نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

قيل : إنّ أناسا كانوا يقولون : إنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يموت ، فنزلت (١) .

وقيل : كانوا يقدّرون أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سيموت فيشمتون (٢) بموته ، فنفى الله عنه الشّماتة وبيّن أن حاله كحال الأنبياء قبله وحال سائر البشر ، والمعنى : أفإن متّ فهم الخالدون حتى يشمتوا بموتك ؟ ! (٣)

وقيل : إنّها نزلت حين قال : المشركون : ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ(٤) .

ثمّ أكّد سبحانه عموم الموت لكلّ أحد بقوله : ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النفوس نبيّا كان أو وليّا ، أو مؤمنا أو كافرا ﴿ذائِقَةُ﴾ وطاعمة طعم ﴿الْمَوْتِ﴾ وإنّما تكون حكمة تعيّشكم وحياتكم في الدنيا أن نختبركم ﴿وَنَبْلُوكُمْ﴾ في مدّة حياتكم ﴿بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ﴾ والبلايا والنّعم ﴿فِتْنَةً﴾ وامتحانا ليتميّز الصابر والشاكر من غيرهما ﴿وَإِلَيْنا﴾ بعد الموت ﴿تُرْجَعُونَ﴾ لجزاء ما اختبرتم به من الأخلاق والأعمال.

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام مرض فعاده إخوانه ، فقالوا : كيف نجدك يا أمير المؤمنين ؟ قال : بشرّ ، قالوا : ما هذا كلام مثلك ! قال : إنّ الله تعالى يقول : ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ فالخير : الصحّة والغنى ، والشرّ : المرض والفقر » (٥) .

فحاصل الآية أنّ الغرض من حياة الدنيا الابتلاء ، والتعريض للثواب والعقاب ، وأنّ القول بنفي البعث والمعاد باطل مخالف للحكمة في خلق الإنسان.

ثمّ حكى سبحانه استهزاء المشركين بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوله بالتوحيد وذمّه الأصنام بقوله : ﴿وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بتوحيد الله ﴿إِنْ يَتَّخِذُونَكَ﴾ ولا يفعلون بك ﴿إِلَّا هُزُواً﴾ وسخريّة لادّعائك النبوّة ودعوتك إلى التوحيد وذمك الأصنام ، ويقول بعضهم لبعض استهزاء : ﴿أَ هذَا﴾ الرجل الوحيد الفقير هو ﴿الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ بالسّوء ﴿وَهُمْ﴾ أحقّاء بالاستهزاء والتّعييب ، لأنّهم ﴿بِذِكْرِ الرَّحْمنِ﴾ المنعم على عامّة الموجودات ﴿هُمْ كافِرُونَ﴾ ولحقوقه وصفاته الكماليّة من التوحيد والقدرة والغناء عمّا سواه منكرون.

قيل : نزلت الآية في أبي جهل ، مرّ به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مع أبي سفيان ، فقال لأبي سفيان : هذا نبيّ بني عبد مناف ؟ ! فقال أبو سفيان : ما تنكر أن يكون نبيّا في بني عبد مناف ، فسمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قولهما ، فقال لأبي جهل : « ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمّك الوليد بن المغيرة ، وأمّا أنت يا أبا سفيان فإنّما

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٩.

(٢) في النسخة : فيشمتونه.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٩.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٤٧٥ ، والآية من سورة الطور : ٥٢ / ٣٠.

(٥) مجمع البيان ٧ : ٧٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٩.

٢٨١

قلت ما قلت حميّة » فنزلت (١) .

﴿خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتى هذَا

 الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٧) و (٣٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المشركين على استهزائهم بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذمّهم على تعجيلهم في العذاب الموعود استهزاء بقوله : ﴿خُلِقَ الْإِنْسانُ﴾ بنوعه ﴿مِنْ عَجَلٍ﴾ والسّرعة في طلب المطلوب ، وقلّة الصّبر عليه ، فنزّل سبحانه الخلق الذي طبع عليه منزلة مبدء خلقه إيذانا بعدم انفكاكه منه. ومن عجلته استعجاله نزول العذاب الذي كان يعدهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه.

روي أنّها نزلت في النّضر بن الحارث حين استعجل العذاب بقوله : اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو آئتنا بعذاب أليم (٢) .

وعن ابن عباس : أنّ المراد بالإنسان آدم عليه‌السلام ، فإنّه حين بلغ الرّوح صدره أراد أن يقوم (٣) .

أقول : لعلّ المراد أنّ العجلة أوّلا كانت خلقه عليه‌السلام ، ثمّ سرى هذا الخلق في أولاده وذريّته.

وقيل : إنّ المراد بالعجل الطّين (٤) ، والمعنى : خلق الإنسان من طين ، وهذا المعنى في غاية البعد.

ثمّ وجّه سبحانه الخطاب إلى المستعجلين وهدّدهم بقوله : ﴿سَأُرِيكُمْ﴾ وأنزل عليكم عن قريب ﴿آياتِي﴾ وعقوباتي الدالّة على كمال قدرتي وقهّاريتي في الدنيا أو في الآخرة ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ بالإتيان بها ، فإنّه استعجال في ما يضرّكم غاية الضّرر ، وهو خلاف العقل وعين السّفه ﴿وَيَقُولُونَ﴾ استعجالا عن استهزاء بالنبيّ (٥) والمؤمنين بعد وعدهم إيّاهم بالعذاب : ﴿مَتى﴾ يقع ﴿هذَا الْوَعْدُ﴾ الّذي تعدوننا به ، فأتونا به ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في وعدكم.

﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا

 هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ *

 وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ

 يَسْتَهْزِؤُنَ * قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ

 مُعْرِضُونَ (٣٩) و (٤٢)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٧٠.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٦٧.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ٦٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٨٠.

(٤) تفسير أبي السعود ٦ : ٦٧.

(٥) في النسخة : للنبيّ.

٢٨٢

ثمّ أجابهم سبحانه بقوله : ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ﴾ ولا يقدرون أن يدفعوا ﴿عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ﴾ لإحاطتها بهم من كلّ جانب ﴿وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ من أحد في دفعها ، ولا يعاونون من نفس عليها (١) لما استعجلوا به ، أو يعلمون حقيقة الحال ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ﴾ العدة أو النّار أو الساعة ﴿بَغْتَةً﴾ وغفلة عنه ﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ وتحيّرهم أو تغلبهم ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ حين إتيانها ﴿رَدَّها﴾ وصرفها عن أنفسهم ﴿وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ ويمهلون ، كي يستريحوا منها طرفة عين ، فإنّ الإمهال مختصّ بالدنيا ، أو كي يعتذروا من معاصيهم ، أو لا ينظر إليهم وإلى تضرّعهم.

ثمّ لمّا حكى سبحانه استهزاء المشركين بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّاه ووعده بالنّصر بقوله : ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ﴾ كثيرة عظماء القدر كانوا ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ كما استهزأ قومك بك فصبروا ﴿فَحاقَ﴾ وأحاط ﴿بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ﴾ بعد سخريّتهم ﴿ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ من العذاب ، فهلكوا جميعا ، وكذلك حال المستهزئين بك.

ثمّ أنّه تعالى بعد تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتهديد المستهزئين به أمره بتقريعهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد للمستهزئين : ﴿مَنْ﴾ الذي ﴿يَكْلَؤُكُمْ﴾ ويحفظكم ﴿بِاللَّيْلِ﴾ الذي هو أغلب مواقع البليّات ﴿وَالنَّهارِ﴾ الذي يختصّ بالآفات ﴿مَنْ﴾ عذاب ﴿الرَّحْمنِ﴾ غيره برحمته الواسعة ، فإنّه هو الذي يمهلكم مع شدّة استحقاقكم ﴿بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ بحيث لا يخطر ببالهم ، فضلا عن أن يخافوا منه ، ولا يعدّون ما هم عليه من الأمن والدّعة حفظا وكلاءة حتى يسألوا عن الكالئ. وفي إضافة الإعراض إلى الذّكر ، وإضافة الذّكر إلى الربّ ، تنبيه على كونهم في الغاية القصوى من الضّلال.

﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ

 * بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ

 نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٣) و (٤٤)

ثمّ بالغ سبحانه في تقريعهم بقوله : ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ قيل : المعنى بل لهم (٢) ، أو ألهم (٣) ، أو بل ألهم (٤) آلهة ﴿تَمْنَعُهُمْ﴾ وتحفظهم من العذاب والآفات اللّيليّة والنّهاريّة التي تكون ﴿مِنْ دُونِنا﴾ وعندنا.

وقيل : يعني تتجاوز منعنا (٥) ، أو آلهة يكونون من دوننا ، وهم معوّلون عليها ، مع أنّهم لغاية ضعفهم ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ﴾ ورفع الكسر والقطع والتّلويث عنها ﴿وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ﴾ بالنّصر،

__________________

(١) هكذا الظاهر ، وفي النسخة : عليه.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٤٨٣.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٧٤.

(٤) تفسير البيضاوي ٢ : ٧١.

(٥) تفسير أبي السعود ٦ : ٦٩.

٢٨٣

أو يمنعون ، كما عن ابن عبّاس (١) .

وقيل : يعني لا يكون لهم من جهتنا ما يصحبهم من السّكينة والرّوح والرّفق وغير ذلك ممّا يصحب أولياءنا ، فكيف يتوهّم أنّهم ينصرون غيرهم ؟ (٢)﴿بَلْ﴾ مع أنّا حفظناهم من كلّ آفة ﴿مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ﴾ وأنعمنا عليهم بالنّعم الكثيرة الدنيويّة في المدّة الطويلة ﴿حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾ في الغفلة فنسوا عهدنا ، وجهلوا موقع نعمنا ، واغترّوا بها ، مع أنّه لا وجه لاغترارهم بها مع أنّها تزول وتذهب بسرعة ، وأنّهم مقهورون تحت قدرتنا ، ويرون آثار عذابنا ﴿أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ﴾ التي يسكنونها و﴿نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها﴾ وجوانبها بتسليط المسلمين عليها ، وفتحهم بلادها وقراها ، ونزيدها في ملك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقيل : يعني : إنّما نميت رؤساءهم ، أو ننقص من الشرّك بإهلاك أهله ، فيعتبرون بما يرون. فيؤمنون بالرسول ، ويعلمون أنّ نعمهم منّا وبقاءها وزوالها بيدنا ، أو يعلمون أنّا قادرون على إنجاز وعدنا إيّاهم بالعذاب ، وهم لا يقدرون على حفظه منه (٣) .

عن ابن عبّاس : تفسير نقص الأرض نقصها بفتح البلاد ، أو نقصان أهلها وبركتها (٤) .

وقيل : تخريب قراها بموت أهلها (٥) .

وقيل : هو موت العلماء (٦) ، كما روي عن الصادق عليه‌السلام (٧) واعترض عليه البعض بأنّ الآية نزلت في كفّار مكّة ، فكيف يدخل فيها العلماء والفقهاء ؟

وفيه : أنّ المراد من الأرض على هذا التفسير مطلقها ، وإن كان المقصود اعتبار أهل مكّة ، ويمكن أن يكون المراد من النقص المعنى العامّ الشامل للجميع بإرادة عموم المجاز.

ثمّ أنكر سبحانه على المشركين توهّم غلبتهم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين مع مشاهدتهم آثار قدرة الله عليهم بقوله : ﴿أَفَهُمُ الْغالِبُونَ﴾ والقاهرون على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى المؤمنين به مع رؤيتهم آثار قدرتنا ونصرتنا إيّاهم ، أم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وحزبه الذين هم حزب الله غالبون على اولئك الكفرة الطّغاة.

﴿قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ * وَلَئِنْ

 مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٥) و (٤٦)

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤٨٣.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٤٨٣.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٧٤.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١٧٥.

(٥ و٦) مجمع البيان ٧ : ٧٩ ، تفسير الرازي ٢٢ : ١٧٥.

(٧) مجمع البيان ٧ : ٧٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤١.

٢٨٤

ثمّ أنّه تعالى بعد إكثار الأدلّة على بطلان الشّرك وتكرارها على التوحيد وعدم انتفاع المشركين بها ، والإبلاغ في وعدهم بالعذاب وعدم مبالاتهم به ، ومبالغتهم في الاستعجال بوعد الرسول إستهزاء به ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتبليغ والاهتمام بأداء وظيفة الرسالة ، وعدم الاعتناء بترّهاتهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد للمشركين المستهزئين بك ﴿إِنَّما أُنْذِرُكُمْ﴾ أيّها الطغاة على حسب وظيفتي من قبل ربّي ﴿بِالْوَحْيِ﴾ الذي جاءني بتوسّط جبرئيل ، وبالقرآن الذي نزل إليّ ، وليس لي أن آتيكم بما انذركم به من العذاب ، فإنّه بقدرة ربّي ومشيئته ، وأنتم لعدم انتفاعكم بدعوتي وإنذاري كالصّمّ ﴿وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ﴾ ونداء المنادي ﴿إِذا ما يُنْذَرُونَ﴾ وإنّما قيّد الدعاء بوقوعه وقت الإنذار ؛ لأنّ المعتاد في إنذار الأصمّ الإفراط في رفع الصوت وتكريره والإبلاغ في تفهيمه بالإشارة الدالّة عليه ، فإذا لم يسمعوا مع ذلك يكون صممهم إلى حدّ لا وراء له.

ثمّ بيّن سبحانه أن تعجيلهم بالعذاب إنّما هو لجهلهم بشدّته وكيفيّته ، وأنّهم إذا رأوه يعترفون على أنفسهم بالظّلم ويعتذرون من تصاممهم بقوله : ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ﴾ ووالله إن أصابتهم أدنى مرتبة الاصابة ﴿نَفْحَةٌ﴾ وشيء يسير كالرائحة ﴿مِنْ عَذابِ رَبِّكَ﴾ لتنادوا بالويل والثّبور و﴿لَيَقُولُنَ﴾ تذلّلا وتحسّرا وتندّما واعترافا بفساد عقائدهم وأعمالهم : ﴿يا وَيْلَنا﴾ وهلاكنا ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿ظالِمِينَ﴾ على الله بإثبات الشريك له ، وعلى الرسول بالاستهزاء ، وعلى أنفسنا بتعريضها للهلاك.

﴿وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ

 مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ

 وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٧) و (٤٨)

ثمّ بيّن سبحانه كمال العدل في تعذيبهم بقوله : ﴿وَنَضَعُ﴾ وننصب ﴿الْمَوازِينَ الْقِسْطَ﴾ والعدل ﴿لِيَوْمِ الْقِيامَةِ﴾ لوزن العقائد والأعمال بها ، ليعلم النّاس مقدار سيّئاتهم وحسناتهم ، وما يستحقّون من الثواب والعقاب ، وقد مرّ تحقيق المراد من الموازين وما يوزن بها في سورة الأعراف (١)﴿فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ من النفوس ﴿شَيْئاً﴾ من حقّها ، بل يوفّى حقّ كلّ ذي حقّ إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ﴿وَإِنْ كانَ﴾ عملها ﴿مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ ومقدارها في الصغر والحقارة ، أحضرنا ذلك العمل الّذي له وزن حبّة هي أصغر الحبوب و﴿أَتَيْنا بِها﴾ للحساب ، ونضعها في الموازين ﴿وَكَفى بِنا حاسِبِينَ﴾ للأعمال عادلين فيها.

__________________

(١) تقدّم في تفسير الآية ٨ و٩ من سورة الأعراف.

