الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

دكتور محمود ماضي

الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

المؤلف:

دكتور محمود ماضي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 253-070-8
الصفحات: ١٨٨

من معجزات موسى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ لأن مجىء محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» تصديق لهما من جهتين :

الأولى : «من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه» (١) وسنأتى على تفصيل هذا فى غير هذا الموضع.

الثانية : «من جهة إخباره بمثل ما أخبروا به ومطابقته ما جاء به لما جاءوا به».

فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بوحى ثم جاء نبى آخر لم يقارنه فى الزمان ولا في المكان ولا تلقى عنه ما جاء به وأخبر به سواء. دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر».

ولا يشترط في إخبار النبى المقدم عن النبى المتأخر «أن يخبرنا بالتفصيل التام بأنه يخرج من القبيلة الفلانية في السنة الفلانية في البلد الفلانى ... وقد يبقى خفيا لا يعرفون مصداقه إلا بعد دعاء النبى اللاحق أن النبى المقدم أخبر عنى وظهور صدق ادعائه بالمعجزات وعلامات النبوة». (٢)

أما نفيهم النسخ وإنكارهم نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لهذا السبب فلا حجة لهم فيه بعد أن أوضحنا جوازه ، فقد كان «يوشع نبيا في زمن موسى وبقى بعده وقد نسخ شريعته بشريعة موسى» (٣).

كذلك فإن قول العيسوية ـ من اليهود ـ أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» رسول إلى العرب خاصة فظاهر البطلان لأنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به ، فمتى «ثبت أنه نبى ، فالنبى لا يكذب وقد قال : (بعثت إلى الناس كافة) وقد كتب إلى قيصر وكسرى وسائر ملوك العجم» (٤) وهذا معلوم متواتر «كما علم وجوده ودعواه ورسالته» ولما ثبت أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ادعى «أنه مبعوث إلى الكافة ثم صدقه الله تعالى بالإعلام المعجزة فإنه لا بد من أن يكون مبعوثا إلى الأحمر والأسود» (٥).

وطبيعى أن من صدق به نبيا إلى العرب يلزمه التصديق به نبيا إلى الناس كافة ما دام الأمران ثابتين بالروايات التى يحتج بها ، فضلا عن أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يعدم المعجزة الدالة على صدقه. فلا حجة إذن لمن أنكر نبوته من العنانية من اليهود أو من حدها بالعرب.

__________________

١ ـ ابن القيم : إغاثة اللهفان ج ٢ ص ٣٥١.

٢ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ١٣٤

٣ ـ ابن القيم : إغاثة اللهفان ج ٢ ص ٣٥١ وأيضا : النبوة في الإسلام للمؤلف.

٤ ـ ابن الجوزى : تلبيس إبليس ص ٧١ ادار الطباعة المنيرة.

٥ ـ القاضى عبد الجبار : شرح الأصول الخمسة ٥٨٣.

٨١

ثانيا : معجزات الحوادث : ـ

لما كانت لرسل الله تعالى السابقين على محمد مؤيدات لدعوتهم كان لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» تلك المؤيدات بل تزيد.

وهذه نماذج من هذه الواقعات المؤيدات التى لا تفسر إلا بالقدرة الإلهية المؤيدة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مع ملاحظة ـ كما قلنا ـ أن المعجزة الأساسية لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» والتى بها قامت الحجة على خلق الله في كل العصور هى القرآن الكريم الذى رأينا بعض ما فيه مما يشهد أنه كتاب الله.

ومع ملاحظة ـ ثانيا أننى لم أرد الاستقصاء وإنما أردت ضرب الأمثلة فقط وإلا فمعجزات الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كثيرة جدا.

ونعنى بمعجزات الحوادث ما نقل عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من خوارق العادات ما بلغ حد التواتر وإن كانت تفاصيلها آحادا كانشقاق القمر وانطاق العجماء ونبع الماء من خلل الأصابع وتسبيح الحصا وتكثير الطعام القليل.

١ ـ انشقاق القمر : ـ

وله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢)) [القمر : ١ ، ٢].

ولما رواه البخارى عن ابن مسعود أنه قال : «انشق القمر ونحن مع النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بمنى ، فقال : اشهدوا» ولأبى ذر فقال النبى «اشهدوا أى اضبطوا ذلك بالمشاهدة وذهبت فرقة من القمر نحو الجبل المعروف بحراء وبقيت الأخرى مكانه حتى صار حراء بينهما».

وما أخرجه الشيخان عن أنس «أن أهل مكة سألوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما» (١).

وما روى عن جبير بن مطعم قال : «انشق القمر على عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فصار فرقتين فقالت قريش : سحر محمد أعيننا ، فقال بعضهم لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم فكانوا يطلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم» (٢).

وروى أن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كان يمر «بمكة في ليلة قمراء فاجتاز بنفر من

__________________

١ ـ العلامة القسطلانى : إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى ج ٦ ص ١٩٥.

٢ ـ أخرجه الترمذى.

٨٢

المشركين فقالوا له : يا محمد إن كنت رسول الله كما تزعم فاسأل ربك أن يشقق هذا القمر فسأل الله ذلك فشقه «فقالوا سحر القمر حتى انشق» وسرى سحره من الأرض إلى السماء فنزل قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)(١).

وقد صرح القرآن بانشقاق القمر على صيغة الماضى وسماه آية من الآيات التى أعرضوا عنها وقالوا سحر مستمر.

وقيل فى معنى انشقاق القمر «أى وضح الأمر وظهر. قيل : هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه فى أثنائها كما يسمى الصبح فلقا لانفلاق الظلمة عنه ... وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه».

وقيل أيضا فى معنى الآية : ينشق القمر يوم القيامة.

ولكن هذا القول مدفوع بوجوه خمسة :

ـ الأول : أن قول الله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) وكفى به ردا قراءة حذيفة : قد انشق القمر أى اقتربت (٢) وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم» (٣).

وفى هذا دلالة على أنها آية مرئية وحجة ثابته.

الثانى : أن الله تعالى ، قال : «على نسق الكلام (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ). وهذا الإخبار من الله تعالى لا يقال فيما لم يقع ولم يكن» (٤) لأنه أخبر «باعراضهم عن آياته والإعراض الحقيقى عنها لا يتصور قبل وقوعها» (٥) فلو لم ينشق القمر على عهد النبى ولم يشاهده كفار مكة لكذبوه وصار تكذيبهم له حادثة هامة تتناقلها الألسنة والأقلام.

