الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

دكتور محمود ماضي

الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

المؤلف:

دكتور محمود ماضي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 253-070-8
الصفحات: ١٨٨

يتضمنهما نص يوحنا بشكل قاطع.

«إذن فالمسيح يصرح بأن الله سيرسل فيما بعد كائنا بشريا على هذه الأرض ليؤدى الذى عرفه يوحنا ، ولنقل باختصار أنه دور نبى يسمع صوت الله ويكرر على مسامع البشر رسالته ، ذلك هو التفسير المنطقى لنص يوحنا إذا أعطينا الكلمات معناها الفعلى.

ويكشف بوكاى عن أن وجود كلمتى (الروح القدس) فى النص الذى نملك اليوم قد يكون نابعا من إضافة لاحقة إرادية تماما تهدف إلى تعديل المعنى الأول لفقرة تتناقض بإعلانها بمجيء نبى بعد المسيح ، مع تعاليم الكنائس المسيحية الوليدة التى أرادت أن يكون المسيح خاتم الأنبياء» (١).

إن هذا النبى الآتى لن يكون من شيعة النصارى دليل ذلك قول المسيح لتلاميذه : «فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به» (٢).

بل زاد إيضاحا فأنبأ بأن هذا النبى المنتظر سيرشد إلى حقائق لم يبلغها المسيح عيسى بن مريم ذاته فقال : «ويخبركم بأمور آتية».

والقرآن الكريم هو الآية الخالدة إلى أن تقوم الساعة إنه الإعجاز البيانى والإعجاز العلمى ...

الثالث : أن عيسى قال : «(هو يشهد لأجلى) وهذا الروح ما شهد لأجله بين أحد من تلاميذه الذين نزل عليهم ما كانوا محتاجين إلى الشهادة لأنهم كانوا يعرفون المسيح حق المعرفة قبل نزوله أيضا فلا فائدة للشهادة بين أيديهم. والمنكرون الذين كانوا محتاجين للشهادة فهذا الروح ما شهد بين أيديهم» (٣).

بخلاف محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فإنه شهد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس .. وأظهر أمر المسيح وشهد له بالحق حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض وعلموا أنه صدق المسيح ونزهه عما افترته عليه اليهود وعما غلت فيه النصارى. ولهذا لما سمع النجاشى من الصحابة ما شهد به محمد للمسيح قال لهم (ما زاد عيسى على ما قلتم) (٤).

__________________

١ ـ بوكاى : دراسة الكتب المقدسة .. ص ١٢٨ ، ١٢٩. (مصدر سابق).

٢ ـ يوحنا ١٦ : ١٣ وانظر أيضا : إبراهيم خليل أحمد : السابق ص ٥١ ـ ٦٠.

٣ ـ رحمة الله الهندى : المصدر السابق.

٤ ـ ابن تيمية : المصدر السابق ص ١٧.

١٠١

الرابع : أن عيسى قال .. (وأنتم أيضا تستهدون لأنكم معى من الابتداء) فهذا القول يدل دلالة ظاهرة على أن شهادة الحواريين غير شهادة (فارقليط) فلو كان المراد الروح النازل يوم الدار فلا توجد مغايرة للشهادتين لأن الروح المذكور لم يشهد شهادة مستقلة غير شهادة الحواريين بل شهادة الحواريين هى شهادته بعينها. فلا يصح هذا القول بخلاف ما إذا كان المراد به النبى المبشر فإن شهادته غير شهادة الحواريين» (١).

خلاصة هذا أن الله تعالى سيبعث نبيا آخر (فارقليط) يقوم مقام المسيح في تبليغ رسالة ربه وسياسة الخلق وهذا النبى لم يعاصر المسيح وإنما جاء بعده وهذا معنى قول المسيح «الحق أنه من الخير لكم أن انطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ولكن إذا ذهبت أرسله لكم» أى أنهما لا يجتمعان في زمن واحد لأن المسيح علق مجيئه بذهابه ... والمعزى هو روح الحق الذى لا يتكلم من نفسه وإنما بوحى من الله «وأما متى جاء ذلك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل بكل ما يسمع ويخبركم بأمور آتية» (٢).

بعد ذلك نشير إلى أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لو تقول على الله شيئا من عنده لجاءه القتل عقابا سريعا لا راد له من الله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧].

ونجد التوراة تذكر أن الموت العاجل لا بد وأن يفاجئ كل من يدعى كذبا أنه نبى لله يوحى إليه ويتكلم باسمه زورا «وأما النبى الذى يطغى فيتكلم باسمى كلاما لم أوصه أن يتكلم به أو الذى يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبى» (٣).

بل جاء في السامرية : «فليقتل ذلك النبى» فالموت هنا لا يعنى به الموت الطبيعى الذى تذوقه كل نفس وإنما يقصد به القتل أو الموت غير الطبيعى الذى ينهى حياة مدّعى الرسالة كذبا. ووسائل هذا الموت العاجل كثيرة مثل : القتل أو الغرق ونحوه لأنها وسائل تفضى إلى الموت العاجل.

وأمثلة ذلك ما جاء في التوراة : «نهاية كل بشر قد أتت أمامى لأن الأرض قد امتلأت ظلما منهم. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء كل ما في الأرض يموت ...» وكان الطوفان على الأرض

__________________

١ ـ رحمة الله الهندى المصدر السابق.

٢ ـ يوحنا ١٦ : ٧ ، ١٣.

٣ ـ تثنية : ١٨ : ٢٠.

١٠٢

أربعين يوما ... فمات كل ذى جسد كان يدب على الأرض ... كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات» (١).

