نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-762-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٢٠

أَحَداً (٢٣) و (٢٦)

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار لطفه بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بنهيه عن المجادله والسؤال ، نهاه عن الاعتماد على نفسه في الامور المستلزمة لأمره بالاعتماد على مشيئته تعالى بقوله : ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ﴾ من الأشياء وأمر من الامور ﴿إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ﴾ الشيء ﴿غَداً﴾ اعتمادا على استقلالك في فعله في حال من الأحوال ﴿إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ﴾ ذلك الشّيء والأمر. وعن الصادق عليه‌السلام قال : « ما لم ينقطع الكلام » . (١)

وقد مرّت رواية العامة والخاصة في أنّه احتبس الوحي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لعدم تعليقه الوعد بالجواب على مشيئة الله (٢) .

وفي رواية عن الباقر عليه‌السلام : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه ناس من اليهود فسألوه عن أشياء فقال لهم: تعالوا غدا احدّثكم ، ولم يستثن ، فاحتبس جبرئيل أربعين يوما ، ثمّ أتاه فقال : ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ﴾ الآية » (٣) .

ثمّ أمره الله بذكره بقوله : ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾ بقول : إن شاء الله ﴿إِذا نَسِيتَ﴾ وتركت ذكره. وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام قال : « ذلك في اليمين ، إذ قلت والله لأفعل كذا ، فإذا ذكرت أنّك لم تستثن فقل : إن شاء الله » (٤) .

وعنه عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الاستثناء في اليمين متى ما ذكر ، وإن كان بعد أربعين صباحا ، ثمّ تلا هذه الآية » (٥) .

وعنه عليه‌السلام : « للعبد أن يستثن ما بينه وبين أربعين يوما إذا نسي » (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام - في رواية - قال : « وقد قال الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكتاب : ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ﴾ أن لا أفعله ، فان سبقت (٧) مشيئة الله في أن لا افعله فلا أقدر على أن أفعله ، فلذلك قال عزوجل : ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ﴾ أي استثن مشيئة الله في فعلك » (٨) .

وعنه عليه‌السلام : « إنّ آدم لمّا أسكنه الله الجنّه فقال له : يا آدم. لا تقرب هذه الشجرة. فقال : نعم ، ولم يستثن ، فأمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ﴾ إلى قوله : ﴿إِذا نَسِيتَ﴾ ولو بعد سنة» (٩).

__________________

(١) جوامع الجامع : ٢٦٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٣٨.

(٢) مرّت الرواية في تفسير الآية (٩) من هذه السورة.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٢٩ / ١٠٨١ ، وتفسير الصافي ٣ : ٢٣٨ ، عن الصادق عليه‌السلام.

(٤) الكافي ٧ : ٤٤٨ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٣٨.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ٩٢ / ٢٦٤٦ ، الكافي ٧ : ٤٤٨ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٣٨.

(٦) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٢٩ / ١٠٨١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٣٨.

(٧) في الكافي : أفعله ، فتسبق.

(٨) الكافي ٧ : ٤٤٨ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٣٩.

(٩) تفسير العياشي ٣ : ٩٠ / ٢٦٣٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٣٩.

١٢١

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّه أمر بكتاب في حاجة فكتب ، ثمّ عرض عليه ولم يكن فيه استثناء فقال : كيف رجوتم أن يتمّ هذا وليس فيه استثناء ؟ انظروا كلّ موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه»(١).

وقيل : إنّ المراد اذكر ربّك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء (٢) .

وقيل : يعني اذكر ربّك إذا نسيت شيئا ، فإنّ ذكر الله يذكّر المنسي (٣) .

ويحتمل أن يكون المراد : إذا نسيت شيئا فلا تنسينّ ذكر الله ، بل اذكره في كلّ حال.

وقيل : إنّ المراد من ذكر الله الصلاة : والمعنى صلّ الصلاة المنسيّة إذا ذكرتها (٤) .

ثمّ لمّا أعطاه الله آية عظيمة دالة على نبوّته ، وهو إخباره بقصة أصحاب الكهف ، أمره سبحانه بسؤال (٥) آيات أعظم منها بقوله : ﴿وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا﴾ النبأ المعجب ، من الآيات الدالّة على نبوّتي ﴿رَشَداً﴾ ودلالة للنّاس على صدقي ، وقد فعل ذلك سبحانه حيث أعطاه من الآيات ما هو أعظم من ذلك كإخباره بقصص الأنبياء المتباعدة أيّامهم ، والحوادث النازلة في الأعصار الآتية إلى يوم القيامة.

وقيل : لمّا جعل اليهود حكاية أصحاب الكهف دليلا على نبوّته ، هوّن الله أمره وقال : ﴿قُلْ عَسى﴾ الآية ، كما هوّن أمر أصحاب الكهف بقوله : ﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ الآية (٦) .

وقيل : إنّ المعنى إذا وعدت بشيء قل : إن شاء الله ، وقل : عسى أن يهديني ربّي لشيء أحسن وأكمل ممّا وعدتكم به (٧) .

وقيل : إنّ المراد أنّ ذكر ربّك عند نسيان شيء أن تقول : عسى ربّي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رشدا أو أدنى خيرا ومنفعة (٨) .

ثمّ أنّه تعالى بعد الإخبار بعدد الفتية أخبر بمدّة لبثهم في الكهف بقوله : ﴿وَلَبِثُوا﴾ في النوم ﴿فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ﴾ كانت من ﴿سِنِينَ﴾ شمسيّة ﴿وَ﴾ العرب ﴿ازْدَادُوا﴾ عليها ﴿تِسْعاً﴾ لأنّ سنتهم قمريّة ، وكلّ مائة سنة قمريّة تزيد على مائة سنة شمسيّة بثلاث سنين. هذا هو الواقع في مدّة لبثهم ، فإن نازعوك فيها فلا تجادلهم و﴿قُلِ اللهُ أَعْلَمُ﴾ منكم ومن كلّ أحد ﴿بِما لَبِثُوا﴾ من المدّة إذ ﴿لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ والعلم بخفياتهما لا يشركه فيه أحد من الملائكة والرسل فضلا عن غيرهم.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٩٤ / ٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٣٩.

( ٢- ٤ ) تفسير الرازي ٢١ : ١١١ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٢١٧.

(٥) في النسخة : لسؤال.

(٦) تفسير روح البيان ٥ : ٢٣٤ ، والآية ٩ من هذه السورة.

(٧) تفسير الرازي ٢١ : ١١١.

(٨) تفسير روح البيان ٥ : ٢٣٥.

١٢٢

روي أنّ يهوديّا سأل عليّا عليه‌السلام عن مدّة لبثهم ، فأخبره بما في القرآن فقال : إنّا نجد في كتابنا ثلاثمائة ، فقال عليه‌السلام : « ذلك بسنيّ الشمس ، وهذا بسنيّ القمر » (١) .

وقال القميّ وبعض العامّة : قوله تعالى : ﴿وَلَبِثُوا﴾ من قول القائلين بأنّهم ثلاثة أو خمسة ، والمعنى : وقالوا لبثوا في كهفهم ، فردّ الله عليهم بقوله : ﴿قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا﴾ الآية (٢) . لأنّه محيط بجميع الموجودات ، ومدبّر للعالم ، فاذا كان كذلك كان عالما بهذه الواقعة لا محالة (٣) .

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إحاطته على الخلق علما ، بيّن إحاطته على الناس قدرة وتدبيرا بقوله : ﴿ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ﴾ ومدبّر أمر. وقيل : إنّ المعنى ما لأصحاب الكهف [ من دون الله ] من وليّ(٤). وعلى كلّ تقدير لا يعلم أحد واقعتهم إلّا بإعلامه ، فاذا حكم بأنّ مدّة لبثهم مقدارا معيّنا ، فإنّه مستقلّ في الحكم ﴿وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً﴾ فليس لغيره الحكم بخلافه.

