نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

لها : ﴿يا مَرْيَمُ﴾ والله ﴿لَقَدْ جِئْتِ﴾ وفعلت ﴿شَيْئاً﴾ وفعلا ﴿فَرِيًّا﴾ وعظيما ، أو منكرا عجيبا ﴿يا أُخْتَ هارُونَ﴾ الصالح ونظيره في العبادة والتقوى ، وقيل : كان لها أخ صالح اسمه هارون (١) ، وقيل : إنّ المراد هارون أخو موسى (٢) .

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما عنوا هارون النبيّ ، وكانت من أعقابه ، وإنّما قيل يا اخت هارون كما يقال يا أخا همدان ، أي يا واحدا منهم » (٣) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه بعث المغيرة بن شعبة إلى نجران ، فقالوا : أ لستم تقرءون : ﴿يا أُخْتَ هارُونَ﴾ وبينهما كذا وكذا ، فذكر ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « ألا قلت : إنّهم كانوا يسمّون بأنبيائهم (٤) والصّالحين منهم » (٥) .

قال بعض العامّة : إنّ هارون كان رجلا معلنا بالفسق فشبّهوها به (٦) .

وعن القمي : أنّ هارون كان رجلا فاسقا زانيا ، فشبّهوها به (٧) .

ثمّ بالغوا في توبيخها بقولهم : ﴿ما كانَ أَبُوكِ﴾ عمران ﴿امْرَأَ سَوْءٍ﴾ ورجلا فاسقا زانيا ، كما عن ابن عبّاس (٨) . قيل : كان أشرف الأحبار (٩)﴿وَما كانَتْ أُمُّكِ﴾ حنة ﴿بَغِيًّا﴾ وزانية ، فلم كنت سيئة العمل ، ومن أين جئت بهذا الولد ؟

﴿فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ

 آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ

 وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا * وَالسَّلامُ

 عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ

 الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٢٩) و (٣٤)

فلمّا بالغ القوم في توبيخها ، بل قيل إنّهم همّوا برجمها ، وكان عيسى عليه‌السلام في حجرها يرتضع (١٠)﴿فَأَشارَتْ﴾ مريم ﴿إِلَيْهِ﴾ وأجابتهم بالإيماء : أنّ هذا الرضيع في حجرى يجيبكم وأنا صائمة لا أتكلّم ، فغضبوا غضبا شديدا و﴿قالُوا :﴾ لسخريّتها بنا أشدّ من زناها ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ﴾ شأنه أن يكون ﴿فِي الْمَهْدِ﴾ أو من كان في حجر امّه يرتضع حال كونه ﴿صَبِيًّا﴾ لا يفهم السؤال ولا يقدر

__________________

(١ - ٣) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠٨.

(٤) في النسخة : بآبائهم.

(٥) سعد السعود : ٢٢١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٩.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠٨.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٥٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٩.

(٨ و٩) تفسير روح البيان ٥ : ٣٣٠.

(١٠) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠٨.

١٨١

على الجواب ؟ فلمّا سمع عيسى عليه‌السلام منهم ذلك ترك الرّضاع ، واتّكا على يساره ، وأشار إلى نفسه بسبّابته.

وقيل : إنّ زكريّا عليه‌السلام أتى مريم عند ذلك ، وقال لعيسى عليه‌السلام : انطق بحجّتك إن كنت أمرت بها (١) . فعند ذلك ﴿قالَ﴾ عيسى : ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ﴾ ردّا على من يقول إنّه الله أو شريكه أو ولده ﴿آتانِيَ الْكِتابَ﴾ المسمّى بالإنجيل ﴿وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ في الصبى ، كما هو قول بعض العامّة ، ومدلول بعض رواياتنا (٢) .

وعن ابن عباس أنّه قال : المراد أنّه حكم وقضى بأنّه سيبعثني من بعد ، ثمّ سكت عيسى وعاد إلى الصّغر ، ولمّا بلغ ثلاثين سنة بعثه الله (٣) ، ثمّ قال : ﴿وَجَعَلَنِي مُبارَكاً﴾ ونفّاعا كما عن القمي ، وجمع من العامة (٤) ، أو ثابتا على الحقّ والدّين (٥) . أو مستعليا بالحجّة وغالبا مفلحا (٦) ، أو معلّما للبشر دينهم (٧) وجميع ما فيه خيرهم ﴿أَيْنَ ما كُنْتُ﴾ في برّ أو بحر أو سهل أو جبل ﴿وَأَوْصانِي﴾ وأمرني أمرا مؤكّدا ﴿بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « زكاة الرؤوس ، لأنّ كلّ الناس ليست لهم أموال ، وإنّما الفطرة على الغني والفقير والصغير والكبير » (٨) . ﴿ما دُمْتُ حَيًّا﴾ في الدنيا ﴿وَ﴾ جعلني ﴿بَرًّا﴾ ومحسنا ﴿بِوالِدَتِي﴾ مريم ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً﴾ ومتكبّرا و﴿شَقِيًّا﴾ وعاصيا بالعقوق وغيره.

عن الصادق عليه‌السلام : أنّه عدّ من الكبائر العقوق قال : « لأنّ الله جعل العاقّ جبّارا شقيّا في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام : ﴿وَبَرًّا بِوالِدَتِي ﴾ الآية (٩) ، أعلن فيه بتبرئة امّه ، وأنّه ولد بغير أب ، ثمّ سأل السّلامة التي بشّر الله بها يحيى عليه‌السلام بقوله : ﴿وَالسَّلامُ﴾ والأمان الذي بشّر الله به يحيى عليه‌السلام يكون ﴿عَلَيَ﴾ أيضا ﴿يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ وقد مرّ تفسيره (١٠) .

وقيل : إنّ اللّام في ( السّلام ) للاستغراق ، والمعنى : كلّ السّلام عليّ ، ولا يكون لأعدائي الّذين اتّهموا مريم ، بل عليهم اللّعن (١١) .

روي أنّ عيسى عليه‌السلام قال ليحيى : أنت خير منّي ، سلّم الله عليك ، وسلّمت على نفسي (١٢) . وقيل : إنّ تسليمه على نفسه بتسليم الله عليه (١٣) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠٨.

(٢) راجع : تفسير روح البيان ٥ : ٣٣١ ، الكافي ١ : ٣١٣ - ٣١٤ / ١ و٢.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ٢١٣.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٥٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٠ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٣٠ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٢٦٤.

(٥ - ٧) تفسير الرازي ٢١ : ٢١٤.

(٨) تفسير القمي ٢ : ٥٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٠.

(٩) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٨٦ / ٣٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨١.

(١٠) في الآية (١٥) من هذه السورة.

(١١ - ١٣) تفسير الرازي ٢١ : ٢١٦.

١٨٢

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر ولادة عيسى عليه‌السلام وحكاية اعترافه بالعبوديّة لله ، بيّن بطلان قول النصارى بأنّه ابن الله بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المتولّد من مريم بنفخ جبرئيل المعترف بالعبوديّة لله ورسالته هو ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ لا الذي قالت النصارى بألوهيّته ، أو إنّه ابن الله ، قلنا لكم ﴿قَوْلَ الْحَقِ﴾ والصدق. وقيل : إنّ المعنى أنّ عيسى كان قول الحقّ (١) وكلمة الله وروحه ﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ وفي شأنه يشكّون ويختلفون.

