الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

دكتور محمود ماضي

الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

المؤلف:

دكتور محمود ماضي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 253-070-8
الصفحات: ١٨٨

وطقوسها بكل وضوح وصراحة (١).

وقد عقد الدكتور أحمد شلبى موازنة طويلة بين المسيحية والعقائد الوثنية التى كانت في سوريا وما حولها ، نجتزئ منها هذه الإشارات :

١ ـ من التشابه بين مثرا (٢) ويسوع :

ـ كل منهما كان وسيطا بين الله والبشر.

ـ ولد مثرا في كهف ، وولد عيسى في مزود البقر.

ـ ولد كل منهما في الخامس والعشرين من ديسمبر.

ـ كل منهما كان له اثنى عشر حواريا.

ـ كل منهما مات ليخلص البشر من خطاياهم.

ـ كل منهما دفن وعاد للحياة بعد دفنه.

ـ كل منهما صعد إلى السماء ليخلص تلاميذه.

ـ كل منهما كان يدعى منقذا ومخلصا.

ـ كل منهما كان له اتباع يعمرون باسمه ويقام عشاء مقدس في ذكراه (٣).

ويقول الأستاذ العقاد في كتابه «حياة المسيح في الكشوف والتاريخ» أن عبادة مثرا هذه انتقلت إلى الدولة الرومانية ، وامتزجت بعبادة ايزوريس المصرية ومنها جاءت عبادة ديمتر ، وهى في جملتها هى الديانة المصرية التى حوربت ، وقد صوروها فى صورة أم تحتضن طفلها الرضيع دلالة على (الحنان والبراءة) ، والصورة هى صورة إيزيس وحوريس ، ثم هى هى أيضا صورة مريم العذراء التى تحتضن المسيح (٤).

٢ ـ وهناك موازنة أطول بين حياة عيسي وحياة بوذا (٥).

ومع ذلك ـ وهو قليل من كثير ـ فهمّ المستشرقين ـ دون خجل أو حياء ـ الطعن فى الإسلام باسم العلم والبحث العلمى ، مع أنهم لا يعالجون الإسلام كموضوع من موضوعات البحث العلمى بل باعتباره متهما يقف أمام قضاته ، وحقيقة أمرهم أنهم «ليسوا من العلم ولا من الأمانة كما يتصورهم الناس ، وأنهم ممن لا يوثق بهم فى

__________________

١ ـ د. محمد أبو الغيط : المصدر السابق ٦٢.

٢ ـ مثرا ديانة فارسية ازدهرت في فارس في القرن السادس قبل الميلاد.

٣ ـ د. أحمد شلبى ك المسيحية ص ١٧٢.

٤ ـ عن. د. عبد الجليل شلبى : رد مفتريات على الإسلام ص ٩٧ دار القلم. الكويت ١٤٠٢ ه‍ ، ١٩٨٢ م.

٥ ـ أنظر : المبحث الرابع من الفصل الخامس في هذا الكتاب.

٤١

البحث العلمى» (١) ، فبعض مناهجهم تنضح بالتعصب الذميم ، وتتخطى أصول المنهج العلمى.

فضلا عن نزعة التعالى والغرور. فالمستشرق يتعامل مع موضوعه ـ وهو هنا الإسلام والمسلمين ـ تعامل المغرور الذى يستأنس في نفسه المقدرة الفائقة ـ وموضوعه العجز ـ يشعر أن أصوله قوية ومتينة ، وأصول الغير أو الآخر منهارة أو هباء ونأخذ مثلا على ذلك «ماسينيون» وقد غمره الشعور بالرحمة المسيحية الحانية على الشرق وأهله ، فيقول : «فيما يخص الشرقيين ، علينا أن نلجأ إلى علم الرحمة الحانية هذا ، إلى هذه المشاركة حتى في بناء لغتهم وبنيتهم العقلية ، التى ينبغى بحق أن نشارك فيها ، لأن هذا العلم في نهاية المطاف يشهد إما لحقائق هى لنا أيضا ، أو لحقائق فقدناها وعلينا أن نستعيدها.

وأخيرا لأن كل ما هو موجود هو ، بمعنى عميق خير بطريقة ما. هؤلاء البشر المساكين المستعمرون لا يوجدون لأغراضنا وحسب بل يوجدون بذاتهم ولذاتهم (٢).

وحول نزعة التعالى والبعد عن الموضوعية يقول الدكتور «فرانتز روزنتال» : ومن المزالق التى يندر أن يتحاشاها الباحثون الغربيون عند تقديرهم البحث العلمى عند المسلمين أنهم يضعون مقاييس صارمة يحكمون بموجبها على ما أنتجه الفكر الإسلامى ، مقاييس أشد صرامة من تلك التى نطبقها على ذواتنا نحن الغربيين. فإن العدل والإنصاف يقتضياننا أن نميز بين مختلف أنواع النشاط الأدبى ومراتبه التى من شأنها أن تترك أثرا بعيد الغور في طبيعة النتاج العلمى الرفيع ، على أننا قلّ أن نرى عالما غربيا يراعى هذا التمييز عند ما يحكم على البحث العلمى عند المسلمين» (٣).

