الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

دكتور محمود ماضي

الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

المؤلف:

دكتور محمود ماضي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 253-070-8
الصفحات: ١٨٨

الهدف الدينى وراء نشأة الاستشراق حتى اليوم «فحين نسأل التاريخ عن حركة الاستشراق والتبشير كيف نشأت؟ يلقانا جوابه الصريح بأنها قامت أول ما قامت فى رعاية الكنيسة الكاثوليكية للإشراف المباشر من كبار أحبارها» (١).

أما عن المستشرقين اليهود ، فقد لاحظ بعض الباحثين ـ فيما يقول الدكتور محمد البهى ـ أنهم أقبلوا على الاستشراق لأسباب دينية : هى محاولة إضعاف الإسلام والتشكيك في قيمة بإثبات فضل اليهودية على الإسلام بادعاء أن اليهودية فى نظرهم هى مصدر الإسلام الأول ، والأسباب سياسية تتصل بخدمة الصهيونية : فكرة أولا ثم دولة ثانيا.

يقول الدكتور البهى : هذه وجهة نظر ربما لا تجد مرجعا مكتوبا يؤيدها غير أن الظروف العامة ، والظواهر المترادفة في كتابات هؤلاء المستشرقين تعزز وجهة النظر هذه ، وتخلع عليها بعض خصائص الاستنتاج العلمى (٢).

ويمكننا تلخيص غايات الهدف الدينى في نقاط :

١ ـ زعزعة إيمان المسلمين بقرآنهم ونبيهم «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

٢ ـ تشكيك المسلمين في الشريعة الإسلامية وعجزها ـ فى زعمهم ـ عن مسايرة التطور ، فالدراسات الاستشراقية الحديثة تحاول «التركيز على أهمية القوانين الوضعية وتطبيقها على المسلمين بدلا من شريعة القرآن (٣).

٣ ـ حجب محاسن الإسلام عن العقل المسيحى حتى لا يقتنع به ثم يعتقده.

٤ ـ زرع تخاذل روحى وشعور بالنقص في نفوس المسلمين خاصة والشرقيين عامة.

وإذا كان الهدف الدينى لم يعد ظاهرا الآن في كتابات المستشرقين المعاصرين ، فليس معنى ذلك أنه قد اختفى تماما ، إنه لا يزال يعمل من وراء ستار (٤). لأنه من الصعب على المستشرقين وأكثرهم مسيحيون متدينون ، أن ينسوا أنهم يدرسون دينا ينكر عقيدة التثليث وعقيدة الصلب والفداء ، وهما أسس الدين المسيحى ، كما أنه

__________________

١ ـ د. عائشة عبد الرحمن : تراثنا بين ماض وحاضر ص ٥٢ معهد البحوث والدراسات العربية. القاهرة ١٩٦٨ م.

٢ ـ د. محمد البهى : المصدر السابق ص ٤٣١.

٣ ـ د. عدنان وزان : الاستشراق والمستشرقون ص ١٢٩ مطبعة رابطة العالم الإسلامى بمكة المكرمة ط ١٤٠٤ ه‍.

٤ ـ د. محمود حمدى زقزوق : الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضارى ص ٨٧ دار المنار. القاهرة ١٤٠٩ ه‍ ١٩٨٩ م.

٢١

من العسير أن يتغافلوا عن الفتوحات الإسلامية التى قضت على المسيحية وأحلت الإسلام محلها (١).

يقول برنارد لويس (اليهودى) : «لا تزال آثار التعصب الدينى الغربى ظاهرة فى مؤلفات عدد من العلماء المعاصرين ومستترة في الغالب وراء الحواشى المرصوصة فى الأبحاث العلمية» (٢). ورغم هذا الاعتراف من برنارد لويس إلا أنه يحذو حذو سابقيه ومعاصريه فتراه يتخذ موقفا عقائديا عدائيا للإسلام ، فضلا عن تأثيره على صانعى القرار الأمريكى فيما يتعلق ببلاد الإسلام.

الهدف الدينى الصليبى لا يحتاج إلى جهد لتبينه أو لإثباته في إنتاج المستشرقين ، فلا يخفى أن معظمهم من الرهبان والقساوسة.

ثانيا الهدف الاستعمارى أو التسلطى :

تعانقت حركة الاستشراق مع الحركة الاستعمارية الغربية. يقول الدكتور إدوارد سعيد : «إذا اتخذنا من أواخر القرن الثامن عشر نقطة للانطلاق محددة تحديدا تقريبيا ، فإن الاستشراق يمكن أن يناقش ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق ، التعامل معه بإصدار تقريرات حوله ، وإجازة الآراء فيه وإقرارها ، وبوصفه ، وتدريسه ، والاستقرار فيه ، وحكمه : وبإيجاز الاستشراق كأسلوب غربى للسيطرة على الشرق ، واستبنائه وامتلاك السيادة عليه» (٣).

تلاقت الأهداف والغايات ، أهداف ملوك أوروبا الصليبية مع أهداف مفكريها من مستشرقين ومنصرين ، «تلقف الاستعمار هذه الحركة ـ حركة الاستشراق ـ وكان ملوك الدول الاستعمارية رعاتها ، وكان قناصلهم فى «بلدان الشرق عمالها» (٤).

كانت رغبة المحتل «الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن البلاد التى وقعت تحت الاحتلال الأوربى حتى تستغل هذه المعلومات في فهم روح الشعوب القاطنة هناك حتى تسهل السيطرة عليها ومخاطبتها بلغتها ، كانت الغاية جمع المعلومات إلى الوطن الأم وهى ـ أوربا ـ عند ما كانت دولها سيدة البحار ، وكان المستشرقون هم الوسيلة لذلك» (٥).

يؤكد هذا ما ذهب إليه مارسيل بوازار ، من أن «الاستشراق كان في الأصل أحد

__________________

١ ـ إبراهيم اللبان : المستشرقون والإسلام ص ٣٦. القاهرة ١٩٧٠.

٢ ـ لويس : العرب في التاريخ ص ٦٣ نقلا عن. اللبان : المصدر السابق.

٣ ـ د. إدوارد سعيد : الاستشراق ص ٣٨.

٤ ـ زكريا هاشم : المستشرقون والإسلام ص ٦٥ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ١٩٦٥ م.

٥ ـ د. حسن حنفى : التراث والتجديد ص ٩٢ مكتبة الجديد. القاهرة.

٢٢

الفروع العلمية المرتبطة بالعلوم الاستعمارية في فرنسا وفي بريطانيا العظمى ... فقد كان المطلوب إجمالا فهم العقلية الإسلامية فهما جيدا لتسهيل الإدارة الاستعمارية للشعوب الإسلامية» (١).

وفي مطلع القرن العشرين ، لم يكن بإمكان رجال مثل بلفور وكرومر ـ وهم من عتاة ودهاة المحتل البريطانى ـ أن يقولوا ما قالوه ، وبالطريقة التى بها قالوا : إلا «لأن تراثا من الاستشراق ، أقدم من تراث القرن التاسع عشر ، زودهم بمفردات ، وصور ، وبلاغة ، ومجازات ليتولوه بها. ومع ذلك فإن الاستشراق عزّز ، وعزّر بالمعرفة الأكيدة لكون أوربا أو الغرب تسيطر ..» (٢) كان الاستشراق سجلا من المعلومات ، استخدمها المحتل ـ إنجليزى وفرنسى ـ للسيطرة على الشرق الإسلامى والسيادة عليه.

ومن الأمثلة العديدة لارتباط الاستشراق بالاستعمار ، يذكر الدكتور محمود حمدى زقزوق ، بعض النماذج للمستشرقين الذين كانوا أداة في يد الاستعمار ، منهم (كارل هينريس بيكر) (ت ١٩٣٣ م) مؤسس «مجلة الإسلام» الألمانية الذى قام بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية الألمانية في إفريقيا.

