نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

صائغا ، فلمّا ذهب موسى عليه‌السلام إلى الطّور جاء إلى هارون وقال : إنّ عند بني إسرائيل من زينة القبط حيث استعاروها منهم ولم يردّوها ويتصرّفون فيها ، وهو حرام عليهم ، فأمرهم أن يأتوا بها وأحرقها ، فأمر هارون بني إسرائيل بأن يأتوا بما عندهم من زينة القبط ، فأتوا بها ، فحفر هارون حفرة فألقاها فيها ، فأوقد عليها النّار ، فلمّا رأى السامريّ أنّها ذابت ، أتى بقالب فصبّ فيه ذلك الذّهب المذاب ، فأخرج منه صورة عجل ، ثمّ ذرّ فيه من تراب أخذه من تحت حافر رمكة جبرئيل ، فحيي العجل وخار ، ثمّ قال لبني إسرائيل : هذا إلهكم وإله موسى (١) .

وعن ابن عباس : كان السامريّ علجا من أهل كرمان وقع إلى مصر ، وكان من قوم يعبدون البقر(٢) .

وفي رواية اخرى عنه : أنّه كان رجلا من القبط جارا لموسى عليه‌السلام ثمّ آمن به (٣) . والأكثرون على أنّه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة (٤) .

﴿فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً

 أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ

 مَوْعِدِي * قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ

 فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٦) و (٨٧)

قيل : إنّ الله أخبر موسى عليه‌السلام عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة [ الكائنة ] على عادته (٥)﴿فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ﴾ بعد استيفائه الأربعين وأخذه التوراة حال كونه ﴿غَضْبانَ﴾ عليهم ﴿أَسِفاً﴾ شديد الحزن على عصيانهم.

قيل : رآهم مجتمعين على العجل يضربون الدّفوف ويرقصون حوله فعاتبهم (٦) و﴿قالَ﴾ توبيخا: ﴿يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً﴾ وصدقا نافعا بأن يعطيكم التوراة التي فيها هدى ونور ، ولا وعد أحسن من ذلك.

وقيل : إنّه الوعد بالثواب على الطاعة (٧) .

وقيل : إنّه العهد على أن لا يطغوا فيما رزقهم (٨) .

﴿أَ فَطالَ﴾ قيل : أن أوعدكم فطال ﴿عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ﴾ وزمان الإنجاز فأخطأتم بسببه ؟ (٩) أو العهد بنعم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤١٤.

(٢-٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠١.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠١.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٤١٥.

(٧ و٨) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠٢.

(٩) تفسير أبي السعود ٦ : ٣٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤١٥.

٢٤١

الله من الإنجاء من فرعون والغرق وغيرهما ، وطوله كناية عن نسيانه ﴿أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَ﴾ وينزل ، أو يجب ﴿عَلَيْكُمْ غَضَبٌ﴾ شديد وعذاب عظيم ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ومالك أمركم اللّطيف بكم ؟ ﴿فَأَخْلَفْتُمْ﴾ لذلك ﴿مَوْعِدِي﴾ وعهدي عليكم بالثّبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من ميقات ربّي.

قال العلماء : إنّ الغضب من صفات أفعاله تعالى ، لا من صفات ذاته ؛ لأنّ صفات الذات لا تحلل ولا تنزل في الأجسام (١) .

عن الباقر عليه‌السلام ، قال في تفسير الغضب : « من زعم أنّ الله عزوجل زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق ، إنّ الله عزوجل لا يستفزّه شيء ولا يغيّره شيء » (٢) .

ثمّ أنّ الّذين عبدوا العجل من بني إسرائيل اعتذروا إلى موسى عليه‌السلام من فعلهم الشنيع و﴿قالُوا :﴾ يا موسى ﴿ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ﴾ وما نقضنا عهدك علينا بالثبات على ما أمرتنا به ﴿بِمَلْكِنا﴾ واختيارنا وميل قلوبنا ﴿وَلكِنَّا﴾ غلبنا من كيد السامرىّ إذ ﴿حُمِّلْنا أَوْزاراً﴾ وأحمالا ثقيلة ﴿مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ﴾ وحليّ القبط التي استعرناها منهم بأن جعلها في عهدتنا إلى أن نؤدّيها إلى حيث تأمرنا ، أو بأن ألزمنا فيه حكم الغنيمة ﴿فَقَذَفْناها﴾ وطرحناها في الحفيرة وفي النار تخلّصا من ذنبها ﴿فَكَذلِكَ﴾ القذف والإلقاء ﴿أَلْقَى السَّامِرِيُ﴾ ما معه من الحليّ فيها.

﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ * أَ فَلا

 يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً * وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ

 قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٨٨) و (٩٠)

ثمّ حكى سبحانه فتنة السّامري لزيادة تقريرها وترتيب الإنكار والتوبيخ عليها بقوله : ﴿فَأَخْرَجَ﴾ السّامريّ من ذلك الحليّ الّذي جمعه بنو إسرائيل ﴿لَهُمْ عِجْلاً﴾ وولد بقرة ، وكان ﴿جَسَداً﴾ ذا دم ولحم وعظم ، أو جسدا من ذهب ﴿لَهُ خُوارٌ﴾ وصوت عجل.

عن ابن عبّاس : أنّ هارون مرّ بالسّامريّ وهو يصنع العجل فقال له : ما تصنع ؟ قال : أصنع ما ينفع ولا يضرّ فادع لي ، فقال : اللهمّ أعطه ما سأل. فلمّا مضى هارون قال السامريّ : اللهمّ إنّي أسألك أن يخور ، فخار (٣) . فسجد له السامريّ والمفتتنون به ﴿فَقالُوا﴾ لغاية بلادتهم ، أو اعتقادهم حلول الله فيه لغاية

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠٢.

(٢) التوحيد : ١٦٨ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٤.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠٤.

٢٤٢

حمقهم : ﴿هذا﴾ العجل ﴿إِلهُكُمْ﴾ يا بني إسرائيل ﴿وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ﴾ موسى عليه‌السلام أنّ هذا إلهه فذهب يطلبه في الطّور. وقيل : إنّه ردّ على السامريّ ، وأنّ الإله لا يحلّ في شيء ولا يحلّ فيه شيء.

ثمّ استدلّ سبحانه على بطلان دعوى المفتتنين به بقوله : ﴿أَ فَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ﴾ هذا العجل ﴿إِلَيْهِمْ قَوْلاً﴾ ولا يردّ عليهم جوابا إذا سألوه ﴿وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً﴾ إذا طلبوا منه دفع ضرر أو جلب نفع ، ومن المعلوم أنّ من لا يمكنه التكلّم ولا يقدر على الضرّ والنفع ، لا يمكن أن يكون إلها.

ثمّ حكى سبحانه نصح هارون لهم في بدو ضلالتهم وعبادتهم العجل توضيحا لعتوّهم وحمقهم بقوله : ﴿وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ﴾ نصحا وشفقة عليهم ، وتنبيها لهم على خطئهم ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي بدو إقامتهم على عبادة العجل ، أو قبل رجوع موسى عليه‌السلام إليهم ، أو قبل قول السامريّ : هذا إلهكم.

قيل : إنّه عليه‌السلام لمّا رأى العجل خطر في قلبه افتتان القوم به ، فبادر في تحذيرهم (١) عن عبادته ، وقال : ﴿يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ﴾ وأضللتم ، أو امتحنتم من قبل الله ﴿بِهِ﴾ وبسببه ﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ﴾ والإله المنعم عليكم هو ﴿الرَّحْمنُ﴾ برحمته الواسعة لا العجل الّذي لا يضرّ ولا ينفع ، فإذا كان الأمر كذلك ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ في الثّبات على التّوحيد ودين الحقّ ﴿وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ هذا واتركوا عبادة من عرفتم شأنه.