﴿ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *

 وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ

 بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ

 يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ

 قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٥) و (٣٩)

ثمّ بيّن امتناع كونه ولدا لله بقوله : ﴿ما كانَ﴾ وما صحّ ﴿لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ﴾ لنفسه ﴿مِنْ وَلَدٍ﴾ لأنّ الولد لا بدّ أن يكون مسانخا لوالده ، ولا تعدّد لواجب الوجود ﴿سُبْحانَهُ﴾ وتنزّه من أن يكون له جنس وجسم وحاجة إلى الولد ، لأنّه ﴿إِذا قَضى﴾ وأراد ﴿أَمْراً﴾ من الامور وشيئا من الأشياء ﴿فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ﴾ ويشاءه بالمشيئة التكوينيّة ﴿فَيَكُونُ﴾ ذلك الأمر ويوجد ذلك الشيء بصرف إرادته ومشيئته بلا ريث ، كالمأمور المطيع للآمر المطاع.

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان بقيّة ما قال عيسى عليه‌السلام في المهد ، أو بعد بعثته ، بقوله : ﴿وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ فإذا كان كذلك ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ وحده ولا تشركوا به شيئا من خلقه في الالوهيّة والعبادة ، واعلموا أنّ ﴿هذا﴾ التوحيد الذي دعوتكم إليه وأمرتكم به ﴿صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ موصل لكم إلى كلّ خير وسعادة ، لا يضلّ ولا يشقى سالكه ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ﴾ والجماعات الكثيرة من النّاس المتحزّبين ﴿مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ فقال حزب : إنّه الله ، وحزب : إنّه ابن الله ، وحزب : إنّه شريك الله وثالث ثلاثة ، وحزب : إنّه عبد الله ونبيّه ﴿فَوَيْلٌ﴾ ثابت وهلاك دائم ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من المختلفين ﴿مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ومعاينة أهوال القيامة ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ﴾ وما أسمعهم للهدى ! ﴿وَأَبْصِرْ﴾ وما أبصرهم بالحقّ ! ﴿يَوْمَ﴾ هم ﴿يَأْتُونَنا﴾ فيه للحساب وجزاء الأعمال ، فيصير الحقّ عندهم أبين من الشّمس.

وقيل : إنّ المعنى أسمع يا محمّد بهم وأبصرهم وعرّفهم حالهم في اليوم الذي يأتوننا (٢) فيه و﴿لكِنِ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٢١٧.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ٢٢١.

١٨٣

الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ﴾ الذي تنفعهم البصيرة وتمييز الحقّ من الباطل - وهو الدنيا - مستقرّون ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ومصرّون على الخطأ الواضح ، ويكون عليهم حسرة ﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾ يا محمّد وخوّفهم من يوم القيامة الذي يكون لهم ﴿يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾ ووقت الندامة على الضلالة في الدنيا ، وذلك الوقت ﴿إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ وحتم عليهم العذاب ، ولم يبق لهم مجال التدارك.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن قوله تعالى : ﴿إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فقال : « حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح ، فيذبح والفريقان ينظران ، فيزداد أهل الجنّة فرحا على فرح ، وأهل النّار غمّا على غمّ»(١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « ينادي مناد من عند الله عزوجل ، وذلك بعد ما صار أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار : يا أهل الجنّة وأهل النار ، هل تعرفون الموت في صورة من الصّور ؟ فيقولون : لا ، فيؤتى بالموت في صورة كبش أملح ، فيوقف بين الجنّة والنار ، ثمّ ينادون جميعا : أشرفوا وانظروا إلى الموت ، فيشرفون ، ثمّ يأمر الله عزوجل به فيذبح ، ثمّ قال : يا أهل الجنّة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت أبدا ، وهو قوله تعالى : ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أي قضي على أهل الجنّة بالخلود فيها ، وقضي على أهل النّار بالخلود فيها » (٢) .

وفي رواية : « فيفرح أهل الجنّة فرحا لو كان أحد يومئذ ميّتا لماتوا فرحا ، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميّتا لماتوا » (٣) .

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بإنذارهم من ذلك اليوم ذمّهم بقوله : ﴿وَهُمْ﴾ اليوم ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾ من ذلك ، ومن شدّة حسراته ، وممّا يفعل بهم فيه ﴿وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بذلك اليوم حتى يرونه ، أو لا يؤمنون بك حتى يقبلوا إنذارك.

وقيل : إنّ الجملتين حاليتين من الضمير المستتر في قوله : ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ والمعنى هم مستقرّون في ضلال ، وهم في غفلة ، وهم لا يؤمنون ، وما بين الحال وذي الحال اعتراض (٤) .

﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ * وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ

 إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا * إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا

 يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي

 أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٠) و (٤٣)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٢٢١ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٣٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٥٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٢.

(٣) مجمع البيان ٦ : ٧٩٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٢.

(٤) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٦٦ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٣٥.

١٨٤

ثمّ بالغ سبحانه في إرعاب القلوب ببيان كمال قدرته وعظمته بقوله : ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾ خاصّة لا غيرنا ﴿نَرِثُ﴾ ونملك ﴿الْأَرْضَ﴾ كلّها ﴿وَمَنْ عَلَيْها﴾ وما فيها ، فلا يبقى لأحد ملك وسلطان غيرنا بعد النّفخة الاولى في الصّور ﴿وَإِلَيْنا﴾ وإلى حكمنا ﴿يُرْجَعُونَ﴾ ويردّون ، فنحاسب أعمالهم ونجزيهم حسب استحقاقهم ، وفيه تخويف عظيم وإنذار بليغ.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نبوة عيسى عليه‌السلام ودعوته إلى التوحيد ، ذكر نبوّة إبراهيم عليه‌السلام ودعوته إليه بقوله : ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمّد ﴿فِي﴾ هذا ﴿الْكِتابِ﴾ الكريم لقومك جدّك ﴿إِبْراهِيمَ﴾ واتل عليهم نبأه ، فإنّهم مفتخرون بالانتساب إليه ، مقرّون بفضله وحسن طريقته ، وقل لهم : ﴿إِنَّهُعليه‌السلام ﴿كانَ﴾ موحّدا أو ﴿صِدِّيقاً﴾ وملازما للحقّ ومبالغا في تصديق الأنبياء ، وكتبهم ودينهم ، وكان هو أيضا ﴿نَبِيًّا﴾ عظيم الشّأن رفيع المنزلة.

واذكر ﴿إِذْ قالَ لِأَبِيهِ﴾ آزر بلين ولطف وأدب ﴿يا أَبَتِ﴾ لا بدّ في حكم العقل من كون المعبود قادرا على كلّ شيء ، سميعا لدعاء الداعين ومسألة المحتاجين ، بصيرا بأحوال عباده وأفعالهم وعباداتهم ، مغنيا عنهم ، ونافعا لهم حتى تكون عبادته جالبة للنفع ، ولا يكون لغوا ولا عبثا ، فإذا كان كذلك ﴿لِمَ تَعْبُدُ﴾ أنت ﴿ما لا يَسْمَعُ﴾ دعاءك وتضرّعك ﴿وَلا يُبْصِرُ﴾ عبادتك وخضوعك ﴿وَلا يُغْنِي عَنْكَ﴾ ولا ينفعك في حوائجك ﴿شَيْئاً﴾ يسيرا لا في الدنيا ولا في الآخرة ﴿يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي﴾ من قبل ربّي بالوحي والإلهام ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ بالواقعيات وحقائق الامور ﴿ما لَمْ يَأْتِكَ﴾ إذن ﴿فَاتَّبِعْنِي﴾ ووافقني في العقائد والأعمال ، واقبل نصحي ، ولا تستنكف عن التّعلّم منّي ، فإن فعلت ذلك ﴿أَهْدِكَ﴾ وارشدك ﴿صِراطاً سَوِيًّا﴾ وطريقا مستقيما ، يوصلك إلى السعادة الأبديّة وخير الدنيا والآخرة ، وفيه من حسن الدعوة ما لا يخفى ، حيث لم يدّع لنفسه العلم الفائق ولأبيه الجهل المفرط ، وإن كانا كذلك ، بل ادّعى لنفسه زيادة العلم بالنسبة إليه ، وسأله الرّفاقة في مسلك يكون أعرف به.