ومن الواضح أن الموت هنا تم عن طريق الغرق الذى لا يعتبر موتا طبيعيا.

وهذا المعنى جاء في حكم من يحاول قتل صاحبه «إذ بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحى تأخذه للموت» (٢).

يتبين لنا من هذا أن إحدى العلامات التى يعرف بها مدعى النبوة كذبا هو أن يقتلع من الأرض قبل أن يتم دعوته ويكون ذلك بالموت قتلا أو غيره.

ولكن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» حفظه الله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] وأتم دينه واكتملت دعوته وبلغ الأمر غايته.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] ذكر صاحب كتاب (الإنجيل والصليب) أنه جاء فى (إنجيل لوقا) ٢ : ١٤ «الحمد لله في الأعالى وعلى الأرض إسلام وللناس أحمد» ولكن المترجمين ترجموها فى الإنجيل هكذا :

«الحمد لله في الأعالى وعلى الأرض السلام وبالنّاس المسرة» ومؤلف الكتاب يرى أن الترجمة الصحيحة ما ذكره هو. يقول المؤلف أن ثمة كلمتين وردتا في اللغة الأصلية لم يدرك أحد ما تحتويان عليه من المعانى تماما فلم تترجم هاتان الكلمتان كما يجب في الترجمة القديمة من السريانية :

هاتان الكلمتان هما :

أيرينى ـ التى يترجمونها : السلامة.

وأيودكيا ـ التى يترجمونها : حسن الرضا.

فالأولى من الكلمتين اللتين هما موضوع بحثنا الآن هى (أيرينى) فقد ترجمت بكلمات «سلامة» «مسالمة» «سلام» والمؤلف يرى أن ترجمتها الصحيحة «إسلام» فيقول في ص ٤٠ «ومن المعلوم أن لفظ «إسلام» يفيد معانى واسعة جدا ويشتمل على ما تشتمل عليه ألفاظ (السلم ، السلام) (الصلح ، المسالمة) (الأمن ، الراحة) ... وتتضمن معنى زائدا وتأويلا آخر أكثر وأعم وأشمل وأقوى مادة ومعنى ،

__________________

١ ـ تكوين ٦ : ١٣ ، ١٧ ، ٧ : ١٧ ، ٢١ ، ٢٢ ١٠٣

٢ ـ خروج ٢١ : ١٤.

١٠٣

ولكن قول الملائكة «على الأرض سلام» لا يصح أن يكون بمعنى الصلح العام والمسالمة لأن جميع الكائنات وعلى الأخص الحية منها ولا سيما النوع البشرى الموجود على كرة الأرض دارنا الصغيرة هى بمقتضى السنن الطبيعية والنواميس الاجتماعية خاضعة للوقائع والفجائع الوخيمة كالاختلافات والمحاربات والمنازعات ... ، فمن المحال أن يعيش الناس على وجه الأرض بالصلح والمسالمة».

ثم يستشهد بقول المسيح «ما جئت لألقى نادراً على الأرض ما جئت لألقى سلاما بل سيفا» (متى ١٠ : ٣٤).

ويستشهد بقول آخر للمسيح : «جئت لألقى نادرا على الأرض فما ذا أريد لو اضطرمت؟ أتظنون أنى جئت لأعطى سلاما على الأرض كلا أقول لكم بل انقساما» (لوقا ١٢ : ٤٩ ـ ٥٣)

وعلى هذا فالترجمة لا تنطبق ورسالة المسيح وأقواله والصواب «وعلى الأرض إسلام». (أنظر البحث من ص ٣٨ ـ ٤٤) كما يرى أن (أيادوكيا) بمعنى (أحمد) لا (المسرة أو حسن الرضا) كما يترجمها القسس وذلك لأنه لا يقال في اليونانية لحسن الرضا (أيودوكيا) بل يقال (ثليما) ويقول أن كلمة «دوكوته» هى بمعنى (الحمد ـ الاشتهاء ـ الشوق ـ الرغبة ـ بيان الفكر). وها هى ذى الصفات المشتقة من هذا الفعل (دوكسا) وهى (حمد ، محمود ممدوح ، نفيس ، مشتهى ، مرغوب ، مجيد).

واستشهد بأمثلة كثيرة من اليونانية لذلك. قال : إنهم يترجمون (محمديتو) فى (أشعياء ٦٤ : ١١) ب (اندوكساهيمون) ويترجمون الصفات منها (محمد أحمد ، أمجد ، ممدوح محتشم ، ذو الشوكة) ب (ايندكسوس).

واستدل بهذا التحقيق النفيس أن الترجمة الحقيقية الصحيحة لما ذكره لوقاهى (أحمد ، محمد) لا (المسرة) فتكون الترجمة الصحيحة لعبارة الإنجيل :

«الحمد لله في الأعالى وعلى الأرض إسلام وللناس أحمد» (١).

نخلص مما سبق إلى أن :

صفات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ونعوته ، بل اسمه مذكور بالاسم قبل التحريف والتعديل ، وهم يعرفون ذلك حق المعرفة ، ومع اعترافهم إلا أنهم يقولون إن المقصود بها غيره وقد رددنا على هذه المزاعم.

__________________

١ ـ أنظر كتاب (الإنجيل والصليب) للأب عبد الأحد داود ص ٣٤ ـ ٥٣ [أسلم وحسن إسلامه] وأنظر أيضا : نبوة محمد من الشك إلى اليقين ص ٣٠٠ مكتبة البشائر عمان ١٤٠٣ ه‍. مصدر سابق.