نقل كلام للفخر الرازي وردّه

قال الفخر الرازي : واعلم أنّ هارون سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه ، لأنّه زجرهم عن الباطل أوّلا بقوله : ﴿إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ،﴾ ثمّ دعاهم إلى معرفة الله ثانيا بقوله : ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ﴾ ثمّ دعاهم إلى معرفة النبيّ ثالثا بقوله : ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ ثمّ دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله : ﴿وَأَطِيعُوا أَمْرِي.

أقول : لا يخفى ما في كلامه من الوهن. ثمّ قال : هاهنا دقيقة ، وهي أنّ الرّافضة تمسّكوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى » .

ثمّ أنّ هارون ما منعته التقيّة في مثل هذا الجمع بل صعد المنبر ، وصرّح بالحقّ ، ودعا النّاس إلى متابعة نفسه والمنع من متابعة غيره ، فلو كانت أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على الخطأ ، لكان يجب على علي أن يفعل ما فعله هارون ، وأن يصعد المنبر من غير تقية ولا خوف ، وأن يقول : فاتّبعوني وأطيعوا أمري ، فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنّ الامّة كانوا على الصّواب (٢) ، انتهى كلامه السخيف بطوله.

وفيه من الفساد ما لا يخفى ، فإنّ بين النبيّ المؤسّس للشّرع والإمام الحافظ له المجري لقوانينه

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ٥٦ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٣٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠٦.

٢٤٣

فرق واضح لا يخفى على ذي مسكة (١) ، فإنّ النبيّ المؤسس لا يجوز له التقيّة ، لأنّ تقيّته موجبة لاختلال الغرض من بعثته ، ولذا يجب على الله حفظه حتى يتمّ رسالته وتبليغه ولو بالأسباب الخارقة للعادة ، كما حفظ نوح من القتل مع تفرّده وعداوة أهل الأرض له ، وإبراهيم من نار نمرود وجعلها له بردا وسلاما ، وحفظه نبيّنا من شرّ الكفّار مع انفراده في أوّل الدعوة ، لئلّا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل ، فأمره الله بالتّبليغ بقوله : ﴿فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(٢) وآمنه بقوله : ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ(٣) و﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا(٤) و﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ(٥) فكان ينادي بين الأشرار مع غاية تعصّبهم ولجاجهم وعنادهم بقوله : « قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا » ولم يقدروا على قتله ، ونصره الله بالرّعب وبجنود من الملائكة ، والرّيح ، وبمن اتّبعه من المؤمنين.

وأمّا الإمام فوظيفته وظيفة العلماء ، وهي حفظ الدين ، وتعليم الأحكام الواقعيّة عن علم لا خطأ فيه ، وإجراء السياسات الشرعيّة ، وتربية النفوس القابلة ، ورفع الاختلاف بين الناس ، وكونه مرجعا في جميع المنازعات بعد إتمام الحجّة على النّاس بتبليغ الدين ، ونصبه على رؤوس الأشهاد ، بحيث لا يبقى لأحد عذر في عدم معرفته ، كما نصب موسى هارون عليهما‌السلام ، ونبيّنا عليّا عليه‌السلام يوم الغدير ، فمن حيث إنّ هارون كان شريكا لموسى عليه‌السلام في الرسالة لم يجز له التقيّة ، ومن حيث أنّه كان خليفته في غيبته جاز له التقيّة ، ولذا أعلن بالحقّ ، ولكن لم يشدّد على بني إسرائيل كما شدّد موسى عليه‌السلام عليهم بعد رجوعه من الميقات ، واعتذر إلى موسى عليه‌السلام من تركه التشدّد وعمله بالتقيّة بقوله : ﴿إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾ فظهر أنّ هارون اتّقى من قومه حيث لم يقاتلهم على عباده العجل ، ولم يخرج من بينهم ، مع أنّه كان أنصاره اثني عشر ألفا ، كما أنّ عليّا عليه‌السلام أظهر خلافته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في محافل كثيرة ، واحتجّ على إمامته بالحجج القاطعة ، مع أنّه لم يكن له ناصر إلّا ثلاثة أو خمسة أو سبعة (٦) ، ولذا لم يقاتلهم على عبادتهم عجل هذه الامّة ، ولو كان معه أربعون لقاتلهم وردّهم عن ضلالتهم(٧).

وأمّا قوله : إنّ هارون صعد على المنبر وأظهر الحقّ ، فهو تخرّص بالغيب ، لعدم دلالة آية أو رواية على صعوده على المنبر ، مع أنّ عجل بني إسرائيل لم يشغل المنبر ، ولذا تمكّن هارون من الصعود عليه ، وأمّا عجل هذه الامّة فإنّه كان جالسا على منبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وشاغلا له ، ولذا لم يتمكّن

__________________

(١) المسكة : العقل الوافر والرأي.

(٢) الحجر : ١٥ / ٩٤.

(٣) البقرة : ٢ / ١٣٧.

(٤) غافر : ٤٠ / ٥١.

(٥) المائدة : ٥ / ٦٧.

(٦) راجع : تفسير العياشي ١ : ٣٤١ / ٧٨٧ و٧٨٨ ، الكافي ٨ : ٢٤٥ / ٢٤١ ، رجال الكشي : ٦ / ١٢ و: ٨ / ١٧ و: ١١ / ٢٤.

(٧) الاحتجاج : ١٩١ ، كتاب سليم بن قيس : ٩٣.

٢٤٤

عليّ عليه‌السلام من الصّعود عليه.

والحاصل أنّه كما أظهر هارون الحقّ مرّة مع إشراك أغلب بني إسرائيل بالشّرك الجليّ ، أظهر عليّ عليه‌السلام حقّه في المحافل الكثيرة ، وأعلن بافتتان الامّة مرّات عديدة إلى أن استشهد كما تشهد بذلك احتجاجاته المرويّة بالتّضافر (١) ، وخطبته الشّقشقية التي أذعن ابن أبي الحديد بصحتها (٢) ، مع إشراك هذه الامّة بالشّرك الخفيّ.

وكما لم يقاتل هارون قومه مع كثرة أنصاره ، بل اكتفى بالنّصح والموعظة ، كذلك لم يقاتل عليّ عليه‌السلام أهل المدينة لقلّة أنصاره ، بل لكون الرّوم مع كمال قوّته وعظمته بصدد إذهاب الإسلام بعد غزوة مؤتة وتبوك.

ولذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرض موته مصرّا على بعث اسامة وجيشه إلى تبوك خوفا من تهاجم عسكر الرّوم على أرض المسلمين إن بلغهم خبر موته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو وقعت المقاتلة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بين المسلمين ما كان يبقى من الإسلام أثر على وجه الأرض ، ولذا اعتذر أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى فاطمة عليها‌السلام حين شكت إليه غصب فدك من عدم معارضة الغاصبين ومقاتلتهم بأنّه لو قاتلهم لم يبق اسم الرّسول في وجه الأرض (٣) .

وقال في الخطبة الشّقشقيّة : « فطفقت (٤) أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يشيب فيها الصّغير ، ويهرم فيها الكبير ، ويكدح فيها مؤمن ، حتى يلقى ربّه ، فرأيت أنّ الصّبر [ على هاتا ] أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى » (٥) .

وممّا يدلّ على إظهار عليّ عليه‌السلام حقّه ، ومخالفته للأوّلين ، ولجمع من الامّة في الخلافة ، ما رواه هذا

__________________

(١) احتج عليه‌السلام على أبي بكر في أمر البيعة في مناسبات عدة ، كما ناشد أهل الشورى واجتج عليهم بجملة فضائله وبين حقه في الخلافة ، راجع : بحار الأنوار ٢٩ : ٣ - ٦٧ و٧٧ - ٧٩ ، ترجمة الامام عليّ عليه‌السلام من تاريخ دمشق ٣ : ١١٣ ، المناقب للخوارزمي : ٢٢١ - ٢٢٤ ، مناقب ابن المغازلي : ١١٢ ، الاستيعاب ٣ : ٣٥. وفي خلافته عليه‌السلام جمع الناس في رحبة الكوفة واستشهدهم على حديث الغدير الذي هو نص على خلافته ، فشهد أثنا عشر بدريا ، راجع مسند أحمد ١ : ٨٨ ، ١١٨ / ١١٩ ، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ٢ : ٥٨٥ / ٩٩١ و٩٩٢ و: ٦٨٢ / ١١٦٧ ، اسد الغابة ٢ : ٢٣٣ و٣ : ٩٣ و٤ : ٢٨ ، خصائص النسائي : ٢٢ - ٢٥ ، الاصابة ٤ : ١٨٢ / ٥١٨٩ ( ترجمة عبد الرحمن بن مدلج ) ، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٤ - ١٠٥.