الثالث : أن ما يقع يوم القيامة وعند قيام الساعة لا يكون حجة على المكلفين ولا يعنفون فى ترك النظر» (٦).

كما أنهم لا يقولون فى الآيات يوم القيامة إنها سحر لأنهم حينئذ يعرفون الأحوال

__________________

١ ـ القاضى عبد الجبار : تثبيت دلائل النبوة ج ١ ص ٥٥.

٢ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن «مصدر سابق».

٣ ـ الزمخشرى : الكشاف ج ٢.

٤ ـ القاضى عبد الجبار : المصدر السابق ص ٥٦.

٥ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ٤٧١.

٦ ـ القاضى عبد الجبار : المصدر السابق.

٨٣

ضرورة.

الرابع : أن الانشقاق قد وقع على عهد النبى كعلامة من أشراط الساعة لما ثبت «فى الصحيح عن ابن مسعود أنه قال (خمس مضين : الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر)». ويعقب ابن كثير على قول ابن مسعود بأن هذا «أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع فى زمان النبى وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات» (١) وإليه ذهب الخازن حيث قال : «... وانشقاق القمر من آيات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» الظاهرة ومعجزاته الباهرة» (٢).

الخامس : أن الآية «على التقديم والتأخير وتقديره (انشق القمر واقتربت الساعة) فالفعلين إذا كانا متقاربين فلك أن تقدم وتؤخر» (٣).

انشقاق القمر إذن من أشراط الساعة وليس يقع يوم الساعة ـ كما فى ـ قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها)(٤) فقوله (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) يدل على أن أشراطها قد تحققت لأن لفظة ـ قد ـ إذا دخلت على الماضى تكون نصا على وجود الفعل فى الزمان الماضى القريب من الحال» (٥). ولأن الله تعالى «ذكر بلفظ الماضى (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وحمل الماضى على المستقبل بعيد» (٦).

وفى التفسير الكبير للرازى : «أشراط العلامات. قال المفسرون هى مثل انشقاق القمر ورسالة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٧). وكذلك عند البيضاوى وفى الجلالين.

ولو لم يكن هذا ظاهرا بينهم لأنكروا ذلك وكذبوا قوله ولقالوا : لم ينشق القمر ولم يكونوا بحاجة إلى القول : إنه سحر مستمر فوضح بذلك أن انشقاق القمر من آيات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ومن معجزاته النيرة.

أما اليهود والنصارى فقد أنكروا هذه المعجزة ـ فضلا عن إنكارهم معجزات نبينا كلها ـ وساقوا لذلك حجتين :

الأول : قولهم أنه «لو كان هذا لم يخف على أهل الأرض إذ هو شىء ظاهر لجميعهم إذ لم ينقل لنا عن أهل الأرض أنهم رصدوه تلك الليلة فلم يروه انشق» (٨).

__________________

١ ـ ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ج ٤.

٢ ـ تفسير الخازن ج ٤ ص ٢٢٦.

٣ ـ القرطبى : المصدر السابق.

٤ ـ محمد : من الآية ١٨.

٥ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ٤٧٨.

٦ ـ تفسير الخازن ج ٤ ص ٢٢٦.

٧ ـ الرازى : التفسير الكبير.

(٨) ـ القاضى عياض : الشفا ج ١ ص ٢٨٣.

٨٤

الثانية : أن «الأجرام العلوية لا يأتى فيها الخرق والالتئام» (١) وفى مجال دفع هذه المزاعم ذهب الإمام القرطبى إلى أنه «قد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة وهو ظاهر التنزيل».

ويستدل على ذلك بوجوه :

الأول : لأنها «كانت ـ معجزة ـ ليلية لا يلزم أن يستوى الناس فيها» (٢) وقل من «يترصد السماء ولعله كان فى قدر اللحظة التى هى مدرك البصر» (٣) أى أنها لم تمتد زمانا طويلا.

الثانى : أنها من آيات التحدى فقد كانت باستدعاء النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من الله تعالى عند التحدى. فروى أن حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضبا من سب أبى جهل الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» طلب أن يريه آية يزداد بها يقينا فأراهم انشقاق القمر».

الثالث : أن القمر لاختلاف مطالعه «ليس فى واحد لجميع أهل الأرض فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على الآخرين ... أو يحول بين قوم وبينه سحاب أو جبال ولهذا نجد الكسوفات فى بعض البلاد دون بعض وفى بعضها جزئية وفى بعضها كلية وفى بعضها لا يعرفها إلا المدعون لعلمها (٤).

الرابع : ما جاء فى الإصحاح العاشر من سفر يوشع على وفق الترجمة العربية سنة ١٨٤٤ م .. هكذا : «حينئذ تكلم يوشع أمام الرب فى اليوم الذى وقع الأمورى فى يدى بنى إسرائيل. وقال إمامهم : أيتها الشمس مقابل جبعون لا تتحركى والقمر مقابل قاع ايلون فوقفت الشمس والقمر حتى انتقم الشعب من أعدائه .. فوقفت الشمس فى كبد السماء ولم تكن تعجل إلى الغروب يوما تاما» (٥).

وهذه الرواية باطلة لأن «قول يشوع (أيتها الشمس لا تتحركى) وقوله (فوقفت الشمس) يدل على أن الشمس متحركة والأرض ساكنة وإلا كان عليه أن يقول (أيتها الأرض لا تتحركى فوقفت الأرض) وهذا الأمر باطل بحكم علم الهيئة الجديدة الذى يعتمد عليه حكماء أوربا كلهم الآن ويعتقدون ببطلان القديم. لعل يشوع ما كان يعلم هذه الحال. أو هذه القصة كاذبة» (٦).

__________________

١ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ١٠٨.

٢ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن ج ١٧ ص ١٢٥.

٣ ـ القسطلانى : إرشاد السارى ج ٦ ص ١٩٦.

٤ ـ القاضى عياض : المصدر السابق ج ١ ص ٢٨٣.

٥ ـ يشوع : الأصحاح ١٠ : ١٢ ـ ١٣.

٦ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق.

