نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

والحطب ﴿حَتَّى إِذا جَعَلَهُ﴾ محمى كأنّه صار ﴿ناراً قالَ﴾ للذين أذابوا النّحاس : ﴿آتُونِي﴾ النحاس المذاب ﴿أُفْرِغْ﴾ على السدّ وأصبّ ﴿عَلَيْهِ قِطْراً﴾ ونحاسا مذابا.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فاحتفروا له جبل حديد ، فقطعوا له أمثال اللّبن ، فطرح بعضه على بعض في ما بين الصّدفين ، ثمّ جعل عليه الحطب ، وألهب فيه النار ، ووضع عليه المنافخ فنفخوا عليه ، فلمّا ذاب قال : ائتوني بقطر ، فاحتفروا جبلا من نحاس ، فطرحوه على الحديد ، فذاب معه واختلط به»(١) .

فلمّا تمّ السدّ جاء يأجوج ومأجوج ﴿فَمَا اسْطاعُوا﴾ وما قدروا ﴿أَنْ يَظْهَرُوهُ﴾ ويعلوه لارتفاعه وملاسته ﴿وَمَا اسْتَطاعُوا﴾ أن يجعلوا ﴿لَهُ نَقْباً﴾ وخرقا من أسفله لثخانته وصلابته ﴿قالَ﴾ ذو القرنين : ﴿هذا﴾ السدّ والاقتدار على تسويته ﴿رَحْمَةٌ﴾ ونعمة عظيمة ﴿مِنْ رَبِّي﴾ على عباده ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي﴾ بقيام الساعة وقرب يوم القيامة وظهرت مباديه من خروج الدجّال ، ونزول عيسى ، هدم الله السدّ و﴿جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾ وأرضا مستوية ﴿وَكانَ وَعْدُ رَبِّي﴾ بقيام الساعة ، أو بغيره ﴿حَقًّا﴾ وصدقا البتّة ، لا خلف فيه.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه عدّ من الآيات التي تكون قبل الساعة خروج يأجوج ومأجوج (٢) .

وعن القمي : إذا كان قبل يوم القيامة انهدم السدّ ، وخرج يأجوج ومأجوج إلى الدنيا وأكلوا الناس(٣) .

أقول : في كيفيّة خلق يأجوج ومأجوج وطول أعمارهم وكثرة عددهم وتخريبهم السدّ وأعمالهم بعد الخروج ، روايات كثيرة من طرق الخاصة والعامة ، أعرضنا عن نقلها لطولها وبعدها عن الأذهان.

﴿وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً *

 وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (٩٩) و (١٠٠)

ثمّ بيّن سبحانه حال يأجوج ومأجوج بعد إندكاك السدّ وخروجهم منه بقوله : ﴿وَتَرَكْنا﴾ وخلّينا ، أو جعلنا ﴿بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ﴾ ويختلط أو يضطرب ﴿فِي بَعْضٍ﴾ كأمواج البحر ، لا يمرّون على إنسان إلّا قتلوه ، ولا على شيء إلّا أكلوه ، ولا على ماء إلّا شربوه ، ثمّ يرسل الله عليهم دودا بعد نزول عيسى فيقتلهم دفعة كنفس واحدة ، على ما في الروايات (٤) .

وقيل : إنّ المراد باليوم في الآية يوم السدّ ومنعهم من الخروج (٥) .

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ١١٣ / ٢٧٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٤.

(٢) الخصال : ٤٤٧ / ٤٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٤.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٤.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٩ و٣٠٠.

(٥) تفسير الرازي ٢١ : ١٧٢.

١٦١

وقيل : يوم القيامة ، كما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) .

وقيل : إنّ ضمير الجمع في بعضهم راجع إلى جميع الخلق (٢) .

ثمّ ذكر سبحانه الآية الثانية بقوله : ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ النفخة الثانية التي عندها الحشر ﴿فَجَمَعْناهُمْ﴾ في صعيد واحد بعد تفتّت أعضائهم ﴿جَمْعاً﴾ عجيبا للحساب والجزاء ﴿وَعَرَضْنا﴾ وأبرزنا ﴿جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ﴾ بحيث تكون مكشوفة بأهوالها ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ منهم ﴿عَرْضاً﴾ وإبرازا هائلا ، حيث يرون لهبها ، ويسمعون تغيّظها وزفيرها.

في الحديث : « يؤتى بجهنّم يومئذ ولها سبعون ألف زمام ، مع كلّ زمام سبعون ألف ملك يجرّونها» (٣) .

﴿الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً *

 أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ

 لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠١) و (١٠٢)

ثمّ وصف الكفّار بأذمّ صفاتهم بقوله : ﴿الَّذِينَ كانَتْ﴾ في الدنيا ﴿أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ﴾ وحجاب غليظ مانع ﴿عَنْ﴾ رؤية الآيات المؤدّية بالتفكّر فيها إلى ﴿ذِكْرِي﴾ بالتوحيد والتمجيد ﴿وَكانُوا﴾ مع ذلك ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ﴾ لفرط إعراضهم عن الحقّ وعداوتهم للرّسول ﴿سَمْعاً﴾ لذكري واستماعا لكلامي ، وفيه دلالة على أنّهم أسوء حالا من الأصمّ ، حيث إنّ الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وهؤلاء زالت عنهم تلك الاستطاعة.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : أتستطيع النفس المعرفة ؟ فقال : « لا » . [ فقيل : ] يقول الله ﴿الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ﴾ الآية ؟ قال : « هو كقوله : و﴿ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ(٤) » . قيل : فعابهم ؟ قال : « لم يعبهم بما صنع هو بهم ، [ ولكن ] عابهم بما صنعوا ، ولو لم يتكلّفوا لم يكن عليهم شيء » (٥) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « أنّ غطاء العين لا يمنع من الذّكر ، والذّكر لا يرى بالعين ، ولكن الله شبّه الكافرين بولاية علي بن أبي طالب بالعميان ؛ لأنّهم كانوا يستثقلون قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ، ولا يستطيعون له سمعا » (٦) .

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ١١٤ / ٢٧٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٦.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٧٦٦.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٣٠٢.

(٤) هود : ١١ / ٢٠.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ١٢٣ / ٢٧١٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٦.

(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣٦ / ٣٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٦.

١٦٢

وعن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية قال : « يعني بالذّكر ولاية أمير المؤمنين » قال : « كانوا لا يستطيعون إذا ذكر عندهم عليّ عليه‌السلام أن يسمعوا ذكره ، لشدّة بغضهم له ، وعداوة منهم له ولأهل بيته»(١) .

ثمّ وبّخ الله الكافرين المعرضين عن آيات التوحيد على شركهم بقوله : ﴿أَ فَحَسِبَ﴾ والتقدير لا شرك (٢)﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأشركوا بي ﴿أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي﴾ كالملائكة وعيسى وعزير والأصنام والشياطين ويختاروهم لأنفسهم ﴿مِنْ دُونِي﴾ وممّا سواي ، أو متجاوزين إيّاي ﴿أَوْلِياءَ﴾ ومعبودين ، أو ناصرين لهم ، ومنجيهم من عذابي ، فقد ضلّوا وأخطأوا في حسبانهم وتوهّمهم ﴿إِنَّا أَعْتَدْنا﴾ وهيّئنا ﴿جَهَنَّمَ﴾ وما فيها منن أنواع العذاب ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ بوحدانيّتي ، ورسالة رسولي ، والدّار الآخرة ﴿نُزُلاً﴾ ومأوى ، أو تشريفا لورودهم عليّ ، كما تعدّ التشريفات لورود الضّيف ذي الشأن (٣) ، وفيه غاية التهكّم.