أما المستشرق الروسى (بارثولدBarthold) (ت ١٩٣٠ م) وهو مؤسس «مجلة عالم الإسلام» الروسية ، فقد تم تكليفه عن طريق الحكومة الروسية بالقيام ببحوث تخدم مصالح السيادة الروسية في آسيا الوسطى.

أما عالم الإسلاميات الهولندى (سنوك هورجرونية) (ت ١٩٣٦) فإنه في سبيل استعداده للعمل في خدمة الاستعمار توجه إلى مكة في عام ١٨٨٥ م ، بعد أن انتحل اسما إسلاميا ، وأقام هناك ما يقرب من نصف عام ، وكان يجيد العربية ، وقد لعب هذا المستشرق دورا مهما في تشكيل السياسة الثقافية والاستعمارية في المناطق الهولندية في الهند الشرقية ، كما شغل مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولندية في إندونيسيا (٣).

من المعروف أن معظم المستشرقين من المنصرين أو كانوا منصرين ، لذلك فإن التقاء المحتل الغاصب المنصرين هو التقاء بالمستشرقين ، يقول الدكتور محمد البهى : «أقبل الأوربيون على الاستشراق ليتسنى لهم تجهيز المبشرين وإرسالهم للعالم الإسلامى ، والتقت هنا مصلحة المبشرين مع أهداف الاستعمار فمكن لهم ، واعتمد

__________________

١ ـ مارسيل بوازار : الإسلام اليوم ص ١٩ ـ ٢٠ بيروت ١٩٨٦ م

٢ ـ د. إدوارد سعيد : المصدر السابق ص ٧٢.

٣ ـ د. محمود حمدى زقزوق : الاستشراق والخلفية الفكرية ص ٥٥ ـ ٥٦ مصدر سابق.

٢٣

عليهم في بسط نفوذه في الشرق. وأقنع المبشرون زعماء الاستعمار بأن المسيحية ستكون قاعدة الاستعمار الغربى في الشرق ، وبذلك سهل الاستعمار للمبشرين مهمتهم وبسط عليهم حمايته ، وزودهم بالمال والسلطان ، وهذا هو السبب في أن الاستشراق قام في أول أمره على أكتاف المبشرين والرهبان ثم اتصل بالاستعمار» (١).

وأصبح دور المستشرق في ظل المد الاستعمارى يماثل دور المنصر ، وكأن الاستشراق ولد من أبوين غير شرعيين هما : الاستعمار والتنصير يضاف إليهما الصهيونية التى تهدف من سيطرتها على الاستشراق إلى الحيلولة دون تجمع المسلمين العرب في وحدة تقاوم الصهيونية (٢).

يقول أحد قادة فرنسا العسكريين في المغرب العربى ، مقالة المستشرقين : «أليس من الواجب أن نقلل من درجة قوتهم وديانتهم الزاهرة ... أقول هذا ، ويقينى بأننى لو كنت عالما بأن المسلمين سيطلعون على مقالى هذا ما غيّرت من لهجته» (٣).

قد يظن ظان أنه بعد رحيل العسكر عن بلادنا توارى الهدف الاستعمارى للاستشراق ، نقول : لا. لقد تنامى هذا الهدف ، فلقد كانوا يحتلون الأرض ، وأصبحوا الآن في ضوء هدفهم هذا يحتلون العقل والفكر ، تم لهم ذلك ، بعد أن «سقطت معظم الجامعات المنشأة في بلاد المسلمين ، تحت الأيدى الخفية للاستشراق والتبشير والدوائر الاستعمارية ، وغدت خططها ومناهجها تخضع بطريق غير مباشر لما تفرضه وغلبة هذه الأيدى الخفية ، وغدت الكنيسة الغربية تفخر بأن العلوم الإسلامية والعلوم العربية تدرس على طريقتها التى تخدم أغراضها في بلاد المسلمين. وبأن المشرفين على تدريس هذه العلوم من تلامذة أبنائها.

وأى انتكاس أقبح من هذا الانتكاس. أن يتعلم المسلمون دينهم ولغاتهم ، وفق طرائق أعدائهم وأعداء دينهم ، ووفق دسائسهم وتشويهاتهم ، وتحويراتهم وأكاذيبهم وافتراءاتهم : هل يقبل اليهود والنصارى أن يتعلموا أصول دياناتهم وفروعها على أيدى علماء المسلمين ، وأن يأخذوا منهم الشهادات كذلك؟

إن الاستعمار المادى أهون من هذا اللون من ألوان الاستعمار ، الذى وصل إلى

__________________

١ ـ د. محمد البهى : المصدر السابق ص ٤٣٠.

٢ ـ د. أحمد عبد الرحيم السائح : العلاقة بين الاستشراق والتبشير ص ٢٩١ ، د. محمد أحمد محمد : منهج نقد الاستشراق ... ص ١٨٥. الكتاب الدورى لقسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة العدد الأول ١٤١٣ ه‍ ـ ١٩٩٣ م.

٣ ـ جريدة الفتح : محب الدين الخطيب السنة الخامسة جمادى الآخرة ع ٢٢٢ ، مصطفى نصر المسلاتى : الاستشراق السياسى ص ١٣٤ ـ ١٣٥ الطبعة الأولى. منشورات اقرأ طرابلس.

٢٤

القاعدة الكبرى التى تقوم عليها الأمة الإسلامية ، وهى قاعدة دينها وعلومه المتصلة بهذا الدين» (١).

يتضح مما سبق أن أهداف الاستشراق والتبشير والاستعمار واحدة ، فأكثر المستشرقين كانوا عملاء للاستعمار في بلاد العروبة والإسلام ، ودأبوا على تقويض الخصائص والمقومات الدينية والتاريخية للعرب وللمسلمين ، كى يمكنوا للاستعمار في هذه البلاد ، وليشيعوا النزعة الصليبية الغربية في مجالات مختلفة ومنها بطبيعة الحال مجال التظاهر بالبحث العلمى الصرف المحايد (٢).

وهكذا أصبح الاستشراق وسيلة فعالة لخدمة الاستعمار الغربى بعد أن أنجز تقمصه وتحوله من إنشاء بحثى إلى مؤسسة أمبريالية (٣).

الهدف العلمى :

هذا النفر من المستشرقين هم أفضلهم ـ والفضل هنا نسبى أيضا ـ إذ أنهم أقبلوا على الدراسات العربية والإسلامية بدافع المعرفة الحقة أو البحث عن الحقيقة التى افتقدها الكثير منهم فيما هم عليه من نصرانية ، ومن ثم جاءت أبحاثهم متسمة بالموضوعية والاعتدال.

قد تأتى دراسات البعض ـ إذن ـ لغرض علمى الافادة من الجوانب المشرقة فى تاريخ الشرق ، كالوقوف على تاريخ العلوم التى ازدهرت في رحاب الحضارة الإسلامية ... أو الوقوف على حلقات غامضة من تاريخ الحضارة الأوربية ولكنها تتضح من خلال معرفتهم بتاريخ الحضارة الإسلامية. ومن ذلك محاولتهم الوقوف على تاريخ اليونان والرومان .. من خلال المصادر الإسلامية ... (٤) ومن هؤلاء من يؤدى بهم البحث العلمى الخالص لوجه الحق إلى اعتناق الاسلام والدفاع عنه في أوساط أقوامهم الغربيين (٥).

ويرى المستشرق (بارت) أن ظهور هذه الفئة من المستشرقين كان على وجه التقريب منتصف القرن التاسع عشر. يقول : «إننا نعنى أن الصفة العلمية بالمعنى الحديث ظهرت في هذا الوقت على الاستشراق بوضوح أكثر من ذى قبل .. وذلك

__________________

١ ـ الشيخ عبد الرحمن حبنكة : أجنحة المكر الثلاثة ص ٨٨ ط. دمشق

٢ ـ د. أحمد الشرباصى : التصوف عند المستشرقين ص ٨ ، ٩ مصدر سابق.

٣ ـ د. ادوارد سعيد : السابق ص ١٢٠.

