تراثنا ـ العددان [ 127 و 128 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 127 و 128 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٤٩٤

من ذخائر التراث

٤٢١
٤٢٢

٤٢٣
٤٢٤

مقـدّمة التحقيـق

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة :

المخطوطة ـ وأهمّيتها في دارسة التاريخ :

تكمن أهمّية المخطوط في تعريف دارس التاريخ بأهمّية مدينة النجف الأشرف ليس على الصعيد الديني ـ باعتبارها قد ضمّت بين جنبيها قبر باب مدينة علم رسول الله(صلى الله عليه وآله) الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ـ فحسب بل على الصعيد الفكري والعلمي وعلى طوال أكثر من عشرة قرون مضت.

لقد اكتسبت هذه المدينة كياناً خاصّاً ميّزها عن سائر الحواضر والمدن في عالمنا الإسلامي منذ نزول شيخ الطائفة الشيخ الطوسي إلى هذه المدينة هارباً من بغداد سنة (٤٤٨هـ) ولاجئاً إلى مدينة النجف الأشرف ، ليؤسّس جامعة إسلامية تضاهي المدارس الإسلامية في ذلك الوقت ، ولتصبح مناراً يحتذى به ومرجعاً لجميع المسلمين بصورة عامّة والشيعة بصورة خاصّة.

ولتصبح المدينة مصدر عطاء دينيّ وعلميّ وفكريّ ، وخزيناً نادراً

٤٢٥

لشطر كبير من تراثنا العربي والإسلامي سيّما المتمثّل منه بعلوم الفقه ، والأصول ، والحديث ، والفلسفة ، مضافاً إلى التراث الأدبي العام والثقافي الشامل.

إذ أنجبت العديد من العلماء والأدباء والمفكّرين والمشايخ ، وما تميّزت به من مكانة فكرية وثقافية ، وينبوعاً ينتهل منه القاصي والداني من خلال الهجرة إليها ، والتلمذة على منبرها ، والنهل من علومها ومعارفها ، كانت ولازالت قبلة العالم الإسلامي على مختلف مشاربهم الفكرية والمذهبية.

ولم يقف دورها عند العلوم الدينية والحوزوية فحسب ، بل كانت لها الريادة الثقافية في مواكبة روح العصر والتطوّر في مختلف الميادين المعرفيّة من أجل إيصال الكلمة وإبراز الدور المهمّ الذي تضطلعه هذه المدينة ، إذ أخذت تعبّر عن آرائها وأفكارها عبر الصحف والمجلاّت عبر كتّابها ومثقّفيها على مختلف مستوياتهم ومشاربهم الفكرية.

ومن ثمّ أخذت على عاتقها جمع كلمة الأمّة الإسلامية بعدما تعرّضت الأمّة إلى التمزّق والتشرذم في كيانات ودول محكومة من قبل المستعمر ، لذا تصاعدت أصواتها المعبّرة عن الحرّية والاستقلال عبر منتدياتها وجمعيّاتها ، والانفتاح الفكري على جميع المذاهب والثقافات من خلال ما امتلكته من أسس علمية وحسّ عميق بضرورة الوحدة الإسلامية.

من هنا كان اختيارنا لهذه المخطوطة التي سلّطت الضوء على إحدى الشخصيّات المؤثّرة داخل البيئة النجفيّة ألا وهو المرجع الدينيّ الكبير (الشيخ

٤٢٦

أحمد آل كاشف الغطاء) ، الذي ينتمي إلى أسرة علمية عريقة شاركت مشاركة فعّالة في صنع تاريخ النجف الفكري ، حيث تزعّمت الحركة الدينية فيها نحو مائة وثمانين سنة منذ هجرة جدّها الأعلى الشيخ خضر بن يحيى المالكي إلى النجف ، والذي خلفه نجله الشيخ جعفر الكبير صاحب كتاب كشف الغطاء المعروف ، حتّى وصل الأمر إلى صاحب هذه الترجمة ، هذه الشخصية التي كان لها دوراً بارزاً طوال أدوار حياته المختلفة ، وليضع بصمة واضحة في تاريخ هذه المدينة الفكري ، أو مشاركته وغيره من العلماء في المضيّ إلى سوح الجهاد لقتال قوّات الإنكليز.

