نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠)

ثمّ لمّا أخبر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتأخير عذاب قومه ، أمره بالصبر على أذاهم بقوله : ﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمّد ﴿عَلى ما يَقُولُونَ﴾ من أنّك ساحر أو كاهن أو مجنون أو شاعر أو غيرها ﴿وَسَبِّحْ﴾ ونزّه مقارنا ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ أو صلّ حامدا له تعالى على ما أنعم عليك من الرسالة ودين الحقّ والتّوفيق للقيام بوظيفة العبوديّة وقوّة الصبر ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها.

في فضيلة ذكر الله قبل طلوع الشمس وقبل الغروب

روي أنّ الذّكر والتسبيح إلى طلوع الشمس أفضل من إعتاق ثمانين رقبة من ولد إسماعيل (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « فريضة على مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرّات وقبل غروبها عشر مرّات : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ويميت ويحيي وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير (٢) .

﴿وَ﴾ بعضا ﴿مِنْ آناءِ اللَّيْلِ﴾ وساعاته ﴿فَسَبِّحْ﴾ الله وقدّسه ﴿وَ﴾ كذا ﴿أَطْرافَ النَّهارِ﴾ فسبّحه ، وإنّما قدّم الوقت للدّلالة على مزيد الفضل.

وقيل : إنّ المراد بالتّسبيح الصلاة التطوّعية (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « التطوّع بالنّهار » (٤) .

﴿لَعَلَّكَ﴾ تنال عنده تعالى ما ﴿تَرْضى﴾ به من المقام المحمود ، أو الشفاعة ، أو النّعم العظيمة.

عن ابن عبّاس : دخلت الصّلوات الخمس فيه ؛ فقبل طلوع الشمس : هو صلاة الفجر ، وقبل غروبها : هو الظهر والعصر ؛ لأنّهما جميعا قبل الغروب ، ومن آناء الليل فسبّح : المغرب والعشاء الآخرة(٥) .

وقيل : إنّ قوله : ﴿وَأَطْرافَ النَّهارِ﴾ يكون تأكيدا للصّلاتين (٦) الواقعتين في طرفي النّهار ، وهما صلاة الفجر والمغرب (٧) .

وإنّما أمره الله بعد الأمر بالصّبر بالتّسبيح والصّلاة ؛ لأنّ ذكر الله والتوجّه إليه يفيد السّكون والراحة للقلوب ، كما قال تعالى : ﴿أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(٨) .

﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤٤٤.

(٢) الخصال : ٤٥٢ / ٥٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٦.

(٣) تفسير الصافي ٣ : ٣٢٧.

(٤) الكافي ٣ : ٤٤٤ / ١١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٧.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ١٣٣.

(٦) في النسخة : للصلاة.

(٧) تفسير الرازي ٢٢ : ١٣٣.

(٨) الرعد : ١٣ / ٢٨.

٢٦١

فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١)

ثمّ نهى سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن التوجّه إلى الزّخارف التي بيد المشركين والرّغبة إلى دنياهم بقوله : ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ ولا تطلن نظرك استحسانا وإعجابا ﴿إِلى ما مَتَّعْنا﴾ ونفعنا ﴿بِهِ﴾ من الزّخارف الدنيويّة ﴿أَزْواجاً﴾ من الكفّار وأصنافا ﴿مِنْهُمْ﴾ كالوثنيّ ، واليهود ، والنصارى وغيرهم ، إنّها تكون ﴿زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ وزينتها وبهجتها ﴿لِنَفْتِنَهُمْ﴾ ونختبرهم ﴿فِيهِ﴾ أو نعذّبهم به ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ﴾ وعطاؤه من الكفاف في الدنيا والثواب في الآخرة ، أو الهدى والنبوّة ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل ممّا عند الكفرة من الأموال الوفيرة ﴿وَأَبْقى﴾ وأدوم لعدم انقطاعه أبدا.

روي أنّه نزل ضيف بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال الراوي : فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف فقال : والله لا أفعل ذلك إلّا برهن ، فأخبرته بقوله ، فأمرني أن أذهب بدرعه إليه ، فنزلت الآية (١) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لمّا نزلت الآية استوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالسا ثمّ قال : من لم يتعزّ بعزاء الله تقطّعت نفسه على الدنيا حسرات ، ومن اتّبع بصره ما في أيدي الناس طال همّه ولم يشف غيظه ، ومن لم يعرف أنّ لله عليه نعمة إلّا في مطعم أو مشرب قصر أجله ودنا عذابه » (٣) .

وعنه عليه‌السلام : « إيّاك أن تطمح بصرك إلى من [ هو ] فوقك ، وكفى بما قال الله عزوجل لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ(٤) وقال : ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ الآية » (٥) .

﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ

 لِلتَّقْوى (١٣٢)

ثمّ بعد أمره تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتّسبيح والصلاة ، أمره أن يأمر أقاربه بها بقوله : ﴿وَأْمُرْ﴾ يا محمّد ﴿أَهْلَكَ﴾ وخاصّة أقاربك ﴿بِالصَّلاةِ﴾ كما أمرناك بها ﴿وَاصْطَبِرْ﴾ وداوم أنت وهم ﴿عَلَيْها﴾ واجتهدوا فيها ، فإنّا بأمرنا هذا ﴿لا نَسْئَلُكَ﴾ ولا نطلب منك ﴿رِزْقاً﴾ ونفعا لنا فإنّا ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكَ.

وقيل : يعني لا نكلّفك أن ترزق نفسك وأهلك ، بل نحن نرزقك ونرزق أهلك في الدنيا بوجوه النّعم ، وفي الآخرة بعظائم الثّواب (٦) ، ففرّغ بالك للعبادة وأمر الآخرة ﴿وَالْعاقِبَةُ﴾ المحمودة من الجنّة

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٣٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٤٦.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٣٥.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٦٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٧.

(٤) التوبة : ٩ / ٥٥.

(٥) الكافي ٨ : ١٦٨ / ١٨٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٧.

(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ١٣٧.

٢٦٢

والنّعم الدّائمة ﴿لِلتَّقْوى﴾ وأهلها لا لأهل الدنيا.

روى الفخر الرازي وغيره من العامة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان بعد نزول [ هذه ] الآية يذهب إلى باب فاطمة وعلي عليهما‌السلام كلّ صباح ويقول : « الصّلاة » ، [ و] كان يفعل ذلك أشهرا (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية قال : « أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخصّ أهل بيته ونفسه دون الناس ، ليعلم الناس أنّ لأهله عند الله منزلة ليست لغيرهم ، فأمرهم مع الناس عامة ، ثمّ أمرهم خاصّة » (٢) .