وأخيرا ، وبعد الإشارات السابقة عن بعض مناهج الكثير من المستشرقين فى تناولهم الإسلام وعلومه ، فإننا لا نستطيع أن نخرج إلا بدرس واحد هو : الريبة وعدم الثقة بكثير من الكتابات التى تعرض تحت : الأكاديمية والمنهجية وهى تخفى آراء عقائدية وأحقادا مختلفة ، فضلا عن الأحكام المسبقة وما لها من تأثير ـ شعورى أو لا شعورى ـ يؤدى إلى اختلال المنهج.

وأين هذه الادعاءات المنهجية من قول الله جل وعلا في قرآننا الكريم : (وَلا

__________________

١ ـ د. حسن الهراوى : ضرر المستشرقين أكثر من نفعهم مقال بمجلة الهلال. ع ٣ ، ١٩٣٣ م.

٢ ـ د. إدوارد سعيد : السابق ص ٢٧٣.

٣ ـ د. فرانتز روزنتال : مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمى ترجمة د. أنيس فريحة ص ١٩. دار الثقافة. بيروت ١٤٠٠ ه‍ ـ ١٩٨٠ م.

٤٢

يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].

وأين تلك المناهج المدعاة من قول الحسن بن الهيثم في المنهج : «الحق مطلوب لذاته ، وكل مطلوب لذاته فليس يعنى طالبه غير وجوده» (١). فإن كنت ناقلا فالصحة ، أو مدعيا فالدليل.

لقد استجابت المناهج الاستشراقية للثقافة التى انتجتها أكثر مما استجابت لموضوعها المزعوم (٢).

__________________

١ ـ مقالة الشكوك على بطليموس تحقيق د. عبد الحميد صبرة ص ٣ القاهرة ١٩٧١ م.

٢ ـ إدوارد سعيد : الاستشراق ص ٥٥.

٤٣
٤٤

الفصل الثانى

الوحي

الوحى في اللغة والاصطلاح.

مراتب الوحى.

أشكال الوحى.

الوحى إلى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

بدايات الوحى.

مظاهر الوحى وكيف كان يجيء.

٤٥

الوحي في اللغة والاصطلاح : ـ

جرب الإنسان ارتياد عالمه بحواسه وعقله ، وثبت عجزه عن تجاوز هذا العالم المشاهد ، فضلا عن عدم إحاطته بهذا العالم. ومن ثم أصبح الإنسان بحاجة إلى وسيلة معرفية أخرى ـ غير الحس والعقل ـ وسيلة مأمونة مضمونة تبدد هذه الحيرة وهذا الاضطراب ، لا بدّ من وسيلة موصولة بخالق الكون ومدبره ، لا بدّ من وحى من الله تعالى يكشف للإنسان عن بعض ما غيب عن الحس والعقل.

الوحى الإلهى إلى الإنسان مقصود به هدايته وتكميل إدراكاته ، ووصل إدراكه الجزئى بالمدركات الكلية وراء الكون المشاهد.

نريد أن نقول أن الوحى والعقل ضروريان ومتكاملان وأن هذا التكامل لا يكون ولا يتحقق إلا بإدراك أن للعقل ميدانه لا يتجاوزه. فالعقل آلة إدراكية محدودة كمحدودية الحواس.

يقول الإمام الشاطبى : «إن الله جعل للعقل في إدراكه حدا تنتهى إليه ، لا تتعداه ، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب ولو كانت كذلك لاستوت مع البارى ـ تعالى ـ فى إدراك جميع ما كان وما لا يكون» (١).

الوحى لا يضاد طبيعة العقل كعقل ، فلا تنافر بينهما بشرط أن يكون المعقول صريحا والمنقول صحيحا كما يقول الإمام ابن تيمية : (٢) لا يستقل عقل دون هداية* بالوحى تأصيلا ولا تفصيلا كالطرف دون النور ليس بمدرك* حتى تراه بكرة وأصيلا نور النبوة مثل نور الشمس* للعين البصيرة فاتخذه دليلا (٣)

حقيقة الوحي : ـ

الوحى هو «الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفى ، وكل ما ألقيته إلى غيرك ، يقال : وحيت إليه الكلام ، ووحى وحيا ، وأوحى أيضا أى كتب» (٤)

__________________

١ ـ الشاطبى : الاعتصام ج ٢ ص ٣١٨. دار عمر بن الخطاب بالإسكندرية / مصر.

٢ ـ ابن تيمية : نقض المنطق ص ٥٣.

٣ ـ ابن القيم : مختصر الصواعق المرسلة ص ١٤٦ ـ ١٤٧ مكتبة المتنبى. القاهرة.

ومباحث في المعرفة في الفكر الإسلامى للمؤلف.

٤ ـ ابن منظور : لسان العرب ح ٣ دار المعارف بمصر ١٩٨٢ م.

