نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

للأبعدين الأجهلين ، اللذين عبد الصّنم في أكثر عمرهما ، وكانا يتعلّمان من كعب الأخبار وأبي هريرة وأضرابهما ، وكانت النساء أفقه منهما (١) ، إلى غير ذلك من مثالبهما ، ثمّ كيف كان أبو بكر معينا له في التبليغ مع عدم أهليّته لتبليغ براءة ؟

ثمّ ﴿قالَ﴾ الله إجابة لدعائه : ﴿قَدْ أُوتِيتَ﴾ واعطيت من قبلنا ﴿سُؤْلَكَ﴾ ومطلوبك ﴿يا مُوسى﴾ قيل : أزال الله لكنة لسانه بالكليّة (٢) ، وقيل : أزال أكثرها (٣) ، وجعل له هارون وزيرا ، وكان أكبر سنّا وأفصح لسانا منه.

﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى * إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي

 التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ

 وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٧) و (٣٩)

ثمّ قوّى سبحانه قلبه وهيّجه على القيام بوظيفته بقوله : ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا﴾ وأنعمنا ﴿عَلَيْكَ﴾ لطفا وتفضّلا بالنعم الكثيرة ﴿مَرَّةً أُخْرى﴾ في بدو ولادتك ﴿إِذْ أَوْحَيْنا﴾ بعد ولادتك ﴿إِلى أُمِّكَ﴾ وألهمناها ، أو قلنا لها في الرؤيا ، أو بتوسّط الملك الذي تمثّل لها كما تمثّل لمريم ﴿ما﴾ يجب أن ﴿يُوحى﴾ وينبّه من الأمر العظيم اللازم الوقوع ، أو ما لا يمكن أن تعلم به إلّا بالوحي ، وهو أنّه لمّا خافت امّك عليك من فرعون ، أوحينا إليها ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ﴾ وضعيه ﴿فِي التَّابُوتِ﴾ والصّندوق ﴿فَاقْذِفِيهِ﴾ وألقيه مع التّابوت ﴿فِي الْيَمِ﴾ ونهر النّيل ﴿فَلْيُلْقِهِ﴾ بعد ذلك ﴿الْيَمِ﴾ والنهر بموجه ﴿بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ﴾ عند ذلك فرعون الذي هو ﴿عَدُوٌّ لِي﴾ لكفره وطغيانه ﴿وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ لكونه من الخوف منه بصدد قتله.

روي أنّ امّ موسى جعلت في التابوت قطنا ، ووضعت موسى فيه ، ثمّ أحكمته بالقير لئلّا يدخل فيه الماء ، وألقته في اليمّ ، وكان يدخل منه إلى بستان فرعون نهر ، فدفعه الماء إليه ، فأتى به إلى بركة في البستان ، وكان فرعون جالسا ثمّة مع آسية بنت مزاحم ، فأمر به فاخرج ، ففتح فإذا هو صبيّ أصبح الناس وجها ، وسمّاه موسى لمّا وجده في الماء عند الشجرة ، فإنّ كلمة ( مو ) على ما قيل بالقبطيّة الماء ، وكلمة ( سا ) هو الشجر (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ موسى عليه‌السلام لمّا حملته امّه لم يظهر حملها إلّا عند وضعه ، وكان فرعون قد

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ١٨٢ ، و١٢ : ٢٠٨ ، و١٧ : ١٧١.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢٢ : ٤٨.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٣.

٢٢١

وكّل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط تحفظهنّ ، وذلك لمّا كان بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون إنّه يولد فينا رجل يقال له موسى يكون هلاك فرعون وأصحابه على يديه ، فقال فرعون عند ذلك : لأقتلنّ ذكور أولادهم حتّى لا يكون ما يريدون ، وفرّق بين الرجال والنساء ، وحبس الرجال في المحابس ، فلمّا وضعت امّ موسى بموسى نظرت إليه فحزنت واغتمّت وبكت ، وقالت : يذبح الساعة ، فعطف الله قلب الموكّلة بها عليه ، فقالت لامّه : مالك قد اصفر لونك ؟ قالت : أخاف أن يذبح ولدي ، قالت : لا تخافي ، وكان موسى لا يراه أحد إلّا أحبّه » .

إلى أن قال : « وأنزل الله على امّ موسى التابوت ، ونوديت : ضعيه ﴿فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ﴾ وهو البحر ﴿وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(١) فوضعته في التابوت ، وأطبقت عليه ، وألقته في النيل ، وكان لفرعون قصور على شطّ النّيل متنزّهات ، فنظر من قصره - ومعه آسية امرأته - إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج والرّياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصر فرعون ، فأمر فرعون بأخذه ، فاخذ التابوت ورفع إليه ، فلما فتحه وجد فيه صبيّا فقال : هذا إسرائيلي » (٢) . قيل :

كما أنجاه الله من البحر في الابتداء ، أنجاه منه في الانتهاء بغرق فرعون (٣) .

ثمّ ذكر منتّه الاخرى بقوله : ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً﴾ عظيمة كائنة ﴿مِنِّي﴾ وبقدرتي ، قد زرعتها في القلوب ، ليتعطّف عليك كلّ من نظر إليك ﴿وَلِتُصْنَعَ﴾ وتربّى حال كونك ﴿عَلى عَيْنِي﴾ وحفظي وحراستي ، أو على علمي بحالك.

روي أنّه كان على وجهه مسحة جمال ، وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « كان موسى لا يراه أحدا إلّا أحبّه ، وهو قوله : ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ فأحّبته القبطيّة الموكلة به » إلى أن قال : « فألقى الله في قلب فرعون لموسى محبة شديدة ، وكذلك في قلب آسية ، وأراد فرعون قتله فقالت آسية : ﴿لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(٥) أنّه موسى ، ولم يكن لفرعون ولد فقال : أن آتوا له ظئرا (٦) لتربيته ، فجاءوا بعدّة نساء قد قتل أولادهنّ فلم يشرب لبن أحد من النساء ، وهو قوله : ﴿وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ(٧) وبلغ امّه أنّ فرعون قد أخذه فحزنت وبكت كما قال الله : ﴿وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ(٨)».

قال عليه‌السلام : « كادت أن تخبر بخبره أو تموت ، ثمّ حفظت نفسها ، فكانت كما قال الله : ﴿لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا

__________________

(١) القصص : ٢٨ / ٧.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٣٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٠٦.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٣٨٢.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٣٨٣.

(٥) القصص : ٢٨ / ٩.

(٦) الظّئر : المرضعة لغير ولدها.

(٧) القصص : ٢٨ / ١٢.

(٨) القصص : ٢٨ / ١٠.

٢٢٢

عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(١) ثمّ قالت لأخته : ﴿قُصِّيهِ﴾ أي أتبعيه (٢) ، فجاءت أخته إليه ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ﴾ أي بعد ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(٣) فلمّا لم يقبل موسى بأخذ ثدي أحد من النساء اغتمّ فرعون غمّا شديدا » (٤) الخبر.

﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرّ

َ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي

 أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)

ثمّ ذكر منّته عليه بردّه إلى امّه بقوله : ﴿إِذْ تَمْشِي﴾ وتذهب ﴿أُخْتُكَ﴾ مريم إلى بيت فرعون ﴿فَتَقُولُ﴾ لفرعون وامرأته حين رأتهما يطلبان له مرضعة يقبل ثديها : ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ﴾ ويحضنه ويربّيه من المرضعات ؟

روي أنّه فشا الخبر بمصر أنّ آل فرعون أخذوا غلاما من النّيل لا يرضع من ثدي امرأة ، واضطرّوا إلى تتبّع النساء ، فخرجت مريم لتعرف [ خبره ] فجاءتهم منكّرة فقالت ما قالت ، فقالوا : من هي ؟ قالت : امّي ، قالوا : لها لبن ؟ قالت : نعم لبن أخي هارون ، فجاءت بها فقبل ثديها (٥) ، فحكى الله ذلك بقوله : ﴿فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ﴾ وفاء بالوعد حيث قلنا : إنّا رادّوه إليك ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها﴾ ويسرّ قلبها بلقائك ﴿وَلا تَحْزَنَ﴾ بفراقك وبار تضاعك من ثدي غيرها.

