الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

دكتور محمود ماضي

الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

المؤلف:

دكتور محمود ماضي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 253-070-8
الصفحات: ١٨٨

واضح أن شك «واط» يقوم على دليل ، غير أنه ليس إسلاميا ، فمراجعنا المعتبرة ، والموثوق فيها ، مشكوك فيها عنده ، دليله هنا نصرانى من بنى جلدته ، خصم لنا ، «كاتيانى» فى حولياته ، لذلك فهو موثق عنده ، ولكننا نسأل المستشرق ، العالم ، المحايد ـ فيما زعم ـ هل يجوز للعالم الباحث ، المحايد أن يعتمد على مصادر الخصم للوصول إلى نتيجة سلبية ، خاصة وأن الخصم غير حيادى؟ لقد أسقط الإسلام شهادة الخصم على خصمه.

إن المقدمة الكبرى لدى الاستشراق هى بطلان نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وكل أبحاثهم إنما هى للتوفيق بين الدلائل التاريخية الناصعة على صدقه وبين مقدمتهم تلك ، من أجل ذلك انتهجوا التشكيك في حقائق التاريخ التى لا تتلاءم مع مقدمتهم.

والحقيقة أن المستشرق «واط» يقول ما لا يفعل فهو يزعم الحيدة والموضوعية والبعد عن الإساءة إلى مشاعر المسلمين ، فضلا عن تناقضه هو وليس علماء الإسلام ، فهو في الوقت الذى يوجه فيه اللوم الشديد ل «كايتانى» بسبب نزعته الشكية المبالغ فيها ، فيقول : «وليس من الصعب تصحيح مبالغاته في الشك» (١) فى نفس الوقت يعول عليه كمصدر موثوق فيه.

ليس هذا فقط ولكنه هو الآخر ـ وكما رأينا ـ مارس «نوعا من المبالغة فى شكوكه ، ونفيه الكيفى ... ونفيه للعديد من معطيات السيرة عبر عصرها المكى» (٢).

ويبدو أن «واط» أدرك تهافت شكوكه الأخيرة أمام الحقائق التاريخية ، فلجأ إلى فرض الفروض ، وهو منهج علمى بشرط أن يقوم الدليل عليه سلبا أو إيجابا فهل فعل ذلك «واط»؟ لنر.

يقول : «لا شك أن المقطع القرآنى ، حين ردده محمد ، قد ذكره بما هو مدين به لورقة» (٣).

أى مقطع قرآنى هذا الذى ذكر محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أنه مدين به لورقة؟ يجيب الكاتب بأنه : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [سورة : العلق].

لو قرأ أى باحث محايد هذا الكلام في أصح الكتب لنسب قائله إلى التحامل المغالى فيه وإلى الوهم أثبتنا ـ وأثبت علماؤنا ـ أن لقاء ورقة بمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كان اللقاء الأول والأخير ، الأول أفادته النصوص ـ التى أوردناها ـ القاطعة ، والأخير لأن

__________________

١ ـ محمد في مكة ص ٩.

٢ ـ د. عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة النبوية ص ٦٤.

٣ ـ محمد في مكة ص ٩٣.

١٢١

حياة ورقة لم تدم طويلا بعد ذلك.

ولكن المستشرق ينطلق من المقدمة التى أشرنا إليها من قبل وهى إنكار نبوة محمد ، وينتهى إلى نتيجة يراها مؤكدة ، استدلالات «واط» هكذا :

«محمد عقد صلات مستمرة مع ورقة منذ وقت مبكر وتعلم أشياء كثيرة» (١).

«تأثرت التعاليم الإسلامية ـ التى جاء بها محمد ـ اللاحقة كثيرا بأفكار ورقة» (٢).

ساق «واط» مقدمته على أنها مسلمة ـ فى حين أنها كاذبة وباطلة ، وبنى عليها نتيجة يظن أنها صادقة ، ونسى أنه إذا كانت إحدى المقدمات كاذبة كانت النتيجة كاذبة بالضرورة.

__________________

١ ـ محمد في مكة ص ٩٣.

٢ ـ محمد في مكة ص ٩٣.

١٢٢

المبحث الثالث

الوحى النفسى

كما انتهى بعض المستشرقين ، وزعيمهم في الوقت المعاصر «واط» إلى التشكيك في أمية نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لا بد له كتاجر ناجح أن يكون قد تعلم شيئا من الفنون والعلوم التى كانت منتشرة في مكة وما حولها. نقول : انتهوا كذلك إلى أنه لا شك قد تتلمذ على العالم الذى تنصر أخيرا ورقة بن نوفل وعقد معه لقاءات كثيرة ومتعددة. وقد كشفنا عن زيف هذه الادعاءات بالوثائق المعتبرة. فضلا عن الواقع التاريخى الذى يكذب ما افتروه وروجوا له.

وكما قلنا : لا نطالب هؤلاء أن يكونوا مسلمين أو كالباحث المسلم ، وإنما نطالبهم بالتعامل مع النصوص الشاهدة بحيدة وموضوعية ، أما أن يدع المستشرق معتقده ـ يهودية أو نصرانية أو علمانية مادية ملحدة ـ ولغته والرواسب السياسية الحاقدة ، تتحكم في بحثه وتوجهه ، فهذا كفيل باخراجه من دائرة الأبحاث العلمية المعتبرة والمستشرقون أو معظمهم يثيرون الشبهة ، ولعدم ثقتهم أنها تزعزع إيمان المسلم يبحثون في مخيلاتهم عن شبهة أخرى وهكذا ... والشبهة التى نعرض لها الآن ما يسمونه : بالوحى النفسى :

ويعنون به : أن القرآن فيض من خاطر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو انطباع لإلهامه ، أى أنه ناتج عن تأملاته الشخصية ، وخواطره الفكرية ، وسبحاته الروحية.

ولغ «درمنغام» فى هذه الشبهة ، فذهب يصور الحالة النفسية لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثناء تحنثه في غار حراء ، والانطباعات النفسية التى تركتها مشاهداته وتأملاته وسبحاته.

يقول : وهذه النجوم في ليالى صيف الصحراء كثيرة شديدة البريق حتى ليحسب الإنسان أنه يسمع بصيص ضوئها. وكأنه نفح نار موقدة :

«حقا إن في السماء لشارات للمدركين ، وفي العالم غيب ـ بل العالم غيب كله ـ لكن ألا يكفى أن يفتح الانسان عينيه ليرى ، وأن يرهف أذنه ليسمع؟ ليرى الحق ، وليسمع الكلم الخالد؟ لكن للناس عيونا لا ترى ، وآذانا لا تسمع ، أما هو ـ أى محمد ـ فيحسب أنه يسمع ويرى. وهل تحتاج لكى تسمع ما وراء السماء من أصوات إلا إلى قلب خالص ، ونفس مخلصة. وفؤاد ملىء إيمانا» (١).

__________________

١ ـ الشيخ رشيد رضا : الوحى المحمدى ص ٨٠ القاهرة ١٣٨٠ ه‍ ـ ١٩٦٠ م.