﴿يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا * يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ

 أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا * قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ

 آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ

 سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ

 وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ

 دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا * وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا

١٨٥

وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٤٤) و (٥٠)

ثمّ بعد توبيخ أبيه على عبادة الأوثان زجره عنها بقوله : ﴿يا أَبَتِ﴾ إنّ عبادة الأصنام في الحقيقة عبادة الشيطان لكونها بتسويله ، و﴿لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ﴾ ولا تتّبع خطواته وتسويلاته ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ﴾ في بدو خلقة أبيك آدم ﴿لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا﴾ حيث أمره بالسجود له فأبى واستكبر ، ثمّ أعلن بعداوته لذرّيته ، ومن الواضح أنّ طاعة العاصي مع شدّة عداوته تورث النقم وتزيل النعم.

ثمّ خوّفه مع إظهار المودّة له (١) بقوله : ﴿يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ﴾ إن متّ على ما أنت عليه من عبادة الأصنام من ﴿أَنْ يَمَسَّكَ﴾ ويصيبك ﴿عَذابٌ﴾ عظيم ﴿مِنَ الرَّحْمنِ﴾ مع سعة رحمته ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ﴾ بسبب طاعتك له ﴿وَلِيًّا﴾ وقرينا في العذاب الدّائم ، أو قريبا يليك وتليه.

فلمّا سمع أبوه منه عليه‌السلام هذه النصائح ، غضب وأنكر عليه اعتزاله عبادة الأصنام بقوله : ﴿قالَ أَ راغِبٌ﴾ ومعرض ﴿أَنْتَ عَنْ﴾ عبادة ﴿آلِهَتِي﴾ والأصنام التي أعبدها ﴿يا إِبْراهِيمُ﴾ فإنّ الإعراض عن عبادتها لا ينبغي من عاقل فضلا عن أن يقدم أحد على صرف الغير عنها ، فباللات والعزّى ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ ولم تنصرف من هذا القول الذي نهيتك عنه وعن إعراضك عن عبادة الأصنام الذي أزجرك عنها ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ ولأقتلنّك برمي الأحجار ، وقيل : يعني لأشتمنّك (٢) ، إذن فاحذرني ﴿وَاهْجُرْنِي﴾ وتباعد منّي ﴿مَلِيًّا﴾ وزمانا طويلا ، لتسلم من بأسي ، ولا تنطق عندي بهذه الخرافات.

فلمّا رأى إبراهيم عليه‌السلام شدّة غضب آزر عليه ، وعدم قبوله الهداية والنّصح ﴿قالَ :﴾ يا أبت ﴿سَلامٌ﴾ منّي ﴿عَلَيْكَ﴾ لا اصيبك بمكروه ، ولا اقابلك بما يؤذيك ، بل أحسن إليك في مقابل إساءتك. وقيل : إنّه سلام توديع ومتاركة (٣) ، والمعنى أنا الآن أهجرك وافارقك ، ولكن ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ وأسأله أن يوفّقك للهداية وقبول الحقّ ، وأرجو أن يجيب دعائي ﴿إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا﴾ ولطيفا في الغاية وبليغا في البرّ والعناية ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾ وأتباعد عنكم يا عبدة الأصنام لمّا لا تقبلون نصحي ولا تهتدون بقولي ﴿وَ﴾ أعتزل ﴿ما تَدْعُونَ﴾ وتعبدون ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه ﴿وَأَدْعُوا رَبِّي﴾ وحده وأعبده ﴿عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي﴾ اللّطيف بي ﴿شَقِيًّا﴾ وخائبا ، كما أنتم أشقياء خائبون في دعائكم الأصنام ، وفي إظهار الرجاء باستجابة دعائه إظهار للتّواضع والأدب ، وأنّ الاجابة بالتفضّل والكرم لا بالاستحقاق.

﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ﴾ وفارقهم في المكان بعد اليأس من اجتماعهم معه في الدين وتركهم ﴿وَما

__________________

(١) في النسخة : به.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ٢٢٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٣٧.

(٣) جوامع الجامع : ٢٧٥ ، تفسير الرازي ٢١ : ٢٢٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٣٧.

١٨٦

يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ ولم يعارضهم ، بل هاجر من بلدهم وذهب إلى الأرض المقدّسة ﴿وَهَبْنا لَهُ﴾ بدل أقربائه الكفرة ﴿إِسْحاقَ﴾ من صلبه بعد إسماعيل ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ من إسحاق ﴿وَكُلًّا﴾ من إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴿جَعَلْنا نَبِيًّا﴾ وهذا من أفضل المواهب وأعظم النّعم ﴿وَوَهَبْنا لَهُمْ﴾ مع منصب النبوّة كلّ خير ﴿مِنْ رَحْمَتِنا﴾ وفضلنا.

وعن العسكري عليه‌السلام : « ووهبنا لهم - يعني لإبراهيم وإسحاق ويعقوب - من رحمتنا رسول الله » ﴿وَجَعَلْنا لَهُمْ﴾ في النّاس إلى آخر الدهر ﴿لِسانَ صِدْقٍ﴾ وثناء جميلا ﴿عَلِيًّا﴾ ورفيعا. عن العسكري عليه‌السلام : « يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام » (١) .

فلم يتضرّر إبراهيم عليه‌السلام من هجر الأقارب في الله ، بل انتفع به أعلى المنافع الدنيويّة والاخروية.

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنادَيْناهُ مِنْ

 جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥١) و (٥٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مواهبه لابراهيم عليه‌السلام وإلطافه به ، ذكر مواهبه لموسى عليه‌السلام بقوله : ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمّد لقومك ، واتل عليهم ﴿فِي الْكِتابِ﴾ الكريم ﴿مُوسى﴾ بن عمران بن يصهر بن لاوي بن يعقوب ﴿إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً﴾ أخلصه الله للعبوديّة وبرّأة من الشرك والأخلاق الرّذيلة والنقائص الخلقيّة والخلقية ﴿وَكانَ رَسُولاً﴾ من الله إلى عباده و﴿نَبِيًّا﴾ ينبّئهم بما اوحي إليه ، وإنّما أخّر ذكر نبوّته عن ذكر رسالته مع كونها أخصّ وأرفع ؛ لأنّ الإنباء بما اوحي إليه بعد إرساله ، ولرعاية الفواصل.

عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية : ما الرسول وما النبيّ ؟ فقال : « النبيّ الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يرى الملك ، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك » (٢) .

﴿وَنادَيْناهُ﴾ حين رجوعه من مدين يريد مصر ، وكلّمناه بصوت عال ﴿مِنْ جانِبِ الطُّورِ﴾ وناحيته التي كانت في الطّرف ﴿الْأَيْمَنِ﴾ منه ، أو من موسى عليه‌السلام ﴿وَقَرَّبْناهُ﴾ إلينا تقريب تشريف حيث اخترناه لرفعة مقامه وعلوّ منزلته عندنا ﴿نَجِيًّا﴾ ومخاطبا بنحو المناجاة والمسارّة ، فشبّه سبحانه حال موسى عليه‌السلام بحال من قرّبه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته.

وقيل : إنّ المنجي من النّجاة ، والمعنى قرّبناه حال كونه نجيّا من أعدائه (٣) ، مستخلصا من مكائدهم

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٥١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٤.

(٢) الكافي ١ : ١٣٤ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٤.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ٢٣١.

١٨٧

﴿وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا﴾ وبتفضّلنا عليه ورأفتنا به ﴿أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا﴾ حيث قال : ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(١) .

عن ابن عبّاس : كان هارون أكبر من موسى عليه‌السلام ، وإنّما وهب الله له نبوّته لا شخصه واخوّته(٢).