٤٦

وقيل أيضا : «أصل الوحى في اللغة : إعلام في خفاء ، ولذلك صار الإلهام وحيا (١) ويقال : «فى فعله وحى وأوحى» (٢) ويحتمل أن يكون الوحى اسما ومصدرا ، فهو اسم «ومعناه الكتاب ، ومصدرا وله معان منها ، الإرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارة والإفهام» (٣) وقد «يطلق ويراد به اسم المفعول منه أى الموحى وهو كلام الله المنزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٤).

الوحى ـ إذن ـ إعلام الله تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم ، ولكن بطريقة خفية ، غير معتادة للبشر ، أى خارجة عن طوق البشر.

ولما كانت صفة الوحى إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، توافق صفة الوحى إلى من تقدمه من النبيين (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) [الشورى : ٣] فإن عمدة الأدلة فى الوحى : الشرع ، قرآنا وسنة.

قد يبدأ الوحى بالرؤيا المنامية يراها العبد المصطفى ويوقن أنها وحى الله تعالى ورؤيا الأنبياء ليست من أضغاث الأحلام التى تترجم بها النفس عن رغباتها المكبوتة ، فأفئدتهم معدة إعدادا إلهيا.

كانت الرؤيا الصالحة أول مطالع الوحى إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أخرج أبو نعيم عن علقمة بن قيس قال : «إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ، ثم ينزل الوحى بعد في اليقظة» (٥). وعن عائشة أنها قالت : «أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة ـ أو الصادقة ـ فى النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك ، فقال : اقرأ» (٦).

من هذا الحديث يمكن استنباط ثلاث نتائج هى :

أولها : أن قول أم المؤمنين عائشة (من الوحى) يحتمل أن يكون (من) تبعيضية ، أى من أقسام الوحى للأنبياء ، والرؤيا وإن كانت جزءا من النبوة باعتبار صدقها لا غير

__________________

١ ـ المصدر السابق.

٢ ـ ابن القيم : مدارج السالكين ج ١ ص ٢٩ دار الكتاب العربى.

٣ ـ الرازى التفسير الكبير ج ٢٨ ص ٢٤٢ ط ثانية طهران.

٤ ـ العسقلانى : فتح البارى ج ١ ص ٢٧ عام ١٣٧٩ ه‍.

٥ ـ العسقلانى : المصدر السابق ج ١ ص ٩ ، ٢٣ ، صحيح مسلم بشرح النووى ج ٢ ص ١٩٧. دار الفكر بيروت.

٦ ـ صحيح مسلم بشرح النووى.

٤٧

وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا» (١).

ثانيها : أن خلوة النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مترتبة على الرؤيا الصالحة التى هى قسم من أقسام الوحى ، فإن قيل : «أمر الغار قبل الرسالة ، فلا حكم. أجيب بأنه أول ما بدئ به من الوحى الرؤيا الصالحة ثم حبب إليه الخلاء ... فدل ذلك على أن الخلوة حكم مترتب على الوحى لأن كلمة ثم للترتيب ، فكان ذلك أمعن في الذهاب إلى أن التحنث لم يكن تبعية لعادة ولا رياضة نفسية خاصة ، بل كان وحيا بوحى من عند الله ، والله أعلم حيث يجعل رسالته» (٢).

ثالثها : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» خاف على نفسه لما رأى الملك أول مرة ...» (٣) فلم يكن «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ينتظر النبوة ولا متهيئ لها ، وإلا لما خاف على نفسه ، ولو كان كذلك «لظهر عقب ذلك ما كانت تنطوى عليه نفسه الوثابة» (٤).

ولكن لا يعنى ذلك أن كل من رأى رؤيا صادقة تحنث.

والمعنى أن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كان يرى الرؤيا فتقع كما رأى ، وتلك إرهاصات الوحى ، وكانت مدته قبل وحى اليقظة الصريح ستة أشهر (٥). ولقد كان ذلك هو الحال مع إبراهيم عليه‌السلام حين نزل الأمر بذبح إسماعيل (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) [الصافات : ١٠٢] فضلا عن دلالته على أن رؤيا الأنبياء أمر إلهى يترتب عليه آثار سلوكية ، فإنها «كلها وحى مقطوع على صحته» (٦).

مراتب الوحي ووسائله : ـ

حددت الآية (٥١) من سورة الشورى ضروب تكليم الله تعالى لأنبيائه ـ وإن كان هذا الأمر لا يعرف كنهه ـ : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)).

تضمنت الآية ثلاث مراتب للوحى :

المرتبة الأولى : وهو المراد بقوله تعالى : (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) وهو نفث

__________________

١ ـ العسقلانى : السابق.

٢ ـ القسطلانى : إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى ج ٦ ص ٣٤. المطبعة الأميرية بمصر سنة ١٣٠٤ ه‍.

٣ ـ رشيد رضا : الوحى المحمدى ص ٩٣ ـ ٩٤ الطبعة السادسة ١٣٨٠ ه‍.

٤ ـ المرجع السابق.

٥ ـ البيهقى : دلائل النبوة ج! ص ٣٩٣ ط أولى. دار النصر للطباعة. القاهرة.

