نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

قال ربّي : فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة ، وفرضتها عليك وعلى أمّتك. فقال : [ موسى ] يا محمّد ، إنّ امتّك آخر الامم وأضعفها ، وإن ربّك لا يردّ عليك شيئا ، وإنّ امّتك لا تستطيع أن تقوم بها ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامّتك. فرجعت إلى ربي فانتهيت إلى سدرة المنتهى ، فخررت ساجدا ، ثمّ قلت : فرضت عليّ وعلى امّتي خمسين صلاة ، ولا اطيق ذلك ولا امّتي ، فخفّف عني. فوضع عنّي عشرا ، فرجعت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع لا تطيق. فرجعت ، فوضع عنّي عشرا ، فرجعت إلى موسى فأخبرته ، فقال : لا تطيق ارجع ، وفي كلّ رجعة أرجع إليه أخرّ ساجدا حتى رجع إلى عشر صلوات ، فرجعت إلى موسى وأخبرته ، فقال لا تطيق. فرجعت إلى ربّي فوضع عني خمسا ، فرجعت إلى موسى وأخبرته ، فقال : لا تطيق. فقلت : قد استحييت من ربّي ، ولكن أصبر عليها. فناداني [ مناد : ] كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين ، كلّ صلاة بعشر ، ومن همّ من امّتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشرا ، وإنّ لم يعمل كتبت له واحدة ، ومن همّ من امّتك بسيئة فعملها كتبت عليه واحدة ، وإن لم يعملها لم أكتب عليه [ شيئا ] ، فقال الصادق عليه‌السلام : جزى الله موسى عن هذه الامة [ خيرا ] فهذا تفسير قوله تعالى : ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ﴾ الآية » (١) .

وعن ( كشف الغمة ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه سئل بأيّ لغة خاطبك ربّك ليلة المعراج ؟ فقال « خاطبني بلغة علي بن أبي طالب ، فألهمت أن قلت : يا ربّ [ أنت ] خاطبتني أم عليّ ؟ فقال : يا محمّد (٢) ، أنا شيء ليس كالأشياء ، ولا اقاس بالناس ، ولا أوصف بالأشياء ، خلقتك من نوري ، وخلقت عليا من نورك ، فأطلعت على سرائر قلبك ، فلم أجد إلى قلبك أحبّ من علي بن أبي طالب ، فخاطبتك بلسانه كيما يطمئنّ قلبك » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لمّا اسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق ، فأتيا بيت المقدس ، وعرض عليه محاريب الأنبياء ، وصلّى بها ، وردّه فمرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في رجوعه بعير لقريش ، وإذا لهم ماء في آنية ، وقد أضلّوا بعيرا لهم ، وكانوا يطلبونه ، فشرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك الماء ، وأهريق باقيه.

فلمّا أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لقريش : إن الله تعالى قد أسرى بي إلى بيت المقدس ، وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم ، وإنّي مررت بعير في موضع كذا وكذا ، وقد أضلّوا بعيرا لهم ، فشربت من مائهم ، وأهرقت باقيه. فقال أبو جهل : قد أمكنتكم الفرصة [ منه ] ، فاسألوه كم الأساطين فيها والقناديل ؟

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ١٦٧.

(٢) في المصدر : يا أحمد.

(٣) كشف الغمة ١ : ١٠٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٧٧.

٢١

فقالوا : يا محمّد ، إنّ هاهنا من دخل بيت المقدس ، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه ، فجاء جبرئيل فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه ، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه ، فلمّا أخبرهم قالوا : حتى تجيء العير ونسألهم عمّا قلت ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق (١) فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة ، ويقولون : هذه الشمس تطلع الساعة ، فبيناهم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق ، فسألوهم عمّا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : لقد كان هذا ضلّ جمل لنا في موضع كذا وكذا ، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد اهريق الماء ، فلم يزدهم إلّا عتوّا » (٢) .

روت العامة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا رجع من ليلته قصّ القصّة على امّ هانئ ، وقال : « إنّي اريد أن أخرج إلى قريش واخبرهم بذلك » . فقالت : أنشدك بالله يابن عمّ أن لا تحدّث بهذا قريشا فيكذّبك من صدّقك. فلمّا كان الغداة تعلّقت بردائه ، فضرب يده على ردائه فانتزعه من يدها ، وانتهى إلى نفر من قريش في الحطيم وهو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود ، واولئك النفر : مطعم بن عديّ ، وأبو جهل بن هشام ، والوليد بن المغيرة. فقال : « إنّي صلّيت العشاء في هذا المسجد ، وصلّيت به الغداة ، وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس » وأخبرهم عمّا رأى في السماء من العجائب ، وأنّه لقي الأنبياء ، وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى (٣) .

وروي أنه لمّا دخل المسجد الحرام ، وعرف أنّ الناس يكذّبونه ، وما أحبّ أن يكتم ما هو دليل على قدرة الله ، وعلوّ مقامه الباعث على اتّباعه ، قعد حزينا ، فمرّ به أبو جهل ، فجاء حتى جلس إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال كالمستهزئ : هل كان من شيء ؟ قال : « نعم اسري بي الليلة » . قال : إلى أين ؟ قال : « إلى بيت المقدس » قال : ثمّ أصبحت بين ظهرانينا ؟ ! قال : « نعم » . قال : أ رأيت أن دعوت قومك تحدّثهم بما حدّثتني ؟ قال : « نعم » . قال : يا معشر كعب بن لؤي ، فانفضّت إليه المجالس وجاءوا حتّى جلسوا إليهما ، فقال : « إنّي اسري بي » . قالوا : إلى أين ؟ قال : « إلى بيت المقدس ، فنشر لي الأنبياء وصلّيت به وكلّمتهم » .

فقال أبو جهل كالمستهزئ : صفهم لنا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أمّا عيسى ففوق الرّبعة (٤) دون الطويل عريض الصدر جاعد الشعر » [ أي في شعره تثنّي وتكسّر ] « تعلوه صهبة » أي [ يعلو شعره شقرة « ظاهر الدم » أي يعلوه ] حمرة « كأنّما خرج من ديماس » أي حمام « أمّا موسى فضخم آدم » أي أسمر طويل « كأنّه رجال شنوءة » وهم طائفة من اليمن معروفون بالطول « كثير الشعر ، غائر العينين ، متراكم الاسنان ،

__________________

(١) الأورق من الإبل : ما في لونه بياض إلى سواد.

(٢) أمالي الصدوق : ٥٣٣ / ٧١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٧٦.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٢٥.

(٤) الرّبعة : الوسيط القامة.

٢٢

متقلّص الشفتين ، خارج اللّثة ، عابس. وأمّا إبراهيم فو الله إنّه لأشبه الناس بي خلقا وخلقا » .

فضجّوا وعظموا ذلك ، وصار بعضهم يصفّق ، وبعضهم يضع يده على رأسه متعجّبا ومنكرا ، قالوا : نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا ، أتزعم أنّك أتيته في ليلة واحدة ، واللات والعزّى لا نصدّقك. وارتدّ ناس ممّن كان آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر ، فقال :

إن كان قد قال ذلك فلقد صدق. قالوا : أتصدّقه على ذلك ؟ قال : إنّي أصدّقه على أبعد من ذلك ، فإنّي أصدّقه في خبر السماء في غدوة وروحة.