٨٥

الخامس : رجوع الشمس معجزة لأشعيا ، فقد جاء فى الآية الثامنة من الإصحاح ٣٨ من يشوع : «فرجعت الشمس عشر درجات فى المراقى التى كانت انحدرت» (١) وهذه الحادثة «عظيمة ولما كانت فى النهار فلا بد أن تظهر لأكثر أهل العالم ، وكانت قبل ميلاد المسيح ـ كما يقولون ـ (ولكنها) ليست مكتوبة فى تواريخ الهند والصين والفرس. وأيضا يفهم منها حركة الشمس. وهذا أيضا باطل على حكم علم الهيئة الجديد» (٢).

ومع ورود هذا فى كتبهم إلا أنهم يتبجحون وينكرون انشقاق القمر لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بحجة أن الأجرام العلوية لا يتأتى فيها الخرق والالتئام.

٢ ـ نبع الماء من بين أصابع النبى :

وهذه المعجزة أعظم وأبلغ فى الأعجوبة من تفجر الماء من الحجر كما وقع لموسى «لأن نبوع الماء من بين اللحم والعظم أعجب وأعظم من خروجه من الحجر» لأن ذلك من عادة الحجر أمّا من اللحم فما «روى قط ولا سمع فى ماضى الدهر بماء نبع وانفجر من أحاد بنى آدم حتى صدر عنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣).

أخرج النجار عن جابر قال : «عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقال رسول الله ما لكم؟ قالوا : يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلا ما فى ركوتك. فوضع النبى يده فى الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه. أى من اللحم الكائن بين أصابعه (٤).

وعن أنس بن مالك أنه قال : «رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فأتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بوضوء فوضع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضئوا منه قال : فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فتوضأ الناس حتى توضئوا عن عند آخرهم (٥) وأخرج البخارى عن ابن مسعود قال : إنكم تعدون الآيات عذابا ولكنا نعدها بركة على عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ونحن نسمع تسبيح الطعام. وأتى النبى بإناء فجعل ينبع الماء من بين أصابعه فقال النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : حى على الطهور المبارك والبركة من الله حتى توضأنا كلنا» (٦).

ولا شك أن نبع الماء من أصابعه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أو تكثير الطعام بدعائه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» معجزة

__________________

١ ـ يشوع : ٣٨ : ٨.

٢ ـ إظهار الحق : ص ٤٧٣ ـ ٤٧٤.

٣ ـ الأصبهانى : دلائل النبوة ج ١ ص ١٤٤.

٤ ـ القسطلانى : إرشاد السادى ... ج ٦ ص ٣٤٧.

٥ ـ القاضى عياض : الشفا ج ١ ص ٢٨٥.

٦ ـ القسطلانى : إرشاد السارى مصدر سابق.

٨٦

نقلها متواتر والذى «حصل للنبى أولا الماء القليل أو الطعام القليل ثم كثرة ولم يخترع من بدء الأمر من العدم إلى الوجود الماء الكثير أو الطعام الكثير ... ليعلم أن الموجد هو الله .. وإن كان التكثير أيضا فى الحقيقة من جانب الله كالإيجاد» (١).

وهكذا فعل الأنبياء كما يظهر من معجزة اليشع فى تكثير «عشرين رغيفا من شعير وسويق» (٢) حتى شبع مائة رجل وفضل عنهم ومن معجزة المسيح فى تكثير خمسة أرغفة وسمكتين : «فأكل الجميع وشبعوا ... والآكلون نحو خمسة آلاف (٣).

٣ ـ تسبيح الحصى :

فعن أنس قال : «أخذ النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كفا من حصى فسبحن فى يد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» حتى سمعنا التسبيح» (٤).

ومع أن «آحاد هذه المعجزات لا يثبت تواترا لكن مجموعها يفيد العلم قطعا لاختصاصه بخوارق العادات كما أن آحاد البذل من حاتم ـ الطائى ـ لا تثبت تواترا ولكن مجموعها يفيد العلم على الضرورة بسخائه وكذلك القول فى جسارة أمير المؤمنين علىّ وشجاعته» (٥).

وقوع هذه الأحداث إذن من نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» معلوم ضرورة كما يعلم ضرورة وجود حاتم الطائى وكرمه وشجاعة الإمام علىّ لاتفاق الأخبار عن كل واحد منهما على كرم هذا وشجاعة ذلك.

كما أن «فى استسقاء النبى وفى إخباره عن المقتولين فى غزوة مؤتة وفيما كان النبى وأهل مكة من المراجعة فى غلبة الروم على فارس علم ضرورى» (٦).

وإن قال اليهود إن الذى ظهر من عيسى ومحمد من قبيل السحر وعمل الشياطين «وعلى كل تقدير جميع ما يقولونه يلزمهم فى قلب العصا ثعبانا واليد بيضاء وفلق البحر ونتق الجبل وسائر معجزات رسلهم» (٧).

__________________

١ ـ رحمة الله الهندى : المصدر السابق.

٢ ـ سفر الملوك الثانى ٤ : ٤٢ ـ ٤٣.

٣ ـ متى ١٤ : ١٥ ـ ٢١.

٤ ـ القاضى عياض : المصدر السابق ج ١ ص ٣٠٦.

٥ ـ الجوينى : الإرشاد ... ص ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

٦ ـ القاضى عبد الجبار : تثبيت دلائل النبوة ج ٢ ص ٥١١.

٧ ـ الأجوبة الفاخرة ... ص ٩٩ ، ٢٠٨ مصدر سابق.

٨٧

المبحث الثالث

الاستدلال بأحوال النبى قبل النبوة وبعدها :

إنه لا بد لكل رسول لله أن يكون متصفا بصفات أساسية حتى يكون أهلا للرسالة من هذه الصفات الصدق والأمانة بحيث لو امتحن كل قول له لكان مطابقا للواقع إذا وعد أو عاهد أو جد أو داعب أو أخبر أو تنبأ وإذا انتقضت هذه الصفة أى نقض فإن دعوى الرسالة تنتقض لأن الناس لا يثقون برسول كاذب.

والمكيون على خصومتهم لرسول الله ما كانوا يشكون فى أنه صادق لأنه لو أخبرهم أن خيلا وراء الوادى ستغير عليهم لصدقوه لأنهم لم يعهدوا فيه كذبا ، لم يكذب قط فى مهمات الدين ولا فى مهمات الدنيا ، ولو كذب مرة لاجتهد أعداؤه فى تشهيره ولم يقدم على فعل قبيح لا قبل النبوة ولا بعدها.

كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» تحمل المتاعب فى الرسالة لا طمعا فى جاه بينما المتنبئ دعا من أجل طلب الدنيا.