١٢٣

المستشرق هنا يخلط خلطا مفضوحا بين الوحى وحديث النفس ولا أظنه غير فاهم ، ولكنه يتعمد ، فقد أثبتنا ـ فيما مر ـ أن دلالات النبوة واحدة. وقد انطبقت على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدر انطباقها على موسى وعيسى عليهما‌السلام ـ بل أزيد ـ فما الذى يجعل مثل هذا المستشرق يقف ليصف لنا شاعرا أو فنانا عبقريا والنبوة ليست من هذا القبيل؟

يستطرد درمنغام قائلا : «... وهناك ـ فى غار حراء ـ كان يقلب في صحف ذهنه كل ما وعى (!) ... وهو لم يكن يطمع في أن يجد في قصص الأحبار وفى كتب الرهبان الحق الذى ينشده ، بل في هذا الكون المحيط ... فلما كانت سنة ٦١٠ م كانت الحالة النفسية التى يعانيها محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» على أشدها ... ووجد في غار حراء مسرة تزاد كل يوم عمقا ... وروحه تزداد بالصوم والسهر والإدمان على تقليب فكرته صفاء وحدة. ونسى الليل والنهار ، والحلم واليقظة ... وكأنه يسمع الأصوات تخرج من خلال أحجار الصحراء تناديه مؤمنة برسالته ... وفيما هو يوما نائم ـ «لاحظ» ـ بالغار جاءه ملك فقال له : اقرأ. قال : ما أنا بقارئ ، وكان هذا أول الوحى وأول النبوة» (١) بعض المستشرقين يقول بأن محمدا تأثر بالعناصر الأجنبية التى كانت سائدة فى مكة وما حولها ـ وسوف نفند هذا الزعم بعد ـ ودرمنغام ـ هنا ـ أيد هذا الزعم إلا أنه أضاف : أن محمدا لم يجد في هذه الكتب ـ التى كانت متداولة بين مدارس وجامعات مكة ـ ما ترنو إليه نفسه وترومه ، فعكف على التأمل ، والتأمل العميق فيما حوله ، حتى نسى كل شىء ، لم يفرق بين ليل ونهار ولا سماء ولا أرض (!) حتى خيل إليه أنه يسمع أصواتا وليس هناك أصوات ، ويرى أشباحا ـ وليس هناك أشباح ، فنام ، فجاءه جبريل وقال له اقرأ ... وهذا أول الوحى وأول النبوة.

ما ذا يريد المسلمون أكثر من هذا المستشرق يعترف بأن النبى جاءه جبريل وقال له : اقرأ. كما جاء في مصادرنا المعتبرة ، ولكن هذا كله حدث والنبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» شارد أو مغيب عن الوعى أو نائم.

يريد درمنغام أن يقول : القرآن فيض وجدان محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وصورة من انطباع نفسه بما كان يدور حوله وأمام عينيه ، والوحى في رأى هذا المستشرق ليس إلا وحيا من داخل نفس الرسول لا من مصدر خارجى ، أى من العقل الباطن لا من رب العالمين.

«درمنغام» يردد كلاما جاء على لسان فيلسوف لا يؤمن بإله ولا ينبوه ، فأنزل

__________________

١ ـ المصدر السابق.

١٢٤

النبوة منزلة الهلوسة وحديث النفس ، ذلك هو «أرسطو» الذى ذهب إلى أن الجسد سجن النفس ، وأن الإنسان أى إنسان ، إذا أجاع الجسد وأمرضه ، انطلقت نفسه وعندها تتصل بالعالم العلوى فتسمع أصواتا وترى أشباحا ... هذه نظرية النبوة عند الإغريق. والمستشرق ، تبنى هذه الأفكار وأسقطها على محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ومع هذا كله ، ـ والكفيل بإسقاط هذا الكلام ـ نسأل من أين أتى درمنغام بهذه السيرة المدعاة لنبينا؟ هل بين يديه مصادر غير التى بين أيدينا؟

حديث بدء الوحى عرضنا له في الصفات السابقة ليس فيه شىء من هذا التجنى المفضوح ، أما ردنا على درمنغام فيتلخص في الآتى :

١ ـ النبوة اصطفاء ، واجتباء ، ليست عملا كسبيا (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج : ٧٥].

٢ ـ لو كانت النبوة أمرا كان يرجوه محمد ويتوقعه وكان قد تم استعداده بالاختلاء والتعبد في الغار وكان فكره مضطربا وقلبه ملتهبا ... ثم تم له رجاؤه ومبتغاه ، لو كان الأمر كذلك لظهر عقب ذلك ما كانت تنطوى عليه نفسه الوثابة وفكرته الوقادة (١).

ولو كان اختلاؤه وتحنثه استعدادا للنبوة لاعتقد حين رأى جبريل حصول مأمولة وتحقق رجائه ، ولم يخف منه على نفسه.

يقول الشيخ محمد عبده : «من السنن المعروفة أن يتيما فقيرا أميا مثله ـ أى مثل محمد ـ تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته ، ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه ، لا سيما إذا كان من ذوى قرابته ، وأهل عصبته ، ولا كتاب يرشده ، ولا أستاذ ينبهه ، ولا عضد إذا عزم يؤيده ، لو جرى الأمر فيه على جارى السنن لنشأ على عقائدهم ، وأخذ بمذاهبهم إلى أن بلغ مبلغ الرجال ، ويكون للفكر والنظر مجال ، فيرجع إلى مخالفتهم ، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممن كانوا على عهده (٢).

ولكن الأمر لم يجر على سنته ، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره ـ ليصنعه الله تعالى على عينه ٣ ـ فعاجلته طهارة العقيدة ، كما بادره حسن الخليقة» (٤) ،

__________________

١ ـ الوحى المحمدى ص ٩٤.

٢ ـ كعمرو بن نفيل وورقة وقد أشرنا إليهما من قبل وأمية ابن أبى الصلت.

٣ ـ أنظر : عصمة الأنبياء بين اليهودية والمسيحية والإسلام. للمؤلف.

٤ ـ رسالة التوحيد : ص ١١٩ ، ١٢٠ دار إحياء العلوم بيروت ١٣٩٩ ه‍ ـ ١٩٧٩ م.

١٢٥

فتجلى له الوحى الإلهى بأكمل معانيه.

٣ ـ أين كان استعداد محمد للوحى الذاتى المزعوم حين فتر الوحى ولزم محمد الصمت؟ إن هذا السكون في فترة الوحى دليل قاطع على بطلان ما أفك درمنغام وغيره من المستشرقين.

٤ ـ من أين خبر أو علم درمنغام أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» نسى الليل والنهار ، والحلم واليقظة ، إن المستشرق يتجاهل روايات السيرة ليفترى عليها وليستنبط من افتراءاته أن النبى فقد عقله فهو غائب عن حسه ، غارق في بحر لجى من خياله ، أثمر له انبثاق ذلك الوحى من نفسه وتخيله (!).