وكان فيهم من يعرف بيت المقدس ، فقالوا : صف لنا بيت المقدس ، كم له [ من ] باب ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله [ قطّ ] ، لأنّهم سألوني عن أشياء لم أثبتها ، وكنت دخلته ليلا وخرجت منه ليلا ، فقمت في الحجر ، فجلّى الله لي بيت المقدس ، فطفقت اخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه » ، فقالوا : أمّا النعت فقد أصاب. فقالوا : ما آية ذلك يا محمّد ؟ فقال عليه‌السلام : « [ آية ذلك ] إنّي مررت بعير بني فلان بوادي الروحاء » وهو محلّ قريب من المدينة « قد أضلّوا ناقة لهم ، وانتهيت إلى رحالهم ، وإذا قدح ماء فشربت منه ، فاسألوهم عن ذلك » . قالوا : فأخبرنا عن عيرنا. قال : « مررت بها في التنعيم » وهو محلّ قريب من مكة « فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ، وأنها تقدم مع طلوع الشمس ، يتقدّمها جمل أورق عليه غرارتان » أي جوالقان (١) « أحداهما سوداء ، والاخرى برقاء (٢) » فابتدر القوم الثنية ، فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد أشرقت. فقال آخر : هذه والله العير قد أقبلت ، يتقدّمها جمل أورق ، كما قال محمد ، عليه غرارتان ، فتاب المرتدّون وأصرّ المشركون ، وقالوا : إنّه ساحر(٣) .

ثمّ اعلم أنّ معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة ببدنه العنصري من ضروريات دين الاسلام ، والأخبار به متواترة ، وإن كان تفصيل خصوصياته وقضاياه منقول بخبر الواحد ، فلا شبهة في أنّ إنكار أصله - كما نسب إلى عائشة ومعاوية - كفر وخروج عن ربقة الاسلام ، والتشكيك فيه بأن صعود الجسم الثقيل إلى السماوات وسرعة حركته إلى هذا الحدّ وخرق الأفلاك غير معقول ، إنّما نشأ عن الجهل بقدرة الله تعالى الكاملة. وأمّا في بعض الروايات من الامور البعيدة عن الأنظار فمطروح أو موجّه بوجوه قريبة إلى الاعتبار.

__________________

(١) الجوالق : وعاء من صوف أو شعر أو غيرهما.

(٢) برقاء : لعلّه يريد بيضاء مشرقة كالبرق ، وفي روح البيان : أي فيها بياض وسواد ، أي جوالق مخطط ببياض.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٢٦.

٢٣

﴿وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي

 وَكِيلاً * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٢) و (٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إكرام نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإسرائه إلى السماوات ، بيّن إكرام موسى بإسرائه إلى الطور وإيتائه التوراة بقوله : ﴿وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ﴾ المعهود - وهو التوراة - بعد إسرائه إلى الطور ، وكان من فضائل ذلك الكتاب أنّا قرّرناه ﴿وَجَعَلْناهُ هُدىً﴾ ورشادا ﴿لِبَنِي إِسْرائِيلَ﴾ إلى كلّ حقّ وخير ، لاحتوائه للعلوم الكثيرة والأحكام الوفيرة ، وكان أهمّ ما فيه أنّا كتبنا فيه ﴿أَلَّا تَتَّخِذُوا﴾ يا بني إسرائيل لأنفسكم ﴿مِنْ دُونِي﴾ وممّا سواي ﴿وَكِيلاً﴾ وإلها تفوّضون إليه الامور ، وترجعون إليه في الحوائج يا ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا﴾ ه ﴿مَعَ نُوحٍ﴾ في السفينة يوم الطّوفان ، وأنعمنا عليه بالنجاة حين هلاك جميع ما في الأرض من الحيوان والنبات ، فانّ نجاة آبائكم من أعظم النّعماء عليكم ؛ لأنّه لو لم يكونوا لم تكونوا ، فيجب أن يقابلوه بالشكر كما شكر نوح ﴿إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً﴾ مبالغا في أداء حقّ (١) النعمة ، ومجدّا إلى القيام بوظائف العبودية.

روي أنّه عليه‌السلام كان إذا أكل قال : « الحمد لله الذي أطعمني ، ولو شاء أجاعني » . وإذا شرب قال : « الحمد لله الذي سقاني ، ولو شاء أظمأني » وإذا اكتسى قال : « الحمد لله الذي كساني ، ولو شاء جرّدني » . وإذا تغوّط قال : « الحمد لله الذي أخرج عنّي أذاه في عافية ، ولو شاء حبسه » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، أنه سئل ما عنى بقوله في نوح : ﴿إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ؟﴾ فقال : « كلمات بالغ فيهنّ » قيل : وما هنّ ؟ قال : « كان إذا أصبح قال : أصبحت اشهدك ما أصبحت بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فانّها منك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد على ذلك ، ولك الشكر كثيرا. كان يقولها إذا أصبح ثلاثا ، وإذا أمسى ثلاثا » (٣) .

﴿وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ

 عُلُوًّا كَبِيراً * فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ

 فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ

 وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٤) و (٦)

__________________

(١) في النسخة : حقه.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ١٣١.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٣٦ / ٢٤٦٣ ، الكافي ٢ : ٣٨٨ / ٣٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٧٧.

٢٤

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أن إيتاء التوراة كان لهداية بني إسرائيل ، بيّن عدم هدايتهم بها بقوله : ﴿وَقَضَيْنا﴾ وحكمنا حكما مبتوتا مرسلا ﴿إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ بكتبه ﴿فِي﴾ ذلك ﴿الْكِتابِ﴾ المنزل على موسى عليه‌السلام أنّكم يا بني إسرائيل والله ﴿لَتُفْسِدُنَ﴾ بالكفر وقتل الأنبياء ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ المقدسة والبيت المقدّس وحواليه ﴿مَرَّتَيْنِ﴾ أولاهما : مخالفتهم ، التوراة وقتل أشعيا (١) ، وحبس أرميا ﴿وَلَتَعْلُنَ﴾ وتستكبرنّ عن طاعة الله ﴿عُلُوًّا﴾ واستكبارا ﴿كَبِيراً﴾ وطغيانا عظيما ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ﴾ العقوبة على المرة السابقة من الإفسادتين ، وحان (٢) حين المجازاة على ﴿أُولاهُما بَعَثْنا﴾ وسلّطنا ﴿عَلَيْكُمْ﴾ لعقوبتكم على معاصيكم ﴿عِباداً﴾ وناسا مخلوقين ﴿لَنا﴾ حال كونهم ﴿أُولِي بَأْسٍ﴾ وذوي بطش ﴿شَدِيدٍ﴾ فقتلوكم ونهبوا أموالكم ، فلمّا لم يجدوا من تظاهر منكم وما ظهر من أموالكم ﴿فَجاسُوا﴾ وفتّشوا ﴿خِلالَ الدِّيارِ﴾ وفرج البيوت وما بين جدرها ليقتلوا من استخفى منكم ، وينهبوا ما سترتم من أموالكم ﴿وَكانَ﴾ وعد تعذيبكم ﴿وَعْداً﴾ لا بدّ من كونه ﴿مَفْعُولاً﴾ ومنجزا غير مخلف.

قيل : إنّ المراد من العباد المبعوثين جالوت وجنوده (٣) . وقيل : بخت نصّر المجوسي ملك بابل ، حارب بني إسرائيل وغلب عليهم وأكثر القتل فيهم ، حتى قتل أربعين ألفا من علمائهم ، وأسر سبعين ألفا منهم ، وغنم أموالهم ، وأحرق التوراة ، وخرّب المسجد ، فبقوا في الذلّ والشدّة إلى قريب من مائة سنة ، فضجّوا وتابوا من عصيانهم وإفسادهم وعتوّهم (٤) .

﴿ثُمَّ رَدَدْنا﴾ وأعدنا ﴿لَكُمُ الْكَرَّةَ﴾ والدولة والغلبة ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بعد كونكم مقهورين مغلوبين تحت سلطنتهم وسطوتهم ﴿وَأَمْدَدْناكُمْ﴾ وقوّيناكم ﴿بِأَمْوالٍ﴾ كثيرة بعد ما نهبت أموالكم ﴿وَبَنِينَ﴾ وأولاد بعد ما سبوا ﴿وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً﴾ وعددا مما كنتم ، أو من أعدائكم.