وقد صبر على هذه المشاق والمتاعب «بلا فتور فى عزيمة ولما استولى على الأعداء وبلغ الرتبة الرفيعة فى نفاذ أمره فى الأموال والأنفس لم يتغير عما كان عليه ، ينضم إلى ذلك «أخلاقه العظيمة وأحكامه الحكيمة واحترامه حيث يحجم الناس ولو لا ثقته بعصمة الله إياه من الناس ... لامتنع ذلك عادة.

ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وإن تلونت به الأحوال إلا أن حاله لم تتلون بل ظل على طريقة واحدة فلو تتبعنا علمنا «أن كل واحد منها وإن كان لا يدل على نبوته لأن امتياز شخص بمزيد فضيلة عن سائر الأشخاص لا يدل على كونه نبيا لكن مجموعها لا يحصل إلا للأنبياء قطعا فاجتماع هذه الصفات فى ذاته من أعظم الدلائل على نبوته» (١) فضلا عن أن أمر النبوة لم يشغله قبل البعثة ، «فلم تزل أمارات النبوة لائحة (فيه) حين تدرج إليها وهو غافل عنها وغير متصنع لها» (٢).

وهذه شهادة خصم عنيد لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وأعنى به أبا سفيان ـ قبل أن يمن الله عليه بالشهادتين.

أخرج الإمام البخارى عن ابن عباس حديث أبى سفيان مع هرقل عظيم الروم ومنه يمكن الوقوف على الكيفية التى استدل بها هرقل ـ النصرانى ـ على صدق محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

__________________

١ ـ الإيجي : شرح المواقف ج ٢ ص ٤٢٧.

٢ ـ الماوردى : إعلام النبوة ص ٣٧.

٨٨

لما جاء «قيصر» كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». قال حين قرأه : التمسوا لى هاهنا أحدا من قومه لأسألهم ... عن نسبه ونعته وما يدعو إليه.

قال ابن عباس : فأخبرنى أبو سفيان بن حرب أنه كان بالشام فى رجال من قريش قدموا تجارا فى المدة التى كانت بين رسول الله وبين كفار قريش ـ مدة صلح الحديبية.

قال أبو سفيان : فوجدنا رسول قيصر ببعض الشام. فانطلق بى وبأصحابى حتى قدمنا إيلياء فأدخلنا عليه ـ أى على هرقل ـ فإذا هو جالس فى مجلس ملكه ... فقال لترجمانه : سلهم أيهم أقرب نسبا إلى هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى؟.

قال أبو سفيان : فقلت. أنا أقربهم إليه نسبا.

فقال : أدنوه. وأمر بأصحابى فجعلوا خلف ظهرى عند كتفى ـ لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالكذب إن كذب ـ ثم قال لترجمانه : قل لأصحابه إنى سائل هذا الرجل ـ أبا سفيان ـ عن الرجل الذى يزعم أنه نبى فإن كذب فكذبوه.

قال أبو سفيان : والله لو لا الحياء يومئذ من أمر يأثر أصحابى عنى الكذب لكذبته حين سألنى عنه. ولكنى استحييت أن يأثروا الكذب عنى فصدقته.

قال ـ هرقل ـ : كيف نسب هذا الرجل فيكم؟

قلت : هو فينا ذو نسب عظيم.

قال : فهل قال هذا القول أحد منكم قبله؟

قلت : لا. (قال) : فهل كان من آبائه من ملك؟. (قلت) : لا فقال : هل كنتم تتهمونه على الكذب قبل أن يقول ما قال؟

قلت : لا.

قال : فأشراف الناس ـ أى أصحاب النخوة والتكبر منهم ـ يتبعونه أم ضعفاؤهم؟

قلت : بل ضعفاؤهم.

قال : فيزيدون أو ينقصون؟

قلت : بل يزيدون.

قال : فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟

قلت : لا.

٨٩

قال : فهل يغدر؟

قلت : لا.

قال : فهل قاتلتموه وقاتلكم؟

قلت : نعم قال : فكيف كانت حربه وحربكم؟

قلت : كانت دولا وسجالا.

قال : فما ذا يأمركم؟

قلت : يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ـ من عبادة الأصنام ـ ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة.

فقال لترجمانه : قل له إنى سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه ذو نسب ـ أى عظيم ـ وكذا الرسل تبعث فى أشرف نسب قومها.

وسألتك : هل قال أحد منكم هذا القول قبله فزعمت أن لا فقلت ـ أى هرقل ـ لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله قلت رجل يأتم ـ أى يقتدى ـ بقول قد قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فزعمت أن لا. فقلت لو كان من آبائه ملك. قلت يطلب ملك آبائه.

وسألتك : أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم. فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل.

وسألتك هل يزيدون أم ينقصون. فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان متى يتم.

وسألتك : هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن لا. فكذلك الإيمان حين تخلط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.

وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا. وكذلك الرسل لا يغدرون.

وسألتك : هل قاتلتموه وقاتلكم؟ فزعمت أن قد فعل وأن حربكم وحربه تكون دولا ويدال عليكم المرة وتدالون عليه الأخرى. وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة وسألتك : بما ذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ويأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ... وهذه صفة النبى.

٩٠

قد كنت أعلم أنه خارج ـ قال ذلك لما رأى من علامات نبوته المتمثلة فى سيرته ـ ولكن لم أظن أنه منكم. وإن يك ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدمى هاتين ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقيه».

وفى مرسل ابن إسحاق أن هرقل قال : «ويحك والله إنى لأعلم أنه نبى مرسل ولكنى أخاف الروم على نفسى ولو لا ذلك لاتبعته» (١).

إن النبوة قائمة على الصدق والذين اتبعوه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» اتبعوه لأنه صادق ، ولو رأوا وهم الذين يخالطونه ـ ليل نهار ـ ذرة شبهة لأنكروا وبينوا وهم من هم.

