ؟ أ فليس هؤلاء مع الآلهة في النار ؟ قال : لا ، فضجّت قريش وضحكوا وقالوا : خصمك ابن الزّبعرى ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : قلتم الباطل ، أما قلت إلّا من استثنى [ الله ] ، وهو قوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ﴾ الآية (٤) .

وقيل : لمّا كان الخطاب في الآية خطاب المشافهة لا يشمل غير مشركي مكّة ، وهم كانوا يعبدون الأصنام ، وأنّه تعالى قال : ﴿وَما تَعْبُدُونَ﴾ ولم يقل ومن تعبدون (٥) ، فلا يشمل عيسى والعزير والملائكة ، وأنّه لم يقل أحد بالوهيّة الملائكة ، وأن العموم المفترض (٦) مخصّص بالأدلّة العقلية والنقلية في حقّ اولئك الكرام ، فكان سؤال ابن الزّبعرى ساقطا.

وفيه : أنّ خطابات القرآن شاملة لجميع أهل عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا تختصّ بقريش ، خصوصا مع قوله : « بل فيكم وفي آلهتكم ، وفي الامم وآلهتهم » وكلمة ( ما ) كثيرا مّا تطلق على الأعمّ من ذوي العقول ولو تغليبا لغيرهم عليهم ، أو لتحقير ذوي العقول ، وعموم اللّفظ كاف لاعتراض الخصم اللّجوج.

ولذا صرّح سبحانه بالتخصيص بعد عموم الآية بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا﴾ الخصلة ﴿الْحُسْنى﴾ وهي السعادة الأبديّة ، أو الكلمة الحسنى ، وهي البشارة بالثّواب ، لا يرون جهنّم ، بل ﴿أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ﴾ لأنّهم في الجنّة ، شتّان بينها وبين جهنّم ، حيث إنّ الجنّة في أعلى علّيين ، وجهنّم في أسفل السافلين ، ولذا يكون بعدهم من جهنّم بحيث ﴿لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها﴾ والصوت

__________________

(١) الزخرف : ٤٣ / ٥٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٢٣.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٢٣.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٧٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٦.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٢٣.

(٦) في النسخة : الفرضية.

٣١٥

الخفيّ منها.

وروى بعض العامة عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « كيف يسمعون حسيسها والنّار تخمد لمطالعتهم وتتلاشى ؟ ! » (١) .

ثمّ أنّه تعالى بعد بشارتهم بخلاصهم من المهالك بشّرهم بالفوز بالحظوظ بقوله : ﴿وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ﴾ واشتاقت إليه ﴿أَنْفُسُهُمْ﴾ من النّعم الرّوحانيّة والجسمانيّة ﴿خالِدُونَ﴾ مقيمون لا يتصوّر زوالها وانقطاعها ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ قيل : هو ذبح الموت بصورة الكبش الأملح (٢) . وقيل : النفخة الثانية (٣) . وقيل : إطباق النّار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة (٤) . وقيل : هو الفزع عند مشاهدة النّار ، إذ لا فزع أعظم وأكبر منه ، فمن أمن من ذلك أمن ممّا دونه بالأولويّة (٥) .

﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ﴾ وتستقبلهم ﴿الْمَلائِكَةُ﴾ الذين كانوا كتبة أعمالهم في الدنيا بالبشرى ويقولون لهم: ﴿هذا﴾ اليوم ﴿يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تُوعَدُونَ﴾ وتبشّرون بما فيه من فنون الثواب على الإيمان والطاعات.

في ( المجالس ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لعلي عليه‌السلام : « يا علي ، أنت وشيعتك على الحوض تسقون من أحببتم ، وتمنعون من كرهتم ، وأنتم الآمنون من الفزع الأكبر في ظلّ العرش ، يفزع الناس ولا تفزعون ، ويحزن الناس ولا تحزنون ، وفيكم نزلت ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى﴾ الآية ، وفيكم نزلت ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ الآية » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ الله يبعث شيعتنا يوم القيامة على ما فيهم من الذّنوب أو غيره ، مبيضّة وجوههم ، مستورة عوارتهم ، آمنة [ روعتهم ] ، قد سهّلت لهم الموارد ، وذهبت عنهم الشّدائد ، يركبون نوقا من ياقوت ، فلا يزالون يدورون خلال الجنّة ، عليهم شرك من نور يتلألأ ، توضع لهم الموائد فلا يزالون يطعمون [ و] الناس في الحساب ، وهو قول الله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى﴾ الآية»(٧) .

﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا

 إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ

 الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٤) و (١٠٦)

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٥٢٥.

(٢-٥) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٢٧.

(٦) أمالي الصدوق : ٦٥٧ / ٨٩١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٦.

(٧) المحاسن : ١٧٩ / ١٦٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٧.

٣١٦

ثمّ وصف سبحانه ذلك اليوم بقوله : ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ﴾ طيّا ﴿كَطَيِ﴾ الطاوي ﴿السِّجِلِ﴾ والطّومار الموضوع ﴿لِلْكُتُبِ﴾ وضبط المعاني الكثيرة فيه ، قيل : إنّ معنى طيّ السّجلّ للكتاب كونه ساترا للكتابة (١) التي فيه ، ومخفيا لها ، ونشره : كشفه (٢) .

وعن ابن عباس : السجلّ اسم ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه (٣) .

ورواه بعض العامة عن أمير المؤمنين (٤) .

وقيل : معنى طيّها إفناؤها فتتحوّل دخانا (٥) .

ثمّ وصف اليوم بإعادة الخلق فيه بقوله : ﴿كَما بَدَأْنا﴾ وابتدأنا ﴿أَوَّلَ خَلْقٍ﴾ للإنسان في الدنيا ﴿نُعِيدُهُ﴾ في الآخرة ، ونخلقه ثانيا للحشر والحساب ، وقد وعدنا إعادته ﴿وَعْداً﴾ حتميّا واجب الإنجاز ﴿عَلَيْنا﴾ بمقتضى الحكمة البالغة ، ولذا ﴿إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ﴾ للوعد ومنجّزين له لا محالة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « تحشرون عراة حفاة ﴿كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (٦) .

أقول : أي كما خلقتم في الدنيا عراة حفاة.

ثمّ أنّه تعالى بعد البشارة بحسن حال المؤمنين في الآخرة ، بشّر بحسن مآل أمرهم في الدنيا بقوله :

﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا﴾ وأثبتنا ﴿فِي الزَّبُورِ﴾ الذي انزل على داود ، أو في الكتب السماوية ، أو في القرآن ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ ما أثبتناه في ﴿الذِّكْرِ﴾ واللّوح المحفوظ ، أو في التوراة ﴿أَنَّ الْأَرْضَ﴾ كلّها ، أو الأرض المقدّسة ، أو أرض الجنّة ﴿يَرِثُها﴾ ويتسلّط عليها ﴿عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ في زمان الرجعة وبعد ظهور الدولة الحقّة ، أو في الآخرة.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية : ما الزّبور ، وما الذّكر ؟ قال : « الذّكر عند الله ، والزّبور الذي أنزل على داود ، وكل كتاب انزل فهو عند أهل العلم ، ونحن هم » (٧) .

وعن الباقر عليه‌السلام في قوله : ﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ،﴾ قال : « هم أصحاب المهدي عليه‌السلام في آخر الزمان » (٨) .

﴿إِنَّ فِي هذا﴾ المذكور من الأخبار والمواعظ والله ﴿لَبَلاغاً﴾ وكفاية في الهداية والتنبيه ، وما ينال به البغية والمطلوب ﴿لِقَوْمٍ عابِدِينَ﴾ والعالمين العاملين.

﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)

__________________

(١) في النسخة : لكتابة.

(٢-٤) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٢٨.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٧٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٧.

(٦) مجمع البيان ٧ : ١٠٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٧.

(٧) الكافي ١ : ١٧٦ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٧.

(٨) مجمع البيان ، ٧ : ١٠٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٧.