وبرز بين أقرانه في وقت قصير بسبب ذكائه الخارق ونبوغه المبكّر ، ونال الدرجة العالية وهو في أوان عهد شبابه ، فصار هو مع أخيه المجتهد الشيخ محمّد الحسين محلّ اعتماد العلماء وثقة أستاذهم المرجع الكبير آنذاك آية الله العظمى السيّد كاظم اليزدي ، وبعد وفاة السيّد الكبير ، انعقد لواء المرجعية للشيخ.

رسمت هذه المخطوطة صورة واضحة لكثير من ملامح حياة الشيخ في كثير من مفاصلها ، وأهمّ أدوار حياته الاجتماعية والعلمية ، ونتاجاته الفكرية ، وبالأخصّ على المحور الفقهي ، وتتبّع حياته إلى حين وفاته ، وكيف أثّر ذلك على تلامذته وعلى جميع طبقات المجتمع ، وفيما بعد تصدّى شقيقه العلاّمة الشيخ (محمّد الحسين كاشف الغطاء) إلى المرجعية الدينية.

وقد نقول أنّ هذه المخطوطة قد انفردت بذكر علم من أعلام مدينة

٤٢٧

النجف الأشرف ، إذ لاتوجد دراسة سابقة ولا لاحقة تناولت بهذا التفصيل حياة الشيخ ، وإن كانت وريقات لكنّما ضمّت بين دفّتيها كثيراً من المعلومات التي انفرد بها دون غيرها ، وإن كان هناك بعض التراجم المتناثرة لحياة الشيخ في بعض المصادر الرجالية وكتب الفهارس ، لكنّها تجاهلت كثيراً من مفردات حياته ، ممّا يضع أمامنا عدّة مؤشّرات وعلامات استفهام حول الأسباب التي جعلت الباحثين لم يطنبوا بدراسة مفصّلة وعميقة عن أدوار حياته ؛ مع العلم أنّها كانت غنيّة ومعطاءة خلال سنوات كان فيها للشيخ أدوار متعدّدة ليس فحسب على صعيد العلم والفكر ، بل في خضمّ التقلّبات السياسية وآثارها التي ترتّبت فيما بعد ليس على العراق فحسب ، بل وعلى محيط الأمّة الإسلامية والعربية ، ورسم خارطة جديدة للمنطقة كانت عنواناً بارزاً لسياسة التقسيم والتجزّي التي انتهجته الدول الاستعمارية ، فقد كان له الدور السبق مع أستاذه السيّد اليزدي ونجله السيّد محمّد في مقارعة الغزو البريطاني للعراق ورفع راية الجهاد من أجل مناهضة المحتلّ.

والأهمّ من هذا وذاك أنّ الشيخ كاشف الغطاء نال المرجعية العليا المطلقة بعد وفاة أستاذه السيّد كاظم اليزدي ، وإن لم تستمرّ عاماً واحداً ، إلاّ أنّ هذا الأمر يعطيه خصوصية أخرى تجعله مجال الاهتمام من الباحثين والدارسين لتاريخ هذه المدينة وعلمائها.

ومهما يكن من أمر تعدّ هذه المخطوطة من المخطوطات المهمّة التي تمتلكها خزانة آل كاشف الغطاء (مكتبة الإمام الشيخ محمّد الحسين كاشف

٤٢٨

الغطاء) والتي ألّفها الشيخ عبد المولى الطريحي ، مع العلم أنّ هذه الوريقات قد طبعت في مجلّة العرفان ، ولكن لأهمّيتها وماتحويه من معلومات مهمّة ، ولكونها الدراسة الوحيدة عن الشيخ ارتأينا دراسة وتحقيق هذه المادّة ومقابلة النسختين المخطوطة والمطبوعة من أجل الوصول إلى النصّ الحقيقي الذي نطق به المؤلّف بعدما تعذّر علينا الحصول على نسخة بخطّ المؤلّف.