لقد كانت صورة الصدق والإخلاص سمة من السمات التى اتصف بها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قبل البعثة وبعد بعثته ... أعلن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» إلى قريش نبوته فقال لهم : (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم تصدقونى؟) لقد كانت إجابتهم : تعبر عن الحقيقة التى لمسوها. لقد قالوا : نعم أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذبا قط وفى هذا يقول النضر بن الحارث لقريش «لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم ـ إنه ـ ساحر. لا والله ما هو بساحر» (٢). هذا ما ركز عليه هرقل فاستدل بمنطقه ورحب تفكيره على نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

رابعا : إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته :

إن ظاهرة عامة كنبوة نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» للعالمين جميعا تحتاج إلى مقدمات ومبشرات توجد استعدادا عاما عند الناس لها. والدارس للنصوص التاريخية التى تتحدث عن الفترة السابقة على بعثته وأثنائها يلاحظ أن الناس الذين لهم صلة بكتاب سماوى كان واضحا فى أذهانهم أنه سيبعث نبى وكانوا يترقبون ظهوره وأن بعض علمائهم قد أعلن إسلامه بمجرد لقائه بهذا النبى الأمى كعبد الله بن سلام حبر اليهود وعالمهم.

من ذلك أيضا قصة سلمان الفارسى كما تذكرها الروايات وتنقله من عالم إلى عالم فى النصرانية ... حتى دله آخرهم على الترقب لنبى كاد أن يبعث من أرض العرب. وذلك بسبب مجيئه إلى أرض العرب (٣).

__________________

١ ـ القسطلانى : إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى ج ٥ ص ١١٣.

والعسقلانى : فتح البارى بشرح صحيح البخارى ج ١ ص ٢٦ ـ ٢٧.

٢ ـ البيهقى : دلائل النبوة ج ١ ص ٤٤٨ المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.

٣ ـ ابن كثير : السيرة ج ١ ص ٢٩٦ ـ ٣٠٣ مطبعة الحلبى.

٩١

ومن ذلك القصة التى يرويها الإمام البخارى ـ والتى سقت جانبا منها ـ عن أبى سفيان عند ما استدعاه هرقل في بلاد الشام إذ يقول هرقل فى آخرها «وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أعلم أنه منكم» (١).

ومن ذلك أيضا قصة إسلام عبد الله بن سلام. قال ابن هشام في سيرته : «قال ابن إسحاق وكان من حديث عبد الله بن سلام كما حدثنى بعض أهله عنه عن إسلامه وكان حبرا عالما قال : «لما سمعت برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» عرفت صفته واسمه وزمانه الذى كنا نتوقف له فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله إلى المدينة فلما نزل بقباء ... أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لى أعمل فيها وعمتى ... تحتى جالسة فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كبرت. فقالت لى عمتى حين سمعت تكبيرى : خيبك الله لو سمعت موسى بن عمران قادما ما زدت. قال : فقلت لها : أى عمة والله أخو موسى ابن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به. قال فقالت : أى ابن أخى أهو النبى الذى كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال فقلت لها نعم. قال : فقالت : فذاك إذن ، قال : ثم خرجت إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتى فأمرتهم فأسلموا» (٢) ومن ذلك أيضا قصة النجاشى وموقفه من أصحاب الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى هجرتهم إليه وقوله بعد نقاش وعرض عند ما أوفدت قريش وفدا لإخراجهم.

«... أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا» (٣).

على كل حال الأخبار متواترة عمن أسلم ومن اقتنع ولم يسلم «وهذا يوجب القطع بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مذكور فيها ـ فى التوراة ـ مما يدل على صدقه في دعوى النبوة وليس فيها ما يخبر بكذبه والتحذير منه» (٤) على ما سنرى.

المبحث الرابع

بشارات العهدين : القديم والجديد :

قبل أن نتناول هذه البشارات يجب أن ننبه :

أن رسالة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ليست في حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها. بحيث إذا لم يوجد هذا الدليل ـ الخارجى ـ بطلت تلك الرسالة فهى رسالة دليلها

__________________

١ ـ القسطلانى : المصدر السابق.

٢ ـ ابن هشام : سيرة النبى تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد ج ٢ ص ٣٦٠ ـ ٣٦١ مطبعة المدنى.

٣ ـ البيهقى : دلائل النبوة ج ٢ ص ٧٩ الطبعة الأولى المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.

٤ ـ ابن تيمية : ـ الجواب الصحيح ... ج ٣ ص ٢٩٧.

٩٢

فيها ووجود بشارات بها في كتب متقدمة ـ زمنا عليها لا يضيف إليها جديدا ، وعدم تلك البشارات لا ينال منها شيئا قط. فهى حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغنى عما سواه.

فلا يظنن أهل الكتابين ولا غيرهم أننا حين نتحدث عن بشارات الكتب السابقة برسول الإسلام إنما نتلمس أدلة نحن في حاجة إليها لإثبات صدق محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى دعواه الرسالة (١).

إن الإخبارات الواقعة في حق نبينا «وأماراته في التوراة والإنجيل أكثر من أن تحصى. ولقد كان لموسى بيت صور ـ يعنى صور الأنبياء ـ يدخله فيطالع الصور كل سبت. فلو لم يظهر النبى معجزة قط كان ما مضى من الدلائل كافيا فلهذا اقتصرت معجزاته على إظهار الأمر للأميين من العرب دون أهل الكتاب ... فإنهم كانوا محجوجين بما ثبت عندهم من الأخبار عن الصادقين» (٢).

__________________

١ ـ د. عبد العظيم المطعنى : الإسلام في مواجهة الاستشراق العالمى ص ٥٩٠ دار الوفاء بمصر ١٤٠٧ ه‍ / ١٩٨٧ م.

٢ ـ الشهرستانى : نهاية الأقدام في علم الكلام ص ٤٤٣.

٩٣

بشارات العهد القديم :

أولا ... فى التوراة التى بين أيديهم «جاء الله من سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فران» (١).

وسيناء هى الجبل الذى كلم الله فيه موسى أى هو «موضع مبعث موسى ـ عليه‌السلام ـ بلا شك ، وساعير هو موضع مبعث عيسى وفاران بلا شك هى مكة موضع مبعث محمد» (٢).

وليس من شك أن فاران هى مكة ، فقد جاء في التوراة : «أن إبراهيم أسكن هاجر واسماعيل فاران ـ يعنى مكة ـ» (٣).

وهذا نصها :

«وكان الله مع الغلام ـ يعنى إسماعيل ـ فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامى قوس وسكن في برية فاران ..» (٤).

«وجاء في كتاب «تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب» لمؤلفه أبى محمد عبد الله الترجمان الميورقي (ت ٨٣٢ ه‍) وكان مسيحيا وأسلم. وكان اسمه : «أنلم توميدا» : «وجبال فاران هى مكة وأرض الحجاز ، فإن فاران اسم رجل من ملوك العمالقة الذين اقتسموا الأرض فكان الحجاز وتخومه لفاران فسمّى القطر كله باسمه» (٥).