٤ ـ د. اسماعيل عميرة : الجذور التاريخية للظاهرة الاستشراقية ص ٦٠ دار حزين. عمان ١٩٩٢ م.

٥ ـ د. مصطفى السباعى : الاستشراق والمستشرقون ص ٢٤.

٢٥

عند ما اجتهدوا في نقل صورة موضوعية لعالم الشرق متجردين من الآراء السبقية وعن كل لون من ألوان الانعكاس الذاتى» (١).

ويرى إدوارد سعيد في كلام بارت تعميما ، فيوافقه على أن في هذه الفترة بدأ طموح بعض المستشرقين لصياغة اكتشافاتهم ، وتجاربهم ، ونظراتهم الثاقبة ، بلغة حديثة مناسبة ، أو لجعل أفكارهم حول الشرق على اتصال وثيق بالواقع الحديث ... ومع أن الاستشراق مثل كثير من العلوم الطبيعية والاجتماعية ، له منطلقات للبحث وجمعياته العلمية ومؤسسته الخاصة إلا أنه أخضع للامبريالية ، والوضعية المنطقية ، والطوباوية والدارونية والعرقية والفرويدية والماركسية (٢) ...

ويدافع بارت عن الهدف العلمى للاستشراق بقوله : «نحن معشر المستشرقين ، عند ما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية والعلوم الإسلامية لا نقوم بها فقط لكى نبرهن على صفة العالم العربى الإسلامى ، بل على العكس ، نحن نبرهن على تقديرنا الخالص للعالم الذى يمثله الإسلام ومظاهره المختلفة والذى عبر عنه الأدب العربى كتابة» (٣) ...

يبدو أن بارت فضلا عن أسلوبه التعميمى الفضفاض يبالغ في توجهات المستشرقين العلمية المجردة ، ومع الإقرار بتوافر نزعة التحرر ـ من سلطان الكنيسة والاستعمار ـ العلمية لدى القليل من المستشرقين «ولكن لا يشك كثيرا أيضا في أن الوصول إلى هذا الهدف لم يتحقق لعدد كبير من الدارسين للإسلام سواء من مات منهم أو من لم يزل حيا. وتنقسم جهودهم بطبيعتها إلى قسمين متميزين : نشر النصوص ، والدراسات التحليلية ... ولكن يمكن أن نقرر هنا على سبيل الإجمال أن النظرة العلمية للدارسين للإسلام ... كانت أقل عمقا في دراسات هؤلاء منها فى نشرهم النصوص. ولا تعوذنا الشواهد على نقص التجرد العلمى حتى بالنسبة لتحقيق أو ترجمة النصوص حيث كان الموضوع يستسلم لأهواء الآراء الثابتة المقررة عن الإسلام مما لا يزال قائما في عقول بعض الباحثين الغربيين (٤).

ويرجع بعض الباحثين الإسلاميين نمو الأغراض العلمية للدراسات الاستشراقية إلى أسباب عديدة منها : انحسار المد الاستعمارى المباشر بعد الحرب العالمية الثانية

__________________

١ ـ روى بارت : الدراسات العربية والاسلامية .. ص ١٧.

٢ ـ إدوارد سعيد : المصدر السابق ص ٧٣ ، ٧٤.

٣ ـ بارت السابق ص ١٠.

٤ ـ د. طيباوى : المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ص ٢٤ ، ترجمة د. قاسم السامرائي.

٢٦

وبروز أفكار جديدة تنادى بالمساواة بين الدول ، وحق الشعوب فى تقرير مصيرها ، وإلغاء الهيمنة الاستعمارية وخلق جهاز دولى جديد كالأمم المتحدة ، يحاول طبقا لمجهوداته حفظ الأمن والسلام ، والمساواة بين الشعوب ، ومنها تطور طرق البحوث العلمية في مجال العلوم الإنسانية (١).

إننا نرى أن الهدف العلمى الخالص ينبع من ذاتية المستشرق وأمانته العلمية ، أما أى شىء آخر فيأتى كعامل مساعد وإن لم يوجد فعلى الباحث ـ المستشرق ـ التخلى عن الموضوع.

وإذا كان صحيحا ما ذهب إليه الدكتور ساسى فإلى أين سيتجه الاستشراق أو هذه الفئة المتجردة للعلم من المستشرقين بعد انحسار دور الأمم المتحدة وتخاذلها أمام ما يسمى بالنظام الدولى الجديد؟ ومعروف أنه محاولة أمريكية أوروبية للسيطرة والهيمنة بشكل أو بآخر؟

إن إعجاب البعض منا بتوجهات هؤلاء المستشرقين العلمية لا يجب أن يحول «دون مناقشتهم في آراء لهم غير سديدة قال بها من قال ذهابا مع أهواء النفس الكثيرة» (٢).

وأخيرا ، إذا أراد الاستشراق أن يلعب دورا فعالا في ميادين العلوم ، وخاصة العلوم الإنسانية ، فعليه أن يدرك ، وقد آن الأوان لذلك ، أن قيمة دراساته لا تعتمد على ما فيها من مشاحنات وانفعالات ، بل على ما فيها من صدق ، وإخلاص ومنهجية موضوعية (٣).

يجمع الاستشراق وحدة الهدف الذى يتمثل في معرفة الآخر ، أى معرفة الشرق عامة والشرق الإسلامى خاصة ، ومعرفة الشرق أو الشرقيين لا حذر منها ، ولكنهم سعوا إليها ويسعون بغرض فهم شعوبه أكثر ، ليتسنى لهم السيطرة والسيادة عليه ـ بأساليب غير الاحتلال المباشر ٤ ـ وذلك بإضعاف مثل الإسلام وقيمه العليا من جانب ، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر ، وإظهار أى دعوة للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر (٥).

__________________

١ ـ د. ساسى سالم الحاج : المرجع السابق ص ١٨٥.

٢ ـ محمد كرو على : الإسلام والحضارة العربية ج ١ ص ١٩٣٣ م.

٣ ـ د. أحمد سمايلوفتش : المصدر السابق ص ١٠٢.

٤ ـ أمام عجزهم عن تنصير المسلمين ، أذاعوا ونشروا المذاهب الفكرية الحديثة ، كالشيوعية ، والوجودية ، والدارونية ، والبراجماتية ، والوضعية المنطقية ...

٥ ـ د. عبد الكريم عثمان : معالم الثقافة الإسلامية ص ٩٩.

٢٧

كلمة في المنهج

إن المنهج الذى يتبعه جل المستشرقين في دراساتهم للإسلام عامة ، والوحى القرآنى خاصة يقوم على مسلمة ـ بالنسبة لهم ـ تلك هى : أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ليس نبيا يوحى إليه ، ثم يسيرون في هذا الاتجاه للتدليل على صحته ، ولا شك أن هذا حكم أو نتيجة وضعوها وحددوها قبل وضع المقدمات ، ومع هذا يحاولون إلباس مناهجهم ـ المدعاة ـ ثياب العلمية والمنهجية والموضوعية.

فالمستشرق الألمانى «رودى بارت» يقول : «... فنحن معشر المستشرقين ، عند ما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية والعلوم الإسلامية لا نقوم بها قط لكى نبرهن على ضعة العالم العربى الإسلامى ، بل على العكس ، نحن نبرهن على تقديرنا الخاص للعالم الذى يمثله الإسلام ومظاهره المختلفة والذى عبر عنه الأدب العربى كتابة. ونحن بطبيعة الحال لا نأخذ كل شىء ترويه المصادر على عواهنه دون أن نعمل فيه النظر ، بل نقيم وزنا فحسب لما يثبت أمام النقد التاريخى أو يبدو وكأنه يثبت أمامه ، ونحن في هذا نطبق على الإسلام وتاريخه ، وعلى المؤلفات العربية التى نشتغل بها المعيار النقدى نفسه الذى نطبقه على تاريخ الفكر عندنا وعلى المصادر المدونة لعالمنا نحن» (١).

