نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

جانبه عليه كساء ، إذا قنّع رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غطّى رجليه خرج رأسه ، فقام موسى يصلّي وقال ليوشع : احفظه (١) عليّ ، قال : فقطرت قطرة من السماء في المكتل فاضطرب الحوت ، ثمّ جعل يثب من المكتل إلى البحر ، وهو قوله تعالى : ﴿فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً﴾ ثمّ جاء طير فوقع في (٢) ساحل البحر ، ثمّ أدخل منقاره في البحر فقال : يا موسى ، ما أخذت من علم ربّك ما حمل [ ظهر ] منقاري من جميع ماء البحر (٣) .

وفي رواية عنهما عليهما‌السلام : « لمّا كان من أمر موسى عليه‌السلام ما كان ، اعطي مكتلا فيه حوت مملّح ، وقيل له : هذا يدلّك على صاحبك عند مجمع البحرين صخرة عندها عين (٤) لا يصيب منها شيء ميّتا إلّا حيي ، يقال لها عين الحياة ، فانطلقا حتى بلغا الصخرة ، فانطلق الفتى يغسل الحوت في العين ، فاضطرب في يده فخدشه وتفلّت منه ونسيه الفتى » (٥) .

﴿فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً * قالَ أَرَأَيْتَ

 إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ

 وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما

 قَصَصاً * فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا

 عِلْماً (٦٢) و (٦٥)

﴿فَلَمَّا جاوَزا﴾ مجمع البحرين ﴿قالَ﴾ موسى ﴿لِفَتاهُ﴾ يوشع : ﴿آتِنا غَداءَنا﴾ والحوت الذي أعددناه لأكلنا أوّل النهار ، بالله ﴿لَقَدْ لَقِينا﴾ وأصبنا ﴿مِنْ سَفَرِنا هذا﴾ الذي نحن فيه ﴿نَصَباً﴾ وتعبا شديدا وعيّا كثيرا.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لم يجد موسى النّصب حتى جاوزا (٦) المكان الذي أمره به » (٧) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « إنّما أعيى حيث جاوزا (٨) الوقت » (٩) .

فلمّا جاء يوشع بالسفرة تذكّر قصّة الحوت و﴿قالَ :﴾ يا موسى ﴿أَ رَأَيْتَ﴾ وهل اطّلعت على الأمر العجيب ، فإنّا ﴿إِذْ أَوَيْنا﴾ ووصلنا ﴿إِلَى الصَّخْرَةِ﴾ ونزلنا عندها ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ﴾ وتركت

__________________

(١) في تفسير العياشي : احفظ.

(٢) في تفسير العياشي : فوقع على.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ١٠١ / ٢٦٧١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٩.

(٤) في تفسير العياشي : عين مجمع البحرين.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ٩٧ / ٢٦٦٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٠.

(٦) في تفسير روح البيان : جاوز.

(٧) تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٥.

(٨) في تفسير العياشي : جاوز.

(٩) تفسير العياشي ٣ : ١٠١ / ٢٦٧١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٠.

١٤١

﴿الْحُوتَ﴾ على الصخرة ، أو نسيت أن أذكر لك أمره وما شاهدت من العجب ، وهو أنّه حيي واضطرب ووقع في الماء.

قيل : إنّ علّة نسيانه - وإن كان أمره من شدّة غرابته ممّا لا ينسى اعتياده مشاهدة أمثال ذلك من موسى عليه‌السلام ، فقلّ اهتمامه به ، أو استغراقه في أنوار جمال الالوهيّة وانجذاب شراشره (١) إلى جناب قدس الربوبية (٢) .

ثمّ لمّا كان نسيانه ذلك سببا لتجاوز موسى عليه‌السلام من ذلك المكان وارتفاعه في التعب ، اعتذر إليه بقوله : ﴿وَما أَنْسانِيهُ﴾ شيء ﴿إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ لك واخبرك به ﴿وَاتَّخَذَ﴾ الحوت ﴿سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ﴾ سبيلا أو اتخاذا ﴿عَجَباً.

قيل : إنّ وجه التعجّب حياته بعد الموت والتّشويه ، وانقلابه من المكتل ، وإلقاء نفسه في البحر ، وجعل الله تعالى الماء على الحوت كالطاق والسّرب (٣) . وإنّما نسب يوشع النسيان إلى الشيطان لكونه نقصا أو لإظهار هضم النفس.

وقيل : إنّ بعد إخبار يوشع بأمر الحوت ﴿قالَ﴾ موسى : عجبا ﴿ذلِكَ﴾ الذي ذكرت من أمر الحوت (٤)﴿ما كُنَّا نَبْغِ﴾ ونطلب لكونه أمارة الفوز بالمقصود من لقاء الخضر ﴿فَارْتَدَّا﴾ ورجعا من مكانهما إلى مكان الصخرة ﴿عَلى آثارِهِما﴾ وطريقهما الذي جاءا منه ، وهما يقصّان ﴿قَصَصاً﴾ ويتفحّصان تفحّصا عن أثرهما وطريقهما إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت ، فأتيا الصخرة ﴿فَوَجَدا﴾ عندها ﴿عَبْداً﴾ عظيم الشّأن ﴿مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ﴾ الوحي والنبوّة اللّتين تكونان ﴿رَحْمَةً﴾ وتفضّلا ﴿مِنْ عِنْدِنا.

وقيل : إنّ الصوفية قالوا : إنّ المراد من الرحمة طول العمر لا النبوّة (٥) . وقيل : إنّه كان نبيّا ولم يكن مرسلا (٦)﴿وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ خاصّا بنا وهو علم الغيب.

أقول : ذهب الأكثرون إلى أنّه الخضر ، كما في الروايات السابقة ؛ وإنّما سمّي خضرا لأنّه لا يقف موقفا إلّا اخضرّ ذلك الموضع (٧) .

عن الصادق عليه‌السلام : « إنّ الخضر كان نبيّا مرسلا ، بعثه الله إلى قومه ، فدعاهم إلى توحيده ، والإقرار

__________________

(١) الشّراشر : النفس ، والمحبّة ، وقيل : جميع الجسد ، يقال : ألقى عليه شراشره ، أي نفسه حرصا ومحبّة.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ : ١٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٦.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٤٧ ، والسّرب : الطريق. والسّرب : حفير تحت الأرض لا منفذ له ، والقناة الجوفاء.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٧.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٢٧٠.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٨.

(٧) تفسير الرازي ٢١ : ١٤٩.

١٤٢

بأنبيائه ورسله وكتبه ، وكانت آيته أنّه كان لا يجلس على خشبة يابسة ولا أرض بيضاء إلّا اهتزّت خضراء ، وإنّما سمّي الخضر لذلك ، وكان اسمه بليا بن ملكا بن عامر (١) بن أرفخشد بن سام بن نوح (٢) .

وقال بعض العامّة : إنّه بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالح (٣) بن أرفخشد بن سام بن نوح(٤) .

وروى أبو الليث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « أنّه كان ابن ملك من الملوك ، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده ، فلم يقبل وهرب منه ، ولحق بجزائر البحر » (٥) .

وقيل : إنّ أباه كان ملكا ، وأمّه كانت بنت فارس ، واسمها الها ، وأنّها ولدته في مغارة ، وأنّه ترك هنالك وشاة ترضعه في كلّ يوم من غنم رجل من القرية ، فأخذه الرجل فربّاه ، فلمّا شبّ طلب الملك أبوه كاتبا ، فجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي نزلت على إبراهيم وشيث. فدخل الخضر فيمن قدم عليه من الكتّاب ، فلمّا استحسن خطّه ومعرفته ونجابته سأله عن جليّة أمره ، فعرف أنّه ابنه ، فضمّه لنفسه وولّاه أمر الناس. ثمّ فرّ الخضر من الملك وزهد في الدنيا ، وسار إلى أن وجد عين ماء الحياة فشرب منها (٦) .