٥ ـ وهل العتاب الشديد ـ أحيانا ـ للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى القرآن ، كان أيضا من عند نفسه؟ أما كان يخشى أن ينفض عنه الأصحاب والأصدقاء؟.

٦ ـ أما سأل «واط» ـ ومن يلف لفه ـ نفسه ، كيف أمكن أن يتوهم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» نزول الملك عليه آلاف المرات في نحو ثلاث وعشرين سنة من غير أن يتبين خطأ نفسه ، أو يتبين أتباعه خطأه؟ أم كيف أمكن أن يتفق توهمه مع الحقائق الخارجية في تلك السنين الكثيرة؟ وما بعدها كغلبة الروم مثلا.

والمستشرق «واط» يجمع بين النقيضين حين يجمع بين الصدق والكذب فى آن واحد. فهو يقول بصدق محمد وكذب رسالته. ولقد كشفنا ـ فيما سبق ـ عن بعض أوجه إعجاز القرآن وهو لا يخفى عن المستشرقين عجز العرب ـ وهم أهل اللسان والبيان ـ قاطبة عن تحديه ، وعن الإتيان بأقصر سورة فيه.

إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن ـ فى حياته ـ معتزلا العالم في صومعة أوجب ولكنه كان في معترك الحياة ، يحاج ويدعو الناس إلى دين الله.

وفي نفس الوقت لن نعدم أن نجد من المستشرقين من يدفع هذه الضغائن ، وهذا الحقد ، يقول المستشرق (ليتن) (١) lightner «.. مرة أوحى الله تعالى إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحيا شديد المؤاخذة لأنه أدار وجهه عن رجل فقير (٢) ليخاطب رجلا غنيا من ذوى النفوذ ، وقد نشر ذاك الوحى ، فلو كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يقول أغبياء النصارى بحقه لما كان لذلك الوحى من وجود» (٣)

__________________

١ ـ باحث انجليزى حصل على اكثر من شهادة دكتوراه في الشريعة والفلسفة واللاهوت. زار الآستانة عام ١٨٥٤ م.

٢ ـ إشارة إلى قوة تعالى : عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى.

٣ ـ لايتنر : دين الاسلام. ترجمة عبد الوهاب سليم ص ١٣٢ ، ١٣٣. المكتبة السلفية. دمشق ط ١٣٤٢ ه

١٢٦

أما أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان متهيأ مستعدا للنبوة متطلعا إليها ، فان «كارليل» يفند هذا الزعم بقوله : «ومما يبطل دعوى القائلين أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن صادقا فى رسالته ... أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة ... لم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوى ، مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطان ... ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب ...» (١).

قد يقول قائل ممن يحسنون الظن بالمستشرقين المعاصرين ، لقد أطلت الوقفة عند كلام قديم وأخطاء اعتذر عنها وصححها ، كثير من المستشرقين المعاصرين.

نقول : قد يكون صحيحا القول بأن ألوان التحامل القديم على الإسلام قد خفت حدتها إلى درجة كبيرة منذ مطلع هذا القرن ، ولكنها للأسف الشديد لا تزال تعيش قوية ، ولا تزال هناك فئة من المستشرقين تحرص حتى اليوم على نشر ألوان التحامل القديم في العالم الغربى على نطاق واسع وبأساليب مختلفة (٢).

إن كتابات أمثال جولد تسيهر وكيثانى ودرمنغام أصبحت حجة عند من جاء بعدهم.

المستشرق «مونتجمرى واط» والذى يوصف كثيرا بأنه متعاطف مع المسلمين ، ويقول عن نفسه أنه محايد وأنه موضوعى ، وأنه يبحث بحثا تاريخيا دون ما أدنى إساءة إلى المسلمين.

رأيناه ـ فيما مر ـ يشكك في أمية الرسول ، ويقف طويلا أمام اللقاء الأول والأخير لنبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مع ورقة ، وقد فندنا كل ما أثاره بشأن الأمية وقصة ورقة.

يقول «واط» : «ولا بد أن محمدا قد عرف منذ شبابه بعض المشاكل الاجتماعية والدينية في مكة ، ولا شك أن وضعه كيتيم قد أطلعه على القلق السائد في المجتمع ، وربما كانت أفكاره من وجهة النظر الدينية ترجع إلى التوحيد الغامض الذى نلاحظه عند المكيين المثقفين ، ولكن يضاف إلى ذلك أنه ولا شك (!) فكر ببعض الإصلاح فى مكة ، وكان كل ما يحيط به يساعد على أن يوحى إليه بأن هذا الإصلاح يجب أن يكون أولا إصلاحا دينيا. ولهذا نرى محمدا يصبو إلى الخلوة للتفكير في الأمور الإلهية ويقوم ببعض العبادات ، وربما كان ذلك للتفكير عن الخطايا» (٣).

__________________

١ ـ كارليل : الأبطال ص ٥١ ، د. عماد الدين خليل : السابق ص ١٢٤.

٢ ـ د. محمود حمدى زقزوق : الاستشراق والخليفة الفكرية للصراع الحضارى ص ٩٦ دار المنار مصر ١٤٠٩ ه‍ ـ ١٩٨٩ م.

٣ ـ محمد في مكة ص ٨٢.

١٢٧

هذا الكلام ترديد لكلام «درمنغام» ، فضلا عن أفكار «أرنست رينان» فى الموسوعة البريطانية ، حيث صور المجتمع العربى في مكة بأنه كان مجتمعا موحدا يعبد الله الواحد ، وكان يصدر عن عقيدة التوحيد.

ثم إن «واط» كشف عن حقيقة منهجه في تناوله للإسلام ، حين قال : «... ذكر الحوادث التاريخية ليس بعيدا عن الاهتمام العقدى ، فإن مؤيدى علم الاجتماع المعرفى يرون أن الأفكار العقدية والفلسفية ذات مرجع سياسى أو اجتماعى» (١).

هكذا (!) الأفكار العقدية مصدرها ـ أحداث سياسية أو اجتماعية ، على كل حال «واط» يزيد موقفه وضوحا وتحديدا ، فيذكر أن عالم الاجتماع العلمانى يقبل آراء المتدينين كحقائق اجتماعية ، وليس كحقائق إيمانية غيبية.

أما كونها حقيقة (خاصة ما يثبت عن طريق الوحى الإلهى) أو غير حقيقية ، فهذا لا يدخل في دائرة اهتمام العالم الاجتماعى. وإنما يهتم بذلك الرجل المتدين ... والأول يتعامل مع هذه العقائد من خلال الواقع المشاهد.

و «واط» يفضل منهج عالم الاجتماع على نظرات المتدين ، باعتبار أن العالم الاجتماعى يعتمد على النظرة الموضوعية ـ حسب زعمه ـ الخالية من ذاتية المتدين لذلك نجده يصور لنا محمدا مصلحا اجتماعيا اشتراكيا أهمه مشاكل قومه الاجتماعية والسياسية والدينية ، ومحمد كاشتراكى أخذ يفكر في طريقة للإصلاح ، فكانت العزلة في غار حراء ، بعيدا عن ضجيج مكة ، وحتى تأتى أيديولوجية محمد متوافقة مع حالة المجتمع.