(٢) نقل ابن أبي الحديد شيخة أبى الخير الواسطي أنه قرأ الخطبة الشقشقية على ابن الخشاب ، وذكر ابن الخشاب أنها من كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام وأنه وقف عليها في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة وأنها كتبت بخطوط لعلماء كانوا قبل أن يخلق النقيب والد الرضي ، راجع شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٠٥ ، مصادر نهج البلاغة - عبد الزهراء الخطيب ١ : ٣١٥.

(٣) راجع : شرح ابن أبي الحديد ٢٠ : ٣٢٦ / ٧٣٥.

(٤) في النسخة : فجعلت.

(٥) نهج البلاغة : ٤٨ الخطبة ٣.

٢٤٥

الناصب في تفسيره قبل هذه الآية قال : قال بعض اليهود لعلي عليه‌السلام : ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم ، فقال عليه‌السلام : « إنّما اختلفنا عنه ، وما اختلفنا فيه ، وأنتم ما جفّت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيّكم : ﴿اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ(١) .

فإنّ معنى اختلفنا عنه الاختلاف في الرواية عنه ، ولم تكن الرواية المختلف فيها في ذلك الوقت إلّا الرواية الناصّة على الخلافة ، ولم يكن أحد يدّعى النصّ على خلافته إلّا عليّ عليه‌السلام والخلّصون من المؤمنين ، ولم يخالفهم في ذلك إلّا سامريّ هذه الامّة والمفتتنون بالعجل.

﴿قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى * قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ

 إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي * قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي

 وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ

 قَوْلِي (٩١) و (٩٤)

ثمّ بيّن سبحانه عتوّ بني إسرائيل وعدم قبولهم النّصح بقوله : ﴿قالُوا﴾ في جواب هارون بعد إبلاغه في نصحهم تعلّلا وتسويفا لترك عبادة العجل : ﴿لَنْ نَبْرَحَ﴾ على القول بالوهيّة العجل ، ولا نزال أبدا ﴿عَلَيْهِ عاكِفِينَ﴾ ومقيمين وبعبادته ملتزمين ﴿حَتَّى يَرْجِعَ﴾ من الطّور ﴿إِلَيْنا مُوسى﴾ فإذا رجع نطيع أمره ، فإن أمرنا بعبادته ووافقنا عليها نستمرّ عليها ، ولا نقبل قولك ، وإن نهانا عنها نتركها.

روي أنّهم لمّا قالوه اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الّذين لم يعبدوا العجل ، فلمّا رجع موسى سمع الصيّاح وكانوا يرقصون حول العجل ، فقال عليه‌السلام للسّبعين الذين كانوا معه : هذا صوت الفتنة ، فلمّا جاءهم قال لهم ما قال ، وسمع منهم ما سمع (٢) .

ثمّ توجّه إلى هارون مغضبا و﴿قالَ﴾ له مغتاظا : ﴿يا هارُونُ ما مَنَعَكَ﴾ وأيّ عذر لك ﴿إِذْ رَأَيْتَهُمْ﴾ أنّهم ﴿ضَلُّوا﴾ وانحرفوا عن طريق التوحيد إلى الشرك ، وعن طاعتك إلى مكابرتك وعصيانك ﴿أَلَّا تَتَّبِعَنِ﴾ في الغضب لله عليهم ، وفي قتالهم على إشراكهم ؟ !

وقيل « لا » مزيدة ، والمعنى ما منعك من أن تتّبعني في ما ذكر ، أو من أن تلحقني وتخبرني بما صنع القوم ، وتترك المقام بين أظهرهم ، كما عن ابن عبّاس (٣) .

وقيل : يعني ما منعك من أن تتّبعني في وصيّتي إذ قلت لك : ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠٥ ، والآية من سورة الأعراف : ٧ / ١٣٨.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٤١٨.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠٨.

٢٤٦

سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ(١) فلم تركت قتالهم وتأديبهم (٢) ، ثمّ وبّخه بقوله : ﴿أَ فَعَصَيْتَ﴾ وخالفت ﴿أَمْرِي﴾ إيّاك بالصّلابة في الدّين والمحاماة عليه.

روي أنّه عليه‌السلام أخذ بشعر رأسة بيمينه ولحيته بشماله من شدّة غيظه [ وغضبه ] لله ، وكان عليه‌السلام حديدا متصلّبا في كلّ شيء ، ففعل ما فعل بمرأى من قومه حين رآهم يعبدون العجل (٣) ،

فلمّا رأى هارون غضبه عليه ﴿قالَ﴾ ترقيقا لقلبه : ﴿يَا بْنَ أُمَ﴾ ارفق بي وراع حقّ امّك فيّ ، و﴿لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي﴾ وشعره ﴿إِنِّي خَشِيتُ﴾ إن قاتلت بعضهم ببعض وتفرّقوا من ﴿أَنْ تَقُولَ﴾ لي حين رجوعك أنت ﴿فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ.

وقيل : يعني أنّي خشيت إن فارقتهم واتّبعتك من أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضا ، فتقول لي: أنت أوقعت الفرقة في ما بينهم ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ ولم تحفظ بحسن الخلافة عليهم (٤) .

قيل : لعلّ موسى عليه‌السلام [ إنّما ] أمره بالذّهاب إليه إذا لم يؤدّ ذهابه إلى فساد القوم ، فقال : إنّما أمرتني باتّباعك إذا لم يحصل الفساد ، فلو جئتك مع حصول الفساد ما كنت مراقبا لقولك (٥) .

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل لم أخذ موسى عليه‌السلام برأس هارون يجرّه إليه وبلحيته ، ولم يكن له في اتّخاذهم العجل وعبادتهم له ذنب ؟ فقال : « إنّما فعل ذلك لأنّه لم يفارقهم لمّا فعلوا ذلك ، ولم يلحق بموسى عليه‌السلام ، وكان إذا فارقهم ينزل عليهم العذاب ، ألا ترى أنّه قال لهارون : ﴿ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي ؟﴾ قال هارون : لو فعلت ذلك لتفرّقوا » (٦) .

ثمّ اعلم أنّ منكري عصمة الأنبياء استدلّوا بهاتين الآيتين بوجوه عديدة على مذهبهم الفاسد ، وأجاب القائلون بعصمتهم عنه بوجوه منها : أنّ بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظنّ بموسى عليه‌السلام ، حتى أنّ هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى : أنت قتلته ؟ فلمّا رجع موسى عليه‌السلام من الميقات ، ورأى في قومه ما رأى ، أخذ برأس أخيه ليدنيه ويتفحّص من كيفيّة الواقعة ، فخاف هارون من أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له ، فقال إشفاقا على موسى عليه‌السلام : لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي لئلّا يظنّ بك القوم ما لا يليق بك ، والحقّ أنّ موسى عليه‌السلام أظهر الغضب على أخيه مع علمه بأنّه لم يفعل إلّا ما هو تكليفه وصلاح دينه ، إظهارا لشدّة غضبه من عمل قومه ، وإعظاما له ، وإعلانا بغاية قبحه وشناعته.

﴿قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ * قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ

__________________

(١) الأعراف : ٧ / ١٤٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠٨.

(٣ و٤) تفسير روح البيان ٥ : ٤١٩.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠٩.

(٦) علل الشرائع : ٦٨ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٧.