عن الباقر عليه‌السلام - في رواية - « فلمّا أخذته بحجرها وألقمته ثديها ، التقمه وشرب ، ففرح فرعون وأهله ، وأكرموا امّه ، فقال لها : ربّيه لنا ، فإنّا نفعل بك ما نفعل » (٦) . فسأله الراوي : كم كان موسى غائبا عن امّه حتى ردّه الله عليها ؟ قال : « ثلاثة أيّام » (٧) .

ثمّ ذكر الله منّته الاخرى بقوله : ﴿وَقَتَلْتَ نَفْساً﴾ من القبط بوكزه حين استغاث بك الإسرائيلي عليه ، فاغتممت لذلك خوفا من تظاهر القبط عليك ، واقتصاص فرعون منك ﴿فَنَجَّيْناكَ مِنَ﴾ ذلك ﴿الْغَمِ﴾ بالهجرة إلى مدين ﴿وَفَتَنَّاكَ﴾ وامتحنّاك بهذه المذكورات والمتاعب التي صبرت عليها في طريق مدين ﴿فُتُوناً﴾ وامتحانا تامّا ، أو امتحانات عديدة ، أو المعنى أخلصناك من الأخلاق الرّذيلة تخليصا كاملا ﴿فَلَبِثْتَ﴾ وأقمت ﴿سِنِينَ﴾ كثيرة ﴿فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ عند شعيب تخدمه وترعى أغنامه ﴿ثُمَّ جِئْتَ﴾ الوادي المقدّس لاكلّمك وأريك الآيات ﴿عَلى قَدَرٍ﴾ قدّرته وقضاء قضيته ، أو

__________________

(١) القصص : ٢٨ / ١٠.

(٢) في النسخة : ابتغيه.

(٣) القصص : ٢٨ / ١١.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٣٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٠٦.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٣٨٤.

(٦) في النسخة : ونفعل.

(٧) تفسير القمي ٢ : ١٣٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٠٦.

٢٢٣

على وقت معيّن ، أو على مقدار معيّن من عمرك ، وهو أربعون سنة ﴿يا مُوسى﴾ وإنّما كرّر نداءه لإظهار غاية لطفه به ، وانتهاء ذكر منّته في المرّة الاخرى.

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي * اذْهَبا

 إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤١) و (٤٤)

ثمّ صرّح بإجابة مسؤوله الأهمّ بقوله : ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ واصطفيتك على النّاس برسالاتي وبكلامي ، وأكرمتك بأعظم كراماتي ، أو اخترتك لتتصرّف على عادتي ، وتشتغل بأمري من تبليغ الرسالة ، وتتقلّب لوجهي لا لنفسك ولا لغيري ﴿اذْهَبْ﴾ يا موسى ﴿أَنْتَ وَأَخُوكَ﴾ معا حسب استدعائك إلى فرعون متمسّكين ﴿بِآياتِي﴾ والمعجزات التي أعطيتك بقدرتي ﴿وَلا تَنِيا﴾ ولا تفترا ﴿فِي ذِكْرِي﴾ وثنائي بما يليق بعظمتي وجلالي في حال ووقت ، فإنّه بذكر الله تطمئنّ القلوب.

وقيل : يعني لا تفترا في تبليغ رسالتي (١) ، أو لا تنسياني حيثما تقلّبتما ، واستمدّا بذكري واسألاني به العون والتأييد (٢) .

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بذهابهما وقيامها بوظيفة الرسالة بقوله : ﴿اذْهَبا﴾ معا ﴿إِلى فِرْعَوْنَ﴾ وادعواه إلى توحيدي وعبادتي ﴿إِنَّهُ طَغى﴾ وتجاوز عن حدّ العبوديّة بدعوى الالوهيّة.

قيل : إنّ الخطاب مع غيبة هارون على التغليب (٣) ، أو كان بعد اجتماعهما (٤) .

روي أنّه تعالى لمّا نادى موسى عليه‌السلام بالواد المقدّس ، وأرسله إلى فرعون ، وأعطاه سؤله ، انطلق من ذلك الموضع إلى فرعون ، وشيّعته الملائكة يصافحونه ، وخلّف أهله في الموضع الذي تركهم فيه ، فبقوا فيه ينتظرونه ليلا ونهارا ، فلم يجدوا منه خبرا ، فلم يزالوا مقيمين متحيّرين حتى مرّ بهم راع من أهل مدين فعرفهم ، فحملهم إلى شعيب ، فمكثوا عنده حتى بلغهم خبر موسى بعد ما جاوز بنو إسرائيل البحر وغرق فرعون وقومه ، فبعث بهم شعيب إلى موسى عليه‌السلام (٥) .

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بذهابهما إلى فرعون ، وبيان شدّة طغيانه ، علّمهما كيفيّة دعوته ليسلما من شرّه بقوله : ﴿فَقُولا لَهُ﴾ بعد ملاقاته ﴿قَوْلاً لَيِّناً﴾ وكلاما رقيقا لا خشونة فيه ولا تعنيف ، كقوله : هل لك أن تزكّى ، وأهديك إلى ربّك ، فإنّه دعوة بصورة المشورة ، أو كلاما فيه حسن الأدب كالخطاب بالكنى والألقاب دون الاسم ، وقيل : يعني عداه شبابا لا هرم له ، وبقاء لذّة المطعم والمشرب والنّكاح ،

__________________

(١ و٢) تفسير أبي السعود ٦ : ١٧.

(٣ و٤) تفسير روح البيان ٥ : ٣٨٨.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٣٨٧.

٢٢٤

ودوام السّلطنة إلى الموت (١)﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ ويتنبّه على ما يحكم به عقله ﴿أَوْ يَخْشى﴾ من عذابي ونكالي.

عن الكاظم عليه‌السلام قال : « أمّا قوله : ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾ أي ليّناه في القول ، أو قولا له (٢) : يا أبا مصعب ، وكان [ اسم ] فرعون أبا مصعب ، وأمّا قوله : ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى﴾ فإنّما قال ذلك ليكون أحرص لموسى على الذّهاب ، وقد علم الله عزوجل أنّه لا يتذكّر ولا يخشى إلّا عند رؤية البأس» (٣).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام ما يقرب منه (٤) .

﴿قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى * قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما

 أَسْمَعُ وَأَرى * فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا

 تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٥) و (٤٧)

روي أنّه أوحي إلى هارون وهو بمصر أن يتلقّى موسى عليه‌السلام (٥) . وقيل : سمع بإقباله فتلقّاه (٦) ، فلمّا أخبره موسى عليه‌السلام بالأمر ﴿قالا﴾ عند ذلك : ﴿رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ﴾ من ﴿أَنْ يَفْرُطَ﴾ ويعجّل ﴿عَلَيْنا﴾ بالعقوبة ، ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة ﴿أَوْ أَنْ يَطْغى﴾ زيادة على طغيانه السابق إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جرأته وقساوته.

﴿قالَ﴾ الله تسلية لهما : ﴿لا تَخافا﴾ منه ﴿إِنَّنِي﴾ بحفظي ونصرتي ﴿مَعَكُما﴾ وإنّي ﴿أَسْمَعُ﴾ كلامكم ﴿وَأَرى﴾ عملكم ﴿فَأْتِياهُ﴾ واحضرا عنده ﴿فَقُولا﴾ له بدو الملاقاة : ﴿إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ﴾ إليك ليعرف شأنكما ، ثمّ قولا له : إذا عرفتنا بالرسالة ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ وأطلقهم من قيد الأسر والعبوديّة حتى نذهب بهم إلى الأرض المقدّسة التي كانت موطن آبائهم ﴿وَلا تُعَذِّبْهُمْ﴾ بتذليلهم وتبعيدهم وتحميل المشاقّ عليهم ، فإن تكن في شكّ من رسالتنا فإنّا ﴿قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ﴾ عظيمة ومعجزة قاهرة ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ للدّلالة على صدقنا في ادّعائنا ، ثمّ رغّبوه في الإيمان بقولهم : ﴿وَالسَّلامُ﴾ والتحيّة المستتبعة بسلامة الدارين والعافية الأبديّة من الله تعالى ﴿عَلى مَنِ﴾ استسلم لما جاءنا و﴿اتَّبَعَ الْهُدى﴾ والرّشاد الذي جاءه من ربّه.