٣١٧

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر رحمته ونعمته على المؤمنين ، بيّن أنّ الرسول الذي أرسله إليهم أفضل النّعم عليهم وعلى جميع الخلق بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْناكَ﴾ يا محمّد لغرض من الأغراض ﴿إِلَّا﴾ لتكون ﴿رَحْمَةً﴾ ونعمة عظيمة ﴿لِلْعالَمِينَ﴾ وسببا لسعادة الدّارين للخلق أجمعين.

عن أبي هريرة : قيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ادع على المشركين. قال : « إنّما بعثت رحمة ، ولم ابعث عذابا » (١) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لجبرئيل لمّا نزلت هذه الآية : « هل أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ » قال : نعم ، إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر ، فآمنت بك لمّا أثنى الله عليّ بقوله : ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث مجيبا لبعض الزنادقة : « وأمّا قوله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ وأنّك ترى أهل الملل المخالفة للإيمان ومن يجري مجراهم من الكفّار مقيمين على كفرهم إلى هذه الغاية ، وأنّه لو كان رحمة عليهم لاهتدوا جميعا ونجوا من عذاب السّعير ، فإنّ الله تبارك وتعالى إنّما عنى بذلك أنّه جعله سبيلا لإنذار أهل هذه الدار ؛ لأنّ الأنبياء قبله بعثوا بالتّصريح لا بالتّعريض ، وكان النبيّ منهم إذا صدع بأمر الله وأجابه قومه سلموا وسلم أهل دارهم من سائر الخليقة ، وإن خالفوا هلكوا وهلك أهل دارهم بالآفة التي كان نبيهم يتوعّد بها ويخوّفهم حلولها ونزولها بساحتهم من خسف أو قذف أو رجف أو ريح أو زلزلة أو غير ذلك من أصناف العذاب التي هلكت بها الامم الخالية.

وإنّ الله علم من نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن الحجج في الأرض الصبر على ما لم يطق من تقدّمهم من الأنبياء الصبر على مثله ، فبعثه الله بالتعريض لا بالتصريح ، وأثبت حجّة الله تعريضا لا تصريحا بقوله في وصيّة : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي.

وليس من خليقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا شيمته أن يقول قولا لا معنى له ، فلزم الامّة أن تعلم أنّه لمّا كانت النبوّة والأخوّة موجودتين في خلقة هارون ومعدومتين في من جعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلته أنّه قد استخلفه على امّته كما استخلف موسى هارون حيث قال له : ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي(٣) ولو قال : لا تقلّدوا الإمامة إلّا فلانا بعدي وإلّا نزل بكم العذاب لأتاهم العذاب وزال باب الإنظار والإمهال » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أما لو قام قائمنا ردّت إليه الحميراء (٥) حتى يجلدها الحدّ وحتى ينتقم لابنة محمّد فاطمة منها » . قيل : لم يجلدها ؟ قال : « لفريتها على امّ إبراهيم » ، قيل : فكيف أخّره الله للقائم ؟ قال : « إنّ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٣١.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٥٢٧ ، الآية من سورة التكوير : ٨١ / ٢٠.

(٣) الأعراف : ٧ / ١٤٢.

(٤) الاحتجاج : ٢٥٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٨.

(٥) في النسخة : ردّت بالحميراء.

٣١٨

الله تبارك وتعالى بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رحمة ، وبعث القائم نقمة » (١) .

﴿قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ

 آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ

 الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى

 حِينٍ (١٠٨) و (١١١)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ بعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت رحمة للعالمين ، وكان من آثار رحمته دعوة الناس إلى التوحيد الموجب لكمال سعادة الدارين ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدعوة إليه بألطف بيان وأبلغه بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ﴿إِنَّما يُوحى إِلَيَ﴾ من ربّي ﴿أَنَّما إِلهُكُمْ﴾ ومعبودكم المستحقّ للعبادة ﴿إِلهٌ﴾ ومعبود ﴿واحِدٌ﴾ لا إله غيره ، فبعد ما أخبرتكم بذلك مع دلالة المعجزات على صدقي ، وبيّنت لكم الحجج القاطعة والبراهين الساطعة عليه وعلى بطلان الشّرك ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ﴾ أيّها المشركون ﴿مُسْلِمُونَ﴾ له ، ومخصّصون عبادتكم به ، أم تصرّون على ما أنتم عليه من الشّرك وعبادة الأصنام ؟

﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا عن قولك ، ولم يعتنوا إلى دعوتك ﴿فَقُلْ﴾ لهم إنذارا : إنّي ﴿آذَنْتُكُمْ﴾ وأعلمتكم ما أوحي إليّ ولم أقصّر فيه ، أو أنذرتكم عذاب الله على كفركم حال كونكم ﴿عَلى سَواءٍ﴾ في الإعلام والإبلاغ ، بلا فرق بين القريب والبعيد ، والشريف والوضيع ، والغني والفقير ، أو المراد آذنتكم بالحرب على مهل ، ولا أعاجلكم فيه رجاء إسلامكم.

﴿وَإِنْ أَدْرِي﴾ ولا أعلم ﴿أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ﴾ وتنذرون به من القيامة ، أو العذاب الدنيوي ، أو الحرب وغلبة المسلمين ، مع أنّه آت لا محالة ، واعلموا أن الله يعذّبكم على ما تجاهرتم به من الطعن في نبوّتي وكتابي ، والاستهزاء بي ، وما تسرّون من الحسد على ما آتاني من فضله وعداوتكم لي وللمؤمنين ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ﴾ الصادر منكم ﴿وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ﴾ وتسرّون أيّ قول كان وأيّ سرّ ﴿وَإِنْ أَدْرِي﴾ وما أعلم أنّ تأخير تعذيبكم أو إبهام وقته أو تأخير الأمر بجهادكم ، أو ما أدري ما بيّنت وأعلمت (٢)﴿لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ﴾ وامتحان ﴿لَكُمْ﴾ حتى يرى أنّكم تحدثون التوبة وتؤمنون أم لا ، أو بليّة وزيادة عذاب لكم ﴿وَمَتاعٌ﴾ وانتفاع بالحياة الدنيا ونعمها ﴿إِلى حِينٍ﴾ وأجل مقدّر تقتضيه مشيئة الله المبنيّة على الحكمة البالغة.

__________________

(١) علل الشرائع : ٥٧٩ / ١٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٩.

(٢) في النسخة : وأعلم.

٣١٩

﴿قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)

ثمّ لمّا دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على حسب وظيفته المقرّرة ، وتمرّد القوم عن إجابة دعوته وإطاعته ، حكى سبحانه شكايته منهم إليه بقوله : ﴿قالَ﴾ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿رَبِّ احْكُمْ﴾ بيني وبين قومي ﴿بِالْحَقِ﴾ والعدل المقتضي لتعجيل نزول العذاب عليهم ، فحكم الله عليهم بالقتل يوم بدر.

ثمّ حكى سبحانه توجّهه إلى قومه ، وتوعيده إيّاهم بالعذاب بقوله : ﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ﴾ والقادر الواسع الرحمة بالمؤمنين ﴿الْمُسْتَعانُ﴾ والمتوقّع منه النصر ﴿عَلى﴾ دفع ﴿ما تَصِفُونَ﴾ من الشرك وما تعارضون من الأباطيل.

وقيل : إنّ الكفّار كانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة ، فكذّب الله ظنونهم ، وخيّب آمالهم ، ونصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله [ والمؤمنين ] وخذلهم (١) .

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقوله في حروبه (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة الأنبياء حبّا لها ، كان ممّن رافق النبيّين أجمعين في جنّات النعيم ، وكان مهيبا في أعين النّاس حياة الدنيا » (٣) .

وعن أبيّ بن كعب ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قرأ سورة الأنبياء سهّل الله الحساب له يوم القيامة (٤) ، وصافحه جميع الأنبياء الذين ذكر الله اسمهم في القرآن وسلّموا عليه » (٥) .

الحمد لله الذي وفّقني لإتمام تفسير سورة الأنبياء ، ونسأله التوفيق لتفسير بقيّة الكتاب الكريم

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٣٤.

(٣) ثواب الاعمال : ١٠٨ ، مجمع البيان ٧ : ٦١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٦٠.

(٤) في مجمع البيان وتفسير أبي السعود : حاسبه الله حسابا يسيرا.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٦١ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٩٠.

٣٢٠