وعن الرضا عليه‌السلام قال : « خصّنا الله بهذه الخصوصية ، إذ أمرنا مع الامّة بإقامة الصّلاة ، ثمّ خصّنا من دون الامّة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يجيئ إلى باب علي وفاطمة عليهما‌السلام بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر في كلّ يوم عند حضور كلّ صلاة خمس مرّات ، فيقول : الصلاة رحمكم الله ، وما أكرم الله أحدا من ذراريّ الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا [ بها ] وخصّنا من دون جميع أهل بيتهم » (٣) .

﴿وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى * وَلَوْ

 أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ

 مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى * قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ

 الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٣) و (١٣٥)

ثمّ لمّا أمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر على أقوال المشركين ، حكى اعتراضهم على الرسول وشبهتهم في رسالته بقوله : ﴿وَقالُوا﴾ إضلالا للنّاس وإلقاء للشّبهة في قلوبهم : ﴿لَوْ لا﴾ وهلّا ﴿يَأْتِينا﴾ محمّد ﴿بِآيَةٍ﴾ ومعجزة ممّا اقترحنا عليه ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ لتكون دليلا على صدقه في دعوى نبوّته ؟ ثمّ ردّهم سبحانه بقوله : ﴿أَ وَلَمْ تَأْتِهِمْ﴾ قيل : إنّ التقدير : ألم تأتهم المعجزات الكثيرة ؟ ! ولم تأتهم ﴿بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى﴾ والكتب السماويّة السابقة من العقائد الحقّة واصول الأحكام التي اجتمعت عليها كافّة الرسل وأخبار الامم السالفة ، مع أنّه لم يشتغل بالدراسة والتعلّم ، ولم يقرأ كتابا ، ولم ير عالما ، وهذا من أعظم المعجزات ، لأنّه من الإخبار بالمغيبات (٤) .

وقيل : إنّ المراد ب ( بيّنة ما في الصّحف الاولى ) ما فيها من البشارة ببعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونبوته(٥).

وقيل : إنّها أخبار الامم الّذين أهلكهم الله بعد سؤالهم الآيات من رسلهم وكفرهم بها ، وإنّه تعالى

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٣٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٤٨.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٦٠ ، عوالي اللآلي ٢ : ٢٢ / ٤٩ تفسير الصافي ٣ : ٣٢٧.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٠ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٧.

(٤ و٥) تفسير الرازي ٢٢ : ١٣٧.

٢٦٣

كيف عاجلهم بالعقوبة ، فماذا يؤمّنهم من أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال اولئك ، وعلى أيّ تقدير لمّا كان كلّ من الامور المذكورة في القرآن شاهدا على صدق نبوّته ، وصفه الله بكونه بيّنة. وتذكير الضّمير الراجع إلى ( البيّنة ) لأنّها في معنى الدليل البرهان (١) .

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أتمّ الحجّة على الكفّار والمشركين ببعثة خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ﴾ أيّ عذاب كان ، أو بعذاب مستأصل في الدنيا سابقا على بعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وإتيان البيّنة و﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ لكفرهم وشركهم ، لكان العذاب قبل إتمام الحجّة و﴿لَقالُوا﴾ يوم القيامة احتجاجا علينا : ﴿رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا﴾ في الدنيا ﴿رَسُولاً﴾ يبلّغنا دينك ، ويقرأ علينا كتابك ، ويعلّمنا أحكامك ﴿فَنَتَّبِعَ﴾ بارشاده ﴿آياتِكَ﴾ المنزلة ، ونطيع أحكامك المقرّرة المشروعة ، ونكون من المؤمنين الصالحين ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ﴾ بالضلال والقتل والأسر في الدنيا ﴿وَنَخْزى﴾ بالابتلاء بالعذاب الشّديد ، والدخول في النار في الآخرة ، وأمّا اليوم فقد تمّت عليهم الحجّة ، وانقطع عذرهم في الكفر والضلال ، وانسدّ باب حجّتهم علينا ببعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنزال القرآن ، إن عذّبناهم في الدنيا أو في الآخرة فليس لهم أن يأمنوا من نزول العذاب عليهم كما نزل على الامم السابقة مع كمال استحقاقهم له.

ثمّ هدّدهم بالعذاب بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهم : ﴿كُلٌ﴾ منّا ومنكم ﴿مُتَرَبِّصٌ﴾ ومنتظر لعاقبة الأمر وآثار العقائد والأعمال في الدنيا وقبل الموت ، فترى لأيّنا الدولة والشوكة ونفوذ الكلمة ، وفي الآخرة يكون لأيّنا الثواب والكرامة عند الله والعقاب وأنواع الهوان.

روي أنّ المشركين قالوا : نتربّص بمحمّد حوادث الدّهر ، فإذا مات تخلّصنا منه (٢) ، فأجابهم الله بقوله : ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ وانتظروا أيّها المشركون ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ عن قريب إذا جاء أمر الله تعالى ﴿مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ﴾ والطريق المستقيم الموصل إلى كلّ خير دنيويّ واخروي ﴿وَمَنِ اهْتَدى﴾ إلى دين الحقّ وطريق الصواب ، أنحن أم أنتم ؟ وفيه غاية التّهديد والوعيد.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث « قيل : ومن الوليّ يا رسول الله ؟ قال : وليّكم في هذا الزمان أنا ، ومن بعدي وصيّي ، ومن بعد وصيّي لكلّ زمان حجج لله ، لكيلا يقولوا (٣) كما قال الضّلّال من قبلكم [ حين ] فارقهم نبيّهم : ﴿رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً﴾ الآية ، وإنّما كان تمام ضلالتهم جهالتهم بالآيات ، وهم الأوصياء ، فأجابهم الله بقوله : ﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ﴾ الآية ، وإنّما كان

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٣٧.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٤٥٠.

(٣) في كشف المحجة : كيما لا تقولون.

٢٦٤

تربّصهم أن قالوا : نحن في سعة من معرفة الأوصياء حتى يعلن إمام علمه » (١) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « لا تدعوا قراءة سورة طه ، فإنّ الله يحبّها [ ويحبّ من قرأها ] ، ومن أدمن قراءتها أعطاه الله يوم القيامة كتابه بيمينه ، ولم يحاسبه بما عمل في الإسلام ، واعطي في الآخرة [ من الأجر ] حتى يرضى » (٢) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قرأ سورة طه اعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار » (٣) .

وقال : « ما يقرأ أهل الجنّة من القرآن إلّا سورة طه ويس » (٤) .

وفقّنا الله لتلاوتها ، ولله الحمد والمنّة على توفيقنا لإتمام تفسيرها ، ونسأله التوفيق لتفسير ما بعدها.

__________________

(١) كشف المحجة : ٢٧٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٨.

(٢) ثواب الأعمال : ١٠٨ ، مجمع البيان ٧ : ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٩.

(٣ و٤) مجمع البيان ٧ : ١ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٥٢.