قيل : اختلف النّاس في زمان أصحاب الكهف ، قيل : إنّهم كانوا قبل موسى لذكر خبرهم في التوراة ، ولذا سأل اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قصّتهم. وقيل : إنّهم دخلوا الكهف قبل المسيح ، وأخبر المسيح بهم. ثمّ بعثوا بعد رفع المسيح. وقيل : إنّهم دخلوا الكهف بعد المسيح (٥) .

﴿وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ

 مُلْتَحَداً (٢٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد الجواب عن سؤال قريش واليهود عنهم امتحانا واقتراحا ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتلاوة كتابه المتضمّن لكلّ شيء وعدم الاعتناء باقتراحات القوم بقوله : ﴿وَاتْلُ﴾ يا محمّد ﴿ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ﴾ الذي هو أحسن الحديث وأفضل الكتب ، وأستأنس به ، ولا تلتفت إلى اقتراحات المشركين وترّهاتهم من قولهم : إئت بقرآن غير هذا أو بدّله ، فإنّه ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ﴾ ولا مغيّر لآياته من الجنّ والإنس ، وإن تظاهروا على ذلك ، لأنّا له لحافظون ﴿وَلَنْ تَجِدَ﴾ أبدا وإن أجهدت نفسك في الطلب أحدا ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى يكون لك ﴿مُلْتَحَداً﴾ وملجأ يلتجئ إليه في مهمّاتك ، وفي البليّات التي تنزل عليك.

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٧١٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٣٩.

(٢) نحوه في : تفسير القمي ٢ : ٣٤ ، وتفسير الصافي ٣ : ٢٤٠ ، وتفسير الرازي ٢١ : ١١١.

(٣) لم يذكر تفسير قوله تعالى : أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ١١٢.

(٥) تفسير الرازي ٢١ : ١١٣.

١٢٣

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا

 تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا

 وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)

ثمّ لمّا كان من أباطيل الكفّار وترّهاتهم التماسهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله طرد المؤمنين الخلّصين من مجلسه ، أمره سبحانه بمجالستهم وصحبتهم وعدم الاعتناء بقول أعدائهم بقوله : ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ واحبسها على المجالسة والمصاحبة ﴿مَعَ﴾ المؤمنين ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ ويتضرّعون إليه ﴿بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ﴾ وأوّل النهار وآخره لطلب التوفيق والتيسير والعفو عن التقصير.

وقيل : والغداة والعشيّ كناية عن جميع الأوقات والمداومة على العبادة (١) . وقيل : إنّ المراد بالدعاء في الغداة صلاة الصبح ، وبالدعاء بالعشيّ صلاة العصر (٢) . وعنهما عليهما‌السلام : « إنّما عنى بهما الصلاة » (٣) .

حال كونهم ﴿يُرِيدُونَ﴾ بدعائهم أو صلاتهم ﴿وَجْهَهُ﴾ تعالى ورضاه ﴿وَلا تَعْدُ﴾ ولا تجاوز ﴿عَيْناكَ عَنْهُمْ﴾ إلى غيرهم من أهل الدنيا وطالبي زخارفها حال كونك ﴿تُرِيدُ﴾ من النظر إلى غيرهم من المترفين والمجالسة معهم ﴿زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ وحطامها ﴿وَلا تُطِعْ﴾ في طرد الفقراء عن مجلسك ﴿مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا﴾ بالخذلان والطّبع ﴿وَاتَّبَعَ هَواهُ﴾ وأطاع تسويلات نفسه وانهمك في شهواته ﴿وَكانَ أَمْرُهُ﴾ وفعله أو شأنه ﴿فُرُطاً﴾ وظلما على النفس وتجاوزا عن الحدّ ونبذا للحقّ.

روي أنّ رؤساء الكفّار طلبوا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله طرد فقراء المسلمين من مجلسه ، كعمّار ، وصهيب ، وخبّاب وغيرهم ، وقالوا : اطرد هؤلاء الذين ريحهم ريح الصّنان حتى نجالسك ، فإن أسلمنا أسلم النّاس ، وما يمنعنا من اتّباعك إلّا هؤلاء ، فإنّهم قوم أرذلون (٤) .

القمي : نزلت في سلمان الفارسي ، كان عليه كساء من صوف ، فدخل عيينة بن حصين على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمان عنده ، فتأذّى عيينة بريح كساء سلمان ، وكان عرق فيه ، وكان يوم شديد الحرّ ، فعرق في الكساء ، فقال : يا رسول الله ، إذا نحن دخلنا عليك فاخرج هذا وأضرابه من عندك ، فإذا نحن خرجنا فادخل من شئت ، فأنزل الله ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا﴾ الآية. وهو عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري (٥) .

وعن ( المجمع ) : نزلت في سلمان وأبي ذرّ وصهيب وخبّاب وغيرهم من فقراء أصحاب

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢١ : ١١٥.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٩٣ / ٢٦٤٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٠.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٣٨.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٣٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٠.

١٢٤

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أنّ المؤلّفة قلوبهم جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ عيينة بن حصين والأقرع بن حابس وذووهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء وروائح صنانهم (١) - وكانت عليهم جباب الصّوف - جلسنا نحن إليك ، وأخذنا عنك ، ولا يمنعنا من الدخول عليك إلّا هؤلاء. فلمّا نزلت الآية قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يلتمسهم ، فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون الله عزوجل فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معهم المحيا ومعهم الممات (٢) .

عن أبي سعيد الخدري قال : كنت جالسا في عصابة من ضعفاء المهاجرين ، وإنّ بعضهم ليستر بعضا من العري ، وقارئ يقرأ القرآن ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ماذا كنتم تصنعون ؟ قلنا : يا رسول الله ، كان واحد يقرأ من كتاب الله ونحن نستمع ، فقال : الحمد لله الذي جعل من أمّتي من امرت أن أصبر نفسي معهم. ثمّ جلس وسطنا وقال : أبشروا يا صعاليك (٣) المهاجرين بالنور التامّ يوم القيامة ، تدخلون الجنّة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف سنة (٤) .

﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ

 ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ

 بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)

ثمّ لمّا علّق الكفّار إيمانهم على طرد فقراء المسلمين ، أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإعلان بعدم اعتنائه بإيمانهم بقوله : ﴿وَقُلِ﴾ يا محمّد لهؤلاء المتكبّرين الغافلين ﴿الْحَقُ﴾ الذي جئتكم به يكون ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لا منّي ، ونفعه وضرره راجع إليكم ، لا إليّ ولا إلى آخر ، وأنا لا أدعوكم إليه لأنتفع من إيمانكم حتى اطيعكم فيما تحبّون ﴿فَمَنْ﴾ كان من أهل السّعادة و﴿شاءَ﴾ الإيمان وخير الدّارين ﴿فَلْيُؤْمِنْ﴾ بالدّين الحقّ ، لتماميّة الحجّة ، ووضوح البراهين ﴿وَمَنْ﴾ كان من أهل الشّقاوة و﴿شاءَ﴾ الكفر والضّرر على نفسه ﴿فَلْيَكْفُرْ﴾ فإنّي لا ابالي بإيمان من آمن ، وكفر من كفر ، ولا أطلب إيمانكم بطرد أولياء الله من مجلسي.

ثمّ هدّدهم الله بضرر كفرهم ووخامة عاقبتهم بقوله : ﴿إِنَّا أَعْتَدْنا﴾ وهيّئنا ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بالكفر في الآخرة ﴿ناراً﴾ خارجة [ في ] حرّها عن الوصف ، مشتملة عليهم ومحيطة بهم

__________________

(١) الصّنان : النّتن ، الريح الكريهة.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٧١٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٠.