٢٤٧

أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي

 الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي

 ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٥) و (٩٧)

ثمّ أنّه عليه‌السلام بعد قبول عذر هارون توجّه إلى السامري ، وكان حاضرا ، أو بعد إحضاره ﴿قالَ﴾ له : ﴿فَما خَطْبُكَ﴾ وما شأنك ، وأيّ شيء غرضك ممّا فعلت ، أو ما الذي حملك عليه ﴿يا سامِرِيُّ؟وكان غرضه من السؤال إثبات بطلان عمله وكيده باعترافه ، ﴿قالَ﴾ السّامري لموسى عليه‌السلام: ﴿بَصُرْتُ﴾ وأنا في القوم ﴿بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ ورأيت ما لم يروه ، وهو أنّه رأى جبرئيل راكبا على فرس ، وكان كلّما وضع فرسه يديه أو رجليه على الأرض اليابسة يخرج من تحته النبات في الحال فقال : ﴿فَقَبَضْتُ﴾ وأخذت ﴿قَبْضَةً﴾ وكفّا ﴿مِنْ﴾ تربة ﴿أَثَرِ﴾ فرس ﴿الرَّسُولِ﴾ وموضع حافره ﴿فَنَبَذْتُها﴾ وألقيتها في فم العجل الذي صنعته من الحليّ ، فكان ما كان ﴿وَكَذلِكَ﴾ التّسويل من القبض والنبذ ﴿سَوَّلَتْ لِي﴾ أو مثل ذلك التّزيين زيّنت لي ﴿نَفْسِي﴾ في نظري ، ففعلت ما فعلت بهواي ، لا بحكم العقل ، ولا بأمر الله ﴿قالَ﴾ موسى عليه‌السلام : إذن ﴿فَاذْهَبْ﴾ واخرج من بين النّاس ﴿فَإِنَّ لَكَ فِي﴾ مدّة ﴿الْحَياةِ﴾ وزمان العمر ﴿أَنْ تَقُولَ﴾ للنّاس ﴿لا مِساسَ﴾ لأحد بي.

روي أنّه كان إذا ماسّ أحدا ذكرا كان أو انثى حمّ الماسّ والممسوس جميعا حمى شديدة ، فتحامى النّاس وتحاموه ، وكان يصيح بأعلى صوته لا مساس ، وحرّم عليهم ملاقاته ومكالمته ومواجهته ، فصار وحيدا طريدا ، يهيم في البريّة مع الوحش والسباع (١) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ موسى عليه‌السلام همّ بقتل السّامري ، فأوحى الله إليه : لا تقتله فإنّه سخيّ» (٢) .

ثمّ أوعده موسى عليه‌السلام بالعذاب في الآخرة بقوله : ﴿وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً﴾ ووعدا بالعذاب الشّديد في الآخرة على الضّلال والإضلال ﴿لَنْ تُخْلَفَهُ﴾ من قبل الله ، ينجز البتّة بعد عقوبتك في الدنيا ﴿وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ﴾ ومعبودك ﴿الَّذِي﴾ صنعته بيدك و﴿ظَلْتَ﴾ وبقيت ، أو صرت ﴿عَلَيْهِ عاكِفاً﴾ وعلى عبادته مقيما ، والله ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ﴾ بالنّار بناء على كون العجل ذا لحم وعظم ، أو لنبردنّه بالمبرد بناء على كونه ذهبا ﴿ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ﴾ ولنذرّينّه ﴿فِي الْيَمِ﴾ والبحر رمادا ومبرودا (٣)﴿نَسْفاً﴾ وذرّا [ بحيث ] لا يبقى منه عين ولا أثر ، حتى يعلم أنّ ما يحرق ويعدم آثاره لا يكون قابلا للعبادة.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤٢٢.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٤٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٨.

(٣) في النسخة : مبردا ، وما أثبتناه من روح البيان ٥ : ٤٢٢.

٢٤٨

﴿إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً *  كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ

 أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ

 الْقِيامَةِ وِزْراً * خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (٩٨) و (١٠١)

ثمّ عرّفهم إلههم بقوله : ﴿إِنَّما إِلهُكُمُ﴾ المستحقّ للعبادة والتّعظيم ﴿اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ بدليل أنّه ﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ وأحاط بكلّ شيء خبرا ، يعلم عابده وعبادته ، ومطيعه ومقدار استحقاقه من الثّواب ، وعاصيه ومقدار استحقاقه من العقاب.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه قصّة موسى عليه‌السلام وفرعون وهارون والسامري ، بيّن عظمة شأن النبيّ وكتابه وأنّ جميعه بوحي الله بقوله : ﴿كَذلِكَ﴾ الحديث الذي قصصناه ، أو كذلك القصّ البديع ﴿نَقُصُ﴾ ونتلو ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمّد بالوحي وبتوسّط جبرئيل بعضا ﴿مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ﴾ والحوادث الواقعة على الامم السالفة ﴿وَقَدْ آتَيْناكَ﴾ وأنزلنا إليك ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾ كتابا عظيم الشأن يكون ﴿ذِكْراً﴾ للعالمين ورشادا إلى مهامّ الدنيا والدين ، وتذكرة لنعم الله ، وموعظة للمتّقين ، أو يكون سببا لبقاء ذكرك إلى يوم الدين.

ثمّ هدّد سبحانه المعرضين عنه بقوله : ﴿مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ﴾ ولم يؤمن به ، ولم يهتد بهداه ، ولم يتّعظ بمواعظه ، ولم يعمل بأحكامه ﴿فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً﴾ وعقابا ثقيلا حال كون المعرضين ﴿خالِدِينَ﴾ في العقاب وماكثين ﴿فِيهِ﴾ أبدا ﴿وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً﴾ وزرهم ، وقيل : يعني ما أسوء هذا الوزر محمولا (١) ! قيل : إعادة ذكر يوم القيامة لزيادة التقرير والتهويل (٢) .

﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ

 لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ

 يَوْماً (١٠٢) و (١٠٤)

ثمّ ذكر سبحانه بعض أهوال القيامة بقوله : ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ قيل : إنّ التقدير أذكر يا محمّد لقومك يوم ينفخ إسرافيل في الصّور (٣)﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ﴾ والعصاة المتوغّلين في العصيان ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ من قبورهم ﴿زُرْقاً﴾ وعميا.

وقيل : إنّ الزرقة أسوء ألوان العين وأبغضها عند العرب (٤) . وروي أنّ الزرقة وسواد الوجه سيماء

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١١٤.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٤١ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٢٤.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٤٢٥.

(٤) تفسير الصافي ٣ : ٣١٩ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٢٥.

٢٤٩

أهل النار (١) .

وقيل : إنّهم يخرجون من قبورهم بصراء زرقا أوّل مرّة ، ويعمون في المحشر (٢) .

وقيل : إنّه يتغيّر سواد أعينهم من شدّة العطش حتى تزرقّ (٣) .

وقيل : إنّ الزّرق يعني الطامعين في ما لا ينالونه (٤) .

والقمي ، قال : تكون أعينهم مزرقّة لا يقدرون أن يطرفوها (٥) .

﴿يَتَخافَتُونَ﴾ ويتسارّون بالقول فيما ﴿بَيْنَهُمْ﴾ من شدّة الرّعب والهول ، أو من غاية الضّعف بحيث لا يمكنهم الإجهار في الصّوت ، ويقول بعضهم لبعض في إسراره : ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ﴾ وما مكثتم في الدنيا ، أو في القبر ﴿إِلَّا عَشْراً﴾ من الأيّام ، أو الساعات استقصارا لمدّة لبثهم فيها ، وتحسّرا على إضاعتها ، مع إمكان تحصيل الرّاحة الأبديّة فيها.

وقيل : يريدون ما بين النّفختين ، وهو أربعون سنة يرفع العذاب عن الكفّار في تلك المدّة ، ويستقصرون تلك المدّة إذا عاينوا أهوال القيامة ، كما عن ابن عباس (٦) .