وعن ابن عباس : أنّه موضع النزول والمأوى (٤) .

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

 وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ

 فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً * ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما

 كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٣) و (١٠٦)

ثمّ بيّن الله غاية جهلهم وخسرانهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهؤلاء المشركين : ﴿هَلْ نُنَبِّئُكُمْ﴾ وأخبركم ﴿بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً﴾ وبالأقوام الذين هم أشدّ الخلق ضررا على أنفسهم من جهة أعمالهم.

ثمّ كأنّه قيل : من هم ؟ (٥) بيّنهم لنا ، فأجابهم بقوله : ﴿الَّذِينَ ضَلَ﴾ وبطل ﴿سَعْيُهُمْ﴾ واهتمامهم في الأعمال التي هي في أنفسها حسنة ﴿فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ ومدّة أعمارهم فيها ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ﴾ ويتوهّمون ﴿أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ ويعملون صالحا ينفعهم في الآخرة ، بجهلهم بشرائط صحّة العمل واعتقادهم أنّهم على الحقّ مع عدم النظر في دلائله ، وتقصيرهم فيه.

قيل : اريد بهم الرّهبان (٦) . وعن مجاهد : هم أهل الكتاب (٧) .

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٦.

(٢) كذا.

(٣) في النسخة : الضيف الشئون.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٣٠٣.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٣٠٤.

(٦ و٧) تفسير الرازي ٢١ : ١٧٤.

١٦٣

وروى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سأله ابن الكوّاء عنهم فقال : « هم أهل حروراء » أي الخوارج.

وعن القمي : نزلت في اليهود ، وجرت في الخوارج (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « هم النصارى والقسّيسون والرّهبان ، وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة ، والحروريّة وأهل البدع » (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « كفرة أهل الكتاب : اليهود والنصارى ، وقد كانوا على الحقّ فابتدعوا في أديانهم ، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا » . ثمّ قال : « وما أهل النّهروان منهم ببعيد » (٣) .

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان ضلالتهم في الأعمال وغاية خسرانهم فيها ، بيّن سبحانه سوء عقائدهم الذي كان سببا لخسرانهم فيها بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ الخاسرون هم ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا ﴿بِآياتِ﴾ وحدانيّة ﴿رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ﴾ بعد الموت والحضور في محضر عدله في الآخرة للحساب وجزاء الأعمال ﴿فَحَبِطَتْ﴾ وضاعت بسبب ذلك ﴿أَعْمالُهُمْ﴾ التي عملوها في الدنيا باعتقاد انتفاعهم بها في الآخرة ﴿فَلا نُقِيمُ﴾ ولا ننصب ﴿لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً﴾ وميزانا ، لعدم ترتّب الثواب عليها حتى يحتاج إلى تعيين مقداره ، أو ترجيحها على سيّئاتهم.

وقيل : إنّ المراد لا نجعل لأنفسهم مقدارا أو اعتبارا (٤) .

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّه ليأتي الرجل السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة » (٥) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام - في حديث يذكر فيه أهل الموقف وأحوالهم - : « ومنهم أئمّة الكفر وقادة الضّلالة ، فاولئك لا يقيم لهم وونا ، ولا يعبأ بهم ، لأنّهم لم يعبؤوا بأمره تعالى ونهيه يوم القيامة ، فهم في جهنّم خالدون ، تلفح وجوههم النّار وهم فيها كالحون » (٦) .

وعن القمي : وزنا ، أي حسنة (٧) .

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان خسرانهم وعدم الاعتناء بشأنهم في الآخرة ، بيّن جزاءهم على كفرهم وأعمالهم الباطلة السيّئة بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ الجزاء الذي نذكر ﴿جَزاؤُهُمْ﴾ في الآخرة ، وهو ﴿جَهَنَّمُ﴾ فإنّا ندخلهم فيها ﴿بِما كَفَرُوا﴾ بتوحيدي ﴿وَاتَّخَذُوا آياتِي﴾ من القرآن ومعجزات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١ و٢) تفسير القمي ٢ : ٤٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٧.

(٣) الاحتجاج : ٢٦١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٧.

(٤) تفسير الصافي ٣ : ٢٦٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٠٥.

(٥) مجمع البيان ٦ : ٧٦٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٧.

(٦) الاحتجاج : ٢٤٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٧.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٤٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٨.

١٦٤

﴿وَرُسُلِي﴾ جميعا ﴿هُزُواً﴾ وسخرية.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خالِدِينَ

 فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٧) و (١٠٨)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه وعيد الكفّار بإعداد جهنّم نزلا ، أتبعه بوعد المؤمنين الصّالحين بجعل الفردوس نزلا لهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بوحدانيّة الله ورسالة رسوله ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ التي هي من لوازم الإيمان ودليل صدقه في الدنيا ﴿كانَتْ لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ﴾ التي هي أفضل الجنّات ﴿نُزُلاً﴾ ومأوى ، أو تشريفا ، حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ أبدا ﴿لا يَبْغُونَ﴾ ولا يطلبون ﴿عَنْها حِوَلاً﴾ وانتقالا إلى أحسن وأعلى منها ، إذ لا مزيد عليها ولا ملالة من الإقامة فيها.

قيل : إنّ الفردوس ربوة خضراء في الجنّة أعلاها وأحسنها ، ويقال لها سرّة الجنّة (١) .

وفي الحديث : « الجنّة مائة درجة ، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها ، فيها تتفجّر الأنهار الأربعة ، وفوقها عرش الرحمن ، فإذا سألتم الله فأسألوا الفردوس » (٢) .

وفي حديث آخر : « جنّات الفردوس أربع ؛ جنّتان من فضّة ، أبنيتهما (٣) وما فيهما من فضّة ، وجنّتان من ذهب ، أبنيتهما وما فيهما من ذهب » (٤) .

وعن كعب : ليس في الجنان أعلى من جنّة الفردوس ، وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر (٥) .

القمي رحمه‌الله : هذه الآية نزلت في أبي ذرّ ، والمقداد ، وسلمان الفارسي ، وعمّار بن ياسر ، جعل الله عزوجل لهم جنّات الفردوس نزلا ، أي : مأوى ومنزلا (٦) .

﴿قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ

 جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً * قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ

 فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٧٦٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٠٦.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ١٧٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٠٦.

(٣) في تفسير روح البيان : آنيتها ، وكذا التي بعدها.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٣٠٦.

(٥) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٥٠.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٤٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٨.

١٦٥

أَحَداً (١٠٩) و (١١٠)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه في السورة المباركة دلائل التوحيد والرسالة والأمثال العالية والمواعظ الشافية وقصص الأوّلين ، نبّه على كمال القرآن وفضله بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، لقومك ﴿لَوْ كانَ الْبَحْرُ﴾ الذي في الدنيا وماؤه ﴿مِداداً﴾ وحبرا ﴿لِكَلِماتِ﴾ علم ﴿رَبِّي﴾ وحكمته ، والله ﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ﴾ وفني ماؤه بحيث لم يبق منه ﴿قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي﴾ وتفنى معلوماته وحكمه ﴿وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ﴾ وخلقنا ضعفه كي يكون البحر الموجود في العالم ﴿مَدَداً﴾ ومعونة لنفد أيضا ، ولا تنفد الكلمات ، لأنّ كلّما وجد ويوجد من البحر يكون محدودا ومتناه ، وهنا علم الله تعالى غير محدود ولا متناه.