٢٦٥
٢٦٦

في تفسير سورة الأنبياء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ

 مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ

 ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (١) و (٣)

ثمّ لمّا ختم الله سورة طه بتهديد المعرضين عن القرآن بالعذاب الدنيوي والاخروي ، وأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصّبر على مقالات المشركين ، وذكر شبهتهم في الرسالة والجواب عنها ، وتنبيههم بتماميّة الحجّة عليهم ببعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقطع عذرهم بما في الكتب السماوية ، وتهديدهم بالعذاب بقوله : ﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ ،﴾ أردفها بسورة الأنبياء المبدوءة بتهديد المعرضين عن التفكّر في أمر الآخرة ، وغفلتهم عن قرب القيامة ، وتوبيخهم لإعراضهم عن الذّكر والقرآن ، واستهزائهم به ، وذكر شبهتهم في رسالة الرسول بأنّه بشر ، ونسبتهم معجزاته إلى السّحر ، وطلبهم منه غير ما أتى به من المعجزات ، وسائر أقاويلهم الباطلة التي لا تليق به ، وتهديدهم بعذاب الاستئصال ، والاستدلال على التوحيد والبعث ، وذكر قصص الأنبياء الماضين والامم المهلكة السابقة بقوله : ﴿كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ(١) ، إلى غير ذلك من المطالب المربوطة بالسورة السابقة.

فابتدء فيها بذكر الأسماء المباركات على حسب دأبه تعالى في كتابه المجيد بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ثمّ افتتحها بتهديد المشركين المعرضين عن الآخرة بقوله : ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ﴾ ودنا منهم اليوم الذي فيه ﴿حِسابُهُمْ﴾ لجزاء أعمالهم ؛ لأنّ كلّ آت قريب وإن طالت مدّة ترقّبه ، أو لأنّ كلّ ساعة أقرب إليهم منه في الساعة السابقة ، أو لأنّ بعثه من أشراط الساعة حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بعثت أنا والساعة كهاتين » (٢) وضمّ بين إصبعيه ﴿وَهُمْ﴾ مستقرّون ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾ تامّة منه ، ساهون بالكليّة عنه ، منكرون له ،

__________________

(١) طه : ٢٠ / ٩٩.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٦٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٠ ، تفسير الرازي ٢٢ : ١٣٩.

٢٦٧

مع حكم العقل بوجوب إتيانه ﴿مُعْرِضُونَ﴾ عن الآيات المنبّهة لهم عن غفلتهم.

وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب لا إلى النّاس ، للدّلالة على أنّه مقبل إليهم ، كأنّه يطلبهم ويصل إليهم لا محالة ، وتقديم ﴿لِلنَّاسِ﴾ على ﴿حِسابُهُمْ﴾ للمسارعة إلى إرعابهم.

ثمّ وبّخهم على إعراضهم عن الآيات القرآنية بقوله : و﴿ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ﴾ ووعظ ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ في القرآن يذكّرهم الحساب أكمل تذكير ﴿مُحْدَثٍ﴾ وقتا بعد وقت ﴿إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ به ويسخرون منه ، وهم (١)﴿لاهِيَةً﴾ ومتشاغلة ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ عمّا يهمّهم من عواقب أمرهم وحال ما بعد موتهم بما لا يفيدهم من أمر الدنيا وجمع زخارفها والالتذاذ بشهواتها.

ثمّ بيّن سبحانه علّة استهزائهم بالقرآن أنّها إنكارهم الرسالة الذّي هو أثر جناياتهم بقوله : ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ وبالغوا في إخفاء ما تناجوا به ، أو أسرّوا نفس تناجيهم حتى لا يشعر أحد به ، وهم ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بأفحش الظّلم في ما أسرّوا به ، وقالوا في نجواهم قدحا في رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿هَلْ هذا﴾ الرجل ﴿إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ يأكل ويمشي فلا مزيّة له عليكم حتى يكون رسولا ، وما أتى بمعجزة ، بل ما أتى به فهو سحر ﴿أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ﴾ وتحضرونه وتقبلونه منه ﴿وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ وتعاينون أنّه سحر ؟ وإنّما قالوا ذلك لاعتقادهم أنّه لا يكون الرسول إلّا ملكا ، ولا يكون ما يأتي البشر إلّا سحرا.

﴿قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قالُوا

 أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ * ما

 آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً

 نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا

 يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٤) و (٨)

ثمّ حكى سبحانه قول نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إطّلاعه على سرّهم بالوحي بقوله : ﴿قالَ﴾ الرسول : إن كنتم أخفيتم قولكم منّي ، وطعنكم في رسالتي ، لا تقدرون على إخفائه من الله ، لأنّ ﴿رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ﴾ الّذي يكون ﴿فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ﴾ سرّا كان أو جهرا ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ للمسموعات من الأقوال

__________________

(١) لا يصحّ موقع ( وهم ) الإعرابي مع لفظ الآية إلّا على رفع ( لاهية ) والرفع قراءة. قال صاحب الكشاف : ( وهم يلعبون لاهية قلوبهم ) حالان مترادفان ، أو متداخلان ، ومن قرأ ( لاهية ) بالرفع فالحال واحدة ؛ لأن ( لاهية قلوبهم ) خبر بعد خبر لقوله ( وهم ) . الكشاف ٣ : ١٠٢.

٢٦٨

﴿الْعَلِيمُ﴾ بجميع المعلومات من الأحوال.

ثمّ عاد سبحانه إلى حكاية بعض أقوالهم الاخر بقوله : ﴿بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ﴾ يعني أنّهم لم يكتفوا بنسبة القرآن إلى السّحر ، بل قالوا : إنّه أباطيل يراها في المنامات الكاذبة ، فتخيّل أنّها من الله ، فأسندها إليه ﴿بَلِ افْتَراهُ﴾ على الله من قبل نفسه من غير وحي أو رؤية في المنام ﴿بَلْ هُوَ شاعِرٌ﴾ لفّق الكلام الفصيح المقفّى ، فخيّل إلى الناس أنّه من الله ، وعلى أيّ تقدير ليس كتابه معجزة مثبتة للنبوّة ، ولو فرض أنّه مع كونه بشرا يكون رسولا ﴿فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ﴾ ومعجزة قاهرة لا تتطرّق إليها الاحتمالات المذكورة ﴿كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ والأنبياء السّابقون بآيات قاهرة ومعجزات عظيمة كالعصا واليد البيضاء وإحياء الموتى حتى نؤمن به.

ثمّ كذّبهم الله في وعدهم الإيمان عند إجابتهم في مقترحاتهم بقوله : ﴿ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ وبلدة كنّا ﴿أَهْلَكْناها﴾ بعذاب الاستئصال لعدم إيمانهم بعد إجابتهم في ما اقترحوه من الآيات ﴿أَ فَهُمْ﴾ مع شدّة لجاجهم وغاية عنادهم لك يا محمّد ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ بك ؟ كلّا فإنّهم أعتى من الامم الماضية المهلكة.