١٠٤

ومن المعلوم أن رسول الله كان يطالعهم صباح مساء أنه مكتوب عندهم والوحى يبين صفاته ونعوته عندهم بكشف زيوفهم ولو لم يعلم محمد أنه مكتوب عندهم بل علم انتفاء ذلك لامتنع أن يخبر بذلك مرة بعد مرة ويستشهد به ويظهر ذلك لموافقيه ومخالفيه وأوليائه وأعدائه فإن هذا لا يفعله إلا من هو أقل الناس عقلا لأن فيه إظهار كذبه عند من آمن به منهم وعند من يخبرونه» (١).

لا يستطيع الكاذب أن يخاطب اليهود والنصارى ـ والتوراة والإنجيل بين أيديهم ـ بقوله على لسان القرآن (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ثم يوبخهم ويقرعهم بأنهم يجدونه فيها وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وليس من المتصور أن يجترئ على ذلك وهو يعلم كذب نفسه ، والكاذب ضعيف حتى عند نفسه.

كما أن اليهود ـ ومن خلفهم من المستشرقين ـ لا يعارضون في أن «حقيقة المعجزة لا تختلف وهى فعل خارق يقترن به التحدى ، وهذا قد وجد ـ كما أوضحنا فيما سبق ـ فى حق محمد بن عبد الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كما وجد في حق موسى ـ عليه‌السلام ـ فإن كانت المعجزة لا تفيد النبوة يلزمهم أن لا يعتقدوا بنبوة موسى وإن أفادت يلزمهم اعتقاد نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فقد جاء بالمعجزات ، جاء بالقرآن في زمن الفصحاء والبلغاء وسأل جميعهم أن يأتوا بمثله فأعجزهم ، فسألهم سورة منه ... فعجزوا فنادى بينهم على رءوس الأشهاد (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨]

وأخيرا ـ وكما سبق أن بيّنا ـ فإن تبشير الأنبياء به في الكتب المنزلة عليهم يقوم مقام المعجزات.

__________________

١ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ٣ ص ٢٩٢.

١٠٥
١٠٦

الفصل الخامس

شبهات المستشرقين حول

الوحي إلي محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وتفنيدها

تقديم :

المبحث الأول : أمية الرسول.

المبحث الثاني : الأخذ عن ورقة بن نوفل.

المبحث الثالث : الوحى النفسى المبحث الرابع : رد القرآن إلى أصول : يهودية ونصرانية.

١٠٧
١٠٨

كشفنا ـ فيما سبق ـ أن نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، ثابتة ـ على وجه القطع واليقين ـ بوجوه عديدة منها : دلالة المعجزات على النبوات ، وقد ثبت أن الله جل وعلا قد جمع له جميع أنواع المعجزات والخوارق : المادى والحسى منها ، والعقلى. وأجلها المعجزة القرآنية.

كما ثبت أن نبوته «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مقررة في التوراة والإنجيل ، فلم يأت نبى من بعد إبراهيم إلا من ذريته : إسماعيل وإسحاق.

ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غير محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وقد دعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولا منهم.

كما اتضحت أوجه التشابه ، بل التطابق بين الوحى الإلهى إلى موسى وعيسى ومحمد عليهم‌السلام.

وكما ثبت أن رسالتى موسى وعيسى وحى الله تعالى ثبت أيضا ـ فى التوراة والإنجيل ـ أن رسالة النبى الآتى ، محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وحى من الله تعالى ، كما أنها تصديقا وتثبيتا للرسالات السابقة ومهيمنة عليها.

فإن الله القادر على كل شىء أبان شخصيته قائلا : «وأجعل كلامى في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به» (١) فضلا عن وجوب اتفاق هذه الكلمات مع كلمات الوحى للرسالات السماوية السابقة لأنها ولا ريب من مصدر واحد هو الله الواحد الأحد ، مع ملاحظة الفارق الكبير بين الاتفاق والنقل (٢).

والمحصلة النهائية لما سبق أن الدين واحد ، لأنه صادر من مشكاة واحدة ، صفات الوحى إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» هى نفسها إلى موسى وعيسى عليهما‌السلام فما ذا يريد المستشرقون بعد هذا البيان المدعم بالأدلة العقلية والنقلية؟

التشكيك في الوحى إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

تجاهل كثير من المستشرقين ، تلك الحقائق عن الوحى وذهبوا مشككين فى مجىء الوحى الإلهى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وتباينت آراؤهم : فمن قائل : إنه حالة نفسية ، أو ما يطلقون عليه الوحى النفسى ، ومن قائل : إنها حالة مرضية ، كالصرع (٣) الهستيرى ، ومن قائل : إن محمدا كان من أعلى حالات الصحة النفسية والجسمية

__________________

١ ـ تثنية ١٨ : ١٨.

٢ ـ إبراهيم خليل أحمد : محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ص ٥٤ ـ ٥٦ «مصدر سابق».

٣ ـ وقد فندنا هذا الزعم في ردنا على كولدتسين (أنظر بحثنا : موقف جولدتسين من القرآن الكريم.

منشور بالكتاب الدورى بقسم الاستشراق. كلية الدعوة ـ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية).

١٠٩

والعقلية ـ تناقض مع القول السابق ـ وأن ما جاء به جمعه من البيئة المكية التى كانت تعج بالرهبان والآباء والقسس (!) ، ثم زعم هذا الفريق أن محمدا كان تلميذا نابها لورقة بن نوفل ـ رئيس الأكاديمية العلمية المكية.

أما أن محمدا كان أميا لا يقرأ ولا يكتب فهذا محض افتراء وكذب ـ عندهم ـ بدليل أنه نقل قصصه القرآنى من التوراة والإنجيل.