قيل : إنّ كورش الهمداني غزا أهل بابل ، فظهر عليهم ، وسكن ديارهم ، ثمّ تزوجّ امرأة من بني إسرائيل ، فطلبت من زوجها أن يردّ بني إسرائيل إلى أرضهم ، فردّهم كورش إلى بيت المقدس وقتل بخت نصّر ، وخرج بنو إسرائيل من الأسر ، ورجع إليهم الملك ، وصاروا إلى أحسن ممّا كانوا عليه (٥) .

﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا

 وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧)

__________________

(١) في روح البيان ٥ : ١٣٢ : شعيا.

(٢) في النسخة : وأحان.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ١٥٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٠ : ١٥٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ١٣٢.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ١٣٣.

٢٥

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية شدّة بلائهم بعد عصيانهم ، وحسن حالهم بعد توبتهم وإنابتهم ، نبّه على أن نفع الإيمان والطاعة عائد إليهم ، وضرر الكفر والعصيان وارد عليهم لا يتعدّاهم بقوله : ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ﴾ يا بني إسرائيل في العقائد والأعمال ، فقد تبيّن لكم أنّكم ﴿أَحْسَنْتُمْ﴾ وحصّلتم الخير والثواب الدنيوي والاخروي ﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾ واستفتحتم أبواب البركات على ذواتكم ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ﴾ بالكفر والطّغيان ﴿فَلَها﴾ ضررها من الذّلّ والشدّة في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وفي ذكر فعل الاحسان مرتين دون الاساءة ، إشارة بغلبة رحمته تعالى على غضبه ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ﴾ العقوبة على المرّة ﴿الْآخِرَةِ﴾ من طغيانكم كقتل يحيى وزكريا والاجتماع لقتل عيسى ، بعثنا عليكم جمعا آخر ﴿لِيَسُوؤُا﴾ ويغيّروا ﴿وُجُوهَكُمْ﴾ من شدّة الحزن والكآبة فتسودّ أو تتغيّر ﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ﴾ الأقصى ويخرّبوه ﴿كَما﴾ أنّ أعداءكم ﴿دَخَلُوهُ﴾ وخرّبوه ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ عقوبة على طغيانكم الأول ﴿وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا﴾ واستولوا عليه من النفوس والأموال ﴿تَتْبِيراً﴾ وإهلاكا فظيعا لا يوصف.

قيل : إنّ الذين بعثهم الله لعقوبة بني إسرائيل ططوس النصراني (١) ، حاصر بلادهم ، وقتل نفوسهم ، ونهب أموالهم ، وخرّب بيت المقدس (٢) .

وقيل : إنّ هردوس ملك بابل غزا بني إسرائيل ، وقال لرئيس جنده : كنت حلفت بالهي لأن ظفرت بأهل بيت المقدس لأقتلنّهم حتى تسيل دماؤهم وسط عسكري ، فاقتلهم أنت. فدخل بيت المقدس ، وقام في البقعة التي كانوا يقرّبون فيها القربان ، فوجد فيها دما يغلي فسألهم عنه فقالوا : دم قربان لم يقبل منّا. فقال : ما صدقتموني. فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من رؤسائهم وعلمائهم (٣) وأزواجهم ، فلم يسكن الدم.

ثمّ قال : إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا. فقالوا : إنّه دم نبي [ كان ] ينهانا عن المعاصي ، ويخبرنا بأمركم ، فلم نصدّقه فقتلناه ، فهذا دمه. فقال : ما كان اسمه ؟ قالوا : يحيى بن زكريا. قال : الآن صدقتموني ، لمثل هذا ينتقم ربّكم منكم.

وكان قتل يحيى بيد ملك من بني إسرائيل يقال له لاحت (٤) حمله على قتله امرأة اسمها إربيل ، وكانت قتلت سبعة من الأنبياء ، وقتل يحيى كان بعد رفع عيسى ، فلمّا رأى أنهم صدقوا خرّ ساجدا ، ثمّ قال : يا يحيى ، قد علم ربّي وربّك ما أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم ، فاهدأ باذن الله قبل أن لا أبقي أحدا منهم ، فهدأ فرفع عنهم القتل ، وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل ، وأيقنت أنه لا ربّ

__________________

(١) في روح البيان : طرطوس الرومي.

(٢) تفسير روح البيان : ٥ : ١٣٣.

(٣) في تفسير روح البيان : وغلمانهم.

(٤) في تفسير روح البيان : لاخت.

٢٦

غيره.

وقال لبني إسرائيل : إن هردوس أمرني أن اقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره ، ولست أستطيع أن أعصيه. قالوا : أفعل ما امرت ، فأمر أن يحفر خندقا ويذبحوا دوابّهم حتى سال الدم في العسكر ، فلمّا رأى هردوس ذلك أرسل إليه أن ارفع عنهم القتل ، فسلب عنهم الملك والرئاسة ، وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، ثمّ أنصرف إلى بابل (١) .

﴿عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)

ثمّ رغّبهم الله تعالى في الإيمان والطاعة والأعمال الصالحة ، ورهّبهم عن الفساد والطّغيان بقوله : ﴿عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ﴾ بعد الانتقام منكم إن بقيتم على الايمان والأعمال الصالحة ، أو إن تبتم توبة اخرى وكففتم عن العصيان والطّغيان ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ﴾ مرة ثالثة إلى ما كنتم عليه من العصيان ﴿عُدْنا﴾ إلى الانتقام منكم بالقتل والأسر في الدنيا ﴿وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً﴾ ومحبسا ، أو مقرّا ومهادا في الآخرة ، ولا يمكنهم الخروج منها أبدا ، وكان من خبث ذاتهم أنّهم بعد ما رأوا من العقوبات وسمعوا من التهديد ، عادوا إلى العصيان بتكذيب النبي وكتمان علائمه ونعوته المذكورة في التوراة والانجيل وتحريفهما ، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي المسلمين ، فقتلوا كثيرا منهم ، وأجلوا كثيرا ، وضرب الله على سائرهم الجزية والذلة إلى يوم القيامة.

والقمّي قال : ﴿وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ﴾ أي أعلمناهم ، ثمّ انقطعت مخاطبة بني إسرائيل ، وخاطب الله امة محمّد فقال : ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ يعني فلانا وفلانا وأصحابهما ، ونقضهم العهد ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً﴾ يعني ما ادّعوه من الخلافة ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما﴾ يعني يوم الجمل ﴿بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ يعني أمير المؤمنين وأصحابه ﴿فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ﴾ أي طلبوكم وقتلوكم ﴿وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً﴾ يعني يتمّ ويكون ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ يعني لبني أمية على آل محمد ﴿وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً﴾ من الحسن والحسين ابني علي عليه‌السلام وأصحابهما [ فقتلوا الحسين بن عليّ ] وسبوا نساء آل محمّد ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾ يعني القائم وأصحابه ﴿لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ﴾ يعني تسوّد وجوهكم ﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه وأمير المؤمنين عليه‌السلام ﴿وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً(٢) أي يعلو عليكم فيقتلوكم.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ١٣٤.

(٢) الإسراء : ١٧ / ٤ - ٧.

٢٧

ثمّ عطف على آل محمّد فقال : ﴿عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ﴾ أي ينصركم على عدوكم. ثمّ خاطب بني امية فقال : ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا﴾ يعني إن عدتم بالسفياني عدنا بالقائم من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً﴾ [ أي ] حبسا يحصرون فيها (١) .

عن ( الكافي ) و( العياشي ) عن الصادق عليه‌السلام في تأويل الإفسادتين بقتل عليّ عليه‌السلام وطعن الحسن عليه‌السلام ، والعلوّ الكبير بقتل الحسين عليه‌السلام ، والعباد اولى البأس بقوم يبعثهم الله قبل خروج القائم ، فلا يدعون واترا لآل محمّد إلّا قتلوه ، ووعد الله بخروج القائم عليه‌السلام والكرّة عليهم بخروج الحسين عليه‌السلام في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهّب حين كان الحجّة القائم (٢) بين أظهرهم (٣) .

وعن ( العياشي ) : « ثمّ يملكهم الحسين عليه‌السلام حتى يقع حاجباه على عينيه » (٤) .