روي أنّ موسى عليه‌السلام وعده على قبول الإيمان شبابا لا يهرم ، وملكا لا ينزع منه إلّا بالموت ، وبقاء لذّة المطعم والمشرب والمنكح عليه إلى انقضاء أجله ، فإذا مات دخل الجنّة ، فأعجبه ذلك ، وكان

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٥٨ ، تفسير أبي السعود ٦ : ١٨.

(٢) في العلل : أي كنّياه وقولا له.

(٣) علل الشرائع : ٦٧ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٠٨.

(٤) الكافي ٧ : ٤٦٠ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٠٨.

(٥ و٦) تفسير أبي السعود ٦ : ١٧.

٢٢٥

هامان غائبا ، وكان لا يقطع أمرا بدونه ، فلمّا قدم أخبره بمقالة موسى عليه‌السلام وإرادته الإيمان به ، فقال له هامان : كنت أرى أنّ لك عقلا ورأيا ، أنت الآن ربّ ، وتريد أن تكون مربوبا ؟ ! فأبى عن الإيمان (١) .

﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا

 مُوسى * قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى * قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ

 الْأُولى * قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٤٨) و (٥٢)

ثمّ هدّده موسى عليه‌السلام بترك الإيمان بقوله : ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ﴾ من قبل ربّنا ﴿إِلَيْنا﴾ بتوسط جبرئيل ﴿أَنَّ الْعَذابَ﴾ الشديد الدائم ﴿عَلى مَنْ كَذَّبَ﴾ بآيات ربّه وبما جاء به أنبياؤه ﴿وَتَوَلَّى﴾ وأعرض عن قبول دعوة رسله وتصديق الحقّ ﴿قالَ﴾ فرعون : إن كنتما رسولي ربّكما ﴿فَمَنْ رَبُّكُما﴾ الذي أرسلكما ﴿يا مُوسى﴾ وإنّما خصّ النداء بموسى عليه‌السلام لكونه أصلا وهارون تابعه ، أو لعلمه برثّة في لسانه ، فأراد استنطاقه لتوهينه دون هارون لعلمه بفصاحته ، أو لكون موسى عليه‌السلام في تربيته ، فتعجّب من دعوى كونه مربوبا لغيره ، فكأنّه قال : أنا ربّك ، فلم تدعو ربّا غيري ، وإضافة الربّ إليهما لغاية عتوّه.

﴿قالَ﴾ موسى عليه‌السلام في جوابه : ﴿رَبُّنَا﴾ هو الله القادر ﴿الَّذِي﴾ بقدرته ورحمته ﴿أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء ﴿خَلْقَهُ﴾ والصورة المناسبة له والشكل اللائق به ، الموافق لما يترتّب عليه من الخواصّ والمنافع ﴿ثُمَّ هَدى﴾ كلّ واحد إلى ما يصدر وما ينبغي له ، طبعا كما في الجمادات والنباتات ، واختيارا كما في الحيوانات.

وقيل : إنّ الخلق عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية القوالب ، والهداية عبارة عن إبداع القوى المحرّكة والمدركة فيها ، ولذا قدّم الخلق (٢) وعطف عليه الهداية بكلمة ( ثمّ ) الدالة على التراخي.

ويحتمل أن يكون المراد بالهداية الهداية إلى معرفته بقدر إدراكه واستعداده ، فإنّ لكلّ شيء حياة وشعورا على حدّ وجوده من الضّعف والقوّة ، كما مرّ بيانه غير مرّة ، أو المراد أنّه تعالى هداه إلى مصالح نفسه ولوازم معيشته ، وعرّفه الضار والنافع ، كما ألهم النّحل تركيب البيوت المسدّسة ، ومعرفة ما يضرّه وما ينفعه من النباتات ، وألهم الحيوانات ما به قوامها من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ، وكيفيّة الانتفاع بها ، وعرّف الذكر الانثى وبالعكس ، وهداه إلى كيفيّة المقاربة ليدوم النسل ، وهدى الأولاد إلى أخذ الثّدي ومصّ اللبن منها.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٣٨٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٦٤.

٢٢٦

وعن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية قال : « ليس شيء من خلق الله إلّا وهو يعرف من شكله الذّكر والانثى » . وسئل ما معنى ﴿ثُمَّ هَدى﴾ قال : « هداه للنّكاح والسّفاح من شكله » (١) .

ثمّ قال فرعون : إن كان ربوبيّة ربّك بهذا الحدّ من الظهور ﴿فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى﴾ والامم الكثيرة في الأعصار السابقة أنّهم لم يعترفوا بربوبيته وعبدوا غيره ؟ فقدح اللّعين في الحجّة القاطعة التي أقامها موسى عليه‌السلام بغفلة الناس عنها وعملهم بخلافها.

وقيل : إنّه عليه‌السلام لمّا هدّده بالعذاب على الشّرك وتكذيب الرّسل ، قال : فما بال الأمم الماضية أنّهم أشركوا وكذّبوا ولم يعذّبوا ؟ (٢)

وقيل : إنّ الخبيث لمّا رأى إتقان حجّة موسى عليه‌السلام على التوحيد ، خاف أن يزيد في تقريرها فيظهر للناس صدقه وفساد مذهب نفسه ، أراد أن يصرفه عن ذلك الكلام ويشغله بذكر قضايا الامم الماضية كعاد وثمود وأضرابهما ، فلم يلتفت موسى عليه‌السلام إلى سؤاله (٣) ،

بل ﴿قالَ :﴾ إنّما ﴿عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي﴾ لأنّه من الغيوب التي تختص به تعالى ، ولا أعلم إلّا ما علّمنيه من الامور المتعلّقة بما ارسلت به ، وإنّما أحوالهم مثبتة ﴿فِي كِتابٍ﴾ ولوح محفوظ ، بل لا يحتاج إلى كتاب لأنّه ﴿لا يَضِلُّ رَبِّي﴾ ولا يخطئ في علمه ، بل يعلم كلّ شيء على ما هو في الواقع ﴿وَلا يَنْسى﴾ ولا يغفل عن شيء بعد العلم به.

﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

 فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى  كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ

 لِأُولِي النُّهى (٥٣) و (٥٤)

ثمّ عاد إلى بيان شؤونه تعالى بقوله : ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ﴾ بقدرته وتفضّله ﴿الْأَرْضَ مَهْداً﴾ ومعدّا للسّكونة والراحة ﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها﴾ من جبالها وأوديتها وبراريها ﴿سُبُلاً﴾ وطرقا تسلكونها من قطر إلى قطر وبلد لحوائجكم وقضاء مآربكم ﴿وَأَنْزَلَ﴾ برحمته ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ المطلّ أو جهة العلوّ ﴿ماءً﴾ نافعا بطريق الإمطار.

ثمّ نبّه عليه‌السلام على زيادة اختصاص الإنبات بذاته القادرة ، وكون النباتات طائعات له بأن قال : يقول الله : ﴿فَأَخْرَجْنا بِهِ﴾ وأنبتنا بسببه ﴿أَزْواجاً﴾ وأصنافا ﴿مِنْ نَباتٍ﴾ وناميات ﴿شَتَّى﴾ ومتفرّقات في الطعوم والألوان والروائح والأشكال ، أو متفرّقات في وجه الأرض ممّا يأكل الناس والأنعام ، وقلنا :

__________________

(١) الكافي ٥ : ٥٦٧ / ٤٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٠٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٦٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٢ : ٦٦ - ٦٧.

٢٢٧

﴿كُلُوا﴾ أيّها الناس منها ومن ثمارها ﴿وَارْعَوْا﴾ فيها ﴿أَنْعامَكُمْ﴾ فإنّها مباحة لكم مخلوقات لانتفاعكم ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ الإنبات وجعل الاختلافات الكثيرة فيها مع وحدة الأرض والماء والهواء ، أو في تلك (١) النّعم الجسيمة والموجودات البديعة والله ﴿لَآياتٍ﴾ عظيمة وبراهين واضحة على وجود الصانع القادر الحكيم ﴿لِأُولِي النُّهى﴾ وذوي العقول السليمة الرادعة عن القبائح.

وقيل : إنّ كلام موسى عليه‌السلام قد انقطع عند قوله : ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ ثمّ أخبر سبحانه عن صفة نفسه (٢) .