ومن خلال دراستنا وقراءتنا المتأنّية لهذه المخطوطة في وريقاتها لم نجد ما يشير أنّ الشيخ الطريحي قد دوّن بيده هذه الأوراق ، ولا يوجد ما يشير في نهاية المخطوط إلى ذلك ، حتّى أنّ ناسخ هذه الوريقات لم يذكر ذلك ، ولم يذكر سنة نسخه لهذه المخطوطة ، ولم يدوّن اسمه في نهايتها ، على الرغم أنّ الخطّ المدوّن في هذه الوريقات كان خطّاً واضحاً ومقروءاً ، ويسهل فهم الكلمات على الباحثين وغيرهم من دون عناء.

اتّسم منهج الشيخ الطريحي في هذه المخطوطة بعبارات واضحة وسلسة إذ لم يستخدم الكلمات المبهمة وغير المفهومة التي تحتاج إلى مراجعة كتب اللغة والمعاجم للاستدلال على معانيها ، على أنّ ذلك لا يعني أنّ المخطوط لا يحوي على بعض الكلمات البلاغية التي تحتاج إلى فهم معناها ، لكنّها كانت قليلة يسهل معرفة معناها ، وهذا إن دلّ فهو يدلّ على دقّة وبساطة المنهج الذي أستخدمه المؤلّف رغم تطوّر البيئة الفكرية والمعرفية والثقافية في تلك الحقبة الزمنية.

كانت المنهجية التي سار عليها الشيخ الطريحي في كتابته لهذه

٤٢٩

المخطوط تتّسم بالبساطة والسلاسة ودقّة نقل الأحداث ، وآليات منهجيّته تتناسب مع واقع البيئة التي عاش بها وهي مدينة النجف الأشرف وتطوّر الحركة الفكرية على مختلف مستوياتها كافّة ، مراعياً في ذلك التسلسل الزمنيّ للأحداث في حياة المترجم منذ الولادة والنشأة وحتّى وفاته.

٤٣٠

ـ تمهيد ـ

المبحث الأوّل

أوّلاً : الحياة الفكرية والمعرفية في النجف الأشرف :

عرفت مدينة النجف الأشرف منذ أكثر من عشرة قرون ، بأنّها مدار للحركة العلمية ومقصد لطلاّب العلم (١) ، وبرزت مكانة النجف الأشرف منذ أن انتقل إليها الشيخ الطوسي (٢) من بغداد عام (١٠٥٦م ، ٤٤٨هـ) ، والذي ترافق معه انتقال الحوزة العلمية من بغداد إلى النجف ، ساعد ذلك على النموّ المعرفي الذي تجسّد في وجود الحوزة العلمية فيها ، كونها أصبحت ومنذ ذلك التاريخ معهداً مهمّاً من معاهد الدراسات الإسلامية ، ارتكز النموّ المعرفيّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) التيّارات الفكرية والسياسية في النجف الأشرف١٩٤٥ ـ ١٩٥٨م ، ص٢٧.

(٢) الشيخ الطوسي : هو أبو جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة ، ولد في طوس (٣٨٥هـ/٩٩٥م) ، وهاجر إلى العراق (٤٠٨هـ / ١٠١٧م) ، تتلمذ على الشيخ المفيد ، وعاصر السيّد المرتضى ، ترك بغداد إلى النجف (٤٤٨هـ / ١٠٥٦م) ، واصل التدريس والتأليف حتّى تجاوزت مؤلّفاته الأربعين مؤلّفاً توفّي (٤٦٠هـ / ١٠٦٧م) ، ودفن في الصحن العلوي الشريف. ينظر : معالم العلماء ، ص١٤٩ ـ ١٥٠ ، خلاصة الأقوال ، ص٢٤٩ ـ ٢٥٠ ، نقد الرجال ، ٤/١٧٩ ـ ١٨٠ ، جامع الرواة ، ٢/٩٥ ، معجم رجال الحديث ، ١٨ /٢٠٤ ـ ٢٠٦ ، أعيان الشيعة ، ٩/١٥٩ ـ ١٦٧ ، الأعلام ٦/٨٤ ـ ٨٥.