قيل : نزلت حين قال حيي بن أخطب : في كتابكم ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً(١) ثمّ تقرأون ﴿وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً(٢) [ فنزلت هذه الآية ] ، والمراد : وما اوتيتم وإن كان كثيرا ولكنّه قطرة من بحار كلمات الله (٣) .

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كمال كلامه الموحى إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمره بالتّواضع والإعلان بأنّ كلّما علمه إنّما هو بفضل الله ووحيه بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، لقومك ﴿إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ أحتاج إلى ما تحتاجون إليه ، وأتضرّر بما تضرّرون به ، لا ميز بيني وبينكم في لوازم الجسمانية ، وإنّما الميز في الكلمات الروحانية والفضائل المعنوية التي أهّلتني لأن ﴿يُوحى إِلَيَ﴾ من قبل ربّي العلوم الكثيرة والمعارف الوفيرة التي أهمّها ﴿أَنَّما إِلهُكُمْ﴾ ومعبودكم ﴿إِلهٌ﴾ ومعبود ﴿واحِدٌ﴾ يستحقّ العبادة ، ولا يأهل غيره لها.

عن العسكري عليه‌السلام قال : « يعني قل لهم أنّا في البشريّة مثلكم ، ولكن ربّي خصّني بالنبوة دونكم ، كما يخصّ بعض البشر بالغنى والجمال دون بعض من البشر ، فلا تنكروا أن يخصّني أيضا بالنبوّة » (٤).

﴿فَمَنْ كانَ﴾ يؤمن بالله ورسوله و﴿يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ﴾ وثوابه وكرامته ﴿فَلْيَعْمَلْ﴾ لذلك المطلوب ﴿عَمَلاً صالِحاً﴾ ومرضيّا عند الله ، وليعبده عبادة خالصة من الشرك الجليّ والخفيّ والأغراض النفسانية ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ من خلقه.

عن الباقر عليه‌السلام : « سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير هذه الآية فقال : من صلّى مراءاة النّاس فهو مشرك ، ومن زكّى مراءاة النّاس فهو مشرك ، ومن صام مراءاة النّاس فهو مشرك ، ومن حجّ مراءاة النّاس فهو

__________________

(١) البقرة : ٢ / ٢٦٩.

(٢) الاسراء : ١٧ / ٨٥.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٧٦.

(٤) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٠٤ ، الإحتجاج : ٣١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٩.

١٦٦

مشرك ، ومن عمل عملا ممّا أمر الله به مراءاة النّاس فهو مشرك ، ولا يقبل الله عمل مرّاء » (١) .

وعنه عليه‌السلام أنّه سئل عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسّره ذلك ؟ قال : « لا بأس ، ما من أحد إلّا ويحبّ أن يظهر له في النّاس الخير ، إذا لم يصنع ذلك لذلك » (٢) .

وعن الرضا عليه‌السلام : إنّه كان يتوضّأ للصّلاة ، فأراد رجل أن يصبّ الماء على يديه ، فأبى وقرأ هذه الآية ، وقال : « وها أنا ذا أتوضّأ للصّلاة وهي العبادة ، فأكره أن يشركني فيها أحد » (٣) .

أقول : هذه الرواية تدلّ على أنّ المراد بالإشراك في الآية مطلق الإشراك سواء أشرك الغير في نيّته أو في نفس عمله.

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « العمل الصالح المعرفة بالأئمّة ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ التسليم لعلي عليه‌السلام ، لا يشرك معه في الخلافة من ليس ذلك له ، ولا هو أهله » (٤) .

والقمي عنه عليه‌السلام ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ،﴾ قال : « لا يتّخذ مع ولاية آل محمّد غيرهم ، وولايتهم العمل الصالح ، من أشرك بعبادة ربّه فقد أشرك بولايتنا وكفر بها ، وجحد أمير المؤمنين عليه‌السلام حقّه وولايته » (٥) .

وفي ( الفقيه ) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قرأ هذه الآية عند منامه ﴿قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ إلى آخرها ، سطع له نور إلى (٦) المسجد الحرام ، حشو ذلك النور ملائكة يستغفرون له حتى يصبح » (٧) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما من عبد يقرأ ﴿قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ إلى آخر السورة ، إلّا كان له نور من مضجعه إلى بيت الله الحرام ، فإن كان من أهل بيت الله الحرام كان له نور إلى بيت المقدس » (٨) .

وفي ( الكافي ) عن الصادق عليه‌السلام : « ما من عبد يقرأ آخر الكهف عند نومه إلّا تيقّظ في الساعة التي يريد » (٩) .

وعنه عليه‌السلام : « من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة جمعة ، كانت كفّارة ما بين الجمعة إلى الجمعة».

قال : وروي في من قرأها يوم الجمعة بعد الظهر والعصر مثل ذلك (١٠) .

وفي ( المجمع ) عنه عليه‌السلام : « من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة جمعة لم يمت إلّا شهيدا ، وبعثه الله

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٩.

(٢) الكافي ٢ : ٢٢٥ / ١٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٩.

(٣) الكافي ٣ : ٦٩ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٩.

(٤) تفسير العياشي ٣ : ١٢٦ / ٢٧٢٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٠.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٤٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٠.

(٦) في النسخة وتفسير الصافي : من.

(٧) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٩٧ / ١٣٥٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٠.

(٨) ثواب الاعمال : ١٠٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٠.

(٩) الكافي ٢ : ٤٦٢ / ٢١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٠.

(١٠) الكافي ٣ : ٤٢٩ / ٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٠.

١٦٧

مع (١) الشّهداء ، ووقف يوم القيامة مع الشّهداء » (٢) .

اللهم لك الحمد والمنّة على توفيقك إيّاي لإتمام تفسير السورة المباركة.

__________________

(١) في النسخة : ويبعثه الله من.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٦٩١ ، ثواب الأعمال : ١٠٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٠.

١٦٨

في تفسير سورة مريم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا * قالَ رَبِّ

 إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا *

 وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا

 * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (١) و (٦)

ثمّ لمّا ختمت سورة الكهف التي فيها بيان الرحمة الخاصّة على أصحاب الكهف بقوله : ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ وعلى الخضر بقوله : ﴿آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا﴾ وعلى ذي القرنين بقوله :

﴿هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾ وإظهار قدرته الكاملة في قصّة أصحاب الكهف وسائر القصص ، وفيها إثبات النبوّة والمعاد ، ثمّ ختمها بتهديد المشركين وتبشير المؤمنين ، أردفت بسورة مريم التي فيها بيان رحمته الخاصّة على زكريا ومريم وكثير من الأنبياء ، وإظهار قدرته الكاملة في ولادة يحيى وعيسى وإثبات النبوّة والمعاد ، ثمّ ختمها بما ختم به السورة السابقة ، فابتدأها بذكر أسمائه بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة بقوله : ﴿كهيعص﴾ جلبا لتوجّه الناس إلى المطالب التّي بعدها ، وقد سبق تأويلها في طرفة بيان المتشابهات (١) .