ما ذهب إليه «بارت» لا غبار عليه ، إلا ما يبدو أنه خلط بين العقيدة الإسلامية والفكر الإسلامى فهل يصح وضع العقيدة بجوانبها الغيبية على محك البحث والنظر العقلى؟ والعقل البشرى ناقص ، وإذا أجاب بارت : بنعم. فهل يقبل أن نضع العقيدة النصرانية على نفس المحك؟ أم أن عقيدتهم من الغيبيات فلا تعرض على العقل ومن ثم يؤمن بها وهو مغمض العينين؟!

على كل حال «القوم يدرسون العلوم الإسلامية العربية ، ويضعون نظريات ويكونون آراء في أثناء ما يقومون به من دراسات ، ويهتمون بتقديم أدلة وأسانيد لهذه الآراء والنظريات ، يستمدونها من المراجع الإسلامية نفسها ، وهذا العمل في ظاهره عمل علمى سليم. ولكن عند الفحص الدقيق أثبت أن كثيرا منه مصنوع ، وكثيرا ما يكون الدافع إليه الرغبة في التجريح ، وتوهين العقيدة الدينية والشريعة الإسلامية» (٢).

يقول ليوبولد فايس (محمد أسد) : «... أما تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثة ، وخاصة طبيعية تقوم على المؤثرات التى خلفتها الحروب الصليبية ، بكل ما لها

__________________

١ ـ بارت : الدراسات العربية ... ص ١٠ مصدر سابق.

٢ ـ إبراهيم اللبان : المستشرقون والإسلام ص ٣٢ سنة ١٩٧٠ م.

٢٨

من ذيول ، فى عقل الأوربيين» (١).

ويعترف بعض المستشرقين بهذا الخلل المنهجى ، فيقول المستشرق مونتجمرى واط :

«أما أوسع الدراسات فهى دراسة كيتانى في كتابه (حوليات الإسلام) وليس من الصعب تصحيح مبالغاته في الشك ...» (٢). ولكن يبدو أن هذا الاعتراف من باب المداهنة ، لأنه وقع في نفس المحظور الذى عابه على كايتانى ـ على ما سوف نرى ـ.

يقول الدكتور جواد على : (كان كايتانى) «ذا رأى وفكرة ، وضع رأيه وكونه فى السيرة قبل الشروع في تدوينها فإذا شرع بها استعان بكل خبر من الأخبار ظفر به ، ضعيفها وقويها ، وتمسك بها كلها ولا سيما ما يلائم رأيه ولا يبالى بالخبر الضعيف بل قوّاه وسنّده وعده حجة وبنى حكمه عليه ، ومن يدرى فلعله كان يعلم بسلاسل الكذب المشهورة والمعروفة عند العلماء ولكنه عفا عنها وغض نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها لأنه صاحب فكرة يريد إثباتها بأية طريقة كانت ، وكيف يتمكن من إثباتها وإظهارها وتدوينها إذا ترك تلك الروايات ، وعالجها معالجة نقد وجرح وتعديل على أساليب البحث الحديث» (٣). إن الكثير من كتابات كثير من المستشرقين سارت على هذا النهج ، مدفوعة في أغلب الأحيان بآراء مسبقة وأفكار متصورة سبق أن اعتقدها المستشرق حول : ما ذا يجب أن يكون الإسلام ونبى الإسلام ، فضلا عن الضلال ، والكذب ، وادعاء العلمية والموضوعية.

يقول الدكتور عبد الرحمن بدوى عن المستشرق اليسوعى (هنرى لامانس) : وأبشع ما فعله خصوصا فى (كتابه فاطمة وبنات محمد) هو أنه كان يشير فى الهوامش إلى مراجع بصفحاتها. وقد راجعت معظم هذه الإشارات في الكتب التى أحال عليها ، فوجدت أنه إنما يشير إلى مواضع غير موجودة إطلاقا فى هذه الكتب.

أو يفهم النص فهما ملتويا خبيثا. أو يستخرج إلزامات بتعسف شديد يدل على فساد الذهن وخبث النية ، ولهذا ينبغى ألا يعتمد القارئ على إشارته إلى مراجع ، فإن معظمها تمويه وكذب وتعسف في فهم النصوص. ولا أعرف باحثا من بين المستشرقين المحدثين قد بلغ هذه المرتبة من التضليل وفساد النية (٤).

وهكذا نتبين أن منهج كلا من كايتانى ولامانس هو اللامنهجية ، إذ كيف يستقيم ادعاء التزام المناهج العلمية في تناول الإسلام مع هذا العبث؟ كيف يستقيم

__________________

١ ـ محمد أسد : الإسلام على مفترق الطرق ص ٦٠.

٢ ـ واط : محمد في مكة ص ٩.

٣ ـ د. جواد على : تاريخ العرب في الإسلام ١١٨ بيروت ١٩٨٣ م.

٤ ـ د. عبد الرحمن بدوى : موسوعة المستشرقين ص ٣٤٧ ـ ٣٤٩.

٢٩

هذا مع الأحكام الجزافية بتلفيق الأسانيد ووضعها لتأييد الآراء المسبقة؟

أما رأى الدكتور بدوى ، فله اعتباره لأنه صادر عن أستاذ ، باحث ، منهجى ، له باع طويل في الدراسات الإسلامية والاستشراقية.

وإلى سوء النية والقصد لدى بعض المستشرقين يشير «واط» فيقول «... وإذا حدث أن كانت بعض آراء العلماء الغربيين غير معقولة عند المسلمين ، فذلك لأن العلماء الغربيين لم يكونوا دائما مخلصين لمبادئهم العلمية ، وأن آراءهم يجب إعادة النظر فيها من وجهة النظر التاريخية الدقيقة (١).

ومع أن هذه شهادة من «واط» تستحق التقدير ، إلا أنه لم يستطع «الفكاك من نقاط الشد الأخرى التى تمسك بتلابيب العقل الغربى : النزوع العلمانى والمسلمات المادية والرؤية الوصفية ..» (٢).

المستشرق الموضوعى هو الذى يبدأ في عرض موضوع بحثه من وجهة نظر أهله وأتباعه كما يعتقدونه. فمثلا : القرآن بالنسبة للمسلم هو كلام الله ـ جل وعلا ـ الأزلى ، غير المخلوق ، أوحاه الله تعالى عن طريق جبريل الأمين إلى نبيه محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ومحمد ليس نبيا ورسولا فحسب وإنما خاتم الأنبياء. هكذا دون ما حذف أو إضافة ، ثم يعرض لرأيه إما بالموافقة أو بالمعارضة. المهم : يضع الحقيقة ـ من وجهة نظر المسلمين ـ مقترنة برأيه هو ، أمام القارئ فلا يمارس عليه ضغطا بتشويه ثم بوضع رأيه بمقتضى هذا التشويه.

«غير أن هذا المنهج المنطقى والطبيعى في العرض قلما يتبع ـ مع الأسف الشديد ـ إذ أن الحقائق كثيرا ما تحرّف فيتعرض القارئ نتيجة لذلك ـ إذا لم يكن على علم واسع ـ إلى شىء من الإيحاء برأى معين أو أنه يتعرض في الأقل إلى اختلاط في الأمور تجعله عاجزا عن التمييز بين الأصل المتوارث لدى جماعة المسلمين وبين رأى الكاتب. وهكذا نجد كثيرا من المستشرقين الذين يحمّلون غيرهم أعباء معارفهم الخاصة ، يهملون ملاحظة أية مبادئ أولية يفترضها المنهج العلمى في معالجة المسائل التاريخية ، فهم يؤكدون مثلا : أن القرآن من إنشاء محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، ثم يذهبون مذهبا بعيدا في تأسيس الأحكام التاريخية والعقيدية والأدبية وغيرها على هذا التأكيد ، وسرعان ما ترتفع هذه التأكيدات بمجرد التكرار إلى مرتبة الحقائق الثابتة (٣)».