وعنه عليه‌السلام : « أول من يكرّ إلى الدنيا الحسين بن علي عليه‌السلام [ وأصحابه ] ويزيد بن معاوية وأصحابه ، فيقتلهم حذو القذّة (٥) بالقذّة » ثمّ تلا هذه الآية (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ العباد أولي بأس شديد هم القائم عليه‌السلام وأصحابه » (٧) .

أقول : الظاهر أنّ المراد من الروايات تطبيق ما يقع في هذه الامّة على ما وقع في بني إسرائيل حذو النّعل بالنّعل ، لا صرف الآية عن ظاهرها وحصر المراد منها فيما وقع بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ

 الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩)

ثمّ لمّا وصف الله التوراة بكونها هدى لبني إسرائيل ، وصف القرآن بكونه هدى لكافّة الناس إلى أحسن الأديان بقوله : ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ﴾ الذي انزل إليك يا محمّد ﴿يَهْدِي﴾ الناس كافة إلى يوم القيامة ﴿لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ من سائر الملل ، وإلى الشريعة التي هي أسدّ وأتقن من سائر الشرائع بحيث لا يمكن أن تساويها ملّة وشريعة في الاستقامة والاتقان.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٧٩.

(٢) هذه عبارة تفسير الصافي ، وفي الكافي : « المذهّب لكل بيضة وجهان ، المؤدّون إلى الناس أنّ هذا الحسين قد خرج حتى لا يشكّ المؤمنون فيه ، وأنه ليس بدجال ولا شيطان والحجة القائم ... » وفي تفسير العياشي نحوه.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٣٧ / ٢٤٦٤ ، الكافي ٨ : ٢٠٦ / ٢٥٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٧٩.

(٤) تفسير العياشي ٣ : ٣٧ / ٢٤٦٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٧٩.

(٥) القذّة : ريشة الطائر بعد تسويتها وإعداها لتركّب في السّهم ، والقول يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان.

(٦) تفسير العياشي ٣ : ٣٩ / ٢٤٦٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٧٩.

(٧) تفسير العياشي ٣ : ٣٨ / ٢٤٦٥ ، تفسير الصافي ٣ : ١٧٩.

٢٨

وعن الصادق : « يدعو إلى الإمام » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « يهدي إلى الولاية » (٢) .

وعن السجاد عليه‌السلام : « الإمام منّا لا يكون إلّا معصوما ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة [ فيعرف بها ، ] ولذلك لا يكون إلّا منصوصا » فقيل : ما معنى العصمة ؟ قال : هو الاعتصام (٣) بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن ، والقرآن يهدي إلى الإمام ، وذلك قول الله عزوجل : ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (٤) .

ثمّ أخبر سبحانه بأتمّ النفع الذي يكون للعمل بالشريعة الاقوم بقوله : ﴿وَيُبَشِّرُ﴾ هذا القرآن ﴿الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ﴾ آمنوا به و﴿يَعْمَلُونَ﴾ بما فيه من الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ من أداء الواجبات وترك المحرّمات ﴿أَنَّ لَهُمْ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿أَجْراً كَبِيراً﴾ وثوابا عظيما.

﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً * وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ

 دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١٠) و (١١)

ثمّ أخبر سبحانه بأعظم الضرر على مخالفته بقوله : ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ كأغلب المشركين واليهود على ما قيل من أنّهم منكرون للمعاد الجسماني (٥)﴿أَعْتَدْنا﴾ وهيّئنا ﴿لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً﴾ في الآخرة ، وجعل الإخبار بالعذاب من البشارة إمّا من باب التهكّم ، أو الازدواج ، أو لأنّ تعذيب أعداء المؤمنين ممّا تسرّ به قلوبهم.

ثمّ ذمّ سبحانه من لا يعرف قدر القرآن وعظمة هذه النعمة بكونه غير مميّز بين الخير والشرّ بقوله: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسانُ﴾ لنفسه ﴿بِالشَّرِّ﴾ ويبالغ في طلبه بلسانه باعتقاد أنّه خيره وصلاحه ، أو يطلب الأعمال السيئة المفضية إلى الشرّ بنحو يشابه ﴿دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ لغاية جهله وعدم تميّزه نفعه عن ضرّه ، وما يصلحه عمّا يفسده ، وكون نظرة إلى العاجل ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ﴾ جنسه بالطبع ﴿عَجُولاً﴾ ومسارعا في الامور بلا تأنّ فيها وتدبّر في عواقبها.

عن الصادق عليه‌السلام : « واعرف طريق نجاتك وهلاكك ، كيلا تدعو الله بشيء عسى أن يكون فيه هلاكك وأنت تظنّ أنّ فيه نجاتك ، قال الله تعالى : ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسانُ﴾ الآية » (٦) .

قيل : إنّ المراد بالانسان الداعي بالشرّ النّضر بن الحارث القائل : اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٩ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٠.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٣٩ / ٢٤٦٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٠.

(٣) في معاني الأخبار : فقيل له : يا ابن رسول الله ، فما معنى المعصوم ؟ فقال : « هو المعتصم ... » .

(٤) معاني الأخبار : ١٣٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٠.

(٥) تفسير الرازي ٢٠ : ١٦٢.

(٦) مصباح الشريعة : ١٣٢ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨١.

٢٩

عندك فأمطر علينا حجارة ، فضربت عنقه بدعائه ، والقائلون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : آتنا بعذاب الله ، أو متى هذا الوعد إن كنت من الصادقين ؟ (١)

وقيل : هو الذي يلعن نفسه وأهله وولده عند الغضب (٢) .

وروت العامة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا ، فأقبل يئنّ بالليل ، فقالت له سودة: مالك تئنّ ؟ فشكا ألم القيد ، فأرخت له من كتافه ، فلمّا نامت أخرج يده وهرب ، فلمّا أصبح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا به ، فاعلم بشأنه ، فقال : « اللهمّ اقطع يدها » ، فرفعت سودة يدها تتوقّع أن يقطع الله يدها بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال النبيّ : « إنّي سألت الله أن يجعل دعائي على من لا يستحقّ عذابا من أهلي رحمة ، لأنّي بشر أغضب كما تغضبون ، فلتردّ سودة يدها » (٣) . هذا ما رواه بعض المفسرين ، وفيه ما لا يخفى من منافاته لغاية حلمه وعصمته.

وقيل : إنّ المراد بالانسان العجول هو آدم (٤) . روى بعض العامة أنّه لمّا انتهت الروح إلى سرّة آدم ، نظر إلى جسده فأعجبه ، فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قوله : ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً(٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « قال : لمّا خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه ، وثب ليقوم قبل أن يستتمّ خلقه فسقط ، فقال الله عزوجل : ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً(٦) .

﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا

 فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ

 تَفْصِيلاً (١٢)

ثمّ لمّا مدح الله التوراة والقرآن بكونهما هدى شبّههما في تعاقبهما وأفضلية القرآن على التوراة وأنفعيته منها ، وكونه ناسخا لها بالليل والنهار ، بقوله : ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ﴾ بسبب تعاقبهما واختلافهما طولا وقصرا ﴿آيَتَيْنِ﴾ ودليلين على وجود الصانع القادر الحكيم للعالم ، يهتدي المتأمّل فيهما إلى معارف الله وكمال قدرته وحكمته ، فكأنّه سبحانه قال : جعلنا التوراة والقرآن آيتين على الحقّ والصواب ، ثمّ نسخنا التوراة بالقرآن الذي هو أفضل وأنفع ، كما جعلنا الليل والنهار آيتين على وجود الصانع الواحد القديم ﴿فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ وأذهبناها بضوء النهار ، كما نسخنا التوراة بنزول القرآن الذي هو كضوء النهار ﴿وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً﴾ ومضيئة يرى بضوئها كلّ شيء

__________________

( ١ و٢ و٣ ) تفسير الرازي ٢٠ : ١٦٢.

(٤ و٥) تفسير الرازي ٢٠ : ١٦٣.