وقيل : إنّها اسم هذه السورة (٢) التي فيها ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ بن أرزين (٣) بن رجعيم بن سليمان بن داود ، من سبط يهودا ، على ما قيل (٤) .

وقيل : إنّه من ولد هارون أخي موسى ، وهما من سبط لاوي (٥) .

__________________

(١) راجع : الطرفة (١٨) من مقدمة المؤلف.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٣١٢.

(٣) في تفسير روح البيان : آزر.

(٤ و٥) تفسير روح البيان ٥ : ٣١٣.

١٦٩

قيل : إنّ التقدير هذا المتلوّ عليك ذكر رحمة ربّك التي رحم بها عبده زكريّا (١) .

وقيل : إنّ التقدير أعني عبده (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : ﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ فرحمه » (٣) ،

﴿إِذْ نادى رَبَّهُ﴾ ودعاه ﴿نِداءً﴾ ودعاء ﴿خَفِيًّا﴾ في محراب بيت المقدس من بعد تقريب القربان ، على ما قيل (٤) .

وإنّما أخفى دعاءه ؛ لأنّه أقرب إلى الإخلاص والإجابة. كما في الحديث : « خير الدّعاء ما خفي» (٥) .

أو لخوفه من اطّلاع مواليه الذين كان يخافهم (٦) . أو لكونه في الصلاة (٧) . أو لئلّا يلام على طلب الولد في الشيخوخة. أو لضعفه وهرمه (٨) .

و﴿قالَ﴾ في دعائه : ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ﴾ وضعف ﴿الْعَظْمُ مِنِّي.

قيل : اشتكى سقوط أضراسه (٩)﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً﴾ وابيضّ شعوره هرما ﴿وَلَمْ أَكُنْ﴾ من بدو عمري إلى الآن ﴿بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ وخائبا ، بل كلّما دعوتك استجبت لي ، فعوّدتني إنجاح مسألتي حين كنت قويّا ، فكيف تردّني عن بابك مع كمال رجائي بكرمك ونهاية ضعفي وشدّة حاجتي إلى رحمتك ؟ فتوسّل برحمته السابقة عليه بعد ذكر ما يستدعي الإجابة والرأفة من كبر السنّ وضعف الحال.

ثمّ ذكر ارتباط حاجته بأمر الدّين المقتضي لقضائها بقوله : ﴿وَإِنِّي﴾ أرى نفسي مشرفة على الموت و﴿خِفْتُ الْمَوالِيَ﴾ وبني العمومة ﴿مِنْ وَرائِي﴾ وبعد موتي أن لا يحسنوا خلافتي على بني إسرائيل ، فيغيّروا دينهم. قيل : كان بنو عمّه شرار بني إسرائيل (١٠) .

وعن الباقر عليه‌السلام في تفسير الموالي قال : « هم العمومة وبنو العمّ » (١١) .

والقمي يقول : خفت الورثة بعدي (١٢)﴿وَكانَتِ امْرَأَتِي﴾ وزوجتي إيشاع بنت فاقوذ على قول(١٣).

أو بنت عمران على آخر (١٤)﴿عاقِراً﴾ لم تلد أبدا ﴿فَهَبْ لِي﴾ وأعطني ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾ ومن محض رحمتك وفضلك وسعة قدرتك بطريق الإختراع وخرق العادة ﴿وَلِيًّا﴾ وولدا من صلبي ﴿يَرِثُنِي﴾ جميع تركتي من المال والعلم والدين والنبوّة ، كما رواه الفخر الرازي عن ابن عباس والحسن

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٠. (٢) تفسير الرازي ٢١ : ١٧٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٣. (٤) تفسير روح البيان ٥ : ٣١٣.

(٥) مجمع البيان ٦ : ٧٧٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٣. (٦) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٠ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣١٣.

(٧) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٠. (٨) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٠ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٢٧.

(٩) تفسير روح البيان ٥ : ٣١٣. (١٠) تفسير روح البيان ٥ : ٣١٤.

(١١) مجمع البيان ٦ : ٧٧٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٣. (١٢) تفسير القمي ٢ : ٤٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٣.

(١٣ و١٤) تفسير روح البيان ٥ : ٣١٤.

١٧٠

والضحّاك (١) .

﴿وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ بن إسحاق ، أو يعقوب بن ماثان أخي عمران بن ماثان أبي مريم الملك ، كما عن الكلبي ومقاتل (٢)﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ ومرضيّا عندك قولا وفعلا.

في أن الانبياء يورثون المال خلافا للعامة

والعجب من بعض العامة أنّهم خصّوا الإرث في الآية بالعلم والنبوّة والدّين ، للرواية المجعولة عندنا المقبولة عندهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه صدقة » (٣) . مع أنّ الفخر الرازي روى عن ابن عبّاس والحسن والضحّاك أنّهم خصّوا الإرث في الموضعين بالمال (٤) .

وعن ابن عباس والسّدي ومجاهد والشّعبي والحسن والضحّاك أنّ الميراث في ﴿يَرِثُنِي﴾ المال ، وفي ﴿وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ النبوّة (٥) .

ولا يخفى أنّ قول هؤلاء الأعاظم ينافي الرواية التي رواها أبو بكر وتفرّد بنقلها ، مضافا إلى أنّ فاطمة عليها‌السلام استدلّت بهذه الآية ونظائرها ممّا تدلّ على أنّ الأنبياء يورّثون المال على كذب الرواية (٦) ، وقرّرها أمير المؤمنين (٧) ، ولا يمكن القول بكونهما جاهلين بتفسير الآية ، مع أنّ الرسول زقّهما العلم زقّا ، خصوصا علم القرآن ، مع أنّ زكريّا جعل وجود الولد له مأمنا من خوفه من مواليه ، ولا يكون ذلك الأمر إذا كان خوفه من أن يكون بنو عمّه وارثين لماله ، فيصرفوه في الصرف عن الحقّ وتغيير الدّين ، وإلّا فكم من نبيّ كان مغلوبا للأشرار ومغموما وخائفا من الكفّار.

ودعوى أنّه لو كان المراد من الإرث إرث المال ، لزم القول بعدم استجابة دعاء زكريّا ؛ لأنّ يحيى قتل في حياة زكريّا ولم يرث ماله ، فباطل جدّا. للمنع من قتله في حياة أبيه ، بتصريح جمع من الأعاظم كالزمخشري ومحمّد بن جرير الطبري وغيرهما بخلافه (٨) . مع أنّ الاعتراض مشترك الورود ؛ لأنّ إرث العلم والنبوّة أيضا لا يكون إلّا بعد موت المورّث. وعلى ما ذكره المدّعي لم يصر يحيى وارثا لنبوّة زكريّا أيضا ، مع أنّ النبوة لم يمكن أن يرثها الأشرار ، وأن تنقطع من وجه الأرض ، فكان لزكريّا ورثة النبوّة ، وإن لم يكن له ولد من صلبه. مع أنّه روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « رحم الله زكريّا ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٤.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٥.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٤ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٢٥٥.

(٤ و٥) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٤.

(٦) الاحتجاج ١ : ١٠٢.

(٧) كشف الغمة ١ : ٤٧٧.