وعن ابن عبّاس : أنّ الخضر بن آدم لصلبه ، ونسئ له في أجله حتّى يكذّب الدجّال (٧) .

وعن ابن العساكر : أنّ آدم لمّا حضره الموت أوصى بنيه أن يكون جسده معهم في غار ، فكان جسده في مغارة معهم ، فلمّا بعث الله نوحا ضمّ ذلك الجسد في السفينة بوصيّة آدم ، فلمّا خرج منها قال لبنيه : إنّ آدم دعا بطول العمر لمن يدفنه من أولاده إلى يوم القيامة ، فذهب أولاده إلى الغار ليدفنوه ، وكان فيهم الخضر ، فكان هو الذي تولّى دفن آدم ، فأنجز الله ما وعده (٨) .

وقيل : إنّه ابن خالة ذي القرنين ، وكان في سفره معه ، وشرب من ماء الحياة ، فمدّ الله عمره(٩).

وقيل : إنّه كان من ذريّة إسحاق (١٠) .

وعن البغوي : أربعة من الأنبياء أحياء إلى يوم القيامة ، اثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس عليهما‌السلام ، [ وإثنان في السماء إدريس وعيسى عليهما‌السلام ](١١) .

وقال بعض العامة : أنّ أبا عمر إمام الحديث في وقته روى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين غسّل وكفّن سمعوا قائلا يقول : السّلام عليكم يا أهل البيت ، إنّ في الله خلفا من كلّ هالك ، وعوضا من كلّ تالف ، وعزاء من كلّ مصيبة ، فعليكم بالصّبر فاصبروا واحتسبوا. ثمّ دعا لهم ، ولا يرون شخصه ، فكانوا يرون

__________________

(١) في علل الشرائع : باليا بن ملكا بن عابر.

(٢) علل الشرائع : ٥٩ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥١.

(٣) في تفسير روح البيان : شالخ.

(٤ و٥) تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٧.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٧.

(٧ و٨) تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٨

(٩ - ١١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٨.

١٤٣

أنّه الخضر (١) .

وعن كتاب ( الهواتف ) لبعض العامّة : أنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لقي الخضر وعلّمه الدعاء ، وذكر فيه ثوابا عظيما ، ومغفرة لمن قاله في أثر كلّ صلاة وهو : يا من لا يشغله سمع عن سمع ، ويا من لا تغلّطه المسائل ، ويا من لا يتبرّم من إلحاح الملحّين ، أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك (٢) .

وروى بعض أكابر العامة أنّ الخضر يظهر مع أصحاب الكهف عند ظهور المهدي عليه‌السلام ويستشهد ، ويكون من أفضل شهداء عسكر المهدي عليه‌السلام (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام في الحديث السابق : « فرجع موسى عليه‌السلام فقصّ أثره حتى انتهى إليه وهو على حاله مستلق ، فقال له موسى عليه‌السلام : السّلام عليك ، [ فقال : وعليك السّلام ] يا عالم بني إسرائيل. قال : ثمّ وثب فأخذ عصاه بيده » الخبر (٤) .

﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قالَ إِنَّكَ لَنْ

 تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قالَ سَتَجِدُنِي

 إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ

 شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٦٦) و (٧٠)

﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى﴾ شرط ، أو بانيا على ﴿أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ علما يكون هو ﴿رُشْداً﴾ لي في ديني ، ودلالة لي إلى خيري ، أو علّمت وارشدت به ﴿قالَ﴾ الخضر : يا موسى ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ لأنّي وكّلت بأمر (٥) لا تطيقه ، ووكّلت بأمر (٦) لا اطيقه. كما عن الصادق عليه‌السلام (٧) .

ثمّ بالغ في صرفه عن مصاحبته باستبعاد الصّبر على ما يرى بقوله : ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ وعلما ، ولم تقف على حقيقته ﴿قالَ﴾ موسى عليه‌السلام : ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً﴾ معك غير معترض عليك ﴿وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾ ولا اخالفك فيما تطلب منّي.

عن الصادق عليه‌السلام « فلمّا استثنى المشيئة قبله » (٨) .

وفي حديث عن أحدهما عليهما‌السلام : « فلمّا سأل العالم علم العالم أنّ موسى عليه‌السلام لا يستطيع صحبته ولا

__________________

(١ و٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٨.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٩.

(٤) تفسير العياشي ٣ : ١٠٢ / ٢٦٧١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥١.

(٥ و٦) في علل الشرائع : بعلم.

(٧) تفسير العياشي ٣ : ٩٨ / ٢٦٦٥ ، علل الشرائع : ٦٠ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٢.

(٨) علل الشرائع : ٦٠ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٢.

١٤٤

يحتمل علمه ولا يصبر معه ، فعند ذلك قال : فكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ؟ فقال له موسى عليه‌السلام وهو خاضع يستلطفه (١) على نفسه كي يقبله : ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً(٢) .

عن الصادق عليه‌السلام : « كان موسى عليه‌السلام أعلم من الخضر » (٣) .

ثمّ ﴿قالَ﴾ الخضر إيذانا للرّضا بصحبته : ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي﴾ وصحبتني ﴿فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ﴾ حكمة ﴿شَيْءٍ﴾ وفعل تشاهده من أفعالي وتنكره في نفسك منّي ﴿حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ﴾ وأبتدؤك ﴿مِنْهُ ذِكْراً﴾ وبيانا ، فإنّ كلّما أفعله له مصلحة تامّة وغاية حميدة أطلعك عليها.

عن الرضا عليه‌السلام : « يقول : لا تسألني عن شيء أفعله ولا تنكره عليّ حتى اخبرك بخبره ، قال :  نعم » (٤) . قيل : إنّ موسى عليه‌السلام صرف يوشع إلى بني إسرائيل ، وبقي هو مع الخضر (٥) .

﴿فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ

 شَيْئاً إِمْراً * قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما

 نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ

 أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ

 تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ

 مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ

 يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ

 عَلَيْهِ أَجْراً (٧١) و (٧٧)

﴿فَانْطَلَقا﴾ وذهبا : قيل : وتبعهما يوشع (٦)﴿حَتَّى إِذا رَكِبا﴾ البحر ﴿فِي السَّفِينَةِ﴾ روي أنّهما مرّا بالسفينة فاستحملا ملاحيّها ، فعرفوا الخضر ، فحملوهما بغير أجرة (٧) . فبينما تسير السفينة قام الخضر و﴿خَرَقَها﴾ وشقّها لمّا بلغوا وسط البحر.

عن الرضا عليه‌السلام في حديث : « فمرّوا ثلاثتهم حتّى انتهوا إلى ساحل البحر ، وقد شحنت سفينة وهي تريد أن تعبر : فقال أرباب السفينة : نحمل هؤلاء الثلاثة نفر فإنّهم قوم صالحون فحملوهم ، فلمّا

__________________

(١) في تفسير العياشي : يستعطفه.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ١٠٠ / ٢٦٧٠ عن الصادق عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٢.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٩٨ / ٢٦٦٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٢.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٣.

(٥) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٣٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٧٧.

(٦ و٧) تفسير روح البيان ٥ : ٢٧٧.

١٤٥

جنحت السفينة في البحر قام الخضر إلى جوانب السفينة فكسرها فحشاها بالخرق (١) والطين ، فغضب موسى عليه‌السلام غضبا شديدا و﴿قالَ﴾ للخضر معترضا عليه : ﴿أَ خَرَقْتَها﴾ وشققتها ﴿لِتُغْرِقَ أَهْلَها(٢) مع أنّهم محسنون بنا حيث حملونا بلا اجرة ؟ ! بالله ﴿لَقَدْ جِئْتَ﴾ وفعلت ﴿شَيْئاً﴾ وفعلا ﴿إِمْراً﴾ وشنيعا ، أو عظيما ، أو عجيبا.