ثبت بالتوراة ـ إذن ـ أن جبل فاران مسكن لآل إسماعيل.

ومن المعلوم ضرورة أنه «لم يبعث أحد من الأنبياء ابتعاثا ظاهرا ، فشا أمره فى مشارق الأرض ومغاربها كما اقتضى قوله : (استعلن) لأن (استعلن) بمعنى (علن) إذا ظهر وانكشف ولم يستعلن غير محمد فلم يبق ريب في أنه هو المراد بهذه اللفظة» (٦).

والله تعالى ذكر هذا على الترتيب الزمانى «فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن ... وقال في الأول : جاء أو ظهر وفي الثانى أشرق وفي الثالث استعلن وكان

__________________

١ ـ سفر التثنية ٣٣ : ١ ـ ٣ (فى بعض الطبعات : وتلألأ من جبل فاران)

٢ ـ ابن حزم : الفصل ـ ج ١ ص ٩٠.

٣ ـ أبى الحسن الزيدى : إثبات نبوة النبى ص ١٥٨ مصدر سابق

٤ ـ سفر التكوين ٢١ : ٢٠ ـ ٢١.

٥ ـ تحفة الأريب ... ص ٢٦٥ تحقيق الأستاذ عمرو وفيق الداعوق دار البشائر الإسلامية. بيروت ٨؟ ١٤ ه‍ / ١٩٨٨ م. وانظر الأجوبة الفاخرة للقرافى ص ٢٣٨ عام ١٤٠٧ ه‍.

٦ ـ أبى الحسن أحمد الزيدى : المصدر السابق.

٩٤

مجىء التوراة مثل طلوع الفجر ... ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس ازداد به النور والهدى.

وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء. ولهذا قال : استعلن كما يظهر نور الشمس إذا استعلنت في مشارق الأرض ومغاربها (١) وإذا كانت التوراة «قد أشارت في الآية التى تقدم ذكرها إلى نبوة تنزل على جبل فاران ، لزم أن تكون النبوة على آل إسماعيل لأنهم سكان فاران» (٢). ومع أن ابن كمونة ـ اليهودى ـ ينكر أن تكون فاران هى مكة إلا أنه ذكر أن بعض الناس ـ يصدق بعض الناس ولا يصدق التوراة ـ وجدوا هذا الاسم بالخط الكوفى في كتاب منازل مكة (٣).

فضلا عن أن اعتراف اليهود بأن الوحى هو المراد في طور سيناء. فلا بد أن يكون الأمر كذلك في ساعير وفاران. ويكون في ذلك إشارة لأماكن الرسالات الثلاث وإلا فأين الموضع الذى استعلن الله منه ، واسمه فاران؟

وأين النبى الذى أنزل عليه كتاب بعد المسيح؟

وأى نبوة خرجت فاستعلت استعلاء ضياء الشمس ، وتلألأت وظهرت فوق ظهور النبوتين السابقتين؟ وأى دين ظهر وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها غير الإسلام؟ (٤). وقد جاء في سفر التكوين أيضا «وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا اثنى عشر رئيسا يلد واجعله أمة كبيرة» (٥) ومحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من «أبناء إسماعيل الموعود بالبركة والإثمار في أبنائه» (٦).

ثانيا : جاء في التوراة إنذار بين «برسول الله من قوله تعالى فيها (سأقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامى في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به) (٧). وفي هذا الكلام أدلة على نبوة نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» منها :

ـ الأول ـ قوله نبيا من اخوتهم يدل «على أن الموعود به لا يكون من بنى إسرائيل» لأن موسى وقومه من بنى إسحق «واخوتهم بنو إسماعيل كما تدل عليه الآية ١٨ من الإصحاح ٢٥ تكوين (وسكنوا أى أبناء إسماعيل ـ من حويلة إلى آشور التى أمام مصر حينما تجرد نحو آشور أمام جميع إخوته نزل وحويلة هى بلاد خولان على

__________________

١ ـ ابن تيمية السابق ص ٣٠١ ، ٣٠٢

٢ ـ الحكيم السموأل بذل المجهود في افحام اليهود ص ٦٩ تحقيق الأستاد عبد الوهاب الطويلة الدار الشامية بيروت

٣ ـ ابن كمونة : تنقيح الأبحاث ص ٩٤

٤ ـ ابن تيمية الجواب الصحيح ج ٣ ص ٣٠١

٥ ـ تكوين ١٦ ـ ٢٠

٦ ـ عبد الوهاب النجار قصص الأنبياء ص ٣٥٠ ـ ٣٥١

٧ ـ تثنية ١٨ ـ ١٨

٩٥

تخوم اليمن مما يلى الحجاز ولا مقابل لأبناء إسماعيل في جهة آشور سوى بنى إسرائيل» (١).

ولو كان هذا النبى المبشر به من بنى إسحاق لكان من أنفسهم لا من إخوتهم.

جاء في سفر التكوين في بشارة هاجر بإسماعيل.

«وأمام جميع إخوته يسكن (٢) وأيضا أمام جميع إخوته نزل» (٣) أى فى وسطهم.

وإخوة إسماعيل هم أولاد إبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ وإخوة بنى إسرائيل هم بنو إسماعيل ـ أى العرب ـ وبنو العيسى ـ أى الروم.

فأما بنو العيسى فلم يقم فيهم نبى سوى أيوب ، وكانت بعثته قبل أن يخلق موسى ، فلا يجوز أن يكون هو الذى بشرت التوراة به. فلم يبق إلا العرب بنو إسماعيل فتعين أن يكون المبشر به منهم. فلم يخرج من ولد إسماعيل نبى سوى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فيكون هو المبشر به وهو المنتظر (٤).