(٣) الصعلوك : الفقير ، وجمعه : صعاليك.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ١١٨.

١٢٥

كأنها سرادق و﴿أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها﴾ وفساطيطها. قيل : إن سرادق ستر يدار به حول الخيمة (١) .

عن أبي سعيد الخدري قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سرادق النار أربعة جدر كثف ، كلّ جدار مسيرة أربعين سنة » (٢) .

وعن ابن عبّاس : هو الدّخان الذي قال الله : ﴿انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ(٣) .

﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا﴾ ويطلبوا الماء من العطش ﴿يُغاثُوا﴾ ويؤتوا بعد استغاثتهم ﴿بِماءٍ﴾ جار ﴿كَالْمُهْلِ﴾ والحديد المذاب ، أو النحاس ، أو الذهب المذاب ، أو الصّديد وقيح أهل جهنّم ، أو القطران ، أو درديّ (٤) الزيت المغلي ، يعني يجعل المهل لهم مكان الماء الذي طلبوه ، وإطلاق الماء عليه من باب التهكّم ، فإذا قدّم إليهم ليشربوه ﴿يَشْوِي﴾ ويحرق ﴿الْوُجُوهَ﴾ من فرط حرارته. عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه » (٥) . ﴿بِئْسَ الشَّرابُ﴾ ذلك الماء المحرق ﴿وَساءَتْ﴾ النّار من حيث كونها ﴿مُرْتَفَقاً﴾ ومتّكأ ، أو منزلا ، أو مستراحا.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً *

أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ

 ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ

 نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣٠) و (٣١)

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بسوء عاقبة الكفر بشّر المؤمنين بحسن عاقبة الإيمان بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسله والدّار الآخرة ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ وفعلوا العبادات الخالصات ، نؤتيهم أجرا عظيما ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ﴾ ولا نبطل ﴿أَجْرَ﴾ كلّ ﴿مَنْ أَحْسَنَ﴾ وأخلص ﴿عَمَلاً﴾ لمنافاته الحكمة المقتضية لإعطاء كلّ مستحقّ حقّه.

ثمّ شرح الأجر بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ المؤمنون الصالحون ﴿لَهُمْ﴾ بالاستحقاق ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ وخلد ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ﴾ وتحت غرفهم وقصورهم ﴿الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة ، أو الأربعة المعهودة ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ ويزيّنون ﴿فِيها﴾ بأنواع ﴿مِنْ أَساوِرَ﴾ جنسها ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾ عن سعيد بن جبير : يحلّى

__________________

(١ و٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢٤١.

(٣) مجمع البيان ٦ : ٧١٩ ، تفسير الرازي ٢١ : ١٢٠ ، ونسبه إلى بعضهم ، والآية من سورة المرسلات : ٧٧ / ٣٠.

(٤) الدرديّ : ما رسب أسفل الزيت أو نحوه من كل شيء مائع.

(٥) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٢٠ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٤١ ، والفروة : الجلدة ذات الشعر.

١٢٦

كلّ واحد منهم ثلاثة أساور (١) .

أقول : لعلّ كلّ سوار له شكل خاصّ ، وهو ما يلبس في الذّراع ﴿وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً﴾ لأنّ الخضرة - على ما قيل - أحسن الألوان وأكثرها طراوة (٢) ، وجنس الثياب ﴿مِنْ سُنْدُسٍ﴾ وحرير رقيق ﴿وَ﴾ من ﴿إِسْتَبْرَقٍ﴾ وديباج غليظ حال كونهم ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ كالملوك ﴿فِيها عَلَى الْأَرائِكِ﴾ والسّرر الموضوعة في البيوت المزيّنة.

عن الباقر عليه‌السلام : « الأرائك ، السّرر ، عليها الحجال » (٣) .

ثمّ مدح سبحانه ذلك الأجر العظيم بقوله : ﴿نِعْمَ الثَّوابُ﴾ تلك الجنّات ونعمها ﴿وَحَسُنَتْ﴾ تلك الأرائك من حيث كونها ﴿مُرْتَفَقاً﴾ ومتّكأ ، أو مقرّا للاستراحة ، وقد قال سبحانه ما قال في حقّ الكفّار من قوله : ﴿بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ بهذا التذييل. وإنّما أتى ( يحلّون ) بصيغة المبنّي للمفعول ، و( يلبسون ) بصيغة المبني للفاعل ؛ لأنّ العروس يلبس ثيابه بنفسه ، وأمّا تحليته فغالبا [ ما ] يكون بيد الغير ، أو للاشارة إلى أنّ لبس الثياب يكون بسبب أعمالهم ، وأمّا التّحلية فإنّها من كرامات الله الزائدة تفضّلا به.

﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما

 بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً

 وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٢) و (٣٣)

ثمّ لمّا كان الكفار المتنفّرون من فقراء المؤمنين مفتخرين عليهم بكثرة أموالهم وأتباعهم ، بيّن الله سبحانه زوال الغنى والثروة في الدنيا ودوام المعارف والأعمال الصالحة للمؤمنين في الدّارين ، للكافر الغنيّ والمؤمن الفقير بقوله : ﴿وَاضْرِبْ﴾ يا محمّد ﴿لَهُمْ مَثَلاً﴾ بديعا ، وبيّن لهم بهذا المثل حالهم بيانا واضحا ، وهو أنّ ﴿رَجُلَيْنِ﴾ كان واحد منهما مؤمنا والآخر كافرا و﴿جَعَلْنا لِأَحَدِهِما﴾ الكافر ﴿جَنَّتَيْنِ﴾ وبستانين كانت أشجارهما ﴿مِنْ أَعْنابٍ﴾ متنوّعة وكروم مختلفة وأحطنا بالجنّتين ﴿وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ.

قيل : هذه الصفة ممّا يؤثرها الدهاقين في كرومهم ، فإنّهم يجعلونها محفوفة بالأشجار المثمرة (٤) . ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً﴾ كثيرا من أنواع الحبوبات ، وفي ذكر الصفات دلالة على اتّساعها

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٧٢٠ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٤٣.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢٤٣.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٢١٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٢ ، والحجال : جمع حجلة : ساتر كالقبّة يزيّن بالثياب والسّتور للعروس.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ١٢٤.

١٢٧

واستجماعها لأنواع الأقوات والفواكة الفائقة ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها﴾ وثمرها المترقّب منها في جميع الأوقات ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ﴾ ولم تنقص ﴿مِنْهُ شَيْئاً﴾ ولو يسيرا ، مع أنّ المعهود من سائر البساتين إتمام الثمر في عام وتنقيصه في عام ﴿وَفَجَّرْنا﴾ وشققنا ، أو أجرينا فيما بين كلّ من الجنّتين و﴿خِلالَهُما نَهَراً﴾ على حدة ، ليدوم شربهما ويكثر بهاؤهما.

قيل : إنّما قدّم إيتاء الأكل على تفجير النهر للدّلالة على استقلال كلّ منهما في حسن الجنّتين ، وللدّلالة على أنّ إتيان الأكل لم يكن متوقّفا على السقي ، كقوله ﴿يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ(١) .

﴿وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ

 جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ

 قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ

 يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لكِنَّا

 هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٤) و (٣٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف الجنّتين ذكر حال الكافر بقوله : ﴿وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾ ومال كثير غير الجنّتين ، من الذّهب والفضّة ، أو فواكه اخر غير العنب والرّطب.