٤٣١

ومن ثمّ الفكريّ على جملة من الروافد التي كانت الأساس في أحداث النهضة المعرفية في النجف الأشرف ، تمثّل ذلك في التعليم بأنواعه ، ونشوء المطابع ، وانتشار حركة النشر والتي ترافق معها ظهور عدد من المجلاّت والصحف التي أسهمت في رفد الثقافة النجفية ، علاوة على تأسيس عدد من الجمعيّات الأدبية والثقافية ، كذلك عدد من المكتبات ، كلّ تلك هي عوامل مهمّة للتأسيس لحركة معرفية وفكرية متنامية (١).

ثمّ حدثت انعطافة تاريخية كبيرة على الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء الملقّب بالكبير في القرن الثامن عشر الميلادي ، وأصبحت النجف الأشرف مركزاً للتقليد وعاصمة للتدريس ، فهاجر إليها طلبة العلم من كلّ حدب وصوب ، لتحصيل العلم والاجتهاد.

وكان للتعليم فيها شأن يختلف عن بقيّة المدن العراقية الأخرى ، لوجود المجالس العامّة والخاصّة ، فضلاً عن المجالس الحسينية ، والنشاطات العلمية والثقافية التي حفّزت طلبة العلوم على شدّ الرحال إليها من مختلف بقاع العالم ، فأدّى إلى ارتفاع نسبة المتعلّمين فيها ، فضلا عن تأسيس كتاتيب عربية بحتة وكتاتيب أخرى ، وأشهر الكتاتيب العربية آنذاك كُتّاب آل الفحّام ، وكُتّاب الشيخ جعفر المعلّم ، وكُتّاب الشيخ باقر قفطان ، أمّا أشهر كتاتيب الفارسية هي : كُتّاب خبّاب علي وموقعه في الطابق الأعلى من الصحن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) التيّارات الفكرية والسياسية في النجف ، ص٢٨.

٤٣٢

العلويّ ، وكان قد خصّص لأبناء الطبقة المترفة ، وظهرت الحاجة بعد الحرب العالمية الثانية إلى الكتاتيب لاستقبال أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسّطة. يتبيّن من ذلك أنّ المركز الديني لمدينة النجف الأشرف جعلها مركزاً لطلبة العلوم الدينية والفقهية ، فتوافد عليها طلبة العلم ، ممّا شجّع على فتح العديد من المدارس الدينية فيها ، إذ ازدهرت وتنوّعت هذه المدارس بعلومها ، ويعدّ التعليم واحداً من أهمّ عوامل النهوض والارتقاء لأيّ شعب من الشعوب ، ولا يمكن لأيّ دولة أن تنهض من دون أن تعنى بالتعليم وتعمل على نشره.

هبّت نسمات التنوير في أوائل العقد الأوّل من القرن العشرين الميلادي وبدت علامات الرقيّ والتنبّه ، وتيقّظت أفكار بعض النجفيّين ، فهبّوا إلى سوق الطباعة فجلبوا إليها في ذلك الوقت مطبعة ، إذ كانت الحاجة إليها شديدة وماسّة ، لكونها وسيلة من وسائل الرقيّ ونشر المعارف ، وفي مدّة قصيرة أصبحت النجف الأشرف من بين المدن العراقية الكبيرة في مضمار الطباعة (١) ، ولذلك فإنّ النجف الأشرف تعدّ أحدى الحواضر العربية والإسلامية في المشرق التي تفاعلت فيها حركة الثقافة والفكر ، وأسهمت في نموّ الحركة الفكرية العربية ، ووضعت أسس التيّارات الفكرية ، ورسمت أطياف من الإبداعات الأدبية والفكرية.