الثانى : قوله نبيا مثلك وقد جاء في التوراة : «ولم يقم بعد ذلك في بنى إسرائيل مثل موسى عرفه الرب وجها لوجه» (٥) فبنى إسرائيل لم «يبعث فيهم نبى مثل موسى له شريعة ظاهرة قبل المسيح. ولا يصح أن يقال : أن المراد به هو المسيح لأن القائل به إما أن يكون يهوديا منكرا لنبوته أو نصرانيا» والنصارى يدعون أنه إله وإنسان فلا يكون مثل موسى فلم يبق «إلا أن يكون المراد به نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» على أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ لم يكن مثل موسى لأن شريعته مبنية على شريعة موسى وشريعة نبينا مثل شريعة موسى» (٦) بل إنه أجل لعموم دعوته «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ولا يمكن أن يقال إن المعنى بهذه البشارة يوشع بن نون «لأن يوشع كان حاضرا معهم عند موسى مقيما بخدمته. ففي الإصحاح الأول من التثنية (فليكن يوشع بن نون خادمك) (٧).

فضلا عن أن يوشع من بنى إسرائيل لا من إخوتهم كما أنه لم يأت بشريعة مثل موسى بل هو متبع لموسى.

الثالث : قوله (واجعل كلامى في فمه) ظاهر أن المعني به محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لأن معناه

__________________

١ ـ عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ص ٣٥١.

٢ ـ تكوين ١٦ : ١٢

٣ ـ تكوين ٢٥ : ١٨.

٤ ـ الحكيم السموأل : السابق من تعليقات المحقق ص ٨١.

٥ ـ تثنية : ـ ٣٤ : ١٠.

٦ ـ أبى الحسن الزيدى : إثبات نبوة النبى ص ١٦٣.

٧ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ٩٠ ، ٩١.

٩٦

أنه «يكون أميا لا يقرأ ولا يكتب» فيوحى الله إليه بكلامه فينطق به على النحو الذى يسمعه «ولم يدع أحد من أبناء (إسماعيل) ذلك سوى محمد ولم يقم نبى أمى سواه منذ خلق الله الدنيا إلى اليوم» (١) فلم «تكن هذه الصفة لغير محمد». (٢)

هذه الأوصاف إذن لا تنطبق إلا على النبى محمد الذى هو من نسل إسماعيل أخو إسحاق وبذا كان بحق نبيا من وسط إخوة بنى إسرائيل وهو ما لا ينطبق على المسيح.

فإذا أصر مسيحيو اليوم على إسناد كل نبوءات العهد القديم إلى المسيح وأنه هو المعنى بهذه النبوءة وافقناهم بشرط الإقرار بأن عيسى مثل موسى ، وموسى عبد الله ورسوله وعليه يكون المسيح عبد الله ورسول له وليس إلها أو ابن إله. فإن آمنوا بذلك فقد اهتدوا وكانت علّة هدايتهم هى نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

٢ ـ بشارات العهد الجديد : ـ

رأينا كيف أن الله تعالى وعد بنى إسرائيل على لسان موسى أن يرسل من بين إخوتهم نبيا مثل موسى يجعل كلامه في فمه ويخبرهم بكل ما يوحى إليه.

كذلك من المعلوم أن اليهود كانوا ينتظرون ظهور ثلاثة أنبياء لذلك لما ظهر يوحنا ذهب إليه أحبارهم يسألونه : «من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وأقر : إنى لست أنا المسيح.

فسألوه : إذا ما ذا؟ إيليا أنت؟

فقال : لست أنا.

النبى أنت؟ فأجاب : لا.

فقالوا له : من أنت لنعطى جوابا للذين أرسلونا.

ما ذا تقول عن نفسك؟

قال : أنا صوت صارخ في البرية. قوموا طريق الرب كما قال أشعياء النبى».

فسألوه وقالوا له : فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبى؟

أجابهم يوحنا قائلا : أنا أعمد بماء ولكن في وسطكم قائم الذى لستم تعرفونه. الذى لست بمستحق أن أحل سيور حذائه» (٣) ومن هذا النص نستطيع أن نستنتج أمرين :

ـ الأول : أن الذين كان ينتظرهم اليهود هم : إيلياء والمسيح والنبى.

__________________

١ ـ النجار : المصدر السابق ص ٢٥١.

٢ ـ ابن حزم : المصدر السابق.

٣ ـ يوحنا ١ : ١٩ ـ ٢٧.

٩٧

الثانى : أن آخر الثلاثة ظهورا هو النبى فهو آخر من سأل عنه اليهود وندلل أيضا على أنهم كانوا ينتظرون ظهور النبى أنهم عند ما ظهر «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» خلطوا بينه وبين النبى المنتظر ففي «اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلا : إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب ... فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا : هذا بالحقيقة هو النبى وآخرون قالوا : هذا هو المسيح .. فحدث انشقاق في الجمع لسببه» (١).

وحتى بعد ميلاد المسيح كان اليهود ينتظرون ظهور إيليا أو من يتقدم بروحه. ومن المعلوم أنه لم يظهر نبى بعد المسيح إلا النبى محمد. فمتى ـ إذن ـ ظهر إيليا؟.

لقد ظهر إيليا قبل المسيح. فما إيليا إلا يوحنا المعمدان. فلقد بشر الملاك زكريا بيحيى (يوحنا) وأنه يتقدم بروح إيليا. «وخمرا ومسكرا لا يشرب ومن بطن أمه يمتلئ بالروح القدس ويرد كثيرين من بنى إسرائيل للرب إلههم ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته» (٢).

ثم «ابتدأ يسوع يقول للجموع عن يوحنا ما ذا أخرجكم لتنظروا؟ أنبيا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبى .. الحق أقول لكم : لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان .. إن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتى» (٣) ثم هو فى موضع آخر من إنجيل متى يقول «... ولكنى أقول لكم أن إيليا قد جاء ـ قبله طبعا ـ ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا ... حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان ...» (٤).

هذا تقرير من المسيح وشهادة منه بأن إيليا قد جاء في شخص يوحنا المعمدان.

إيليا إذن قد جاء والمسيح ها هو بين ظهرانيهم يخبرهم هذه الإخبارات فلم يبق ـ بعد إيليا والمسيح ـ إلا أن يأتى النبى المبشر به والذى كان اليهود ينتظرونه.

يقول يوحنا في إنجيله عن المسيح أنه قال لتلاميذه : «إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى. وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم معزيا ٥ ـ فارقليط ـ آخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه» (٦).

«ومتى جاء المعزى الذي سأرسله إليكم من الأب روح الحق الذى من عند الأب فهو يشهد لى وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معى من الابتداء» (٧).

__________________

١ ـ يوحنا ٧ : ٣٧ ـ ٤٣.

٢ ـ لوقا ١ : ١٥.

٣ ـ متى ١١ : ٧ ـ ١٤.