ثمّ أجاب سبحانه عن شبهتهم في رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بكونه بشر بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ﴾ يا محمّد إلى قرية أو امّة ﴿إِلَّا رِجالاً﴾ ممتازين عن سائر الناس بالمعارف وكرامة الصفات ، فخصّصناهم بأن ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ الشرائع والأحكام بتوسّط الملك ، كما نوحي إليك مع أنّك أوّل رجل في عالم الوجود ، فإن لا يقبلوا قولك قل لهم : ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ والعلماء بالكتب السماويّة وأحوال الرسل الماضيّة ﴿إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ أحوالهم حتى تعلموا وتزول شبهتكم ، ثمّ أكّد كون عادته تعالى إرسال البشر دون الملك بقوله : ﴿وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً﴾ ملكوتيّا ﴿لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ﴾ غنيّا عنه كالملائكة ، بل جعلناهم محتاجين إليه كما تحتاجون ﴿وَما كانُوا خالِدِينَ﴾ في الدّنيا كالملائكة ، بل كانوا ميّتين كما أنتم تموتون.

﴿ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ * لَقَدْ أَنْزَلْنا

 إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٩) و (١٠)

ثمّ أنّهم مع تفرّدهم ومعارضة الناس وعدناهم النّصر على عموم الكفّار ﴿ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ﴾ ووفينا بالعهد الذي عاهدناكم من نصرتهم وإهلاك أعدائهم ﴿فَأَنْجَيْناهُمْ﴾ من العذاب حين نزوله على مكذّبيهم ﴿وَمَنْ نَشاءُ﴾ من المؤمنين بهم ﴿وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ المصرّين على الكفر

٢٦٩

المجاوزين في الطّغيان بعذاب الاستئصال عقوبة لهم وعبرة لمن يأتي بعدهم ويسمع خبرهم.

ثمّ بيّن الله سبحانه عظيم نعمته على هذه الامّة بقوله : ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ﴾ أيّها النّاس بواسطة محمّد ﴿كِتاباً﴾ عظيم الشأن يكون ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ وعظتكم ، لتحذّروا من موجبات هلاككم ، أو فيه ذكر دينكم وبيان ما يلزمكم وما لا يلزم عليكم ، كي تفوزوا بالعمل به بالجنّة ، أو فيه شرفكم وصيتكم ﴿أَ فَلا تَعْقِلُونَ.﴾ قيل : إنّ التقدير : ألا تفكّرون فلا تعقلون أنّ الأمر كذلك (١) ؟ فإنّ تعقّله لا يكون إلّا بالتّدبّر فيه ، أو المعنى : ألا يكون لكم عقل يبعثكم إلى التدبّر في القرآن والإتّعاظ والعمل بما فيه ؟

﴿وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا

 بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ

 وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ * قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ * فَما زالَتْ تِلْكَ

 دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١١) و (١٥)

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة هلاك المسرفين إرعابا للقلوب بقوله : ﴿وَكَمْ قَصَمْنا﴾ وكثيرا كسرنا كسرا فظيعا بحيث تفتّتت الأجزاء ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾ وأهالي مدينة ﴿كانَتْ ظالِمَةً﴾ على أنفسهم بالإعراض عن الآيات وتكذيب الرسل ﴿وَأَنْشَأْنا﴾ وأوجدنا ﴿بَعْدَها﴾ ووراء إهلاكها ﴿قَوْماً آخَرِينَ﴾ لم يكونوا منهم نسبا ودينا ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا﴾ واستشعروا بعذابنا المستأصل وهم في القرية ﴿إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ﴾ ويهربون ويسرعون في العدو للخروج منها خوفا من المهالك.

قيل : هي قرية حضور باليمن ، بعث الله إليهم نبيّا فقتلوه ، فسلّط الله عليهم بخت نصّر فاستأصلهم (٢) .

روي أنّه لمّا أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء : يالثارات الأنبياء (٣) .

فقيل لهم توبيخا وتهكّما : ﴿لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ﴾ وأبطرتم ﴿فِيهِ﴾ من النّعم ورفاه العيش ﴿وَمَساكِنِكُمْ﴾ المرضيّة ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ﴾ غدا عمّا جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم ، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو يسألكم النّاس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب ، ويستشيرونكم في المهمّات ، ويستعينون بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم والطّامعون فيكم.

فلمّا يأسوا من الخلاص بالهرب ، وأيقنوا بهلاكهم بالعذاب ﴿قالُوا﴾ تأسّفا وتحسّرا وندما : ﴿يا وَيْلَنا﴾ ويا هلاكنا احضر ، فهذا أوانك ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ بأعمالنا ﴿ظالِمِينَ﴾ على أنفسنا ومستحقّين لهذا

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٥٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٥٧.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٤٦.

٢٧٠

العذاب ، ولكن لم ينفعهم الاعتراف بذنوبهم والنّدم عليها ﴿فَما زالَتْ تِلْكَ﴾ الكلمة والدعوة بالويل ﴿دَعْواهُمْ﴾ ونداءهم ﴿حَتَّى جَعَلْناهُمْ﴾ مثل الزّرع الذي صار ﴿حَصِيداً﴾ بالدّياس ﴿خامِدِينَ﴾ ميّتين لا حسّ لهم ولا حراك ولا أثر كالنّار الخامدة.

عن السجاد عليه‌السلام : « لقذ أسمعكم الله في كتابه ما فعل بالقوم الظّالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال : ﴿وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً ،﴾ وإنّما عنى بالقرية أهلها حيث يقول : ﴿وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ﴾ فقال عزوجل : ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ﴾ يعني يهربون ، قال : فلما آتاهم العذاب ﴿قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ﴾ قال : وأيم الله إنّ هذه عظة لكم وتخويف إن اتّعظتم وخفتم » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام في تأويله : « إذا قام القائم وبعث إلى بني اميّة بالشام ، هربوا إلى الرّوم ، فيقول لهم الرّوم : لا ندخلنّكم حتى تتنصّروا فيعلّقون في أعناقهم الصّلبان فيدخلونهم ، فإذا نزل بحضرتهم أصحاب القائم طلبوا الأمان والصّلح ، فيقول أصحاب القائم : لا نفعل حتى تدفعوا إلينا من قبلكم منّا ، فيدفعونهم إليهم ، فذلك قوله : ﴿لا تَرْكُضُوا﴾ إلى قوله : ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ﴾ قال : يسألهم الكنوز وهو أعلم بها ، فيقولون : ﴿يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ﴾ إلى قوله : ﴿خامِدِينَ﴾ أي بالسّيف » (٢) .