(٦) تفسير العياشي ٣ : ٤٠ / ٢٤٧١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨١.

٣٠

﴿لِتَبْتَغُوا﴾ وتطلبوا في ضوئها ﴿فَضْلاً﴾ ورزقا مقدّرا ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ بمقتضى ربوبيته لكم ﴿وَلِتَعْلَمُوا﴾ بتعاقبهما ﴿عَدَدَ السِّنِينَ﴾ المتوقّف عليه صلاحكم ﴿وَالْحِسابَ﴾ الراجع إلى الدقائق والساعات والأيام والشهور ، كما جعل القرآن مبصرا ، يرى بنوره كلّ ما تحتاجون إليه من مصالح الدين والدنيا ، لتبتغوا فضلا كثيرا من ربّكم في الدنيا والآخرة ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ ممّا تحتاجون إليه في المعاش والمعاد ﴿فَصَّلْناهُ﴾ وبيّناه في القرآن ﴿تَفْصِيلاً﴾ وأضحا وتبيينا بليغا وافيا.

وقيل : إنّ وجه النّظم أنّ هذا القرآن سبب هداية جميع الناس إلى أحسن الأديان ، وكان التوحيد من أهمّ العقائد ، شرع في الاستدلال عليه بقوله : ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ﴾ الآية.

وقيل : إن الوجه أنه تعالى بعد ذكر منّته على الخلق بإعطائهم نعمة القرآن الذي هو أتمّ النعم الدينية ، ذكر منّته عليهم بإعطائهم النعمة العظيمة الدنيوية ، وهي اختلاف الليل والنهار ، لتشابه النّعمتين ، أو أنّ القرآن كما هو مركّب من المحكم والمتشابه ، كذلك الدهر مركّب من الليل والنهار ، فالمتشابه هو الليل ، والمحكم هو النهار ، وكما أنّ الغرض من التكليف لا يتمّ إلّا بوجود المحكم والمتشابه ، كذلك الانتفاع بالوقت والزمان لا يكمل إلّا بوجود الليل والنهار (١) .

وقيل : إنّ المراد بآية الليل القمر ، وبآية النهار الشمس ، ومحو القمر انتقاصه قليلا قليلا إلى المحاق (٢) .

وقيل : محوه : الكلف : الذي يظهر في وجهه (٣) . روت العامة أنّ الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء ، فأرسل الله جبرئيل فأمرّ جناحه على وجه القمر ، فطمس عنه الضوء (٤) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في ( النهج ) : « وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها ، وقمرها آية ممحوّة من ليلها ، وأجراهما وقدّر مسيرهما في تدرّج مدرجهما (٥) ، ليميّز بين الليل والنهار بهما ، وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما » (٦) .

وفي ( العلل ) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل : ما بال الشمس والقمر لا يستويان في الضوء والنور ؟ قال : « لمّا خلقهما الله عزوجل أطاعا ولم يعصيا شيئا ، فأمر الله جبرئيل أن يمحو ضوء القمر ، فمحاه فأثر المحو في القمر خطوطا سوداء ، ولو أنّ القمر ترك على حاله بمنزلة الشمس ولم يمح ، لما عرف الليل من النهار ، ولا النهار من الليل ، ولا علم الصائم كم يصوم ، ولا عرف الناس عدد السنين ، وذلك

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٦٣.

( ٢-٤ ) تفسير الرازي ٢٠ : ١٦٤.

(٥) في المصدر : وأجراهما في مناقل مجراهما ، وقدر سيرهما في مدارج درجهما.

(٦) نهج البلاغة : ١٢٨ - الخطبة ٩١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨١.

٣١

قول الله تعالى : ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ﴾ الآية » (١) .

وعن ( الاحتجاج ) : قال ابن الكوّاء لأمير المؤمنين عليه‌السلام : أخبرني عن المحو الذي يكون في القمر. فقال : « الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، رجل أعمى يسأل عن مسألة عمياء ! أما سمعت الله يقول : ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لمّا خلق الله القمر كتب عليه : لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، عليّ أمير المؤمنين ، وهو السواد الذي ترونه » (٣) .

﴿وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً

* اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٣) و (١٤)

ثمّ وصف الله القرآن بكونه هاديا للملّة الأقوم ، ونهارا مبصرا ومفصّلا لكلّ شيء ومتمّما للحجّة ، هدّد المخالفين له بقوله : ﴿وَكُلَ﴾ فرد من أفراد ﴿إِنسانٍ﴾ مكلّف من العرب والعجم والأسود والأحمر ﴿أَلْزَمْناهُ﴾ وقلّدناه ﴿طائِرَهُ﴾ وعمله ، خيرا أو شرّا ﴿فِي عُنُقِهِ﴾ فان كان خيرا يكون له زينة ، وإن كان شرا كان غلّا وشينا على رقبته.

عن الباقر عليه‌السلام : « خيره وشرّه معه حيث كان لا يستطيع فراقه » (٤) .

﴿وَنُخْرِجُ لَهُ﴾ من قبره ، أو نظهر له من ستر الخفاء ومن مكتب الآخرة ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ ووقت المحاسبة ﴿كِتاباً﴾ مسطورا فيه عمله من النّقير والقطمير بيد الرقيب والعتيد وهو ﴿يَلْقاهُ﴾ ويجده ﴿مَنْشُوراً﴾ ومبسوطا ، وحينئذ يقول الله بلسان الملائكة : يا فلان ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ.

قيل : إنّ الكافر يقول : يا ربّ إنك [ قضيت أنك ] لست بظلام للعبيد ، فاجعلني احاسب نفسي. فيقال له : ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً(٥) ومحاسبا.

وقال بعض العامة : إنّ الكتاب هي النفس التي انتقشت فيها الأحوال والأعمال الدنيوية والاخروية ، فما دامت الروح مشغولة بتدبير البدن ، كانت تلك الآثار مخفية عنها ، فكأنه كان ذلك الكتاب مطويا ، فبعد انقطاع علاقة الروح من الجسد ، وقيامها من مكانها ، وصعودها إلى العالم العلوي ، تشاهد القوة العاقلة تلك الآثار المكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح والنفس ، فكأنّ الكتاب صار منشورا بعد ما كان مطويا ، فقال للانسان في تلك الحالة : ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ(٦) .

__________________

(١) علل الشرائع : ٤٧٠ / ٣٣ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨١.

(٢) الاحتجاج : ٢٦٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨١.

(٣) الاحتجاج : ١٥٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨١.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٢.

(٥) تفسير الرازي ٢٠ : ١٦٩.

(٦) تفسير الرازي ٢٠ : ١٧٠.

٣٢

أقول : لا مجال للشكّ في ما دلّت عليه الآيات والروايات من وجود كتاب مكتوب فيه الأعمال يؤتى كّل نفس من المؤمن والفاسق يوم القيامة بيمينها أو شمالها ، ويقول : ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ولا منافاة بينها وبين وجود الكتاب النفساني الذي ذكر ، فيجب الالتزام بظاهر الآية وتفسيرها بما كتبه الملكان.

عن الصادق عليه‌السلام ، في هذه الآية ، قال : « يذكّر العبد جميع ما عمل وكتب (١) عليه حتى كأنّه فعله تلك الساعة ، فلذلك قالوا : ﴿يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ﴾ الآية » (٢) .

﴿مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ

 أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم انفكاك الانسان عن عمله ، بيّن اختصاص نتائجه بعامله بقوله : ﴿مَنِ اهْتَدى﴾ إلى الحقّ والصواب بهداية القرآن وعمل بما فيه ﴿فَإِنَّما يَهْتَدِي﴾ ويكون نفع هدايته وعمله ﴿لِنَفْسِهِ﴾ وعائدا إلى شخصه لا يتعدّى إلى غيره ﴿وَمَنْ ضَلَ﴾ عن الحقّ وانحرف عن طريق الصواب ، ولم يؤمن بالقرآن ، ولم يعمل بأحكامه ﴿فَإِنَّما يَضِلُ﴾ وضرر ضلاله ﴿عَلَيْها﴾ وتبعاته راجعة إليها لا تتجاوز إلى غيرها ، ثمّ قرر ذلك بقوله : ﴿وَلا تَزِرُ﴾ ولا تحمل نفس ﴿وازِرَةٌ﴾ وحاملة للوزر والثقل أو للإثم ﴿وِزْرَ﴾ نفس ﴿أُخْرى﴾ وإثمها كي تتخلّص النفس الاخرى من الإثم ، أو يخفّف عنها ، وحاصل المراد عدم مؤاخذة أحد بذنب غيره.

