الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

دكتور محمود ماضي

الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

المؤلف:

دكتور محمود ماضي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 253-070-8
الصفحات: ١٨٨

الفصل الرابع

كيفية الاستدلال علي نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم»

المبحث الأول : ادعاؤه النبوة وإظهار ذلك ، شأنه شأن إخوانه من الأنبياء السابقين.

المبحث الثاني : ظهور المعجزات على يديه :

أ ـ المعجزة القرآنية.

ب ـ معجزات الأحداث.

الرد على منكرى نبوته من اليهود والنصارى ـ انشقاق القمر نبع الماء من بين يديه ـ تسبيح الحصا في يديه.

المبحث الثالث : أحواله قبل النبوة وبعدها وأخلاقه وأوصافه

ـ شهادة هرقل.

المبحث الرابع : أخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته بشهادات العهدين : القديم والجديد ...

٦١
٦٢

كيفية الاستدلال على نبوة محمد

لم يكن محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» .. محتاجا إلى تقرير جنس النبوة إذ كان الرسل قبله قد جاءت بما أثبتت به ذلك.

وقومه كانوا مقرين بالصانع ، وإنما كانت الحاجة داعية إلى تثبيت نبوته» (١) والطريق .. التى بها تثبت نبوّة الأنبياء تثبت بها نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ... لأن كل ما يستدل به على نبوة نبى فمحمد أحق بجنس ذلك الدليل من غيره وما يعارض به نبوة نبى فالجواب عن محمد أولى ...» (٢).

الناس أمام النبوات فريقان :

أحدهما : مكذب بجنسها وهؤلاء هم البراهمة. وقد رددنا عليهم حججهم.

والثانى : وهم اليهود والنصارى وهؤلاء آمنوا بجنس الرسالة وكذبوا بالعين. واليهود فريقان :

الأول : منهم ينكر نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لمنعهم نسخ الشرائع.

الثانى : لا ينكرون نبوته «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ولكنهم «يقولون إنه كان نبيا ولكن كان مبعوثا إلى العرب دون العجم» أما النصارى فإنهم ينكرون نبوته «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» جملة لمماراتهم فى آياته ومعجزاته.

__________________

١ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج ٤ ص ٢٨٤

٢ ـ ابن تيمية : المصدر السابق ج ٣ ص ٢٩٩

٦٣

المبحث الأول

ادعاؤه النبوة وإظهار ذلك ، شأنه شأن إخوانه من الأنبياء السابقين.

ونبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» نثبتها بوجوه منها :

ـ أنه ادعى النبوة وأظهر ذلك.

ـ والمعجزات التى ظهرت على يديه وهى قسمان :

(أ) المعجزة القرآنية ، ولن نفيض فيها لما أثبتناه (١) للقرآن الكريم من أوجه إعجاز وباعتبار ذلك معجزة محمد الخالدة ومن ثم دليل نبوته.

(ب) ما يمكن أن نصطلح على تسميته بمعجزات الأحداث.

ـ ثم أحواله قبل النبوة وبعدها. وأخلاقه العظيمة ..

وأخيرا إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته (بشارات العهدين القديم والجديد) :

أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ادعى النبوة وأظهر ذلك وآية صدقه : لا شك أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ادعى النبوة ودعا قومه إلى التصديق برسالته ورسالة الرسل كافة من قبله وظهر المعجز عقيب دعواه .. والمعجز يدل ـ كما سبق القول ـ على صدق من ظهر عليه أى أن اقتران دعوى محمد بالمعجز دلالة على صدقه فيما ادعاه.

أما أنه ادعى النبوة فهذا معلوم بالاضطرار ، فنحن نعلم أنه «هو الذى كان بمكة ثم هاجر إلى المدينة وأنه كان يدعى النبوة ويجعل الدلالة على نبوته القرآن ويتحدى به العرب ، كل ذلك بالنقل المتواتر «كالعلم بالبلدان» وإخبارها وإخبار الملوك بالنقل» (٢) ونشير هنا إلى أمر هام وهو أن التواتر موجب للعلم لأننا نجد في أنفسنا ضرورة العلم بوجود مكة والمدينة وإن لم نبصرهما بل نقول إن «ظهور الأنبياء مما نؤرخ به الحوادث في العالم لظهور أمرهم عند الخاصة والعامة ...

ولهذا جعل عمر تاريخ المسلمين من الهجرة النبوية فإنها أظهر أحوال الرسول المشهورة» (٣).

وكما نقل إلينا ظهور «الخارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم‌السلام. نقل إلينا أيضا ظهور الخارق على يد محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فإن رددنا التواتر

__________________

١ ـ أنظر كتابنا : النبوة في الإسلام.

٢ ـ القاضى عبد الجبار : المختصر في أصول الدين ضمن مجموعة رسائل العدل والتوحيد تحقيق د محمد عمارة ص ٢٣٨ ، والبغدادى أصول الدين ص ١٦١

٣ ـ ابن تيمية : الرد على المنطقيين ص ٣٩٢ دار المعرفة بيروت

٦٤

أو قبلناه قلنا :

إن المعجزة لا تدل على الصدق ، فحينئذ تبطل نبوة سائر الأنبياء وإن اعترفنا بصحة التواتر ، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعا بنبوة محمد.

ضرورة عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول (١).

على أية حال فإن «محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ادعى النبوة بين قوم لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم بل كانوا معرضين عن الحق معتكفين إما على عبادة الأوثان كمشركى العرب ، وإما على دين التشبيه وصفة التزوير وترويج الأكاذيب المفتريات كاليهود وإما على عبادة الإلهين ونكاح المحارم كالمجوس. وإما على القول بالأب والابن والتثليث كالنصارى فقال لهم إنى بعثت من عند الله بالكتاب والحكمة الباهرة لأتمم مكارم الأخلاق وأكمل الناس في قوتهم العلمية بالعقائد الحقة والعملية بالأعمال الصالحة وأنور العالم بالإيمان والعمل الصالح ، ففعل ذلك وظهر دينه على الدين كله كما وعده الله. ولا معنى للنبوة ـ فيما يقول الرازى ـ إلا ذلك لأنه كان لا معنى للنبوة إلا تكميل الناقصين في القوة النظرية وفي القوة العملية ورأينا أن ما حصل من هذا الأثر بسبب مقدم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أكمل وأكثر مما ظهر بسبب مقدم موسى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ علمنا أنه كان سيد الأنبياء (٢).