دوافع العزلة كما تصورها هذا المستشرق أمران :

الأول : الإصلاح الاجتماعى الذى وجده محمد فرصة لتحقيق ما كان يتطلع إليه وانطوت عليه نفسه طويلا وهو رغبته في النبوة (!).

الثانى : ليكفر عن خطاياه ، وهذا يفترض أن محمدا كان ـ وحاشاه ـ فحاشا ، لعانا ، طعانا ، فأراد العزلة لذلك (!).

هل هذه استنتاجات علمية؟ وهل هذه تقنع حتى العقل الأوربى؟ أما العقل المسلم فإنه موقن ، مصدق بما قاله ربنا جل وعلا في شأنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦)) [القصص : ٨٦] أى لم يكن يرجو أن يكون نبيا أو يتلو قرآنا ، ولا يعرف ذلك.

__________________

١ ـ : Britian ، IslamicPhilo SmallandTheology ، W.M.Watt

١٢٨

وفي مجال تفنيد هذه المزاعم والافتراءات نختار اثنين من المستشرقين بسبب آرائهما حول الموضوع وليس بسبب آرائهما في أى موضوع آخر.

يقول «مارسيل بوازار» : «.. لقد كان محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» نبيا لا مصلحا اجتماعيا ، وأحدثت رسالته في المجتمع العربى القائم آنذاك تغييرات أساسية ما تزال آثارها ماثلة فى المجتمع الإسلامى المعاصر» (١).

ثم يستطرد مارسيل قائلا : «مما لا ريب فيه أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قد اعتبر ، بل كان في الواقع ، ثائرا في النطاق الذى كان فيه كل نبى ثائرا بوصفه نبيا ، أى بمحاولته تغيير المحيط الذى يعيش فيه» (٢).

أما زعم «واط» أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ما اعتزل الناس في غار حراء إلا تكفيرا عن بعض خطاياه ، أو هروبا من حر مكة ، كما صرح في موضع آخر ، فإن هذا مدفوع بما قدمناه من حقائق ، وأيضا بما يقوله المستشرق «هنرى دى فاسترى» الذى علل عزلة الرسول بالهروب (من عبادة الأوثان ومذهب تعدد الآلهة الذى ابتدعه المسيحيون ، وكان بعضهما متمكنا من قلبه وكان وجود هذين المذهبين أشبه بإبرة فى جسمه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم») (٣).

مونتجمرى واط يكشف عن هدفه ، فيقول عن كيفية من كيفيات الوحى فى الفترة المكية : «ولا شك أننا أمام تعبير داخلى من النوع الفكرى أكثر منه من النوع الخيالى ، ولربما لم يصحب ذلك أية رؤية حتى ولو كانت فكرية» (٤).

ثم يتكلم «واط» عن كيفية أخرى ـ أكثر تطورا من سابقتها ـ فيقول : إن «الوحى كان عندئذ كما يبدو من نوع التعبير الخيالى ولكنه مصحوب بدون شك برؤية عقلية أو خيالية لجبريل ، ويوحى قول الحديث «على صورة إنسان» ... بأنها كانت رؤية خيالية» (٥).

يريد المستشرق أن يقول : إن الوحى القرآنى ليس شيئا خارجا عن الذات المحمدية ، وإنما منها نبع ، لقد وصل المكر بهذا المستشرق الاعتماد على القرآن ليلقى بهذه الفرية ، ولكن هيهات (٦) فاللقاء بين والتلقى كان يتم بين ذاتين : ذات النبى المتلقى ،

__________________

١ ـ مارسيل بوازار : إنسانية الإسلام ص ٩٩ ترجمة د ، عفيفى دمشقية. دار الأدب. بيروت ١٩٨٠ م

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ هنرى دى فاسترى : الإسلام : خواطر وسوانح ص ١٦ ، ١٧. ترجمة أحمد فتحى زغلول باشا. مطبعة الشعب. القاهرة ١٩١١ م وانظر : د. عماد الدين خليل : السابق ص ٩٩ ، ١٠٨.

٤ ـ محمد في مكة ص ٩٨ ـ ٩٩.

٥ ـ محمد في مكة ص ١٠٠.

٦ ـ أنظر : منهج مونتجمرى واط في دراسة نبوة محمد للدكتور ، جعفر شيخ إدريس ص ٢٣١ (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية ج ١).

١٢٩

وذات جبريل الملقى بأمر الله تعالى ، فهما ذاتان منفصلتان تمام الانفصال ، وآيات القرآن ووقائع السيرة النبوية تؤكدان على هذه الحقيقة ، فالموحى به من خارج ذات محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فضلا عن أنه لم ينسب ما جاء به لنفسه وإنما أعلن أنه من خارج ذاته.

يقول صاحب «الإسلام خواطر وسوانح» : «... لو رجعنا إلى ما وضحه الحكماء عن النبوة ولم يقبله المتكلمون من المسيحيين لأمكننا الوقوف على حالة مشيد دعائم الإسلام وجزمنا بأنه لم يكن من المبتدعين ... ومن الصعب أن نقف على حقيقة سماعه لصوت جبريل ـ عليه‌السلام ـ إلا أن معرفة هذه الحقيقة لا تغير موضوع المسألة لأن الصدق حاصل في كل حال» (١).

و «واط» أساء فهم الحديث حين استدل بمجيء الوحى إلى الرسول على «صورة رجل» على أنها صورة تخيلها محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». أم أنه يستبعد أن يتشكل الوحى بالصورة البشرية. إن كان كذلك فليقل هذا صراحة ولا يسيء فهم الحديث.

ونقول له : هل تنكر تشكل الوحى بالصورة أو الهيئة البشرية عند ما يكون الأمر يتعلق بالإسلام ونبى الإسلام ، ولا تستنكر ما فعله اليهود حين شبهوا الخالق بالمخلوق ، وزعموا أن الله جل وعلا تجسد فى صورة إنسان لكل من إبراهيم ويعقوب ، وأنه تعالى طعم مع الملكين اللذين حضرا معه لزيارة إبراهيم ، واستراح في ظل شجرة؟ (٢).

أما القرآن الكريم ـ الذى يعتبره كثير من المستشرقين أوهام وتخيلات تتنزل من مخيلة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فإنه يخبرنا أن الذين أتوا إبراهيم هم الملائكة وبشروه بإسحاق ويعقوب.

وما العجب أو ما وجه الاستنكار ـ والتجنى على الوحى الإلهى إلى رسول الله ـ أن ملائكة الله يمكن أن يظهروا للأنبياء والرسل في صور بشر (٣) ، كما في حديث رسول الله الذى ترويه أم المؤمنين عائشة «أن الحارث بن هشام ، سأل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فقال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس ـ وهو أشده علىّ ـ فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى ، فأعي ما يقول ، قالت عائشة ـ رضى الله عنها ـ : ولقد رأيته ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا».