﴿وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً

 لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا

 هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ

 عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٦) و (١٩)

ثمّ لمّا بيّن الله تعذيبه الظّالمين بيّن أنّ حكمة خلق العالم إقامة العدل ومجازاة أهل الظّلم بقوله : ﴿وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما﴾ من عجائب المخلوقات حال كوننا ﴿لاعِبِينَ﴾ وعابثين بالخلق ، بل خلقناها لمعرفة بني آدم ربّهم بالنظر إليها والتفكّر فيها ، ولتكميل نفوسهم ، وقيامهم بوظيفة عبوديّة خالقهم ، وشكر المنعم عليهم ، وفعليّة استعدادهم وقابليّتهم للنّعم الأبديّة المعدّة لهم في الآخرة ، ولإقامة العدل ومجازاة الظّالمين ، فعليهم التفكّر في المخلوقات والاجتهاد في الطاعة والشكر ، لا الانهماك في الشّهوات ، ومعارضة الحقّ ، ومشاقّة الرّسل ، والظلم على النفس والعباد.

و﴿لَوْ أَرَدْنا﴾ وأحببنا ﴿أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً﴾ ونشتغل بلعب ﴿لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا﴾ ومن جهة قدرتنا

__________________

(١) الكافي ٨ : ٧٤ / ٢٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٢.

(٢) الكافي ٨ : ٥١ / ١٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٢.

٢٧١

على ما نريد ، أو من عندنا وما يليق بشأننا من الرّوحانيات والمجرّدات ﴿إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ﴾ للّعب واللهو ، لا من الأجسام المرفوعة كالسماوات والأجرام الموضوعة كالأرضين مثل ديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها وتسوية الفرش وتزيينها بغرض الالتذاذ والتشهّي ، ولكنّا لا نريد اللهو واللّعب أبدا لمنافاته الحكمة البالغة التي تكون لنا.

وقيل : إنّ المراد باللهو الولد أو الزّوجة (١) .

وقيل : ( إن ) في قوله : ﴿إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ﴾ نافية ، والمعنى ما كنّا فاعلين (٢) .

﴿بَلْ نَقْذِفُ﴾ ونرمي ﴿بِالْحَقِ﴾ الذي هو الجدّ والعدل والقرآن ، كالحجر الصّلب ﴿عَلَى الْباطِلِ﴾ الذي من جملته اللّعب والظّلم والكفر وغيرها ممّا ينافي الحكمة ، ولا ثبات له عند التحقيق ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾ ويهلكه ويمحقه ﴿فَإِذا هُوَ زاهِقٌ﴾ وذاهب بالكلّية ، وهالك بالفور ، وإنّما استعار القذف الذي هو بمعنى الرمي الشديد البعيد المستلزم لصلابة المرميّ وإعدام ما وصل إليه ومحوه ، لتغليب الحقّ على الباطل ، واستعارة الدّمغ الذي هو بمعنى كسر الدماغ بحيث يشقّ غشاؤه (٣) المؤدّي إلى زهوق الروح ، لمحق (٤) الباطل ، لغاية المبالغة وتمكين الهيئة المعقولة في ذهن السامع غاية التمكين.

عن الصادق عليه‌السلام : « ليس من باطل يقوم بإزاء حقّ إلّا غلب الحقّ الباطل ، وذلك قوله تعالى : ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِ﴾ الآية » (٥) .

ثمّ هدّد قريشا بمثل ما لاولئك من العذاب بقوله : ﴿وَلَكُمُ﴾ معشر قريش ﴿الْوَيْلُ﴾ والهلاك ( من ) أجل ما ﴿تَصِفُونَ﴾ الله بما لا يليق بشأنه من اتخاذ الشريك والولد ، ثمّ قرّر تفرّده منهما بقوله : ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ خلقا وملكا وتصرّفا وتدبيرا ، بلا دخل لغيره في شيء منها استقلالا واستتباعا ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ﴾ من الملائكة الّذين يزعمون أنّهم شركاؤه أو بناته ، مع كمال شرفهم وعظمهم وقربهم وعلوّ رتبتهم ، كلّهم عبيده ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ ولا يتعظّمون عن طاعته ﴿وَلا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ ولا يعيون عنها مع ثقلها ودوامها ، وكانت عبادتهم أنّهم ﴿يُسَبِّحُونَ﴾ وينزّهون الله ﴿اللَّيْلَ وَالنَّهارَ﴾ ممّا لا يليق به من الشريك والولد والنقص والحاجة ويعظّمونه على الدوام و﴿لا يَفْتُرُونَ﴾ ولا يتوانون فيه طرفة عين ، ولا يتخلّل تسبيحهم فراغ ولا شغل آخر.

قيل : إنّ التسبيح لهم كالتنفّس [ لنا ] فلا يمنعهم من عمل آخر ، وإن كان لعن من استحقّ اللّعن (٦) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٦٠ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٦٠.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٥٩.

(٣) في النسخة : عصائه ، راجع : تفسير روح البيان ٥ : ٤٦١.

(٤) في النسخة : تحق.

(٥) المحاسن : ٢٢٦ / ١٥٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٣.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٤٦٢.

٢٧٢

﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ

 * لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا

 يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٠) و (٢٣)

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن الملائكة أينامون ؟ فقال : « ما من حيّ إلّا وهو ينام ما خلا الله وحده ، والملائكة ينامون » فقيل : يقول الله تعالى : ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ قال : « أنفاسهم تسبيح » (١) .

وفي رواية اخرى : « ليس شيء من أطباق أجسادهم إلّا ويسبّح الله عزوجل ويحمده من ناحيته بأصوات مختلفة » (٢) .

وقيل : يعني لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته لا دوام الاشتغال به (٣) . وفيه أنّه خلاف الظاهر.

ثمّ وبّخهم سبحانه على إشراكهم وادّعائهم قدرة آلهتهم على إحياء الموتى بقوله : ﴿أَمِ اتَّخَذُوا﴾ واختاروا لأنفسهم ﴿آلِهَةً﴾ ومعبودين ﴿مِنَ﴾ جنس ما في ﴿الْأَرْضِ﴾ كالخشب والحجر والذّهب والفضّة وغيرها وقالوا : ﴿هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ ويحيون الموتى مع كونهم في أنفسهم أموات لا يشعرون ، ولا يقول به من له عقل وشعور.

وقيل : إنّ هذه الدعوى لازم قولهم بالوهيّتهم ، لا أنّهم صرّحوا به ؛ لأنّهم لا يثبتون الإنشار لله ، فكيف يثبتونه لالهتهم (٤) .