وقيل : إنّهم لمّا علموا بعمر الآخرة ، استقصروا عمرهم في الدنيا بالنسبة إليه (٧) .

وقيل : إنّهم لمّا رأوا انقضاء عمر الدنيا وإتيان عمر الآخرة ، استقصروا عمر الدنيا ، لأنّ الذاهب قليل بالنسبة إلى الآتي وإن قصرت مدّته (٨) .

ثمّ حكى سبحانه مبالغتهم في الاستقصار بقوله : ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ﴾ فيما بينهم ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ﴾ وأفضلهم ﴿طَرِيقَةً﴾ وأكملهم عقلا. القمي : أعلمهم وأصلحهم (٩) : ( إنّ لبثتم ) وما مكثتم في الدنيا ﴿إِلَّا يَوْماً.

﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً * لا

 تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٥) و (١٠٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف القيامة وذكر بعض أهوالها ، حكى سؤال بعض منكري الحشر بقوله :

﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ﴾ حال ﴿الْجِبالِ﴾ في الحشر ، قيل : نزلت في مشركي مكّة حين قالوا استهزاء : يا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤٢٥.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١١٤.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١١٥.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٦٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٩.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٤٢٥.

(٧) تفسير الرازي ٢٢ : ١١٥.

(٨) تفسير الرازي ٢٢ : ١١٥.

(٩) تفسير القمي ٢ : ٦٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٠.

٢٥٠

محمّد ، كيف تكون الجبال يوم القيامة ؟ (١) فأمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيبهم بقوله : ﴿فَقُلْ﴾ في جوابهم ﴿يَنْسِفُها﴾ ويذرّها ﴿رَبِّي﴾ في ذلك اليوم ﴿نَسْفاً﴾ وذرّا عجيبا بأن يجعلها هباء منثورا. وقيل : يعني يذهبها ويطيّرها (٢) ويقلعها.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل كيف تكون الجبال مع عظمها يوم القيامة ؟ فقال : « إنّ الله يسوقها بأن يجعلها كالرّمال ، ثمّ يرسل عليها الرياح فتفرّقها » (٣) .

﴿فَيَذَرُها﴾ ويترك مراكزها ومحالّها حال كونها ﴿قاعاً﴾ ومكانا خاليا و﴿صَفْصَفاً﴾ ومستويا بحيث ﴿لا تَرى﴾ يا محمّد ، مع قوة بصرك وبصيرتك ، أو أيّها الرائي ﴿فِيها عِوَجاً﴾ وانخفاضا ﴿وَلا أَمْتاً﴾ وارتفاعا يسيرا ، وهذا تأكيد غاية استواء الأرض ، ودفع توّهم اجتماع فتاتها في موضع آخر.

وقيل : إنّ الأمت الانخفاض والارتفاع (٤) .

القمي : القاع : الذي لا تراب فيه ، والصّفصف : الذي لا نبات له (٥) ، والعوج : الحزون ، والأمت : الإرتفاع (٦) .

وقيل : الأحوال الثلاثة مرتّبة ، فالأوّلان باعتبار الإحساس ، والثالث باعتبار المقياس ، ولذلك ذكر العوج بالكسر ، ويخصّ المعاني (٧) ، فإنّ الاعوجاج الذي لا يدرك بالبصر ويدرك بالمقياس ملحق بالمعاني.

﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ

 هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ

 قَوْلاً (١٠٨) و (١٠٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان استواء الأرض بحيث لا يغيب أحد عن أحد ، بيّن كيفيّة الحشر بقوله : ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾ الّذي يدعوهم إلى المحشر ، وهو إسرافيل بالنفخة الثانية ، أو ملك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي ويقول : أيّتها العظام النّخرة والأوصال المتفرّقة واللحوم الممزّقة ، قومى إلى ربّك للحساب والجزاء ، فيسمعون صوت الداعي ، فيقبلون من كلّ جانب إلى جهته ﴿لا عِوَجَ لَهُ﴾ ولا عدول عنه ، لعدم ما يوجب التعويج في الأرض ، ولا ما يمنع النفوذ للصّوت على السواء ، فيتّبعون الصوت من غير انحراف ﴿وَخَشَعَتِ﴾ وخفظت ﴿الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ﴾ من شدّة الفزع مع سعة

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١١٧.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٤٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٠.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٤٢٨.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٦٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٠.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٦٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٠.

(٧) تفسير الصافي ٣ : ٣٢٠ ، وفي النسخة : بالمعاني.

٢٥١

رحمته ، وخفتت لهيبته ﴿فَلا تَسْمَعُ﴾ أصواتهم ﴿إِلَّا هَمْساً﴾ وخفيّا.

قيل : لا يسمع إلّا صوت أقدامهم (١) .

وعن بعض العامة : ينفخ في الصور النفخة الاولى ، فتتطاير الجبال ، وتتفجّر الأنهار بعضها في بعض ، فيمتلئ الهواء ماء ، وتنثر الكواكب ، وتتغيّر الأرض والسماء ، ويموت العالمون ، فتخلو الأرض والسماء ، ثمّ يكشف سبحانه عن بيت في سقر ، فيخرج لهب من النار فيشتعل في البحور فتنشف ، ويدع الأرض حمأة (٢) سوداء ، والسماوات كأنّها عكر (٣) الزيت والنحاس المذاب.

ثمّ يفتح الله تعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة ، فيمطر به الأرض ، وهو كمنيّ الرجال ، فتنبت الأجسام على هيئتها ، الصبيّ صبيّ والشيخ شيخ وما بينهما ، ثمّ تهبّ من تحت العرش ريح لطيفة ، فتبرز الأرض ليس فيها جبل ولا عوج ولا أمت ، ثمّ يحيي الله إسرافيل ، فينفخ من صخرة بيت المقدس ، فتخرج الأرواح من ثقب في الصّور بعددها ، ويحلّ كلّ روح في جسده حتّى الوحش والطير ، فإذا هم بالسّاهرة ، أي بوجه الأرض بعد أن كانوا في بطنها (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « إذا كان يوم القيامة جمع الله عزوجل الناس في صعيد واحد حفاة عراة ، فيوقفون في المحشر حتى يعرقوا عرقا شديدا وتشتدّ أنفاسهم ، فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عاما ، وهو قول الله تعالى : ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً﴾ ثمّ ينادي مناد من تلقاء العرش : أين النبيّ الامّي ؟ فيقول الناس : سمّ باسمه ، فينادي أين نبيّ الرحمة ؟ أين محمّد بن عبد الله الامّي؟

فيتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمام الناس كلّهم حتى ينتهي إلى حوض طوله ما بين أيله وصنعاء ، فيقف عليه فينادي بصاحبكم ، فيتقدم عليّ عليه‌السلام أمام الناس فيقف معه ، ثمّ يؤذن للناس فيمرّون فبين وارد على الحوض وبين مصروف عنه.

فإذا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من يصرف عنه من محبّينا بكى فيقول : يا رب شيعة عليّ أراهم صرفوا تلقاء أصحاب النار ، ومنعوا عن ورود الحوض ! فيبعث الله إليه ملكا فيقول له : ما يبكيك يا محمّد ؟ فيقول : لاناس من شيعة علي ، فيقول الملك : إنّ الله يقول : يا محمّد ، إنّ شيعة عليّ قد وهبتهم لك ، وصفحت عن ذنوبهم لحبّهم لك ولعترتك ، وألحقتهم بك ، وجعلتم في زمرتك فأوردهم حوضك » .

ثمّ قال أبو جعفر عليه‌السلام : « فكم من باك يومئذ وباكيّة ينادون : يا محمّد [ اه ] إذا رأوا ذلك » الخبر (٥) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١١٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٢٨.

(٢) الحمأ : الطين الأسود المنتن.

(٣) العكر : الراسب من كل شيء.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٤٢٨.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٦٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٠.