__________________

١ ـ واط : السابق ص ٦.

٢ ـ د. عماد الدين خليل : السابق ص ٦٨.

٣ ـ د. طيباوى : المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ص ٢٩.

٣٠

لا شك أن هناك فرقا أساسيا بين العلوم المادية وبين العلوم الإنسانية ، فإن «كلا من الملحد والروحانى يتفقان على تحليل قطعة الصوديوم كلورايد (الملح) ولكن شتان بين رأييهما حول الذات الإنسانية» (١) ومن ثم تتباين مناهج هذه العلوم.

غير أن جل المستشرقين وقع في هذا الخطأ باعتبار أن مناهجهم (٢) تقوم على دراسة الظاهرة الفكرية كظاهرة مادية خالصة ، وكتاريخ خالص مكون من شخصيات وأنظمة اجتماعية وحوادث تاريخية محضة ، يمكن فهمها بتحليلها إلى عوامل مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية تحدد نشأتها وطبيعتها ، وهكذا تفقد الظاهرة طابعها المثالى ، وتنقطع عن أصلها في الوحى وتصبح ظاهرة مادية خالصة.

وسبب هذا الخطأ أن جل المستشرقين يهود ونصارى وهم ينكرون الوحى إلى نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فاليهود ينكرون الوحى إلى عيسى ومحمد ـ عليهما‌السلام ـ بينما النصارى ينكرونه إلى محمد ، وهذا في حد ذاته يعد حاجزا نفسيا.

أمام إرجاع ما يدرسونه من إسلاميات إلى أصولها في الكتاب والسنة ـ بل إن هذا الحاجز تأدى بهم إلى إرجاع الوحى القرآنى إلى نتاج تاريخى (٣).

من ناحية أخرى فإن المستشرق ابن بيئته التى تربى فيها ورضع لغتها وثقافتها ومناهجها. نقصد أن هذه المناهج جاءت بعد خيبة الأمل التى حصلت ـ لهم ـ من كشف أخطاء الموروث ـ عندهم ـ وكل مصدر سابق للمعرفة باسم الوحى أو الدين نتيجة تسلط الكنيسة باسم الدين وحدوث الخلاف بين العلم والدين في الغرب ، ثم الحملة على الدين بصفة عامة ـ مع أنهم لم يكونوا قد عرفوا الإسلام ـ مع أن الخلاف كان بين العلماء وبين تفسيرات دين الغرب.

وقد ترتب على ذلك ، فضلا عن الثقة المطلقة في المعرفة العقلية ، ظهور أو انتعاش المذاهب المادية وسيادتها بظهور المذهب الوضعى على يد أوجست كونت فى القرن التاسع عشر ، فأصبح ـ من وجهة نظرهم ـ كل فكر تاريخا ، وكل وحى أصبح من نتاج البيئة وفعل الأساطير وإسقاطات الشعوب (٤).

إن الصدام التقليدى بين الدين والعلم ـ فى أوربا ـ نتاج من نتاج القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وهما العصران اللذان ظهرت فيهما العلوم الحديثة. وبعد ظهور هذه

__________________

١ ـ ٧.p (١٩٦١) Mantheunknown : CarleL

٢ ـ اعتمدنا في هذا الجزء على كتاب : التراث والتجديد للدكتور حسن حنفى مكتبة الجديد. القاهرة.

٣ ـ د. حسن حنفى : التراث والتجديد ص ٨٠ ـ ٨٢ مكتبة الجديد القاهرة.

٤ ـ وحيد الدين خان : الدين في مواجهة العلم ص ٥٠ كتاب المختار الإسلامى القاهرة ١٩٧٨ م.

٣١

الاكتشافات الحديثة بدأ كثير من الأوربيين يظنون أنهم لم يعودوا بحاجة إلى الإيمان بالله. وهكذا أصبح «الإله» فى نظرهم فكرة غير ضرورية ، وكل فكرة غير ضرورية لا تقوم على أساس!. ولعله لا يغيب عنا مقالة نيتشه : لقد مات الإله الآن!!.

تأثر المستشرقون أو معظمهم بهذه الموجة المادية الإلحادية التى سادت أوربا ، فطبقوا المنهجية الوضعية على العلوم الإنسانية ، ومنها العلوم الإسلامية التى يلعب الوحى الدور الرئيسى فيها ، ومن ثم جاءت نتائج أبحاثهم فى الأعم خاطئة ، لعدم الدقة في اختيار المنهج وكيفية تطبيقه فضلا عن البون الشاسع بين بيئة المنهج المطبق وبيئة موضوع الدراسة بين بيئة المستشرق وبين بيئة الشرق الإسلامى.

وبذلك فقد المستشرق الشعور بالتعاطف مع موضوعه الذى يدرسه ، أو على الأقل نقول : فقد الحياد في التعامل معه ، لأن الصلة العقلية والعاطفية بين الباحث وموضوعه تماثل في الأقل تلك الصلة التى توجد بين القاضى العادل وبين الخصوم (١).

وترتيبا على هذا يقول الدكتور حسن حنفى «الاستشراق ليس جزءا من الحضارة الإسلامية ولا يرتبط بها ولا يفيد شيئا ، بل هو جزء من الحضارة الغربية يكشف عن تكوين الباحث الأوربى ومزاجه ، ويكشف عن حقيقة ما يسمى بالموضوعية أو العلمية ، كما يبين عمل شعور الباحث الأوربى في دراساته لحضارات أخرى غير حضارته ويعرض تحيزاته» (٢).

وإزاء هذه الالتواءات ، والانثناءات ، فى نشأة المنهج وتطبيقاته ، نتساءل : ما هذه المناهج التى يزعم المستشرقون التعويل عليها في كتاباتهم؟ وهل كلها صالحة لكل الموضوعات البحثية؟ بمعنى : هل مناهج العلوم الطبيعية صالحة للتطبيق على العلوم الإنسانية؟ وهل ما يصلح للعلوم الإنسانية يمكن إخضاع العلوم والمعارف الغيبية لها؟

بمعنى آخر : هل المنهج المتّبع يتطابق مع موضوع الدراسة؟ وإذا لم يكن فما مدى التزام المستشرق حين التطبيق؟

استخدم المستشرقون عدة مناهج في دراساتهم للإسلام : عقيدة وشريعة ، وفكرا وتاريخا .. منها : المنهج التاريخى ، والمنهج الإسقاطى ، ومنهج الأثر والتأثر.

١ ـ المنهج التاريخى :

هو عبارة عن وصف وتسجيل ما مضى من وقائع تاريخية أو اجتماعية ووضعها بجوار بعضها البعض وترتيبها ثم الإخبار عنها والتعريف بها باعتبارها الظاهرة الفكرية

__________________

١ ـ د. طيباوى : السابق ص ٦١.

٢ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٨٣.

٣٢

ذاتها. وليس المنهج التاريخى مقتصرا على دراسة علم التاريخ فحسب ، بل له استخداماته في مجالات العلوم الطبيعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. والمنهج التاريخى ليس منهجا وصفيا وحسب أو لا يقف عند مجرد الوصف ، وإنما يدرس ظاهرة ما كالظاهرة السياسية ويحللها ويفسرها على أسس منهجية علمية دقيقة ، بقصد التواصل إلى حقائق تساعد على فهم الماضى والحاضر.

من المعروف أن البيئة الثقافية الغربية تنسب الأفكار والمذاهب إلى قائليها ، كالديكارتية إلى ديكارت ، والكانطية إلى كانط ، والهجلية إلى هيجل ، والماركسية إلى ماركس ، حتى انعكس ذلك أيضا على الدين فالمسيحية تنسب إلى المسيح.