ويمثل الشيخ رشيد رضا لذلك برجل «ادعى في بلاد كثرت فيها الأمراض أنه طبيب وأن دليله .. يداوى المرضى .. فيبرءون .. ثم عرض عليه ما لا يحصى عددا من المرضى وقبلوا ما وصفه لهم من الأدوية فبرءوا من عللهم وصاروا أحسن الناس صحة فهل يمكن المراء في صحة هذه الدعاوى ..؟ كلا.

(فضلا عن أن) العلم بطب الأرواح أعلى وأعز منالا من العلم بطب الأجساد وأن معالجة أمراض الأخلاق وأدواء الاجتماع أعسر من مداواة أعضاء الأفراد ... ومن المعلوم بالضرورة أن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» عالج (بالقرآن) أمة عريقة في الشقاق وحمية الجهل ، عريقة في الجهل والأمية ورذائل الوثنية فشفيت واتحدت وتعلمت الكتاب والحكمة .. مع أنه كان أميا ..» (٣).

ادعى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ـ إذن ـ أنه نبى يأتيه وحى السماء واقترنت دعوته بوقوع

__________________

١ ـ الرازى : مناظرة في الرد على النصارى ص ٢٢. تحقيق د. عبد المجيد النجار. دار الغرب الإسلامى ـ بيروت ١٩٨٦ م.

٢ ـ الرازى : محصل أفكار المتقدمين .. ص ٩٦ ـ ٩٧.

٣ ـ رشيد رضا : تفسير المنار ج ١ ص ١٨٣.

٦٥

المعجزات على يديه.

المبحث الثاني ظهور المعجزات على يديه :

أولا : المعجزة القرآنية : نود ابتداء الإشارة إلى بعض أوجه إعجاز القرآن ، ثم نبين بعد ذلك كيف أن هذا القرآن المعجز معجزة لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

١ ـ الإعجاز البلاغي :

تأليف القرآن ونظمه معجز محال وقوعه منهم كاستحالة إحياء الموتى منهم وإنه علم لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» يقول الإمام ابن تيمية : إن «نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة ولم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الرسائل ولا الخطابة ولا نظمه شىء من كلام الناس عربهم وعجمهم ونفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة ليس له نظير في كلام جميع الخلق» (١). تحدى البلغاء والخطباء والشعراء بنظمه وتأليفه فى المواضع الكثيرة والمحافل العظيمة فلم يرم ذلك أحد ولا تكلفه ولا أتى ببعضه ولا شبيه منه ولا ادعى أنه فعل ، وليس قول جميعهم أنه كان كاذبا معارضة لهذا الخبر إلا أن يسمعوا الإنكار معارضة وإنما المعارضة مثل الموازنة والمكايلة فمتى قابلونا بأخبار في وزن أخبارنا ومخرجها ومجيئها فقد عارضونا ووازنونا وكايلونا وقد تكافينا وتدافعنا ولكنهم اختاروا الحرب والمنابذة وفقد الأهل والولد توهينا لأمر محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ودليل نبوته ، اختاروا هذا ولم يقل أحدهم : لم تقتلون أنفسكم وتستهلكون أموالكم وتخرجون من دياركم والحيلة في أمره يسيرة والمأخذ في أمره قريب. ليؤلف واحد من شعرائكم وخطبائكم كلاما في نظم كلامه. كأقصر سورة يخذلكم بها وكأصغر آية دعاكم إلى معارضتها.

وهذا الجانب البلاغى من القرآن معجز بمقتضى نقض العادة ـ فيما يقول الرمانى ـ لأن العادة «كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة منها الشعر ومنها السجع ومنها الخطب ومنها الرسائل ومنها المنثور الذى يدور بين الناس في الحديث ، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة» (٢). ويفوق

__________________

١ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ، ج ٤ ص ٧٨.

٢ ـ الرومانى : النكت في إعجاز القرآن ص ١١١ ضمن ثلاث رسائل تحقيق ، محمد خلف الله والدكتور زغلول سلام. دار المعارف بمصر.

٦٦

الموزون الذى هو أحسن الكلام.

«... وأما قياسه بكل معجزة فطنه يظهر إعجازه من هذه الجهة إذا كان سبيل فلق البحر وقلب العصا حية وما جرى هذا المجرى في ذلك سبيلا واحدا في الإعجاز إذا خرج عن العادة قعد الخلق فيه عن المعارضة».

القرآن إذن خالف جميع الكلام «الموزون والمنثور ، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع فصار نظمه من أعظم البرهان وتأليفه من أكبر الحجج (١) وليس وجه الإعجاز في نظم القرآن لأنه حكاية عن كلام الله وإلا كانت التوراة والإنجيل مثله في الإعجاز فأى منهما ليس بمعجز في النظم والتأليف وإن كان معجزا كالقرآن فيما يتضمن من الأخبار بالغيوب.

ولكن كيف يمكن الوقوف على الجانب الإعجازى للقرآن؟.

يقول الزمخشرى : «... لا يغوص على شىء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع فى علمين مختصين بالقرآن وهما علم المعانى وعلم البيان ، وتمهل في ارتيادهما آونة وتعب في التنقير عنهما أزمنة وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله وحرص على استيضاح معجزة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ فارسا في علم الإعراب ... ذا دراية بأساليب النظم والنثر ... قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف .. وكيف ينظم ويرصف ...» (٢).

يقول (أتيين دينيه) : «إن نبى الإسلام هو الوحيد من بين أصحاب الديانات الذى لم يعتمد في إتمام رسالته على المعجزات وليست ... الكبرى إلا بلاغة التنزيل الحكيم» (٣).