٢٨٥

عن ابن عبّاس : يعني عالمين حافظين (١) ، إذ لا أعلم ولا أحفظ منّا.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال الشّرك ، وإثبات التوحيد والمعاد بالأدلّة القاطعة ، ودفع شبهة المشركين في الرسالة ، شرع في بيان أحوال الأنبياء العظام الّذين كانوا من البشر ودعاة إلى التوحيد والمعاد بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ﴾ أخاه ﴿هارُونَ﴾ التّوراة الّتي تكون هي ﴿الْفُرْقانَ﴾ والمميّز بين الحقّ والباطل ﴿وَضِياءً﴾ يستضاء بها في ظلمات الحيرة والجهالة ﴿وَذِكْراً﴾ وعظة عظيمة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ والمحترزين من القبائح وسوء العواقب ، فإنّهم المستضيئون بأنواره المغتنمون بغنائم آثاره.

وقيل : إنّ الفرقان هو النّصر على الأعداء (٢) .

وقيل : هو البرهان الذي فرّق به الدين الحقّ عن الأديان الباطلة (٣) .

وقيل : هو فلق البحر (٤) .

﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ

أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)

ثمّ وصف الله المتّقين بقوله : ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ ويخافون من عذابه الذي يكون ﴿بِالْغَيْبِ﴾ عنهم ، وفي السّتر عن أعينهم.

وقيل : يعني يخشون ربّهم وهم غائبون عن الآخرة (٥) .

وقيل : يخشون ربّهم في الخلوات والغياب عن الناس (٦)﴿وَهُمْ مِنَ﴾ عذاب ﴿السَّاعَةِ﴾ وأهوالها ﴿مُشْفِقُونَ﴾ ووجلون ، أو مرتعدون ، فلذلك يحترزون عن اتّباع الشّهوات وارتكاب السيّئات.

ثمّ لمّا مدح الله سبحانه التوراة ، مدح القرآن بقوله : ﴿وَهذا﴾ القرآن العظيم ﴿ذِكْرٌ﴾ وعظة للناس إلى يوم القيامة و﴿مُبارَكٌ﴾ كثير الخير والنفع ، أو ما يتبرّك به ﴿أَنْزَلْناهُ﴾ بتوسط جبرئيل كما أنزلنا التوراة من قبل ﴿أَ فَأَنْتُمْ﴾ يا معشر قريش ﴿لَهُ﴾ نزولا وبركة ﴿مُنْكِرُونَ﴾ مع عدم المجال لإنكاره لاشتماله على معجزات كثيرة.

﴿وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ * إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ

 التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ * قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ * قالَ لَقَدْ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤٨٦.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٧٨ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٧١.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٧٩.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١٧٩ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٧١.

(٥ و٦) تفسير الرازي ٢٢ : ١٧٩.

٢٨٦

كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ

 اللاَّعِبِينَ * قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى

 ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ *

 فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥١) و (٥٨)

ثمّ بيّن سبحانه عظم شأن إبراهيم عليه‌السلام ورسالته وكيفيّة دعوته بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا﴾ وأعطينا ﴿إِبْراهِيمَ﴾ الخليل ﴿رُشْدَهُ﴾ وهدايته إلى الحقّ ومصالح الدين والدنيا ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي العصر السابق على عصر موسى عليه‌السلام ، كما عن ابن عباس (١) . أو في عالم الذرّ حين أخذنا ميثاق النبيّين ، كما عنه أيضا (٢)﴿وَكُنَّا بِهِ﴾ وبأهليّته لذلك العطاء ﴿عالِمِينَ﴾ واذكر يا محمّد ﴿إِذْ قالَ﴾ حسب وظيفة الرسالة ﴿لِأَبِيهِ﴾ آزر ﴿وَقَوْمِهِ﴾ قيل : هم أهل بابل (٣) : ﴿ما هذِهِ التَّماثِيلُ﴾ والصّور المجسّمة ﴿الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ﴾ وإلى عبادتها مقبلون ، ولخدمتها ملتزمون ؟

﴿قالُوا﴾ في وجوابه : إنّا ﴿وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ﴾ ونحن لهم مقلّدون ، وبهم مقتدون.

﴿قالَ﴾ إبراهيم عليه‌السلام : بالله ﴿لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ﴾ أيّها المقلّدون ﴿وَآباؤُكُمْ﴾ الّذين اقتديتم بهم ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وخطأ ظاهر عظيم لا يخفى على ذي شعور ﴿قالُوا﴾ تعجّبا واستبعادا منه لمخالفته أهل بلده : ﴿أَ جِئْتَنا بِالْحَقِ﴾ وكلام صدق وعن جدّ ﴿أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ والهازلين بهذا القول المخالف للأكثرين ومن المازحين معنا ؟ ﴿قالَ﴾ إبراهيم : لست من اللاعبين والمازحين ﴿بَلْ﴾ أقول عن جدّ وحقيقة : ﴿رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ﴾ وخلقهنّ بقدرته وحكمته بلا مثال سابق ، أو الذي خلق التماثيل ﴿وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ﴾ الذي ذكرته من كون الربّ والإله ربّ جميع الموجودات وحده دون التماثيل وغيرها ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ والعالمين به بالبراهين.

قيل : إنّ قومه كان لهم عيد يخرجون فيه من البلد إلى الصحراء للطّرب والبطر ، ثمّ يعودون إلى بيوت أصنامهم ويزيّنونها ويعبدونها ، فلمّا ناظر إبراهيم عليه‌السلام بعضهم قالوا : غدا يوم العيد فاخرج معنا وانظر محاسن ديننا ، فسكت إبراهيم عليه‌السلام ، فلمّا كان الغد جاءوا إليه وسألوه الخروج معهم ، فاعتلّ وتمارض وقال : ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ يعني عن عبادة الأصنام (٤) ، فلمّا ذهبوا قال إبراهيم في نفسه : ﴿وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ﴾ واحتالنّ واجتهدنّ في كسرها ، أو لأحتالنّ بكم في كسرها ﴿بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا﴾ وترجعوا ﴿مُدْبِرِينَ﴾ وذاهبين من بيوتها إلى عيدكم.

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٠.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٤٩٠.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٤٩٢.

٢٨٧

وعن السّدّي : كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ، ثمّ عادوا إلى منازلهم ، فلمّا كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم عليه‌السلام : لو خرجت معنا ؟ فخرج معهم ، فلمّا كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ واشتكى رجله ، فلمّا مضوا وبقي الضعفاء نادى ﴿وَ﴾ قال : ﴿تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ(١) .

وعن الكلبي : كان إبراهيم من أهل بيت ينظر [ ون ] في النجوم ، وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلّا مريضا ، فلمّا همّ إبراهيم بكسر الأصنام ، نظر قبل يوم العيد إلى السماء ، فقال لأصحابه : أراني أشتكي غدا ، فأصبح من الغد معصوبا رأسه ، فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلّف أحد غيره ، فقال : أما والله لأكيدنّ أصنامكم ، فسمع قوله رجل منهم ، فأخبر به غيره فانتشر ذلك (٢) .

وروي أنّ آزر خرج به في عيد لهم ، فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه ، وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما وخبزا ، وقالوا : الآن ترجع بركة الآلهة على طعامنا ، فذهبوا وبقي إبراهيم عليه‌السلام فنظر إلى الأصنام فقال مستهزئا بهم : ما لكم لا تنطقون ، ما لكم لا تأكلون ؟ ! ثمّ التفت إلى فأس معلّق فتناوله ، وكان هناك سبعين صنما ، وكان صنم عظيم مستقبل الباب ، وكان من ذهب ، وكان في عينيه جوهرتان تضيئان ، فكسر الكلّ بالفأس ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً﴾ وقطعا متفرّقة ﴿إِلَّا كَبِيراً﴾ كان ﴿لَهُمْ﴾ فإنّه عليه‌السلام لم يكسره وعلّق الفأس في عنقه (٣)﴿لَعَلَّهُمْ﴾ بعد رجوعهم من عيدهم ورؤيتهم فعل إبراهيم عليه‌السلام ﴿إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ في تعيين الكاسر لتسامعهم إنكاره لدينهم وسبّه آلهتهم ، أو إلى مقالته من التوحيد يرجعون ، وعن دينهم الباطل يعدلون ، لرؤيتهم أنّ أصنامهم لم يقدروا على أن يدفعوا عن أنفسهم ضرّا ولم ينل من أهانهم (٤) وكسرهم ضرر.