(٨) ذكر الطبري في تفسيره ١٦ : ٣٧ أنّ معنى الآية : يرثني بعد وفاتي مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوة. ثمّ عدّد جمعا من المفسرين القائلين بهذا ، وهو صريح في الدلالة على بقاء يحيى بعد وفاة زكريا عليه‌السلام.

١٧١

لم يكن له من ورثة » (١) يعني ورثة المال.

مضافا إلى أنّه سأل الله أن يجعل وارثه مرضيا ، ولو كان المراد من الأرث إرث النبوّة ، كان هذا السؤال مستدركا ولغوا ؛ لأنّ النبيّ لا يكون إلّا مرضيّا ، والقول بأنّ الأنبياء وإن كانوا مرضيّين إلّا أنّ الرضا منهم مفضل عليهم. أو أنّ المراد بالمرضيّ المرضيّ لأمّته لا يتلقّى بالتكذيب والردّ ، أو أنّ المراد أن لا يكون متّهما في شيء ، ولا يوجد فيه مطعن ، ولا ينسب إليه شيء من المعاصي. أو أنّ المراد ثبّته على كونه مرضيّا ، كما قال إبراهيم وإسماعيل : ﴿رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ(٢) أي ثبّتنا (٣) على إسلامنا ، فكلّها خلاف الظاهر ، لا يصار إليه إلّا بدليل معتبر. وليست الرواية المجعولة أو الظنّية على قول العامة قابلة لصرف الآية عن ظاهرها.

﴿يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قالَ رَبِّ

 أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قالَ

كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٧) و (٩)

ثمّ أخبر سبحانه باستجابة دعائه وقال بالإلهام ، أو بتوسّط الملك : ﴿يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ﴾ وولد ذكر (٤) يكون من كرامته عليّ أن سمّيناه قبل ولادته ﴿اسْمُهُ يَحْيى﴾ لأنّه أحيا به عقر امّه ، كما عن ابن عبّاس (٥) . أو لأنّه أحيا قلبه بالإيمان والطاعة (٦) . أو لأنّه استشهد والشّهداء أحياء (٧) . أو لأنّ الدين به يحيا (٨) . أو لأنّه ذابح الكبش الأملح الذي هو صورة الموت في القيامة فيذبحه فيحيا الفريقان (٩) . أو لجميع الوجوه و﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ ولا في الأزمنة السابقة ﴿سَمِيًّا﴾ وموافقا في الاسم ، كما عن ابن عبّاس (١٠) . عن القمي : لم يسمّ باسمه أحد قبله (١١) .

﴿قالَ﴾ زكريّا استعظاما لقدرة الله واستعجابا من وقوع الخارق للعادة : ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي﴾ وكيف يتولّد منّي ﴿غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً﴾ لم تلد في شبابها ! فكيف وهي الآن عجوز ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ﴾ أنا ﴿مِنَ﴾ أجل ﴿الْكِبَرِ﴾ في السنّ ﴿عِتِيًّا﴾ ومنتهاه.

وإنّما ذكر ذلك للاعتراف بأنّ وجود الولد منه مع كونه شيخا فانيا ، ومن امرأته مع كونها عجوزا

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٤.

(٢) البقرة : ٢ / ١٢٨.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٥.

(٤) في النسخة : ذكور.

(٥ - ٧) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٦.

(٨) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٧.

(٩) لم نجد رواية في هذا المعنى في تفسير هذه الآية أو في سبب تسمية يحيى عليه‌السلام ، لكن وردت عدة روايات وبنفس المضمون دون ذكر اسم يحيى في تفسير الآية ٣٩ من هذه السورة ، وسيأتي بعضها في هذا التفسير ، راجع : (تفسير أبي السعود ٥ : ٢٦٦ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٣٥ ، تفسير الرازي ٢١ : ٢٢١)

(١٠) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٦.

(١١) تفسير القمي ٢ : ٤٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٤.

١٧٢

عاقرا ، لا يكون إلّا بقدرته القاهرة وإلغاء الأسباب الظاهرة.

وقيل : إنّ المقصود من السؤال عن وجود الغلام منهما أنّه يكون بردّهما إلى الشّباب ؟ أو مع إبقائهما على حال الهرم ؟ (١)

﴿قالَ﴾ سبحانه بالإلهام ، أو بتوسّط الملك : ﴿كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ﴾ لا خلف فيه ولا غلط. قيل : إنّ المعنى : الأمر كذلك ، تصديقا له. ثمّ ابتدء بقوله : ﴿قالَ رَبُّكَ(٢)﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ وسهل. وقيل : ذلك إشارة إلى مبهم يفسّره بقوله : ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ(٣) .

قيل : إنّ معنى قوله : ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾ هو أنّك تعطيني الغلام على حالنا من الشيخوخة؟ ﴿قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ﴾ يعني نعم يهب لك الغلام ، وانتما على تلك الحالة (٤) .

ثمّ استدلّ على قدرته بقوله : ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ مذكورا ، فمن كان قادرا على خلقك من العدم قادر على خلق الولد من الشيخ والشيخة بطريق أولى.

﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ

 عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١٠) و (١١)

ثمّ لمّا لم يبيّن سبحانه وقت الولادة ، سأل الله آية تدلّ على وقتها بقوله : ﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ ودلالة تدلّ على تحقّق الولد لأتلقّى نعمتك بالشّكر بدو حدوثها ﴿قالَ﴾ الله تعالى : ﴿آيَتُكَ﴾ ودليلك على ذلك ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ بكلام دنيوي ، ولا تقدر على التنطّق بغير ذكر الله ﴿ثَلاثَ لَيالٍ﴾ بأيامها مع كونك ﴿سَوِيًّا﴾ وسالما من الأمراض والآفات الموجبة لاعتقال اللّسان.

قيل : إنّه رجع تلك الليلة إلى امرأته فقربها ، فانعقدت النّطفة في رحمها ، ثمّ اشتغل بالعبادة والصلاة في محرابه المختصّ به ، فلمّا أصبح امتنع عليه التكلّم مع الناس (٥)﴿فَخَرَجَ﴾ في صبيحة ليلة ، حملت فيها امرأته ﴿عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ﴾ والمصلّى.

قيل : إنّ القوم كانوا من وراء المحراب ينتظرون أن يفتح لهم الباب فيدخلوا ويصلّوا ، إذ خرج زكريا عليهم متغيّر اللّون صامتا فأنكروه وقالوا : مالك يا زكريا (٦)﴿فَأَوْحى﴾ وأشار ﴿إِلَيْهِمْ﴾ بيده أو بغيرها ﴿أَنْ سَبِّحُوا﴾ لله وصلّوا ﴿بُكْرَةً﴾ وبين الطّلوعين ﴿وَعَشِيًّا﴾ وبين الزوال والمغرب ، على ما قيل(٧).

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣١٧.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٨.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٨.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ١٨٩.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٣١٨.

(٦) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٥٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣١٨.

(٧) تفسير روح البيان ٥ : ٣١٨.

١٧٣

وقيل : كان القوم يصلّون في الوقتين بإذنه (١) . ثمّ مضى الحال على زكريّا كذلك ثلاثة أيّام بلياليها ، ثمّ عاد إلى حالته الأولى.