٢٥٢

﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ﴾ من الشّفعاء واحدا ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ﴾ في أن يشفع ﴿لَهُ الرَّحْمنُ﴾ وأجاز ﴿وَرَضِيَ لَهُ﴾ ولأجله ﴿قَوْلاً﴾ من الشّفيع في حقّه ، أو المراد إلّا شفاعة من أذن [ له ] الله في الشفاعة ، ورضي للشّافع قولا لمكانته عند الله ، فإنّ الشفاعة منصب عظيم لا يحصل إلّا لمن كان مأذونا فيها ومرضيّا عند الله.

﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ

 الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا

 يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٠) و (١١٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اشتراط قبول شفاعة الشّافع بكونه مأذونا فيها ، أو كون المشفوع له مرضيّا عند الله ، بيّن إحاطة علمه تعالى بأحوال العباد بقوله : ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ وما تقدّمهم من الأحوال ، أو من امور الآخرة ﴿وَما خَلْفَهُمْ﴾ وما بعدهم ممّا يستقبلونه ، أو ما وراءهم من امور الدنيا.

وقيل : ما بين أيديهم من أمر الدنيا ، وما خلفهم من أمر الآخرة والثواب والعقاب (١) .

وقيل : يعني يعلم ما مضى من امور الدنيا ، وما بقي منها ، ومتى تكون القيامة (٢) . ﴿وَ﴾ هم ﴿لا يُحِيطُونَ بِهِ﴾ تعالى ، أو بما بين أيديهم وبما خلفهم ﴿عِلْماً.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا يحيط الخلائق بالله عزوجل علما ، إذ هو تبارك وتعالى جعل على أبصار القلوب غطاء ، فلا فهم يناله بالكيف ، ولا قلب يثبته بالحدّ فلا نصفه إلّا كما وصف نفسه :

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(٣) الأوّل ، والآخر ، والظّاهر ، والباطن ، والخالق ، البارئ ، المصوّر ، خلق الأشياء وليس من الأشياء شىء مثله (٤) .

﴿وَ﴾ يومئذ ﴿عَنَتِ﴾ وذلّت ﴿الْوُجُوهُ﴾ وصار النّاس كالأسارى (٥)﴿لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾ والموجد المؤثّر الدّائم ، فلا يمكنهم الامتناع ممّا ينزل بهم من المجازاة ، ولا يقدرون على معارضة خالقهم كما كانوا يتخيّلون لأنفسهم الاستقلال في الامور في الدنيا ﴿وَقَدْ خابَ﴾ وحرم من الثواب ونيل النّعمة والراحة ﴿مَنْ حَمَلَ﴾ وارتكب ﴿ظُلْماً﴾ وعصيانا.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اطلبوا اسم الله الأعظم في هذه السّور الثلاث : البقرة ، وآل عمران ، وطه»(٦) .

قال الرازي : فوجدنا المشترك في تلك السور ﴿اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(٧) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ١١٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١١٩.

(٣) الشورى : ٤٢ / ١١.

(٤) التوحيد : ٢٦٣ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢١.

(٥) في النسخة : كالأسير.

(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ١٢٠ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٣١.

(٧) تفسير الرازي ٢٢ : ١٢٠.

٢٥٣

ثمّ ختم الله تعالى بيان أحوال القيامة ببيان حسن حال المؤمنين بقوله : ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ﴾ في الدنيا شيئا ﴿مِنَ الصَّالِحاتِ﴾ والأعمال الحسنات ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ بما يجب الإيمان به ﴿فَلا يَخافُ﴾ في الآخرة ﴿ظُلْماً﴾ وعقابا بلا جرم ، أو منع ثواب من القيام بالطّاعة ﴿وَلا هَضْماً﴾ ونقص ثواب بما يستحقّه.

وقيل : يعني لا يخاف نقص الثّواب ، ولا عدم توفية الإعظام والإكرام ، أو الزيادة على سيّئاته ، والتنقيص من حسناته (١) .

عن الباقر عليه‌السلام : ﴿ هَضْماً﴾ يعني لا ينقص من عمله شيء ، وأمّا ﴿ظُلْماً﴾ يقول لن يذهب به » (٢) .

﴿وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ

 لَهُمْ ذِكْراً * فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى

 إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٣) و (١١٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كثير من المطالب العالية ، كأهوال القيامة ، وحال المجرمين والمؤمنين فيها ، بيّن لطفه على الناس بإنزال القرآن بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ الإنزال لما سبق من الآيات المتضمّنة للوعد والوعيد في هذا الكتاب ﴿أَنْزَلْناهُ﴾ بتمامه حال كونه ﴿قُرْآناً عَرَبِيًّا﴾ لتفهمه العرب ، فيقفوا على إعجازه وحسن نظمه واسلوبه وخروجه من سنخ كلام البشر ﴿وَصَرَّفْنا﴾ وكرّرنا أو فصّلنا ﴿فِيهِ﴾ مقدارا كثيرا ﴿مِنَ الْوَعِيدِ﴾ والتّهديد على الكفر والعصيان بالعذاب الدنيوي كالطّوفان والغرق والخسف والرّجفة وأمثالها ، والعذاب الاخري كأهوال القيامة وأنواع عذاب النار ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ ويحترزون من الكفر والعصيان ﴿أَوْ يُحْدِثُ﴾ ويوجد ﴿لَهُمْ ذِكْراً﴾ وانتباها تتمّ به الحجّة عليهم.

وقيل : إنّ المعنى : ليتّقوا ، فإن لم تحصل لهم التقوى ، فلا أقلّ من أن يحدث القرآن لهم ذكرا وشرفا وصيتا حسنا (٣) .

ثمّ أعظم ذاته المقتضي لتعظيم ما نزل منه بقوله : ﴿فَتَعالَى اللهُ﴾ وارتفع بذاته وصفاته عن مماثلة مخلوقاته ، وهو ﴿الْمَلِكُ﴾ والسّلطان النافذ الأمر والنّهي ، الحقيق بأن يرجى بوعده ، ويخشى من وعيده ، و﴿الْحَقُ﴾ الثابت في ملكوته والوهيّته بحيث يمتنع زوال ملكه ، وتغيّر سلطانه ، واستعانته بخلقه ، وحاجته إلى إيمانهم وطاعتهم ، وإنّما أنزل الكتاب لنفعهم ، وتكميل نقصهم ، وتهذيب

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤٣١.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٦٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٢١.

٢٥٤

نفوسهم ، وحصول استعدادهم لنيل فيوضاته ورحمته ، فمن كان بهذه المرتبة من القدرة والرّحمة والإحسان ، [ فهو ] قادر على حفظك من السّهو في وحيه والنسيان في كلامه ﴿وَ﴾ لذا ﴿لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ﴾ ولا تسرع إلى قراءته وحفظه خوفا من النسيان والانفلات ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى﴾ ويؤدّى ﴿إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ ويتمّ جبرئيل قراءته عليك ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ بالقرآن ، وفهما لحقائقه وتنوّرا بأنواره.

عن ابن عباس قال : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يحرص على أخذ القرآن من جبرئيل ، فيعجل بقراءته قبل إتمام (١) جبرئيل مخافة النسيان ، فقال تعالى : لا تعجل به إلى أن نستتمّ (٢) وحيه ، فيكون أخذك إيّاه عن تثبّت وسكون ، والله تعالى يزيدك فهما وعلما (٣) .

وعن مجاهد : أي لا تعجل بالقرآن فتقرأه على أصحابك قبل أن يوحي إليك بيان معانيه (٤) .

وعن الضحاك : أنّ أهل مكّة واسقف نجران قالوا : يا محمّد ، أخبرنا عن كذا وكذا ، وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه ، وفشت المقالة بأنّ اليهود [ قد ] غلبوا محمّدا ، فأنزل الله تعالى :

﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ﴾ أي بنزوله من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللّوح المحفوظ إلى إسرافيل ، ومنه إلى جبرئيل ، ومنه إليك ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً(٥) .

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقرّبني إلى الله ، فلا بارك الله لي في طلوع شمسه » (٦) .