ونحن نقول : إن الادعاء سهل ، ولا سيما مع الضّغن ، ولكن العقلاء ، المنهجيين الذين لا يبغون إلا الحقيقة ، والحقيقة وحدها ، فإنهم يعولون على الوقائع والبراهين ، وفي الصفات التالية سنتناول ـ بإذن الله افتراءات المستشرقين وجهالتهم ومزاعمهم بالعرض والتفنيد.

١١٠

المبحث الأول

شبهتهم حول أمية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

أمية محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ثابتة تاريخيا ، وقد نقل إلينا بالتواتر ، أنه كان لا يعرف الكتابة ولا القراءة ، قال الله جل وعلا : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)) [العنكبوت : ٤٨].

فلم يقرأ في صحيفة ، ولم يكتب شيئا بيده منذ ولد إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.

ذهب بعض المستشرقين إلى تكذيب الحقائق التاريخية ، وإنكار التواتر كمصدر موثوق فيه من مصادر المعرفة ، فادعى مستشرق يدعى (ستوبرت) أن محمدا لم يكن أميا ، فيقول : «... ويغلب على ظنى أن محمدا لم يكن أميا ، لأن هناك بعض الآثار الإسلامية تدل بأنه كتب صلح الحديبية بيده» (١).

أما «مونتجمرى واط» فلأنه موضوعى ومنهجى ، ومحايد وقطع على نفسه عهدا ألا يقول شيئا يجرح به مشاعر المسلمين ، فإنه حاور وناور حول أمية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ليصل إلى الهدف الذى أشار إليه مباشرة «سنوبرت» ألا وهو إنكار أو التشكيك فى أمية الرسول.

ذهب «واط» يفسر لنا المقصود ب (ما أنا بقارئ) إجابة على طلب جبريل : «اقرأ». يقول : «يجب تفسير قول محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (ما أقرأ) فى رده على قول الملك (اقرأ) ب (لا أستطيع القراءة) أو (التلاوة). يتضح لنا ذلك من وجود رواية تقول : ما أنا بقارئ وفي التمييز عند ابن هشام : (ما أقرأ)؟ و (ما ذا أقرأ)؟ حيث التعبير الثانى لا يمكن أن يعنى إلا (ما ذا أتلو) وهذا هو المعنى الطبيعى لقوله (ما أقرأ)؟.

«ثم يضيف (واط) قوله : «ويبدو من المؤكد ، تقريبا ، أن المفسرين التقليديين اللاحقين تجنبوا المعنى الطبيعى ـ الذى اكتشفه هو ـ لهذه الكلمات ليجدوا أساسا للعقيدة التى تريد أن محمدا لم يكن يعرف الكتابة ، وهذا عنصر رئيسى للتدليل على طبيعة القرآن المعجزة» (٢).

واضح من كلام «ستوبرت» و «واط» وحدة الهدف.

وهو نفى أوجه إعجاز القرآن ، من ناحية أخرى إقامة الدليل على أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم»

__________________

١ ـ. ٥٥ ـ ٥٣.Isla manditsFounderPP : NonC hristianReligion

٢ ـ واط : محمد في مكة : ص ٨٥ تعريب شعبان بركات المطبعة العصرية. بيروت.

١١١

قد قرأ التوراة والإنجيل وعنهما نقل قرآنه.

غير أننا نلاحظ أن المستشرق الأول ساق كلامه دون دليل تاريخى لا يقبل النقض ، فزعم أن محمدا هو الذى كتب بيده صلح الحديبية.

وقصة صلح الحديبية معروفة ومشهورة في الكتب الصحاح. التى تؤكد أن على بن أبى طالب هو الذى كان يكتب. والجدل الذى دار بين رسول الله وبين رسول الكفار أشهر من أن ينكر.

أخرج الإمام مسلم من حديث البراء بن عازب : «كتب على بن أبى طالب الصلح بين النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وبين المشركين يوم الحديبية ، فكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ، فقالوا : لا تكتب رسول الله ، فلو نعلم أنك رسول لم نقاتلك ، قال النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لعلىّ : امحه. فقال : ما أنا بالذى أمحاه ، فمحاه النبى بيده» (١).

وعند مسلم رواية أخرى : «.. فأمر ـ أى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» عليّا أن يمحاه ، فقال على لا والله لا أمحاه ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : أرنى مكانها ، فأراه مكانها ، فمحاه وكتب ـ أى على ـ ابن عبد الله» (٢).

ويستفاد من رواية الإمام مسلم أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يستدل على العبارة المطلوب محوها إلا بإرشاد علىّ. وفي قول الرسول لعلىّ أى للكاتب : أرنى مكانها ، دلالة على أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة فلجأ إلى الكاتب.

هذا عن الواقعة التى أراد (ستوبرت) الاستشهاد بها ، ويبدو أنه لم يكلف نفسه مئونة الرجوع إلى المصادر الإسلامية ، واكتفى بالتخمين ، أو يكون قد اطلع على كتب السنة الصحيحة إلا أنه آثر التشويش.

أما القرآن فإنه يؤكد حقيقة أمية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) وفي قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة : ٢] فهل بعد ذلك يقال : إن محمدا كان يعرف القراءة والكتابة؟

لقد أجاب القرآن بالنفى ، وبرهن بأمية الرسول الكريم على ربانية تعاليمه ، إنه لا يقرر فحسب أنه أمى من شعب أمى ، أى غير متعلم وإنما يؤكد ، بصريح العبارة ، أنه

__________________

١ ـ أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير. باب صلح الحديبية ج ١٢ ص ١٣٥ بشرح النووى.

٢ ـ إخراج مسلم : السابق.