فلا غرو أن نجد الشعراء والأدباء نظموا القصائد اعتزازاً بتراثها ، يقول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) التيّارات الفكرية والسياسية في النجف ، ص ٢٨ ـ ٤٢.

٤٣٣

عبد المنعم الفرطوسي (١) :

مدينة النجف الغرّاء يا أفقاً

يوحى ويا تربة تحيى بما خصبا

كم احتضنت وكم خرّجت نابغة

فذّاً وشيخاً على أسفاره حدبا

فأنت مدرسة للعلم جامعة

تقري العقول وترويها بما عذبا

يتبيّن من ذلك أنّ مدينة النجف طبعت منذ نشأتها بطابع القدسية والاحترام ، كونها تضمّ مرقد الأمام عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام ، فضلاً عن جامعتها الإسلامية الكبرى ، وكان لتلك المنزلة الدينية العلمية أثر في انتقال النتاج الفكري إليها من مختلف المدن العراقية وغير العراقية ، الأمر الذي أوجد في النجف حركة فكرية تمتاز عن غيرها من كبريات المدن العراقية. ورافق انتقال النتاج الفكري إلى النجف هجرة بشرية ، هاجر إليها طلبة العلم من مختلف الأقطار العربية وغير العربية ، وقد استحقّت النجف أن تدعى بمدينة الوافدين الذين كان لثقافاتهم التي امتزجت بثقافة المجتمع النجفي أثر في الانفتاح الفكري لفئة معيّنة من هذا المجتمع المحافظ (٢).

وأنّ من يعرف حقيقة الحركة الفكرية في النجف قبل هذا ويقارنها بحركة اليوم يدرك ولا شكّ الجهود التي يبذلها كبار رجال الأدب الناهضين في إيصال مدينتهم المقدّسة إلى هذه الدرجة العليا من الرقيّ والمدنيّة أسوة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) ديوان الفرطوسي ٢/١٦١.

(٢) أثر المجدّدين في الحياة السياسية والثقافية في النجف الأشرف١٩٤٥ ـ ١٩٦٣م ، ص٣٧.

٤٣٤

ببقيّة المراكز العلمية المهمّة في الأقطار العربية ، على أنّنا لا نريد من النجفيّين أن يكتفوا بنهضتهم نظراً لما نعهده فيهم من النضوج الفكري والاستعداد الطبيعي وسموّ المدارك والروح الأدبية المتأصّلة في نفوسهم العربية ، جعل النجف مركزاً خطيراً للآداب العربية (١).

ثانياً ـ تاريخ الصحافة في النجف الأشرف :

تميّزت مدينة النجف الأشرف بإصدار العديد من المجلاّت والصحف ، منذ العقد الأوّل من القرن العشرين الميلادي ، وتطوّع لذلك العمل العديد من أبنائها ، وأصدروا عدّة صحف ومجلاّت ، فتكوّنت لذلك قناة من قنوات الثقافة النجفية لإيصال أنوارها الساطعة إلى مختلف أنحاء العالم (٢) ، ووصل عدد الصحف حوالي خمسة آلاف نسخة يوميّاً ، وكان ذلك نتيجة لازدياد عدد المتعلّمين وتوفّر وسائل الاتّصال التي ساعدت على نقل الأفكار في المجالات الأدبية والفكرية ، ومن المجلاّت التي دخلت النجف الأشرف هي مجلّة (العرفان) الصيداويّة ، وقد نشرت مقالات تطرّقت من خلالها إلى مقتضيات التطوّر والإصلاح ، منها تطوير أسلوب التعليم داخل البلاد ، فبيّنت أنّ مقدار رقيّ كلّ أمّة وتقدّمها يقاس بمقدار تطوّر التعليم ، إذ أنّ منزلة التعليم في الأمّة منزلة الدماغ من الإنسان ، وأنّ الأمّة الراقية تمتاز عن الجاهلة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) الحركة الفكرية ، ٣/١٠٠.