قيل : إنّ موسى عليه‌السلام سأل الله تعالى زيادة العلم فأحاله الله إلى الخضر ، وسأل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله زيادة العلم ولم يحله إلى غيره ، بل علّمه في مكتب ( أدبنى ربى ) وقال : ﴿عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ(٧) .

﴿وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)

ثمّ لمّا أمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بطلب ازدياد العلم المستلزم لحفظه من السهو والنسيان ، ذكر سبحانه نسيان آدم وزلته ، أو لمّا ذكر اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتّحفظ في أمر الدين وحفظ القرآن ، ذكر قلّة اهتمام آدم بالمحافظة لعهده بقوله : ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ﴾ ووصّيناه بوصيّة لازمة الرّعاية ، وهي النّهي عن الأكل من الشّجرة ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي الأزمنة السابقة. وعن ابن عباس : من قبل أن يأكل من الشجرة (٨)

__________________

(١) في تفسير الرازي : استتمام.

(٢) في تفسير الرازي : يستتم.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٢٢.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١٢٢.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ١٢٢.

(٦) مجمع البيان ٧ : ٥٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٢.

(٧) تفسير روح البيان ٥ : ٤٣٢.

(٨) تفسير الرازي ٢٢ : ١٢٤.

٢٥٥

﴿فَنَسِيَ﴾ وترك الاهتمام بالعمل بالعهد ﴿وَلَمْ نَجِدْ﴾ ولم نعلم ﴿لَهُ عَزْماً﴾ وثباتا على العهد ، وتصلّبا في امتثال النهى ، فأزلّه الشيطان وغرّه.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه » وقد قال تعالى : ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ والمعنى أنّ آدم مع ذلك الحلم أثّرت فيه وسوسة الشيطان ، فكيف في غيره ؟ (١)

عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ الله تعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة ، فلمّا بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها » (٢) .

وعنه عليه‌السلام : « أنّ الله قال لآدم وزوجته لا تقرباها ، يعني لا تأكلا منها فقالا : نعم ، ولا يستثنيا في قولهما فوكّلهما إلى أنفسهما وإلى ذكرهما » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « سمّي الإنسان إنسانا لأنّه ينسى ، قال الله : ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ (٤) .

وعن أحدهما عليهما‌السلام أنّه سئل : كيف أخذ الله آدم بالنسيان ؟ فقال : « إنّه لم ينس ، وكيف ينسى وهو يذكّره ويقول له إبليس : ﴿ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ﴾ إلى أخره » (٥) .

أقول : لا يمكن كون المراد بالنسيان ما يقابل الذّكر ؛ لأنّه لا يجوز النسيان على النبيّ في وقت مع أنّ الله علّمه الأسماء كلّها ، وأنّ الروايات الكثيرة دالة على تذكّره النّهي ، فالأولى بل المتعيّن حمل النسيان على الترك.

عن الباقر عليه‌السلام قال : « عهد الله إليه في محمّد والأئمّة من بعده فترك ، ولم يكن له عزم فيهم أنّهم هكذا ، وإنّما سمّوا اولو العزم لأنّه عهد إليهم في محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والأوصياء من بعده والمهدي وسيرته ، فأجمع عزمهم أنّ ذلك كذلك وأقرّوا به » (٦) .

وعنه عليه‌السلام - في حديث - قال : « وأخذ الميثاق على أولي العزم : أنّني ربّكم ، ومحمّد رسولي ، وعلي أمير المؤمنين وأوصياءه من بعده ولاة أمري وخزّان علمي ، وأنّ المهديّ أنتصر به لديني ، وأظهر به دولتي ، وأنتقم به من أعدائي ، وأعبد به طوعا وكرها. قالوا : أقررنا وشهدنا ، ولم يجحد آدم ولم يقرّ ، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي ، ولم يكن لآدم عزم على الإقرار به ، وهو قوله تعالى :

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤٣٤.

(٢) الكافي ٨ : ١١٣ / ٩٢ ، كمال الدين : ٢١٣ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٣.

(٣) الكافي ٧ : ٤٤٨ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٣.

(٤) علل الشرائع : ١٥ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٣.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ١٣٨ / ١٥٥١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٣.

(٦) بصائر الدرجات : ٩٠ / ١ ، علل الشرائع : ١٢٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٣.

٢٥٦

﴿وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ قال : إنّما هو فترك » (١) .

أقول : لا بدّ من إيكال العلم بالمراد من هذه الروايات إلى الراسخين فيه.

﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى * فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا

 عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها

 وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ

 يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى * فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما

 سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ

 اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى * قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ

 فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى * وَمَنْ أَعْرَضَ

 عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ

 حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ

 الْيَوْمَ تُنْسى * وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ

 الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١١٦) و (١٢٧)

ثمّ بيّن سبحانه قضية ترك عمل آدم بالعهد بقوله : ﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى .

قيل : إنّ المراد اذكر يا محمّد حال آدم في ذلك الوقت ليتبيّن لك أنّه نسي ولم يكن من أولى العزم(٢) .

﴿فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا﴾ الشيطان ﴿عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ حوّاء ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُما﴾ بتسويله ﴿مِنَ الْجَنَّةِ﴾ التي تسكنان فيها ﴿فَتَشْقى﴾ وتحرم عن نعمها والسّكونة فيها ، وتبتليان بالمتاعب في الأرض ، وإنّما أسند الشّقاء إلى آدم عليه‌السلام مع أنّه وزوجته شريكان فيه ، لاستلزام ابتلائه ابتلاءها من حيث كونه قيّما عليها ، وكونها تابعة له.

ثمّ بيّن سبحانه السعادة التي يكون له فيها بقوله : ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ﴾ ما دمت ﴿فِيها﴾ لحضور أنواع المأكولات عندك ﴿وَلا تَعْرى﴾ من الثّياب لكون الملبوسات موجودة لديك ﴿وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا﴾ ولا تعطش ﴿فِيها﴾ لكون الأنهار جارية في أطرافك ﴿وَلا تَضْحى﴾ ولا تصيبك حرارة

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٩٠ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٤.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ : ٥٩ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٣٤.

٢٥٧

الشّمس ؛ لأنّ الظلّ فيها ممدود ﴿فَوَسْوَسَ﴾ مع ذلك ﴿إِلَيْهِ الشَّيْطانُ﴾ حيث ﴿قالَ﴾ بصورة النّصح : ﴿يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾ حتى تأكل منها فتدوم حياتك وراحتك ﴿وَ﴾ على ﴿مُلْكٍ﴾ وسلطنة ﴿لا يَبْلى﴾ ولا يزول ، فيدوم انتظام معيشتك ، فكأنّه قال آدم : نعم ، فدلّه على الشجرة المنهيّة ، فقرب هو وزوجته تلك الشجرة ﴿فَأَكَلا مِنْها﴾ طمعا في ما وعدهما الشّيطان ، فهبّت ريح فألقت التاج من رأسهما ، واختطفت الحلل من جسدهما ﴿فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما﴾ وظهرت في نظرهما عوراتهما لعصيانهما نهي ربّهما ﴿وَطَفِقا﴾ وشرعا ﴿يَخْصِفانِ﴾ ويلزقان ﴿عَلَيْهِما﴾ للسّتر ﴿مِنْ وَرَقِ﴾ تين ﴿الْجَنَّةِ.

قيل : كان ورق التّين مدوّرا ، فصار بهذا الشكل من أصابعهما (١) .

﴿وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ﴾ وخالف عهده ﴿فَغَوى﴾ وضلّ عن مطلوبه ، وهو الخلود أو التّباعد من الشجرة المنهيّة ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ﴾ واصطفاه ﴿رَبُّهُ﴾ بالتّوفيق للتّوبة ﴿فَتابَ عَلَيْهِ﴾ وقبل توبته وتوبة زوجته حين تابا إليه ﴿وَهَدى﴾ هما إلى الثّبات على التوبة والتمسّك بالعصمة ، ثمّ عاتب سبحانه آدم عليه‌السلام والشيطان و﴿قالَ﴾ لهما : اخرجا من الجنّة و﴿اهْبِطا﴾ وانزلا إلى الأرض ﴿مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.