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَكانَ

 يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٤) و (٥٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر إسحاق ويعقوب اللذين كانا شجرة الانبياء ، وذكر موسى عليه‌السلام الذي كان أفضل فرعهما ، ذكر إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام بقوله : ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمّد ﴿فِي﴾ هذا ﴿الْكِتابِ إِسْماعِيلَ﴾ قيل : إنّما فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه (٣) ، والمعنى اتل يا محمّد على قومك قصّة جدّك إسماعيل عليه‌السلام ، وبيّن لهم علوّ مقامه ﴿إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ﴾ فيما بينه وبين الله ، لم يخالف شيئا ممّا أمر به ، وفيما بينه وبين النّاس.

عن ابن عبّاس : إنّ إسماعيل عليه‌السلام وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره [ سنة ](٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « إنّما سمّي صادق الوعد لأنّه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة ، فسمّاه الله عزوجل صادق الوعد ، ثمّ إنّ الرجل أتاه بعد ذلك ، فقال له إسماعيل : ما زلت منتظرا لك » (٥) .

وقيل : إنّه وعد نفسه الصبر على الذبح ، فوفى به (٦) .

﴿وَكانَ﴾ مع ذلك ﴿رَسُولاً﴾ ومبلّغا من الله إلى جرهم والعماليق وقبائل اليمن على ما قيل(٧).

و﴿نَبِيًّا﴾ القمي : [ وهو إسماعيل بن حزقيل (٨) . وفي المجمع : ] قال : هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، كان إذا وعد لم يخلف ، وكان مع ذلك رسولا نبيّا إلى جرهم ، قال : وقيل : إنّ إسماعيل بن إبراهيم مات قبل أبيه ، وأنّ هذا هو إسماعيل بن حزقيل (٩) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ إسماعيل الذي قال الله في كتابه : ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ﴾ الآية ، لم يكن إسماعيل بن إبراهيم ، بل كان نبيّا من الأنبياء بعثه الله إلى قومه فأخذوه وسلخوا فروة رأسه،

__________________

(١) طه : ٢٠ / ٢٩ - ٣٢.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ٢٣١.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٠.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ٢٣٢ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٠.

(٥) الكافي ٢ : ٨٦ / ٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٥.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ٢٣٢ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٠.

(٧) تفسير روح البيان ٥ : ٣٤١.

(٨) تفسير القمي ٢ : ٥١ ، وتفسير الصافي ٣ : ٢٨٥.

(٩) مجمع البيان ٦ : ٨٠٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٥.

١٨٨

فأتاه ملك فقال : إنّ الله بعثني إليك فمرني بما شئت ، فقال : لي اسوة بما صنع بالأنبياء » (١) .

﴿وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ﴾ وأقاربه ﴿بِالصَّلاةِ﴾ التي هي أفضل العبادات البدنيّة ﴿وَالزَّكاةِ﴾ التي هي أفضل العبادات المالية ﴿وَكانَ﴾ هو ﴿عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ ومحبوبا لنيله بأعلى درجات العبودية والطاعة والانقياد.

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا * وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا * أُولئِكَ

 الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ

 ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ

 خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٦) و (٥٨)

في ذكر ترجمة إدريس النبي عليه‌السلام

ثمّ لمّا كان إدريس - على ما قيل - أوّل من تظاهر بالنبوّة ، ذكره الله بقوله : ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمّد ﴿فِي﴾ هذا ﴿الْكِتابِ﴾ لقومك ﴿إِدْرِيسَ﴾ وإنّما لقّب به لكثرة دراسته ، نزل عليه ثلاثون صحيفة ، وكان اسمه اخنوخ ، وولد قبل موت آدم عليه‌السلام بمائة سنة ، أو بعد موته بمأئة سنة ، وكان جدّ أبي نوح ، وهو أوّل من وضع الميزان والمكيال ، واتّخذ السّلاح وجاهد في سبيل الله ، وسبى واسترقّ بني قابيل ، وخطّ بالقلم ، ونظر في علم الحساب والنّجوم ، وخاط الثياب ، ولبس القطن وكانوا يلبسون الجلود (٢) .

﴿وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا﴾ رفيعا. عن ابن عبّاس : إنّه رفع إلى السّماء حيّا ، ثمّ قبض روحه فيها (٣) . وقيل : إنّه بقي حيّا في السماء الرابعة (٤) .

وقيل : إنّ أربعة من الأنبياء في الأحياء ؛ اثنان في الأرض : الخضر وإلياس ، واثنان في السماء : إدريس وعيسى (٥) .

ثمّ أنّه تعالى بعد مدح كلّ واحد من الأعاظم المذكورين بالتفصيل ، جمعهم في الثناء والتجليل بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ الأعاظم المذكورون بعض من ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ بأنواع النّعم الدينيّة والدنيويّة وأصناف المواهب الصورية والمعنوية ﴿مِنَ﴾ بين ﴿النَّبِيِّينَ﴾ الذين هم ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾ ونسله كإدريس ومن قبله في الذّكر ﴿وَمِمَّنْ﴾ كان في أصلاب من ﴿حَمَلْنا﴾ هم في السفينة ﴿مَعَ

__________________

(١) علل الشرائع : ٧٧ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٥.

(٢) لم يذكر المصنف تفسير قوله تعالى : إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وقد تقدّم القول فيه عند الآية (٤١) من هذه السورة.

(٣ - ٥) تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٢.

١٨٩

نُوحٍ﴾ كمن عدا إدريس ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ﴾ كإسحاق ومن بعده ﴿وَ﴾ ذريّة ﴿إِسْرائِيلَ﴾ كموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى. وفيه دلالة على أنّ ولد البنت كعيسى من الذّرية ﴿وَ﴾ هم ﴿مِمَّنْ هَدَيْنا﴾ هم إلى الحقّ والحقيقة والدين ﴿وَاجْتَبَيْنا﴾ هم للرّسالة ، واصطفيناهم لأنواع الكرامة ، وهم كانوا في العبودية والخضوع لله بحيث ﴿إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ﴾ المنزلة في بيان عظمته والبشارة بثوابه والتهديد بعقابه ﴿خَرُّوا﴾ وسقطوا على الأرض ﴿سُجَّداً﴾ وواضعين جباههم عليها خشوعا لله ﴿وَبُكِيًّا﴾ مسبلي الدموع من الرّهبة والخوف والشوق ، فإذا كانوا مع علوّ مقامهم ورفعة منزلتهم وقربهم من الله ، وكونهم من ذراري النبيّين ومن أعظام المرسلين عند سماع الآيات بتلك المثابة ، فغيرهم أولى بأن يكونوا كذلك.

قيل : إنّ المراد بالسجود هو الصلاة (١) . وقيل : هو سجود التلاوة (٢) . وقيل : هو كناية عن غاية الخضوع والخشوع (٣) ، وفيه دلالة على كون البكاء من آداب التّلاوة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اتلوا القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا » (٤) .

وعن ابن عبّاس : إذا قرأتم (٥) سجدة سبحان فلا تعجّلوا بالسجود حتى تبكوا ، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه (٦) .

﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا

 * إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ

 شَيْئاً (٥٩) و (٦٠)

ثمّ لمّا مدح الله سبحانه أنبياءه بالقيام بالعبوديّة وغاية الخضوع لله ، ذمّ أعقابهم من اليهود والنصارى الذين هم من بني إسرائيل ومشركي العرب ، الذين هم من ولد إسماعيل بقوله : ﴿فَخَلَفَ﴾ الأنبياء المذكورون وعقّبوا ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ وعقب سوء ﴿أَضاعُوا الصَّلاةَ﴾ وتركوها وأخّروها عن وقتها المقرّر لها ، أو أضاعوا ثوابها بالمعاصي ﴿وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ﴾ وسعوا في استعمال اللّذات النفسانيّة كشرب الخمر والزنا ونظائرهما.