وقيل : يعني لعلّهم إلى الصنم الكبير يرجعون ، وإنّما قال عليه‌السلام ذلك استهزاء بهم (٥) .

وقيل : يعني يرجعون إليه في حلّ مشكلهم من تعيين الكاسر ، وعلّة إبقاء الكبير وتعليق الفأس في عنقه وكسر ما عداه (٦) ، حتّى يظهر غاية جهالتهم وحماقتهم.

﴿قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ

 لَهُ إِبْراهِيمُ * قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قالُوا أَ أَنْتَ

 فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ * قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٢.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ٧٣.

(٤) في النسخة : أهان بهم.

(٥ و٦) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٣.

٢٨٨

يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلى

 رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٥٩) و (٦٥)

ثمّ لمّا رجع القوم من عيدهم ودخلوا بيت الأصنام ليسجدوا لهم ، رأوا ما فعل إبراهيم عليه‌السلام بهم ﴿قالُوا﴾ تشنيعا على كاسرهم وتهديدا له : ﴿مَنْ فَعَلَ هذا﴾ الفعل ﴿بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بتعريضها للهلاك ، أو على الآلهة المستحقّة للتعظيم بجرأته على كسرهم وتوهينهم ، فلمّا سمع هذا الكلام الذين علموا أنّه قال إبراهيم عليه‌السلام : ﴿تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ(١) ، ﴿قالُوا :﴾ يا قوم إنّا ﴿سَمِعْنا﴾ من النّاس أنّ ﴿فَتًى﴾ وشابّا يعيب الآلهة و﴿يَذْكُرُهُمْ﴾ بسوء ﴿يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ﴾ فلعلّه فعل ذلك بهم. فلمّا سمع القوم ذلك ﴿قالُوا﴾ - وقيل : إنّ نمرود وأشراف قومه قالوا في ما بينهم - : ﴿فَأْتُوا بِهِ﴾ وأحضروه ﴿عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ(٢) وبمرأى منهم ومنظر ، وفيهم الذين عرفوه ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ عليه بأنّه فعل ذلك ، أو قال ذلك القول لئلّا يأخذه بلا بيّنة ، فلمّا أحضروا إبراهيم عليه‌السلام ﴿قالُوا﴾ تقريرا له : ﴿أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا﴾ الفعل ﴿بِآلِهَتِنا﴾ وأصنامنا ﴿يا إِبْراهِيمُ قالَ﴾ في جوابهم تهكّما : ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا﴾ الذي لم يكسر ، لغضبه على أن تعبد معه هذه الأصنام الصّغار ، كما قيل (٣) ، فان لم تقبلوا قولي ﴿فَسْئَلُوهُمْ﴾ عمّن فعل بهم ذلك ﴿إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ﴾ حتى يصدّقوني في ما اخبركم به.

روت العامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّه لم يكذب إبراهيم عليه‌السلام إلّا ثلاث كذبات ؛ أحدها أنّه قال : ﴿إِنِّي سَقِيمٌ ،﴾ والثانية أنّه قال : ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا﴾ والثالثة أنه [ قال لسارة : هي أختي ] »(٤).

وعن الصادق عليه‌السلام : « إنّما قال ابراهيم عليه‌السلام : إن كانوا ينطقون فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا ، فما نطقوا ، وما كذب إبراهيم » (٥) .

وعنه عليه‌السلام أيضا إنّما قال : « بل فعله كبيرهم ، إرادة الإصلاح ودلالة على أنّهم لا يفعلون (٦) » ، ثمّ قال : « والله ما فعله وما كذب » (٧) .

﴿فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ﴾ وراجعوا إلى عقولهم ، وتذكّروا أنّ ما لا يقدر على دفع الضّرر عن نفسه ، ولا على الإضرار بمن كسره ، يستحيل أن يقدر على دفع الضّرر عن غيره ، وما يكون كذلك لا يجوز عبادته.

__________________

(١) الأنبياء : ٢١ / ٥٧.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٤٩٤.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٤٩٤.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٩٤.

(٥) معاني الأخبار : ٢١٠ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤٣.

(٦) الكافي ٢ : ٢٥٦ / ١٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤٣.

(٧) الكافي ٢ : ٢٥٦ / ٢٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤٣.

٢٨٩

وقيل : يعني رجعوا إلى أنفسهم فلاموها (١)﴿فَقالُوا﴾ فيما بينهم : ﴿إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ على أنفسكم بعبادتهم لا من كسرهم ، أو ظالمون على إبراهيم عليه‌السلام حيث تزعمون أنّه كسرهم ، مع أنّ الفأس عند الصنم الكبير ، أو الظالمون على أنفسكم حيث سألتم إبراهيم عليه‌السلام عن ذلك ، فأخذ يستهزئ بكم في الجواب ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ﴾ وعادوا إلى ما كانوا عليه من الحمق والمجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة إلى عقولهم.

وقيل : يعني ثمّ قلبوا على رؤوسهم لفرط إطراقهم خجلا وانكسارا بما بهتهم به إبراهيم عليه‌السلام ، فما أحاروا جوابا (٢) إلّا أنّهم قالوا : والله ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ﴾ يا إبراهيم ﴿ما هؤُلاءِ﴾ الأصنام ﴿يَنْطِقُونَ﴾ فكيف تأمرنا بالسؤال ، عنهم فاعترفوا بلزوم حجّة إبراهيم عليه‌السلام عليهم.

وقيل : يعني قلبوا على رؤوسهم في الحجّة على إبراهيم عليه‌السلام ، واحتجّوا عليه بما هو الحجّة له ، لغاية تحيّرهم ، والمراد نكست حجّتهم ، فأقاموا الحجّة عليهم مقام الحجّة لهم (٣) .

﴿قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِما

 تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ * قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

 فاعِلِينَ * قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٦) و (٦٩)

ثمّ ﴿قالَ﴾ إبراهيم عليه‌السلام توبيخا عليهم وتبكيتا لهم : ﴿أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً﴾ إن عبدتموه ﴿وَلا يَضُرُّكُمْ﴾ إن لا تعبدوه ، بل ولو أهنتموه ؟ مع أنّ المعبود لا بدّ أن يكون قادرا على الإنفاع والإضرار ، كي لا تكون عبادته عبثا.

ثمّ لمّا رأى إصرارهم على باطلهم قال تضجّرا منهم : ﴿أُفٍّ لَكُمْ﴾ وقبحا ﴿وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ من الجمادات الخسيسة ﴿أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾ قبح صنيعكم وشناعة عملكم.

ثمّ لمّا عجزوا عن الغلبة عليه بالحجّة تشاوروا في إهلاكه و﴿قالُوا :﴾ إن أردتم إهلاكه ﴿حَرِّقُوهُ﴾ بالنار ، فإنّه أشدّ العقوبات ﴿وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ بالانتقام لها ﴿إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ فعلا في نصرتهم والانتقام لهم.

قيل : إنّ القائل نمرود (٤) . وقيل : إنّه رجل من الكرد ، من أعراب فارس (٥) . وقيل : إنّه رجل اسمه هبرين ، خسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (٦) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٦.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٦.

(٤-٦) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٧.

٢٩٠

قصة إلقاء إبراهيم عليه‌السلام في النّار

ثم لمّا اتّفقوا على إحراقه ، حبسه نمرود وبنى بنيانا كالحظيرة ، واهتمّ الناس بجمع الحطب ، حتى إنّ المرأة لو مرضت نذرت إن عافاها الله منه جمعت الحطب لإبراهيم ، وكانوا على ذلك أربعين يوما.