وقيل : إنّ المراد من ضمير المتكلّم في ( أخرجنا ) موسى عليه‌السلام وغيره من الناس ، والمعنى فأخرجنا معاشر العباد بذلك الماء المنزل وبالحراثة أزواجا (٣) .

والحقّ هو الوجه الذي فسّرنا ، لعدم مناسبة الوجه الآخر لقوله : ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ﴾ والوجه الأوّل أيضا غير صحيح لدلالة ( الفاء ) في قوله ﴿فَأَخْرَجْنا﴾ على ارتباطه بالسابق. نعم يمكن أن يقال إنّ كلام موسى قد تمّ عند قوله : ﴿لا يَنْسى .

عن الباقر عليه‌السلام : قال : « قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ خياركم اولو النّهى. قيل : يا رسول الله ، من اولوا النهي ؟ قال : هم أولوا الأخلاق الحسنة ، والأحلام الرّزينة ، وصلة الأرحام ، والبررة بالامّهات والآباء ، والمتعاهدون للفقراء والجيران واليتامى ، ويطعمون الطّعام ، ويفشون السّلام في العالم ، ويصلّون والناس نيام غافلون » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : « نحن والله أولوا النّهى » (٥) .

﴿مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى * وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا

 كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى * قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٥) و (٥٧)

ثمّ لمّا كان فرعون في غاية التكبّر والتجبّر حتى ادّعى الربوبيّة ، بين مبتدئه ومنتهاه ، إظهارا لغاية ذلّته بقوله : ﴿مِنْها خَلَقْناكُمْ﴾ بخلق آدم الذّي هو أبو البشر من تراب ، أو بخلق الأغذية التي تتولّد النّطف منها من الأرض ﴿وَفِيها﴾ بعد الموت ﴿نُعِيدُكُمْ﴾ بالدّفن والإقبار ﴿وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ﴾ بالخلق والإحياء ﴿تارَةً أُخْرى﴾ ومرّة ثانية بعد خلقكم في هذا العالم ، ونبعثكم إلى المحشر للحساب وجزاء الأعمال.

__________________

(١) في النسخة : ذلك.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢٢ : ٦٨.

(٤) الكافي ٢ : ١٨٨ / ٣٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٠.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٦١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٠.

٢٢٨

عن ابن مسعود : أنّ الله يأمر ملك الأرحام أن يكتب الأجل والرّزق والأرض التي يدفن فيها ، وأنّه يأخذ من تراب تلك البقعة ، ويذرّه على النّطفة ، ثمّ يدخلها في الرّحم (١) .

وفي ( الكافي ) عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ النطفة إذا وقعت في الرّحم ، بعث الله عزوجل ملكا يأخذ من التّربة التي يدفن فيها فماثّها (٢) في النّطفة ، فلا يزال قلبه يحنّ إليها حتى يدفن فيها » (٣) .

ثمّ بيّن الله شدّة لجاج فرعون بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَرَيْناهُ﴾ وبصّرناه ﴿آياتِنا﴾ الدالّة على التوحيد والنبوّة ﴿كُلَّها﴾ من البراهين العقلية والمعجزات الباهرة كالعصا واليد البيضاء وغيرها ﴿فَكَذَّبَ﴾ بها ونسبها إلى السّحر من فرط عناده ولجاجه ﴿وَأَبى﴾ وامتنع من قبولها والإيمان بها ، وكان من إبائه أنّه ﴿قالَ﴾ إنكارا على موسى عليه‌السلام وتقبيحا لدعوته : ﴿أَ جِئْتَنا﴾ بعد غيابك عنّا ، ورجعت إلينا بعد هجرتك من بلدنا ﴿لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا﴾ وسلطاننا ، وتستولى على مملكتنا ﴿بِسِحْرِكَ﴾ وشعبذتك وتخييلات لا واقع ولا حقيقة لها ﴿يا مُوسى﴾ فإنّ العاقل لا يتخيّل ذلك فضلا عن أن يقصده.

قيل : كان غرضه من هذا القول حمل القبط على غاية مقته ، وبعثهم على معارضته حيث أظهر لهم أنّه ليس غرض موسى عليه‌السلام إنجاء بني إسرائيل ، بل إخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملاكهم (٤) ، وهذا أصعب عليهم من القتل.

﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً

 سُوىً * قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ

 فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى * قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً

 فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى * فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا

 النَّجْوى * قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما

 وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ

 مَنِ اسْتَعْلى (٥٨) و (٦٤)

ثمّ لمّا نسب معجزات موسى عليه‌السلام إلى السحر قال : ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ﴾ ونعارضنّ سحرك ﴿بِسِحْرٍ مِثْلِهِ﴾ حتى يتّضح للنّاس أنّك ساحر ، إذن ﴿فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً﴾ ووقتا معيّنا ، أو مكانا معلوما نحضر فيه للمعارضة ﴿لا نُخْلِفُهُ﴾ ولا نتخلّف عنه ﴿نَحْنُ وَلا أَنْتَ﴾ وليكن الموعد ﴿مَكاناً سُوىً

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٧٠.

(٢) أي خلطها.

(٣) الكافي ٣ : ٢٠٣ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٠.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٣٩٨.

٢٢٩

متوسّطا بيننا وبينك مسطّحا مستويا لا يحجب العين ارتفاعه وانخفاضه ﴿قالَ﴾ موسى : نعم ﴿مَوْعِدُكُمْ﴾ وزمان اجتماعكم معنا للمعارضة ﴿يَوْمُ﴾ العيد الذي هو يوم ﴿الزِّينَةِ﴾ لقومك ، قيل : هو يوم النّيروز (١) . وقيل : يوم سوق لهم (٢) . وعن ابن عباس : يوم عاشوراء (٣) .

﴿وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ﴾ ويجتمعون من كلّ مكان في ﴿ضُحًى﴾ وحين ارتفاع الشمس ، ليشهد عموم الناس تلك الوقعة ، ولا يمكن إنكار ما وقع فيها من الغلبة ، وينسدّ باب الرّيبة ﴿فَتَوَلَّى﴾ وأعرض ﴿فِرْعَوْنُ﴾ عن موسى عليه‌السلام ، وخرج من المجلس ، وأرسل إلى البلاد والمدائن ، وأمر بحضور من كان فيها من السّحرة في الموعد ﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ وما يحتال به في إبطال دعوى موسى عليه‌السلام من السّحرة والآلات والأدوات ﴿ثُمَّ أَتى﴾ الموعد هو مع ملئه ، وأتى موسى أيضا و﴿قالَ لَهُمْ مُوسى﴾ نصحا وزجرا عن معارضتهم الحقّ : ﴿وَيْلَكُمْ﴾ يا قوم ، ارتدعوا عمّا أنتم فيه من الكفر والعناد مع الحقّ و﴿لا تَفْتَرُوا﴾ ولا تكذّبوا ﴿عَلَى اللهِ كَذِباً﴾ بيّنا بنسبة الشريك إليه والسّحر إليّ ﴿فَيُسْحِتَكُمْ﴾ ويهلككم الله ويستأصلكم ﴿بِعَذابٍ﴾ عظيم لا يقادر قدره ﴿وَقَدْ خابَ﴾ وحرم من كلّ خير مرجوّ ﴿مَنِ افْتَرى﴾ وبهت على الله كان من كان.

قيل : أثّر قول موسى عليه‌السلام في بعض السّحرة دون بعض (٤)﴿فَتَنازَعُوا﴾ واختلفوا في معارضته.

وقيل : إنّ قول موسى عليه‌السلام غاظ السّحرة ، فتنازعوا (٥)﴿أَمْرَهُمْ﴾ الذي أرادوه من معارضة موسى عليه‌السلام وتشاوروا ﴿بَيْنَهُمْ﴾ في كيفيّتها ، وأطالوا القول في ذلك ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوى﴾ وبالغوا في إخفاء مذاكراتهم ، لئلّا يقف عليها موسى عليه‌السلام فيدفعها ، وكان من نجواهم أنّهم ﴿قالُوا﴾ أيّها الرّفقة ﴿إِنْ هذانِ﴾ الرجلان ﴿لَساحِرانِ.