لقد كان القرآن معجزا في كلامه البين الواضح الذى تحداهم الإتيان بمثله ، وهذا التحدى هو أحد أوجه إعجازه ، فقد جاء في التنزيل في نص التلاوة (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)) [الإسراء : ٨٨]. وقال : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣].

ويدلل الجرجانى على عجز العرب حين تلا عليهم القرآن وتحدوا إليه وذلك

__________________

١ ـ الجاحظ : البيان والتبيين ج ١ ص ٣٩٣.

٢ ـ الزمخشرى : الكشاف ج ١ ص ٣ الطبعة الأولى المطبعة الشرقية.

٣ ـ دينيه (ناصر الدين) : أشعة خاصة بنور الإسلام ص ١٦ ترجمة راشد رستم. المكتب الفنى بيروت ١٩٦٠ م.

٦٧

بدلالة أحوالهم. ودلالة الأحوال ـ فيما يرى ـ تتلخص فيما يأتى :

١ ـ المتعارف من عادات الناس التى لا تختلف وطبائعهم التى لا تتبدل أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة ، وهم يجدون سبيلا إلى دفعها ، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم» (١).

٢ ـ فإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب ، وفي قريش ذوى الأنفس الأبية والهمم العالية ... من يدعى النبوة ويخبر أنه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق كافة .. ثم يقول : حجتى كتابا عربيا مبينا تعرفون ألفاظه وتفهمون معانيه ... إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ولا بعشر سور منه ولا بسورة واحدة ... ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه ويبينوا سرفه في دعواه مع إمكان ذلك» ..؟ (٢) وقال (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] مبالغة في تقريعهم بالعجز عنه.

٣ ـ هل يجوز أن يخرج خارج من الناس على قوم لهم رئاسة ولهم دين ونحلة فيؤلب عليهم الناس ويدبر في إخراجهم من ديارهم وأموالهم وفي قتل صناديدهم وكبارهم وسبى ذراريهم وأولادهم وعدته التى يجد بها السبيل إلى تألف من يتألفه ، ودعاء من يدعوه دعوى إذا بطلت بطل أمره كله وانتقض عليه تدبيره ، ثم لا يعرض له في تلك لدعوة ولا يشتغل بأبطالها مع إمكان ذلك ومع أنه ليس بمعتذر ولا ممتنع؟ (٣).

ولا معنى لهذا إلا العجز التام عن أبطال حجة النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

ثم يخبر الله تعالى أن عجزهم هذا ينسحب على الماضى والمستقبل وذلك فى قوله (.. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) يعنى فيما مضى (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أى تطيقوا ذلك فيما يأتى. وفيه إشارة لهم لتحريك نفوسهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع وهذا من الغيوب التى أخبرهم بها القرآن قبل وقوعها» (٤).

من هنا لا يجوز لقائل أن يقول : إن كان أهل عصر النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قد عجزوا عن الإتيان بمثله فإن أهل الأعصار التالية لن يعجزوا ، وذلك لأن أهل ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله فمن بعدهم أعجز لأن فصاحة أولئك ... مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم وأحسن أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم فأما أن يتقدموهم أو يسبقوهم فلا ، فضلا عن أن التحدى في الكل على جهة واحدة والتنافس فى

__________________

١ ـ الجرجانى : الرسالة الشافية ص ١١٩ ـ ١٢١. ثلاث رسائل المصدر السابق.

٢ ـ الجرجانى : الرسالة الشافية ص ١١٩ ـ ١٢١. ثلاث رسائل المصدر السابق.

٣ ـ الجرجانى : الرسالة الشافية ص ١١٩ ـ ١٢١ ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن.

٤ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن ج ١ ص ٢٢٠١ ، وابن كثير تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٥٩.

٦٨

الطباع على حد (واحد) والتكليف على منهاج لا يختلف ولذلك قال تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ)(١) الآية. ولكن الذى يمكن أن يقال هو : وما مثله هذا حتى نأتى بسورة من ذلك المثل؟ وعنه يجيب صاحب الكشاف بأن «معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم» (٢).

أو فأتوا : بسورة من بشر أتى من مثله لا يحسن الخط ولا الكتابة ولا يدرى الكتب وهذا قول من اعتبر الضمير في مثله عائد على محمد عبد الله ورسوله.

ولكن إذا كان التحدى بالقرآن قد وقع. ألم تقع منهم المعارضة؟

ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن غير أنه لا يوجد لابن المقفع كتاب يدعى مدع أنه عارض فيه القرآن بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك فقد أصاب وأبصر القصد (٣). بيد أنه قيل إنهم يجوز أن يكونوا قد عارضوه ، ولمصلحة الدين والحفاظ عليه لم تنقل المعارضة؟

لقد أفرد القاضى عبد الجبار ـ المعتزلى ـ فصلا للإجابة على هذا السؤال ، بعنوان «فى بيان الدلالة على أنهم لم يعارضوه عليه‌السلام لتعذر المعارضة» قال فيه إنهم لو «تكلفوا المعارضة وبلغوا النهاية لا يزيدون على من تقدم من طبقات الشعراء ، لأن مزية شعرهم وخطبهم على من كان في زمنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، معروفة في الجملة فكان يجب أن يحتج بذلك الجم الغفير ، وإن تواطأت الجماعة اليسيرة على ترك المعارضة أو إخفائها لأن هذا الاحتجاج أسهل من إيراد المعارضة وأقوى في بطلان أمره «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لأنه لا فرق بين أن يبينوا أن الذى جاء من القرآن معتاد بذكر مثله فيما تقدم أو بإيراد مثله في الوقت ، وبعد فإنا لا نجوز على الجمع اليسير ما ظنة السائل على كل حال لأنه من التنافس الشديد والتقريع العظيم وتحرك الطباع ودخول الحمية والأنفة وبطلان الرئاسة والأحوال المعتادة والدخول تحت المذلّة لا يجوز في كثير من الأحوال على الواحد أن يسكت عن الأمر الذى يزيل به عن نفسه الوصمة والعار والأنفة وكيف على الجماعة القليلة أو الكثيرة» (٤). ثم يذكر ابن تيمية أن القرآن «لما كذب به المشركون واجتهدوا في إبطاله بكل الطرق مع أنه تحداهم بالإتيان بمثله ثم بالإتيان بعشر سور ثم الإتيان بسورة واحدة ، كان ذلك مما دل ذوى الألباب على عجزهم عن المعارضة مع شدة الاجتهاد وقوى الأسباب» (٥).