وروي أنّ الدوابّ امتنعت من حمل الحطب إلّا البغال ، فعاقبها الله بأن أعقمها (١) .

قيل : صبّوا على الحطب دهنا كثيرا ، ثمّ أضرموا فيه النّار ، وأوقدوها سبعة أيّام ، فلمّا اشتعلت النّار صار الهواء بحيث لو مرّ الطير في أقصى الجوّ لاحترق (٢) .

روي أنّهم لم يعلموا كيف يلقون إبراهيم عليه‌السلام فيها لعدم إمكان قربهم منها ، فجاء إبليس في صورة شيخ وعلّمهم عمل المنجنيق (٣) .

وقيل : تمثّل لهم في صورة نجّار فصنعه لهم ، ثمّ نصبوه على رأس الجبل ، ووضعوا إبراهيم عليه‌السلام فيه مقيّدا مغلولا ، فصاحت الّسماء والأرض ومن فيهما إلّا الثقلين صيحة واحدة : أي ربّنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم ، وهو يحرق فيك ! فأذن لنا في نصرته. فقال تعالى : إن استعان بأحد منكم لينصره ، فقد أذنت له في ذلك ، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليّه ، فخلّوا بيني وبينه ، فإنّه خليلي ليس لي خليل غيره ، وأنا إلهه ليس له إله غيري.

فلمّا أرادوا إلقاءه في النّار أتاه خازن الرّياح فقال : إن شئت طيّرت النار في الهواء ، وأتاه خازن المياه وقال : إن أردت أخمدت النار. فقال إبراهيم عليه‌السلام : لا حاجة لي إليكم ، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء فقال : أنت الواحد في السّماء وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض من يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل.

وأقبلت الملائكة فلزموا كفّة المنجنيق ، فرفعه أعوان نمرود ، فلم يرتفع. فقال لهم إبليس : أتحبّون أن يرتفع ؟ قالوا : نعم. قال : ائتوني بعشر نسوة ، فأتوا بهنّ ، إلى أن قال : فمدّت الأعوان المنجنيق ، وذهبت الملائكة ، فلمّا القي في النار قال : لا إله إلّا أنت سبحانك ربّ العالمين ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك (٤) .

وروي أنّ جبرئيل أدركه في الهواء ، وقال : هل لك حاجة ؟ فقال : أمّا إليك فلا ، فقال : سل ربّك حاجتك. قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي. فأخبر سبحانه عن إجابته له بقوله : ﴿قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ(٥) .

__________________

(١-٣) تفسير روح البيان ٥ : ٤٩٧.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٤٩٧.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٤٩٨.

٢٩١

عن الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ إبراهيم عليه‌السلام لمّا القي في النّار قال : اللهمّ إنّي أسألك بحق محمّد وآله لمّا أنجيتني منها ، فجعلها الله عليه بردا وسلاما » (١) .

وعن ابن عبّاس : لو لم يتّبع بردا سلاما لمات إبراهيم عليه‌السلام من بردها ، ولم يبق يومئذ في الدنيا نار إلّا طفئت (٢) .

قيل : فأخذت الملائكة بضبعي (٣) إبراهيم عليه‌السلام ، وأقعدوه في الأرض ، فإذا عين ماء عذب ، وورد أحمر ونرجس ، ولم تحرق النار منه إلّا وثاقه (٤) .

وقيل : إنّ إبراهيم عليه‌السلام لمّا القي في النّار كان فيها أربعين يوما أو خمسين ، وقال : ما كنت أيّاما أطيب عيشا منّي إذ كنت فيها (٥) .

وقيل : بعث الله ملك الظلّ في صورة إبراهيم عليه‌السلام ، فقعد إلى جنبه يؤنسه ، وأتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنّة وقال : يا إبراهيم ، إنّ ربّك يقول : أما علمت أنّ النّار لا تضرّ أحبّائي ؟ ثمّ نظر نمرود من صرح له مشرف على إبراهيم عليه‌السلام ، فرآه جالسا في روضة ، ورأى الملك قاعدا إلى جنبه ، وحوله نار تحرق الحطب ، فناداه : يا إبراهيم ، هل تستطيع أن تخرج منها ؟ قال : نعم ، قال : قم فاخرج منها ، فقام يمشي حتى خرج منها.

قال له نمرود : من الرجل الذي رأيته معك في صورتك ؟ قال : ذلك ملك الظلّ أرسله ربّي ليؤنسني فيها. فقال نمرود : إنّي مقرّب إلى ربّك قربانا لما رأيت من قدرته وعزّته في ما صنع بك ، فإنّي ذابح له أربعة آلاف بقرة.

فقال إبراهيم عليه‌السلام : لا يقبل الله منك ما دمت على دينك. فقال نمرود : لا أستطيع أن أترك ملكي ، ولكن سوف أذبحها له ؛ ثمّ ذبحها له ، ثمّ أوقدوا عليه النار سبعة أيّام ، ثمّ أطبقوا عليه ، ثمّ فتحوا عليه من الغد ، فإذا هو [ غير ] محترق يعرق عرقا (٦) .

﴿وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي

 بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ

 * وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ

__________________

(١) الاحتجاج : ٤٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٨.

(٣) الضّبع : ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاها ، وهما ضبعان.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٨ ، والوثاق : ما يشدّ به ، كالحبل وغيره.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٨.

(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٨.

٢٩٢

وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٠) و (٧٣)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إلقاءهم إبراهيم عليه‌السلام في النّار صار معجزة قاهرة له بقوله : ﴿وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً﴾ ومكرا عظيما في الإضرار به وإهلاكه ﴿فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ من كلّ خاسر حيث صار سعيهم في إهلاك إبراهيم عليه‌السلام بالنار دليلا ظاهرا كالنّار على المنار على رسالته ، و[ صار ] اتّفاقهم على إطفاء نور الحقّ برهانا قاطعا على حقّانيّته.

وقيل : يعني جعلناهم الهالكين بتسليط البعوض عليهم وقتله إيّاهم مع كونه أضعف خلق الله تعالى ، وما برح نمرود حتى رأى أصحابه قد أكل البعوض لحومهم ، وشرب دماءهم ، ووقعت بعوضة في منخره ، فلم تزل تأكل منه إلى أن وصلت إلى دماغه ، وكان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة (١) من حديد ، فأقام بهذا الحال نحوا من أربعمائة سنة ثمّ مات ، كذا قيل (٢) .

ثمّ ذكر سبحانه سائر نعمه العظام على إبراهيم عليه‌السلام بقوله : ﴿وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً﴾ الذي هو ابن أخيه ، أو ابن خالته ، من شرّ الكفّار ومجاورتهم مهاجرين من بابل وأرض العراق ﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا﴾ وأكثرنا نعمنا ﴿فِيها لِلْعالَمِينَ﴾ من حيث إكثار المياه والأشجار والثّمار والحطب ، وطيب العيش للغنيّ والفقير ، وبعث الأنبياء ونشر الشّرائع ، وهي أرض الشام.

وعن أبيّ بن كعب : سماها مباركة لأنّه ما من ماء عذب إلّا وينبع أصله من تحت الصّخرة التي ببيت المقدس (٣) .

قيل : خرج إبراهيم مع لوط وسارة من كوثى ، وهو من بلاد أرض بابل ، مهاجرا إلى ربّه ، وفرارا بدينه ، حتى نزل بحرّان ، فمكث بها ما شاء الله ، ثمّ ارتحل منها ونزل بفلسطين ، ثمّ خرج منها مهاجرا حتى قدم مصرا ، ثمّ خرج من مصر وعاد إلى أرض الشام ، ونزل لوط بالمؤتفكة وبعثه الله نبيّا إلى أهلها(٤).

وفي الحديث : بيت المقدس أرض الحشر والنّشر ، والشام صفوة الله من بلاده يجيئ إليها صفوة خلقة (٥) .