وقيل : إنّ كلمة ( إن ) نافية ، واللام في ( لساحران ) بمعنى ( إلّا ) ، والمعنى : ما هذان إلّا ساحران (٦) ، ﴿يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ وأوطانكم ، ويستوليا على مملكتكم ﴿بِسِحْرِهِما﴾ الذي أظهراه من قبل ﴿وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى﴾ ومذهبكم الذي هو أفضل المذاهب ، وهو مذهب فرعون ، ويشيعا دينهما بينكم.

وقيل : إنّ الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم ، لكونهم قدوة لغيرهم (٧) .

ثمّ أنّهم بعد ذكر مضارّ غلبة موسى عليه‌السلام كأنّهم قالوا : إذا علمتم ذلك ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ﴾ وآراءكم ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٧٣ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٤.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢٢ : ٧٣.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٣٠.

(٥) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٠٠.

(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ٧٥ ، مجمع البيان ٧ : ٢٨.

(٧) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٠ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٥.

٢٣٠

وأجعلوها واحدا لا يخالف فيه أحد ، أو أدوات سحركم ورتّبوها كما ينبغي ﴿ثُمَّ ائْتُوا﴾ في الموعد حال كونكم ﴿صَفًّا﴾ واحدا ، فإنّ إتيانكم مجتمعين في الموعد أشدّ مهابة في نظر الخصم ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ﴾ وفاز ﴿الْيَوْمَ﴾ المقصد الأعلى ، وهو القرب من فرعون والشرف بين الناس ﴿مَنِ اسْتَعْلى﴾ منكم وغلب على موسى.

قيل : كان الموعد مكانا متّسعا ، وخاطبهم موسى عليه‌السلام في قطر منه ، وتنازعوا أمرهم في قطر آخر ، ثمّ امروا بأن يأتوا وسطه على الوجه المذكور (١) .

قيل : كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة موسى عليه‌السلام : ما هذا ساحر ، وإن غلبنا اتّبعناه ، أو قالوا : إن كان ساحرا غلبناه ، وإن كان من السماء فله أمر. ثمّ رجعوا بعد تلك المقالات والاختلافات إلى الإتّفاق على المعارضة (٢) .

قيل : كانوا سبعين ألفا مع كلّ منهم حبل وعصا ، وأقبلوا على موسى عليه‌السلام إقبالة واحدة في سبعين صفّا كلّ صفّ ألف (٣) .

وقيل : كانوا بضعة وثلاثين ألفا (٤) . وقيل : خمسة عشر ألفا (٥) . وقيل : تسعمائة ؛ ثلاثمائة من الفرس ، وثلاثمائة من الروم ، وثلاثمائة من الإسكندريّة (٦) . وقيل : كانوا اثنين وسبعين ؛ اثنان من القبط ، والباقي من بني إسرائيل (٧) .

وقيل : إنّ المراد بالصفّ المصلّى لاجتماع الناس فيه في الأعياد للصلاة (٨) .

﴿قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى * قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا

 حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ

 خِيفَةً مُوسى * قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٥) و (٦٨)

ثمّ أنّهم بعد اجتماعهم وحضورهم ﴿قالُوا﴾ تأدّبا وإظهارا لعدم المبالاة بموسى عليه‌السلام وصنيعه : ﴿يا مُوسى﴾ لك الخيار ﴿إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ﴾ عصاك على الأرض أوّلا ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى﴾ ما نلقيه ﴿قالَ﴾ موسى عليه‌السلام مقابلة لأدبهم بأدب ، أو إظهارا للجلادة وعدم الاعتناء بسحرهم ، أو علما بأنّ إلقاءهم أوّلا أدخل في عظمة إعجازه حيث إنّ عصاه تلقف ما ألقوه : ﴿بَلْ أَلْقُوا﴾ أنتم أوّلا ما تلقون ، فبادروا في الإلقاء ﴿فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾ لتلطّخها بالزّئبق وإشراق الشّمس عليها ، اضطربت

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤٠٠.

(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٦.

(٣ - ٥) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٣ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٦.

(٦ و٧) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٣ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٦.

(٨) تفسير الرازي ٢٢ : ٨١ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٦.

٢٣١

واهتزّت بحيث كان موسى عليه‌السلام ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ﴾ ويتوهّم ﴿مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها﴾ حيّات ﴿تَسْعى﴾ وتمشي بسرعة على الأرض ﴿فَأَوْجَسَ﴾ وأضمر ﴿فِي نَفْسِهِ﴾ بمقتضى البشرية ﴿خِيفَةً مُوسى﴾ من مفاجأة رؤية الحيّات المخيّلة وضررها.

فلمّا خاف ﴿قُلْنا﴾ له : ﴿لا تَخَفْ﴾ ممّا رأيت من السّحر ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى﴾ منهم والغالب القاهر عليهم.

وقيل : إنّ موسى عليه‌السلام خاف من أن يظنّ الناس أنّ السّحرة ساووا موسى عليه‌السلام (١) ، فينصرفوا قبل أن يشاهدوا معجزته ، فيدوموا على باطلهم.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لم يوجس موسى خيفة على نفسه ، وإنّما أشفق من غلبة الجهّال ودول الضّلال » (٢) .

﴿وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ

 حَيْثُ أَتى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى * قالَ

 آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ

 وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً

 وَأَبْقى * قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما

 أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا

 وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٦٩) و (٧٣)

ثمّ أمر الله موسى عليه‌السلام بمعارضة السّحرة بقوله : ﴿وَأَلْقِ﴾ أنت أيضا ﴿ما فِي يَمِينِكَ﴾ من الخشب اليابس الصغير ، فإنّها بقدرة الله ﴿تَلْقَفْ﴾ وتبتلع بسرعة ﴿ما صَنَعُوا﴾ ه وموّهوه من الحبال المحشوّة بالزّئبق والعصيّ المربوطة بها ﴿إِنَّما﴾ أصنع معجزة باهرة ، وما ﴿صَنَعُوا﴾ ه وموّهوه وزوّروه (٣)﴿كَيْدُ ساحِرٍ﴾ وحيلته التي لا حقيقة لها ﴿وَلا يُفْلِحُ﴾ ولا يفوز ﴿السَّاحِرُ﴾ بمطلوبه ولا يدرك بغيته ﴿حَيْثُ أَتى﴾ من الأرض وعمل فيها بالسّحر ، أو حيث أتى مصنوعي وكيدي ؛ لأنّ صنعي حقّ وكيدي متين.

عن ابن عبّاس : ألقوا حبالهم وعصيّهم ميلا من هذا الجانب ، وميلا من هذا الجانب ، فخيّل إلى

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٤.

(٢) نهج البلاغة : ٥١ الخطبة ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١١ ، وفي النسخة : وذوي الضلال.

(٣) في النسخة : ورودوه ، راجع : تفسير روح البيان ٥ : ٤٠٣.

٢٣٢

موسى عليه‌السلام أنّ الأرض كلّها حيّات ، وأنّها تسعى فخاف ، فلمّا قيل له : ﴿أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ﴾ ألقى موسى عصاه ، فإذا هي حيّة أعظم من حيّاتهم ، ثمّ أخذت تزداد عظما حتى ملأت الوادي ، ثمّ صعدت وعلت حتى علّقت ذنبها بطرف القبّة ، ثمّ هبطت فأكلت كلّ ما عملوا في الميلين ، والنّاس ينظرون إليها لا يحسبون إلّا أنّه سحر ، ثمّ أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها ثمانين ذراعا ، فصاح بموسى فأخذها وهي عصا [ كما ] كانت ، ونظرت السّحرة فإذا هي لم تدع من حبالهم وعصيّهم شيئا إلّا أكلته ، فعرفت السّحرة أنّه ليس بسحر ، وقالوا : أين حبالنا وعصيّنا ؟ لو لم تكن (١) سحرا لبقيت (٢) ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ﴾ وخرّوا على الأرض بسرعة وشدّة ، كأنّه ألقاهم غيرهم حال كونهم ﴿سُجَّداً﴾ لله خاضعين لعظمته وقدرته بعد ما رأوا من إعجاز العصا.

قيل : ما أعجب [ أمر ] هم ألقوا حبالهم للكفر والجحود ، وألقوا نفوسهم للتّعظيم والسّجود (٣) بعد ساعة ، فما أعظم الفرق بين القائلين ! و﴿قالُوا﴾ في سجودهم بصوت عال : ﴿آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى .

قيل : إنّما لم يقولوا بربّ العالمين ، لأنّ موسى وهارون دعياهم إلى الإيمان به ، وكيلا يتوهّم أنّ مرادهم فرعون ، لأنّه كان مربّي موسى عليه‌السلام (٤) .

روي أنّهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنّة والنّار (٥) .

وعن عكرمة : لمّا خرّوا سجّدا أراهم الله منازلهم التي يصيرون إليها في الجنّة (٦) .

ثمّ قيل : لمّا شاهد فرعون إيمانهم بموسى عليه‌السلام ، خاف من أن يقتدي بهم سائر الناس (٧) ، فادّعى أنّ إيمانهم كان للتّباني مع موسى عليه‌السلام ، ولذا ﴿قالَ﴾ توبيخا لهم ﴿آمَنْتُمْ لَهُ﴾ واتّبعتموه ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ في الإيمان له ، مع أنّي ربّكم وأميركم ، وإنّما كان إيمانكم لأنّكم تلامذته و﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾ واستاذكم ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ فواطأتم معه على أن يظهروا العجز من أنفسكم عن معارضته ترويجا لأمره ، وتعظّما لشأنه ، وأداء لحقّ تعليمه.

ثمّ هدّدهم بقوله ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ﴾ بأن أقطع من شقّ يدا ، ومن شقّ رجلا ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ﴾ وأعلّقنّكم ﴿فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ وعلى اصوله ، لتكونوا عبرة لغيركم ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى﴾ وأدوم نكالا أنا أو موسى ، أو أنا أو ربّه ، وفي كلامه هذا إيماء إلى أنّ إيمانهم لم

__________________

(١) في النسخة : لو كانت.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٢.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٤٠٥.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٧ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٨.

(٥ و٦) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٦.

(٧) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٧.

٢٣٣

يكن على بصيرة ، بل كان عن خوف من قهر موسى وسلطانه ، وإظهارا للجلادة والوقاحة مع غاية خوفه من موسى عليه‌السلام حفظا لناموسه وترويجا لأمره ، فتجلّد السّحرة في الجواب عن تهديده و ﴿قالُوا﴾ غير مكترثين بوعيده : إنّا ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ﴾ ولا نختارك بالإيمان والاتّباع أبدا ﴿عَلى ما جاءَنا﴾ من الله على يد موسى ﴿مِنَ﴾ المعجزات ﴿الْبَيِّناتِ﴾ والبراهين الواضحات التي لا ريب في حقّانيّتها ﴿وَ﴾ حقّ ﴿الَّذِي فَطَرَنا﴾ وخلقنا لا نؤثرك.

وقيل : إنّ ( الواو ) في ﴿وَالَّذِي﴾ عاطفة ، والمعنى : لن نؤثرك على ما جاءنا وعلى الّذي فطرنا وخلقنا وخلق سائر المخلوقات (١)﴿فَاقْضِ﴾ يا فرعون في حقّنا ﴿ما أَنْتَ قاضٍ﴾ واحكم فيه ما أنت حاكم ، أو افعل بنا ما أنت فاعله ، فإنّا لا نخاف ولا نبالي ، وكيف نخاف منك ولا نخاف من الله ؟ أو كيف نؤثرك ولا نؤثر الله ؟ والحال أنّه ﴿إِنَّما تَقْضِي﴾ وتصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في ﴿هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا﴾ التي تزول بسرعة ، وإن لم تقض ، وليس لك علينا بعد انقضائها قضاء ، فالله يقضي في الدنيا والآخرة ، وقضاء الله وعذابه أشدّ وأبقى ، بل لا انقضاء له ولا نجاة منه.

وأمّا ما نبّهت عليه وأشرت إليه من أنّ إيماننا كان للمواطأة مع موسى أو للخوف منه ، فليس كذلك ، بل ﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا﴾ وذنوبنا التي سلفت منّا قبل إيماننا ﴿وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ﴾ عمل ﴿السِّحْرِ﴾ ومعارضة الرسول ، أو تعلّمه وتعليمه ، كما عن ابن عباس (٢) ، لا للأغراض الدنيويّة حتى يصرفنا عنه وعيدك بالقطع والصّلب ﴿وَاللهُ خَيْرٌ﴾ وأنفع لنا منك ومن كلّ أحد ﴿وَأَبْقى﴾ جزاء ، ثوابا كان أو عقابا ، أو خير منك ثوابا إن آمنّا به وأطعناه ، وأبقى منك عذابا إن كفرنا به وعصيناه.

وإنّما خصّوا السّحر الذي أكرههم عليه فرعون بالذّكر - مع كونه داخلا في عموم الخطايا - لإظهار غاية نفرتهم منه ، وللإيذان بأنّ معارضة الرسول - وإن كان بالإكراه - ممّا يجب أن يفرد بالاستغفار.

روى بعض العامة أنّ رؤساء السّحرة كانوا اثنين وسبعين ؛ اثنان منهم من القبط ، والباقي من بني إسرائيل ، وكان فرعون أكرههم على تعلّم السّحر (٣) . وقيل : أكرههم على معارضة موسى (٤) .

وروي أنّهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائما ففعل ، فوجدوه تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر ، فإنّ الساحر إذا نام بطل سحره ، فأبى فرعون إلّا أن يعارضوه (٥) .

﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤٠٦.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٩.

(٣ - ٥) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٩ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٣٠.

٢٣٤

مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ

 تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٤) و (٧٦)

ثمّ بيّنوا كون عذاب الله أشدّ وأبقى ، ردّا على قول فرعون : ﴿أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى﴾ بقولهم : ﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ﴾ يوم القيامة حال كونه ﴿مُجْرِماً﴾ وعاصيا له بالكفر والطغيان ﴿فَإِنَّ لَهُ﴾ بالاستحقاق ﴿جَهَنَّمَ﴾ وهو ﴿لا يَمُوتُ فِيها﴾ فيستريح من العذاب ﴿وَلا يَحْيى﴾ حياة منتفعا بها ، بل في كلّ آن يتمنّى الموت من شدّة العذاب والنّكال ولا يتيسّر له.

ثمّ بيّنوا حسن حال المؤمنين بقولهم : ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ﴾ ويلقاه في المحشر حال كونه ﴿مُؤْمِناً﴾ بوحدانيّته وبرسوله وبآياته التي منها ما شاهدناه و﴿قَدْ عَمِلَ﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ وأتى بما كلّف به من الواجبات ، واحترز المحرّمات ﴿فَأُولئِكَ﴾ المؤمنون الصّالحون ﴿لَهُمُ﴾ جزاء على إيمانهم وطاعتهم ﴿الدَّرَجاتُ الْعُلى﴾ والمنازل الرفيعة ، وهي ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ وبساتين دائمة لا فناء لها ولا خراب لها ، قصور وأشجار ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ ويكون المؤمنون ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ أبدا ﴿وَذلِكَ﴾ المذكور من الدّرجات العالية في تلك الجنان ﴿جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ وطهّر (١) نفسه من دنس الكفر والعصيان بالإيمان والتوبة والطاعة.

عن ابن عباس : كانوا [ في ] أوّل النهار سحرة و[ في ] آخره شهداء (٢) .

وقال بعض العامة : إنّ كلام السّحرة ختم بقوله : ﴿خَيْرٌ وَأَبْقى﴾ والآيات الثلاث ابتداء كلام الله تعالى (٣) .

﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً

 لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما

 غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٧) و (٧٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد طي ذكر ما جرى على فرعون وملئه من الآيات المفصّلات الظاهرة على يد موسى في نحو من عشرين أو أربعين سنة من قتله السّحرة ، بيّن ما انتهى إليه أمر فرعون ونجاة بني إسرائيل من ظلمه بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى﴾ وقلنا له بتوسّط جبرئيل : ﴿أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي﴾ الّذين استعبدهم فرعون ، واستذلّهم بالأسر ، واستضعفهم بتحميل المشاقّ ، وسر بهم ليلا من مصر ﴿فَاضْرِبْ﴾ واتّخذ ﴿لَهُمْ﴾ أو اضرب بعصاك ، واجعل لهم بعد الخروج من مصر ﴿طَرِيقاً﴾ كائنا

__________________

(١) في النسخة : تطهّر.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٨.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ٣١.