القمي : هو المنكر ، وكان موسى ينكر الظلم فأعظم ما رأى (٣)﴿قالَ﴾ الخضر لموسى عليه‌السلام إنكارا عليه ، أو تقريرا : ﴿أَ لَمْ أَقُلْ﴾ لك ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ وأنت وعدتني الصبر ، فلم خالفت ؟

﴿قالَ﴾ موسى معتذرا إلى الخضر : ﴿لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ﴾ وصيّتك بترك السؤال من شدّة الغضب ، ولا مؤاخذة على الناسي ﴿وَلا تُرْهِقْنِي﴾ ولا تعنتني ﴿مِنْ أَمْرِي﴾ الذي أنا عليه من متابعتك ﴿عُسْراً﴾ ومشقّة ، بل يسّر متابعتك عليّ بالإغضاء وترك المناقشة ، فإنّي مشتاق إلى صحبتك ، ولا يمكنني ذلك إلّا بأن ترفق بي وتسامحني فيما يصدر منّي.

فقبل الخضر عذر موسى ، وخرجا من السفينة ﴿فَانْطَلَقا﴾ وذهبا معا ﴿حَتَّى إِذا﴾ مرّا بقرية و﴿لَقِيا﴾ في خارجها - على ما قيل (٤) - ﴿غُلاماً﴾ صبيحا ، فأخذه الخضر وذهب به خلف الجدار ﴿فَقَتَلَهُ.

وعن ابيّ بن كعب ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّهما خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده » (٥) .

وعن الرضا عليه‌السلام في الحديث السابق : « فخرجوا من السفينة ، فنظر الخضر إلى غلام يلعب بين الصبيان حسن الوجه ، كأنّه قطعة قمر ، وفي اذنيه درّتان ، فتأمّله الخضر ثمّ أخذه وقتله ، فوثب موسى عليه‌السلام على الخضر وجلد به الأرض » (٦) . ﴿قالَ﴾ انكارا لفعله ﴿أَ قَتَلْتَ﴾ يا خضر ﴿نَفْساً زَكِيَّةً﴾ طاهرة من الذنوب ﴿بِغَيْرِ﴾ قتل ﴿نَفْسٍ﴾ محترمة يوجب القصاص ؟ !

قيل : إنّ الغلام كان بالغا ، لأنّ الصغير لو قتل أحدا لا يقتصّ منه (٧) . وفيه : لعلّ المراد بيان إنحصار مجوّز القتل في الحدود والقصاص ، وإن لم يكن في الصغير أحد موجباته.

وقيل : لعلّ الصغير كان يقاد في شرع موسى ، كما أنّ الصغار كانوا مكلّفين قبل الهجرة ، وفي عام

__________________

(١) في النسخة : بالخزف.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٤.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٣.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٧٩.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٢٧٩.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٣٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٤ ، وجلد به الأرض : صرعه.

(٧) تفسير روح البيان ٥ : ٢٧٩.

١٤٦

خيبر رفع القلم عنهم (١) .

وروت العامّة أنّ عليا عليه‌السلام أسلم وهو ابن ثماني سنين ، وقد أجمعوا على صحّة إسلامه (٢) .

ثمّ بالغ موسى عليه‌السلام في توبيخ الخضر بقوله : ﴿لَقَدْ جِئْتَ﴾ وفعلت يا خضر ﴿شَيْئاً﴾ وفعلا ﴿نُكْراً﴾ وقبيحا غايته ، ومنكرا أنكر من الفعل الأوّل ، لأنّ خرق السفينة وإن كان تعريضا للتلف إلّا أنّه قابل للتّدارك ، بخلاف قتل الغلام فإنّه إتلاف غير قابل للتدارك. ﴿قالَ﴾ الخضر توبيخا لموسى على عدم وفائه بالعهد وتركه العمل بالوصيّة : يا موسى ﴿أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ﴾ مرارا ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.

عن الصادق عليه‌السلام : « قال الخضر : إنّ العقول لا تحكم على أمر الله ، بل أمر الله يحكم عليها ، فسلّم لما ترى منّي واصبر عليه ، فقد كنت علمت أنّك لن تستطيع معي صبرا » (٣)﴿قالَ﴾ موسى : اعف يا خضر عن خطئي في هذه المرّة ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها﴾ وخالفتك مّرة ثالثة ﴿فَلا تُصاحِبْنِي﴾ وإن سألت صحبتك ، وأبعدني وإن التمست قربك ﴿قَدْ بَلَغْتَ﴾ ووجدت في تبعيدي وعدم قبول التماسي ﴿مِنْ لَدُنِّي﴾ ومن قبلي ﴿عُذْراً﴾ مقبولا لا أقدر [ على ] ردّه. وفي الحديث : « رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك ، ولو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب » (٤) .

﴿فَانْطَلَقا﴾ وذهبا معا بعد ما شرطا ذلك ﴿حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ﴾ يقال لها أنطاكية ، وكانت ذات أعين وسور عظيم من صخر داخلة خمسة أجبل ، ودورها اثنا عشر ميلا. كذا قيل (٥) . وقيل : إنّها أيلة (٦) . وقيل : البصرة (٧) . وقيل : جردان من أرمينية (٨) . وقيل : برقة من الروم (٩) . وعن الصادق والرضا عليهما‌السلام : « هي الناصرة ، وإليها تنسب النصارى » (١٠) .

قيل : كانت عادة أهل البلد أنهم يسدّون أبوابها في أوّل الليل ولا يفتحونها لأحد ، فجاء موسى والخضر حتّى وصلا إلى القرية عند العشاء ، فوجدا أبوابها مسدودة ، فسألوا أهلها أن يفتحوا لهما الباب فأبوا ذلك (١١) ، ولمّا كانا جائعين ﴿اسْتَطْعَما أَهْلَها﴾ وطلبا منهم الضيافة ﴿فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٧٩ - ٢٨٠.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٠.

(٣) علل الشرائع : ٦١ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٣.

(٤) تفسير الصافي ٣ : ٢٥٤ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٠.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨١.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ١٥٦ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٢٣٧.

(٧) تفسير البيضاوي ٢ : ١٩.

(٨) تفسير البيضاوي ٢ : ١٩ ، وفيه : باجروان ، وفي مراصد الاطلاع ١ : ٦٠ ، وفي معجم البلدان ١ : ١٩٢ : جرزان.

(٩) تفسير أبي السعود : ٥ : ٢٣٧.

(١٠) تفسير العياشي ٣ : ١٠٢ / ٢٦٧١ ، علل الشرائع : ٦١ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٤.

(١١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨١.

١٤٧

ويطعموهما.

قيل : ذكر أهلها في موضع ضمير الجمع ، للدلالة على التأكيد وزيادة التشنيع على سوء صنيعهم ، فإنّ الإباء عن الإطعام والضيافة مع كونهم أهل القرية وقادرين عليها أقبح وأشنع (١) .

وقيل : إنّهما لم يسألا ، وإنّما كان نزولهما عليهم بمنزلة السؤال (٢) .

ثمّ قيل : إنّهم باتو خارج القرية إلى الصباح ، فلمّا فتحوا في النهار أبوابها ، دخلوها وساروا في سككها (٣)﴿فَوَجَدا﴾ فيها ﴿جِداراً يُرِيدُ﴾ ويشرف ﴿أَنْ يَنْقَضَ﴾ ويسقط لزيادة ميله ﴿فَأَقامَهُ﴾ الخضر وسوّاه بالاشارة بيده ، كما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) . أو بوضع يده عليه ، كما عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا. وعن الصادق عليه‌السلام في ( العلل ) (٥) .