عن ابن عباس : هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة ، وشربوا الخمر ، واستحلّوا نكاح الاخت من الأب (٧) .

وعن الصادق عليه‌السلام في تفسير إضاعة الصلاة قال : أضاعوها بتأخيرها عن وقتها من غير أن تركوها (٨) .

__________________

(١ - ٣) تفسير الرازي ٢١ : ٢٣٤.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ٢٣٤ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٣.

(٥) في النسخة : قرء.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ٢٣٤.

(٧) تفسير الرازي ٢١ : ٢٣٥.

(٨) مجمع البيان ٦ : ٨٠٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٧.

١٩٠

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسير اتّباع الشهوات : « من بنى المشد ، وركب المنظور ، ولبس المشهور » (١)﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ﴾ في القيامة ﴿غَيًّا﴾ وشرّا.

وقيل : إنّ غيّا اسم واد في جهنم يستعيذ من حرّه أوديتها ، أعدّ للزاني ، وشارب الخمر ، وآكل الربا ، وشاهد الزّور ، ولأهل العقوق ، وتارك الصلاة (٢) .

﴿إِلَّا مَنْ تابَ﴾ من الشّرك والمعاصي إلى الله ﴿وَآمَنَ﴾ بما يجب الإيمان به ﴿وَعَمِلَ صالِحاً﴾ بعد التوبة والإيمان ﴿فَأُولئِكَ﴾ التّائبون المؤمنون الصّالحون ﴿يَدْخُلُونَ﴾ في الآخرة ﴿الْجَنَّةَ﴾ الموعودة ﴿وَلا يُظْلَمُونَ﴾ ولا ينقصون من جزاء إيمانهم وأعمالهم ﴿شَيْئاً﴾ وقليلا ، وفي إطلاق الظّلم على تنقيص الجزاء دلالة على أنّه بالاستحقاق.

﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لا

 يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي

 نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦١) و (٦٣)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الجنّة لا تكون واحدة موقّتة بقوله : ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ وبساتين دائمة لا خروج منها ، وقد سبق القول بأنّ عدن اسم تلك الجنّات ﴿الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ﴾ بها وهي ﴿بِالْغَيْبِ﴾ عنهم لم يروها في الدنيا ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿كانَ﴾ ما تعلّق ﴿وَعْدُهُ﴾ به ﴿مَأْتِيًّا﴾ وجائيا لا يمكن الخلف فيه ، ومن صفات الجنّات أنّ المؤمنين ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً﴾ وكلاما باطلا لا فائدة فيه ﴿إِلَّا سَلاماً﴾ قيل : يعني لكن يسمعون تسليم الملائكة ، أو تسليم بعضهم على بعض (٣)﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ﴾ وغذاؤهم ﴿فِيها بُكْرَةً﴾ وأوّل النّهار ﴿وَعَشِيًّا﴾ وآخره.

قيل : إنّ البكرة والعشّي كناية عن الدوام ، أو المراد مقدار البكرة والعشيّ ، إذ لا ليل فيها ولا صباح ، بل هم في النّور أبدا ، وإنّما وصف الجنّة بذلك لأنّ العرب لا تعرف من العيش أفضل من الرزق في الوقتين (٤) .

ثمّ بيّن عظمة شأن الجنّة بقوله : ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ﴾ الموصوفة بالصفات الفائقة ﴿الَّتِي نُورِثُ﴾ ونملّك بعضا ﴿مِنْ عِبادِنا﴾ وهو ﴿مَنْ كانَ﴾ في الدّنيا ﴿تَقِيًّا﴾ ومحترزا من الشّرك والعقائد الفاسدة والأعمال السيئة ، فالتقوى سبب لصيرورة المتّقي مالكا للجنّة ، كما أنّ موت المورّث سبب لصيرورة

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٤.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٥.

(٣) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٧٣ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٥.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٥.

١٩١

وارثه مالكا لما تركه.

﴿وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ

 نَسِيًّا * رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ

 لَهُ سَمِيًّا (٦٤) و (٦٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان المطالب العالية والأخبار الغيبيّة ، بيّن أنّ جميعها كلامه المنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتوسط الملائكة بحكاية اعتذار الملك من تأخير نزوله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَما نَتَنَزَّلُ﴾ عليك يا محمّد ﴿إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ وإذنه.

قيل : إنّ المعنى قال الله لجبرئيل : قل لمحمّد ما نتنزّل وقتا من الأوقات إلّا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته (١) ، وليس لنا استقلال في أمر من الامور ، لأنّنا تحت قدرته وسلطانه حيث إنّ ﴿لَهُ﴾ تعالى ﴿ما بَيْنَ أَيْدِينا﴾ وكلّ شيء يكون قدّامنا ﴿وَما خَلْفَنا﴾ ووراءنا ﴿وَما بَيْنَ ذلِكَ﴾ المذكور من الجهتين ، فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومن مكان إلى مكان إلّا بإذنه وإرادته.

وقيل : إنّ المراد من ﴿ما بَيْنَ أَيْدِينا﴾ ما قبل وجودهم ، ومن ﴿ما خَلْفَنا﴾ ما بعد فنائهم (٢) ، ﴿وَ﴾ من ﴿ما بَيْنَ ذلِكَ﴾ زمان وجودهم وبقائهم.

وقيل : إنّ المعنى ما مضى من أعمارنا وما بقي منها وما نحن فيه (٣) .

وقيل : يعني له تعالى الأرض التي بين أيدينا ، والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض (٤) .

وعلى أي تقدير المقصود أنّ الله محيط بنا وبكلّ شيء بحيث لا تخفى عليه خافية ﴿وَما كانَ رَبُّكَ﴾ حين عدم إذنه لنا بالنّزول إليك ﴿نَسِيًّا﴾ وتاركا لك ، أو غافلا عنك.

قيل : إنّه أبطأ جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله له : ما حبسك يا جبرئيل ؟ فنزلت(٥).

وقيل : إنّه أبطأ عليه لتركه الاستثناء في الوعد بجواب اليهود عن المسائل الثلاث التي مرّ ذكرها في سورة الكهف (٦) ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أبطأت عليّ حتى ساء ظنّي ، واشتقت إليك » فقال جبرئيل : إنّي كنت أشوق ، ولكنّي عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست (٧) . فأنزل الله هذه ، فعلى هذا يكون ذلك من وجوه النّظم.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٧٣ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٧.

(٢-٤) تفسير الرازي ٢١ : ٢٣٩.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٦.

(٦) في تفسير الآية (٩) من سورة الكهف.

(٧) تفسير الرازي ٢١ : ٢٣٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٧.

١٩٢

وعن ( المجمع ) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لجبرئيل : « ما منعك أن تزورنا ؟ » فنزلت (١) .

وقيل : يجوز كون الآية من كلام أهل الجنّة بعضهم مع بعض ، والمعنى : ﴿وَما نَتَنَزَّلُ﴾ الجنّة ﴿إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا﴾ أي في الجنّة مستقبلا ﴿وَما خَلْفَنا﴾ ممّا كان في الدنيا ﴿وَما بَيْنَ ذلِكَ﴾ [ أي ما بين ] الوقتين ، ﴿وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ لشيء ممّا خلق فيترك إعادته ؛ لأنّه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرّة (٢) .