٢٣٥

﴿فِي الْبَحْرِ﴾ القلزم (١) على قول ، أو الأصاف (٢) على آخر ، يكون ﴿يَبَساً﴾ وجافّا لا وحل فيه ولا نداوة فضلا عن الماء ، وجز منه آمنا بحيث ﴿لا تَخافُ دَرَكاً﴾ من العدوّ ووصولهم إليك ﴿وَلا تَخْشى﴾ الغرق.

روي أنّ موسى عليه‌السلام خرج بهم أوّل اللّيل ، وكانوا ستمائة وسبعين ألفا ، فاخبر فرعون بذلك (٣)﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ﴾ وعساكره ، وكانت مقدّمته سبعمائة ألف ، فقصّ أثرهم فلحقهم بحيث تراءى الجمعان ، فعند ذلك ضرب موسى عليه‌السلام بعصاة البحر ، فانفلق على اثني عشر فرقا كلّ فرق كالطّود العظيم ، وبقي الماء قائما بين الطرق ، فعبر موسى بمن معه من الأسباط سالمين ، وتبعهم فرعون بجنوده ﴿فَغَشِيَهُمْ﴾ وسترهم ﴿مِنَ الْيَمِ﴾ والبحر ﴿ما غَشِيَهُمْ﴾ وما علاهم من الأمواج الهائلة التي لا يعلمها إلّا الله.

عن ابن عبّاس قال : خرج فرعون في طلب موسى عليه‌السلام ، وعلى مقدّمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب ، فلمّا انتهى موسى عليه‌السلام إلى البحر قال : ها هنا امرت ، ثمّ قال موسى عليه‌السلام للبحر : انفرق فأبى ، فأوحى الله إليه : أن اضرب بعصاك البحر ، فضرب فانفلق فقال لهم موسى عليه‌السلام : ادخلوا فيه ، فقالوا : كيف وأرضه رطبة ؟ فدعا الله فهبّت عليه الصّبا (٤) فجفّت ، فقالوا : نخاف الغرق في بعضنا ، فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا ، فدخلوا حتى جاوزوا البحر ، فأقبل فرعون إلى تلك الطّرق ، فقال قومه له : إنّ موسى سحر البحر فصار كما ترى ، وكان على فرس حصان ، وأقبل جبرئيل على فرس انثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة ، فصار جبرئيل بين يدي فرعون ، وأبصر الحصان الفرس الحجر (٥) ، فاقتحم بفرعون على أثرها ، وصاحت الملائكة في الناس : ألحقوا الملك ، حتى إذا دخل آخرهم وكاد أوّلهم أن يخرج التقى البحر عليهم فغرقوا ، فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم فقالوا : ما هذا يا موسى ؟ قال : قد أغرق الله فرعون وقومه ، فرجعوا لينظروا إليهم ، فقالوا : يا موسى ، ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم ، فدعا فلفظهم البحر إلى الساحل ، وأصابوا سلاحهم (٦) .

قال ابن عبّاس : إنّ جبرئيل قال : يا محمّد ، لو رأيتني وأنا أدسّ فرعون في الماء والطّين مخافة أن يتوب (٧) .

﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ﴾ وسلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الخيبة والخسران في الدّين والدنيا حيث

__________________

(١) بحر القلزم : البحر الأحمر.

(٢) كذا.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ٣١ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٠٩.

(٤) الصّبا : ريح مهبّها من مشرق الشمس إذا استوى الليل والنهار.

(٥) الحجر : أنثى الخيل.

(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ٩٣.

(٧) تفسير الرازي ٢٢ : ٩٤.

٢٣٦

ماتوا على الكفر والطّغيان بالعذاب الهائل الدنيوي المتّصل بالعذاب الشّديد الدّائم الاخروي ﴿وَما هَدى﴾ وما أرشد إلى مطلوب وخير أبدا. وفيه تأكيد لغاية إضلاله وردّ لقوله : ﴿وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ(١).

روى أنّ موسى لمّا ضرب بعصاه البحر حصل اثنى عشر طريقا يابسا ، يتهيّأ طروقه ، وبقي الماء قائما بين الطريق والطريق كالطّود العظيم ، فأخذ كلّ سبط من بني إسرائيل في طريق من هذه الطرق (٢) .

وقيل : بل حصل طريق واحد (٣) .

وقيل : إن فرعون لمّا خاف من دخول البحر ، أمر مقدّمته بالدخول فيه ، فلمّا دخلوا وساروا فيه وما غرقوا ، غلب على ظنّه السلامة فدخل ، فلمّا دخل الكلّ أغرقهم الله (٤) .

أقول : لا تنافي بين هذا وبين ما روي من تقدّم جبرئيل عليه وهو على رمكة (٥) ؛ لأنّه وإن كان ظنّ السلامة ولكن يمكن أنّه لو لم يجمح فرسه لكان يحتاط ، ولمّا جمح فرسه وكان له ظن السلامة لم يبالغ في إمساك فرسه ، فلا يرد على الرواية أنّ فرعون مع عقله ودهائه كيف ألقى نفسه في التّهلكة.

﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ

 وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى *  كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ

 فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨٠) و (٨١)

ثمّ رغّب الله سبحانه بني إسرائيل في طاعته بتذكريهم النّعم التي أنعم عليهم ، مقدّما لنعمة دفع الضّرر عنهم على إيصال النفع إليهم ، مخاطبا لهم بلسان موسى بعد إغراق فرعون وابتلائهم بالتّيه بقوله : ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ﴾ فرعون وقومه وخلّصناكم من ظلمهم.

ثمّ ثنّاها بالنّعمة الدّينيّة التي هي أهمّ من النّعم الدّنيويّة بقوله : ﴿وَواعَدْناكُمْ﴾ ودعوناكم بوساطة نبيّكم موسى عليه‌السلام أن تأتوا ﴿جانِبَ الطُّورِ﴾ يعني جانبه ﴿الْأَيْمَنَ﴾ من السالك من مصر إلى الشام على ما قيل (٦) .

وإنّما أضاف الدّعوة إلى جميعهم مع كون المدعوّ خصوص موسى ، أو هو مع السبعين المختارة ، لكونهم منهم ، ونفعها من المناجاة وأخذ التوراة عائدا إلى جميعهم.

ثمّ ثلّثهما بذكر النعمة العظيمة الدنيوية بقوله : ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى﴾ وقد مرّ تفسيرهما

__________________

(١) غافر : ٤٠ / ٢٩.

(٢ - ٤) تفسير الرازي ٢٢ : ٩٤.

(٥) الرّمكة : الفرس البرذونة تتّخذ للنسل.

(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ٩٦.

٢٣٧

وتفصيل نزولهما في سورة البقرة ، وقلنا لكم بلسان الرّسول أو بدلالة الفعل : ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ ولذائذ ما أنعمنا عليكم من الطعام ، أو من حلاله ﴿وَلا تَطْغَوْا﴾ ولا تجاوزوا الحدّ ﴿فِيهِ﴾ بالسّرف والبطر ، والمنع من المستحقّ ، والإدّخار منه لأكثر ممّا يحتاج إليه في اليوم واللّيلة ، والإخلال بالشّكر ﴿فَيَحِلَ﴾ عند تلك الامور ﴿عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾ ويلزمكم عقابي ، ويجب لكم انتقامي.

ثمّ بالغ في تهديدهم ببيان شدّة غضبه وعظمة انتقامه بقوله : ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ﴾ وينزل ﴿عَلَيْهِ غَضَبِي﴾ وعذابي ﴿فَقَدْ هَوى﴾ وهلك إلى الأبد ، أو هوى في جهنّم وسقط فيها.

عن الباقر عليه‌السلام سئل ما ذلك الغضب ؟ فقال : « هو العقاب » (١) .

﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)

ثمّ بشّر سبحانه العصاة بقبول توبتهم بقوله : ﴿وَإِنِّي﴾ والله ﴿لَغَفَّارٌ﴾ وستار للذّنوب ﴿لِمَنْ تابَ﴾ ورجع عن الشّرك والكفر ، وندم على العصيان الذي منه الطّغيان في ما رزق ﴿وَآمَنَ﴾ بما يجب الإيمان به ﴿وَعَمِلَ صالِحاً﴾ وعملا مستقيما عند العقل والشّرع ﴿ثُمَّ اهْتَدى﴾ وثبت على الحقّ في العقائد والأعمال إلى الخروج من الدّنيا ، كما قيل عن ابن عبّاس : ﴿ثُمَّ اهْتَدى﴾ أي علم أنّ ذلك بهداية الله وتوفيقه ، وبقي مستعينا بالله في إدامة ذلك من غير تقصير (٢) .