__________________

١ ـ هنرى دى فاسترى : السابق ص ٦.

٢ ـ سفر التكوين : الإصلاح ١٨ : ١ ـ ١٥.

٣ ـ أنظر : نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» للمؤلف ، وأيضا : ابن خلدون : المقدمة.

١٣٠

ينكر «واط» أن يكون جبريل جاء الرسول على هيئة رجل ، وواضح أن الإنكار ليس لذات الواقعة وإنما ليصل أو ليوحى للقارئ الأوربى ، أنه لم يكن هناك وحى ، ولا جبريل ، وإنما هى تصورات وتخيلات نابعة من مخيلة محمد.

وفضلا عما سبق نسأله : ما رأيك في قيامة المسيح؟ ـ بصرف النظر عن كونها حدثت أم أنها افتراء ، وعن الاضطراب في إيرادها عند متى وعند مرقس ـ ذكر مرقس أن ملاك الرب كان جالسا داخل القبر وأنه ظهر أولا لمريم المجدلية ثم ظهر بهيئة أخرى لاثنين من تلاميذه ، ثم ظهر للأحد عشر ووبخهم لعدم إيمانهم بظهوره ثم ارتفع إلى السماء وجلس على يمين الله (١).

ملاك الرب عند مرقس يتفاءل وينكمش حتى يتمكن من الجلوس في حفرة (٢x ٢) ثم يتشكل ، ويظهر بهيئة أخرى ، ثم في هيئة ثالثة ـ لا عليك من جلوسه على يمين الله ـ هذا حلال للمستشرقين والمنصرين ، حرام وخرافة وتخيلات عندنا.

طرفة :

طرفة لأن المستشرق الإنجليزى «واط» أراد ـ عن غير قصد ـ أن يسرى عنا ، ويضحكنا بعد هذا الهراء المغلف بالمنهجية والموضوعية والحيادية.

يصر «واط» على أن القرآن كتاب بشرى ، وأن الوحى داخلى ، لذلك كان محمد مسيطرا عليه ، بإمكانه استدعائه وصرفه في أى وقت يشاء. فمخيلة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كجهاز «الكمبيوتر» تخزن فيه المعلومات ثم تستدعى حسبما يريد الإنسان.

يقول في كتابه «محمد في مكة» : «ومن المهم أن نعرف إذا كان محمد يستخدم طريقة ما لإثارة الوحى ، ولا نستطيع التأكيد بأنه كان يرتدى دثارا من أجل هذا الغرض ، وكل شىء يحملنا على الاعتقاد أن الوحى كان ينزل عليه في بداية الأمر بصورة غير منتظرة ، ولكنه من الممكن أن يكون فيما بعد وسيلة فنية تقنية للسمع وربما كان ذلك بترتيل القرآن أثناء الليل.

وإذا كان يحدث لمحمد أن يثير تجارب الوحى بواسطة الاستماع فإن (التنويم المغناطيسى الذاتى) أو أى شىء آخر ليس من اختصاص حكم الفقيه» (٢).

اعترف «واط» بنزول الوحى على محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بطريقة غير منتظرة ، وهذا جيد منه ، غير أنه لم يقم على هذا الاعتراف ، فبعد أسطر قليلة زعم أن محمدا كان

__________________

١ ـ مرقس : ١٦ : ١ ـ ١٥ يوحنا : ٢٠ : ١ ـ ١٨ ، بوكاى : دراسة الكتب المقدسة. ص ٨٤ عام ١٩٧٧ م.

٢ ـ محمد في مكة ص ١٠٢.

١٣١

بإمكانه تحضير الوحى بالتنويم الذاتى تارة وثانية باستعمال الدثار «يا أيها المدثر» ، وثالثة بترتيل القرآن بشرط أن يكون ليلا وبتمهل (!)

تجاهل «واط» ـ وكثير غيره من المستشرقين ـ أحداث السيرة النبوية ـ وهو رجل التاريخ ، الموضوعى ، المحايد ـ والتى نقلت ـ فيما نقلت ـ أحداث ووقائع نزول الوحى ، وكيف أنه كان يأتى النبى فجأة ، وهو في المسجد ، وهو جالس مع صاحبته ، وهو على راحلته ...

وقد يتمثل الملك رجلا يراه من يكون في حضرة النبى ، على نحو ما جاء عن أمير المؤمنين عمر ، قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثوب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد أخبرنى عن الإسلام فقال رسول الله : «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ... إلخ. قال صدقت.

قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه ...» الحديث.

ظهر جبريل ـ إذن ـ ورآه بعض الصحابة في صورة رجل ، ولو كان السائل من المسلمين لعرفوه ولتكررت رؤيتهم له بعد ذلك.

نقول إنه تجاهل المصادر المعتبرة عندنا ورجع إلى خصوم ديننا كما هو ثابت فى ص ١٠٢ من كتابه محمد في مكة ـ رجع إلى «اهرنس» و «أرثر» و «نيوهفن» ويعد «كايتانى» من مراجعه الأصلية.

والمستشرق متأثر بالمدرسة الروحية الحديثة التى ظهرت في أمريكا في بداية هذا القرن والتى تدعى استحضار أرواح الموتى ، وأن وحى الأنبياء من هذا القبيل.

وفي كتاب آخر له زعم أن مصدر الوحى هو :

اللاوعى الجماعى Collectiv eunConseiousness أى أن موضوعات الوحى كانت موجودة في اللاوعى عند محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وهى مستقاه من المحيط الجماعى الذى عاش فيه قبل البعثة ... وما كان الملك (جبريل) إلا خيالا أدى إلى حضور تلك الموضوعات إلى وعيه ، فى الحالة التى يسميها وحى (١).

يزعم «واط» أنه مؤمن غير مادى ولا ملحد ، ولنا أن نقابل زعمه : أن مصدر الوحى

__________________

١ ـ. ١٩١ ـ ١٩٠.PP ١٩٦٩.The IslamicRevoltion inTheModernwarld : Watt د. عبد الحميد غراب : رؤية إسلامية للاستشراق ص ١٠٨ سنة ١٤٠٨ ه‍.

١٣٢

هو : «اللاوعى» للنبى ، بما قاله المؤرخ الغربى الملحد «تونبى» : «إن المشاهدة القابلة للفهم على السطح الشعرى من اللاشعور تسمى النبوة» (١).

وفضلا عن كونها نظرة مادية إلى الدين فإن الوحى بمقتضاها لا وجود له.

ولو أن «واط» فكر في هذه النتيجة فإنه سيصل إلى تكذيب الوحى إلى موسى وعيسى أيضا.

وبمفهوم المخالفة فإن نظريتهم في اللاوعى أو اللاشعور تؤدى إلى إثبات الوحى إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». كيف؟.

اللاوعى أو اللاشعور ـ حسب مفهومهم ـ هو انطباع النفس بما تراه وتشاهده فى المجتمع ... وفي مرحلة متأخرة تظهر هذه الانطباعات ، أو تنفلت ، أو تطفو على السطح أى إلى الوعى أو الشعور ، أى أنها مختزنة ولا يشعر بها الإنسان إلا بعد انفلاتها ، وظهورها ومع هذا لا يعرف مصدرها.