﴿يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً

 وَكانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٢) و (١٤)

ثمّ تولّد يحيى عليه‌السلام بعد مضيّ مدّة حمله ونما ، وكان في صغره يلبس الصوف ويوافق الأخيار في الرياضة والعبادة ، حتى نزل عليه الوحي ، وخاطبه الله إلهاما بقوله : ﴿يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ﴾ المنزّل على موسى واعمل به ﴿بِقُوَّةٍ﴾ وجدّ واستظهار بالتوفيق والتأييد ، واصبر على مشاقّ النبوّة وتحمّل أعباء الرسالة.

في ذكر صفات يحيى وفضائله

ثمّ أخبر سبحانه بجلالة شأنه في الصبى بقوله : ﴿وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ﴾ من العقل الكامل وفهم حقائق التوراة والفقه في الدين والنبوّة والرسالة في وقت كونه ﴿صَبِيًّا﴾ غير بالغ الحلم ﴿وَ﴾ آتيناه ﴿حَناناً﴾ وعطوفة عظيمة ورحمة خاصّة ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾ وبسعة فضلنا ﴿وَزَكاةً﴾ وطهارة من كلّ ذنب ونقص ﴿وَكانَ تَقِيًّا﴾ وخائفا من ربّه ، أو محترزا من كلّ ما لا يليق بمقامه ، ﴿وَ﴾ كان ﴿بَرًّا﴾ ورحيما ﴿بِوالِدَيْهِ﴾ ومحسنا إليهما ﴿وَلَمْ يَكُنْ﴾ في آن من أوان عمره ﴿جَبَّاراً﴾ ومتكبّرا عليهما ، أو على أحد من النّاس ، أو مسيئا إليهما ، أو إلى أحد و﴿عَصِيًّا﴾ وعاقا لهما ، أو عاصيا لربّه.

وعن تفسير الإمام عليه‌السلام : « ما ألحق الله صبيّا برجال كاملي العقول إلّا هؤلاء الأربعة : عيسى بن مريم ، ويحيى بن زكريّا ، والحسن ، والحسين » .

ثمّ ذكر قصّتهم ، وذكر في قصّة يحيى قوله تعالى : ﴿وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ قال : « ومن ذلك الحكم أنّه كان صبيّا فقال له الصبيان : هل تلعب ؟ قال : والله ما للّعب خلقنا ، وإنّما خلقنا للجدّ لأمر عظيم. ثمّ قال : ﴿وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا﴾ يعني تحنّنا ورحمة على والديه وسائر عبادنا ﴿وَزَكاةً﴾ يعني طهارة لمن آمن به وصدّقه ﴿وَكانَ تَقِيًّا﴾ يتّقي الشّرور والمعاصي ﴿وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ﴾ محسنا إليهما مطيعا لهما ﴿وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا﴾ يقتل على الغضب ، ويضرب على الغضب ، [ لكنّه ] ما من عبد لله تعالى إلّا وقد أخطأ أو همّ بخطيئة إلّا يحيى بن زكريّا فلم يذنب ولم يهمّ بالذّنب (٢) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ١٩١.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٥٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٥.

١٧٤

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل ما عنى بقوله : ﴿وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا ؟﴾ قال : « تحنّن الله » ثمّ سئل فما بلغ من تحنّن الله عليه ؟ قال : « كان إذا قال : يا ربّ ، قال الله عزوجل : لبيك يا يحيى » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّه كان إذا قال في دعائه : يا ربّ يا الله ، ناده الله من السماء : لبّيك يا يحيى سل حاجتك » (٢) .

وعن ( الكافي ) عن الباقر عليه‌السلام : « مات زكريّا فورثه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبيّ صغير » ثمّ تلا هذه الآية (٣) .

وعن الجواد عليه‌السلام : « أنّ الله احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ به في النبوّة فقال : ﴿وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا(٤) .

﴿وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)

ثمّ أخبر الله بإكرامه وتعطّفه عليه في جميع الأحوال بقوله : ﴿وَسَلامٌ﴾ وأمان من الله ﴿عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾ من أن يناله من الشّيطان ما ينال سائر بني آدم ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ﴾ من عذاب القبر ﴿وَيَوْمَ يُبْعَثُ﴾ من القبر ﴿حَيًّا﴾ إلى المحشر من عذاب القيامة وأهوالها.

روى بعض العامة : « أنّ أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجا ممّا كان فيه ، ويوم يموت فيرى قوما ما شاهدهم قطّ ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. فأكرم الله يحيى فحيّاه (٥) بالسّلام عليه في هذه المواطن الثلاثة » (٦) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « أنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يولد ويخرج من بطن امّه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ، ويوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في الدنيا ، وقد سلّم الله عزوجل على يحيى في هذه الثلاثة المواطن وآمن روعته » وتلا الآية (٧) .

ثمّ اعلم أنّ في ذكر القصّة فوائد كثيرة : منها تعليم آداب الدعاء ، أوّلها : الإخفاء فيه ، كما قال تعالى : ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً(٨) ، الثاني : ذكر عجز النفس وضعفها قبل سؤال الحاجة ، الثالث : ذكره كثرة نعم الله عليه ، الرابع : نداء الله بوصف الربوبيّة ، الخامس : إظهار عدم كون قصده بالدعاء محض الدنيا بل صلاح الدين.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٨٩ / ٣٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٥.

(٢) المحاسن : ٣٥ / ٣٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٥.

(٣) الكافي ١ : ٣١٣ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٥.

(٤) الكافي ١ : ٣١٥ / ٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٥.

(٥) في تفسير الرازي : فخصّه.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ١٩٣.

(٧) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٧ / ١١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٦.

(٨) الأعراف : ٧ / ٥٥.

١٧٥

ومنها : بيان رفعة مقام زكريّا ويحيى عليهما‌السلام ، وكونهما نبيّين مع كونهما من البشر. ومنها : بيان كمال قدرته تعالى. ومنها : بيان غاية لطفه بأوليائه. ومنها : وجوب البرّ بالوالدين ، إلى غير ذلك.

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ

 دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ

 بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا *

 قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قالَ كَذلِكِ قالَ

 رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ

 فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا * فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي

 مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا * فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ

 تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا * فَكُلِي

 وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ

 صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ

 شَيْئاً فَرِيًّا * يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ

 بَغِيًّا (١٦) و (٢٨)

ثمّ أنّه تعالى بيّن (١) كمال قدرته على خلق الولد من غير فحل بقوله : ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمّد للنّاس ﴿فِي﴾ هذا ﴿الْكِتابِ﴾ العظيم ﴿مَرْيَمَ﴾ بنت عمران بن ماثان وقصّة احتبالها بعيسى ووقته بقوله : ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ﴾ وتنحّت ﴿مِنْ أَهْلِها﴾ وأقاربها وأتت ﴿مَكاناً شَرْقِيًّا﴾ من بنت خالتها ، أو اختها ابشاع زوجة زكريّا.

قيل : احتاجت يوما إلى الغسل ، وكان وقت الشّتاء ، فجاءت إلى ناحية شرقيّة من الدّار مقابل للشمس (٢)﴿فَاتَّخَذَتْ﴾ وأرخت للستر من أهلها ﴿مِنْ دُونِهِمْ﴾ وأدنى مكان منهم ﴿حِجاباً﴾ وسترا يسترها منهم إذا تعرّت.

وقيل : إنّها طلبت خلوة للعبادة لئلّا تشتغل عنها (٣) .