٦ ـ ابن حزم الفصل ج ٥ ص ١٤. مكتبة السلام العالمية. القاهرة (ب ـ ت)

٤٨

ينفث في قلبه فيكون إلهاما (١) فقد جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أنه قال : «إن روح القدس نفث في روعى أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ...» (٢) وهى حالة فيض إلهى يتعرض لها النبى حتى إذا ما فارقته كان قد وعى تماما ما ألهم به.

المرتبة الثانية : وهو الذى «وصل إليه الوحى لا بواسطة شخص آخر ولكنه سمع عين كلام الله» (٣) والسامع لا يبصر من يكلمه ، وهو المقصود بقوله تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) كما حدث لموسى عليه‌السلام (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤].

والله تعالى فضل بعض الرسل على جميعهم بالتكليم في اليقظة من وراء حجاب دون وساطة ملك ، لكن بكلام مسموع بالآذان معلوم بالقلب زائد على الوحى المسموع من الملك عن الله تعالى (٤) وهذا النوع كما هو ثابت لموسى ثابت لنبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ليلة الإسراء والمعراج. قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة : ٢٥٣].

وسماع النبى من الله ـ فيما يقول الغزالى ـ يكون بخلق الله علما ضروريا يدرك به الرسول ثلاثة أمور.

أولها : أن المتكلم هو الله تعالى. وثانيها : أن ما سمعه هو كلام الله.

وثالثها : مراد الله من كلامه (٥).

أما المرتبة الثالثة : فإنها تكون عن طريق الملك الذى يأتى النبى فينقل إليه كلام الله ، أى «وصل إليه الوحى بواسطة شخص آخر ، وهو المراد بقوله تعالى : (أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء)» (٦) والمعنى بالرسول ملك الوحى المعبر عنه بالروح الأمين وهو جبريل (٧) عليه‌السلام.

والله سبحانه ميز بين هذه المراتب الثلاثة ، ففرق بين «الوحى وبين إرسال الرسول

__________________

١ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن ص ٥٨٧٣ كتاب الشعب مصر

٢ ـ ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ١٢١ الحلبى مصر

٣ ـ الرازى : التفسير الكبير ج ٢٧ ص ١٨٦

٤ ـ ابن حزم الفصل ج ٢ ص ٨

٥ ـ عبد اللطيف السبكى : الوحى إلى الرسول محمد ص ٨٣ ـ ٨٤. مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. القاهرة.

٦ ـ الرازى : السابق.

٧ ـ يتساءل المستشرق (دى بور) ساخرا : ما السبيل إلى معرفة الروح الذى هو أسمى من روحنا والذى نحن في حاجة إلى هدايته؟ ثم يقول : هذا سؤال إذا نظرنا إليه بمنظار العقل المجرد فقد يتحطم على صخرته كل مذهب دينى يقول بوساطة إنسان ما (انظر : تاريخ الفلسفة في الإسلام ترجمة د. أبو ريدة ـ

٤٩

الذى يوحى بإذنه ما يشاء ، كما فرق بين ذلك وبين المتكلم في قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله تعالى (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٣ ـ ١٦٤] ففرق بين الإيحاء العام المشترك بين الأنبياء وبين تكليمه موسى ، كما فرق بين الإيحاء وبين إرسال رسول يوحى بإذنه ما يشاء (١). هذه مراتب الوحى الخاص الذى لا يكون لغير الأنبياء ، وذكر الإمام ابن القيم فى مدارج السالكين مراتب أخرى دون الوحى الخاص هى مرتبة التحديث أو الإلهام (٢).

نخلص مما سبق إلى أن النبوة «ليست صفة راجعة إلى النبى ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه ولا استعدادا نفسيا يستحق به اتصالا بالروحانيات ، بل رحمة من الله يمن بها على من يشاء ..» (٣).

كيف كان يأتى الوحى؟ :

لا شك في تلقى الملك من الله تعالى ثم تلقى النبى منه ، أما «صفة تلقى الملك من الله فلا نعلمها لأنها من الغيب ولا صفة تلقى النبى من جبريل لأنه من شأن النبوة» (٤).

أما عن كيفية مجىء الوحى ، فيقول الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده على فيفصم عنى وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فأعي ما يقول» (٥).

ذهب العلماء في طرق التنزيل مذهبين :

الأول : يقول بانخلاع «النبى من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل» (٦) لأن النبى إذا «شارك الناس في البشرية والإنسانية من حيث الصورة باينهم من حيث المعنى ، إذ بشريته فوق بشرية الناس لاستعداد بشريته لقبول الوحى : (قُلْ

__________________

ص ٢٢٨ سنة ١٣٥٧ ه‍). ونسأل دى بور : ما رأيك في اليهودية. ألا تؤمن بها؟ فإن أجاب بنعم. فلا محل لسؤاله وتهكمه لأن الذى جاء بالتوراة متوسط جسمانى هو موسى عليه‌السلام. وإن أجاب : بلا. فهو كافر باليهودية وعهدها القديم كافر بالنصرانية ، ومن ثم يقول ولا حرج ، فإن لم يستح فليصنع ما يشاء.