عن تفسير الجلالين : أنّ الرّجلين كانا ابني ملك في بني إسرائيل ، اسم أحدهما يهودا وكان مؤمنا ، واسم الآخر قطروس وكان كافرا ، مات أبوهما فورثا منه ثمانية آلاف دينارا ، فتقاسماها بينهما ، فاشترى الكافر أرضا بألف دينار وبنى دارا بألف دينار ، وتزوّج امرأة بألف دينار ، واشترى خدما ومتاعا بألف دينار ، فقال المؤمن : اللهم إنّ أخي اشترى أرضا بألف دينار ، وأنا اشتري منك أرضا في الجنّة ، فتصدّق بألف دينار ، وإنّ أخي بنى دارا بألف دينار ، وأنا أشترى منك دارا في الجنّة فتصدّق به ، وإنّ أخي تزوّج امرأة بألف دينار وأنا أجعل ألفا صداقا للحور ، فتصدّق به ، وإنّ أخي اشترى خدما ومتاعا بألف دينار ، وأنا أشتري منك ولدانا مخلّدين بألف ، فتصدّق به. ثمّ أصابته الحاجة ، فجلس لأخيه على طريقه ، فمرّ به أخوه في حشمه ، فقام إليه فنظر أخوه إليه وقال : ما شأنك ؟ فقال : أصابتني حاجة ، فأتيت لتصيبني بخير. فقال : وما فعلت بمالك وقد اقتسمنا مالا وأخذت شطره ؟ فقصّ عليه

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٢١ ، والآية من سورة النور : ٢٤ / ٣٥.

١٢٨

القصّة ، قال : إنّك إذا لمن المتصدّقين بهذا ، إذهب لا أعطيك شيئا ، فطرده ووبّخه (١) .

﴿فَقالَ﴾ الكافر ﴿لِصاحِبِهِ﴾ وأخيه ﴿وَهُوَ يُحاوِرُهُ﴾ ويكالمه مفتخرا عليه : ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً﴾ وثروة ﴿وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ من البنين والخدم والأعوان ﴿وَدَخَلَ﴾ يوما ﴿جَنَّتَهُ﴾ مع أخيه المؤمن ﴿وَهُوَ﴾ بكفره ﴿ظالِمٌ﴾ وضارّ ﴿لِنَفْسِهِ﴾ ومعجب بماله ﴿قالَ ما أَظُنُ﴾ ولا احتمل ﴿أَنْ تَبِيدَ﴾ وتفنى ﴿هذِهِ﴾ الجنّة ﴿أَبَداً﴾ وما دمت حيّا ﴿وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ﴾ التي يبعث من في القبور ﴿قائِمَةً﴾ وآتية فيما بعد ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ﴾ ورجعت بعد الموت ﴿إِلى رَبِّي﴾ بالبعث على الفرض وزعمك ، والله ﴿لَأَجِدَنَ﴾ يومئذ بعد انقطاعي من هذه الجنّة ﴿خَيْراً مِنْها﴾ في الآخرة ﴿مُنْقَلَباً﴾ ومرجعا ﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ﴾ وأخوه المؤمن ﴿وَهُوَ يُحاوِرُهُ﴾ ويكالمه ويجادله منكرا عليه ، ومتعجّبا من مقالاته الفاسدة ﴿أَ كَفَرْتَ﴾ يا أخي ﴿بِالَّذِي خَلَقَكَ﴾ من أصل مخلوق ﴿مِنْ تُرابٍ﴾ بقدرته الكاملة وحكمته البالغة ﴿ثُمَ﴾ بعد خلق أصلك منه خلقك ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ أمشاج ومنيّ دافق في الرّحم ﴿ثُمَّ سَوَّاكَ﴾ وخلقك معتدلا في الخلق والقامة ، وجعلك ﴿رَجُلاً﴾ وإنسانا ذكرا بالغا ، فمن كان له القدرة والحكمة والنّعمة هل يساويه غيره في الصفات ؟ وهل يعجز عن إعادة خلقك مع اقتضائها الحكمة ؟ حاشا وكلّا ﴿لكِنَّا﴾ قالوا : أصله لكن أنا (٢) مؤمن موحّد معتقد وقائل بأنّه ﴿هُوَ اللهُ﴾ تعالى ﴿رَبِّي﴾ ومالك أمري ﴿وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي﴾ في الألوهيّة والربوبيّة ﴿أَحَداً﴾ من خلقه.

﴿وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً

 وَوَلَداً * فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ

 فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٣٩) * (٤١)

ثمّ لامه على كفرانه النعمة بقوله : ﴿وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ﴾ وهلّا حين وردت في بستانك ﴿قُلْتَ ما شاءَ اللهُ﴾ - من إبقاء الجنّة وإفنائها - كان ، وهلّا قلت حين رأيت جنّتك في غاية الحسن والبهاء وكثرة المنفعة اعترافا بعجزك عن تعميرها وأنّه بقدرة الله ومعونته ، وأنّ ما فيها من الأشجار والثّمار والعمارة بمشيّة الله ﴿لا قُوَّةَ﴾ بشيء من الحيوانات والنباتات ﴿إِلَّا بِاللهِ.

في الحديث : « من رأى شيئا فأعجبه فقال : ما شاء الله لا قوّة إلّا بالله ، لم تضرّه العين » (٣) .

وفي حديث آخر : « من رأى أحدا اعطي خيرا من أهل أو مال ، فقال عنده : ما شاء الله لا قوّة إلّا بالله ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٤٥.

(٢) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٢٢ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٤٧.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٢٤٧.

١٢٩

لم ير فيه مكروها » . وروي أنّها دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهمّ (١) .

ثمّ أنّ المؤمن بعد إنكاره على الكفر ولومه على كفرانه النعمة ، أجابه عن فخره عليه بالمال والنّفر بقوله : ﴿إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً﴾ الآن ، فلا تغترّ بحسن حالك وكثرة مالك ولا تشمت (٢) بسوء حالي وشدّة فقري ﴿فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ﴾ ويعطيني في الدنيا أو في الآخرة جنّة ﴿خَيْراً﴾ وأفضل ﴿مِنْ جَنَّتِكَ﴾ التي تفتخر بها ﴿وَيُرْسِلَ عَلَيْها﴾ عقوبة على كفرك وكفرانك ﴿حُسْباناً﴾ وعذابا ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ من برد أو صاعقة ﴿فَتُصْبِحَ﴾ وتصير جنّتك بذلك البلاء ﴿صَعِيداً زَلَقاً﴾ وأرضا لا نبات فيها ﴿أَوْ يُصْبِحَ﴾ ويصير ﴿ماؤُها﴾ الذي يجري فيها ﴿غَوْراً﴾ وذاهبا في الأرض بحيث لا تناله الأيدي والدلاء ، بل لا يبقى منه أثر ﴿فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً﴾ بوجه من الوجوه فضلا عن وجدانه وردّه.

﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها

 وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ

 وَما كانَ مُنْتَصِراً * هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٢) * (٤٤)

ثمّ أخبر سبحانه بوقوع بعض ما توقّعه المؤمن في أموال الكافر بقوله : ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ وأهلك أمواله بأن أرسل الله عليها النار فأهلكتها وغار ماؤها كما عن ( المجمع ) (٣)﴿فَأَصْبَحَ﴾ الكافر وصار ﴿يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ ظهرا لبطن تأسّفا وتحسّرا ﴿عَلى ما أَنْفَقَ﴾ وصرف ﴿فِيها﴾ وفي تعميرها من الأموال حيث رأى الجنّة ﴿وَهِيَ خاوِيَةٌ﴾ وساقطة ﴿عَلى عُرُوشِها﴾ ودعائمها المصنوعة لكرومها ، لمّا رأى الكافر صدق أخيه فيما هدّده على شركه وغروره ، وكان يتمنّى التوحيد ﴿وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً﴾ ولم ينفعه النّدم والتمنّي.