ثمّ أبطل قولهم الشنيع بقوله : ﴿لَوْ كانَ﴾ في السّماوات والأرض ووجد ﴿فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ﴾ وغيره تعالى يكون كلّ واحد منهم متصرّفا فيها بالخلق والتدبير ﴿لَفَسَدَتا﴾ وخرجتا بما فيهما من الاعتدال والنّظام الأتمّ ، سواء أكان الله معهم أو لا ، أو المراد لبطلتا وتفطّرتا لأنّه مع فرض قدرة كلّ واحد منهم على الاستقلال في الخلق والتدبير واتفاقهم في المراد والإيجاد بالاستقلال ، لزم توارد العلل على معلول واحد وهو محال ، ومع تخالفهم في المراد والتزاحم يلزم التعاوق وعدم وجود موجود أصلا ، ومع عدم التزاحم يلزم التعطيل في الواجب والترجيح بلا مرجّح ، ومع عجز كلّ واحد عن الاستقلال يلزم النقص في الواجب.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : ما الدّليل على أنّ الله واحد ؟ قال : « إتّصال التدبير وكمال (٥) الصّنع ، كما قال

__________________

(١) كمال الدين : ٦٦٦ / ٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٤.

(٢) التوحيد : ٢٨٠ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٤.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٤٦٢.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٤٦٣.

(٥) في التوحيد : وتمام.

٢٧٣

الله عزوجل : ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا (١) .

ثمّ رتّب سبحانه على ذلك الدليل تنافي الالوهيّة للمشاركة فيها بقوله : ﴿فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ﴾ ونزّهوه تنزيها لا يقال إلّا له [ لأنه ] المدبّر لجميع الموجودات لعلّة الوهيّته وربوبيّته ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ ذاته المقدّسة بما لا يليق به من النقائص التي من جملتها كون الشريك والولد له.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات تفرّده في الالوهيّة بيّن كمال عظمته وقوّة سلطانه بقوله : ﴿لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ ولا يناقشه أحد في ما يصدر منه من حكم وتقدير وإثابة وتعذيب ﴿وَهُمْ﴾ لكونهم عبيده وتحت قدرته وسلطانه ﴿يُسْئَلُونَ﴾ عمّا يفعلون نقير أو قطمير ، وفيه تهديد ووعيد للكفّار والمشركين.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يعني بذلك خلقه أنّهم يسألون » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، أنّه سئل : وكيف لا يسأل عمّا يفعل ؟ فقال : « لأنّه لا يفعل إلّا ما كان حكمة وصوابا ، وهو المتكبّر الجبّار والواحد القهّار ، فمن وجد في نفسه حرجا في شيء ممّا قضى [ فقد ] كفر ، ومن أنكر شيئا من أفعاله جحد » (٣) .

عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : « قال الله تعالى : يابن آدم ، بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا قويّا ، ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، وذلك أنّي لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون (٤) » .

﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي

 بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ

 إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ

 بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٤) و (٢٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال الوهيّة غيره بالبرهان ، أعاد التّوبيخ عليهم بإشراكهم بلا دليل بقوله : ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ مع عرائها من خصائص الالوهيّة ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهؤلاء المشركين تبكيتا

__________________

(١) التوحيد : ٢٥٠ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٤.

(٢) علل الشرائع : ١٠٦ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٤.

(٣) التوحيد : ٣٩٧ / ١٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٤.

(٤) التوحيد : ٣٣٨ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٥.

٢٧٤

وإلقاما للحجر (١) : ﴿هاتُوا بُرْهانَكُمْ﴾ وآتو بحجّتكم على ما تدّعون من جهة العقل أو النقل ، لعدم صحّة الدعوى بغير حجّة خصوصا في الامور الدينيّة.

ثمّ بيّن سبحانه توافق الكتب السماويّة على التّوحيد ونفي الشرك بقوله : ﴿هذا﴾ الموجود بأيدينا من الكتب الثّلاثة التي أحدها القرآن الذي هو ﴿ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ﴾ من المؤمنين بي وعظتهم ، ﴿وَ﴾ إثنان منها ﴿ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي﴾ من الامم ، وهما : التوراة والإنجيل ، بين أيديكم فراجعوها وانظروا فيها ، هل تجدون فيها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ؟

وقيل : إنّ المعنى : هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمّن للبرهان القاطع العقلي ذكر امّتي وعظتهم ، وذكر الامم السابقة قد أقمته أنا ، واستدللت به ، فأقيموا أنتم أيضا برهانكم (٢) .

ثمّ أضرب الله تعالى عن الأمر بمحاجّتهم إعلانا بعدم قابليّتهم للخطاب والمحاجّة بقوله : ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ البديهيّات ، ولا يميّزون من غاية جهلهم وحمقهم بين ﴿الْحَقَ﴾ والباطل ، والدّليل الصّحيح والفاسد ، فعندهم ما هو أصل الفساد وهو الجهل ﴿فَهُمْ﴾ لذلك ﴿مُعْرِضُونَ﴾ عن التوحيد وآياته واتّباع الرسول ومعجزاته ، مستمرّون على الإعراض غير منصرفين عمّا هم عليه من الضّلال ، وإن كرّرت عليهم الحجج والبيّنات.

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على التوحيد بتوافق الكتب السماويّة عليه ، استدلّ باتّفاق كلمة الأنبياء الّذين هم أعقل عقلاء العالم عليه بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ﴾ إلى النّاس ﴿مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا﴾ فإذا علمتم ذلك ﴿فَاعْبُدُونِ﴾ خاصّة ولا تعبدوا غيري.

ثمّ بعد إبطال الشّرك أبطل القول باتّخاذه الملائكة بنات بقوله : ﴿وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ﴾ والإله الواسع الرّحمة والنّعمة لنفسه ﴿وَلَداً﴾ مع غناه عن كلّ شيء. قيل : هم حيّ من خزاعة (٣) . وقيل : هم قريش وجهينة وبنو سلمة وبنو مليح وخزاعة (٤) .

ثمّ ردّهم الله بقوله : ﴿سُبْحانَهُ﴾ من أن يكون الملائكة أولاده ﴿بَلْ﴾ هم ﴿عِبادٌ﴾ له والعباد لا يمكن أن يكونوا أولاد وهم ﴿مُكْرَمُونَ﴾ عنده مقرّبون لديه منقادون لإرادته بحيث إنّهم ﴿لا يَسْبِقُونَهُ﴾ تعالى ﴿بِالْقَوْلِ.

قيل : نزّل سبحانه سبقهم بالقول لقوله تعالى منزلة سبقهم له ، للإشعار بمزيد تنزّههم منه (٥)﴿وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ ولحكمه مطيعون.

__________________

(١) ألقمه الحجر : أسكته عند المخاصمة.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٦٢ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٦٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٥٩ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٦٣.

(٤ و٥) تفسير أبي السعود ٦ : ٦٣.

٢٧٥

نقل معجزة لأمير المؤمنين عليه‌السلام

في ( الخرائج ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه اختصم رجل وامرأة إليه ، فعلا صوت الرجل على المرأة ، فقال له عليّ عليه‌السلام « اخسأ » - وكان خارجيّا - فإذا رأسه رأس الكلب ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ، صحت بهذا الخارجي فصار رأسه رأس الكلب ، فما يمنعك عن معاوية ؟ فقال : « ويحك لو أشاء أن آتي بمعاوية إلى هنا بسريره لدعوت الله حتى فعل ، ولكنّا لله خزّانا (١) لا على ذهب ولا فضّة ، ولكن على أسرار (٢) ، هذا تأويل ما تقرء : ﴿عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ الآية » (٣) .

﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ

 مُشْفِقُونَ (٢٨)

ثمّ نبّه سبحانه على سبب طاعتهم وغاية انقيادهم بقوله : ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ وما قدّموا من أعمالهم ﴿وَما خَلْفَهُمْ﴾ وما أخّروا ، كما عن ابن عباس (٤) .

وقيل : يعني يعلم أحوال آخرتهم ودنياهم أو بالعكس (٥) .

وقيل : يعني يعلم ما قبل خلقهم وما بعد خلقهم ، فيكون المراد أنّهم يتقلّبون تحت قدرته ومحاطون بعلمه (٦) ، وهذا العلم يدعوهم إلى غاية الخضوع والانقياد.

﴿وَلا يَشْفَعُونَ﴾ عنده تعالى ﴿إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى﴾ الله أن يشفعوا له من أهل التوحيد مهابة منه ﴿وَهُمْ﴾ مع ذلك ﴿مِنْ خَشْيَتِهِ﴾ والخوف منه ﴿مُشْفِقُونَ﴾ وجلون ، أو مرتعدون ، أو من عظمته ومهابته خائفون.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله (٧) .

عن ابن عبّاس : ﴿إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى﴾ أي إلّا لمن قال لا إله إلّا الله (٨) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « الّا لمن ارتضى [ الله ] دينه » (٩) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أصحاب الحدود فسّاق لا مؤمنون ولا كافرون ، ولا يخلّدون في النّار ،

__________________

(١) في النسخة : ولكن لله خزائن.

(٢) في المصدر : ولا إنكار على أسرار تدبير الله.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ١٧٢ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٥.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٠.

(٥ و٦) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٠.

(٧) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٠ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٦٩. والحلس : ما يبسط في البيت من حصير ونحوه.

(٨) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٠ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٦٨.

(٩) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣٦ / ٣٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٦.

٢٧٦

ويخرجون منها يوما ، والشّفاعة جائزة لهم وللمستضعفين إذا ارتضى الله دينهم » (١) .

وعن الكاظم ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم‌السلام ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إنّما الشّفاعة لأهل الكبائر من امّتي ، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل » .

قيل : يا ابن رسول الله : كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله يقول : ﴿لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى﴾ ومن يرتكب الكبيرة لا يكون مرتضى ؟

فقال : « ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلّا ساءه ذلك وندم عليه ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : كفى بالندم توبة.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن ، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ، ولم تجب له الشفاعة ، وكان ظالما ، والله يقول : ﴿ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (٢).

فقيل له : يا ابن رسول الله ، وكيف لا يكون مؤمنا من لم يندم على ذنب يرتكبه ؟

فقال : « ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنّه سيعاقب عليها إلّا ندم على ما ارتكب ، ومتى ندم كان تائبا مستحقّا للشّفاعة ، ومتى لم يندم عليها كان مصرّا ، والمصرّ لا يغفر له ، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمنا بالعقوبة لندم ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار.

وأمّا قول الله عزوجل : ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى﴾ فإنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى [ الله ] دينه ، والدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسّيّئات ، فمن ارتضى [ الله ] دينه ندم على ما ارتكبه من الذّنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة » (٣) .

﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ *

 أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا

 مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (٢٩) و (٣٠)

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار غضبه على الإشراك وقولهم : إنّ الملائكة آلهة بقوله : ﴿وَمَنْ يَقُلْ﴾ من الملائكة ويدّعي ﴿مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ﴾ ومتجاوزين إيّاه تعالى ﴿فَذلِكَ﴾ القائل بهذا القول منهم على فرض المحال ﴿نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ كغيره من المجرمين ، ولا يغني عنهم ما ذكر من صفاتهم السنيّة وأعمالهم المرضيّة ، فكيف بغيرهم ؟ ﴿كَذلِكَ﴾ الجزاء ﴿نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ على الله بتضييع حقّه

__________________

(١) الخصال : ٦٠٨ / ٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٦.

(٢) المؤمن : ٤٠ / ١٨.

(٣) التوحيد : ٤٠٧ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٦.

٢٧٧

بالإشراك ، وعلى أنفسهم بتعريضها للهلاك.

في ذكر بدو خلق السماوات والأرض

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيده وتنزيهه من الشّرك بقوله : ﴿أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بتوحيد الله وأشركوا به ولم يعلموا بالتّفكّر والاستفسار من العلماء ومطالعة الكتب ﴿أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ في بدو خلقتهما ﴿كانَتا﴾ شيئا ﴿رَتْقاً﴾ ومنضمّا لا فرجة بينهما ولا فضاء ﴿فَفَتَقْناهُما﴾ وفصلناهما وفرّقنا بينهم.

عن ابن عبّاس وجمع من المفسّرين : أن المعنى : كانتا شيئا واحدا ملتزقين ، ففصل الله بينهما ، فرفع السّماء إلى حيث هي ، وأقرّ الأرض (١) .

وعن كعب : خلق الله السماوات والأرض ملتصقتين ، ثمّ خلق ريحا توسّطتهما ففتقهما بها (٢) .

وقيل : إنّه جاء في التوراة : أنّ الله تعالى خلق جوهرة ثمّ نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثمّ خلق السّماوات والأرض منها وفتق بينهما (٣) .

وعن مجاهد : أنّ السّماوات كانت مرتتقة ومتّصلة ، فجعلت سبع سماوات ، وكذلك الأرضون(٤).

وقيل : رتقهما : كونهما معدومين ؛ لأنّه لا تمايز بين الإعدام ، وفتقهما : إيجادهما.

وقيل : رتقهما : اتّصالهما بالظّلمة ، وفتقهما : إظهار النّهار المبصر بينهما (٥) .

وعن ابن عباس وأكثر المفسّرين : أنّ السماوات والأرض كانتا رتقا بالاستواء والصلابة ، ففتق الله السماء بالمطر ، والأرض بالنّبات (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « لعلّك تزعم أنّهما كانتا رتقا ملتزقتين ملتصقتين ، ففتقت إحداهما من الاخرى ؟ » فقال : نعم ، فقال : « استغفر ربّك ، فإنّ قول الله عزوجل ﴿كانَتا رَتْقاً﴾ يقول : كانت السّماء رتقا لا تنزل المطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت الحبّ ، فلمّا خلق الله الخلق ، وبثّ فيها من كلّ دابّة ، فتق السماء بالمطر ، والأرض بنبات الحبّ » .

فقال السائل : أشهد أنّك من ولد الأنبياء ، وعلمك علمهم (٧) .