وقيل : إنّ قوله : ﴿ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول تقريرا لكلام أهل الجنّة ، ويتّصل به قوله : ﴿رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ(٣) والحقّ أنّ الكلّ كلام الملك ، وكأنّه قال : وما كان ربّك يا محمّد نسيّا لك ، وجائزا عليه الغفلة والسهو ، حتى يضرّك إبطاؤنا بالنزول عليك ، وإنّما لا يجوز عليه النسيان لأنّه ﴿رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما﴾ وخالقهما ومدبّرهما ، ولو كان نسيّا لاختلّ نظام العالم وتدبيره لامور الموجودات ، فإذا كان ربّك كذلك ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ واجتهد في طاعته ﴿وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ﴾ واحبس نفسك على مشاقّها ، ولا تحزن بإبطاء الوحي ونزولنا عليك ، وباستهزاء الكفرة وشماتة الأعداء بك ، فإنّه تعالى يراقبك ويراعيك ويلطف بك في جميع الأحوال والعوالم ﴿هَلْ تَعْلَمُ﴾ أحدا يكون ربّا للموجودات ورحمانا في الدنيا والآخرة حتى يكون ﴿لَهُ﴾ تعالى ﴿سَمِيًّا﴾ ومشاركا في الأسماء والصفات.

عن ابن عبّاس : لا يسمّى بالرحمن غيره (٤) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « تأويله هل تعلم أحدا اسمه الله غير الله » (٥) .

قيل : إنّ المشركين كانوا يطلقون اسم الإله على الصنم والوثن ، ولا يطلقون اسم الله على غيره تعالى (٦) .

﴿وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا

 خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٦) و (٦٧)

ثمّ لمّا ذكر الله كمال قدرته وحكمته وتدبيره في الموجودات ، وأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعبادته ، ولا فائدة في العبادة إذا لم يعتقد العابد بالحشر والحساب ، مع كونهما من لوازم حكمته بحكم العقل ، وبّخ المشركين المنكرين للحشر المستبعدين له بقوله : ﴿وَيَقُولُ الْإِنْسانُ﴾ الذي ينكر الحشر والمعاد استبعادا له وتعجّبا من مدّعيه : ﴿أَ إِذا ما مِتُ﴾ وأدخلت في القبر وصرت ترابا ورفاتا ﴿لَسَوْفَ

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٨٠٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٨.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢١ : ٢٣٩.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ٢٤٠.

(٥) التوحيد : ٢٨٨ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٨.

(٦) تفسير البيضاوي ٢ : ٣٦.

١٩٣

أُخْرَجُ﴾ من القبر حال كوني ﴿حَيًّا﴾ سويّا وإنسانا كاملا ؟

ثمّ أنكر سبحانه عليهم القول بقوله : ﴿أَ وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ﴾ مع عقله وفطنته ، ولا يتفكّر ﴿أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ﴾ وفي بدو وجوده في هذا العالم ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿لَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ مذكورا ، بل كان عدما صرفا ؟

في ( الكافي ) عن الصادق عليه‌السلام قال « لا مقدّرا ولا مكونا » (١) .

وعنه عليه‌السلام في رواية اخرى : « لم يكن شيئا في كتاب ولا علم » (٢) .

وعن القمي : أي لم يكن ثمّة ذكره (٣) .

ومن الواضح أنّ القادر على خلقه أوّلا بلا مثال قادر على خلقه ثانيا بتلك الصورة ، بل يكون خلقه أهون وأسهل عند العاقل.

﴿فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ

 مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى

 بِها صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي

 الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٦٨) و (٧٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد نقل إنكار منكري الحشر ، واستبعاد إمكانه ، واستدلاله تعالى على إمكانه ، أخبر بوقوعه ، وهدّد منكرية بتعذيبهم بقوله : ﴿فَوَ رَبِّكَ﴾ لنحيينّهم في القبور ثمّ ﴿لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾ منها ، ولنسوقنّهم إلى عرصة القيامة ﴿وَالشَّياطِينَ﴾ المغوين لهم معهم ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ﴾ البتّة ﴿حَوْلَ جَهَنَّمَ﴾ وفي أطرافها حال كونهم ﴿جِثِيًّا﴾ وجلوسا على ركبهم لشدّة هولهم بحيث لا يمكنهم القيام على أرجلهم.

قيل : إنّ عادة النّاس أنّهم في مواقف المطالبات من الملوك يجلسون على ركبهم ، لما في ذلك من الاستظهار والقلق (٤) وغاية التذلّل.

وعن ابن عباس « جثيّا » يعني : جماعات (٥) .

قيل : إنّ الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم ، كل مع شيطانه في سلسلة (٦)﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَ﴾ ونجذبنّ ﴿مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ﴾ وفرقة من الفرق الذين تابعوا (٧) غاويا من الغواة الذين يقال فيهم :

__________________

(١) الكافي ١ : ١١٤ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٨.

(٢) المحاسن : ٢٤٣ / ٢٣٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٨.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٥٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٨.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ٢٤١ و٢٤٢.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٣٤٩.

(٦) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٧٥.

(٧) في النسخة : تابعت.

١٩٤

﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ

وقيل : إنّ التقدير أيّهم هو اشد وأزيد ﴿عَلَى الرَّحْمنِ﴾ وخالق الموجودات برحمته العامة ﴿عِتِيًّا﴾ وتمرّدا وظغيانا ، ليعلم أنّ عذابه أشدّ حتى يخصّه به.

وحاصل المراد - والله العالم - أنّه تعالى يحضر جميع الفرق الضالّة أوّلا حول جهنّم ، ثمّ يميّز بعضهم من بعض ، فمن كان أزيد منهم تمرّدا وأصرّ على الكفر ، يلقى أوّلا في جهنّم ، ويخصّ بأشدّ العذاب ، ثمّ تميّز من دونهم في التمرّد وهكذا.

والحاصل أنّه يبدأ بالأعصى فالأعصى على الترتيب إلى آخرهم ، كما قال : ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى﴾ بجهنّم وأحقّ ﴿بِها صِلِيًّا﴾ وإلقاء أو دخولا ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ﴾ أيّها النّاس مؤمنكم وكافركم ﴿إِلَّا وارِدُها كانَ﴾ إنجاز ذلك الوعد ﴿عَلى رَبِّكَ﴾ أمرا ﴿حَتْماً﴾ وواجبا و﴿مَقْضِيًّا﴾ ومحكوما به بحكم مبرم ، لا يمكن عدم نفوذه ﴿ثُمَّ نُنَجِّي﴾ ونخلّص من النّار المؤمنين ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الشّرك والمعاصي ﴿وَنَذَرُ﴾ ونترك ﴿الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بالكفر والعتوّ ﴿فِيها﴾ حال كونهم ﴿جِثِيًّا﴾ وجميعا ، أو جالسين على ركبهم ، للعجز عن القيام والحراك.

قال بعض العامة : المراد بالورود الحضور حولها ، مستدلا بما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه قال : « لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبيّة » فقالت حفصة : أ ليس الله يقول : ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها﴾ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « [ فمه ؟ ]﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا (١) . فعلم أنّ المراد من الورود القرب منها ، وإلّا لم يكن ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله جوابا عن سؤال حفصة ، وهذا كقول العرب : وردت بلد كذا وماء كذا ، يعني أشرفت عليه ، دخلت فيه أو لم تدخله ، وكقوله تعالى : ﴿وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ(٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أما تسمع الرّجل يقول : وردنا ماء بني فلان ، فهو الورود ولم يدخل » (٣) وأستدل بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ(٤) .

وقيل : إنّ المراد منه الدخول فيها (٥) ، ثمّ يبعد المؤمنين منها ويذر الظّالمين فيها.

روي أنّ عبد الله بن رواحة قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبر الله عن الورود ، ولم يخبر عن الصدور ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يابن رواحة ، اقرأ ما بعدها : ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا (٦) .

وعن جابر بن عبد الله ، أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : الورود الدخول ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٢٤٣.

(٢) القصص : ٢٨ / ٢٣.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٥٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٩.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٥٢ ، والآية من سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠١.