ثمّ لمّا كان كثرة أعوانه بسبب كثرة ماله ، تفرّق عنه أعوانه وخدمه ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ﴾ وجماعة ﴿يَنْصُرُونَهُ﴾ بدفع الهلاك عن ماله ، أو إعطائه مثله ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ لأنّه القادر على نصره ، وهو لم ينصره لاستحقاقه العذاب والخذلان ﴿وَما كانَ﴾ بنفسه ﴿مُنْتَصِراً﴾ ومدافعا عن ماله بقدرته وقوّته.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه نصرته للمؤمن على أخيه الكافر المفتخر عليه ، بيّن أنّ دأبه تعالى كذلك في كلّ مورد يكون الكافر بصدد إذلال المؤمن بقوله : ﴿هُنالِكَ﴾ وفي ذلك الوقت الذي يكون الكافر بصدد

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٤٧.

(٢) في النسخة : ولا تشمتني.

(٣) مجمع البيان ٦ : ٧٢٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٣.

١٣٠

إذلال المؤمن تكون ﴿الْوَلايَةُ﴾ ونصرة المؤمن ﴿لِلَّهِ الْحَقِ﴾ والمعبود الصدق ، فيوالي أولياءه ويغلبهم على أعدائة في الدنيا ، وأمّا في الآخرة ﴿هُوَ﴾ تعالى ﴿خَيْرٌ ثَواباً﴾ وأفضل أجرا لأوليائه ﴿وَخَيْرٌ عُقْباً﴾ ومآلا لهم ، وأسوأ عقوبة وعاقبة لأعدائه وأعدائهم.

﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ

 الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً * الْمالُ

 وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ

 أَمَلاً (٤٥) و (٤٦)

ثمّ ضرب الله مثلا آخر لحقارة الدنيا وسرعة زوالها بقوله : ﴿وَاضْرِبْ﴾ يا محمّد ، لقومك واذكر ﴿لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ ونظيرها في زهرتها ونضارتها وسرعة زوالها لئلّا يطمئنّوا بها ، ولا يعكفوا عليها ، فإنّها ﴿كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ﴾ بسبب ذلك الماء ، والتفّ وتكاثف ﴿بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ﴾ من رياحينها ، وزرعها ، وغيرهما ﴿فَأَصْبَحَ﴾ ذلك النبات ، وصار بعد غاية بهجته ونضارته ﴿هَشِيماً﴾ ومكسورا ليبسه ، بحيث ﴿تَذْرُوهُ﴾ وتفرّقه ﴿الرِّياحُ﴾ الخفيفة حتّى لا يبقى منه أثر. كذلك الإنسان ينمو ويشبّ ويقوى ، فإذا انقضى أجله أتاه صرصر الموت ، فجعله كأن لم يكن شيئا مذكورا ﴿وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الإيجاد والإبقاء والإفناء ﴿مُقْتَدِراً

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان زوال حياة الدنيا ، بيّن زوال المال والأولاد الذين هما أعظم زينتها بقوله : ﴿الْمالُ وَالْبَنُونَ﴾ اللّذان يفتخرون بهما ممّا به ﴿زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ ينقطعان عنكم بانقضائها ﴿وَالْباقِياتُ﴾ معكم في جميع العوالم من البرزخ والمعاد ، هي الأعمال ﴿الصَّالِحاتُ﴾ والعبادات الخالصات من الصّوم والحجّ والصلاة وغيرهما ﴿خَيْرٌ﴾ من الفانيات الفاسدات التي منها المال والأولاد ﴿عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً﴾ وأجرا وعائدة ﴿وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ ومأمولا ؛ لأنّ صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل في الدنيا.

عن الصادق عليه‌السلام : « إن كان الله عزوجل قال : ﴿الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ إنّ الثماني ركعات يصلّيها العبد آخر اللّيل زينة الآخرة » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « أنّ من الباقيات [ الصالحات ] القيام لصلاة الليل » (٢) . وقيل : هنّ الصلوات الخمس (٣) .

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٩٥ / ٢٦٥٧ ، التهذيب ٢ : ١٢٠ / ٤٥٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٤.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٧٣١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٤.

(٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٣١ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٢٢٥.

١٣١

وعن الصادق عليه‌السلام : « إنّ الباقيات الصالحات هي الصلوات ، فحافظوا عليها » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « هي الصلوات الخمس » (٢) .

وقال جمع من العامة : هي التسبيحات الأربع (٣) .

وعنه عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خذوا جنّتكم (٤) ، قالوا : يا رسول الله عدّو حضر ؟ قال : لا ، ولكن خذوا جنّتكم من النار ، قالوا : فبم نأخذ جنّتنا ، يا رسول الله ؟ قال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، فإنّهنّ يأتين يوم القيامة ولهنّ مقدّمات ومؤخّرات ، وهنّ الباقيات الصالحات » (٥) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله برجل يغرس غرسا في حائط له ، فوقف عليه وقال : ألا أدلّك على غرس أثبت أصلا ، وأسرع إيناعا ، وأطيب ثمرا وأبقى ؟ قال : بلى ، فدلّني يا رسول الله ، فقال : إذا أصبحت وأمسيت فقل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، فإنّ لك إن قلته بكلّ تسبيحة عشر شجرات في الجنّة من أنواع الفاكهة ، وهنّ من الباقيات الصالحات » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال للحصين بن عبد الرحمن : « لا تستصغر مودّتنا ، فإنّها من الباقيات الصالحات » (٧) .

أقول : الجمع بين الأخبار أنّ كلّ عمل واعتقاد فيه رضا الله ، فهو من الباقيات الصالحات.

﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً *

وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ

 نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٧) و (٤٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان خساسة الدنيا ، وذكر ما يوجب التزهيد منها وترغيبهم في الصالحات ، ذكر بعض أهوال القيامة تنبيها على كثرة الحاجة بها فيها بقوله : ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ﴾ في الهواء والجوّ على هيئتها بعد قلعها من الأرض ، أو [ نسيّر ] أجزاءها بعد جعلها هباء منبثّا ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ﴾ يا محمّد ﴿بارِزَةً﴾ وظاهرة من تحت الجبال ، والعمارات ، والأشجار. أو بارزة الجوف لا يبقى في بطنها شيء من الموتى والكنوز ، وبعثنا الناس من القبور ﴿وَحَشَرْناهُمْ﴾ وجمعناهم إلى عرصة القيامة وموقف الحساب ، مؤمنيهم وكفّارهم ﴿فَلَمْ نُغادِرْ﴾ ولم نترك ﴿مِنْهُمْ﴾ تحت الأرض ﴿أَحَداً

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٩٤ / ٢٦٥٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٤.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٧٣١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٤.

(٣) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٢٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٥١.

(٤) في تفسير العياشي : جننكم ، وكذا ما بعدها.

(٥) تفسير العياشي ٣ : ٩٤ / ٢٦٥٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٤.

(٦) الكافي ٢ : ٣٦٧ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٥.

(٧) مجمع البيان ٦ : ٧٣١ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٤.

١٣٢

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة حشر الخلق بقوله : ﴿وَعُرِضُوا﴾ بعد حشرهم ﴿عَلى رَبِّكَ﴾ كما يعرض الجند على الملك حال كونهم ﴿صَفًّا﴾ صفّا ، ومجتمعين غير متفرّقين ولا مختلطين يرى جميعهم كما يرى واحدهم.

عن الصادق عليه‌السلام : « هم يومئذ عشرون ومائة ألف صفّ في عرض الأرض » (١) .

فيقول الله لهم : ﴿لَقَدْ جِئْتُمُونا﴾ من الدنيا بلا مال وأولاد وأعوان حفاة عراة ﴿كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

عن عائشة قلت : يا رسول الله ، كيف يحشر النّاس يوم القيامة ؟ قال : « عراة حفاة » قلت : والنساء ؟ ! قال : « نعم » قلت : يا رسول الله ، نستحيي ! قال : « يا عائشة ، الأمر أشدّ من ذلك ، لن يهمّهم أن ينظر بعضهم إلى بعض » (٢) .