والقمي : خرجت إلى النّخلة اليابسة (٤)﴿فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا﴾ جبرئيل ﴿فَتَمَثَّلَ﴾ وتصوّر ﴿لَها

__________________

(١) في النسخة : بعد بيان.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٣٢١.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٩٦.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٤٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٦.

١٧٦

بصورة البشر فرأته ﴿بَشَراً﴾ شابّا أمرد حسن الوجه ﴿سَوِيًّا﴾ ومعتدلا في الخلقة والقامة.

وقيل : كان لها في منزل زكريّا محراب مخصوص تسكنه ، وكان إذا خرج أغلق عليها بابه ، فتمنّت أن تتّخذ خلوة في الجبل لتفلّي (١) رأسها ، فانفرج (٢) السقف فخرجت إلى المفازة ، فجلست في المشرفة. وراء الجبل ، فأتاها الملك (٣) في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشّعر.

وقيل : إنّه ظهر لها في صورة يوسف أحد خدّام بيت المقدس (٤) ، فلمّا رأته ﴿قالَتْ﴾ تعفّفا وتورّعا : يا شابّ ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ﴾ وألتجأ إليه برحمته الواسعة ﴿مِنْكَ﴾ ومن سوء قصدك وصنيعك ﴿إِنْ كُنْتَ﴾ مؤمنا ﴿تَقِيًّا﴾ تبالي بالاستعاذة بالرحمن ، فلا تتعرّض لي واتّعظ بتعويذي ﴿قالَ﴾ جبرئيل : لا تخافي (٥) منّي ولا تتوهّمي (٦) السّوء في حقّي ﴿إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ الذي استعذت به جئتك ﴿لِأَهَبَ لَكِ﴾ وأعطيك بالنّفخ في روعك ﴿غُلاماً زَكِيًّا﴾ طاهرا من كلّ لوث ودنس ، ومبرّءا من كلّ نقص وشين ، فلمّا سمعت ذلك ﴿قالَتْ﴾ تعجّبا من وقوع الأمر الخارق للعادة ، لا استبعادا من قدرة الله : ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي﴾ وكيف يتولّد منّي ﴿غُلامٌ وَ﴾ الحال أنّه ﴿لَمْ يَمْسَسْنِي﴾ ولم يباشرني ﴿بَشَرٌ﴾ بالنّكاح ﴿لَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ وفاجرة ! ﴿قالَ﴾ جبرئيل : ﴿كَذلِكِ﴾ الذي قلت ﴿قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ.﴾ قد مرّت الوجوه في ﴿كَذلِكِ﴾ وما بعده.

ثمّ ذكر سبحانه علّة خرق العادة بوهب الغلام بغير فحل بقوله : ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً﴾ وبرهانا قاطعا للنّاس على قدرتنا ورسالة هذا الغلام.

قيل : إنّ التقدير لنبيّن به قدرتنا (٧)﴿لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً﴾ عظيمة ﴿مِنَّا﴾ عليهم ، هداية لهم بهدايته ﴿وَكانَ﴾ ذلك الخلق العجيب ﴿أَمْراً مَقْضِيًّا﴾ ومقدّرا في علمي السابق لا بدّ من وقوعه.

ثمّ قيل : إنّ جبرئيل نفخ في جيبها (٨) ، أو ذيلها (٩) ، أو أخذ بكمّها ونفخ في درعها (١٠) .

عن ابن عباس : فاطمأنّت مريم إلى قول جبرئيل ، فدنا منها فنفخ في جيب درعها (١١)﴿فَحَمَلَتْهُ﴾ عقيب نفخ جبرئيل.

عن الباقر عليه‌السلام : « إنّه تناول جيب درعها (١٢) فنفخ فيه نفخة ، فكمل الولد في الرّحم في ساعته ، كما يكمل في أرحام النساء في تسعة أشهر ، فخرجت من المستحمّ وهي حامل فحجج (١٣) مثقل ، فنظرت

__________________

(١) في النسخة : لتضل. (٢) في النسخة : فانفجر.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٩٦. (٤) تفسير الرازي ٢١ : ١٩٦.

(٥) في النسخة : تخف. (٦) في النسخة : ولا تتوهم.

(٧) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٦١.

( ٨ و٩ و١٠ ) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠١.

(١١) تفسير روح البيان ٥ : ٣٢٤.

(١٢) في مجمع البيان : مدرعتها.

(١٣) كذا ، وفي مجمع البيان : محج ، وفي الصافي : محج ، ولعلها تصحيف : تفحج ، أي تباعد بين رجليها ، كما هو شأن - النساء المثقلات بالحمل.

١٧٧

إليها خالتها فانكرتها ، ومضت مريم على وجهها مستحيية من خالتها ومن زكريّا » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « أنّ مريم حملت بعيسى تسع ساعات » (٢) .

﴿فَانْتَبَذَتْ﴾ مريم واعتزلت من أهلها وعيسى في بطنها وتباعدت ﴿بِهِ مَكاناً قَصِيًّا﴾ وموضعا بعيدا من قومها.

روى بعض العامة عن وهب : أنّ مريم لمّا حملت بعيسى عليه‌السلام كان معها ابن عمّ لها يقال له يوسف النجّار ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون ، وكانا يخدمان ذلك المسجد ، ولا يعلم في زمانهما أحد أشدّ اجتهادا وعبادة منهما ، وأوّل من عرف حمل مريم يوسف ، فتحيّر في أمرها ، فكلّما أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها وعبادتها وأنّها لم تغب عنه ساعة قطّ ، وإذا أراد أن يبرّءها رأى الذي ظهر منها من الحمل ، فأوّل ما تلكّم أن قال : إنّه وقع في قلبي من أمرك شيء ، وقد حرصت على كتمانه ، فغلبني ذلك ، فرأيت أنّ الكلام فيه أشفى لصدري. فقالت : قل قولا جميلا. قال : أخبريني - يا مريم - هل ينبت زرع بغير بذر ؟ وهل تنبت شجرة بغير غرس ؟ وهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت: نعم ، ألم تعلم أنّ الله أنبت الزّرع يوم خلقه من غير بذر ، وهذا البذر إنّما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر. ألم تعلم أنّ الله تعالى أنبت الشجر من غير غيث ، وبالقدرة جعل الغيث حياة الشّجر بعدما خلق كلّ واحد منهما على حدة ؟ أو تقول أنّ الله لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء ، ولو لا ذلك لم يقدر على إنباتها ؟

فقال يوسف : لا أقول هذا ، ولكنّي أقول : إنّ الله قادر على ما يشاء ، فيقول له كن فيكون. فقالت له مريم : ألم تعلم أنّ الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا انثى ؟ فعند ذلك زالت التّهمة عن قلبه ، وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضّعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب ، فلمّا دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلّا يقتلوا ولدك ، فاحتملها يوسف إلى أرض [ مصر ] على حمار له ، فلمّا بلغت تلك البلاد أدركها النّفاس ، فألجأها إلى أصل نخلة ، وذلك في زمان برد ، فاحتضنتها فوضعت عندها (٣) .

وقيل : إنّها استحيت من زكريّا ، فذهبت إلى مكان بعيد ، لا يعلم بها زكريا (٤) .

وقيل : إنّها خافت من قومها على ولدها (٥) . وعلى أيّ تقدير خرجت من بين قومها ، أو من منزل

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٧٨٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٧.