قيل : كان طول الجدار في السماء مائة ذراع (٦) ، فلمّا رأى موسى عليه‌السلام هذا الإحسان من الخضر إلى أهل القرية مع غاية لآمتهم وشدّة ضرورتهما إلى الطعام ، اعترض على الخضر و﴿قالَ﴾ له : لم عملت هذا العمل مجانا ؟ إنّك ﴿لَوْ شِئْتَ﴾ والله ﴿لَاتَّخَذْتَ﴾ من أهل القرية ﴿عَلَيْهِ أَجْراً﴾ حتى نشتري به طعاما نسدّ به الرمق.

عن الرضا عليه‌السلام في الحديث السابق : « حتى إذا أتيا بالعشيّ قرية تسمّى الناصرة ، ولم يضيّفوا أحدا قطّ ، ولم يطعموا غريبا ، فاستطعموهم فلم يطعموهم ولم يضيّفوهم » (٧) .

وفي رواية : « ولم يضيّفوا أحدا بعدهما حتى تقوم الساعة » (٨) .

فنظر الخضر إلى حائط قد مال (٩) لينهدم ، فوضع يده عليه وقال : قم بإذن الله فقام ، فقال موسى عليه‌السلام : لم ينبغ أن تقيم الجدار حتى يطعمونا ويأوونا ، وهو قوله : ﴿لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً(١٠) .

قيل : لمّا قال موسى عليه‌السلام ﴿أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها(١١) قال : أ ليس كنت في البحر ولم تغرق من غير سفينة ؟ ولمّا قال : ﴿أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ(١٢) قال الخضر : أ ليس قتلت القبطيّ بغير ذنب ؟ ولمّا قال : ﴿لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ قال : أنسيت سقياك لبنات شعيب من غير اجرة ؟ (١٣)

﴿قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٣٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٢.

(٢ و٣) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨١.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٢.

(٥) علل الشرائع : ٦١ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٤.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٢.

(٧) تفسير القمي ٢ : ٣٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٥.

(٨) تفسير العياشي ٣ : ١٠٢ / ٢٦٧١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٥.

(٩) في تفسير القمي : زال.

(١٠) تفسير القمي ٢ : ٣٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٥.

(١١) الكهف : ١٨ / ٧١.  (١٢) الكهف : ١٨ / ٧٤.

(١٣) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٢.

١٤٨

السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ

 مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٨) و (٧٩)

ثمّ لمّا خالف موسى عليه‌السلام العهد مرّة ثالثة ﴿قالَ﴾ الخضر : ﴿هذا﴾ الفراق ﴿فِراقُ﴾ أو هذا السؤال موجب للفراق ﴿بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ وسبب انقطاع وصلي ووصلك ﴿سَأُنَبِّئُكَ﴾ واخبرك ﴿بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ وحكمة الامور المسؤول عنها.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « [ وددنا ] أنّ موسى كان صبر حتى يقصّ علينا من خبرهما » (١) .

ثمّ شرع الخضر في بيان الحكم بقوله : ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ﴾ التي خرقتها ﴿فَكانَتْ﴾ ملكا ﴿لِمَساكِينَ﴾ وعدّة ضعفاء عجزة عن دفع الظلم عن أنفسهم.

قيل : كانوا عشرة إخوة ، خمسة منهم زمنى (٢) ، وخمسة منهم ﴿يَعْمَلُونَ﴾ بها ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ مؤاجرة ، للكسب (٣) والمعيشة ﴿فَأَرَدْتُ﴾ بأمر الله ﴿أَنْ أَعِيبَها﴾ وأنقضها (٤) بالكسر ﴿وَكانَ وَراءَهُمْ﴾ وخلفهم ، أو أمامهم ﴿مَلِكٌ﴾ كافر يقال له جلندى : بجزيرة الأندلس ببلدة قرطبة على ما قيل (٥) . وهو ﴿يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ﴾ صحيحة جيّدة وجد ﴿غَصْباً﴾ وظلما ، من أربابها. فكان الخرق بقصد التعييب لتسلم السفينة من الغصب لا بقصد الإغراق.

قيل : إنّ الملك كان من وراء الموضع الذي ركبوا في السفينة (٦) . وروي أنّ الخضر اعتذر إلى القوم ، وذكر لهم شأن الملك ، ولم يكونوا يعلمون بخبره (٧) .

قيل : فبينما هم كذلك استقبلتهم سفينة فيها جنود الملك ، وقالوا : إنّ الملك يريد أن يأخذ سفينتكم إن لم يكن بها عيب ، ثمّ صعدوا إليها وكشفوها ، فوجدوا موضع اللّوح مفتوحا فانصرفوا ، فلمّا بعدوا عنهم أخذ الخضر ذلك اللّوح وردّه إلى مكانه (٨) .

أقول : كلّ ذلك مناف لما ذكره الله من إطّلاع موسى عليه‌السلام على الحكمة حين إرادة الخضر مفارقته.

﴿وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنا

 أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ

__________________

(١) تفسير الصافي ٣ : ٢٥٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٣.

(٢) أي مرضى.

(٣) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٣٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٣.

(٤) نقض الشيء : أفسده بعد إحكامه.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٤.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٠.

(٧) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٤.

(٨) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٤.

١٤٩

يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ

 يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ

 تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢) و (٨٢)

ثمّ قال : ﴿وَأَمَّا الْغُلامُ﴾ الذي قتلته ﴿فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ موحّدين ﴿فَخَشِينا﴾ وخفنا من ﴿أَنْ يُرْهِقَهُما﴾ ويغشيهما أو يكلّفهما ﴿طُغْياناً﴾ على الله ﴿وَكُفْراً﴾ بوحدانيّته فيتّبعانه فيكفران ويطغيان لشدّة حبّهما إيّاه ﴿فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما﴾ الله ويعوّضهما عنه ولدا ﴿خَيْراً مِنْهُ زَكاةً﴾ وطهارة من الذّنوب ، ودينا وصلاحا - وإنّما قال ذلك في مقابل قول موسى عليه‌السلام ، قتلت نفسا زكيّة - ﴿وَأَقْرَبَ﴾ منه ﴿رُحْماً﴾ وأكثر عطفا وأوصل بولديه وأبويهما.

عن ابن عباس : أبدلهما [ الله ] جارية ، تزوّجها نبيّ من الأنبياء ، فولدت سبعين نبيّا (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّهما ابدلا بالغلام المقتول ابنة ، فولد منها سبعون نبيّا » (٢) .

﴿وَأَمَّا الْجِدارُ﴾ المائل الذي أقمته ﴿فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ﴾ اسمهما أصرم وصريم على ما قيل (٣) . ﴿وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما﴾ من الذهب والفضّة على قول ، وقيل : كان لوحا من ذهب أو من رخام مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرّزق كيف ينصب ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها. لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، وعجبت لم يؤمن بالنار كيف يضحك. وفي الجانب الآخر مكتوب : أنا الله لا إله إلّا أنا ، وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشرّ ، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه ، والويل لمن خلقته للشرّ وأجريته على يديه (٤) .

وعن أمير المؤمنين والصادق عليهما‌السلام : « كان ذلك الكنز لوحا من ذهب فيه مكتوب : بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلّا الله محمّد رسول الله ، عجبت لمن يعلم أنّ الموت حقّ كيف يفرح ، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن ، عجبت لمن يذكر النار كيف يضحك ، عجبت لم يرى الدنيا وتصرّف أهلها حالا بعد حال كيف يطمئنّ إليها » (٥) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٥.

(٢) الكافي ٦ : ٧ / ١١ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣١٧ / ١٥٤٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٦.

(٣) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٣٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٦.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٦.

(٥) معاني الأخبار : ٢٠٠ / ١ ، تفسير القمي ٢ : ٤٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٧.