ثمّ يخاطب المنكرين للبعث ويقول سبحانه لهم توبيخا وتقريعا : ﴿بَلْ زَعَمْتُمْ﴾ وادّعيتهم بالكذب في الدنيا ﴿أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ﴾ أبدا ﴿مَوْعِداً﴾ ووقتا ننجز فيه ما وعدناه على ألسنة الرّسل من البعث وتبعاته ، فاليوم قد تعيّن لكم صدق ما أخبروكم ، وشاهدتم أنّ السّاعة حقّ ، والبعث صدق ، وتركتم في الدنيا ما كنتم تفتخرون به من الأموال والأولاد والأعوان.

﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مال

 لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً

 وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة المحاسبة بقوله : ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ﴾ الذي فيه أعمال الخلق في أيديهم ﴿فَتَرَى﴾ يا محمّد ، أو أيّها الرائي ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾ والعصاة ﴿مُشْفِقِينَ﴾ وخائفين ﴿مِمَّا﴾ هو مكتوب ﴿فِيهِ﴾ من العقائد الفاسدة ، والأعمال السيّئة ، والذنوب الصغيرة والكبيرة ، فينادون ﴿وَيَقُولُونَ﴾ حين اطّلاعهم على أعمالهم المكتوبة فيه نقيرها (٣) وقطميرها (٤) تعجّبا وتحسّرا : ﴿يا وَيْلَتَنا﴾ وهلكتنا احضري فهذا أوانك ﴿ما لِهذَا الْكِتابِ﴾ وأيّ شيء له ، فإنّه ﴿لا يُغادِرُ﴾ ولا يترك فعلة ﴿صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها﴾ وضبطها ﴿وَوَجَدُوا﴾ جميع ﴿ما عَمِلُوا﴾ في الدنيا ﴿حاضِراً﴾ ومثبوتا فيه ، وإنّما يعترفون به لأنّهم يجدونه مطابقا لما كتبوه في صحائف نفوسهم بقلم

__________________

(١) الاحتجاج : ٣٥٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٥.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢٥٢.

(٣) النّقير : النّكتة في ظهر النّواة.

(٤) القطمير : القشرة الرقيقة بين النّواة والتمر.

١٣٣

أعمالهم.

قيل : إنّما قدّم ذكر الصغيرة لكونها جارّة إلى الكبيرة (١) ، ويحتمل أن يكون [ المراد ] من حضور الأعمال تجسّمها في نظرهم مضافا إلى رؤيتها في كتابها. أو يكون المراد رؤية جزائها وشهوده ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ بكتابة ما لم يعمل ، أو العقوبة زائدا على الاستحقاق.

﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ

 أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ

 بَدَلاً * ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ

 مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥٠) و (٥١)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر افتخار المشركين على فقراء المؤمنين وتكبّرهم عليهم ، ذكر تكبّر إبليس عن السجود لآدم ردعا لهم وبيانا لسوء عاقبة الكبر بقوله : ﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ له ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ فانّه أبى واستكبر ؛ لأنّه ﴿كانَ مِنَ الْجِنِ﴾ المخلوق من النار المجبول على الترفّع ، ولم يكن من الملائكة المخلوقين من النّور ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ(٢) .

ثمّ وبّخ الله سبحانه المتكبّرين على اتّباعه ما غاية عداوته لآدم وذريّته بقوله : ﴿أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ﴾ لأنفسكم ﴿أَوْلِياءَ﴾ وأحبّاء متبوعين ﴿مِنْ دُونِي﴾ وبدلا منّي ﴿وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ مبغض ، وحقّهم أن تعادوهم وتبغضوهم لا أن توالوهم ، وأن تخالفوهم لا أن تطيعوهم ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ﴾ والكافرين المتكبّرين ﴿بَدَلاً﴾ من الله إبليس وذريّته.

ثمّ بيّن سبحانه تعالى فقدانهم لما يوجب التكبّر على غيرهم ، وهو كونهم أعوان الله وشركاءه في الخلق بقوله : ﴿ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وما أحضرتهم حينئذ لأستعين بهم في خلقهما ، أو أشاورهم في إيجادهما ﴿وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾ مع كمال حقارتهم بأن يعيننا بعضهم في خلق بعض آخر ، وما شاورتهم في تدبير العالم ﴿وَما كُنْتُ﴾ من قبل خلق الموجودات إلى الأبد ﴿مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ﴾ من الشيطان وذرّيته وأتباعه من الجنّ والإنس لنفسي في الخلق والتدبير ﴿عَضُداً﴾ وعونا.

قيل : إنّ المراد ما أشهدت الذين اتّخذتموهم أولياء خلق السماوات والأرض ، ولا أشهدت بعضهم

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ١٣٤.

(٢) لم يرد تفسيرها عن المصنف.

١٣٤

خلق بعض (١) . وقيل : إنّ المراد أنّه ليس لهم العلم بالمغيبات ولا بخلق أنفسهم ، فكيف تعبدونهم وتدّعون أنّهم شركائي في العبادة (٢) ؟

﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا

 بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها

 مَصْرِفاً (٥٢) و (٥٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخ المشركين المتكبّرين على اتّباعهم الشيطان ونفي أهليّة التكبّر عنهم ، عاد إلى تهويلهم بأهوال القيامة وتقريعهم على الشّرك فيها بقوله : ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾ الله للمشركين تقريعا وتهكّما : أيّها المشركون ﴿نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ أنّهم شركائي في الالوهيّة والعبادة ، وأنّهم شفعاؤكم في هذا اليوم ، كي ينجوكم من العذاب بالقهر ، أو يشفعوا لكم (٣)﴿فَدَعَوْهُمْ﴾ ونادوهم ﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ واستغاثوا بهم فلم يغيثوهم ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ﴾ من الداعين والمدعوّين ﴿مَوْبِقاً﴾ ومهلكا وهو النار ، أو واديا من جهنّم ، أو برزخا بعيدا يهلك فيه السائر ، أو عداوة شديدة مهلكة.

وقيل : إنّ البين بمعنى المواصلة ، والمعنى : جعلنا مواصلتهم في الدنيا هلاكهم في الآخرة (٤) .

﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ﴾ والمشركون بعد يأسهم من آلهتهم ﴿النَّارَ﴾ التي اعدّت لهم ﴿فَظَنُّوا﴾ وأيقنوا ﴿أَنَّهُمْ مُواقِعُوها﴾ ومخالطوها.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « يعني : أيقنوا أنّهم داخلوها » (٥) .

وعنه عليه‌السلام : « وقد يكون بعض ظنّ الكافر يقينا ، وذلك قوله تعالى : ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ﴾ الآية ، أي : أيقنوا أنّهم مواقعوها » (٦) .

﴿وَلَمْ يَجِدُوا﴾ لأنفسهم ﴿عَنْها مَصْرِفاً﴾ ومعدلا إلى غيرها أو مهربا ؛ لأنّ الملائكة يسوقونهم إليها ، أو لأنّها محيطة بهم من كلّ جانب.

﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ

 جَدَلاً (٥٤)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ١٣٨.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٧٣٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٥٦.

(٣) في النسخة : يشفعوكم.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٢٥٨.

(٥) التوحيد : ٢٦٧ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٧.

(٦) الاحتجاج : ٢٥٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٧.