(٢) التيّارات الفكرية والسياسية في النجف ، ص٤٨.

٤٣٥

بمعارفها وعلومها (١) ، وكان من بينها جريدة (الإقبال) البيروتية التي صدرت عام (١٩٠٢م) وجريدة (المؤيّد) لصاحبها الشيخ عليّ يوسف الصحفي المصري ، وجريدة (الأهرام) و (الأخبار) (٢).

ارتبط تاريخ الصحافة في العراق عامّة وفي مدينة النجف الأشرف خاصّة ارتباطاً وثيقاً بحركة الطباعة فيها ، وعدّت الصحف والمجلاّت الصادرة في هذه المدينة نافذة طلّت عليها النجف الأشرف على العالم ، بعد أن أخذت الصحف والمجلاّت طريقها إلى المجتمع النجفي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي ، وكانت النجف الأشرف من المدن الرائدة في هذا المضمار ، لمكانتها الدينية والعلمية والأدبية. نجحت الصحافة النجفية وبجزء حيويّ كبير بتحقيق أهدافها ورسالتها الخاصّة المتمثّلة بتنوير النشء الجديد وقرّائها من المعاصرين ، بالإضافة إلى الدفاع عن العقيدة الإسلامية وعرفها ، ومعالجتها لمختلف القضايا الدينية والسياسية والأدبية ، وكانت صفحاتها منبراً أدبيّاً سجّل فيها أدباء النجف الأشرف من الشعراء وغيرهم أوّلا وأدباء العراق ثانياً العديد من القصائد لمختلف أهدافها وتنوّع مضامينها.

احتلّت الصحافة النجفية مكانة جليلة في تاريخ الحياة الفكرية ، لا في العراق وحسب بل في دول عربية مجاورة.

شهدت الصحافة النجفية ازدهاراً ملحوظاً يتناسب مع مكانة المدينة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) الحياة الفكرية في النجف الأشرف ، ص٦١.

(٢) أثر الصحافة في التطوّر الفكري للنخبة المثقّفة في العراق ١٨٦٩ ـ ١٩٠٨ ص٦٢.

٤٣٦

الدينية والعلمية والأدبية ، برزت فيها اتجاهات فكرية وثقافية وروّاد في الصحافة أسهمت كتاباتهم في معالجة قضايا وموضوعات مهمّة (١).

ولازدهار الحركة الصحفية في مدينة النجف أسباب ودوافع عديدة ، منها تبليغ رسالة النجف العلمية وإرسال إشعاعها الفكري إلى مختلف أرجاء المعمورة ، ورفع منار الدعوة الإصلاحية والاجتماعية على بعض الحركات المناهضة للعقيدة الإسلامية ، وأسهمت الصحافة في تعريف المجتمع النجفي بآخر التطوّرات العلمية والفكرية ، ففتحت بذلك أكثر من قناة معرفية على مجريات العصر والنهوض المدني والعلمي فيه ، وخاصّة مع ما كان يجري في الغرب ، بما لا يتعارض مع أسس الشرع القويم ، فمن خلالها تعرّف النجفيّون على قضايا حيويّة واسعة كالديمقراطية ، والبرلمان ، والتعدّدية السياسية ، والمعارضة ، والاستبداد ، والاشتراكية ، فضلاً عن الصناعات الحديثة.

لقد استطاعت الصحافة النجفية أن تنقل الصوت النجفي إلى الدول المجاورة عامّة ودول الخليج وإيران خاصّة ، فضلاً عن مدن العراق كافّة ، وأن تعبّر عن مواقف النجف الأشرف تجاه قضايا الأمّة المختلفة.