(٢) الكافي ٨ : ٣٣٢ / ٥١٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٧.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠١.

(٤ و٥) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠٢.

١٧٨

زكريّا في جوف اللّيل إلى خارج بيت المقدس على ما قيل (١) . أو من دمشق إلى كربلاء ، كما عن السجّاد عليه‌السلام (٢) . فأخذها الطّلق ﴿فَأَجاءَهَا﴾ وألجأها ﴿الْمَخاضُ﴾ ووقع الولادة ﴿إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ اليابسة لتستتر بها وتعتمد عليها عند الولادة ، إذ لم يكن لها قابلة تعينها ، أو لإظهار المعجزة في الجذع ، وهو ما بين العرق والغصن ، وكان مجيئها إلى الجذع بإلهام الله.

القمي : كان ذلك اليوم سوق ، فاستقبلها الحاكة ، وكانت الحياكة أنبل صناعة في ذلك الزمان ، فاقبلوا على بغال شهب ، فقالت لهم مريم : أين النّخلة اليابسة ؟ فاستهزءوا بها وزجروها. فقالت لهم : جعل الله كسبكم بورا ، وجعلكم في النّاس عارا ؛ ثمّ استقبلها قوم من التجّار فدلّوها على النخلة اليابسة ، فقالت لهم : جعل الله البركة في كسبكم ، وأحوج النّاس إليكم ؛ فلمّا بلغت النّخلة أخذها المخاض فوضعت بعيسى ، فلمّا نظرت إليه ﴿قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا(٣) الأمر ، أو هذا اليوم ، أو هذا الحمل ﴿وَكُنْتُ نَسْياً﴾ وشيئا من حقّه أن يطرح لحقارته ودناءته كخرقة الطمث و﴿مَنْسِيًّا﴾ عند النّاس لا يذكرني أحد.

قيل : إنّما قالت ذلك كي لا يقع أحد في المعصية ، للتكلّم فيها ، وإلّا فإنّها كانت راضية مسرورة بوقوع ما بشّرت به (٤) .

والقمي : ﴿قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا﴾ ماذا أقول لخالتي (٥) ، ولبني إسرائيل (٦) ؟ ﴿فَناداها﴾ عيسى ﴿مِنْ تَحْتِها﴾ ومن مكان أسفل منها ، أو من تحت النّخلة تطييبا لقلبها وإزالة للوحشة عنها : ﴿أَلَّا تَحْزَنِي﴾ بسبب ولادتي وقحط الطعام والشراب ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ﴾ وفي مكان أسفل منك ﴿سَرِيًّا﴾ ونهرا صغيرا جاريا.

عن ابن عبّاس : أنّ جبرئيل ضرب برجله الأرض ، فظهرت عين ماء عذب ، فجرى جدولا (٧) .

وقيل : إنّ السريّ سيّد القوم وشريفهم (٨)﴿وَهُزِّي﴾ واجذبي ﴿إِلَيْكِ﴾ ونحوك ﴿بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ التي فوق رأسك ﴿تُساقِطْ عَلَيْكِ﴾ إسقاطا متواترا ﴿رُطَباً جَنِيًّا﴾ طريّا ، أو صالحا للاجتناء. قيل : كان من العجوة ، وهي أفضل التمر (٩)﴿فَكُلِي﴾ يا مريم من الرّطب ﴿وَاشْرَبِي﴾ من ماء السّريّ ﴿وَقَرِّي عَيْناً﴾ وطيبي نفسا ، وارفضي عنك ما أحزنك وأهمّك ، فإنّ الله نزّه ساحتك بالخوارق : من جري

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٣٢٦.

(٢) التهذيب ٦ : ٧٣ / ١٣٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٨.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠٣.

(٥) في المصدر : لخالي.

(٦) تفسير القمي ٣ : ٤٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٨.

(٧) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٦٢ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٢٧.

(٨) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٦٢ ، جوامع الجامع : ٢٧٣.

(٩) تفسير روح البيان ٥ : ٣٢٨.

١٧٩

النّهر ، واخضرار النّخلة اليابسة ، وإثمارها قبل وقتها.

قيل : إنّ المنادي كان جبرئيل (١) ، فإنّه كان لها كالقابلة.

قيل : إنّما قدّم الأكل لكون حاجتها إليه أشدّ (٢) ، وأخّر تأمينه عن الخوف لقلّته ببشارة جبرئيل ، وإنّما جاء رزقها في المحراب من الجنّة حال طفوليّتها لعدم تعلّق قلبها بشيء هنالك ، وامرت بهزّ النخلة هنا لعلاقتها بالولد ، وإنّما امرت بهزّ النخلة لأنّها تعجّبت من وجود الولد بلا فحل ، فأراها الله الرّطب من النخلة اليابسة لأنّها لا تثمر إلّا بالتّأبير (٣) من لقاح الذّكر.

في الحديث : « إذا ولدت امرأة فليكن أوّل ما تأكل الرّطب ، فإن لم يكن رطب فتمر ، فإنّه لو كان شيء أفضل منه لأطعمه الله تعالى مريم بنت عمران حين ولدت عيسى » (٤) .

قيل : إنّ الله أرسل الملائكة ليكونوا عند مريم حين ولادة عيسى عليه‌السلام ، فلمّا تولّد حفّوا به وقمّطوه في حرير الجنّة ، ووضعوه عند مريم (٥) .

ثمّ علّمها عيسى عليه‌السلام طريق التخلّص من اعتراض بني إسرائيل عليها بقوله : ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً﴾ وإن رأيت من الآدميّين شخصا اعترض عليك ﴿فَقُولِي﴾ في جوابه بالاشارة : ﴿إِنِّي﴾ لا أتكلّم ولا اجيبك لأنّي ﴿نَذَرْتُ﴾ وجعلت على نفسي أن أصوم ﴿لِلرَّحْمنِ صَوْماً﴾ وإمساكا من الكلام ، أو منه ومن غيره من المفطرات ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ قيل : كان صيام عبّاد بني إسرائيل الإمساك من الطعام والكلام ، وقد نسخ في هذه الأمّة (٦) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده » ثمّ قال : « قالت مريم : ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً﴾ أي صمتا ، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم ، وغضّوا أبصاركم » (٧) . ثمّ احتضنت مريم ولدها ، ورجعت إلى بيت المقدس.

﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها﴾ عن ابن عبّاس : أنّ مريم خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس ، وجاءتهم عند الظهر ومعها صبيّ (٨)﴿تَحْمِلُهُ﴾ روي أنّ زكريّا افتقد مريم ، فلم يجدها في محرابها ، فاغتمّ غمّا شديدا ، وقال لابن خالها يوسف : اخرج في طلبها ، فخرج يقتصّ أثرها حتى لقيها تحت النخلة ، فلمّا رجعت إلى قومها ، وهم أهل بيت صالحون ، وزكريّا جالس معهم ، بكوا وحزنوا (٩) و﴿قالُوا﴾ توبيخا

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠٤.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠٦.

(٣) أبّر النخل : لقحه وأصلحه.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٣٢٨.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٣٢٨.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٣٢٨.

(٧) الكافي ٤ : ٨٧ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧٩.

(٨) تفسير روح البيان ٥ : ٣٢٩.

(٩) تفسير روح البيان ٥ : ٣٢٩.

١٨٠