__________________

١ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ٤ ص ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزمخشرى : الكشاف ج ١ ص ٤٠.

٣ ـ الباقلانى : إعجاز القرآن ج ١ ص ١٦.

٤ ـ القاضى عبد الجبار : المغنى ج ١٦ ـ إعجاز القرآن ص ٣٧٢.

٥ ـ ابن تيمية الجواب الصحيح .. ج ١ ص ١٤.

٦٩

يقول الشيخ محمد عبده عند (آية ٢٣ : البقرة) : (فهذا القضاء الحاكم منه بأنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بشيء من مثل ما تحداهم به ليس قضاء بشريا ، ومن الصعب بل من المتعذر أن يصدر عن عاقل التزم كالذى التزمه وشرط كالذى شرطه على نفسه ، لغلبة الظن عند من له شىء من العقل أن الأرض لا تخلو من صاحب قوة مثل قوته وإنما ذلك هو الله المتكلم ، والعليم الخبير ، هو الناطق على لسانه ـ أى محمد ـ وقد أحاط علمه بقصور جميع القوى من تناول ما استنهضهم له وبلوغ ما حثهم عليه» (١).

نخلص من ذلك إلى أنهم حاولوا فعجزوا «وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز والتوقيف على النقص ثم لا يبذلون مجهودهم ولا يخرجون مكنونهم وهم أشد خلق الله أنفة وأفرط حمية وأطلبه بطائله وقد سمعوه في كل منهل» (٢).

فمع أن الكلام كان سيد عملهم فقد عجزوا عن المعارضة مع بذلهم المحاولة تلو الأخرى. وهو كذلك معجز أى لتركهم المعارضة مع التحدى.

ننتهى مما سبق إلى أن القرآن الكريم لم يلتزم شيئا مما كانوا يلتزمون بسجعهم وإرسالهم ورجزهم وإشعارهم بل جاء على النمط الفطرى والأسلوب العادى الذى يتسنى لكل إنسان أن يحذو مثاله ولكنهم عجزوا فلم يأتوا ولن يأتى غيرهم بسورة من مثله فثبت أنه معجز ببلاغته وفصاحته وحسن نظمه ، الذى هو أم إعجازه والقانون الذى وقع عليه التحدى. فالرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» تحداهم الإتيان بمثله. وكيف يتصور أن يكون الفصحاء والبلغاء من العرب كثيرين مشهورين بالعصبية والحمية فيتركون الأمر الأسهل الذى هو الإتيان بقدر أقصر سورة ويختارون الأصعب مثل الحرب وسفك الدماء والسبى.

الجانب الثانى : الإخبار عن الغيوب.

رأينا أن الإعجاز القرآنى لا يرد إلى بلاغته فقط بل أن هناك وجوها أخرى منها : ما تضمنه من الأخبار عما سيكون في مستقبل الزمان ، وأخبار الأمم السابقة ، وكل ما بعد عن إدراك الإنسان فهو غيب ، حتى النفس : خلجاتها ونزعاتها فهى غيب أيضا.

فالدليل على كون القرآن معجز إنما هو كما يقول الإمام ابن تيمية : ليس من جهة فصاحته وبلاغته فقط ، أو نظمه وأسلوبه فقط ، ولا من جهة اخباره بالغيب

__________________

١ ـ محمد عبده : «رسالة التوحيد ص ١٧٠ ج ١ المنار بمصر.

٢ ـ الجاحظ : حجج النبوة بهامش الكامل للمبرد ج ٢ ص ١٣٠.

٧٠

فقط ولا من جهة صرف الدواعى عن معارضته فقط ، ولا من جهة سلب قدرتهم عن معارضته فقط.

بل هو آية بينة معجزة من هذه الوجوه جميعا. من جهة معانيه التى أخبر بها عن الغيب الماضى وعن الغيب المستقبل ، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد ومن جهة ما فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية التى هى الأمثال المضروبة. كما قال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤)) [الكهف : ٥٤].

وقال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الاسراء : (٨٩)](١). يقول الزمخشرى عند قول الله تعالى : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)) [هود : ١٤]. أى أنزل متلبسا بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز وأخبار لغيوب لا سبيل لهم إليه واعلموا عند ذلك أنه لا إله إلا الله» (٢). وهذا التحدى كان بمكة ، فهود مكية ، ثم أعاد التحدى في المدينة ، فقال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)) [البقرة : ٢٣ ، ٢٤].

يقول الإمام ابن تيمية في الجواب الصحيح : الله تعالى ذكر هنا أمرين :

أحدهما : قوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) أى إذا لم تفعلوا فقد علمتم أنه حق ، فخافوا الله أن تكذبوه فيحيق بكم العذاب الذى وعد به المكذبين ..

والثانى : قوله (وَلَنْ تَفْعَلُوا) و (لن) لنفى المستقبل فثبت للخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان لا يأتون بسورة من مثله (٣).

وإذا قيل : من أين لكم أنه إخبار بالغيب على ما هو به حتى يكون معجزة؟ أجاب صاحب الكشاف : لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواضعه الناس ويتناقلوه إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال لا سيما والطاعنون فيه أكثف عددا من الذابين عنه فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيوب على ما هو به فكان معجزة (٤).