فهل جرت حياة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» على هذا النمط؟ لقد «بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره ، فعالجته طهارة العقيدة ، كما بادره حسن الخليقة». (٢)

وقد كان يكفينا هذا وما اقتبسناه ـ فيما سبق ـ من رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده (٣). ولكن نطرح هذا السؤال فالإجابة لها فوائد عظيمة.

هل القرآن الكريم ، وهو وحى الله تعالى إلى محمد ـ انبثاق خلاق من اللاوعى المحمدى عند كثير من المستشرقين ـ يتوافق مع عقائد المجتمع المكى الذى نشأ فيه محمد حتى أوحى إليه؟

أولا : جاء القرآن بالتوحيد وهم مجتمع وثنى فنعى عليهم ذلك ، وعنفهم ، وندد بهم : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧)) [النحل : ١٧]. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل ٦٠](أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [النمل : ٦١](أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)) [النمل : ٦٤] ولكنهم تعجبوا أن جاءهم بغير ما هم عليه ، جاءهم بالتوحيد : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥].

جاءهم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بالأخلاق السامية الرفيعة ، أما أخلاقهم فيبينها القرآن

__________________

١ ـ. ١٢٣.p ، sAp proachtoReligion Historian وحيد الدين خان : الدين في مواجهة العلم ص ٩٢ ترجمة : ظفر الإسلام خان. كتاب المختار بالقاهرة ط ٤

٢ ـ محمد عبده : رسالة التوحيد ص ١٢٠.

٣ ـ أنظر ص ١٢٣ من هذا الكتاب.

١٣٣

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [النحل : ٥٨ ، ٥٩]. (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء : ٣١ ، ٣٢]. (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) [الفرقان : ٧٢]. (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦)) [الإسراء : ٢٦].

جاء القرآن يستنكر عليهم الرق ويأمر بتحرير الرقيق (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣)) [البلد : ١٢ ، ١٣]. (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء : ٩٢].

وسؤال آخر هل يستطيع محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بانطوائه على نفسه ، أن يكتشف حادثا ما ، وقع في تاريخ ما من الزمان الغابر؟ إن التاريخ الإنسانى لا يخضع لمنطقنا لأنه قد يشتمل على أحداث تتعارض مع ما يقبله العقل.

حسبنا هذا فليس من غرضنا الإحصاء ، وإنما إثبات زيف زعم هذا المستشرق ، فما ادعاؤه إلا خيال مريض.

نخلص مما سبق أن الوحى الخاص إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فى الرؤية الاستشراقية هو من نوع الصور الجميلة التى تكون في مخيلة الفنان أو الشعر الرائع الذى يكون فى وجدان الشاعر. أو هو ليس سوى صوت اللاشعور أو اللاوعى المحمدى (!).

ما أخذه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القصص التوراتى والإنجيلى :

من الكلمات التى يطلقها المستشرقون ويعتقدون مرورها في غفلة من المسلمين ، مثل قول المستشرق «جرينباوم» «إن الإسلام يمزج دائما بين المقدرة على تمثيل العناصر الأجنبية مع درجة معينة من العزوف عن الإقرار بالأصول التى استمدت منها» (١)

ما ذا يريد جرينباوم أن يقول؟ يشير «فيليب حتى» إلى بعض ما يريد قوله : «وتكاد كل القصص التاريخية في القرآن يكون لها نظير في التوراة باستثناء بعض قصص قلائل عربية خالصة تشير إلى عاد وثمود ولقمان وأصحاب الفيل ...» (٢) أما المستشرق اليهودى «جويتى» فقد نسج على منوال سابقيه ، فيقول : «.. ولقد أتى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصص تكاد تطابق ما جاء في التوراة ، مع بعض التشويه لبعض الحقائق عن الأنبياء ، وربما نتج عن شعوره بأنه خير هؤلاء جميعا وخاتمهم ، ولقد

__________________

١ ـ Essaysimthen atureandGrawthof : Islam ، G.E.VonGrumebaum د. طبباوى ص ١٨٨ ٢٢٨ ، ١٩٦١ : london) c ulturelTradition

٢ ـ حتى : تاريخ العرب ص ١٥١ ط ٣ ١٩٥٣ دار العالم العربى. القاهرة.

١٣٤

شملت قصصه بعض أنبياء بنى إسرائيل : كنوح وسفينته ، وإبراهيم وزوجته ، وموسى ومعجزاته الحسية ، وداود وسليمان ، وتوليهما الملك ، وتزويدهما بالحكمة ، وغيرهم ، ولكن أغفل ذكر كثير من الأنبياء والملوك ذوى الشأن في الديانة اليهودية (١).

ولمجرد الطعن في القرآن أقدم بعض المستشرقين على إنكار عاد وثمود : «وأنكر الكوارث التى أصابتهم بغير حجة ، إلا أنه يحسب أن المنكر لا يطالب بحجة ، ولا يعاب على النفى الجزافى. فما لبثوا طويلا حتى تبين لهم أن عاداOadita وثمودThamudida مذكورتان في تاريخ بطليموس وأن اسم عاد مقرون باسم (إرم) فى كتب اليونان فهم يكتبونها (إدراميت) Adramitae ويؤيدون تسمية القرآن لها بعاد وإرم ذات العماد ... وعثر المنقب موزيل التشيكى Musil صاحب كتاب الحجاز الشمالى على آثار هيكل عند مدين منقوش عليه بالنبطية واليونانية وفيه إشارة إلى قبائل ثمود (٢).

الجميع يريد نزع ثوب قداسة الوحى القرآنى برده إلى اليهودية تارة وإلى النصرانية أخرى ، وجعل القرآن بشرى المولد! يقول كايتانى : «واستطاع ابن عباس زمن الفتوحات الكبرى أن يتفهم بوضوح تفوق الحضارة المسيحية ، وأن يتعرف على العديد من العيوب والثغرات المخجلة للعقيدة الجديدة التى حاول محمد خلق أساس لها في تاريخ اليهود القديم ، ولكنه لم يوفق بشكل تام في ذلك فتأهب ابن عباس لسد هذه الثغرة ودرء هذه العيوب» (٣).

قد تكون المسيحية من جانبها المادى الذى يعرف بالمدنية اكثر تفوقا ، ولكنها أكثر انحطاطا في جوانب الثقافة ، ودليل ذلك انهيارها بسرعة أمام الفتح الإسلامى. (٤)

ما هى هذه العيوب والثغرات في العقيدة؟ لا إجابة. أين مواضعها في الكتاب ـ وحاشاه ـ والسنة ، لا إجابة. وسوف نرى بعد قليل أن كايتانى يطعن الإسلام والتهم اللاصقة بعهديه : القديم والجديد ، أى رمتنى بدائها وانسلت!