١٥٠

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذا الكنز فقال : « أما إنّه ما كان ذهبا ولا فضّة ، وإنّما كان أربع كلمات : لا إله إلّا أنا ، من أيقن بالموت لم يضحك سنّه ، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه ، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلّا الله » (١) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « كان [ في الكنز الذي قال الله : ﴿وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما﴾ لوح من ذهب ] فيه : بسم الله الرحمن الرحيم [ محمّد رسول الله ، ] عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح قلبه ، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يركن إليها. وينبغي لمن عقل عن الله [ أن ] لا يتّهم الله في قضائه ولا يستبطئه في زرقه » (٢) .

﴿وَكانَ أَبُوهُما﴾ المسمّى بكاشح - على ما قيل (٣) - ﴿صالِحاً﴾ تقيّا أمينا ، يضع الناس ودائعهم عنده فيردّها إليهم سالمة - كما قيل (٤) - فحفظا بصلاح أبيهما في أنفسهما ومالهما.

عن ابن عبّاس قال : حفظا بصلاح أبيهما (٥) وما ذكر منهما صلاح. روت العامّة عن الصادق عليه‌السلام : « كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء » (٦) .

والعياشي عنه عليه‌السلام : « إنّ الله ليحفظ ولد المؤمن [ لأبيه ] إلى ألف سنة ، وإنّ الغلامين كان بينهما وبين أبيهما سبعمائة سنة » (٧) .

وعنه عليه‌السلام : « إنّ الله ليصلح بصلاح الرّجل المؤمن ولده وولد ولده ، ويحفظه في دويرته ودويرات حوله ، فلا يزالون في حفظ الله ؛ لكرامته على الله » ثمّ ذكر الغلامين وقال : « أ لم تر أنّ الله شكر صلاح أبويهما لهما » (٨) .

قال بعض العامّة : فما بالك بسيّد الأنبياء بالنسبة إلى قرابته الطّاهرة الطيّبة المطهّرة ؟ (٩) .

أقول : ويل لم غصب فدك ، الذي كان كنزا لهم ، ولم يرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

نقل بعضهم : أنّ هارون همّ بقتل بعض العلوية ، فلمّا دخل عليه العلوي أكرمه وخلّى سبيله ، فقيل له : بماذا دعوت حتى أنجاك الله منه ؟ قال : قلت : يا من حفظ الكنز على الصبيّين بصلاح أبيهما ، احفظني لصلاح آبائي (١٠) .

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ١٠٨ / ٢٦٩٠ ، الكافي ٢ : ٤٨ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٦.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ١٠٨ / ٢٦٩١ ، الكافي ٢ : ٤٨ / ٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٧.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٦.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٧.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٨.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٢ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٧.

(٧) تفسير العياشي ٣ : ١٠٩ / ٢٦٩٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٧.

(٨) تفسير العياشي ٣ : ١٠٦ / ٢٦٨٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٧.

(٩) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٨.

(١٠) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٩.

١٥١

﴿فَأَرادَ رَبُّكَ﴾ بأمره بتسوية جدار الغلامين ﴿أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما﴾ ويصلا إلى حدّ كمالهما من البلوغ وكمال العقل وحسن التدبير في المال ﴿وَيَسْتَخْرِجا﴾ من تحت الجدار ﴿كَنزَهُما﴾ بسهولة ، ولو لا إقامته لخرب وخرج الكنز وظهر قبل اقتدارهما عليه وضاع بالكليّة ، وإنّما كانت تلك الإرادة منه تعالى ﴿رَحْمَةً﴾ عظيمة لهما ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ ولذا فعلت ما رأيت ﴿وَما فَعَلْتُهُ﴾ أو ما فعلت جميع ما رأيت من خرق السفينة وغيره ﴿عَنْ أَمْرِي﴾ ورأيي ، بل فعلته بأمر الله تعالى ووحيه ﴿ذلِكَ﴾ المذكور ﴿تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.

قيل : إنّ الخضر في تأويل خرق السفينة نسب إرادة التعييب إلى نفسه ، لكون التعييب ظاهر القبح ، وفي تأويل القتل إلى ضمير « نا » لكون الكفر ممّا يجب أن يخشاه كلّ أحد ، وفي تأويل إقامة الجدار إلى الربّ لكون بلوغ الأشدّ ليس إلّا بإرادته تعالى وحده (١) .

قيل : لمّا أسند الخضر الإرادة إلى نفسه أوّلا ، ألهم بأنّه من أنت حتى تكون لك الإرادة ؟ ثمّ جمع في الثانية حيث قال : فأردنا ، فألهم بأنّه من أنت وموسى حتى تكون لكما الإرادة ؟ فخصّ في الثالثة الإرادة بالله (٢) .

وقيل : إنّه في خرق السفينة ذكر العيب فأضافه إلى نفسه ، وفي قتل الغلام عبّر عن نفسه بضمير الجمع تنبيها على عظمته في العلم والحكمة ، ولذا لم يقدم على القتل إلّا لحكمة بالغة ، ولمّا ذكر في الغلامين رعاية صلاحهما أضاف الإرادة إلى الله تنبيها على أنّ المراعي لصلاح الخلق هو الله (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام في قوله : ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها(٤) : « نسب الإرادة إلى نفسه لعلّة ذكر العيب » (٥) إلى أن قال : « وفي قوله : ﴿فَخَشِينا﴾ إنّما اشترك في الأنانيّة ، لأنّه خشي والله لا يخشى ؛ لأنّه لا يفوته شيء ، ولا يمتنع عليه أمر أراده. وإنّما خشي الخضر من أن يحال بينه وبين ما أمر به ، فلا يدرك ثواب الإمضاء فيه ، ووقع في نفسه أنّ الله جعله سببا لرحمة أبوي الغلام ، فعمل فيه وسط الأمرين من البشرية مثل ما كان عمل في موسى عليه‌السلام لأنّه صار في الوقت مخبرا ، وكليم الله مخبرا » (٦) .

أقول : لمّا كان فهم الرواية في غاية الإشكال تركت نقل بقيّتها.

روي أنّ موسى عليه‌السلام لمّا أراد أن يفارق الخضر قال له الخضر : لو صبرت لأتيت ألف عجيبة ، كلّ عجيبة أعجب ممّا رأيت. فبكى موسى عليه‌السلام على فراقه وقال له : أوصني يا نبيّ الله. قال : لا تطلب

__________________

(١ و٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٧.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٢.

(٤) الكهف : ١٨ / ٧٩.

(٥) في علل الشرائع : التعييب.

(٦) علل الشرائع : ٦١ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٧.

١٥٢

العلم لتحدّث به الناس واطلبه لتعمل به ، وكن نفّاعا ولا تكن ضرّارا ، وكن بشّاشا ولا تكن عبوسا غضابا ، وإيّاك واللّجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تضحك من غير عجب ، ولا تعيّر المذنبين لعلّ الله يغفر خطاياهم بعد الندم ، وابك على خطيئتك ما دمت حيّا ، ولا تؤخّر عمل اليوم إلى الغد ، واجعل همّك في معادك ، ولا تخض في ما لا يعنيك ، وتدبّر الأمور في علانيتك ، ولا تذر الإحسان في قدرتك. فقال له موسى عليه‌السلام : قد أبلغت في الوصيّة.

إلى أن قال : فقال له الخضر : أوصني أنت يا موسى. فقال موسى عليه‌السلام له : إيّاك والغضب إلّا في الله ، ولا تحبّ الدنيا ، فإنّها تخرجك من الإيمان إلى الكفر. فقال الخضر : قد أبلغت في الوصيّة ، الخبر(١) .

أقول : في هذه القصّة فوائد من شرف العلم وحسن طلبه ، وتبعيّة العالم والتذلّل له وعدم المبادرة في الاعتراض عليه ، ومعرفة لطف الله بعباده ، ورعايته تعالى حقوقهم في ذريّتهم وأموالهم ، وحسن الاعتذار من المقصّر وقبول عذره ، ومداراة المعلّم مع المتعلّم ، إلى غير ذلك ممّا يعرفه المتأمّل فيها.

﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣)

ثمّ ذكر سبحانه القصّة الثالثة التي سأل اليهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها امتحانا لنبوّته بقوله : ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾ الأكبر الذي ملك الدنيا بأسرها. واسمه إسكندر بن فيلقوس اليوناني ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ﴿سَأَتْلُوا﴾ وأقرأ من القرآن ﴿عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً﴾ وخبرا ، أو المعنى سأتلو ما في شأنه من قبل الله قرآنا عليكم. قيل : كان بعد نمرود في عهد إبراهيم ، وعاش ألفا وستّمائة سنة (٢) .

وعن العيّاشي ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ اسمه عيّاش ، اختاره الله وبعثه إلى قرن من قرون الأولى في ناحية المغرب ، وذلك بعد طوفان نوح » (٣) .

وعن ابن عبّاس : أنّه في زمان إبراهيم (٤) .

وعنه : أنّ إبراهيم كان بمكّة ، فأقبل إليها ذو القرنين ، فلمّا كان بالأبطح قيل له : في هذا البلد إبراهيم خليل الرحمن ، فقال ذو القرنين : ما كان ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم. فنزل ومشى إليه ، فسلّم عليه إبراهيم واعتنقه ، وهو أوّل من عانق بعد السّلام (٥) .

وقيل : إنّه إسكندر الرومي ، وكان وزيره واستاذه أرسطاطاليس ، وكان بعد إسكندر إبراهيم بأكثر من

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٨٧.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٠.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ١١٢ / ٢٧٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٠.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩١.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩١ ، وفيه : عند السّلام.

١٥٣

ألفي سنة ، وقبل المسيح بما يقرب من ثلاثمائة سنة (١) .

عن الكاظم عليه‌السلام : « أنّ نفرا من اليهود أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا لأبي الحسن جدّي : إستأذن على ابن عمّك نسأله ، إلى أن قال : فدخلوا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتسألوني عمّا جئتم له ، أم أنبّئكم ؟ قالوا : أنبئنا ، قال : قد جئتم تسألوني عن ذى القرنين. قالوا : نعم ، قال : كان غلاما من أهل الروم ، ثمّ ملك وأتى مطلع الشمس ومغربها » الخبر (٢) .

قيل : كان بعد ثمود ، وكان الخضر على مقدّمة جيشه ووزيره (٣) .

في نكتة تسمية إسكندر بذي القرنين

وإنّما لقّب بذي القرنين ؛ لأنّه بلغ قرني الشمس وجانبيها : مشرقها ومغربها. وهو مرويّ عن النبي(٤) .

أو لأنّه رأى في المنام كأنّه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها ، فقصّ رؤياه على قومه فلقّبوه به. وهو مرويّ عن الباقر عليه‌السلام (٥) .

أو لأنّه كان في رأسه قرنان كالظّلفين يتحرّكان ، فلبس العمامة لذلك ، وهو أوّل من لبسها (٦) .  أو لأنّه انقرض في زمانة قرنان (٧) . أو لأنّه كان لتاجه قرنان (٨) . أو لأنّ الله سخّر له النور والظلمة ، فكان إذا سرى يهديه النور من أمامه ، وتمدّه الظلمة من ورائه (٩) . أو لأنّه دخل في النور والظلمة (١٠) . أو لأنّه جمع بين علم الظاهر وعلم الباطن (١١) . أو كان له ذؤابتان (١٢) من يمين رأسه ويساره. أو لأنّه كان كريم الطرفين (١٣) . أو كان يقاتل بيده وركابه (١٤) . أو لأنّه ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ، ثمّ بعثه الله بعد مائة عام. ثمّ بعثه الله إلى قرن من القرون الأولى في ناحية المشرق ، فضربوه ضربة على قرنه الأيسر فمات ، ثمّ أحياه الله بعد مائة عام. كما عن أمير المؤمنين (١٥) .

وفي رواية عنه عليه‌السلام : « أنّ قومه ضربوه على قرنه الأيمن فغاب عنهم ما شاء الله أن يغيب ، ثمّ بعثه الله الثانية فضربوه على قرنه الأيسر ، فغاب عنهم ما شاء الله أن يغيب ، ثمّ بعثه الله الثالثة » إلى أن قال :

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٠. (٢) قرب الاسناد : ٣٢١ / ١٢٢٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٨.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٠. (٤) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٤.

(٥) الخرائج والجرائح ٣ : ١١٧٥ / ٦٨ ، وتفسير الصافي ٣ : ٢٦١ ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٠. (٧) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٤١.

(٨) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٤٠. (٩) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٤ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٢٤١.

(١٠) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٥.

(١١) جامع الاحكام ١١ : ٤٨.

(١٢) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٤٠.

(١٣) مجمع البيان ٦ : ٧٥٦ ، جامع الاحكام ١١ : ٤٨.

(١٤) جامع الاحكام ١١ : ٤٨.

(١٥) تفسير العياشي ٣ : ١١٢ / ٢٧٠٣ ، تفسير الرازي ٢١ : ١٦٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٠.

١٥٤

« وفيكم مثله » أو قال : « لو فيكم مثله » وأراد نفسه (١) .

وقالت العامة : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لقّب بذي القرنين لما كانت شجّتان في رأسه ، أحدهما عن عمرو بن عبدودّ لعنه الله ، والآخر من ابن ملجم لعنه الله (٢) .

وقالوا : إنّه ملك الدنيا (٣) .

قيل : إنّه لمّا مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف ، ثمّ جمع ملوك المغرب وقهرهم ، وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ، ثمّ عاد إلى مصر ، فبنى الإسكندرية ، وسمّاها باسم نفسه ، ثمّ دخل الشام ، وقصد بني إسرائيل ، وورد بيت المقدس ، وذبح في مذبحه ، ثمّ انعطف إلى أرمينية ، وباب الأبواب (٤) ، ودانت له العراقيون والقبط والبربر ، ثمّ توجّه إلى دار ابن دارا وهزمه مرّات إلى أن قتله صاحب حرسه ، فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس ، ثمّ قصد الهند والصين ، وغزا الامم البعيدة ، ورجع إلى خراسان ، وبنى المدن الكثيرة ، ورجع إلى العراق ، ومرض بشهرزور ومات بها (٥) . وقيل : إنّه كان نبيّا (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ الله لم يبعث أنبياء ملوكا إلّا أربعة بعد نوح ؛ أوّلهم ذو القرنين ، واسمه عيّاش » إلى أن قال : « فأمّا عيّاش فإنّه ملك ما بين المشرق والمغرب » (٧) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في رواية : « وعوّضه [ الله ] من الضربتين اللتين على رأسه قرنين في موضع الضّربتين أجوفين ، فجعل عزّ ملكه وآيه نبوّته في قرنه » (٨) .

وقيل : إنّه لم يكن نبيّا (٩) .

وعن الباقر عليه‌السلام « أنّه لم يكن نبيّا ، ولكنّه كان عبدا صالحا أحبّ الله فأحبّه » (١٠) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه سئل عن ذي القرنين ، أ نبيّا كان ، أم ملكا ؟ فقال : « لا نبيّ ولا ملك ، بل عبد أحبّ الله فأحبّه » (١١) .

﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذا بَلَغَ

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٩.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٠.

(٣) جوامع الجامع : ٢٧٠.

(٤) باب الأبواب : مدينة على بحر طبرستان ، وهو بحر الخزر.

(٥) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٣ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٢٤٠.

(٦) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٥.

(٧) تفسير العياشي ٣ : ١١٠ / ٢٦٩٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٩.

(٨) تفسير العياشي ٣ : ١١٢ / ٢٧٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٠.

(٩) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٤٠ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٠.