٤ ـ متى ١٧ ـ ١٠ ـ ١٣.

٥ ـ فى التراجم العربية المطبوعة سنة ١٨٢١ وسنة ١٨٣١ وسنة ١٨٤٤ طبعة لندن وردت لفظة (فارقليط) بدلا من لفظة (معزيا).

٦ ـ يوحنا ١٤ : ١٥ ـ ١٧.

٧ ـ يوحنا ١٥ : ٢٦ ـ ٢٧.

٩٨

«عند ما ستأتى روح الحقيقية فسيجعلكم ترقون إلى الحقيقة بكاملها لأنه لن يتكلم بإرادته وإنما سيقول ما يسمع وسيعرفكم بكل ما سيأتى. وسيجرى ...» (١). ووجه الاستدلال بهذا النص على أن المراد (بفارقليط) النبى المبشر به وهو محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لا الروح النازل على تلاميذ عيسى ـ عليه‌السلام ـ يوم الدار فيما يزعم نصارى اليوم. وجوه عدة منها :

الأول : أن «عيسى ـ عليه‌السلام ـ قال : أولا (إن كنتم تحبونى فاحفظوا وصاياى) ثم أخبر عن فارقليط. فمقصوده ـ عليه‌السلام ـ أن يعتقد السامعون بأن ما يلقى عليهم يعد ضرورى واجب الرعاية. فلو كان فارقليط عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كانت الحاجة إلى هذه الفقرة».

الثانى : أن هذا «الروح ـ على زعمهم ـ متحد بالأب مطلقا وبالابن نظرا إلى لاهوته اتحادا حقيقيا فلا يصدق في حقه (فارقليط آخر) بخلاف النبى المبشر به فإنه يصدق هذا القول في حقه بلا تكلف (٢).

فإن معنى (الفارقليط) إن كان هو الحامد أو الحامد أو الحمد أو المعزى فهذا الوصف ظاهر في محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣).

«ومهما اعتقد العلماء الباحثون أن حديث يسوع المسيح عن المعزى بلسانه الآرمى بأنه يمثل في دقة متناهية الترجمة اليونانيةPeroklytos التى تعنى المعجب Admirable أو الممجدLoriflied فكلمة الفارقليط تطابق كلمة محمد أو محمود فى اللغة العربية» (٤).

كما أن عبارة (الروح أو روح الحق لا تعنى أن النبى الآتى سيكون غير إنسان ، ففي كتاب العهد الجديد اليوناني أن عبارة (الروح) استخدمت عن الإنسان الموحى إليه. (الإنسان المحتوى بالاتصال الروحى بالسماء) أو (الإنسان المحتوى بالوحى).

فالإنسان الذى يصبح مستحوذا بالوحى السماوى هو الإنسان الذى ينطبق عليه عبارة (الروح) (٥).

والمثال على ذلك ما جاء في رسالة يوحنا الأول ٤ : ١ ـ ٣ «أيها الأحباء لا

__________________

١ ـ يوحنا ١٦ : ١٣ ـ ١٤.

٢ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ٥٤١ ـ ٥٤٢

٣ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج ٤ ص ١٦.

٤ ـ ٥٦٧ ـ ١٤.p ،.Cit ،.JamesHastingop عن إبراهيم خليل أحمد : محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ص ٥١ ـ دار المنار. القاهرة ١٤٠٩ ه‍ ـ ١٩٨٩ م.

٥ ـ إبراهيم خليل أحمد : السابق ص ٥٣.

٩٩

تصدقوا كل روح ، بل امتحنوا الأرواح هل هى من الله ، لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم بهذا تعرفون روح الله. كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء فى الجسد فهو من الله وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله ، وهذا هو روح ضد المسيح» (١).

وفضلا عن المعنى المقصود أن الروح مقصود بها الإنسان فإن هذا النص يشير إشارة واضحة إلى روح الحق الموعود به والمنتظر يعزف بالمسيح أن الله أوجده بكلمة منه في جسد مريم البتول بدون أب ثم أرسله رسولا منه.

ولا شك أنها لا تنطبق إلا على محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ويدلى المستشرق الفرنسى بوكاى بدلوه ويزيد الأمر وضوحا بأدلة منطقية تلمسها العقول النيرة والفطر السليمة فيقول : «إن ما يسود الرواية ـ رواية يوحنا السابقة ـ هو مستقبل البشرية الذى يتحدث عنه المسيح ... معطيا إرشاداته وأوامره ومحددا بشكل نهائى المرشد الذى على الإنسانية أن تتبعه بعد اختفائه» ولما ذهب بعض شراح إنجيل يوحنا أن الفارقليط هو الروح القدس.

مع أن النص يقول : أنه سمع ويتكلم.

يقول بوكاى. أن المعروض هنا من الدلالة المحددة لفعلى (يسمع) و (يتحدث) يسرى على كل محفوظات إنجيل يوحنا ... وفعل يسمع يعنى استقبال أصوات. أما فعل يتحدث معناه العام إصدار أصوات ، وخاصة صوت الكلام.

يبدو إذن أن الاتصال بالناس المقصود هنا لا يمكن مطلقا في إلهام من عمل الروح القدس. إنما هو اتصال ذو طابع مادى واضح وذلك بسبب مفهوم إصدار الصوت وهو المفهوم المرتبط بالكلمة اليونانية التى تعرفه (Parakletas) الفعلان اليونانيان Akouo وLaleo يعنيان فعليين ماديين لا يمكن أن يخصا إلا كائنا يتمتع بجهاز للسمع وآخر للكلام وبالتالى فتطبيق هذين الفعلين على الروح القدس أمر غير ممكن وذهب بعض الشراح إلى أن المقصود بكلمة (بارقليط) هو المسيح نفسه ، غير أن نص يوحنا الأول (١٤ : ١٥ ـ ١٦) «إذا كنتم تحبوننى ... سيعطيكم بارقليط آخر» يكذب ذلك إذ أنه يعنى أنه سيرسل وسيطا آخر ، كما كان هو وسيطا بين الله والبشر أثناء حياته.

يقول بوكاى : «يقودنا ذلك بمنتهى المنطق إلى أن نرى في الParaclet عند يوحنا كائنا بشريا مثل المسيح يتمتع بحاستى السمع والكلام وهما الحاستان اللتان

__________________

١ ـ أنظر إبراهيم خليل أحمد : السابق ص ٥٣.

١٠٠