أما الإنباء بالمستقبل القريب أو البعيد ، فقد حفل القرآن الكريم بالكثير منها وتم

__________________

١ ـ الجواب الصحيح .. ج ٤ ص ٧٤.

٢ ـ الكشاف ج ٢ ص ٤٣٧.

٣ ـ الزمخشرى : السابق ج ١ ص ٤٢.

٤ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ٤ ص ٧٣.

٧١

وقوعها طبق الأصل على مدى قريب أو بعيد :

أولا : نحو قوله تعالى : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥)) [الروم : ١ ـ ٥].

لقد تضمنت هذه الآية ثلاثة من الأخبار عن الغيوب. «أحدها قوله عزوجل (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) هذا من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله عزوجل. والثانى : قوله (فِي بِضْعِ سِنِينَ) والبضع فوق الثلاثة ودون العشرة وهذا التحدى أيضا من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله. والثالث : قوله (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) فأخبر أنهم يفرحون في ذلك الوقت بنصر الله ، وهذا أيضا من الغيب لأنه خبر عن بقاء المؤمنين إلى ذلك الوقت مع قلتهم وطمع الأعداء في انتسافهم ، وعن أنهم يفرحون ولا تعترض هناك أحوال تمنعهم من الفرح لأن هذه الآية نزلت بمكة قبل الهجرة ، فى حال ضعف المسلمين وقلتهم واستيلاء المشركين عليهم» (١) وهذه القصة مشهورة.

أما النصر الذى له سر المسلمون ، فقد قيل : «إن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى إذ كان فيه دليل على النبوة لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه».

أما ما قيل من أن سبب ذلك أن الروم أهل كتاب كالمسلمين فإنه يعلل «بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مئونة ومتى غلب الأكبر كثر الخوف». يعضد هذا ، ما كان يرجوه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من ظهور دينه وشرع الله الذى بعثه به وغلبته على الأمم».

يعلق «جيبون» على هذه الآيات بقوله : «فى ذلك الوقت حين تنبأ القرآن بهذه النبوءة لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعا لأن السنين الاثنتى عشرة الأولى من حكومة هرقل كانت تؤذن بانتهاء الامبراطورية الرومانية» (٢). أى أنه باستقراء الواقع واقع الإمبراطورية الرومانية ـ آنذاك ـ المتهالكة ، وبمقياس العقل البشرى ـ الناقص فإن علامات الكذب والبعد عن الواقعية بادية على النبوءة القرآنية. وهى كذلك لو كانت

__________________

١ ـ أبى الحسن أحمد بن الحسين الزيدى : إثبات نبوة النبى ص ١٢٨.

٢ ـ We sternCivilistion عن : الإسلام والمستشرقين ص ٤١٠ (مقال للأستاذ محمد صدر الدين الحسن الندوى جدة ١٤٠٥ ه‍).

٧٢

نبوءة بشر ـ كما يزعم كثير من المستشرقين ـ يقول الأستاذ محمد صدر الدين الحسن الندوى : ولكن من المعلوم أن هذه النبوءة جاءت من لدن من هو مهيمن على الوسائل والأحوال .. ولم يكن جبريل يبشر النبى بهذه البشرى حتى أخذ الانقلاب يظهر على شاشة الامبراطورية الرومانية» (١).

ولا شك أن هذا كله إخبار يعلم كل عاقل عجز الخلق عن معرفتها والتوصل إلى إدراكها وكما في قول الله تعالى : (.. لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ..) [الفتح : ٢٧]. فدخلوه كما وعدهم.

ثانيا : من ذلك أيضا قصة أبى لهب وقد كان من المؤذين لرسول الله ، فبشره الله بأن ذلك لا يضره وأخبره أن أبا لهب «وامرأته يموتان على الكفر به ويصيران إلى النار. نزل ذلك بمكة وهما حيان سليمان فكان ذلك كله على ما قال وعلى ما أخبر وكما نقل وبشر ... وهذه غيوب كثيرة لا يكون فعلها بالاتفاق ولا بالحدس ولا بالزرق (٢).

ولا يتفق لحذاق المنجمين أقل القليل من هذا» (٣).

ثالثا : من الأمور التى وقعت في المستقبل كما أخبر القرآن ويستدل بها على إعجازه قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣]. من حيث أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أخبر عن مكة أنه يستولى عليها ويقهر أهلها ويصير أصحابه قاهرين للأعداء ، فهذا إخبار عن الغيب وقد وقع مخبره مطابقا لخبره فيكون هذا إخبارا صدقا عن الغيب والإخبار عن الغيب معجزة.

رابعا : ما أخبر به الله عن اليهود وتحداهم به ، لما قالوا (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨]. أفحمهم بقوله (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) وإذ زعم اليهود أنهم (أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) أعجزهم بقوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الجمعة : ٦] ثم أمعن في السخرية منهم قائلا (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [الجمعة : ٧]. وهذا إخبار من الله تعالى أنهم لا يتمنون الموت أبدا.

وروى عن ابن عباس أنه قال «كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» يقول لهم : إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا اللهم أمتنا ، فو الذى نفسى بيده لا يقولها رجل منهم إلا

__________________

١ ـ محمد صدر الدين الحسن الندوى السابق.

٢ ـ الزرق : الخداع وفي اللسان رجل زراق أى خدّاع.

٣ ـ عبد الجبار : تثبيت دلائل النبوة ج ١ ص ٣٦.

٧٣

غص ريقه فمات مكانه وفي ذلك أعظم دلالة على صدق نبينا محمد وصحة نبوته لأنه أخبر بالشىء قبل كونه فكان كما أخبر ولو لم يكن هذا الإخبار من الله تعالى لما جاز للنبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أن يخبر به خشية أن يظهر منهم ما يوجب تكذيبه إن هذه الأخبار الصادقة عن المستقبل دليل على ربانية القرآن الكريم وأنه كلام الله إلى خلقه.