١١٢

لم يسبق له أن قرأ كتابا قبل القرآن أو كتب بيده. ولا شك أن معارضيه كانوا يعرفون أنه أمى لم يقرأ ولم يكتب من قبل ، لذلك (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] لم يجرءوا أن يقولوا «كتبها» وإنما قالوا «اكتتبها» أى كتبها له غيره ، وهما عبارتان مختلفتان تمام الاختلاف (١).

وعند آية العنكبوت (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ). يقول الإمام ابن تيمية : «بيّن سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه متواتر عند من غاب عنه وبلغته أخباره من جميع الناس أنه كان أميا لا يقرأ ولا يخط كتابا من الكتب المنزلة ولا غيرها ولا يقرأ شيئا مكتوبا لا كتابا منزلا ولا غيره ولا يكتب بيمينه ولا ينسخ شيئا من كتب الناس لا المنزلة ولا غيره» (٢).

أما «واط» فإن كتب السيرة التى عرضت لحياة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أى الواقع التاريخى له ينكر ما ذهب إليه ، ففضلا عما أجبنا به ، جاء فى «فتح البارى للإمام ابن حجر» حول «ما أنا بقارئ» : «ما نافية ، إذ لو كانت استفهامية لم يصح دخول الباء ، وإن حكى عن الأخفش جوازه فهو شاذ ، والباء زائدة لتأكيد النفى ، أى ما أحسن القراءة» (٣) يقول الطيبى : «إن ما أنا بقارئ يفيد التقوية والتأكيد. والتقدير : لست بقارئ البتة.

إن محمدا لم يكن يعيش في كوكب غير كوكب الأرض ، ولو كان يعرف شيئا من الكتابة والقراءة لارتاب في أمره المبطلون من المشركين ، فقالوا : لعله تعلمه من غيره ، وكتبه بيده ، لقد شهد قومه المعادون له أنه : لم يكن يقرأ شيئا من الكتب لا نسخا ولا حفظا لأنه أمى (٤).

فضلا عن أن «واط» تعامل مع رواية «ابن هشام» تعامل «لا تقربوا الصلاة» و «فويل للمصلين» فبالرجوع إلى ابن هشام وجدنا الرواية تقول : «قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : فجاءنى جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ. قال : قلت ما اقرأ ...».

يقول الدكتور «جعفر شيخ إدريس» : واضح من الرواية إذن أن المقصود قراءة شىء مكتوب فيكون معنى «ما اقرأ» : «لا أعرف القراءة».

__________________

١ ـ د. محمد عبد الله دراز : مدخل إلى القرآن الكريم ص ١٤٠ دار القلم الكويت ١٣٩٤ ه‍ ـ ١٩٧٤ م.

٢ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ٤ ص ٣١.

٣ ـ ابن حجر : فتح البارى لشرح صحيح البخارى ج ١ ص ٢٤ ، السيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٣٩٣.

٤ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ١ ص ١٤١ ، ج ٤ ص ٣٤.

١١٣

وتقول الرواية بعد ذلك «قال : فغتنى به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلنى فقال : اقرأ. قال : قلت ما ذا اقرأ؟ قال : فغتنى به حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلنى فقال : اقرأ. قال : فقلت : ما ذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لى بمثل ما صنع بى فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(١)(٢).

وواضح أن الرواية أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قال لجبريل : لا أعرف القراءة ، فلما غته أراد الرسول تفادى هذه الغتة مرة أخرى فقال له : ما ذا تريدنى أن أقرأ؟.

من ناحية أخرى فإن «واط» يغمز رواة الحديث بأنهم وضاعون فتصرفوا في رواية ابن هشام ـ وغيرها ـ بحيث تؤدى إلى تقرير أمية محمد ، أى أن حقيقة أمية محمد من اختراع الرواة المتأخرين ، و «واط» هنا يتجاهل تقرير القرآن لهذه الحقيقة إذ يقول : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨].

إن مقتضيات البحث العلمى تلزم الباحث الجاد ألا يقتصر على رواية واحدة ، بل عليه فحص الروايات الأخرى المتعلقة بنفس الموضوع.

ثم يعود «واط» إلى رمى الإسلام بما ليس فيه فيقول : «إن الإسلام التقليدى يقول بأن محمدا لم يكن يقرأ ولا يكتب. ولكن هذا الزعم مما يرتاب فيه الباحث الغربى ، لأنه يقال لتأكيد الاعتقاد بأن إخراجه للقرآن كان معجزا. وبالعكس لقد كان كثير من المكيين يقرءون ويكتبون ، ولذلك يفترض أن تاجرا ناجحا كمحمد لا بد أن يكون قد عرف شيئا من هذه الفنون» (٣).

وإن تعجب فعجب قوله : الإسلام التقليدى. الإسلام التقليدى هو الذى يقرر أمية محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أما الإسلام المتحرر ، الإسلام الاستشراقى فإنه يرتاب في تقريرات الإسلام التقليدى.

ما ذا يقصد «واط» بالإسلام التقليدى؟ لا إجابة ، ونحن نهديها إليه.

الإسلام هو القرآن الكريم ، لأنه هو الذى قدر حقيقة واقعة هى أمية رسولنا الكريم ، وذلك قبل أن يتكلم أو يسجل رواة الأحاديث مع أنهم عدول ثقات جاء هذا التقرير في آيات عديدة ذكرنا جانبا منها : فى سورة العنكبوت آية ٤٨ وسورة الأعراف آية ١٥٧ ، وسورة الجمعة آية ٢.

__________________

١ ـ ابن هشام : السيرة النبوية تحقيق مصطفى السقا وآخرين ج ١ ص ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، دار إحياء التراث العربى.