وكان من المنن أنّا أنعمنا على إبراهيم عليه‌السلام ﴿وَوَهَبْنا لَهُ﴾ بعد هجرته إلى الأرض المباركة ونزوله فيها ﴿إِسْحاقَ﴾ من صلبه ورحم سارة ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ من صلب إسحاق عليه‌السلام حال كونه ﴿نافِلَةً

__________________

(١) المرزبة : عصيّة من حديد ، ومطرقة كبيرة تكسر بها الحجارة.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٥٠٠.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٥٠١.

(٤ و٥) تفسير روح البيان ٥ : ٥٠١.

٢٩٣

وعطيّة زائدة ﴿وَكُلًّا﴾ من الأربعة ، أو من إسحاق ويعقوب عليهما‌السلام ﴿جَعَلْنا﴾ هم بتوفيقنا ﴿صالِحِينَ﴾ وجامعين لخيرات الدّين والدّنيا ﴿وَجَعَلْناهُمْ﴾ برحمتنا ﴿أَئِمَّةً﴾ للنّاس ومقتدين لهم في امور الدين ، وهداة ﴿يَهْدُونَ﴾ الخلق إلى الحقّ ﴿بِأَمْرِنا﴾ لهم بذلك ، وإرسالنا إيّاهم إليهم ﴿وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ﴾ ليحثّوا الناس عليها ﴿وَكانُوا﴾ أنفسهم ﴿لَنا﴾ خاصّة ﴿عابِدِينَ﴾ وخاضعين ومطيعين.

﴿وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ

 كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ * وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَنُوحاً إِذْ

 نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْناهُ مِنَ

 الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٤) و (٧٧)

ثمّ ذكر الله نعمته على لوط بإيمانه بإبراهيم عليه‌السلام وتبعيّته له بقوله : ﴿وَلُوطاً آتَيْناهُ﴾ من فضلنا ﴿حُكْماً﴾ وقضاء بين الناس ، أو الحكمة التي هي أفضل النّعم ، أو النبوّة التي هي أعلى المناصب ﴿وَعِلْماً﴾ نافعا ، وهو العلم بامور الدين وأحكام الشريعة ﴿وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ﴾ جماعة سكّانها ﴿تَعْمَلُ الْخَبائِثَ﴾ وتفعل الفواحش من قطع الطريق ، وإتيان المنكر في الأندية ، ونكاح الرجال ﴿إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ﴾ لم تكن فيهم جهة حسن ، وكانوا ﴿فاسِقِينَ﴾ وخارجين عن حدود العقل والشرع ، منهمكين في الكفر والطّغيان ﴿وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا﴾ الخاصة ، وهي النبوّة ، والثّواب العظيم ، كما عن ابن عبّاس (١) . إنّه كان واحدا ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى.

ثمّ ذكر سبحانه نعمته على نوح عليه‌السلام بقوله : ﴿وَنُوحاً إِذْ نادى﴾ ربّه ، والمعنى : اذكر نبأه الواقع حين دعائه على قومه بالهلاك ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي الزمان السابق على إبراهيم ﴿فَاسْتَجَبْنا لَهُ﴾ دعاءه على قومه بقوله : « ربّ إنّي مغلوب فانتصر » ﴿فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ﴾ وأولاده والمؤمنين به ﴿مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ والغمّ الشّديد ، من تكذيب القوم وإيذائهم ، أو منه ومن العذاب ﴿وَنَصَرْناهُ﴾ نصرا مستتبعا للانتقام ﴿مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ ودلائل توحيدنا ، ورسالة رسلنا.

وقيل : يعني نصرناه من مكروه القوم (٢) ، أو عصمناه من مكرهم. وقيل : إنّ كلمة ( من ) بمعنى على (٣)﴿إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ﴾ وامّة رذيلة الأخلاق ، وفاسدة العقائد والأعمال ﴿فَأَغْرَقْناهُمْ﴾ بالطّوفان ﴿أَجْمَعِينَ﴾ بحيث لم ينفلت منهم أحد.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٩٢.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٩٤.

٢٩٤

﴿وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا

 لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ * فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ

 داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ * وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ

 لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٧٨) و (٨٠)

﴿وَ﴾ اذكر ﴿داوُدَ وَسُلَيْمانَ ،﴾ أو التقدير : وآتينا داود وسليمان رشدهما ﴿إِذْ يَحْكُمانِ فِي﴾ قضية ﴿الْحَرْثِ﴾ والزّرع ﴿إِذْ نَفَشَتْ﴾ وتفرّقت ﴿فِيهِ﴾ باللّيل ﴿غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ وقطيعهم ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ﴾ وقضائهم في تلك القضيّة ﴿شاهِدِينَ﴾ وحاضرين علما وإحاطة ﴿فَفَهَّمْناها﴾ وألهمناها ﴿سُلَيْمانَ﴾ وهو ابن أحد عشر سنة ، على ما روته العامة (١) .

ثمّ دفع سبحانه توهّم اختصاص العلم بالحكم بسليمان عليه‌السلام بقوله : ﴿وَكُلًّا﴾ من داود وسليمان عليه‌السلام ﴿آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً﴾ كثيرا ، لا سليمان وحده.

روت العامة : أنّه دخل رجلان على داود عليه‌السلام ، أحدهما صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إنّ غنم هذا دخلت حرثي ، فما أبقت منه شيئا. فقال داود عليه‌السلام : إذهب فإنّ الغنم لك.

فخرجا فمرّا بسليمان عليه‌السلام ، فقال : كيف قضى بينكما ؟ فقال : لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا ، فأخبر بذلك داود عليه‌السلام فدعاه وقال : كيف قضيت بينهما ؟ فقال : ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ، فيكون له منافعها من الدّرّ والنّسل والوبر ، حتى إذا كان الحرث من العام المستقبل كهيئتة يوم أكل ، دفعت الغنم إلى أهلها ، وقبض صاحب الحرث حرثه (٢) .

وعن ابن مسعود : إنّ راعيا نزل ذات ليلة بجنب كرم ، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر ، فأكلت القضبان ، وأفسدت الكرم ، فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود عليه‌السلام ، فقضى له بالغنم ، لأنّه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الغنم تفاوت ، فخرجوا فمرّوا بسليمان عليه‌السلام فقال لهم : كيف قضى بينكما ؟ فأخبراه به ، فقال : غير هذا أرفق بالفريقين ، فأخبر داود بذلك ، فدعا سليمان وقال له : بحقّ الابوّة والنبوّة إلّا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين ؟

فقال : هو ردّ الغنم إلى صاحب الكرم حتى يرتفق (٣) بمنافعها ، ويعمل الراعي في إصلاح الكرم حتى يصير كما كان ، ثمّ تردّ الغنم إلى صاحبها. فقال داود عليه‌السلام : إنّما القضاء ما قضيت ، وحكم بذلك(٤) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٥٠٥.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٩٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٥٠٥.

(٣) ارتفق بالشيء : انتفع واستعان.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١٩٥.

٢٩٥

ورووا أنّ حكم داود عليه‌السلام لم يكن على البتّ ، وحملوا حكمهما على الاجتهاد (١) . ولا يخفى ما في هذا الحمل من الفساد.

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّه كان أوحى الله عزوجل إلى النبيّين قبل داود عليه‌السلام إلى أن بعث الله داود عليه‌السلام : أيّ غنم نفشت في الحرث فان لصاحب الحرث رقاب الغنم ، ولا يكون النّفش إلّا باللّيل ، فإنّ على صاحب الزرع أن يحفظ زرعه بالنّهار ، وعلى صاحب الغنم أن يحفظ غنمه باللّيل. فحكم داود عليه‌السلام بما حكم به الأنبياء من قبل ، فأوحى الله عزوجل إلى سليمان عليه‌السلام : أيّ غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلّا ما خرج من بطونها ، وكذلك جرت السنّة بعد سليمان عليه‌السلام ، وهو قول الله : ﴿وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً﴾ وحكم كلّ واحد بحكم الله عزوجل » (٢) .