ثمّ أنّه تعالى بعد نفي الظلم عن نفسه بأحد بذنب غيره ، أثبت لنفسه اللّطف بعباده بقوله : ﴿وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾ أحدا من الناس ، وما صحّ لنا بمقتضى اللطف عقوبة أحد منهم ﴿حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ من البشر يبلّغهم أحكامنا ويبيّن لهم تكاليفنا.

واعلم أنّ هذا التفسير مبنيّ على القول بصحة العقوبة على مخالفة الأحكام العقلية ، إلّا أنّ مقتضى اللطف تأييدها بالأحكام الشرعية ، كما ذهب إليه بعض.

وأما إذا قلنا بترتّب العقوبة على مخالفة الأحكام العقلية ، فلا بدّ إما من القول بكون المراد من الرسول في الآية مطلق البيان ، سواء كان بتوسّط الرسول الظاهر أو الرسول الباطن ، وإنّما عبّر [ عن ] مطلق البيان ببعث الرسول لأنّ الغالب تحقّق البيان به ، أو المراد من الرسول مطلقه سواء أكان عقلا أو

__________________

(١) في مجمع البيان : جميع أعماله وما كتب.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٤١ / ٢٤٧٧ ، مجمع البيان ٦ : ٦٢٢ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٢ ، والآية من سورة الكهف : ١٨ / ٤٩.

٣٣

بشرا ، أو خصوص الرسول الظاهر ، وتخصيص عموم النفي بالأدلة الدالة على حجيّة الأحكام العقلية بما إذا لم يحكم العقل بالوجوب أو الحرمة. وعلى هذه الوجوه الثلاثة يكون مدلول الآية نفي الظلم عن ذاته المقدسة ، وقبح العقاب بلا بيان ، فيكون دليلا على البراءة عند الشكّ في التكليف وعدم وجدان الحجّة عليه.

وما قيل : من أنّ المراد بالعذاب في الآية العذاب الدنيوي ، والمقصود من قاعدة البراءة نفي العذاب مطلقا دنيويا كان أم اخرويا ، ونفي العذاب الدنيوي لا يدلّ على نفي العذاب الاخروي منه إلّا بالفحوى ، وهو ممنوع. فيه : أن قوله تعالى : ﴿ما كُنَّا﴾ دالّ على تنزيه ذاته المقدسة من ارتكاب هذا الفعل لقبحه وعدم لياقته بمقام حكمته والوهيته ، ولا يتفاوت في ذلك بين كون العذاب دنيويا أو اخرويا.

ثمّ لا يخفى أنّ نفي العذاب إلى الغاية لا يدلّ على وقوعه بعدها وإن لم يتحقّق عصيان كما توهّم ، بل الظاهر أنّه بيان كون البعث من شرائط صحة العذاب إذا وجد مقتضية وارتفعت موانعه من التوبة والشفاعة وأمثالهما.

﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ

 فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ

 عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٦) و (١٧)

ثمّ بيّن الله أنّ العذاب الدنيوي لا يكون إلّا بعد كمال الاستحقاق بالطغيان بقوله : ﴿وَإِذا أَرَدْنا﴾ وعزمنا على ﴿أَنْ نُهْلِكَ﴾ ونعدم ﴿قَرْيَةً﴾ من القرى ونعذّب أهلها بعذاب الاستئصال ، لخبث ذاتهم وسوء أخلاقهم ﴿أَمَرْنا﴾ بتوسط الرسول ﴿مُتْرَفِيها﴾ وجبابرتها والمتنعّمين من أهلها ورؤوسها المتّبعين فيهم بالطاعة والتسليم لأحكامنا.

وقيل : إنّ المراد أكثرنا مترفيها وفسّاقها وطغاتها (١) ، أو المراد : إذا أردنا أن نهلك قرية بسبب عصيان أهلها ، لا نعاجلهم بالعقوبة ، بل أمرناهم بالرجوع عن العصيان والتوبة عن السيئات (٢) ، أو المراد من الأمر تسبيب أسباب الفسق من توفير النعم وتهيئة المرغّبات إلى العصيان وما يفضيهم إليه (٣) .

﴿فَفَسَقُوا﴾ وتمرّدوا وخرجوا عن طاعتنا ﴿فِيها﴾ وتبعهم سائر أهلها ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ وثبتت

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٧٥.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ١٧٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ١٧٥ ، ١٧٦.

٣٤

عليهم كلمة العذاب بسبب كمال استحقاقهم له ﴿فَدَمَّرْناها﴾ وأفنينا أهلها ودورها ، ومحونا آثارها بالعذاب ﴿تَدْمِيراً﴾ وفناء عجيبا بديعا.

ثم بيّن سبحانه أنّ عادته من أول الخلقة أخذ المتمردين بالعذاب بقوله : ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنا﴾ وكثيرا ما عذّبنا ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ والامم المتمرّدة ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ عصر ﴿نُوحٍ﴾ وإهلاك امّته بالطّوفان كعاد وثمود وقوم لوط وأضرابهم ، وإنّما خصّ إكثار العذاب بمن بعد نوح ؛ لأنّه أوّل نبي بالغ قومه في تكذيبه.

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار قدرته على التعذيب ، بيّن كمال علمه بالمعاصي الباطنية والظاهرية بقوله : ﴿وَكَفى﴾ يا محمّد ﴿بِرَبِّكَ﴾ اللطيف بك ﴿بِذُنُوبِ عِبادِهِ﴾ الخفية والجلية والباطنية والظاهرية ﴿خَبِيراً بَصِيراً﴾ فيعاقب عليها ، فليحذر مكذّبوك من المشركين وأهل الكتاب من أن يبتلوا بمثل ما ابتلي به الامم الماضية المهلكة بتكذيبهم الرسل.

﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ

 يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ

 فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ

 عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ

 دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (١٨) و (٢١)

ثمّ لما هدّد الله الكفار بالعذاب ، وكان كثير منهم متنعّمين في الدنيا مستدلّين بتنعّمهم على كرامتهم على الله ، ردّهم سبحانه بقوله : ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ﴾ النّعم ﴿الْعاجِلَةَ﴾ واللّذات الدنيوية السريعة الزوال بأعماله الحسنة كإعانة الضعفاء وإغاثة الملهوفين ونظائرهما ﴿عَجَّلْنا لَهُ﴾ في إعطاء النعم الدنيوية ، وأسرعنا ﴿فِيها﴾ ولكن لا نعطي الكلّ للكلّ ، بل نعطي ﴿ما نَشاءُ﴾ إعطاءه منها ﴿لِمَنْ نُرِيدُ﴾ أن نعطيه منها ، فلا يفوز كلّهم بكلّ مطالبهم ، بل كثير منهم محرومون عن الدنيا ، فمن فاز منهم بها أخذناها منه سريعا ﴿ثُمَّ جَعَلْنا﴾ بدل النعم التي عجّلناها ﴿لَهُ جَهَنَّمَ﴾ وفنون العذاب الذي فيها.

ثمّ إن كان أشدّ العذاب هو الآلام المقرونة بالذلّ والبعد ، بيّن غاية ذلّ الكافر المتنعّم المتكبّر وبعده بقوله : ﴿يَصْلاها﴾ ذلك المترف المتكبّر ، ويدخلها حال كونه ﴿مَذْمُوماً﴾ ومهانا باللوم و﴿مَدْحُوراً﴾ ومطرودا من ساحة رحمة الله.