لقد أشبعنا المستشرق ردا على افتراءاتهم ، كما أشبع القول حول مزاعمهم عدد من علمائنا ، غير أنى أدع المستشرق الفرنسى «بوكاى» يقول قولا لبنى جلدته : «إن

__________________

١. ٣٠ ـ ٢٨.JewsandArabes ــ PP : Goitein

٢ ـ الاستاذ العقاد : مطلع النور ص ٧٤ سلسلة كتاب الشهر. مصر ديسمبر ١٩٦٨ م.

٣ ـ كايتانى : مقدمة كتاب حوليات الإسلام ترجمة محمد احمد شلوف ص ٣٨٢ ضمن كتاب : (من قضايا الفكر الإسلامى كما يراها بعض المستشرقين) منشورات كلية الدعوة الإسلامية طرابلس. ليبيا ١٩٨٨ م.

٤ ـ د. الصديق بشير نصر : تعليقات على المصدر السابق ص ٤٢٤.

١٣٥

اليهود والمسيحيين والملحدين في البلاد الغربية يجمعون على الزعم ، وذلك دون أدنى دليل بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب أو استكتب القرآن محاكيا التوراة ، ويزعم البعض أن هناك أقوالا قرآنية في التاريخ الدينى تفيد أقوال التوراة والإنجيل ، مثل هذا الموقف لا يقل استخفافا عن ذلك الذى يقود إلى القول بأن المسيح أيضا قد خدع معاصريه باستلهامه للعهد القديم في أثناء تبشيره. فكل إنجيل متى ، كما رأينا ، يعتمد على تلك الاستمرارية مع العهد القديم. أى مفسر هذا الذى تعن له فكرة أن ينزع صفته كرسول لله لذلك السبب؟

«ومع ذلك فهكذا في الغرب يحكم على محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فى غالب الأحيان : يزعمون أنه لم يفعل أكثر من أن نقل التوراة والإنجيل. وذلك حكم بلا محاكمة لا يضع مطلقا في اعتباره أن القرآن والتوراة والإنجيل قد تعطى عن نفس الحدث روايات مختلفة ، ولكنهم يفضلون السكوت على اختلاف الروايات ، ثم يعلنون أنها متماثلة وبالتالى يتماشون عن تدخل المعارف العلمية» (١)

وأقف وقفة قصيرة عند قول «جويتين» ـ الذى أسلفناه ـ أن. محمدا أخذ قصصه القرآنى من التوراة غير أنه جاء مشوها للحقائق عن الأنبياء ، وعلل ذلك بحقد محمد على إخوانه الأنبياء السابقين فغمط حقهم ، وحقرهم وقلل من شأنهم حتى يظهر هو بمظهر البطولة وأنه خاتم الأنبياء.

وهذا الكلام لا يقوله إلا إنسان لم يطلع ـ مجرد اطلاع ـ لا على القرآن ولا على التوراة.

الأنبياء في القرآن هم الصفوة الممتازة الذين اصطفاهم الله من بين البشر واختصهم بصفات الكمال الخلقية والخلقية وجعلهم السفراء الأمناء في حمل الدين وتبليغه إلى الناس.

والمتتبع لآيات الله في القرآن الكريم التى تتحدث عن الأنبياء والمرسلين يجدها تصفهم باسمى الصفات والمواهب العقلية والخلقية والعلمية ، كل ذلك يدل على أنهم صفوة الخلق ، والمثل الكامل للإنسانية ولعظم مهامهم ، اقتضت حكمة الله تعالى أن يحفظهم بعنايته ويكلؤهم برعايته ، ويربيهم على عينه ، قال تعالى للكليم موسى (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] وقال للنبى الخاتم محمد بن عبد الله (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨].

__________________

١ ـ موريس بوكاى : دراسات الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص ١٤٩. دار المعارف لبنان ١٩٧٧ م.

١٣٦

من هنا أجمع المسلمون على عصمتهم من الخطأ والزلل ، ونفوا عنهم الكذب والخيانة واتباع الباطل في الأقوال والأفعال ، وكل ما يشين.

والجمهور على أنهم معصومون قبل النبوة وبعدها واحتجوا بما نقل عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر كلتاهما يعصمنى الله منها» (١). وبقول تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ففي ذلك دليل على أن الله رعاهم منذ الصغر ، وجعلهم سبحانه من المصطفين الأخيار. كما في قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) [ص : ٤٧] فلا بد إذن أن يكونوا معصومين ومحفوظين قبل النبوة وبعدها (٢).

الأنبياء والمرسلون في التوراة والإنجيل :

لم يكتف اليهود بنسبة المعصية إلى الأنبياء وعدم الاعتقاد بعصمتهم ، بل إنهم جعلوا منهم قادة وروادا للفجور والدعارة وارتكاب أعظم الآثام والشرك والكفر بالله.

وكتب أهل الكتاب ـ المقدسة ـ ترمى بعض كبار الأنبياء بكبائر الفواحش المنافية لحسن الأسوة بل المجرئة على الشرور والفساد.

١ ـ نسبت التوراة إلى «لوط» ـ عليه‌السلام ـ شرب الخمر حتى سكر ، ثم ضاجع ابنتيه فزنى بهما واحدة بعد أخرى (٣)

٢ ـ أما داود ـ عليه‌السلام ـ فإنه تآمر على قائد جيشه فقتله ودخل بزوجته ، جاء فى سفر صموائيل :

كان داود يتمشى : «على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة جدا فأرسل داود وسأل عن المرأة .. فقال واحد : امرأة أوريا. فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهى مطهرة من طمسها ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة من داود. فكتب داود مكتوبا يقول فيه : اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت» (٤) هذا بعض ما نسبه اليهود إلى نبى الله داود الذى قال فيه الله تعالى في قرآنه الكريم : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص : ٤٤] وقال عنه : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ

__________________

١ ـ ابن كثير : السيرة النبوية ط ج ١ ص ٢٥٢

٢ ـ انظر : عصمة الأنبياء بين : اليهودية والمسيحية والإسلام للمؤلف.

٣ ـ سفر التكوين ١٩ : ٣٠

٤ ـ سفر صموائيل الثانى ١١ : ١٠٠

١٣٧

مَآبٍ (٤٠)) [ص : ٤٠]

غير أن ما نسبوه إلى داود يناقض ما جاء في نفس السفر على لسان داود «يكافئنى الرب حسب برى. حسب طهارة يدى يرد على. لأنى حفظت طرق الرب ولم أعص إلهى ، لأن جميع أحكامه أمامى وفرائضه لا أحيد عنها. وأكون كاملا لديه وأتحفظ من إثمى. فيرد الرب على كبرى وكطهارتى أمام عينيه» (١)

سفر واحد يجمع بين الشيء ونقيضه : «وهذا السفر يقرون أنه كتب بإلهام وهو واجب التسليم وكل ما فيه صدق عندهم. ومحال أن يكون الزنا من البر واتباع وصايا الله والمحافظة على شريعته» (٢)