١ ـ ابن تيمية : الصفدية ص ٢٠٤ ، تحقيق د. محمد رشاد وسالم مطابع حنيفة بالرياض ١٣٩٦ ه

٢ ـ ابن القيم : مدارج السالكين ج ١ ص ٤٥ ـ ٥١ عام ١٣٩٢ ه‍.

٣ ـ الشهرستانى : الملل والنحل ص ٨٤ بهامش الفصل ١٩٦٨ م.

٤ ـ رشيد رضا : تفسير المنار ج ١.

٥ ـ ابن حجر : فتح البارى ... ج ١ ص ٤٥ ، والدهلوى : حجة الله البالغة ج ٢ ص ٢٠٦ دار التراث بالقاهرة.

٦ ـ السيوطى : الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٤٤ ط ٣ الحلبى القاهرة.

٥٠

إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أشار إلى طرف المشابهة من حيث الصورة (يُوحى إِلَيَ) أشار إلى طرف المباينة من حيث المعنى» (١). وهذا معنى مجىء الملك إلى النبى وظهور أثر التغير على الرسول ، فيغيب كما لو كان مغشيا عليه وهو ليس كذلك وإنما هى حالة انسلاخه من حالته البشرية العادية. وعلم النبى في تلك الحالة «علم شهادة وعيان ـ لا وهم وخيال ـ لا يلحقه الخطأ والزلل ولا يقع فيه الخطأ والزلل ، ولا يقع فيه الخطأ والوهم ، بل المطابقة فيه ذاتية لزوال حجاب الغيب وحصول الشهادة الواضحة عند مفارقة هذه الحالة البشرية» (٢).

ولأصحاب هذا المذهب دليلان :

الأول : نزول جبريل ـ عليه‌السلام ـ فى زمن صبا النبى ليطهر قلبه من المادة التى تمنعه من الترقى ، فقد روى أنس «أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، أتاه جبريل ذات يوم وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه فاستخرج منه علقه ، فقال : هذا حظ الشيطان منك ...» (٣).

الثانى : أن صعود الآدمى ببدنه إلى السماء قد ثبت في أمر المسيح فإنه صعد إلى السماء ... وكذلك إدريس صعد إلى السماء. وكذلك عند أهل الكتاب أن إلياس صعد إلى السماء ببدنه» (٤).

المذهب الثانى : القائل بانسلاخ الملك من صورته الملائكية إلى الصورة البشرية ، فالملائكة قادرة على التشكيل بأشكال مختلفة (٥) ، فالملك الروحانى قد يتمثل للنبى بمثال صورة البشر (٦) تمثل المعنى الواحد بالعبارات المختلفة أو تمثل الصورة الواحدة فى المرايا المتعددة أو الظلال المنكسرة للشخص الواحد فيكالمه مكالمة حسية ويشاهده مشاهدة عينية» (٧) وإذا تصور صعود البشر فلم لا يتصور نزول الملك؟ وإذا تصور أنه خلع لباس البشرية فلما لا يجوز أن يلبس الملك لباس البشرية؟

__________________

١ ـ الغزالى : معارج القدس ص ١٤٧. والملل والنحل للشهرستانى ج ٢ ص ١٠٥.

٢ ـ ابن خلدون : المقدمة ص ٣٩٥. كتاب الشعب. بمصر.

٣ ـ أخرجه مسلم ج ١ ص ٢١٦ بشرح النووى ، دار الفكر بيروت وأخرجه أحمد في مسنده ج ٢ ص ١٢١ ، ١٤٩ وزاد في آخره : وقال أنس : وكنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

٤ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج ٤ ص ١٧٠ ـ ١٧١ مطابع المجد التجارية. مصر.

٥ ـ أنظر عصمة الأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام للمؤلف. دار الإيمان بالإسكندرية.

٦ ـ ينكر مونتجمرى واط انسلاخ الملك من الحالة الملائكية إلى الحالة البشرية وسوف نفند شبهته فى الفصل الخامس من هذا الكتاب. إن شاء الله.

٧ ـ الشهرستانى : السابق ج ٢ ص ١٠٥ ، السيوطى : السابق ص ٤٤.

٥١

هكذا كانت حال جبريل إذا جاء النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فقد كان يأتيه في صورة دحية الكلبى ، وكذلك لما أتى الملائكة «إبراهيم ولوطا ورأتهم سارة وقوم لوط ، لم يأتوا إلا فى صور رجل ..» (١).

وبعد فالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة تقرر هذين الطريقين للتلقى عن الملك.

نخلص مما سبق إلى أن للوحى طرقا مختلفة ووسائل متنوعة منها : الرؤيا المنامية والتعليم المباشر من الملائكة في صورتها البشرية ، والتعليم بصوت من الملائكة فى طبيعتها النورانية ، وتعليم الملائكة في خفاء ، والكلام من وراء حجاب.

الوحى كله هبة واصطفاء من الله جل وعلا.

__________________

١ ـ ابن تيمية : الرد على المنطقيين ص ٥٣٩ ط ٣ (١٣٩٧ ه‍ ـ ١٩٧٧ م).