وقيل : هذه الخطابات لبني إسرائيل الّذين كانوا في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على معنى أنّه تعالى قد منّ عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبعا ، فإنّه لو لا تلك النّعم على آبائهم لم يبق منهم نسل ولم يوجد من كان في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال المولى أبو السعود : ويردّه ما سيأتي من قوله تعالى : ﴿وَما أَعْجَلَكَ﴾ الآية ضرورة استحالة حمله على الإنشاء (٣) . وفيه : أنّه يمكن أن يكون قوله تعالى : ﴿وَما أَعْجَلَكَ﴾ رجوعا إلى القصّة بعد موعظة أهل عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

عن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية قال : « ألا ترى كيف اشترط ولم تنفعه التوبة والإيمان والعمل الصالح حتى (٤) اهتدى ، والله لو جهد أن يعمل [ بعمل ] ما قبل منه حتى يهتدي » . قيل : إلى من جعلني الله فداك ؟ قال : « إلينا » (٥) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في حديث لعلي عليه‌السلام : « ولقد ضلّ من ضلّ عنك ، ولن يهتديّ إلى الله من لم

__________________

(١) التوحيد : ١٦٨ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٩٧.

(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ٣٢.

(٤) في النسخة : الصالح وقال ثم.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٦١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٤.

٢٣٨

يهتد إليك وإلى ولايتك ، وهو قول ربّي عزوجل : ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ﴾ الآية ، يعني : إلى ولايتك»(١).

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « ثمّ اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت ، فو الله لو أنّ رجلا عبد الله عمره ما بين الرّكن والمقام ، ثمّ مات ولم يجئ بولايتنا ، لأكبّه الله في النار على وجهه » (٢) .

وعنه عليه‌السلام قال وهو مستقبل البيت : « إنّما أمر النّاس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ، ثمّ يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا ، وهو قول الله تعالى : ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى﴾ ثمّ أومأ إلى صدره وقال : « إلى ولايتنا » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « لهذه الآية تفسير يدلّ ذلك التفسير ، على أنّ الله لا يقبل من أحد عملا إلّا ممّن لقاه بالوفاء منه بذلك التفسير ، وما اشترط فيه على المؤمنين » (٤) .

وعنه عليه‌السلام قال : « إنّكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا ، ولا تعرفون حتى تصدّقوا ، ولا تصدّقون حتى تسلّموا أبوابا أربعة لا يصلح أوّلها إلّا بآخرها ، ضلّ أصحاب الثّلاثة وتاهو تيها عظيما (٥) ، إنّ الله لا يقبل إلّا العمل الصّالح ، ولا يقبل الله إلّا الوفاء بالشّروط والعهود ، فمن وفى لله تعالى بشرطه ، واستعمل ما وصف في عهده ، نال ما عنده ، واستكمل وعده ، إنّ الله تعالى أخبر العباد بطرق الهدى ، وشرع لهم فيها المنار ، وأخبرهم كيف يسلكون ، فقال : ﴿إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى﴾ وقال : ﴿إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(٦) فمن اتّقى الله في ما أمره ، لقي [ الله ] مؤمنا بما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. هيهات هيهات فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا ، وظنّوا أنّهم آمنوا وأشركوا من حيث لا يعلمون » (٧) .

﴿وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى * قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ

 رَبِّ لِتَرْضى * قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٣) و (٨٥)

ثمّ روي أنّ بني إسرائيل سألوا موسى عليه‌السلام أن يأتيهم بشريعة وأحكام يعملون بها ، فناجى موسى عليه‌السلام ربّه في ذلك ، فأوحى إليه : أن ائت الطّور مع أشراف بني إسرائيل حتى أعطيك كتابا فيه جميع أحكام شريعتك ، فجاء موسى عليه‌السلام إلى قومه واختار منهم سبعين رجلا من أشرافهم وخيارهم ،

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٥٨٣ / ٨٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٤.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٣٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٤.

(٣) الكافي ١ : ٣٢٣ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٥.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٣٧٧ / ٩٠٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٥.

(٥) في الكافي : بعيدا.

(٦) المائدة : ٥ / ٢٧.

(٧) الكافي ١ : ١٣٩ / ٦ و٢ : ٣٩ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٥.

٢٣٩

وخلّف أخيه هارون فيهم ، فلمّا ذهب بمن معه وقرب من الطّور ، أسرع في المشي ، وسبقهم في الصّعود على الطّور شوقا إلى كلام ربّه ، وأمرهم أن يتّبعوه ، فخاطبه الله بقوله : ﴿وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ﴾ ودعاك إلى الإسراع إلى الصّعود على الطّور ، وأن تخلّف النّقباء الّذين امرت أن تكون معهم ﴿يا مُوسى(١) .

وقيل : إنّ المراد بقومه جملة بني إسرائيل الذين خلّف هارون فيهم (٢) ، فلمّا رأى موسى عليه‌السلام إنكاره تعالى عليه تقدّمه على قومه وحضوره منفردا في الميقات ، مع كونه مأمورا باستصحابهم وإحضارهم معه ، وكون تعجيله منافيا للحزم اللائق باولي العزم ، أخذته الهيبة ، فأخذ بالاعتذار و﴿قالَ :﴾ ربّ ﴿هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي﴾ ومن ورائي ، وإنّما سبقتهم بخطى يسيرة لا تخلّ بالمعيّة التي أمرتني بها ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ﴾ وسبقتهم يسيرا إلى الصعود على الطّور ﴿رَبِّ لِتَرْضى﴾ بمسارعتي إلى امتثال أمرك ، واهتمامي بالوفاء بوعدك ، واشتياقي إلى استماع كلامك.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « المشتاق لا يشتهي طعاما ، ولا يلتذّ بشراب ، ولا يستطيب رقادا ، ولا يأنس حميما ، ولا يأوي دارا ، ولا يسكن عمرانا ، ولا يلبس لباسا ، ولا يقرّ قرارا ، ويعبد الله ليلا ونهارا ، راجيا بأن يصل إلى ما يشتاق إليه ، ويناجيه بلسان شوقه ، معبّرا عمّا في سريرته ، كما أخبر الله عن موسى بن عمران عليه‌السلام في ميعاد ربّه بقوله : ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى﴾ وفسّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن حاله أنّه ما أكل ولا شرب ولا نام ولا اشتهى شيئا من ذلك في ذهابه ومجيئه أربعين يوما شوقا إلى ربّه»(٣).

وإنّما ذكر الله بصفة الربوبيّة ، لزيادة التضرّع والابتهال رغبة في قبول عذره.

ثمّ أخبره الله بافتتان قومه بعد خروجه من بينهم ، لتعجيلهم وعدم صبرهم لرجوع موسى عليه‌السلام حيث ﴿قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا﴾ وابتلينا ﴿قَوْمَكَ﴾ بني إسرائيل مع إخلافك هارون فيهم ﴿مِنْ بَعْدِكَ﴾ وزمان غيابك عنهم بعبادة العجل.

روى أنّهم أقاموا على ما وصّى به موسى عليه‌السلام عشرين ليلة بعد ذهابه ، فحسبوها مع أيّامها أربعين ، وقالوا : قد أكملنا العدّة وليس من موسى عليه‌السلام عين ولا أثر (٤) ، ﴿وَأَضَلَّهُمُ﴾ عند ذلك ﴿السَّامِرِيُ﴾ بتدبيره وحيلته.

روي أنّ السّامري كان من بني إسرائيل ، وتولّد في زمان كان فرعون يقتل أبناءهم ، فألقته أمّه في جزيرة في النّيل ، فأمر الله جبرئيل أن يربّيه ويحفظه ، ويأتي بمأكوله ومشروبه ، ثمّ جاء في قومه ، وكان

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤١٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٩٩.

(٣) مصباح الشريعة : ١٩٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٣١٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ١٠١ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤١٤.

٢٤٠