ظن المستشرق أن كل حضارة لا بد وقد نشأت بالضرورة على نمط الحضارة الغربية ، فيصنفون مفكرى الإسلام كالغزالى ، والأشعرى ، وابن تيمية باعتبارهم أصحاب مدارس تماما كما يفعلون في بيئتهم الغربية ، فيشيرون إلى الغزالية والأشعرية و... وكما نسبوا الدين إلى المسيح ، يقولون : المحمدية أو المذهب المحمدى ، وعند ما يتكلمون عن محمد ـ «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» يقولون : إنه كان تاجرا كبيرا وناجحا (١) ، وعند ما يتناولون دعوته يقولون : إنها جاءت للانقضاض على الأرستقراطية القرشية.

والمستشرق ـ فى ضوء المنهج التاريخى ـ عند ما ينسب الأفكار إلى الذين صاغوها يهدف من وراء ذلك إلى القول : بأن هذه الأفكار وهذه العلوم نشأت أساسا من هؤلاء الأشخاص. بينما في الإسلام : المفكر المسلم عارض ومحلل ومفسر لتيارات فكرية تتخلله ، فهناك علوم عامة تنشأ من الوحى وتحولت إلى حضارة.

المقصود أن واقع المؤلف وفكره يلزمانه اللجوء إلى النصوص الموحى بها خشية أن يستبدل الناس الحضارة بالوحى ، وترك الأصول وأخذ الفروع.

أما في الغرب ـ فكما قلنا ـ فينسب الفكر إلى قائله «وقد يكون هدف المستشرق من نسبة الفكر إلى القائل به هو إثبات جدب الحضارة ، وصمت الوحى ، وأنه لو لا الفيلسوف أو العالم لما ظهر الفكر ، فالإنسان هو خالق الفكر وليس الوحى هو مصدر الفكر ، فإذا كان هؤلاء المفكرين والعلماء معظمهم غير عرب وإن كانوا مسلمين ، فإن المستشرق بذلك يكون قد حقق هدفه من إثبات نظرته القومية على الحضارة الإسلامية وإرجاع الإبداع إلى الخصائص القومية للحضارة وحتى لا تكون هى الحضارة العربية» (٢).

__________________

١ ـ واط : محمد في مكة.

٢ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٩٠ ـ ٩١

٣٣

ولكن المستشرق غفل أن العمل الفكرى في تراثنا عملا جماعيا ، لم يحدث باجتماع المفكرين معا في حلقة بحث واحدة ، بل عمل جماعى قامت به الحضارة الناشئة من مركز واحد وهو الوحى ، وكأن الوحى المتحول إلى حضارة هو الذى يضفى على المؤلفين من وحدتهم ، ويجعلهم جميعا وسائل يظهر هو فيها من خلالهم.

هدف الباحث ـ المسلم ـ إذن ليس الإخبار والتعريف بل إرجاع الظواهر الفكرية إلى أصولها الأولى التى خرجت منها ـ الكتاب والسنة ـ لمعرفة كيفية خروجها منها ومحاولة العثور على منهج أو مناهج دائمة ومتكررة يمكن بواسطتها العثور على منهج إسلامى عام.

أما الفهم الغربى للمنهج التاريخى ، فإنه «يقضى على وحدة الظاهرة واستقلالها.

ويرجعها إلى عناصر مادية وإلى عوامل تاريخية مع أن هذه العناصر المادية إن هى إلا عوامل للفكر وليست مصدرا لموضوعاته فالطبيعة لا تنتج فكرا» (١).

هذه كلها تفعل فعلها في حقل الدراسة الاستشراقية وتمسك بتلابيب الباحث ، فلا يستطيع منها فكاكا ، فضلا عما تفرضه مكونات البيئة في الزمان والمكان من مؤشرات قد تصلح لهذا القرن ولكنها لا تصلح البتة لقرن مضى أو واقعة تاريخية سبق وأن تخلقت في بيئة أخرى .. فى مكان آخر وزمان غير الزمان. وهى مؤشرات قد تكون كذلك خاطئة أو مضلّلة ، لكن المستشرق ، ابن القرن العشرين يتشبث بها ويعض عليها بالنواجز معتقدا أنها مفاتيح الحل ومفردات المنهج العلمى السليم (٢).

استخدم الأوربيون المنهج التاريخى لدراسة المسيحية ودراسة المؤثرات الخارجية على نصها الدينى ، كالبابلية والأشورية والفنوصية ، ويبيح هذا المنهج للباحث الكشف عن العناصر الأساسية التى ساعدت على تكوين المسيحية الأولى ـ عهد بولس ـ ، وعند ما يطبق المستشرق هذا المنهج على الظواهر الفكرية الإسلامية ـ والتى هى فى حقيقتها ليست مادية ، أى أنها موضوعات مستقلة وليست موضوعات تاريخية ـ تأتى نتائجه غير صحيحة لأنه يحيل كل شىء إلى ظواهر تاريخية ، وطبقا لهذا المنهج ينكرون نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ويصنفونه مع حكماء الفرس وذلك عند ما يعقدون المقابلات بينه وبين زرادشت ومانى. وهكذا يصبح هذا المنهج أداة لمحو نبوة محمد وتفسيرها ضمن النبوءات الأخرى التاريخية. وهو بذلك يقوم على فكرة مسبقة

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٩٤.

٢ ـ د. عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة ، ص ٦٦ مصدر سابق.

٣٤

وعلى تميز حضارى وتعصب دينى (١).

وإذا كان هذا المنهج التاريخى يمارس بصراحة إمبريالية على التاريخ ، يبرز ما يريد ويقمع ما يريد ، فإن المناهج الأخرى التى تختلف ـ والتى سنعرض لبعضها بعد قليل ـ لم تكن تمس أبدا الإطار الذى قام هذا المنهج من أجل تشييده وتقويته ، إطار المركزية الأوربية بوصفها مرجعا لكل شىء يقع خارج أوربا (٢).

والمنهج التاريخى إذا أريد له النجاح في تناول السيرة فإن ذلك يقتضى ثلاثة شروط :

أولها : .. احترام المصدر الغيبى لرسالة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وحقيقة الوحى الذى تقوم عليه.

ثانيها : اعتماد موقف موضوعى بغير حكم مسبق يعرقل عملية الفهم.

ثالثها : تقنية تتمثل في الإحاطة جيدا بأدوات البحث التاريخى بدءا باللغة وجمع المادة الأولية وانتهاء بطرق المقارنة والموازنة والنقد والتركيب ...» (٣).

٢ ـ المنهج التحليلى (٤) :

يقوم المنهج التحليلى على تفتيت الظاهرة الفكرية إلى مجموعة من العناصر يتم التأليف بينها في حزمة لا متجانسة من الوقائع أو العوامل التى أنشأتها. بمعنى أنه إذا كان المنهج التاريخى يقوم باستبدال واقعة مادية بالظاهرية الفكرية ، فإن المنهج التحليلى يقوم بعد ذلك بتفتيت هذه الظاهرة وردها إلى عناصرها الأولية ، كأن تكون ظروفا اجتماعية أو سياسية أو دينية.

وطبقا لهذا المنهج وهذه الخطوة يصبح العنصر الدينى مع أنه الدافع الأول لتكوين الظاهرة عنصرا مساعدا لبقية العناصر ، ضامرا ، متقوقعا.

وهذا المنهج مخالف لطبيعة الظاهرة الفكرية المدروسة التى تكونت أساسا من تحويل النص الموحى به إلى معنى والمعنى إلى بناء نظرى. لأن فكرة العوامل التى تحدد تكوين الظاهرة وتتحكم فيها ، وفكرة العناصر التى تتكون منها مادة الظاهرة لا يمكن أن تساعد على فهم الظاهرة الفكرية التى نشأت طبقا لمنهج التفسير في تفسير النصوص ، أى طبقا لمنطق في فهم الوحى ، وحسب منطق عقلى آخر حدد طبيعة

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : دراسات إسلامية ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨ دار التنوير ١٩٨٢ م ، د. ساسى سالم الحاج : الظاهرة الاستشراقية ... ج ١ ص ٢٠١.