٥٢

الفصل الثالث

دلالة المعجزات علي النبوات

٥٣
٥٤

دلالة المعجزات علي النبوات

يجيء هذا الفصل توطئة لإثبات نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، بأدلة غير قرآنية ، وذلك من خلال الإجابة على هذه التساؤلات :

هل حقا المعجزات دلالة على النبوات؟ بمعنى هل من يجرى الله تعالى على يديه أفعالا أو أقوالا خارقة أو من قبيل المعجزات يكون نبيا؟ وكيف نستدل على صدقه؟

وحتى لا تثار الشبهات : ما الفرق بين المعجزة والسحر؟ وما هى المعجزة وما أوصافها وما شروطها؟

المعجزة في اللغة والاصطلاح :

المعجزة في اللغة مأخوذة من العجز الذى هو نقيض القدرة (١) أما في الاصطلاح : «الفعل الذى يدل على صدق المدعى للنبوة» (٢) وسمى معجزة لعجز المرسل إليهم عن المعارضة بمثلها.

المعجزة إذن أمر يظهر على يد مدعى النبوة يجريه الله جل وعلا على وجه يعجز الناس عن الإتيان بمثله ، كما يقول الإمام ابن تيمية : إن «لفظ المعجز يدل على أنه أعجز غيره ، كما قال تعالى : (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الزمر : ٥١] وقال تعالى (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢)) [العنكبوت : ٢٢]» (٣).

أوصاف وشروط المعجزة :

وضع العلماء شروطا عدة للأمر المعجز منها :

الأول أن «تكون المعجزة فعلا من أفعال الله تعالى ... نازل منزلة قوله تعالى لمدعى النبوة : صدقت» (٤) أو كأنه من جهته «لأن المعجز ينقسم إلى ما لا يدخل جنسه تحت مقدور القدر كإحياء الموتى ... وقلب العصا وما شاكل ذلك وإلى ما يدخل جنسه تحت مقدور القدر مثل قلب المدن رأسا على عقب ونقل الجبال ...» (٥)

__________________

١ ـ البغدادى : أصول الدين ص ١٧٠.

٢ ـ عبد الجبار المعتزلى : شرح الأصول الخمسة ص ٥٦٨ والرازى التفسير الكبير ج ٢١ ص ٦٥

٣ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج ٤ ص ٦٩

٤ ـ الجوينى الإرشاد إلى قواطع الأدلة ص ٣٠٨ ط السعادة بمصر ١٩٥٠ م

٥ ـ عبد الجبار السابق ص ٥٦٩

٥٥

بمعنى أن جنس الفعل مما يقدر عليه قومه إلا أن النوع المعجز لا يقدرون عليه ، فالقرآن الكريم نوع في جنس الكلام ، فهم يقدرون على الكلام كجنس إلا أنهم عجزوا عن الإتيان بمثل هذا النوع من الكلام.

ومن علماء المسلمين من رفض أن يكون جنس المعجزة مما يقدر عليه العباد ، يقول الباقلانى فى إعجاز القرآن فلا «يصح دخوله تحت قدرة العباد وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه .. لأنه لو صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز» (١).

غير أن كلام الباقلانى مدفوع باعتبار أن كل حادث مقدور لله تعالى ، وأفعال العباد مقدورة لله وهو خالقها والاعتبار في فعل مدعى النبوة كونه خارقا.

الثانى : أن يكون خارقا للعادة إذ لا إعجاز دونه (٢) لأنه لو كانت «المعجزة عادة معتادة يستوى فيها البار والفاجر والصالح والطالح ومدعى النبوة المحق بها والمفترى بدعواه لما أفاد ما يقدر معجزا وتنصيصا على الصادق» (٣). أى أن يكون خارقا لما اعتاده الناس واستمروا عليه مرة بعد أخرى لتمييز المدعى عن غيره ، وهذا الأمر «قد يكون إتيانا بغير المعتاد وقد يكون منعا من المعتاد» (٤).

ولكن قد يقول قائل : كيف «يتيقن العاقل كون ما جاء به النبى خارقا للعادة ، وقد استقر في نفسه ما اطلع الحكماء عليه من خواص الأجسام وبدائع التأثيرات ، حتى توصلوا إلى قلب النحاس ذهبا إبريزا ... فما يؤمننا أن يكون مدعى النبوة قد عثر على سر من هذه الأسرار وتظاهر به؟» (٥).

أجاب الجوينى بأننا نضطر إلى العلم بأنه ليس في القوى البشرية والفكر الحكيمة إحياء العظام بعد ما رمت وإبراء الأكمه والأبرص وقلب العصا حية.

المقصود أن حجة النبى لا تكون كذلك حتى تعجز الناس ـ بل الأنس والجن ـ وتخرج عن حد طاقتهم.

الشرط الثالث : اقتران المعجزة بدعوة النبى ، بمعنى أن يقع الأمر المعجز عقب دعوى المدعى للنبوة. أى يجب أن يكون المعجز حادثا في المدلول عليه وفي زمانه.

غير أن الإمام ابن تيمية رفض هذا الشرط ، لأن الآيات ما هى إلا «شهادة من

__________________

١ ـ الباقلانى : إعجاز القرآن ج ١ ص ٢٨٨ بهامش الإتقان في علوم القرآن ط الحلبى ١٣٧٠ ه‍.