(٥) تفسير الرازي ٢١ : ٢٤٣.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ٢٤٣.

١٩٥

لا يبقى برّ ولا فاجر إلّا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما ، حتى إنّ للنّاس ضجيجا من بردها»(١) .

وعن ( المجمع ) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « يرد النّاس النّار ثمّ يصدرون بأعمالهم ، فأوّلهم كلمع البرق ، ثمّ كمرّ الريح ، ثمّ كحضر الفرس ، ثمّ كالرّاكب ، ثمّ كشدّ الرّجل ، ثمّ كمشيه » (٢)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي » (٣)

وروي أنّ الله يجعل النار كالسّمن الجامد ، ويجمع عليها الخلق ، ثمّ ينادي المنادي : خذي أصحابك وذري أصحابي ، قال : والذي نفسي بيده ، لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها (٤) .

قيل : حكمة ورود المؤمنين في النّار أنّهم إذا علموا الخلاص منها زادهم سرورا وزاد الكفّار غمّا ، حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين ، وأنّه إذا كان المؤمنين مع العصاة في النّار يقرعونهم ويبكّتونهم فيزيد ذلك غمّا للكفّار وسرورا للمؤمنين ، وأنّ المؤمنين يظهرون للكفّار صدق قولهم في الحشر والتعذيب وكذب الكفّار في الإنكار ، وأنّ المؤمنين إذا شاهدوا العذاب صار سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنّة (٥) .

وعن الصدوق : أنّه لا يصيب أحدا من أهل التوحيد ألم في النّار إذا دخلوها ، وإنّما يصيبهم الألم عند الخروج منها ، فتكون تلك الآلام جزاء بما كسبت أيديهم وما الله بظلّام للعبيد (٦) .

أقول : إنّما التألّم عند الخروج يكون للذين اكتسبوا السيّئات ، ولم يغفر لهم دون المؤمنين الذين شملتهم المغفرة والشّفاعة.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن هذه الآية فقال : إذا دخل أهل الجنّة الجنّة ، قال بعضهم لبعض : أليس قد وعدنا ربّنا أن نرد النار ؟ فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة » (٧) .

وعن ابن مسعود : ورودها الجواز على الصراط الممدود عليها ، وذلك لأنّه لا طريق إلى الجنّة سوى الصّراط ، فالمرور في حكم الورود (٨) ، وأمّا قوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ* لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها(٩) فالمراد البعد من عذابها ، ولا يسمعون حسيسها لأنّ حسيسها كسائر أهوال القيامة محجوب عنهم.

وعن ابن عبّاس : إنّ الآية مختصّة بالكفّار كما قال تعالى : ﴿إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ

__________________

(١ - ٤) مجمع البيان ٦ : ٨١٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨٩.

(٥) تفسير الرازي ٢١ : ٢٤٤.

(٦) اعتقادات الصدوق : ٧٧ / ٢٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٩٠.

(٧) تفسير الرازي ٢١ : ٢٤٤.

(٨) تفسير روح البيان ٥ : ٣٥٠.

(٩) الأنبياء : ٢١ / ١٠١ و١٠٢.

١٩٦

جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ(١) .

وعن مجاهد ، قال : ورود المؤمن في النّار [ هو ] مسّ الحمّى جسده في الدنيا ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الحمّى من فيح (٢) جهنم ، فأبردوها بالماء » (٣) .

وفي الحديث : « الحمّى حظّ كلّ مؤمن من النار » (٤) .

﴿وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ

 مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً

 وَرِءْياً (٧٣) و (٧٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات بطلان الشرك ووعيد المشركين بالعذاب عليه ، حكى استدلالهم على صحّة قولهم بحسن مآلهم في الدنيا وسوء حال المؤمنين الموحّدين فيها بقوله : ﴿وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا﴾ القرآنية الدالة على التوحيد والوعد والوعيد مع كونها معجزات ﴿بَيِّناتٍ﴾ من حيث العبارات والمعاني ﴿قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأصرّوا على الشّرك والعناد كالنّضر بن الحارث وأضرابه ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بوحدانية الله الفقراء منهم انظروا أيّها المؤمنون ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ﴾ منّا ومنكم ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل ﴿مَقاماً﴾ ومسكنا ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ ومجلسا من حيث اجتماع الأشراف ووجوه قريش فيه.

روي أنّ المشركين كانوا يرجّلون (٥) شعورهم ويدهنونها ويتطيّبون ويتزيّنون بالزّينة الفاخرة ، فإذا سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها أو الطعن فيها ، قالوا مفتخرين بالحظوظ الدنيويّة على فقراء المؤمنين : لو كنتم على الحقّ وكنّا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن ، لأنّ الحكيم لا ينبغي له أن يوقع أولياءه في العذاب والذلّ ، وأعداءه في العزّ والرّاحة ، ولكن الأمر بالعكس (٦) .

ثمّ ردّ عليهم سبحانه بقوله : ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنا﴾ بعذاب الاستئصال بسبب الكفر والشّرك من ﴿قَبْلَهُمْ﴾ كثيرا ﴿مِنْ﴾ أهل ﴿قَرْنٍ﴾ وأهل عصر كانوا ﴿هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً﴾ ومتاعا يزيّنون به بيوتهم ﴿وَ﴾ أحسن ﴿رِءْياً﴾ ومنظرا منكم.

عن الباقر عليه‌السلام : « الأثاث المتاع ، ورئيا الجمال والمنظر الحسن » (٧) . فلو كانت الأمتعة الدنيويّة وحظوظها التي تفتخرون بها دليلا على الكرامة عند الله لم يهلكوا بالعذاب.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٢٤٣ ، تفسير الجامع ١١ : ١٣٨ ، والآية من سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٨.

(٢) الفيح : سطوع الحر وفورانه ، وفي النسخة : قيح.

(٣ و٤) تفسير روح البيان ٥ : ٣٥١.

(٥) رجّل الشعر : سرّحه.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٣٥١.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٥٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٩١.

١٩٧

﴿قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا

 الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً * وَيَزِيدُ اللهُ

 الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ

 مَرَدًّا (٧٥) و (٧٦)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ النّعم الدنيوية خذلان من الله واستدراج لا لطف وكرامة بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، لقريش المفتخرين بالحطام الدنيوية ﴿مَنْ كانَ﴾ مستقرا ﴿فِي الضَّلالَةِ﴾ والشّرك والبعد عن الحقّ ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾ وليمهل ﴿لَهُ الرَّحْمنُ﴾ وليعينه على ما هو فيه بطول العمر وكثرة المال والنّعم ﴿مَدًّا﴾ وإمهالا كثيرا مستمرّا ﴿حَتَّى إِذا رَأَوْا﴾ وعاينوا ﴿ما يُوعَدُونَ﴾ بلسان الأنبياء ، وذلك الموعود ﴿إِمَّا الْعَذابَ﴾ الدنيوي ﴿وَإِمَّا السَّاعَةَ﴾ والقيامة وما فيها من الأهوال والنّكال ﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ حين وقوع أحدهما ﴿مَنْ هُوَ﴾ من الفريقين ﴿شَرٌّ مَكاناً﴾ ومن هو خير مقاما ﴿وَ﴾ من ﴿أَضْعَفُ جُنْداً﴾ وأقلّ أنصارا وأقوى أعوانا ، هم أم المؤمنون ، فإن قتلوا وغلب المسلمون عليهم علموا أنّهم أضعف جندا.

القمي : العذاب : القتل ، والساعة : الموت (١) .

وقيل : إنّ العذاب عذاب الله عند الموت (٢) . وقيل : عذاب القبر (٣) . وقيل : تغيّر حالهم في الدنيا من الغنى إلى الفقر ، ومن العزّ إلى الذّلّ ، ومن الأمن إلى الخوف (٤) .