أما ما ورد من غيب مضى ، أى أخبار الأنبياء السابقين وما كان من أممهم معهم وما نزل بالذين كفروا وكذبوا وذكر ما شجر بينهم وكان في أعصارهم ما لا يجوز حصول علمه إلا لمن كثر لقاؤه لأهل السير ودرسه لها وعنايته بها ومجالسته لأهلها وكان مما يتلو الكتب ويستخرجها ، مع العلم بأن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يكن يتلو كتابا ولا يخطه بيمينه.

وكثيرا ما كان أهل الكتاب يتعمدون إحراجه ويسألونه عن هذه الأمور «فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرا كخبر موسى والخضر ويوسف وإخوته وأصحاب الكهف وذى القرنين ولقمان وابنه وبدء الخلق» (١).

ومن أخبار القرآن عن الغيوب السالفة وعجب ذلك إذ ورد ممن لا يعرف كتابة ولا قراءة ولم يجالس أصحاب التواريخ.

من ذلك ما قاله تعالى على أهل السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة واستقرار السفينة واستوائها وأوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] تناول القرآن صفحات من تواريخ الأمم السابقة للإسلام لم تكن معروفة لأنها موغلة في القدم ، ولم يكن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مؤرخا ولا ملما بدراسة اللغات القديمة ولا كان أحد من العرب يعرف هذه الأحداث التاريخية. (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩].

وصف القرآن ملكة سبأ بأنها (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣]. وقد أثبتت الدراسات التاريخية ازدهار هذه المملكة وأن حضارتها كانت تضارع حضارة قدماء المصريين وأن أهلها برعوا في إقامة السدود المائية العظيمة والقنوات العديدة .. فكانت الحدائق الغناء عن يمين وشمال : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)) [سبأ : ١٥].

__________________

١ ـ القاضى عياض : الشفا ج ١ ص ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٧٤

(كانت) إحدى الجنتين عن يمين الوادى والأخرى عن شماله. أى كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار» (١). ومحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يصف هذه الحضارة من عند نفسه وإنما هو من عند الله علام الغيوب.

من ذلك أيضا قول الله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران : ٤٤] فيه دلالة على نبوة محمد حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن يقرأ الكتب. وأخبر عن ذلك وصدقه أهل الكتاب بذلك».

القرآن إذن معجز بتضمنه الأخبار عن الغيوب ووجه الإعجاز في القصص القرآنى أى فيما يتعلق بالغيب هو أمّية الرسول فمن المعلوم ـ كما قلنا ـ أنه نشأ أميّا لا يقرأ ولا يكتب.

وقبل أن أنتهى من موضوع الإعجاز أود أن أنبه إلى أن للمحدثين اجتهادات قيمة حول إعجاز القرآن ، من ذلك ...

١ ـ إعجازه بالعلوم الدينية والتشريعية.

٢ ـ إعجازه لما فيه من التنبيه على دلائل العقول فإن ذلك جاء على طريقة انتقضت به العادة.

٣ ـ إعجازه. لخلوه من الاختلاف والتناقض مع ما فيه من الطول.

٤ ـ صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس ومن ذلك أيضا :

أولا : ذهب المرحوم سيد قطب إلى أن وجه الإعجاز للقرآن كامن في صميم النسق القرآنى ذاته لا في الموضوع الذى يتحدث عنه وحده ، فيقول : يجب أن نبحث عن «منبع السحر في القرآن قبل التشريع المحكم ، وقبل النبوءة الغيبية وقبل العلوم الكونية وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشمل هذا كلّه ، فقليل القرآن هو الذى كان في أيام الدعوة الأولى كان مجردا من هذه الأشياء التى جاءت فيما بعد وكان مع ذلك محتويا على النبع الأصيل الذى تذوقه العرب فقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ...).

لنجد الجمال الفنى الخالص عنصرا مستقلا بجوهره خالد في القرآن بذاته يتملاه الفن في عزلة عن جميع الملابسات والأغراض وأن هذا الجمال ليتملى وحده ، فيغنى وينظر في تساوقه مع أغراض الدعوى الدينية فيرتفع في التصوير ، التصوير هو

__________________

١ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن

٧٥

الأداة المفضلة في أسلوب القرآن ، وهو القاعدة الأولى فيه للبيان وهو الطريقة التى يتناول بها جميع الأغراض ، وهو الحقيقة التى لا يخطئها الباحث في جميع الأجزاء» (١).

ثانيا : ذهب الدكتور عبد الحليم محمود إلى أن إعجاز القرآن يكمن فى (المثلية) ذلك أن القرآن كرر لفظ (مثل) فى آيات كثيرة «... والمثلية لا تختص بجانب دون جانب وإنما تعم جميع النواحى ... والواقع أن النقاش في القرآن أمعجز بأسلوبه أو بمعانيه أو بقصصه أو بأخباره عن المغيبات أو بغير ذلك من وجوه إنما هو نقاش لا يتمشى مع الفكرة الدينية التى هى في التماثل من جميع النواحى ، قال صاحب البحر المحيط (والمثلية في حسن النظم وبديع الوصف وغرابة الأسلوب والإخبار بالغيب مما كان ومما يكون وما احتوى عليه من الأمر والنهى والوعد والوعيد والقصص والحكم والمواعظ والأمثال والصدق والأمن من التحريف والتبديل).

ومنشأ الاختلاف في تحديد وجوه الإعجاز في القرآن راجع إلى اختلاف درجة الاستعدادات الفطرية والاتجاهات الفكرية لإدراكها ومعرفتها» (٢).

ثالثا : ما ذهب إليه الرافعى من أن القرآن بآثاره النامية معجزة أصيلة في تاريخ العلوم كلّه ... فقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع وما يحقق بعض خواص العلوم الطبيعية (٣).