(١٠) كمال الدين : ٣٩٣ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٩.

(١١) تفسير القمي ٢ : ٤١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٩.

١٥٥

مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا

 الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ

 نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ

 جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذا بَلَغَ

 مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٨٤) و (٩٠)

ثمّ شرع سبحانه في ذكر قصته بقوله : ﴿إِنَّا مَكَّنَّا﴾ وأقدرنا ﴿لَهُ﴾ من حيث القوى والأسباب ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ كلّها مشرقها ومغربها ﴿وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء ، وكلّ أمر من الأمور التيّ لها دخل في قدرته وسلطانه ﴿سَبَباً﴾ ووسيلة توصله إليه من العلم والتدبير والرأي والمال والجند ، فإذا أراد شيئا ﴿فَأَتْبَعَ﴾ واتّخذ له ﴿سَبَباً﴾ وطريقا يوصله إليه.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث : ثمّ رفعه الله إلى السماء الدنيا ، فكشط له عن الأرض كلّها جبالها وسهولها وفجاجها حتى أبصر ما بين المشرق والمغرب ، وآتاه الله من كلّ شيء فعرف به الحقّ والباطل ، وأيّده في قرنه بكسف من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، ثمّ أهبطه إلى الأرض ، وأوحى إليه : أن سر في ناحية غرب الأرض وشرقها ، فقد طويت لك البلاد ، وذلّلت لك العباد ، فأرهبتهم منك. فسار إلى ناحية المغرب ، فكان إذا مرّ بقرية يزأر فيها كما يزأر الأسد المغضب ، فينبعث من قرنيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق تهلك من ناواه وخالفه » (١) .

وعن ابن عبّاس : أنّه عند ما تواضع لإبراهيم وعانقه ، سخّر له السّحاب (٢) .

قيل : كانت السّحاب تحمله وعساكره وجميع آلاتهم إذا أرادوا غزوة قوم (٣) .

وقال بعض العامة : أنّه سخّر له السّحاب ، وبسط له النور ، وكان الليل والنهار عليه سواء (٤) . وقد مرّ أنّهم قالوا : سخّر له النور والظلمة ، فكان إذا سرى يهديه النّور من أمامه ، وتمدّه الظلمة من ورائه (٥) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن ذي القرنين ، فقال : « سخّر له السّحاب ، وقرّبت له الأسباب ، وبسط له النور ، وقال : كان يضيء (٦) [ بالليل كما يضيء ] بالنهار » الخبر (٧) . فسار طلبا لماء الحياة ﴿حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ﴾ ومنتهى الأرض من جهتها المتّصلة (٨) بالبحر المحيط بحيث إذا نظر إلى

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ١١٢ / ٢٧٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٠.

(٢ - ٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩١.

(٥) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٤ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٢٤١ وقد تقدّم آنفا في تفسير الآية (٨٣) من هذه السورة.

(٦) في تفسير العياشي : يبصر ، وكذا التي بعدها.

(٧) تفسير العياشي ٣ : ١١٢ / ٢٧٠٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٠.

(٨) في النسخة : من جهته المتّصل.

١٥٦

الشمس ﴿وَجَدَها﴾ حين غروبها ﴿تَغْرُبُ﴾ وتغيب ﴿فِي عَيْنٍ﴾ ذات ﴿حَمِئَةٍ﴾ وطين أسود وماء كدر.

قيل : لمّا بلغ موضعا لم يبق بعده عمارة في جانب المغرب ، وجد الشّمس كأنّها تغرب في وهدة مظلمة ، كما أنّ الراكب في البحر يراها كأنّها تغرب في البحر إذا لم ير الساحل ، وفي الحقيقة تغرب وراء البحر ، وإلّا فإنّه كان من علماء النّجوم ، وكان معلوما عنده أنّ الأرض كرويّة ، والسماء محيطة بها ، والشمس في الفلك الرّابع ، ولا يمكن جلوس قوم عند الشّمس كما حكاه الله بقوله : ﴿وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً﴾ مع أنّ الشّمس أعظم من الأرض مرّات كثيرة ، فكيف يمكن دخولها في عين من الأرض ؟ ! (١)

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « في عين حامية ، في بحر دون المدينة التي تلي المغرب » يعني جابلقا(٢).

وعنه عليه‌السلام : « لمّا انتهى مع الشّمس إلى العين الحامية ، وجدها تغرب فيها ، ومعها سبعون ألف ملك يجرّونها بسلاسل الحديد والكلاليب ، يجرّونها من (٣) قعر البحر في قطر الأرض الأيمن ، كما تجري السفينة على ظهر الماء » (٤) .

قال الفخر الرازي : قال أهل الأخبار في صفة ذلك الموضع أشياء عجيبة ، قال ابن جريج : هناك مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لو لا أصوات أهلها سمع النّاس وجبة الشّمس حين تغيب (٥) .

أقول : وقال بعض العامة : هم أهل جابلص ، وهي مدينة يقال لها بالسريانية جرجليسا (٦) ، لها عشرة آلاف باب ، بين كلّ بابين فرسخ ، يسكنها قوم من بقية ثمود الذين آمنوا بصالح وآمنوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا مرّ بهم في ليلة الاسراء (٧) .

وقال بعض علمائهم : حديث جابلصا وجابلقا ، وإيمان أهاليهما ليلة المعراج ، وأنّهما من الإنسان الأوّل ، فمشهور (٨) .

وقيل : إنّ القوم الذين وجدهم ذو القرنين كانوا عبدة الأصنام ، لهم أعين خضر وشعور حمر ، يلبسون جلود الحيوانات ، ويأكلون لحوم البحر (٩) .

﴿قُلْنا﴾ بطريق الإلهام : ﴿يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ﴾ هم بالقتل على كفرهم ﴿وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٢.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ١٢٣ / ٢٧٠٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦١ ، وفي معجم البلدان عن ابن عباس : أن جابلقا مدينة بأقصى المغرب ، وأهلها من ولد عاد. معجم البلدان ٢ : ١٠٥.

(٣) في النسخة : في.

(٤) تفسير العياشي ٣ : ١١٣ / ٢٧٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦١.

(٥) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٧.

(٦) في تفسير روح البيان : جرجيسا. والذي في معجم البلدان : جابرس : مدينة بأقصى المشرق ، وأن بها بقايا المؤمنين من ثمود ، وفي مادة ( جابلق ) عن ابن عباس : أن أهل جابرس من ولد ثمود. معجم البلدان ٢ : ١٠٥.

(٧ - ٩) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٣.

١٥٧

فِيهِمْ﴾ وتسلك معهم طريقا ﴿حُسْناً.

أقول : هو مبالغة في ( ذي حسن ) . أو محذوف المضاف ، والمعنى أمرا ذا حسن ، بإبقائهم أحياء (١) ، وإرشادهم إلى التوحيد ، وتعليمهم الشرائع ، فاختر ما تراه الأصلح من الأمرين فيهم ﴿قالَ﴾ ذو القرنين : أدعوهم إلى التوحيد والعمل الصالح ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ على نفسه بالإصرار على الكفر ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ بالقتل ، قيل : كان يطبخ الكافر في القدر (٢)﴿ثُمَّ يُرَدُّ﴾ في الآخرة ﴿إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ﴾ فيها ﴿عَذاباً نُكْراً﴾ ومنكرا وشديدا لا يتصوّره أحد.

عن الصادق عليه‌السلام : « أي في النّار » (٣) . ﴿وَأَمَّا مَنْ﴾ أجاب دعوتي و﴿آمَنَ﴾ بالله ﴿وَعَمِلَ﴾ عملا ﴿صالِحاً﴾ وخالصا لله ومرضيّا عنده ﴿فَلَهُ﴾ منّي في الدنيا ومن الله في الدّارين ﴿جَزاءً﴾ ومثوبة ﴿الْحُسْنى﴾ أو جزاء عظيما على فعلته الحسنى.