ثمّ قيل : إنّ هذه الآية تقرير لقوله : ﴿وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ(١) والمقصود أنّ من يريد

__________________

(١) الإسراء : ١٧ / ١٣.

٣٥

بعمله الدنيا والرئاسة ويستنكف من طاعة الأنبياء تكبّرا وخوفا من زوال رئاسته ، جعل طائره شؤما (١) سائقا له إلى أشدّ العذاب ﴿وَمَنْ أَرادَ﴾ بعمله ﴿الْآخِرَةَ﴾ وثوابها الدائم ﴿وَسَعى لَها﴾ في مدّة عمره ﴿سَعْيَها﴾ الائق بها ، واجتهد في الأعمال المفيدة فيها من أداء الواجبات الالهية وترك المحرّمات الاسلامية بنيّة التقرّب إلى الله ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ بالله ورسوله إيمانا لا شرك معه ولا تكذيب ﴿فَأُولئِكَ﴾ المؤمنون العاملون المخلصون ﴿كانَ سَعْيُهُمْ﴾ وجهدهم في طاعة الله ﴿مَشْكُوراً﴾ ومثابا عليه عند الله.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أراد الآخرة فليترك زينة الحياة الدنيا » (٢) .

﴿كُلًّا﴾ من الفريقين : المريدين للدنيا ، والمريدين للآخرة ﴿نُمِدُّ﴾ هم ونزيدهم من النّعم سواء ﴿هؤُلاءِ﴾ المعجّل لهم ﴿وَهَؤُلاءِ﴾ المشكورون سعيهم ، ونوسّع في أرزاقهم ونكثّر أموالهم وأولادهم بالقدر الذي يقتضيه الصلاح ، وإنّما يكون ذلك الامداد والزيادة ﴿مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ﴾ وفضله الذي لا تناهي له حسب ما اقتضته الحكمة البالغة ﴿وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ﴾ وتفضّله على عباده بالنعم الدنيوية والاخروية ﴿مَحْظُوراً﴾ وممنوعا عن أحد من قبله ، وإنما يمنع العصاة النّعم الاخروية عن أنفسهم بعصيانهم وسوء اختيارهم.

﴿انْظُرْ﴾ يا محمّد ، أو أيّها الناطر بنظر الاعتبار الى الفريقين ، إنّا ﴿كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ﴾ في الأمداد والعطايا الدنيوية ، فترى مؤّمنا موسرا ومؤمنا معسرا ، ومؤمنا مالكا ومؤمنا مملوكا ، وكذلك الكفّار ، فاذا كان مراتب التفاضل في متاع الدنيا وحظوظها بهذه الكثرة التي تكون فوق حدّ الإحصاء ، وتفاوت درجات الخلق فيه أكثر من أن تدرى ، فكيف بدرجات الآخرة ؟ ﴿وَ﴾ والله ﴿لَلْآخِرَةُ﴾ ونعمها وحظوظها ﴿أَكْبَرُ دَرَجاتٍ﴾ من الدنيا ﴿وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ وأعظم تفاوتا ، فانّ نسبة عظم درجاتها وكثرة تفاضلها وتفاوتها إلى درجات الدنيا والتفاضّل فيها ، كنسبة الدنيا والآخرة ، فمن كان راغبا في فضيلة الدنيا وعلوّ الدرجة فيها ، فلتكن رغبته في تحصيل فضيلة الآخرة وعلوّ الدرجة أزيد وأكثر.

روي أنّ ما بين أعلى درجات الجنّة وأسفلها مثل ما بين السماء والأرض (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لا تقولنّ الجنة واحدة ، إنّ الله يقول : ﴿وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ(٤) ولا تقولن درجة واحدة ، إنّ الله يقول : ( درجات بعضها فوق بعض ) إنّما تفاضل القوم بالأعمال » .

قيل له : إنّ المؤمنين يدخلان الجنّة ، فيكون أحدهما أرفع مكانا من الآخر ، فيشتهي أن يلقى

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٧٨.

(٢) روضة الواعظين : ٤٣٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٣.

(٣) مجمع البيان ٦ : ٦٢٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٤.

(٤) الرحمن : ٥٥ / ٦٢.

٣٦

صاحبه ؟ قال : « من كان فوقه فله أن يهبط ، و[ من ] كان تحته لم يكن له أن يصعد ؛ لأنّه لم يبلغ ذلك المكان ، ولكنّهم إذا أحبّوا ذلك واستهووه التقوا على الأسرّة » (١) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنما يرتفع العباد غدا في الدرجات ، وينالون الزّلفى من ربّهم على قدر عقولهم» (٢) .

وعن ابن عبّاس : يرفع درجة العالم فوق المؤمن بسبعمائة درجة بين كلّ درجتين ، كما بين السماء والأرض (٣) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أن في الجنة مدينة من نور ، لم ينظر إليها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، جميع ما فيها من القصور والغرف والأزواج والخدم من النور ، أعدّها الله للعاقلين ، فاذا ميّز الله أهل الجنّة من أهل النار ، ميّز أهل العقل فجعلهم في تلك المدينة ، فيجزي كلّ قوم على قدر عقولهم ، فيتفاوتون في الدرجات ، كما بين المشارق والمغارب بألف ضعف » (٤) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أن في الجنة درجة لا ينالها إلّا أصحاب الهموم » (٥) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ في الجنّة درجة لا ينالها إلّا ثلاثة أقسام : عادل ، وذو رحم واصل ، وذو عيال صبور » فقال [ علي عليه‌السلام : « ما صبر ذي العيال ؟ » قال : ] « لا يمنّ على أهله ما ينفق عليهم»(٦).

﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)

ثمّ لمّا بين الله سبحانه أنّ شرط فائدة الأعمال في الآخرة هو الإيمان ، بيّن أنّ أهمّ ما يجب الإيمان به التوحيد بقوله مخاطبا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله لاظهار غاية الاهتمام به : ﴿لا تَجْعَلْ﴾ ولا تختر يا محمّد بهوى نفسك ، أو لا تعتقد أنّ ﴿مَعَ اللهِ﴾ الواجب الوجود ﴿إِلهاً آخَرَ﴾ مشاركا في الالوهية والعبادة ﴿فَتَقْعُدَ﴾ وتصير ، أو تمكث في العالم ، أو في جهنّم حال كونك ﴿مَذْمُوماً﴾ وملاما عند العارفين بالله من العقلاء والمؤمنين والأنبياء والملائكة و﴿مَخْذُولاً﴾ عند الله ، ممنوعا عنك ألطافه ، فلا ينصرك أحد بدفع العذاب عنك ، وإنّما عبّر سبحانه عن الصيرورة أو المكث بالقعود ؛ لأنّ فيه معنى الذلّ والهوان والعجز ، أو لأنّ من شأن المذموم المخذول أن يقعد في ناحية متفكّرا نادما على ما فرّط ، أو لأنّ من لا يقدر على طلب خير يقعد آيسا منه.

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ١٥٥ / ٦١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٤.

(٢) تفسير الصافي ٣ : ١٨٤.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٤٥.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ١٤٥.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ١٤٦.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ١٤٦.

٣٧

﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ

 أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً *

وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي

 صَغِيراً (٢٣) و (٢٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن اعتقاد الوهية غيره ، أمر بتخصيص العبادة به بقوله : ﴿وَقَضى رَبُّكَ﴾ وحكم حكما بتيّا ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾ أيّها الناس شيئا ﴿إِلَّا إِيَّاهُ﴾ لاختصاص استحقاق العبادة به ذاتا ونعمة ﴿وَ﴾ بأن تحسنوا ﴿بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً﴾ كاملا لكونهما بعد الله سبحانه أعظم إحسانا إليكم ، وأكثر حقّا عليكم ، حيث إنّهما من مبادئ وجودكم ، ومتكفّل تربيتكم وحفظكم ومعاشكم بلا توقّع عوض منكم.