٢ ـ د. جعفر شيخ إدريس : منهج «واط» فى دراسة نبوة محمد ص ٢٢٣ (مناهج المستشرقين فى الدراسات العربية والإسلامية ج ١).

٣ ـ واط : محمد نبيا ورجل دولة ص ٣٩ ـ ٤٠ ، د. جعفر شيخ إدريس : المصدر السابق ص ٢٢٥.

١١٤

هذا هو إسلامنا التقليدى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذى يرتاب فيه الباحث الغربى الحديث.

ويبدو أن «واط» لم يستطع أن يفرق بين الارتياب والرفض والإنكار ، فللباحث أن يرتاب فيما يدعيه خصمه إلى أن يثبت لنفسه أو لخصمه فإن كان لخصمه قبله حتى لو كان فيه تأييدا لما كان ينكره من قبل ، وإن كان له عده تأييدا لدعواه.

غير أن حاصل كلام «واط» الرفض والإنكار دون إبداء الأسباب أو الأدلة ، فقد سارع ـ دون مناقشة ـ إلى إصدار حكمه ، كشفا عن خبيئة نفسه ، فيقول : «وبالعكس لقد كان كثير من المكيين يقرءون ويكتبون ، ولذلك يفترض أن تاجرا ناجحا كمحمد لا بد أن يكون قد عرف شيئا من هذه الفنون». لم يف «واط» بما قاله في مقدمة كتابه «محمد في مكة» من أنه لن يقول شيئا يمس دين المسلمين ولا يجرح مشاعرهم ، لقد أساء المستشرق إلى ديننا ، وإلى مشاعرنا. لقد أراد هدم القرآن ، فى سبيل تأييد موقف اتخذه مسبقا. وفيه ، وفي أمثاله يصدق قول الدكتور (سنوك هير غونجة) : «إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقضى عليها بالعقم إذا سخرت لأية نظرية أو رأى سابق» (١).

وإذا كان قد كان قد افترض أن تاجرا ناجحا كمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قد تعلم شيئا من الفنون والعلوم التى كانت تدرس في مكة وما حولها! فلما ذا لم يدلل على صحة فرضه هذا؟

من جهة أخرى : هل البحث العلمى الأصيل ، أو الفرض العلمى الجاد يحتمل مثل هذا التأكيد الذى أطلقه (واط) ، (لا بد)؟ أم أنها كما قلنا نتيجة معدة سلفا؟ وإذا كان القسيس «واط» أكد أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كان قارئا كاتبا ، فإن مستشرقا آخر يرى غير ذلك ويدفع فرية «واط» ، يقول «ول ديورانت» «إن أحدا لم يعن بتعليم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» القراءة والكتابة .. ولم يعرف عنه أنه كتب بنفسه ... ولكن هذا لم يحل بينه وبين قدرته على تعرف شئون الناس تعرفا قلّما يصل إليه أرقى الناس تعلما» (٢).

وقد عقد «توماس كارليل» فصلا رائعا عن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، تكلم فيه ـ فيما تكلم ـ عن أميته ، فقال : «إن محمدا لم يتلق دروسا على أستاذ أبدا ... ويظهر لى أن الحقيقة هى أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يكن يعرف الخط والقراءة» (٣).

__________________

١ ـ د. عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة ص ٢٣ دار الثقافة. الدوحة ١٤١٠ ه‍ ـ ١٩٨٩ م.

٢ ـ ديورانت : قصة الحضارة ج ١٣ ص ٢١ ، ٢٢ ترجمة محمد بدران وآخرين لجنة التأليف والترجمة القاهرة ط ٢.

٣ ـ توماس كارليل : الأبطال. ترجمة محمد السباعى ص ٥ الدار القومية. القاهرة (ب. ت).

١١٥

هذان مستشرقان غربيان وليسا بإسلاميين ، وفقا هنا حين أنصفا الحقيقة التى لا يمارى فيها إلا مكابر.

وأخيرا وقع المستشرق «واط» فى مأزق ـ وهو الباحث الحازق ـ حين أوقف إعجاز القرآن على أمية محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فقط. فهل نلتمس له العذر باعتباره لم يستطع الوقوف على أوجه إعجاز القرآن لاعتبارات عديدة هو مفتقر إليها منها ـ فيما يقول صاحب الكشاف ـ «... لا يغوص على شىء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع فى علمين مختصين بالقرآن وهما : علم المعانى وعلم البيان ، وتمهل في ارتيادهما آونة وتعب في التنقير عنهما ، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله ، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ ... فارسا في علم الإعراب .. ذا دراية بأساليب النظم والنثر ... قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف ... وكيف ينظم ويرصف» (١).

لقد خاض المستشرق في بحر لجى لا يحسن السباحة فيه.

و «واط» متخبط ، فهو فى «محمد في مكة» يعتبر أمية الرسول هى العنصر الرئيسى للتدليل على إعجاز القرآن ، بحيث إذا سقطت الأمية انتفى الإعجاز القرآنى وهذا ما فندناه منذ قليل. ثم يعود في كتابه «محمد نبيا ورجل دولة» ليقر بأن أمية الرسول من الأدلة المؤيدة لإعجاز القرآن. وقد أصاب هنا «وذلك لأن القرآن يقول : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)) [العنكبوت : ٤٨].

فالقرآن لا يقول : «إذن لثبت أن القرآن ليس وحيا» وإنما قال : (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أى لوجد الجاهلون في ذلك شبهة يتمسكون بها ، فالأمية دليل مؤيد وليس دليلا ضروريا» (٢).