قيل : كان يعطي المؤمن ويكسيه (٤)﴿وَسَنَقُولُ لَهُ﴾ بعضا ﴿مِنْ أَمْرِنا﴾ وحكمنا ما يراه ﴿يُسْراً﴾ وسهلا عليه لا مشقّة فيه في أمر الخراج والزكاة.

﴿ثُمَّ أَتْبَعَ﴾ وسلك بعد الفراغ من بلاد المغرب ﴿سَبَباً﴾ وطريقا موصلا له إلى بلاد المشرق ،

فسار بجنده ﴿حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾ ومنتهى الأرض من جهته.

قيل : بلغه في اثنتي عشرة سنة (٥) . وقيل : أقلّ من ذلك (٦) . فرأى الشّمس في ذلك الموضع و﴿وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً﴾ وحجابا من النبات والأبنية والأشجار والجبال ، فكانوا عراة لا يستظلّون بشيء.

عن الباقر عليه‌السلام : « لم يعلموا صنعة البيوت » (٧) .

والقمي : لم يعلموا صنعة الثّياب (٨) .

قيل : كانوا إذا طلعت الشّمس دخلوا في الأسراب أو البحر من شدّة الحرّ ، فإذا غربت أو زالت عن سمت رؤوسهم خرجوا واصطادوا السّمك والحيوانات البحريّة لمعيشتهم (٩) .

وقيل : لم يكن على رؤوسهم وأجسادهم شعر ، كأنّما سلخت من شدّة الحرّ (١٠) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّه ورد على قوم قد أحرقتهم الشمس وغيّرت أجسادهم وألوانهم حتى

__________________

(١) في النسخة : حيّا.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٣.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٢.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٣.

(٥ و٦) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٤٣ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٤.

(٧) تفسير العياشي ٣ : ١٢٣ / ٢٧٠٨ ، مجمع البيان ٦ : ٧٥٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٢.

(٨) تفسير القمي ٢ : ٤١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٢.

(٩ و١٠) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٤.

١٥٨

صيّرتهم كالظلمة » (١) .

﴿كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ

 وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ

 وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا

 وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ

 رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى

 إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا

 اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً * قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ

 وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩١) و (٩٨)

﴿كَذلِكَ﴾ السّلوك الذي كان لذي القرنين مع أهل المغرب ، سلك مع هؤلاء القوم الذّين كانوا في جهة المشرق ، أو كذلك السلطان والاقتدار الذي كان له في ناحية المغرب كان له في ناحية المشرق ﴿وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ﴾ من أمر القوم ، أو بما عنده من الصلاحيّة للملك العظيم والاستقلال ، أو بما عنده من الأسباب والعدّة والعدد والقدرة ﴿خُبْراً﴾ وعلما ، بحيث لا يخفى علينا شيء من أمره ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ﴾ ذو القرنين وأخذ بعد الفراغ من اولئك القوم ﴿سَبَباً﴾ وطريقا ثالثا إلى ناحية الشّمال كما قيل (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « سببا في ناحية الظلمة » (٣) . فسار بأسبابه ﴿حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ والجبلين العاليين اللذين كانا في منقطع أرض التّرك ممّا يلي المشرق ، على قول (٤) . أو في ما بين أرمينية وأذربيجان على آخر (٥) .

وقيل : إنّ موضع السدّين في الرّبع الشّمالي (٦) إلى الغربي من المعمورة.

إذن ﴿وَجَدَ﴾ ذو القرنين ﴿مِنْ دُونِهِما﴾ وعندهما ، أو من ورائهما ﴿قَوْماً﴾ وجماعة من النّاس وكانوا ﴿لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ﴾ ولا يقربون أن يفهموا ﴿قَوْلاً﴾ وكلاما من غيرهم إلّا بمشقّة من إشارة

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ١١٣ / ٢٧٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٢.

(٢) تفسير الصافي ٣ : ٢٦٢ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٦.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ١١٣ / ٢٧٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٢.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٩ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٢٤٤.

(٥ و٦) تفسير الرازي ٢١ : ١٦٩.

١٥٩

ونحوها.

﴿قالُوا﴾ بلسان ترجمانهم أو بإلهامهم لغة اسكندر ، أو بإلهامه لغتهم. قيل : كان ذو القرنين ملهما باللّغات (١)﴿يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ بالقتل والغارة وإتلاف الزّروع والثّمار. وهما قبيلتان من التّرك على قول (٢) . أو يأجوج من التّرك ، ومأجوج من الجبل والدّيلم على آخر(٣) .

وقيل : إنّ المؤرّخين قالوا إنّه كان لنوح ثلاثة أولاد : بسام ، وحام ، ويافث ، فسام أبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبش والزّنج والنّوبة (٤) ، ويافث أبو التّرك والخزر والصّقالبة ويأجوج ومأجوج(٥) .

وعن الهادي عليه‌السلام : « جميع الترك والصقالب ويأجوج ومأجوج والصين من يافث حيث كانوا»(٦).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « قالوا : يا ذا القرنين ، إنّ يأجوج ومأجوج خلف هذين الجبلين ، وهم يفسدون في الأرض ، إذا كان إبّان زروعنا وثمارنا خرجوا علينا ، فرعوا في ثمارنا وفي زروعنا حتى لا يبقوا منها شيئا » (٧)﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً﴾ ومقدارا من أموالنا ﴿عَلى﴾ شرط ﴿أَنْ تَجْعَلَ﴾ بتلك الأموال التي نعطيك ﴿بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ وحاجزا يمنعهم من الخروج علينا ﴿قالَ﴾ ذو القرنين : لا حاجة لي إلى أموالكم ، فإنّ ﴿ما مَكَّنِّي فِيهِ﴾ وأقدرني عليه ﴿رَبِّي﴾ من المال

والأسباب والملك ﴿خَيْرٌ﴾ ممّا عندكم من الأموال و[ ما ] تبذلونه من الخرج ، فإن تريدوا (٨) السدّ ﴿فَأَعِينُونِي﴾ وساعدوني عليه ﴿بِقُوَّةٍ﴾ من العمّال والصنّاع لا بالأموال ﴿أَجْعَلْ﴾ إذن ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ وحاجزا عظيما ، أكبر وأوثق من السدّ. ثمّ كأنّهم قالوا : فأمرنا بما تريد قال ﴿آتُونِي﴾ بعوض ما أعطيكم من المال ﴿زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾ وقطعات عظيمة منه.

قيل : إنّهم قالوا ليس لنا من الحديد ما يسع هذا العمل ، فدلّهم على معدن الحديد والنّحاس (٩) ، ثمّ قاس ما بين الصدفين فوجده ثلاثة أميال (١٠) . وقيل : مائة فرسخ (١١) .

ثمّ أمر بحفر ما بين السدّين فحفروه حتى بلغ الماء ، ثمّ جعل الأساس من الصخر والنّحاس المذاب بدل الطين ، وجعل البنيان من زبر الحديد ، بين كلّ زبرتين الحطب والفحم (١٢)﴿حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ وجانبي الجبلين بتنضيد الزبر بعضها فوق بعض ، أمر بوضع المنافخ حوله فوضعوها ، ثمّ ﴿قالَ﴾ للعملة : ﴿انْفُخُوا﴾ على زبر الحديد ، فنفخوا في السدّ المنضود من الحديد

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٧. (٢ و٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٧٠.

(٤) النّوبة : جيل من الناس ، موطنهم جنوب مصر.

(٥) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٧.

(٦) علل الشرائع : ٣٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٣.

(٧) تفسير العياشي ٣ : ١١٣ / ٢٧٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٦٣.

(٨) في النسخة : تريدون.

(٩) تفسير روح البيان ٥ : ٢٩٨.

١٦٠