٢ ـ د. محمد عابد الجابرى : الرؤية الاستشراقية في الفلسفة الإسلامية (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية) ج ١ ص ٣١٩.

٣ ـ د. عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة ... ص ٨ مصدر سابق.

٤ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٩٧ ـ ١٠١.

٣٥

البناء النظرى للظاهرة الفكرية الناشئة من تحول الوحى إلى حضارة ليست ظاهرة مركبة تركيبا صناعيا من عناصر ووقائع مادية أنشأتها عوامل تاريخية ، فالظاهرة الفكرية هنا امتداد للنص الدينى (١).

وقد عارض المستشرق السويدى «تور أندريه TorAndrac» صاحب كتاب (محمد حياته وعقيدته) هذا المنهج العقيم الذى سلكه بعض المستشرقين في البحث ، مبينا أن جوهر النبوة ، لا يمكن تحليله إلى مجموعة من آلاف العناصر الجزئية ، ويرى أن مهمة الباحث : أن يدرك في نظرة موضوعية كيف تتألف من العناصر والمؤثرات المختلفة وحدة جديدة أصيلة تنبض بالحياة (٢).

ومنهج تفتيت الظواهر إلى جزيئات لا يمكن أن تكون منهجا عاما متفقا عليه ، لأنه نابع من عقلية الباحث الغربى ومزاجه وثقافته وبيئته وطبيعة الدين الذى نشأ فيه. ومن هنا يتضح خطأ المستشرق حين يطبق هذا المنهج ـ الإقليمى أو المحلى ـ على الظاهرة الدينية الإسلامية.

أما المسيحية ، فطبقا لها يمكن تقسيم الظاهرة إلى عوامل دينية وأخرى غير دينية ، وذلك لأن الدين المسيحى لا ينظم إلا الجانب الروحى ، أما الجوانب المادية التى تتضمن ، عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية فلا شأن للدين بها.

ومن أخطاء المستشرقين ـ أيضا ـ فى تطبيق هذا المنهج على النبوة والوحى ، والقرآن والسيرة ... :

١ ـ أنه قد يلجأ إليه عامدا للقضاء على الطابع الكلى الشامل وهو أهم ما يميز الحضارة الإسلامية التى قامت ـ أيضا ـ على وحى كلى شامل.

٢ ـ قد يلجأ إليه بطريقة لا شعورية ، عن رغبة دفينة في الهدم والقضاء على الظاهرة.

٣ ـ قد يلجأ إليه حتى يمكن رد كل جزء إلى أجزاء شبيهه في حضارات معاصرة ، ومن ثم يكون التحليل مقدمة لإثبات الأثر الخارجى وتفريغ الظاهرة ـ الوحى والنبوة ـ من مضمونها الأصيل.

وأخيرا فإن نظرة المستشرقين إلى هذا المنهج ـ نتاج الفكر الاستشراقى الغربى على أنه منهج عام وشامل ، يمكن تطبيقه على أى دراسة إنسانية ، كدراساتهم للإسلام ،

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٩٧.

٢ ـ محمد كامل عياد : مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ج ٤ ص ٧٩٧ ، ١٩٦٩ م.

٣٦

هذه النظرة أدت بهم إلى أخطاء جسيمة كإصدار أحكام عامة على الحضارة الإسلامية بالجدب ، وعلى الدين بالجمود ، وعلى الوحى بالاضطراب والاختلاط وعلى التوحيد بالتجريد ، وعلى العقائد بالقضاء والقدر وعلى الشعوب بالتخلف (١)

٣ ـ المنهج الإسقاطى :

منهج التصورات والانطباعات الزائفة عن موضوع البحث ، والتى تنشأ من خضوع المستشرق لهواه وعدم استطاعته التخلص من الانطباعات التى تركتها بيئته لديه بيئته الثقافية المعينة ـ مع أن التحرر من الأحكام المسبقة العقلية والانفعالية معا هو الشرط الأول للبحث العلمى ـ.

هذه الانطباعات والتصورات والأحكام المسبقة تؤدى بالباحث ـ المستشرق ـ إلى أخطاء جسيمة : فالظاهرة الموجودة بالفعل بما أنها لا توجد كصورة عقلية في ذهنه فإنه يحكم عليها بالنفى. والظاهرة التى لا وجود لها بالفعل ولكنها توجد كصورة ذهنية عند المستشرق فإنه يحكم عليها بالوجود الفعلى (٢).

ومعنى هذا أن أصحاب هذا المنهج من المستشرقين : يعينون لهم غاية ويقررون فى أنفسهم تحقيق تلك الغاية بكل طريق ، ثم يقومون لها بجمع معلومات من كل رطب ويابس ... وإن كانت هذه المواد تافهة لا قيمة لها ، ويقدمونها بعد التمويه بكل جراءة ، ويبنون عليها نظرية لا يكون لها وجود إلا في نفوسهم وأذهانهم (٣).

وطبقا لهذا المنهج فإن الباحث يصدر أحكاما قيمة يعلى فيها من شأن الصور الموجودة في ذهنه ، ويقلل من شأن الموضوعات المدركة بالفعل.

وبتطبيق هذا المنهج على الدراسات الإسلامية فإن المستشرق يسقط تصوره للمسيحية على الإسلام ، فتصبح المسيحية المتصورة هى الإسلام في الواقع ، والإسلام الحقيقى منفى ، فلا وجود له ، كأن يسمى الإسلام بالمحمدية كما تنسب المسيحية للمسيح ، والبوذية لبوذا ، وكثيرا ما تحدث المستشرقون على الكنيسة الإسلامية أو السلطة الدينية وعلاقتها بالدولة ، أو اتهام التوحيد الإسلامى بأنه تجريد خالص ، والحكم على التنزيه بأنه تجريد إسقاط من التجسيم والتشبيه الذى تعج بهما اليهودية والنصرانية.

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ١٠٠ ـ ١٠١.

٢ ـ د. حسن حنفى : السابق ١٠١.

٣ ـ أبو الحسن الندوى : الإسلام والمستشرقون ص ٢٠ ط ندوة العلماء لكنهؤ. الهند ، وأنظر د. محمد الدسوقى : الفكر الاستشراقى في ميزان النقد العلمى ص ١٠٨ الكتاب الدورى لقسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة. العدد الأول ١٤١٣ ه‍.

٣٧

وواضح أن كل حكم نفى يقوم به المستشرق يقوم على نفى لما لا يوجد في ذهنه ، وكل حكم إيجاب يقوم على إثبات لما يقوم في ذهنه (١).

يشير المستشرق الفرنسى بوكاى إلى تطبيقات هذه المناهج لدى بعض المستشرقين بقوله : «إن الأحكام المغلوطة تماما التى تصدر في الغرب عن الإسلام ناتجة عن الجهل حينا وعن التسفيه العامد حينا آخر ، ولكن أخطر الأباطيل المنتشرة تلك التى تخص الأمور الفعلية ، وإذا كنا نستطيع أن نغفر لأخطاء خاصة بالتقدير فإننا لا نستطيع أن نغفر لتقديم الوقائع بشكل ينافى الحقيقة».

ويسوق بوكاى مثالا على ذلك : فى دائرة المعارف أونيفر ساليس الجزء السادس تحت عنوان «الأناجيل» يقول المؤلف : (إن المبشرين ـ لا يدّعون ـ كما يفعل القرآن ـ نقل سيرة ذاتية أملاها الله بشكل معجز على محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم»). وحقيقة الأمر ألا صلة بين القرآن وما يسميه المؤلف : بالسيرة الذاتية. القرآن رسالة. ولو كان المؤلف قد استعان حتى بأسوإ ترجمة للقرآن لثبت له ذلك. إن الدعوى تنافى الواقع هى الأخرى .. إن المسئول عن هذه الأكذوبة الخاصة بالقرآن أستاذ بجامعة اليسوعيين اللاهوتية بمدينة ليون. إن نشر أكاذيب من هذا النوع يساهم في إعطاء صورة زائفة عن القرآن والإسلام» (٢).