وثمة مأخذ آخر على «واط» إذ يقول «ويبدو من المؤكد ، تقريبا» (٣). فكيف يجتمع التأكيد الذى هو اليقين ، والتقريب الذى هو الاحتمال والإمكان؟

ننتقل بعد ذلك إلى تناول الوحى من زاوية أخرى ولكنها متصلة بأمية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

__________________

١ ـ الزمخشرى : الكشاف ج ١ ص ٣ ط. أولى المطبعة الشرقية.

٢ ـ د. جعفر شيخ إدريس : المصدر السابق ص ٢٢٥.

٣ ـ محمد في مكة ص ٨٥.

١١٦

المبحث الثاني

الأخذ عن ورقة بن نوفل

منابع الوحى إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى الرؤية الاستشراقية :

دأب أهل الكتاب قديما ، وخلفهم المستشرقون حديثا على الطعن في الوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، باتهامه : أنه تعلم من غيره ، ثم من هذا الذى جمعه من هنا وهناك لفق الدين الذى جاء به ، فزعمت النصارى أنه تعلم من ورقة بن نوفل ، والراهب بحيرى ، وزعمت اليهود أنه تتلمذ لعبد الله بن سلام ، وأنه قرأ التوراة والإنجيل ونقل عنهما ، وردد كثير من المستشرقين ـ محدثين ومعاصرين ـ هذه الافتراءات. وسوف نرى فى الصفات التالية نماذج من هذه المزاعم ثم نأتى عليها مفندين ، لنظهر ما فيها من تهافت وما تنطوى عليه من بطلان.

الأخذ عن ورقة بن نوفل :

ذهب المستشرق «إميل درمنغام» إلى أن محمدا التقى «بورقة بن نوفل» وأخذ عنه أصول دينه ، وحاذاه المستشرق المعاصر «مونتجمرى واط» حذو النعل بالنعل ، وإن حاول أن يجعل كلامه محبوكا بقدر الإمكان.

كلام «واط» عن الأثر العلمى لورقة مبنى على شكه في أمية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وقد كان يكفينا ذلك في إبطال شكوكه ، لأنه بانهيار فروضه وشكوكه حول أمية محمد ، ينهار زعمه الأخذ عن ورقة ، غير أننا آثرنا تناول هذه الفرية كما عرضها ، لأن تناوله لها كان فجا ، قبيحا في افتراءاته ، ففي تناوله لموضوع الأمية حاول التدثر بالمنهجية تارة وبالدقة أخرى ، غير أنه هنا لم يراع لا دين ولا مشاعر للمسلمين.

يتحدث «واط» عن المنابع الرئيسية للوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فيؤكد على ارتباط محمد ، من خلال زوجته خديجة بورقة ، ثم ذهب يستنتج ، وليت استنتاجه خضع لأبسط القواعد المنهجية.

يقول صاحب «محمد في مكة» : كانت خديجة «ابنة عم رجل يدعى ورقة بن نوفل بن أسد ، وهو رجل متدين اعتنق أخيرا المسيحية. ولا شك أن خديجة قد وقعت تحت تأثيره ، ويمكن أن يكون محمد قد أخذ شيئا من حماسه وآرائه» (١).

أما عن تنصر ورقة فأمر ثابت في كتبنا الصحاح ، جاء في أسد الغابة : «خرج زيد

__________________

١ ـ واط : محمد في مكة ص ٧٤ ـ ٧٥.

١١٧

بن عمرو بن نفيل في الجاهلية يطلب الدين وورقة بن نوفل ، فلقيا اليهود ، فعرضت عليهما يهود دينهم فتهود ورقة ، ثم لقيا النصارى فعرضوا عليهم دينهم ، فترك ورقة اليهودية وتنصر ، وأبى زيد بن عمرو بن نوفل أن يأتى شيئا من ذلك. وقال : ما هو إلا كدين قومنا ، تشركون ويشركون ، ولكنكم عندكم من الله ذكر ، ولا ذكر عندهم ، فقال له راهب : إنك لتطلب دينا ما هو على الأرض اليوم ، فقال : وما هو؟ قال : دين إبراهيم كان يعبد الله ولا يشرك به شيئا (١).

ما سقنا هذا النص إلا لدلالته على فساد ما كان عليه اليهود والنصارى اللهم إلا بقية من الفطرة السليمة ، فضلا عن بشارة الراهب بنبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

ولنقف قليلا عند قوله «ولا شك أن خديجة قد وقعت تحت تأثيره ـ أى تأثير ورقة المسيحى ـ ويمكن أن يكون محمد قد أخذ شيئا من حماسه وآرائه».

فى هذا الكلام نشم رائحة التآمر بين خديجة ـ أم المؤمنين ـ وابن عمها ورقة ـ وحاشاهما ـ ليوقعا بمحمد تحت سيطرة ورقة وهدف المستشرق أبعد من هذه التلميحات. إنه يريد أن يقول : إن محمدا نهل من العلوم النصرانية التى كانت عند ورقة. لذلك نجده يصرح بهذا ـ بعد ذلك ـ فيقول «ويبدو أن ورقة من بين الذين اتصل بهم محمد لسبب معرفته بكتب المسيحية المقدسة ، ولا شك أن المقطع القرآنى حين ردده محمد قد ذكره بما هو مدين به لورقة ... ولهذا فمن الأفضل الافتراض بأن محمدا كان قد عقد صلات مستمرة مع ورقة منذ وقت مبكر ، وتعلم أشياء كثيرة وقد تأثرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيرا بأفكار ورقة. وهذا ما يعود بنا إلى طرح مشكلة العلاقة بين الوحى الذى نزل على محمد والوحى السابق له» (٢).

يريد «واط» أن يقول : إن النبى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مدين بفكرة الوحى لورقة بن نوفل.