ثمّ بيّن سبحانه معاملته مع المؤمنين بقوله : ﴿وَيَزِيدُ اللهُ﴾ المؤمنين ﴿الَّذِينَ اهْتَدَوْا﴾ بهدايته إلى التوحيد ودين الحقّ ﴿هُدىً﴾ وإيمانا ويقينا. وقيل : يعني ثوابا (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : ﴿وَيَزِيدُ اللهُ ،﴾ قال : « يزيدهم يوم خروج القائم هدى على هدى بإتّباعهم القائم حيث لا يجحدونه ولا ينكرونه » (٦) .

﴿وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ﴾ التي مرّ تفسيرها في سورة الكهف (٧)﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل ﴿عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً﴾ وأجرا في الدنيا والآخرة ممّا يفتخر به المشركون من الحطام والحظوظ العاجلة ﴿وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾ ومآلا ؛ لأنّ مآلها النّعم الدائمة ، ومآل حظوظ الكفّار العذاب الأبديّ (٨) .

﴿أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٥٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٩١.

(٢-٤) تفسير الرازي ٢١ : ٢٤٧.

(٥) تفسير الرازي ٢١ : ٢٤٨.

(٦) الكافي ١ : ٣٥٧ / ٩٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٩٢.

(٧) في الآية (٤٦) من سورة الكهف.

(٨) في النسخة : الأبدية.

١٩٨

عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً *  كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ

 ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٧٧) * (٨٠)

ثمّ بيّن الله غاية غرور المشركين بمآلهم عند الله بقوله : ﴿أَ فَرَأَيْتَ﴾ يا محمّد ﴿الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا﴾ الدالّة على التوحيد في الالوهية ورسالة رسولنا ويوم جزائنا ﴿وَقالَ﴾ غرورا : والله ﴿لَأُوتَيَنَ﴾ في القيامة ﴿مالاً﴾ كثيرا ﴿وَوَلَداً﴾ كما اوتيتهما في الدنيا حتى تتعجّب من غاية حمقه وجهالته.

روي أنّ الآية نزلت في العاص بن وائل. وقيل : في الوليد بن المغيرة ، فإنّه كان لخبّاب بن الأرتّ دين عليه فاقتضاه فقال : لا والله حتى تكفر بمحمّد. فقال خبّاب : لا والله لا أكفر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا حيّا ولا ميّتا ولا حين نبعث ، فقال العاص أو الوليد : فإنّي إذا متّ بعثت ؟ ! قال خبّاب : نعم ، قال : إذا بعثت وجئتني فسيكون لي ثمّة مال وولد فأعطيك.

وقيل : صاغ خبّاب له حليّا فاقتضاه ، فطلب الأجرة منه ، فقال : إنّكم تزعمون أنّكم تبعثون ، وأنّ في الجنّة ذهبا وفضّة وحريرا ، فأنّا أقضيك ثمّ ، فإنّي اوتى مالا وولدا حينئذ (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ العاص بن وائل بن هشام القرشي ثمّ السّهمي ، وهو أحد المستهزئين ، وكان لخبّاب بن الأرتّ عليه حقّ فأتاه يتقاضاه ، فقال له العاص : أ لستم تزعمون أنّ في الجنّة الذهب والفضّة والحرير ؟ قال : بلى ، قال : فموعد [ ما ] بيني وبينك الجنّة ، فوالله لاوتينّ فيها خيرا ممّا اوتيت في الدنيا » (٢) .

فردّ الله عليه بقوله : ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾ وهل بلغ من القرب عند الله إلى أن اوتي العلم الذي لا يعلمه إلّا الله ﴿أَمِ اتَّخَذَ﴾ من الله العالم بالمغيبات ، وكان له ﴿عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً﴾ وميثاقا على أن يعطيه ما يقول ﴿كَلَّا﴾ ليس شيء من الأمرين بل ﴿سَنَكْتُبُ﴾ عليه ونثبّت ونحفظ ﴿ما يَقُولُ﴾ من الكذب ﴿وَنَمُدُّ لَهُ﴾ بدل ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد ، ونعطيه أو نطوّل له ﴿مِنَ الْعَذابِ﴾ في الآخرة ﴿مَدًّا﴾ وعطاء وطولا لا نهاية له ﴿وَنَرِثُهُ﴾ ونأخذ منه بموته ﴿ما يَقُولُ﴾ من المال والولد الذي يكون له في الدنيا ﴿وَيَأْتِينا فَرْداً﴾ وواحدا لا يكون معه شيء ممّا يفتخر به في الدنيا.

﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ

 وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨١) و (٨٢)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٢٤٩.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٥٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٩٢.

١٩٩

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اغترارهم بالنّعم الآخرة ، أو استهزائهم بها ، بيّن غرورهم بالأصنام وغاية حمقهم بقوله : ﴿وَاتَّخَذُوا﴾ واختاروا لأنفسهم ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ ومن مخلوقاته ﴿آلِهَةً﴾ ومعبودين ﴿لِيَكُونُوا﴾ تلك الآلهة ﴿لَهُمْ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿عِزًّا﴾ وسببا للنيل بالمقاصد ، أمّا في الدنيا فبإنجاح حوائجهم ، وأمّا في الآخرة فبشفاعتهم عند الله ، ونصرتهم لهم ، وإنجائهم إيّاهم من العذاب ، فردعهم الله عن هذا التوهّم الفاسد بقوله : ﴿كَلَّا﴾ ليس كما توهّموه ، بل ﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ﴾ وينكرون ولايتهم حين يرون سوء عاقبتهم ، ويقولون : ما كنّا مشركين ﴿وَيَكُونُونَ﴾ حين مشاهدة أصنامهم ﴿عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ وأعداء بعد أن كانوا لهم محبّين كحبّ الله.

قيل : إنّ ضمائر الصّيغ كلّها راجعة إلى الأصنام ، والمعنى ستكفر الأصنام ، ويجحدون عبادتهم ، لأنّهم كانوا جمادات لم يشعروا بعبادتهم ، ويكونون أعوانا على ضررهم ، وذلك أنّ الله تعالى يركّب فيهم العقول فينطقهم فيقولون : يا ربّ عذّب هؤلاء الذين عبدونا (١) .

وقيل : إنّ المراد من الضدّ ضدّ العز [ وهو الذّلّ والهوان ](٢) ، والمعنى : يكونون عليهم ذلا وهوانا ، وإنّما أفرد الضدّ لفرض وحدة الكلّ.

وقيل : إنّ المراد بالآلهة الملائكة ، لأنّهم في الآخرة يكفرون بعبادتهم (٣) ، ويقولون : سبحانك أنت ولينا من دونهم ، بل كانوا يعبدون الجنّ.

عن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية : « أي يكونون هؤلاء الّذين اتّخذوا آلهة من دون الله ضدّا يوم القيامة ، ويتبرؤون منهم ومن عبادتهم » ثمّ قال : « ليس العبادة هي السجود والرّكوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده » (٤) .

أقول : يعني ليس العبادة منحصرة في الرّكوع والسّجود ، فالآية تعمّ عبادة الأصنام وطاعة رؤساء الضلال.

﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ

 إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٣) و (٨٤)

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ استيلاء الشياطين عليهم بعثهم إلى عبادة الأصنام بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ ولم تعلم يا محمّد ﴿أَنَّا أَرْسَلْنَا﴾ وسلّطنا ﴿الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ﴾ بسبب خبث ذاتهم وسوء اختيارهم ، وخلّينا بينهم وبينهم ﴿تَؤُزُّهُمْ﴾ وتغريهم وتهيّجهم على المعاصي والشّرور وعبادة الأصنام ﴿أَزًّا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٣٥٥.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢١ : ٢٥٠.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٥٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٩٢.

٢٠٠