رابعا : يقول المستشرق الفرنسى موريس بوكاى : «لقد أثارت هذه الجوانب العلمية التى يختص بها القرآن ... والتى جاءت مطابقة تماما للمعارف العلمية الحديثة .. وذلك في نص كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ... كان هدفى الأول هو قراءة القرآن ودراسة نصه جملة بجملة مستعينا بمختلف التعليقات اللازمة للدراسة النقدية. وانتبهت بشكل خاص إلى الوصف الذى يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية ... أذهلتنى مطابقتها للمفاهيم التى نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات ، التى لم يكن ممكنا لأى إنسان في عصر محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أن يكوّن عنها

أدنى فكرة ... وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية ضخمة لا نكتشف فى القرآن خطأ. وقد دفعنى ذلك إلى تساؤل :

لو كان مؤلف القرآن إنسانا ، كيف استطاع في القرن السابع من العصر المسيحى

__________________

١ ـ سيد قطب : التصوير الفنى في القرآن ص ١٨ ، ٢٣ ، ٦١ ، دار المعارف سنة ١٩٦٦.

٢ ـ د. عبد الحليم محمود : التفكير الفلسفى في الإسلام ، ج ١ ص ٥٧ الطبعة الثالثة سنة ١٩٦٨.

٣ ـ مصطفى الرافعى : إعجاز القرآن ص ١٠٨.

٧٦

أن يكتب ما اتضح أنه يتفق اليوم مع المعارف العلمية الحديثة ..؟ ليس هناك أى مجال للشك ، فنص القرآن الذى نملك اليوم هو فعلا نفس النص الأول .. ليس هناك سبب خاص يدعو للاعتقاد بأن أحد سكان شبه الجزيرة العربية في هذا العصر ، استطاع أن يملك ثقافة علمية تسبق بحوالى عشرة قرون ثقافاتنا العلمية.

«.... فيما يتعلق بالأمور التى يمكن أن تخضع للملاحظة مثل تطور الجنين البشرى يمكن تماما مقابلة مختلف المراحل الموصوفة في القرآن مع معطيات علم الأجنة الحديثة لنكشف اتفاق الآيات القرآنية التام مع العلم» (١).

تعقيب :

رأينا خلال هذا الفصل أن القرآن الكريم معجزة نبينا الخالدة تعرض للطعن والتشكيك مما جعل علماء المسلمين يهبون منافحين عنه ومن ثم تعرضوا لقضية الإعجاز بحثا علميا. ودار البحث حول وجوه إعجاز القرآن آثرت اثنين منها بالتفصيل :

«الإعجاز البلاغى ، والإعجاز بالأخبار بالغيوب»

أما وقد عجز العرب عن معارضة القرآن فقد قامت الحجة عليهم ، وإذا كان قد أعجز العرب أصحاب اللسان فهو لغيرهم أعجز.

والحقيقة أن الإعجاز هو هذه النواحى جميعا فهو في اللفظ العجيب والتركيب البلاغى البديع وهو في اخباره عن الغيوب وأنباء الأمم السابقة ... فلا نستطيع أن نقول بحصر الإعجاز في جانب واحد لأن القرآن معجزة النبى الخاتم إلى الناس كافة فى كل مكان وزمان لذا كان لا بد أن يتضمن هذه الوجوه المتعددة أو كما يقول الإمام ابن تيمية : كل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجة على إعجازه ولا يناقض ذلك بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له.

وحسبى ما وصفه به الحق تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] أى هو شفاء للمؤمنين يزدادون به إيمانا ويستصلحون به دينهم ، فموقعه منهم موقع الشفاء من المرضى.

نعود بعد ذلك إلى بيان كيف أن هذا القرآن المعجز ، معجزة لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

مر بنا أن من شروط تصديق المدعى ـ عند جمهور العلماء ـ اقتران دعواه بالأمر

__________________

١ ـ موريس بوكاى : دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص ١٤٤ ـ ١٤٨ دار المعارف لبنان ١٩٧٧.

٧٧

الخارق للعادة يجريه الله تعالى على يديه وهنا نبين اكتمال هذا الشرط وتحققه فى دعوة نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وندلل عليه بوجوه :

أحدها : أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ظهر القرآن عليه ، والقرآن ـ معجزته الكبرى ـ كما اتضح لنا من قبل ـ كتاب شريف بالغ في فصاحة اللفظ وفي كثرة العلوم ... علوم الأخلاق وعلوم السياسات وعلم تصفية الباطن وعلم أحوال القرون الماضية.

ثانيها : أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» تحدى العالمين بمعارضة القرآن وقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله فلم يأتوا به لا لوجه سوى عجزهم وقصورهم عن الإتيان بمثله فضلا عن أن القرآن الذى أوحى إليه موجود محفوظ ينطوى على وجوه من الإعجاز لا تنحصر ، أبدا عن جوانب منها.

وإذا كان «سبيل تعريف الله تعالى عباده صدق الرسل بالآيات الخارقة للعادة كسبيل تعريفه إياهم الصفات الإلهية بالآيات الدالة عليها ... (فكما) علم آدم الأسماء كلها ثم عرضها على الملائكة ، وكما علم المصطفى القرآن وقال فأتوا بسورة من مثله فكما عجزت الملائكة عن معارضة آدم بالأسماء عجزت العرب والعجم عن معارضة المصطفى بآيات القرآن. ودلت الآيات على صدق النبى الأول والنبى الآخر ولما ثبت صدق الأول كان مبشرا بمن بعده إلى الآخر ولما ثبت صدق الآخر كان هو مصدقا لمن قبله إلى الأول (١).

والذى يدل على صدق محمد أيضا أن اليهود لا ينازعون «فى أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى ـ عليه‌السلام ـ وجعل هذا الكتاب إماما يقتدى به ، ثم أن التوراة مشتمل على البشارة ـ كما سنبين ذلك بعد ـ بمقدم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لذلك نقول لهم : «... فإذا سلمتم كون التوراة إماما يقتدى به فاقبلوا حكمه في كون محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» حقّا من الله» (٢).