ثمّ خاطب ذرّيّة آدم بقوله : ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً﴾ من رسول وكتاب ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ﴾ وأطاع رسولي وعمل بديني وكتابي ﴿فَلا يَضِلُ﴾ عن الصّراط ودين الحقّ أبدا ﴿وَلا يَشْقى﴾ في الآخرة بالابتلاء بالعقوبة.

وقيل : إنّ الخطاب في قوله : ﴿اهْبِطا﴾ لآدم وحوّاء وقوله : ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ وما بعده لذريّتهما (٢) .

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ والرسول المبعوث من قبلي ، والكتاب المنزل منّي ﴿فَإِنَّ لَهُ﴾ في الدنيا ، أو في القبر ، أو فيها وفي الآخرة ﴿مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾ وضيقا وذات شدّة ، أمّا في الدنيا فإنّه - ولو كان ذا ثروة ومال - مشغول القلب بجمعه وحفظه ، ومتالم دائما ممّا يرد عليه ، وحريص على ازدياده وخائف من نقصه ، وأمّا في الآخرة فإنّ مأواهم جهنّم ، طعامهم فيها زقّوم وضريع ، وشرابهم حميم وصديد.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « المعيشة الضّنك عذاب القبر وضغطته » (٣) . وقيل : هو الكسب الحرام (٤) . وقيل : إنّه ضيق أبواب الخيرات عليه (٥) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤٣٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٢٩.

(٣ و٤) مجمع البيان ٧ : ٥٥.

(٥) تفسير الرازي ٢٢ : ١٣١.

٢٥٨

﴿وَنَحْشُرُهُ﴾ ونبعثه من قبره ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ وهو ﴿أَعْمى﴾ وفاقد البصر لفقد بصيرته في الدنيا. وقيل : يعني أعمى عن طريق الخير ، فيبقى متحيّرا (١) .

﴿قالَ﴾ ذلك المعرض عن الذّكر : ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ﴾ في الدنيا ﴿بَصِيراً قالَ﴾ الله في جوابه : ﴿كَذلِكَ﴾ الجزاء كنت تستحقّه لأنّك ﴿أَتَتْكَ﴾ في الدنيا ﴿آياتُنا﴾ والدلائل الدالّة على التوحيد والمعاد ورسالة الرّسل ﴿فَنَسِيتَها﴾ وتركت النّظر والتفكّر فيها والإيمان بها.

وقيل : يعني مثل ذلك فعلت أنت (٢) حيث إنّك أتتك آياتنا فنسيتها ﴿وَكَذلِكَ﴾ النسيان الذي صدر منك في الدنيا ﴿الْيَوْمَ تُنْسى﴾ وتترك في العمى والعذاب ﴿وَكَذلِكَ﴾ الجزاء المناسب للعصيان ﴿نَجْزِي﴾ كلّ ﴿مَنْ أَسْرَفَ﴾ وأصرّ في إتيان القبائح والآثام ، وتجاوز عن الحدّ في العصيان ، وكان من سرفه أنّه لم يصدّق ﴿وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ﴾ وبراهين توحيد خالقه ومنعمه ﴿وَ﴾ والله ﴿لَعَذابُ الْآخِرَةِ﴾ بالنّار وما فيها من الشدائد ، لغاية عظمته ﴿أَشَدُّ﴾ من عذاب الدنيا ، ومعيشة الضّنك ﴿وَأَبْقى﴾ وأدوم منه لأنّه لا انقطاع له.

عن الصادق عليه‌السلام : ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾ قال : « هو والله النّصّاب » قيل له : إنّا رأيناهم في دهرهم الأطول في الكفاية حتى ماتوا ؟ قال : « ذلك في الرجعة ، يأكلون العذرة » (٣) .

وعنه عليه‌السلام في وقوله تعالى : ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ قال : « ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام » ﴿أَعْمى﴾ قال : « يعني أعمى البصر في الآخرة ، وأعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو متحيّر في القيامة يقول : ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى﴾ الآية » . قال : « الآيات الأئمّة ﴿فَنَسِيتَها﴾ تركتها ﴿وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى﴾ أي تترك في النّار كما تركت الأئمّة فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم »(٤).

وعنه عليه‌السلام : سئل عن رجل لم يحجّ قطّ وله مال. فقال : « هو ممّن قال الله : ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ﴾ قيل : سبحان الله أعمى ؟ فقال : « أعماه الله عن طريق الخير » (٥) .

وعن القمي : « عن طريق الجنّة » (٦) .

وعنه عليه‌السلام في قوله : ﴿وَكَذلِكَ نَجْزِي﴾ الآية « يعني من أشرك بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام غيره ﴿وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ﴾ ترك الأئمّة معاندة ، فلم يتّبع آثارهم ولم يتولّهم » (٧) .

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٥٦.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٤٨.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٦٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٥ ، وفي النسخة : يأكلون الغدق.

(٤) الكافي ١ : ٣٦١ / ٩٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٥.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٧٣ / ١٣٣٢ ، مجمع البيان ٧ : ٥٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٥.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٦٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٦.

(٧) الكافي ١ : ٣٦١ / ٩٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٦.

٢٥٩

أقول : هذه الروايات في تأويل الآيات لا تفسيرها.

﴿أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ

 لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى * وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ

 مُسَمًّى (١٢٨) و (١٢٩)

ثمّ وبّخ سبحانه المعرضين عن الآيات بعدم اعتبارهم بما نزل على الامم الماضية من العذاب بقوله : ﴿أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ قيل : إنّ المعنى أغفلوا فلم يتبيّن لهم (١) أنّا ﴿كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ﴾ وفي الأعصار السّابقة على عصرهم ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ والامم المكذّبة لرسلهم المعرضة عن آيات ربّهم وهم ﴿يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ﴾ غافلين آمنين ممّا نزل بهم.

وقيل : يعني وقريش المعرضون عن الآيات يمشون في مساكن اولئك الامم المهلكة وقراهم ، كقرى ثمود ، وقوم لوط ، وأصحاب الحجر ، حين مسافرتهم إلى الشّام ، ويشاهدون الآثار الدالّة على ما كانوا عليه من النّعم ، وما حلّ بهم من أنواع العذاب والهلاك (٢) .

﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ العذاب النازل على الامم السّابقة بتكذيبهم الرسل وإعراضهم عن معجزاتهم ، والله ﴿لَآياتٍ﴾ على توحيد الله وقهّاريته ﴿لِأُولِي النُّهى﴾ والعقول السّليمة الناهية عن القبائح والأعمال السيّئة.

ثمّ بيّن سبحانه علّة تأخير العذاب عن المعرضين عن الرسول ومعجزاته بقوله : ﴿وَلَوْ لا كَلِمَةٌ﴾ وعدة ﴿سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ بتأخير عذاب هذه الامّة إلى القيامة ببركة الرسول ﴿لَكانَ﴾ العذاب في هذه الدنيا على كفرهم وعنادهم للحقّ ﴿لِزاماً﴾ وواجبا فوريّا بحيث لم يتأخّر عن جناياتهم ساعة ، كما صار لازما للماضين من الامم المكذّبة ﴿وَ﴾ لولا ﴿أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ لأعمارهم ، أو لنزول العذاب عليهم ، وهو يوم بدر أو القيامة ، لما تأخّر عنهم أصلا.

قيل : الفصل بين المعطوف وهو ﴿أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ والمعطوف عليه وهو ﴿لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ﴾ للدّلالة على استقلال كلّ واحد منهما في مانعيّة نزول العذاب (٣) .

القمي قال : اللّزام الهلاك ، قال : يعني كان ينزل بهم العذاب ، ولكن قد أخّرهم إلى أجل مسمّى(٤) .

﴿فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٤٩ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٤٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٣٢ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٤٩ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٤٣.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ٤٩ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٤٣.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٦٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٢٦.

٢٦٠