وفي رواية اخرى ما يقرب منه (٣) .

وعنه عليه‌السلام : « أوحى الله إلى داود عليه‌السلام أن اتّخذ وصيّا من أهلك ، فإنّه قد سبق في علمي أن لا أبعث نبيّا إلّا وله وصيّ من أهله ، وكان لداود عليه‌السلام عدّة أولاد وفيهم غلام كانت أمّه عند داود عليه‌السلام ، وكان لها محبّا ، فدخل عليها داود عليه‌السلام حين أتاه الوحي فقال لها : إنّ الله عزوجل أوحى إليّ أن أتّخذ وصيّا من أهلي ، فقالت له امرأته : فليكن ابني ، قال : ذلك أريد ، وكان السابق في علم الله المحتوم عنده أنّه سليمان عليه‌السلام ، فأوحى الله تعالى إلى داود عليه‌السلام : أن لا تعجل دون أن يأتيك أمري.

فلم يلبث داود عليه‌السلام أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم والكرم ، وأوحى الله عزوجل إلى داود عليه‌السلام : أن اجمع ولدك ، فمن قضى بهذه القضيّة فأصاب فهو وصيّك من بعدك ، فجمع داود عليه‌السلام ولده ، فلمّا أن قصّ الخصمان قال سليمان عليه‌السلام : يا صاحب الكرم ، متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك ؟ قال : دخلته ليلا ، قال : قد فضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك وأصوافها في عامك هذا.

ثمّ قال له داود عليه‌السلام : فكيف لم تقض برقاب الغنم وقد قوّم ذلك علماء بني إسرائيل ، فكان ثمن الكرم قيمة الغنم ؟ فقال سليمان عليه‌السلام : إنّ الكرم لم يجتثّ من أصله ، وإنّما أكل حمله وهو عائد من (٤) قابل.

فأوحى الله عزوجل إلى داود عليه‌السلام : إنّ القضاء في هذه القضيّة ما قضى سليمان عليه‌السلام به ، يا داود: أردت أمرا وأردنا أمرا غيره. فدخل داود عليه‌السلام على امرأته فقال : أردنا أمرا وأراد الله أمرا غيره ، ولم

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٧٩.

(٢) الكافي ٥ : ٣٠٢ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤٨.

(٣) الكافي ٥ : ٣٠١ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤٨.

(٤) في الكافي : في.

٢٩٦

يكن إلّا ما أراد الله ، فقد رضينا بأمر الله عزوجل وسلّمنا. وكذلك الأوصياء ليس لهم أن يتعدّوا بهذا الأمر فيجاوزن صاحبه إلى غيره » (١) .

وعنه عليه‌السلام قال : « كان في بني إسرائيل رجل وكان له كرم ، ونفشت فيه غنم لرجل [ آخر ] باللّيل ، وقضمته وأفسدته ، فجاء صاحب الكرم إلى داود عليه‌السلام ، فاستعدى على صاحب الغنم فقال داود عليه‌السلام : إذهبا إلى سليمان ليحكم بينكما. فذهبا إليه ، فقال سليمان عليه‌السلام : إن كانت الغنم أكلت الأصل والفرع ، فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم الغنم وما في بطنها ، وإن كانت ذهبت بالفرع ولم تذهب بالأصل ، فإنّه يدفع ولدها إلى صاحب الكرم ، وكان هذا ما حكم داود عليه‌السلام ، وإنّما أراد أن يعرف بني إسرائيل أنّ سليمان عليه‌السلام وصيّة بعده ، ولم يختلفا في الحكم ، ولو اختلف حكمهما لقال : كنّا لحكمهما شاهدين » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « لم يحكما ، إنّما كانا يتناظران ففهّمناها سليمان » (٣) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « كان حكم داود رقاب الغنم ، والذي فهّم الله سليمان أنّ لصاحب الكرم اللّبن والصّوف ذلك العام كلّه » (٤) .

أقول : هذه جملة الروايات الواردة ، وتبيّن أنّ صريح جملة منها عدم صدور حكم من داود عليه‌السلام كما عليه بعض مفسّري العامة ، ومن المعلوم أنّها مخالفة لظاهر الكتاب من قوله : ﴿إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ﴾ وقوله : ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ وترتّب قوله : ﴿فَفَهَّمْناها﴾ على قوله : ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ ولازم التّرتّب سبق الحكم المخالف على التّفهيم ، فلا بدّ من طرح الروايات المخالفة للكتاب ، وحمل الموافقة له على حكم داود فيها بحكم سائر الأنبياء. ثمّ نسخه الله على لسان سليمان عليه‌السلام إظهارا لعظمة شأنه وكونه نبيّا ، أو بلسان داود عليه‌السلام ، وإنّما كان ما فهمه سليمان عليه‌السلام حكمه الحكم الناسخ ، وبيان أولويّته وأرجحيّته من الحكم المنسوخ ، لوضوح عدم جواز الاجتهاد والحكم بالظنّ والاستحسان على الأنبياء ، كما عليه العامة (٥) .

قال الفاضل المقداد في آيات أحكامه : هل كان حكمهما بوحي أو باجتهاد ؟

الجواب : الوجه الحقّ عندنا أنّه بوحي ، والثاني ناسخ ، كما هو قول الجبّائي (٦) .

ثمّ بيّن نعمته المختصّة بداود عليه‌السلام بقوله : ﴿وَسَخَّرْنا﴾ ودلّلنا ﴿مَعَ داوُدَ الْجِبالَ﴾ حال تسبيحه ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٢١٩ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤٨.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٧٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤٩.

(٣) المحاسن : ٢٧٧ / ٣٩٧ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧ / ١٩٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤٩.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧ / ١٩٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤٩.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ١٩٦.

(٦) كنز العرفان ٢ : ٣٧٩.

٢٩٧

حيث إنّهنّ ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ بتبعه. قيل : إنّ التقدير كيف سخّرها الله فقيل يسبّحن (١) . ﴿وَالطَّيْرَ﴾ بحيث يسمع كلّ أحد تسبيحها ، وإنّما قدّم الجبال لكون تسبيحها أعجب.

قيل : كان داود عليه‌السلام إذا وجد فترة سبّحت الجبال والطّير بأمر الله ليزداد اشتياقا ونشاطا (٢)﴿وَكُنَّا﴾ بقدرتنا ﴿فاعِلِينَ﴾ ذلك الأمر العجيب.

وقيل : يعني كنّا فاعلين ذلك وأمثاله بالأنبياء ، ليكون لهم معجزة (٣) .

عن ابن عبّاس : أنّ بني إسرائيل كانوا قد تفرّقوا قبل مبعث داود ، وأقبلوا على ملاهي الشيطان ، وهي العيدان والطّنابير والمزامير والصنوج (٤) وما أشبهها ، فبعث الله داود عليه‌السلام ، وأعطاه من حسن الصّوت ونغمة الألحان حتى كان يتلو التّوراة بترجيع وخفض ورفع ، فأذهل عقول بني إسرائيل ، وشغلهم عن تلك الملاهي ، وصاروا يجتمعون إلى داود عليه‌السلام يستمعون ألحانه ، وكان إذا سبّح تسبّح معه الجبال والطّير والوحش (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ داود خرج يقرأ الزّبور ، وكان إذا قرأ الزّبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلّا أجابه » (٦) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّ يهوديّا قال له : هذا داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبال معه لخوفه. فقال : « إنّه كان كذلك » (٧) .

﴿وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾ وعمل دروع يكون ذلك التّعليم أو الدرع ﴿لَكُمْ﴾ أيّها الناس يعني ﴿لِتُحْصِنَكُمْ﴾ وتحفظكم اللّبوس والدّروع ﴿مِنْ﴾ أن تصيبكم الجراحات في ﴿بَأْسِكُمْ﴾ وحربكم ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ﴾ لنعمة الله عليكم حيث سهّل عليكم المخرج من الشّدائد.