٢ ـ الايجى : شرح المواقف ج ٢ ص ٤١٠.

٣ ـ الجوينى : السابق ص ٣٠٩.

٤ ـ الرازى : محصل أفكار المتقدمين ... ص ١٥١.

٥ ـ الجوينى : السابق ص ٣١٢.

٥٦

الله وإخبار منه بنبوتهم فلا يجب أن يكون في محل النبوة ولا زمانها ولا مكانها» (١) ، ولكنه يشرح ما ذهب إليه بقوله : «... فإذا أريد بأن آيات الأنبياء مختصة بهم وأنها لا تكون لغيرهم وأنها لا تكون مع انتفاء النبوة المدلول عليها) فحدوثها في محل المدلول عليه وفي زمانه أمر ضرورى. أما إذا «أريد أنها لا توجد إلا في ذات النبى أو مقترنة عن نبوته أو المكان الذى كان فيه أو الزمان فهذا كله غلط».

الشرط الرابع : أن يتحدى النبى بالمعجزة لأنه «لا معنى للمعجزة إلا ما يقترن بتحدى النبى عند استشهاده على صدقه على وجه يعجز الخلق عن معارضته» (٢). ويكفى في التحدى «قرائن الأحوال ، مثل أن يقال له : إن كنت نبيا فأظهر معجزا ففعل بأن دعا الله فأظهره فيكون ظهوره دليلا على صدقه ونازلا منزلة التصريح بالتحدى» (٣).

غير أن ابن حزم والإمام ابن تيمية ذهبا إلى أن مقتضى شرط التحدى «أن ما كان يظهر على يد النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى كل وقت من الأوقات ليس دليلا على نبوته لأنه لم يكن كلما ظهر شىء من ذلك احتج به وتحدى الناس الإتيان بمثله ، ولا نقل التحدى عن غيره من الأنبياء مثل موسى وصالح» (٤).

ولكننا نرى أن المعجزة تتضمن التحدى أو هى نازلة منزلة التحدى وإن لم يصرح النبى بذلك ، كما أن القرآن الكريم وهو معجزة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» جاءت تحديا للعرب على فصاحتهم وبلاغتهم ، بل التحدى يتعداهم ليشمل الإنس والجن.

الشرط الخامس : وهو أن تقع المعجزة على وفق الدعوى لا على خلافه ، لأنها حينئذ تكون تكذيبا له. روى أن مسيلمة الكذاب طلب من أصحابه أن يتفل في بئر ليكثر الماء فغارت البئر فدل على كذبه (٥).

دلالة المعجزات على النبوات :

وبمقتضى الشروط السابقة : فإذا تحققت في أمر معجز فهل يعد هذا دليلا على صدق مدعى الرسالة؟ بمعنى آخر. هل إذا طالب الناس مدعى النبوة بالدليل على صدقه ، فأجرى الله تعالى على يديه ما طلبوا فهل ينهض هذا دليلا على أنه مبعوث يوحى إليه؟ أم يكفى إخبار المدعى أنه يوحى إليه؟ بمعنى أنه هل يكفى سلامة ما

__________________

١ ـ ابن تيمية : النبوات ص ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٢ ـ الغزالى : الاقتصاد في الاعتقاد ص ١٠٥.

٣ ـ الإيجي : شرح المواقف ص ٤١٠.

٤ ـ ابن تيمية : النبوات ص ١٣٠ ، وابن حزم : الفصل ج ٥ ص ٥.

٥ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن ج ١ ص ٣٠.

٥٧

جاء به من شرع؟

المشهور عند جمهور العلماء تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات ، بمعنى أنه لا بد من إظهار معجزة تدل على صدق المدعى «فإذا أتى بها وبان لقومه وجه الإعجاز فيها لزمهم تصديقه وطاعته» (١) وبالغ بعضهم حتى قال : إن نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة غير ممكن (٢) حتى لو «صدق بالخبر لم يستغن عن معجز ، وإذا دل عليه بالمعجز استغنى عن الخبر» ، فالدليل على نبوة أنبياء الله المعجزات ، وإن كان يدل بالخبر على جهة التأكيد (٣).

نخلص من ذلك إلى ضرورة المعجزات للدلالة على النبوة أما الذين لم يشترطوها واكتفوا بسلامة شرع المدعى دلالة على صدقه فإننا نقول : إن الله لم يخلق شيئا عبثا فلا بد للمعجزة من وظيفة هى إخضاع العقول وإجبارها على التصديق ، ومن ثم يمكن القول ـ أيضا ـ بأن سلامة شرعه حجة وليست الحجة. أما إذا أنكر المستشرقون خرق العادة أو القانون ـ كما أنكر أسلافهم انشقاق القمر لنبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ـ فهم بذلك منكرون للمعجزات ، منكرون معجزات موسى وعيسى ، منكرون للنبوات كلها ، وعندئذ يكون كلامنا معهم على محور آخر.