وفي ( الكافي ) عنه عليه‌السلام : أنّه سئل عنها ، فقال : « إنّ الله تبارك وتعالى أهبط آدم عليه‌السلام إلى الأرض ، وكانت السماء رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت شيئا ، فلمّا تاب الله عزوجل على آدم عليه‌السلام

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٢ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٦٤.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٢ ، وفيه : وفتق بينها.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٢ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٦٤.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٣.

(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٣ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٦٥.

(٧) الكافي ٨ : ٩٥ / ٦٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٧.

٢٧٨

أمر السّماء فتفطّرت بالغمام ، ثمّ أمرها فأرخت عزاليها (١) ، ثمّ أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثّمار ، وتفهّقت (٢) بالأنهار ، فكان ذلك رتقها ، وهذا فتقها » (٣) .

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن ذلك فقال : « هو كما وصف نفسه ، كان عرشه على الماء ، والماء على الهواء ، والهواء لا يحدّ ولم يكن يومئذ خلق غيرهما ، والماء يومئذ عذب فرات ، فلمّا أراد أن يخلق الأرض أمر الريّاح فضربت الماء حتى صار موجا ، ثمّ أزبد وصار زبدا واحدا ، فجمعه في موضع البيت ، ثمّ جعله جبلا من زبد ، ثم دحا الأرض من تحته ، فقال الله تعالى : ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً(٤) ثمّ مكث الربّ تبارك وتعالى ما شاء ، فلمّا أراد أن يخلق السماء أمر الرياح فضربت البحور حتى أزبدتها ، فخرج من ذلك الموج والزّبد دخان ساطع من غير نار ، فخلق منه السماء ، وجعل فيها البروج والنجوم ومنازل الشمس والقمر ، وأجراها في الفلك ، وكانت السماء خضراء على لون الماء الأخضر ، وكانت الأرض غبراء على لون الماء العذب ، وكانتا مرتوقتين ليس لهما أبواب ، ولم يكن للأرض أبواب ، وهو النّبت ، ولم تمطر السماء عليها فتنبت ، ففتق السماء بالمطر ، وفتق الأرض بالنّبات ، وذلك قوله : ﴿أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية » (٥) .

أقول : رجح القائلون بهذا القول قولهم بقوله تعالى بعد ذلك : ﴿وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ﴾ والمعنى ففتقنا السماء لإنزال المطر ، وجعلنا منه كلّ شيء في الأرض من النبات وغيره حيّا.

وقيل : إنّ المراد بالماء النّطفة (٦) : فيكون المراد من كلّ شيء خصوص الحيوان ، لأنّ النبات لا يسمّى حيّا. وفيه منع لإطلاق الحيّ على الأرض ، فضلا عن النّبات.

عن الباقر عليه‌السلام : « نسب كلّ شيء إلى الماء ، ولم يجعل للماء نسبا إلى غيره » (٧) .

وعن الصادق : أنّه سئل عن طعم الماء فقال : « طعم الماء طعم الحياة ، قال الله تعالى : ﴿وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (٨) .

ثمّ أنكر عليهم عدم الإيمان بالتّوحيد مع دلالة هذه الآية عليه بقوله : ﴿أَ فَلا يُؤْمِنُونَ﴾ بتوحيد الله.

﴿وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ

__________________

(١) العزالي : جمع عزلاء ، وهو مصبّ الماء من القربة ونحوها ، ويقال : أرسلت السماء عزاليها : انهمرت بالمطر.

(٢) فهق الحوض : امتلأ حتى تصبّب.

(٣) الكافي ٨ : ١٢١ / ٩٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٧.

(٤) آل عمران : ٣ / ٩٦.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٦٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٨.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٤٧١.

(٧) الكافي ٨ : ٩٤ / ٦٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٨.

(٨) مجمع البيان ٧ : ٧٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٨.

٢٧٩

يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ * وَهُوَ

 الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣١) و (٣٣)

ثمّ ذكر برهانا آخر بقوله : ﴿وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ﴾ وخلقنا فيها جبالا ﴿رَواسِيَ﴾ وثوابت فيها ، كراهة ﴿أَنْ تَمِيدَ﴾ وتميل ﴿بِهِمْ﴾ وتضطرب ﴿وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً﴾ وطرقا واسعة ليكون لهم ﴿سُبُلاً﴾ ومسالك إلى البلاد البعيدة ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ إلى مصالحهم ومهمّاتهم التي تكون في تلك البلاد ، أو ليهتدوا إلى توحيد الله ومعارفه.

وقيل : إنّ ضمير ( فيها ) راجع إلى الجبال ، لأنّها المحتاجة إلى الطّرق (١) .

ثمّ ذكر دليلا آخر بقوله : ﴿وَجَعَلْنَا السَّماءَ﴾ لهم ﴿سَقْفاً مَحْفُوظاً﴾ من الوقوع والسّقوط والزوال والانحلال إلى الوقت المعلوم بغير عمد ، ومن استراق السمع بالشّهب.

والقمي : يعني من الشياطين ، أي لا يسترقون السّمع (٢)﴿وَهُمْ عَنْ آياتِها﴾ وعجائبها الدالّة على كمال قدرته وعظمته ووحدانيّته وعلمه وحكمته ﴿مُعْرِضُونَ﴾ لا يتدبّرون فيها حتى يقفوا على فساد ما هم عليه من الشّرك والضّلال.

ثمّ نبّه سبحانه على بعض آياتها بقوله : ﴿وَهُوَ﴾ والله ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ بقدرته وحكمته ﴿اللَّيْلَ وَالنَّهارَ﴾ مختلفين ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ دائبين ﴿كُلٌ﴾ منهما ﴿فِي فَلَكٍ﴾ على حدة ﴿يَسْبَحُونَ﴾ ويسرعون في السير ، كما يسبح السّمك في الماء.

﴿وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ

 الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ * وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا

 إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ

 كافِرُونَ (٣٤) و (٣٦)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه النّعم الدنيويّة ، نبّه المشركين الظّانّين بقاءهم في الدنيا على فنائها وزوالها بقوله :

﴿وَما جَعَلْنا﴾ وما قدّرنا ﴿لِبَشَرٍ﴾ وفرد من بني آدم الذين كانوا ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ يا محمّد ﴿الْخُلْدَ﴾ والحياة الدائمة في الدنيا ﴿أَ فَإِنْ مِتَ﴾ يا محمّد ، وأنت سيّد البشر ، وخاتم الأنبياء ، وأقرب الخلق إلينا ﴿فَهُمُ الْخالِدُونَ﴾ والباقون فيها ؟ ! كلّا ، لا يكون ذلك أبدا ، بل أنت وهم على سنّتنا ومقتضى الحكمة البالغة التي تكون لنا ميّتون لا محالة.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٦٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٧٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٣٩.

٢٨٠