قيل : إنّ داود عليه‌السلام خرج يوما متنكّرا ليطلب من يسأله عن سيرته في مملكته ، فاستقبله جبرئيل على صورة آدمي ولم يعرفه داود عليه‌السلام ، فقال له : كيف ترى سيرة داود عليه‌السلام في مملكته ؟ فقال له جبرئيل: نعم الرجل هو لو لا أنّ فيه خصلة واحدة. قال : وما هي ؟ قال : بلغني أنّه يأكل من بيت المال ، وليس شيء أفضل من أن يأكل الرجل من كدّ يمينه ، فرجع داود عليه‌السلام وسأل الله أن يجعل رزقه من كدّ يمينه ،

__________________

(١) الكشاف ٣ : ١٢٩ ، تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٩٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٠.

(٤) الطّنابير : جمع طنبور وهو آلة من آلات اللهو واللعب والطرب ، ذات عنق وأوتار. والمزامير : جمع مزمار ، وهو آلة من خشب أو معدن تنتهي قصبتها ببوق صغير. والصّنوج : جمع صنج ، وهو صفيحة مدورة من صفر يضرب بها على أخرى ، وصفائح صغيرة مستديرة تثبت في أطراف الدفّ ، أو في الأصابع ليدقّ بها عند الطرب.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٥٠٧.

(٦) إكمال الدين : ٥٢٤ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٤٩.

(٧) الاحتجاج : ٢١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٠.

٢٩٨

فألان له الحديد ، وكان يتّخذ الدّرع من الحديد ويبيعها ، ويأكل من ذلك (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام « أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : أوحى الله إلى داود عليه‌السلام : أنّك نعم العبد لو لا أنّك تأكل من بيت المال ، ولا تعمل بيدك شيئا. قال : فبكى داود عليه‌السلام أربعين صباحا ، فأوحى الله إلى الحديد : أن لن لعبدي داود. فألان الله له الحديد ، فكان يعمل في كلّ يوم درعا ، فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمائة وستّين درعا ، فباعها بثلاثمائة وستّين ألفا ، واستغنى عن بيت المال » (٢) .

﴿وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ

 شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ

وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)

ثمّ بيّن سبحانه نعمه الخاصّة على سليمان عليه‌السلام بقوله : ﴿وَلِسُلَيْمانَ﴾ سخّرنا ﴿الرِّيحَ﴾ التي تكون ﴿عاصِفَةً﴾ شديدة الهبوب بحيث تقطع المسافة البعيدة في المدّة القليلة ، وكانت ﴿تَجْرِي﴾ من كلّ جانب ﴿بِأَمْرِهِ﴾ وإرادته ﴿إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا﴾ وأكثرنا النّعم الدنيويّة والاخرويّة ﴿فِيها.

قيل : كانت تذهب به غدوة من الشام إلى ناحية من نواحي الأرض بينها وبين الشام مسيرة شهر إلى وقت الزّوال ، ثمّ ترجع [ به ] منها إلى الشام بعد الزّوال عند الغروب (٣) .

قيل : عملت الشياطين لسليمان بساطا ، فرسخا في فرسخ من ذهب وإبريسم ، وكان يوضع له منبر في وسط البساط فيقعد عليه ، وحوله كراسيّ من ذهب وفضّة ، يقعد الأنبياء على كراسيّ الذهب ، والعلماء على كراسيّ الفضّة ، وحولهم الناس ، وحول النّاس الجنّ والشياطين ، وتظلّه الطير بأجنحتها حتى لا تطلع عليه الشمس ، وترفع ريح الصّبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرّواح ، ومن الرواح إلى الغروب ، وكان عليه‌السلام امرءا قلّما يقعد عن الغزو ، ولا يسمع في ناحية من الأرض ملكا إلّا أتاه ودعاه إلى الحقّ (٤) .

وقيل : جريانها بأمره كونها مطيعة له ، إن أرادها عاصفة كانت عاصفة ، وإن أرادها لينة كانت لينة (٥) .

وكانت تسير من إصطخر إلى الشّام (٦) . وقيل : إلى بيت المقدس (٧) .

ثمّ بيّن سعة علمه بالمصالح بقوله : ﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ﴾ ولذا صحّ منّا أن ندبّر هذا التدبير في رسلنا وخلقنا ، وأن نعطي هذه المعجزات لمن نراه أهلا لها ، أو لعلمنا بكلّ شيء نجريه على ما

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٥٠٨.

(٢) الكافي ٥ : ٧٤ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٠.

(٣ و٤) تفسير روح البيان ٥ : ٥١٠.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠١.

(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠١ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٨٠.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٧٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٠.

٢٩٩

تقتضيه الحكمة ﴿وَ﴾ له ﴿مِنَ الشَّياطِينِ﴾ وكفرة الجنّ ﴿مَنْ يَغُوصُونَ﴾ ويدخلون ﴿لَهُ﴾ في البحار ويستخرجون له من نفائسها ﴿وَيَعْمَلُونَ﴾ له بأمره ﴿عَمَلاً دُونَ ذلِكَ﴾ وصنعة غير ما ذكر من بناء المدن والقصور والمحاريب وتماثيل ومخترعات الصنائع الغريبة ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ﴾ من إفساد ما عملوا.

قيل : كان دأبهم أن يعملوا بالنّهار ويفسدوا باللّيل ، أو من أن يزيغوا عن أمره (١) ، وأن يتمرّدوا عليه.

وقيل : إنّ حفظ كفرة الجنّ من التمرّد والإفساد ، بإلقاء الخوف الشّديد من سليمان ، والحبّ المفرط لطاعته في قلوبهم ، أو بتوكّل جمع من الملائكة ، أو جمع من مؤمني الجنّ عليهم (٢) ، وكان ذلك من معجزاته المختصّة به ، وأمّا مؤمنو الجنّ فلم يكونوا محتاجين إلى الحفظ لأنّهم بإيمانهم له كانوا مطيعين له ، منقادين لأوامره ونواهيه.

﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)

ثمّ ذكر الله سبحانه نعمته على أيّوب بقوله : ﴿وَأَيُّوبَ﴾ والتقدير اذكر أمر أيّوب ﴿إِذْ نادى﴾ ودعا ﴿رَبَّهُ﴾ وقال : ربّ ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ﴾ وأصابني الضّرّ والبلاء العظيم ، ارحمني ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

روي عن وهب بن منبّه : أنّ أيّوب عليه‌السلام كان رجلا من الروم ، وهو ابن أنوص ، من ولد عيص (٣) بن إسحاق ، وكانت امّه من ولد لوط ، وكان الله [ قد ] اصطفاه وجعله نبيّا ، وكان مع ذلك [ قد ] أعطاه من الدّنيا حظّا وافرا من النّعم والدوابّ والبساتين ، وكان له خمسمائة زوج من البقر للزّرع ، وخمسمائة مملوك ، كلّ واحد موكّل على زوج منها ، وكان له أربعمائة مملوك ، كلّ منهم راعي قطيع من الغنم ، وكان له أهل وولد من رجال ونساء ، وكان رحيما بالمساكين ، وكان يكفل الأيتام والأرامل ، ويكرم الضّيف ، وكان معه ثلاثة نفر آمنوا به وعرفوا فضله.

وإنّ لجبرئيل بين يدي الله تعالى مقاما ليس لأحد من الملائكة مثله في القرب والمنزلة ، وهو الذي يتلقّى الكلام ، فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقّاه جبرئيل ، ثمّ تلقّاه ميكائيل ، ثمّ من حوله من الملائكة المقرّبين ، فإذا شاع ذلك فيهم يصلّون عليه ، ثمّ صلّت ملائكة السماوات ثمّ ملائكة الأرض.

وكان إبليس لم يحجب عن شيء من السماوات والأرض ، وكان يقف فيهنّ حيثما أراد ، ومن هناك

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٨١.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٠٢.

(٣) في النسخة : عيصوا.

٣٠٠