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالاحسان إليهما ، نهى عن الإساءة إليهما بقوله : ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَ﴾ وإن يصلن ﴿عِنْدَكَ﴾ وفي كنفك وكفالتك ﴿الْكِبَرَ﴾ في السّنّ والضّعف في القوى الموجبين لضيق صدرهما وثقل مؤنتهما وكثرة زحماتهما ﴿أَحَدُهُما﴾ أبا أم أمّا ﴿أَوْ كِلاهُما﴾ وإن أضجراك بما تستقذر منهما وتشتغل من مؤنتهما وخدمتهما ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما﴾ في حال الاجتماع ، أو لأحدهما حال الانفراد ﴿أُفٍ﴾ ولا تظهر عندهما الانضجار من نفسك.

عن الصادق عليه‌السلام : « إن أضجراك فلا تقل لهما أفّ » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « لو علم الله شيئا أدنى من الافّ لنهى عنه ، وهو من أدنى العقوق » (٢) .

قيل : يعني لا تتقذّر منهما شيئا ، كما لم يتقذّرا منك حين كنت تخرأ وتبول في حجرهما (٣) .

وقال مجاهد : يعني إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أفّ (٤) .

﴿وَلا تَنْهَرْهُما﴾ ولا تضجر قلوبهما بكلمة غير ملائمة لطبعهما من ردّ أو تكذيب. عن الصادق عليه‌السلام : « ولا تنهرهما ، إن ضرباك » (٥) .

وقيل : إنّ المعنى لا تنههما من شيء أراداه (٦) .

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن استقبالهما بكلمة مؤذية لهما ، أمر بأن يواجههما بالكلام الطيب بقوله :

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٤٢ / ٢٤٨٣ ، الكافي ٢ : ١٢٦ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٥.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٤٢ / ٢٤٨٢ ، الكافي ٢ : ٢٦١ / ٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ١٨٩.

(٤) تفسير الرازي ٢٠ : ١٨٩.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ٤٢ / ٢٤٨٣ ، الكافي ٢ : ١٢٦ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٥.

(٦) مجمع البيان ٦ : ٦٣١ ، جوامع الجامع : ٢٥٤ ، وفيهما : لا تمتنع من شيء أراداه منك.

٣٨

﴿وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً﴾ وكلاما حسنا جميلا.

سئل [ سعيد ] بن المسيب عن القول الكريم فقال : « هو قول العبد المذنب للسيد الفظّ » .

وعن عطاء : هو أن تتكلّم معهما ، ولا ترفع عليهما صوتك ، ولا تشدّ إليهما نظرك (١) .

ثمّ بعد الأمر بتكريمهما قولا ، أمر سبحانه بالتواضع لهما في الفعل بقوله : ﴿وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ﴾ وأظهر لهما غاية التواضع ﴿مِنَ﴾ فرط ﴿الرَّحْمَةِ﴾ عليهما ، والرأفة بهما ، لافتقارهما إليك بعد ما كنت أفقر الخلق إليهما.

عن ابن عبّاس : كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل الضعيف للسيد الفظّ الغليظ (٢) .

قيل : ينظر إليهما بنظر المحبّة [ والشّفقة ] والترحّم (٣) .

وفي الحديث : « ما من ولد ينظر إلى الوالد وإلى والدته نظر رحمة إلّا كان له بها حجّة وعمرة » . قيل : وإن نظر في اليوم ألف مرّة ؟ قال : « نعم ، وإن نظر في اليوم مائة ألف » (٤) .

عن الصادق عليه‌السلام : « لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برحمة ورقّة ، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ، ولا يديك فوق أيديهما ، ولا تقدّم قدّامهما » (٥) .

وعنه عليه‌السلام : « من العقوق أن ينظر الرجل [ إلى ] والديه ، فيحدّ النظر إليهما » (٦) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « سأل رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما حقّ الوالد على ولده ؟ قال : لا يسمّيه باسمه ، ولا يمشي بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسبّ له » (٧) .

وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « رغم أنفه » ثلاث مرات ، قالوا : من يا رسول الله ؟ قال : « من أدرك أبويه عند الكبر - أحدهما أو كلاهما - ولم يدخل الجنّة » (٨) .

ثمّ أضاف سبحانه إلى ما ذكر الأمر بالدعاء لهما بقوله : ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما﴾ واشمل رحمتك الواسعة لهما في الدنيا والآخرة ﴿كَما﴾ رحماني و﴿رَبَّيانِي﴾ حين كنت ﴿صَغِيراً.

روي أنّ رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أبويّ بلغا من الكبر أنّي ألي منهما ما وليا مّني في الصغر ، فهل قضيت حقّهما ؟ قال : « لا ، فانّهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبّان بقاءك ، وأنت تفعل ذلك وأنت

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٩٠.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ١٤٧.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٤٨.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ١٤٨.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ٤٣ / ٢٤٨٣ ، الكافي ٢ : ١٢٦ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٥.

(٦) الكافي ٢ : ٢٦١ / ٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٥.

(٧) الكافي ٢ : ١٢٧ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٥ ، واستسبّ له : عرّضه للسبّ ، يقال : استسبّ لأبيه : إذا سبّ أبا غيره فجلب بذلك السبّ إلى أبيه.

(٨) جوامع الجامع : ٢٥٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٥.

٣٩

تريد موتهما » (١) .

﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً *

وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٥) و (٢٦)

ثمّ أنّه تعالى بعد الامر بإخلاص العبادة وعدم التضجّر من الوالدين ، حذّر الناس من المخالفة بقوله : ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ﴾ منكم ﴿بِما فِي نُفُوسِكُمْ﴾ وضمائركم من الاخلاص في العبادة وعدمه ، والتضجّر من الوالدين وعدمه.

ثمّ رغّبهم في تزكية أنفسهم بقوله : ﴿إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ﴾ ومنزّهين عن رذائل الأخلاق وسيئات الأعمال ، تكونوا من الأوابين والراجعين إلى الله في ما فرط منكم من خطور غير الله في قلوبكم ، أو صدور أذيّة قولية أو عملية منكم ، والتائبين إليه من زلاتكم ، واعلموا أنّ الله يغفر لكم ﴿فَإِنَّهُ﴾ تعالى ﴿كانَ لِلْأَوَّابِينَ﴾ والتائبين - كما عن الصادق عليه‌السلام (٢) - ﴿غَفُوراً﴾ لا يؤاخذهم بما صدر منهم من الهفوات والزلّات التي لا يخلو منها البشر ،

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من حقوق الوالدين ، بيّن حقّ الأرحام وغيرهم من الناس بقوله : ﴿وَآتِ﴾ يا محمّد ﴿ذَا الْقُرْبى﴾ وصاحب الرّحم ﴿حَقَّهُ﴾ المقرّر من الله. قيل : هو النفقة إذا كانوا فقراء (٣) . وقيل : هو المودّة والزيارة وحسن العشرة والمساعدة في حوائجهم (٤) .

﴿وَ﴾ آت ﴿الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ حقّهم. عن الصادق عليه‌السلام : « لمّا أنزل الله ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ﴾ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل ، [ قد ] عرفت المسكين ، فمن ذو القربى ؟ قال : هم أقاربك ، فدعا حسنا وحسينا وفاطمة ، فقال : إنّ ربّي أمرني أن أعطيكم مّما أفاء عليّ. قال : أعطيتكم فدك » (٥) .

وعن السجاد عليه‌السلام : أنّه قال لبعض الشاميين : « أما قرأت هذه الآية ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ؟ ﴾ قال : نعم. قال : « فنحن اولئك الذين أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعطيهم حقّهم » (٦) .

وعن الرضا عليه‌السلام - في حديث له مع المأمون - : « والآية الخامسة : ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ﴾ خصوصية خصّهم الله صلى‌الله‌عليه‌وآله العزيز الجبار بها ، واصطفاهم على الامّة ، فلمّا نزلت هذه الآية على رسول

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ١٤٨.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٤٤ / ٢٤٨٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٦.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٥٠.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ١٥٠.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ٤٥ / ٢٤٩٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٧.

(٦) الاحتجاج : ٣٠٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٧.

٤٠