٣ ـ زعمت التوراة أن نبى الله سليمان ـ عليه‌السلام ـ ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام ، فهو عندهم «لم يكن قلبه كاملا مع الرب كقلب داود أبيه ... فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذى تراءى له مرتين وأوصاه أن لا يتبع آلهة أخرى فلم يحفظ ما أوصاه به الرب» (٣)

وجاء أيضا : «وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى» (٤)

٤ ـ أما موسى وهارون فلم يكونا مؤمنين بالله ، والذى لا يكون مؤمنا يكون كافرا : فقال الرب لموسى وهارون : إنكما لم تؤمنا بى ، ولم تقدسانى على عيون بنى إسرائيل لذلك لا تدخلان أنتما هؤلاء الجماعة الأرض التى أعطيتها لهم .. (٥)

أما سفر الخروج فينسب إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ أنه أوصى بنى إسرائيل ليلة خروجهم من مصر أن يسرقوا من المصريين حليهم وأمتعتهم ففعلوا. (٦)

٥ ـ زعمت التوراة أن الله حرض هوشع على الزنا : «أول من كلم الرب هوشع ، قال الرب لهوشع : اذهب لنفسك امرأة زنا لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب. فذهب وأخذ جومر بنت حبلايم فحبلت وولدت له أبناء ..

وفي إصحاح آخر يقول «وقال الرب لى اذهب ... احبب امرأة حبيبة صاحب وزانية. (٧)

__________________

١ ـ صموايل الثانى ٢٢ : ٢١ ـ ٢٥

٢ ـ الشيخ عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ص ٣١٣ ١٣٢٧ ه‍ ـ ١٩٥٣ م.

٣ ـ سفر الملوك الأول ١١ : ٥

٤ ـ سفر الملوك الثانى ١١ : ١ ـ ١٠

٥ ـ سفر العدد ٢٠ : ١٢

٦ ـ الخروج ١٢ : ٣٥

٧ ـ هوشع ١ : ٢ ـ ٤

١٣٨

لقد أبى العلماء المتقنون المحققون ، من المسلمين وغير المسلمين قبول هذه الافتراءات ، وقالوا : هذا من أباطيل اليهود ، غير أن كثيرا من المستشرقين يتعامون عن هذا الهراء فلا يثير عندهم أية شبهة!!

وقبل أن نلقى نظرة سريعة على ما في الأناجيل من قصص قد يكون محمد سطى ـ فى زعمهم ـ عليها ، نسأل جويتين وغيره من المستشرقين.

هل القصص الواردة في القرآن ـ وكما عرضنا ـ تشويه للحقائق عن الأنبياء. أم تنزيه؟

من من الأنبياء أغفل أو أسقط محمد ذكرهم؟ إن زعم المستشرق أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أغفل ذكر بعض أنبياء بنى إسرائيل ، يريد أن يقول : إن محمدا وهو عاكف ـ فى مكتبته في الأكاديمية العلمية المكية ، وفي مكتبة (المكيف) الملحق بغار حراء ـ على تأليف القرآن غفل عن ذكر بعض أنبيائهم ، هذا هو الهدف.

وإذا كان محمد قد أسقط ذكر هؤلاء الأنبياء فمن أسقط هذه الأسفار من توراتهم المقدسة؟

١ ـ جاء في سفر العدد العبارة التالية : «لذلك يقال في كتاب حروب الرب ـ فلا يوجد هذا السفر ضمن أسفار التوراة» (١)

٢ ـ أشار سفر الملوك الثانى إلى فقد ثلاثة أسفار هى :

أ ـ أخبار ناتان النبى.

ب ـ نبوة أخيا الشيلونتى.

ج ـ جهزوى يعدو الرائى على يريعام بن نباط. (٢) فإذا كان محمد قد أخذ من التوراة ، والإسلام يدور على محور واحد هو التوحيد المطلق ، والتوراة كما رأينا تعج بالتشبيه والتجسيم وهذا شرك صراح فكيف يكون التوحيد مأخوذا عن الشرك؟

وإذا كان محمد قد أخذ من التوراة ، فأى توراة تلك التى أخذ عنها؟

التوراة التى جاء فيها : «فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب. ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم. وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات ولم تكل عينه ولا ذهبت

__________________

١ ـ سفر العدد ٢ : ٢١

٢ ـ سفر الملوك الثانى : الاصحاح ٩.

١٣٩

نضارته. فبكى بنو إسرائيل موسى في عربات موآب ثلاثين يوما». (١)

هل هذا السفر أنزل على موسى؟ وإذا انبروا وقالوا : نعم. فكيف يقول : «فمات هناك موسى»؟ أم يرون أنه نزل عليه بعد موته؟

إن من عنده مسكة من العقل يدرك أنها عبارات أضافتها يد بشر.

ألا يثير ذلك الشك في حجية التوراة التى ينسبونها إلى موسى؟

من البديهى أن العقائد تقوم على اليقين ، لا على الظن أو الاحتمال أو الشك ، لذلك لم تكن للتوراة أو الأناجيل أى حجية عقلية لأنه لا حجة مع الشك والتحريف.

أما موقع الأنبياء في الإنجيل ، فليس بأفضل منه في التوراة ، بل إن بعض النصوص تسيء إلى السيد المسيح ـ عليه‌السلام ـ وتلاميذه.

١ ـ ورد بإنجيل متى : أن عيسى من نسل سليمان بن داود وأن جدهم فارص الذى هو من نسل الزنى من يهوذا بن يعقوب. (٢)

٢ ـ أن يسوع ناقض نفسه حين قال لليهود مرة : إن كنت أشهد لنفسى فشهادتى ليست حقا. (٣)

ثم قال لهم مرة أخرى : إن كنت أشهد لنفسى فشهادتى حق (٤).

٣ ـ وجاء في يوحنا أيضا ، أن يسوع شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بنى إسرائيل هم سراق ولصوص. (٥)

٤ ـ وجاء أن رئيس الكهنة المسمى فيافا الذى ثبتت نبوته في نفس الإصحاح ، أفتى بتكذيب المسيح وحكم بقتله مع أنه إلهه ـ فى زعمهم. (٦)

٥ ـ وفي نفس الإنجيل أن يسوع أهان أمه في وسط جمع من الناس. (٧) هذه النقول التى تثبت تناقضات العهد الجديد وتنسب نقائص تمس السيد المسيح وتلاميذه إنما هى على سبيل المثال لا الحصر.

بين القصص القرآنى والقصص التوراتى :

رأينا ـ فيما سبق ـ جانبا من نصوص توراتية وإنجيليه ، وكل ما جاء في القرآن

__________________

١ ـ سفر التثنية ٣٤ : ٥ ـ ٨

٢ ـ متى : ١ : ١٠

٣ ـ يوحنا : ٥ : ٣١

٤ ـ يوحنا : ٨ : ١٤

٥ ـ يوحنا : ١٠ : ٤٨

٦ ـ يوحنا : ١١ : ٤٩ وأيضا أنظر : محمد عزت الطهطاوى : محمد نبى الاسلام ... ص ١٤٧ مطبعة التقدم. مصر

٧ ـ يوحنا : ٢ : ٤.

١٤٠