ما هى إذن حكاية ورقة وعلاقته بنبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، كما جاءت في الكتب الصحاح؟

يروى إمام المحدثين البخارى عن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ قصة بدء الوحى. إذ تقول : «أول ما بدئ به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من وحى الرؤيا الصالحة فى النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع (٣) إلى

__________________

١ ـ تاريخ العرب في الجاهلية ص ٤٨٨ ، ٤٨٩.

٢ ـ محمد في مكة ص ٩٣.

٣ ـ ينزع : يرجع.

١١٨

أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق ـ الوحى وسمى حقا لأنه من الله الحق ـ وهو في غار حراء.

فجاء الملك ، فقال : اقرأ ، فقال : ما أنا بقارئ. قال : «فأخذنى فغطنى (١) حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى الثالثة ثم أرسلنى فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)) [العلق : ١ ـ ٥]. فرجع بها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : «زملونى ، زملونى (٢)» فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع (٣) فقال لخديجة وأخبرها الخبر : «لقد خشيت على نفسى» فقالت : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل وتكسب المعدوم (٤) ، وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق».

ما إن جاء «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» خديجة وقص عليها حتى انطلقت إلى ورقة بن نوفل ابن عمها ، وكان قد تنصر وقرأ الكتب ـ كما أسلفنا ـ فقالت خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة. يا ابن أخى ما ذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى. فقال له ورقة : هذا الناموس الأكبر الذى أنزل على موسى ، يا ليتنى فيها جذع ، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : «أو مخرجى هم؟». قال ورقة : نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودى ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى» (٥) ، وذكر صاحب «الطبقات الكبرى» رواية أخرى ، على النحو التالى : «ثم أتت ـ أى خديجة ـ ورقة بن نوفل فذكرت له ذلك. فقال : إن يك صادقا فهذا ناموس مثل ناموس موسى ، فإن يبعث وأنا حى فسأعزره وأنصره وأؤمن به» (٦).

لما ذا ذهبت خديجة إلى ورقة؟ الإجابة التى اجتمعت عليها المصادر التاريخية

__________________

١ ـ غطنى : ضمنى إليه وعصرنى.

٢ ـ زملونى : أى أدخلونى في ثياب وغطونى بها. ٤ ـ تعطى مالا يعطيه غيرك من المال وغيره.

٣ ـ وهو الفزع والخوف

٤ ـ أخرجه البخارى في صحيحه. وانظر : تاريخ الطبرى ج (٢) ص ٢٩٨ ـ ٢٩٩ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط (٤) دار المعارف بمصر.

٥ ـ محمد في مكة ص ٩٣.

٦ ـ ابن سعد : الطبقات الكبرى ج (١) ص ١٩٥ طبعة بيروت.

١١٩

المعتبرة لدى المسلمين وكتب السيرة أنها ذهبت لتخبر ورقة بأمر الملك الذى جاء رسولنا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ومنه يتضح :

١ ـ أن لقاء الرسول والسيدة خديجة مع ورقة كان بعد الوحى لا قبله.

٢ ـ أنه لم يسبق للرسول أن التقى مع ورقة من قبل.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن رواية ابن سعد ذكرت أن لقاء خديجة بورقة كان دون محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وعليه يكون محمد لم يلتق بورقة إطلاقا.

غير أن المستشرق «واط» مصرّ على أن محمدا التقى مرات ومرات بورقة بل وبغيره من علماء مكة (!). فيقول : «ويبدو ورقة من بين الذين اتصل بهم محمد لسبب معرفته بكتب المسيحية المقدسة» (١).

افتراضات وظنون قائمة على التعصب البغيض أدت بالمستشرق ـ المنهجى المحايد (!) ـ إلى دائرة التصور الجاهلي للنبوة والوحى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣].

أما حديث إمام المحدثين ، البخارى ـ والذى مر بنا ـ عن بدء الوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». والذى ينتهى ب «ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى» ، فيعقب المستشرق بقوله : «وأما بقية القصة ، من ناحية ثانية ، فهى تشعرنا بمحاولة لتفسير السبب الذى من أجله لم يصبح ورقة مسلما ، ولسبب آخر مشابه ، فإن النص الذى يجمع بين محمد وورقة أفضل من الذى يجعلهما لا يلتقيان» (٢).

هذا التشكيك ليس من كلام «واط» وإنما هو ل «كايتانى» استشهد به «واط» لتأييد شكه في واقعة غار حراء التى ينبنى عليها الوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

والنص يتهم المحدثين والرواة بالوضع ، فمن ناحية يرون أن من مصلحة محمد أن يلتقى بورقة لما فيه من تأكيد واقعة غار حراء ، ولكنهم وقعوا في مأزق هو : إذا كان ورقة أكد لمحمد أن هذا الذى جاءه هو الناموس الذى جاء موسى ، أى أن ما جاء محمد هو الحق ، فلما ذا لم يؤمن به ورقة؟ لذلك لجئوا إلى وضع أو زيادة هذه العبارة : : «ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى».

روى الإمام الترمذى عن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أنه رأى ورقة في المنام وعليه ثياب بيض. ورد أيضا قوله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : «رأيت القسّ في الجنة وعليه ثياب الحرير ، لأنه أول من آمن بى» (٣).

__________________

١ ـ محمد في مكة ص ٩٣.

٢ ـ محمد مكة ص ٩٢.

٣ ـ الشيخ أبو بكر الجزائرى : هذا الحبيب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ص ٨٦ مكتبة لينة بمصر ١٤٠٨ ه‍ ـ ١٩٨٨ م.

١٢٠