أثبتنا في غير هذا المكان أن المعجزات براهين من الله تعالى إلى عباده بصدق رسله وأنبيائه ، فإذا «ظهر على مدعى النبوة من فعل الله تعالى ما ينقض العادة عند دعوى المدعى رسالة وكان الذى ظهر مطابقا لدعواه ... علم بذلك أنه تعالى قصد بذلك تصديقه في دعواه وصار إظهاره لذلك مطابقا لدعواه بمنزلة قول الله : صدق ؛ هو رسولى إليكم فلما ادعى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» النبوة وجاء بالقرآن خارقا عادة العرب في الفصاحة

__________________

١ ـ الشهرستانى : الملل والنحل ج ١ ص ١٠٩ بهامش الفصل لابن حزم.

٢ ـ الرازى : التفسير الكبير ج ٢٨ ص ١٢.

٧٨

والبلاغة متحديا أن يأتوا بسورة من مثله وظهر عجزهم مع التقريع صباح مساء دل ذلك على أن الله تعالى خصه به ليدل به على نبوته كما دل على نبوة موسى لما تحدى به السحرة وعجزوا عن مثله وكما دلّ إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على نبوة عيسى لما تحدى به الأطباء وجعل الله المعجزات لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ما يجانس الفصاحة التى هى من طبائعهم وطريقتهم لئلا يلتبس الحال فيه كما أجرى الأمر فى معجزة موسى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ على هذه الطريقة.

ولما لم يأت العرب بمثل القرآن علمنا أنهم إنما أعرضوا عن الإتيان به للعجز عنه كما أن سحرة فرعون في زمان موسى عجزوا عن معارضته فبان به كونه محقا فى دعواه ، وكما أن عيسى في أيامه أعجز الأطباء عن مثل ما أتى به» (١). يقاس على ذلك ما كان في عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فقد بلغت البلاغة إلى الدرجة العليا وكان بها فخارهم حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها كما تشهد به كتب السيرة فلما أتى النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بما عجز عن مثله جميع البلغاء علم أن ذلك من عند الله قطعا» (٢).

وقد قيل : إن الذى أورده محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» على العرب من الكلام الذى أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من أحياء الموتى وإبراء الأكمه لأنه أتى أرباب أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ... بكلام مفهوم المعنى عندهم وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح ـ عليه‌السلام ـ عند إحياء الموتى ، لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه ولا في إبراء الأكمه والأبرص وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة فدل ذلك على أن العجز عنه إنما كان ليصير علما على رسالته وصحة نبوته وهذه حجة قاطعة.

ولما ثبت أن «الطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء ظهور المعجز عليهم ولما ظهر المعجز على يد محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وجب الاعتراف بنبوته والإيمان برسالته فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وأنه ممتنع عقلا». (٣)

وفي هذا رد برهانى على اليهود : لأنه إذا كان الدليل الذى يدل على نبوة الأنبياء هو المعجزة لزم الجزم بأنه حيث حصل المعجزة حصلت النبوة ، فإذا جوزنا في بعض الحالات حصول المعجزة بدون الصدق فإنه يتعذر الاستدلال به على الصدق وحينئذ

__________________

١ ـ الإسفرايينى : التبصير في الدين ص ١٠٦

٢ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ٣٣

٣ ـ الرازى التفسير الكبير ج ٤ ص ٨٢.

٧٩

يلزم تكذيب جميع الأنبياء.

لذلك نقول : إن من لم يقبل نبوة أحدهم يلزمه التكذيب جميعهم ، فكل من نصر بعثة رسول مخصوص بما يؤدى إلى بطلان بعثة كل الرسل فيجب فساد قول الله.

نقول إن في ذلك رد برهانى على اليهود لأنهم زعموا أنه لا نبى بعد موسى ـ عليه‌السلام ـ ومن ثم أنكروا نبوة عيسى ومحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» محتجين بوجوه :

أحدها : قولهم إن «النسخ محال في نفسه لأنه يدل على البدء والتغيير وذلك محال على الله» (١).

الثانى : زعمهم أن موسى قال لهم «عليكم بدينى ما دامت السموات والأرض.

وأنه قال : إنى خاتم الأنبياء».

الثالث : إن محمدا لم تظهر على يده معجزة فلذلك هو ليس نبيا.

وهذا ما غرهم به ابن الراوندى الملحد ، فهو الذى لقنهم «الاحتجاج على عدم جواز النسخ ... بأن قال لهم : قولوا إن موسى ـ عليه‌السلام ـ أمرنا أن نتمسك بالسبت ما دامت السموات والأرض ولا يجوز أن يؤمر الأنبياء إلا بما هو حق» (٢). وقول ابن الراوندى ولا يجوز أن يؤمر الأنبياء إلا بما هو حق» قولة حق يراد بها باطل.

أما افتراء اليهود على موسى ـ عليه‌السلام ـ فإنه لو ثبت هذا القول ـ وحاشاه ـ .. لكان مبطلا لنبوة نفسه ... (فيلزمه) إذا كانت الآيات لا توجب تصديق غيره إذا أتى بها في شىء دعا إليه.

فهى غير موجبة تصديق موسى فيما أتى به ، إذ لا فرق بين معجزاته ومعجزات غيره. إذ بالآيات صحت الشرائع ولم تصح الآيات بالشرائع لأن تصديق الشريعة موجبة للآية. والآيات موجبة تصديق الشريعة» (٣).

فإن أنكروا شيئا من معجزات عيسى ومحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لزمهم في شرع موسى لزوما لا يجدون عنه محيصا وإذا اعترفوا به لزمهم تكذيب من نقل إليهم من موسى ـ عليه‌السلام ـ قول الله إنى خاتم الأنبياء» (٤). فلو لم تثبت نبوة نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يثبت شىء

__________________

١ ـ الغزالى : الاقتصاد في الاعتقاد ص ١٠٤.

٢ ـ باول كراوس وترجمة د. عبد الرحمن بدوى : من تاريخ الإلحاد في الإسلام ص ٧٨ مكتبة النهضة المصرية سنة ١٩٤٥ م.

٣ ـ ابن حزم : الفصل ج ١ ص ٨٨.

٤ ـ الغزالى : السابق ص ١٠٤.

٨٠