١٣٥

ثمّ أنّه تعالى بعد ردع الكفّار المفتخرين على فقراء المؤمنين بكثرة المال والولد بالبيانات التي كلّها كالمثل في الغرابة والحسن ، وذكر المثلين المتقدّمين ، بيّن سبحانه شدّة شقاوتهم وقساوتهم وعدم تأثّرهم بها بقوله : ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا﴾ وكرّرنا أو أوردنا على وجوه كثيرة من النظم ﴿فِي هذَا الْقُرْآنِ﴾ صلاحا ونفعا ﴿لِلنَّاسِ﴾ كافة الى يوم القيامة ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ بديع ومعنى عجيب وشبيه ونظير وعبر ودلائل على الحقّ ﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿كانَ الْإِنْسانُ﴾ بجنسه وطبعه ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ وأشدّه خصومة بالباطل.

قيل : من طبيعة الإنسان المجادلة والمخاصمة ، وبها يقطعون الطريق على أنفسهم ، فتارة يجادلون الأنبياء ولا يقبلون النبوّة والرسالة حتى يقاتلوهم ، وتارة يجادلون في الكتب المنزلة ويقولون : ما أنزل الله على بشر من شيء ، وتارة يجادلون في محكماتها ، وتارة يجادلون في متشابهاتها ، وتارة يجادلون في ناسخها ومنسوخها ، وتارة يجادلون في تفسيرها وتأويلها ، وتارة يجادلون في أسباب نزولها ، وتارة يجادلون في قراءتها ، وتارة يجادلون في قدمها وحدوثها ، إلى غير ذلك حتى لم يفرغوا من المجادلة إلى المجاهدة ، ومن المخاصمة إلى المعاملة ، ومن المنازعة إلى المطاوعة ، فلهذا قال تعالى : ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً(١) .

﴿وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ

 سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً * وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ

 وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي

 وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٥) و (٥٦)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ القرآن جامع لجميع الدلائل والعبر والعلوم ، بيّن تمامية الحجّة على النّاس به ، وعدم تصوّر العذر لهم في ترك الإيمان بقوله : ﴿وَما مَنَعَ النَّاسَ﴾ من ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا﴾ بالله ورسوله ودينه الحقّ ﴿إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى﴾ وحين أتاهم الرسول ، وقرّر لهم دلائل التوحيد ورسالته ، وجميع ما يجب الإيمان به بما لا مزيد عليه ﴿وَ﴾ من أن ﴿يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ﴾ ويتوبوا إليه من شركهم ومعاصيهم ﴿إِلَّا﴾ انتظار ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ العقوبة الدنيويّة التي هي ﴿سُنَّةُ﴾ الله ودأبه في القرون ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ والامم الماضين الجاحدين لكلّ حقّ ، المعارضين للرسل ﴿أَوْ﴾ أن ﴿يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ﴾ الاخروي ﴿قُبُلاً﴾ وعيانا ، أو أنواعا.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٥٩.

١٣٦

وحاصل المعنى - والله أعلم - أنّهم لا يؤمنون إلّا عند نزول عذاب الاستئصال ، أو حين تواصل عذاب الدنيا عليهم بعذاب الآخرة ، وحينئذ لا ينفعهم الإيمان.

ثمّ لمّا بيّن الله أنّ جبلّة الإنسان على الجدال بيّن أنّهم يجادلون ويقترحون على الرسل مع أنّ وظيفتهم التبشير والإنذار بقوله : ﴿وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى الناس لغرض من الأغراض ﴿إِلَّا﴾ لغرض واحد وهو أن يكونوا ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ للمؤمنين المطيعين بالثواب ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ للكافرين والعصاة بالعذاب ، لا لموافقتهم أهواء النّاس وإتيانهم بمقترحاتهم وعملهم بمتوقّعاتهم ، من طرد الفقراء ، ومجالسة المتكبّرين ﴿وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ رسلهم ﴿بِالْباطِلِ﴾ كقولهم : لا يكون الرسول إلّا ملكا ، أو من يكون له بيت من زخرف ، إلى غير ذلك ﴿لِيُدْحِضُوا﴾ بجدالهم ويزيلوا ﴿بِهِ الْحَقَ﴾ الذي جاءهم به الرسول عن مقرّه ويبطلوه ويطفئوا نوره ﴿وَاتَّخَذُوا آياتِي﴾ الدالّة على الحقّ ومعجزات الرسول ﴿وَما أُنْذِرُوا﴾ وخوّفوا به من العذاب على الكفر ﴿هُزُواً﴾ وسخريّة.

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا

 عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ

 يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧)

ثمّ ذمّهم سبحانه بقوله : ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ وهل يكون أحد ، أكثر إساءة على نفسه ﴿مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ﴾ وتليت عليه حجج الله ومواعظه بالعبارات التي تكون في أعلى درجة الإعجاز ﴿فَأَعْرَضَ﴾ ولوى رأسه ﴿عَنْها﴾ وألقاها وراء ظهره ولم يتدبّرها ولم يتفكّر فيها ﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ﴾ وتغافل عمّا أرتكبه من السيّئات وعن سوء عاقبتها.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إعراضهم وتناسيهم بقوله : ﴿إِنَّا جَعَلْنا﴾ بسبب كفرهم وعصيانهم ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ الخبيثة المظلمة ﴿أَكِنَّةً﴾ وأغطية حين تلاوة القرآن عليهم كراهة ﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ ويفهموا ما فيه من الأعجاز والحكم والمعارف والأحكام ﴿وَ﴾ جعلنا ﴿فِي آذانِهِمْ وَقْراً﴾ وثقلا وصمما ﴿وَ﴾ كراهة أن يستمعوه حقّ الاستماع ﴿وَ﴾ لذا ﴿إِنْ تَدْعُهُمْ﴾ يا محمّد ﴿إِلَى الْهُدى﴾ الذي هو دين الإسلام ﴿فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً﴾ لعدم تأثّر قلوبهم بقولك ، كعدم تأثّرهم بالقرآن ، فلا تتعب في دعوتهم ولا تحزن على ضلالتهم.

﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ

 مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا

١٣٧

لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩) و (٥٩)

ثمّ ذكر سبحانه علّة إمهالهم بقوله : ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ﴾ للذّنوب و﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ على العباد يحلم ويرحم و﴿لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا﴾ ولا يحلم عنهم ﴿لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ﴾ بالصّاعقة ، أو الخسف ، أو غيرهما ممّا يهلكهم بالاستئصال في الدنيا ، أو بإماتتهم وإحراقهم بالنّار في الآخرة ﴿بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ﴾ ووقت معيّن لمؤاخذتهم فيه ﴿لَنْ يَجِدُوا﴾ حين مجيئ ذلك الموعد ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ وممّا سواه تعالى ﴿مَوْئِلاً﴾ وملجأ يلتجئون إليه.

ثمّ استشهد على إمهاله الكفّار وأخذهم في موعده بالقرى المهلكة بقوله : ﴿وَتِلْكَ الْقُرى﴾ المهلكة من قرى عاد وثمود وأضرابهما ﴿أَهْلَكْناهُمْ﴾ بعذاب الاستئصال ﴿لَمَّا ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالكفر والطغيان وتكذيب الرسل والإعراض عن الآيات ، ولكن لم نعاجلهم ، بل قرّرنا ﴿وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ﴾ وإنزال العذاب عليهم ﴿مَوْعِداً﴾ ووقتا معيّنا ممتدّا لم يتقدّم إهلاكهم عليه ولم يتأخّر عنه.

﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً *

 فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦٠) و (٦١)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ الفخر والكبر خلق الشّيطان ، بيّن أنّ صفة التواضع وتبعيّة العالم من كرائم أوليائه ورسله ، بذكر قصّة موسى عليه‌السلام وتبيعته الخضر بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى﴾ بن عمران بن يصهر ﴿لِفَتاهُ﴾ وخادمه يوشع بن نون ، أو أخي يوشع ، أو عبده ﴿لا أَبْرَحُ﴾ ولا أزال أسير وأذهب ﴿حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ﴾ بحر فارس وبحر روم وملتقاهما على ما قيل (١) ، وهو الموضع الذي وعده الله بلقاء الخضر فيه. أو مجمع موسى والخضر ، فإنّ موسى بحر العلم الظاهر ، والخضر بحر العلم الباطن ﴿أَوْ أَمْضِيَ﴾ وأسير في الأرض ﴿حُقُباً﴾ ومدّة طويلة ، أو ثمانون سنة على ما قيل (٢) ، ورواه القمي عن الباقر عليه‌السلام (٣) .

وقال القمي : لمّا أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قريشا بخبر أصحاب الكهف قالوا : أخبرنا عن العالم الذي أمر الله موسى أن يتّبعه وما قصّته ؟ فأنزل الله : ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ(٤) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢١ : ١٤٥ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٣.

(٢) تفسير الرازي ٢١ : ١٤٦ ، تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٤.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٨.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٨.

١٣٨

في قصة موسى والخضر

وروى بعض العامة أنّه لمّا ظهر موسى عليه‌السلام على مصر مع بني إسرائيل بعد هلاك القبط ، أمره الله أن يذكّر قومه أنعام الله عليهم ، فخطب خطبة بليغة رقّت بها القلوب ، وذرفت العيون ، فقال واحد من علماء بني إسرائيل : يا موسى ، من أعلم ؟ قال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إلى الله تعالى ، فأوحى إليه : بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين ، وهو الخضر ، وكان في أيّام أفريدون الملك العادل العاقل قبل موسى عليه‌السلام ، وكان على مقدّمة ذي القرنين الأكبر ، وبقي إلى أيّام موسى عليه‌السلام ، وقد بعث هو في أيّام كشتاسب بن لهراسب - على ما قيل - فقال موسى عليه‌السلام : يا ربّ ، أين أطلبه ، وكيف يتيسّر لي الظّفر به والاجتماع معه ؟ قال : اطلبه على ساحل البحر عند الصخرة ، وخذ حوتا مملوحا في مكتل يكون زادا لك ، فحيث فقدته فهو هناك. فأخذ حوتا فجعله في مكتل فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني. قال : وزعم أهل التوراة أنّ موسى هذا هو موسى بن ميشاء بن يوسف ، وكان نبيّا قبل موسى بن عمران (١) .

وقال بعضهم : إنّ موسى عليه‌السلام لمّا أعطى الألواح وكلّمة الله قال : من الذي أفضل منّي وأعلم ؟ فقيل : عبد لله يسكن جزائر البحر (٢) .

وفي رواية عامية أخرى : أنّ موسى عليه‌السلام لمّا اوتي من العلم ما اوتي ، ظنّ أنّه لا أحد مثله ، فأتاه جبرئيل وهو بساحل البحر فقال : يا موسى ، انظر إلى هذا الطير الصغير يهوي إلى البحر يضرب بمنقاره فيه ثمّ يرتفع ، فأنت فيما اوتيت من العلم دون قدر ما يحمل هذا الطير بمنقاره من البحر (٣) .

وفي رواية عامية : أنّ موسى عليه‌السلام سأل ربه أيّ عبادك أحبّ إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني. قال : فأيّ عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحقّ ولا يتّبع الهوى. قال : فأيّ عبادك أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى ، أو تردّه عن ردى. فقال موسى عليه‌السلام : إن كان في عبادك أعلم منّي فادللني عليه ، فقال : أعلم منك الخضر. قال : فأين أطلبه ؟ قال : على الساحل عند الصخرة. قال : يا ربّ ، كيف لي به ؟ قال : تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني (٤) .

والقمي رحمه‌الله لمّا كلّم الله موسى عليه‌السلام تكليما ، فأنزل الله الألواح عليه ، وفيها كما قال الله تعالى : ﴿وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ(٥) رجع موسى عليه‌السلام إلى بني إسرائيل ، فصعد المنبر ، فأخبرهم أنّ الله قد أنزل عليه التوراة وكلّمه ، قال في نفسه : ما خلق الله خلقا أعلم منّي. فأوحى الله إلى جبرئيل :

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٦٢.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٤٤.

(٤) تفسير الرازي ٢١ : ١٤٥.

(٥) الاعراف : ٧ / ١٤٥.

١٣٩

أدرك موسى فقد هلك ، وأعلمه أنّ عند ملتقى البحرين عند الصخرة رجل أعلم منك ، فسر إليه وتعلّم من علمه. فنزل جبرئيل إلى موسى فأخبره ، وذلّ موسى في نفسه ، وعلم أنّه أخطأ ودخله الرّعب ، وقال لوصيّه يوشع : إنّ الله قد أمرني أن أتبع رجلا عند ملتقى البحرين وأتعلّم منه ، فتزوّد يوشع حوتا مملوحا(١).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « بينا موسى عليه‌السلام قاعد في ملأ من بني إسرائيل ، إذ قال له رجل : ما أرى [ أحدا ] أعلم بالله منك ، قال موسى عليه‌السلام : ما أرى. فأوحى الله إليه : بل عبدي الخضر. فسأل السبيل إليه ، فكان له آية الحوت إن افتقده ، وكان من شأنه ما قصّ الله » (٢) .

فذهب موسى ويوشع عليهما‌السلام حتى بلغا مجمع البحرين ﴿فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما﴾ ومكانا يلتقي وسط ما امتدّ من البحرين ، أو الموضع الذي يجتمع فيه موسى والخضر الذي كان في طلبه ، جلس هو وفتاه على الصخرة التي كانت قريبة من عين الحياة.

ثمّ نام موسى عليه‌السلام ، وتوضّأ يوشع من العين ، فوقعت قطرة من ماء العين على الحوت المملوح فحيي ، فذهب في البحر ، فتحيّر يوشع من هذا الأمر ، فقام موسى عليه‌السلام من النوم ، وتوجّه إلى الطريق ، وأسرع في السير وتبعه يوشع و﴿نَسِيا حُوتَهُما﴾ الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب ، أمّا موسى عليه‌السلام فنسى تذكّر الحوت لصاحبه ، وأمّا صاحبه فنسي الإخبار بأمر الحوت ﴿فَاتَّخَذَ﴾ الحوت ﴿سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً﴾ ومسلكا.

القمي : فلمّا خرجا وبلغا ذلك المكان ، وجدا رجلا مستلقيا على قفاه فلم يعرفاه ، فأخرج وصيّ موسى الحوت وغسله بالماء ، ووضعه على الصخرة ومضيا ونسيا الحوت ، وكان ذلك الماء ماء الحيوان ، فحيي الحوت ودخل في الماء ، فمضى موسى ويوشع معه حتى عييا (٣) .

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه قال لبعض اليهود وقد سأله عن مسأئل : « أمّا قولك أوّل عين نبعت على وجه الأرض ، فإنّ اليهود يزعمون أنّها العين التي ببيت المقدس تحت الحجر وكذبوا ، هي عين الحيوان التي انتهى موسى عليه‌السلام وفتاه إليها ، فغسل فيها السمكة المالحة فحييت ، وليس من ميت يصيبه ذلك الماء إلّا حيي ، وكان الخضر في مقدّمة ذي القرنين يطلب عين الحياة فوجدها وشرب منها ، ولم يجدها ذو القرنين » (٤) .

وفي رواية : أنّ موسى ويوشع عليهما‌السلام انطلقا يمشيان ، فانتهيا إلى شيخ مستلق معه عصاه موضوعة إلى

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٨.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ١٠٣ / ٢٦٧٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤٩.

(٤) إكمال الدين : ٢٩٨ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥٠.

١٤٠