وعلى ذلك يمكن القول بأن الإسقاط خطأ في الإدراك يجعل المستشرق في عزلة ذهنية ، ويضعه في موقف نرجسى خالص.

والإسقاط بهذه الصورة لا يؤسس منهجا ولا يعطى رؤية لأنه إسقاط لهوى أو مصلحة أو صورة ذهنية بيئية هى الذاتية عند ما تتوقف عن أداء دورها في كشف الموضوع (٣).

٤ ـ منهج الأثر والتأثر :

المفهوم المستقيم لهذا المنهج هو : أن تبادل الآراء قديما وحديثا ، والتفاعل والتأثير والتأثر بين الناس ، وبين العلماء سنة اجتماعية لا يمكن انكارها.

ولكننا في ضوء هذا المفهوم ننبه إلى أمرين :

١ ـ الاستفادة ـ نتيجة التأثر والأثر ـ شىء وإنشاء مذهب مستقل شىء آخر.

٢ ـ أن التأثر ينطبق على الفكر البشرى فهذه طبيعته ، يؤثر ويتأثر وذلك لمحدودية

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ١٠٤.

٢ ـ موريس بوكاى : دراسة الكتب المقدسة ... ص ١٣٥ مصدر سابق.

٣ ـ د. حسن حنفى : السابق.

٣٨

المعرفة البشرية المحصورة في الحس والعقل.

أما طور ما وراءهما ، نقصد الوحى ، والمعرفة الآتية من قبله ، فلا تتأثر بشيء ، باعتبار مصدرها الإلهى ، فهى معرفة فوق الزمان والمكان مؤثرة غير متأثرة.

أما منهج الأثر والتأثر عند نفر من المستشرقين فإنه يقوم على نزعة التعالى والترفع والعلمنة ، لاعتقادهم أن الحضارة اليونانية ـ وحضارتهم الأوربية امتداد لها ـ هى أصل الحضارات ، ومن ثم فهى المؤثرة دائما ، وكل شىء يرد إليها.

فلما رأى المستشرق أن حضارته الغربية ما هى إلا مردود للحضارة اليونانية ، متأثرة بها كل التأثر ظن أن كل الحضارات كذلك لا بدّ آخذة من اليونان ، مردودة إلى حضارتهم. فى حين لو أنه قارن مقارنة موضوعية منصفة بين الفكر الإسلامى ، والحضارة اليونانية لوجد أن ما بينهما كانت علاقة رفض أكثر منها علاقة قبول (١). وخطأ المستشرق ـ أيضا ـ ناتج عن تصور العلاقة بين الثقافات على أنها أحادية الطرف ، الأولى معطية منتجة مبدعة وهى الثقافة الأوربية ، والثانية مستقبلة ـ دائما ـ مجدبة فارغة ، خاوية وهى الثقافة غير الأوربية (٢).

ولو أنصف المستشرق لعلم أن هيرودت وأفلاطون قد زارا مصر ، وتأثرا بالحضارة الفرعونية ، كما أن انطباعات فيثاغورث عن الشرق غير خافية في فلسفته.

بعض المستشرقين يتجاهلون الثوابت التاريخية ، وينكرون الجميل ـ إذا صح التعبير ـ ويقابلون الحسنة بالسيئة ، من الثابت أن أوربا تأثرت بالحضارة الإسلامية تأثرا عظيما ، يقول «جوستاف لوبون» : «كان الشرق يتمتع بحضارة زاهرة بفضل العرب (٣) ، وأما الغرب فكان غارقا في بحر من الهمجية ، ولم يكن عند أولئك البرابرة ـ يقصد الحملات الصليبية على ديار الإسلام ـ ما يفيد الشرق ولم ينتفع الشرق منهم بشيء في الحقيقة ، ولم يكن للحروب الصليبية عند أهل الشرق من النتائج سوى بذرها في قلوبهم الازدراء للغربيين على مر الأجيال» (٤).

التبادل إذن ليس أحادى ، بل العكس كانت الحضارة الإسلامية هى الأصل وهى النبع.

وتطبيقات هذه الفئة من المستشرقين لهذا المنهج على الإسلام وعلومه تكمل عملية الهدم التى مارسها المنهج التاريخى ، والمنهج التحليلى وكذلك المنهج الإسقاطى.

__________________

١ ـ د حسن حنفى : السابق ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

٢ ـ د حسن حنفى : السابق ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

٣ ـ بل قل بفضل المسلمين.

٤ ـ جوستاف لوبون : حضارة العرب ص ٣٣٤.

٣٩

فبعد أن يقوم المنهج التاريخى بمهمة الفصم بين مصدر الظاهرة الفكرية وهو النص الدينى وبين هذه الظاهرة نفسها ، مرجعا إياها إلى مصدر تاريخى محض ، وبعد أن يقوم المنهج التحليلى بمهمة تفتيت الظاهرة الفكرية إلى آلاف العناصر والجزئيات ، وبعد أن يقوم المنهج الإسقاطى بمهمة سد اعتبار الوجود الذهنى للظاهرة دون الوجود الفعلى ، يقوم منهج الأثر والتأثر بالقضاء التام على ما تبقى من الظاهرة مفرغا إياها من مضمونها ، ومرجعا إياها إلى مصادر خارجية ، دون وضع أى منطلق سابق لمفهوم الأثر والتأثر ، بل بإصدار هذا الحكم دائما بمجرد وجود اتصال بين بيئتين ثقافيتين وظهور تشابه بينهما.

وغفل المستشرق أن هذا التشابه قد يكون كاذبا وقد يكون حقيقيا ، وقد يكون لفظيا ، وقد يكون معنويا (١).

وطبقا لمنهج الأثر والتأثر فإن المسيحية «مسيحية بولس» (٢) تنهار من أساسها ، لأن أصولها التى قامت عليها هى هى الأصول التى كانت في الديانات الوثنية ، لذلك شكك كثير من الباحثين الأوربيين في حياة المسيح ـ عليه‌السلام ـ لأنهم وجدوها صورة من الآلهة الوثنية القديمة مثل : مثرا ، وأودنيس ، وإيزيس ، وبوذا ... وكلها آلهة متشابهة. ومسيحية بولس خلعت صفاتها على المسيح (!).

يقول الأب بولس إلياس اليسوع : «لقد لقحت الكنيسة الفكر الوثنى المسيحى ، فحمل مرسلوها إلى اليونان حكمة التوراة وآداب الإنجيل ، وأخذوا منهم وضوح التعبير ودقة التفكير ، فنتج عن ذلك التلاقح تراث جديد نقلوه إلى روما ، ولقد احترمت الكنيسة تعاليم الشعوب وحافظت على تنوع الطقوس في مختلف الطوائف ، فما فرضت صيغة موحدة لصلاة ...» ثم يستطرد قائلا : «إنه في مفتتح القرن السابع الميلادى ، كتب البابا (غريغوريوس) ... إلى القديس (أوغطينوس) أسقف (كنتربرى) ببريطانيا ، يقول : دع البريطانيين وعاداتهم وابق لهم أعيادهم الوثنية واكتف بتنصير تلك الأعياد والعوائد واضعا إله المسيحيين موضع آلهة الوثنيين ..» (٣). فكان تطعيم وكان مزج بين المسيحية والوثنية ، نزولا على حكم الأخيرة في عباداتها وصلاتها

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ١٠٤ ـ ١٠٥.

٢ ـ دخل بولس المسيحية بعقلية مصبوغة بالصبغة الهيلنية ، محشوة بمعلومات وعقائد وثنية فأفرغها فى مسيحية جديدة.

٣ ـ الأب بولس إلياس كتاب يسوع المسيح ص ١٩٩.

د. محمد أبو الغيط الفرت : تحقيق تاريخ الأناجيل ... ص ٦١ ـ ٦٢ مجلة كلية أصول الدين ع. لأول ١٣٩٧ ه‍ ـ ١٣٩٨ ه‍. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

٤٠