أما إذا خلطوا بين المعجزة والسحر ـ كما قالوا : ساحر أو مجنون ـ فذلك متهافت من وجهين ، كما يقول الإمام الماوردى الشافعى : الأول : «أن الشعبذة تظهر لذوى العقول وتتدسس على الغر الجهول ، فخالفت المعجزة التى تذهل لها العقول» الثانى : «أن الشعبذة تستفاد بالتعليم فيتعلمها من ليس يحسنها فيصير مكافئا لمن أحسنها ويعارضه بمثلها والمعجزة مبتكرة لا يتعاطاها غير صاحبها ولا يعارضه أحد بمثلها كما انقلبت عصا موسى حية تسعى تلتقف ما أفكه السحرة» (٤) فلو كان السحر معجزة إلهية لما ظهر من السحرة العجز والانقياد لموسى ـ عليه‌السلام ـ عند مشاهدة قلب العصا حية.

فضلا عن أن السحر «تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس بكائن كائنا ، قال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦] ، والكلام في حبال السحرة وعصيهم وفي آية أخرى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) [الأعراف : ١١٦].

السحر إذن إظهار شىء للإحساس على خلاف حقيقته بوجه من وجوه التمويه ،

__________________

١ ـ البغدادى : أصول الدين ص ١٧٣.

٢ ـ الجوينى : السابق

٣ ـ الرازى : محصل أفكار. ص ١٥١ ، ابن حزم : الفصل ج ١ ص ٩١.

٤ ـ الماوردى : أعلام النبوة ص ١٥ ، ١٦ مطبعة التمدن المصرية ١٣٣٠ ه

٥٨

وهذا يحدث في نفس الرائى وإحساسه.

كما أن الساحر لا يمكنه التحدى والدعوة ، وانتفاء هما يخرجان السحر «عن أن يكون معجزا مشبها لآيات الرسل» (١) أما إذا ادعى صاحب خارقة النبوة وتحدى بها كذبا فإن الله تعالى يعجزه ويبطل ادعاءه بوسائل عديدة منها :

الأولى : ينسيه الله تعالى عمل السحر.

الثانية : يقدر الله تعالى بعض خصومه على معارضته بمثلها في حال دعواه فيها فيعلم أنه كاذب في دعواه الرسالة (٢).

ومع هذا فإن علماءنا فرقوا بين المعجزة والسحر ، بين الصادق والكاذب تفريقا حاسما ودقيقا وذلك بوجوه :

الأول : أن النبى صادق فيما يخبر به ـ عن الله ـ لا يكذب قط ، أما السحرة والكهان لا بدّ أن يكذبوا ، كما قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)) [الشعراء ٢٢١ ، ٢٢]» (٣). السحر إذا لا يأتيه إلا الفاسق.

الثانى : المعجزة «غير مكتسبة ولا معروف بها النبى قبل إتيانها» (٤). أما السحر «والكهانة فيناله الإنسان بتعلمه وسعيه واكتسابه وهذا مجرب عند الناس» (٥). يؤيد ذلك ما كان من سحرة فرعون لما انقلبت عصا موسى حية وتلقفت عصيهم فقد خروا له ساجدين وما دفعهم إلى ذلك إلا علمهم أن موسى لم يعرف السحر ولم يتعلم فنونه لأنه تربى بينهم وهم قد تعلموه ونبغوا فيه.

الثالثة : الحيلة «تفتقر إلى آلات وأدوات لو فقدت واحدة منها لم تنفذ وليس كذلك المعجزة» (٦).

الرابعة : أن آيات الأنبياء «لا يمكن أن تعارض بالمثل ، فضلا عن الأقوى ، ولا يمكن لأحد إبطالها بخلاف خوارق السحرة والشياطين فإنه يمكن معارضتها بمثلها وأقوى منها» (٧) الخامسة : أن المشعود والمحتال إنما ينفذ حيلته على من ليس من أهل صناعته ،

__________________

١ ـ الباقلانى : كتاب البيان ص ٩٤ ، الرازى : التفسير الكبير ج ٢١ ص ٨٥

٢ ـ البغدادى : أصول الدين ص ١٧٤.

٣ ـ ابن تيمية : النبوات ص ١٣٦

٤ ـ ابن الوزير : ايثار الحق على الخلق

٥ ـ ابن تيمية : السابق ص ١٣٦

٦ ـ عبد الجبار المعتزلى : السابق ٥٧٢

٧ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ١ ص ١٤

٥٩

ومن ليس له بها دراية ومعرفة ، بينما معجزة كل نبى جعلها الله جل وعلا مما يتعاطاه أهل زمانه.

ننتهى مما سبق إلى أن المعجزة ضرورية للنبى «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل». وقد تبين أن علماء المسلمين يرون أن للإقناع إحدى سبيلين : إما العقل والبرهان ، وإما المعجزة المبنية على خرق العادة وإذا كان البرهان العقلى لا يخضع له إلا ذوو العقول المستنيرة ، والأذهان الصافية ، والقلوب المستشرفة للعرفان ، فإن من البشر من لا يصلح لدعوته إلا أن يروا أمرا خارقا ، ويلمسوا بأيديهم شيئا متصورا بالعقل ، معجزا للبشر ، فتقوم الحجة.

٦٠