مرّت الصحافة النجفية بأطوار عدّة منذ صدورها حتّى عام (١٩٤٥م) ، ويمكن تقسيمها على ثلاثة أطوار :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) الصحافة النجفية ١٩٣٩ ـ ١٩٥٨م ، ص١.

٤٣٧

١ ـ الطور الأوّل : مثّل هذا الطور بداية دخول المعترك الصحافي ، ويرجع الفضل في هذا إلى الشيخ المصلح محمّد كاظم الخراساني (الآخوند) باعث النهضة العلمية في هذا البلد المقدّس ، وبدأ هذا الطور منذ عام (١٩١٠ ـ ١٩١٢م) ، وشاركت فيه النجف الأشرف بقيّة مدن العراق في نشر الثقافة ، وظهرت فيه ثلاث مجلاّت وصحيفة واحدة هي العلم والغريّ ودرّة النجف ونجف أشرف.

٢ ـ الطور الثاني : ـ مثل هذا الطور مرحلة العشرينيّات ، وبدأ باندلاع ثورة العشرين ، أذ بدأت بعض الصحف تظهر على مسرح الصحافة وهي (الفرات ـ والاستقلال) ولم تدم طويلاً ، وعدّت هذه الصحف مؤشِّراً مهمّاً على ما حدث من تحوّل نوعيٍّ في نضال العراقيّين ، وأسلوب تحرّكهم السياسي بعد الحرب العالمية الأولى ، وتجسيدا لإدارة فئة مؤثّرة جديدة ظهرت في المجتمع وأدّت عملاً فعّالاً في البلاد على كافّة الصُّعُد.

٣ ـ الطور الثالث (طور الازدهار) : مثّل هذا الطور مرحلة الثلاثينيّات والأربعينيّات من القرن العشرين الميلادي ، وشهدت فيه مدينة النجف الأشرف ولادة عدد كبير من الصحف والمجلاّت ذات الوزن النوعي ، وظهرت بعض المواهب الصحفيّة التي أخرجت كثيراً من الصحف التي عدّت في طليعة المنشورات والدوريّات العراقية أمثال (الاعتدال ، الغريّ ، المصباح ، القادسية ، الهاتف ، الحضارة ، المثل العليا) وغيرها.

يتبيّن من خلال ما تقدّم أنّ مدينة النجف الأشرف تميّزت بتطوّر

٤٣٨

الصحافة فيها ، ودخولها إلى هذه المدينة في وقت مبكّر ، مقارنة مع مدن العراق الأخرى ، وهذا الجانب شجّع على جلب المطابع إليها.

وبالرغم من تطوّر الصحافة خلال الأربعينيّات تطوّراً كبيراً ، فإنّها لا ترتقي إلى الصحف العربية في ذلك العهد ، إذ غزت هذه الصحف العراق ومدينة النجف الأشرف مطلع القرن العشرين الميلادي ، وتميّزت بنوعيّتها الجيّدة ، ففضّلها الجمهور النجفي على صحفه ، فضلاً عن غياب الدعم الحكومي لهذه الصحف والمجلاّت خلال تلك المدّة ، لعدم مسايرتها لما خطّته الحكومات آنذاك ، إذ أوقفت العديد من الصحف النجفية لأسباب مادّية أو سياسية (١).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) التيّارات الفكرية والسياسية في النجف ، ص٤٨ ـ ٥٥.

٤٣٩

المبحث الثاني

حياة المصنّف عبد المولى الطريحي اسمه ونسبه

عبد المولى الطريحي إسمه ونسبه :

الشيخ عبد المولى ابن الشيخ عبد الرسول ابن الشيخ نعمة ابن الشيخ علاء الدين الطريحيّ (١).

ولد في النجف الأشرف سنة (١٣١٧هـ الموافق ١٨٩٩م) ، يرجع نسب هذه الأُسرة ـ الطريحي ـ إلى الأسرة التي استوطنت النجف والحلّة وأنجبت علماء وأدباء ، وينتسبون إلى جدّهم الأعلى طريح (٢).

كانت هذه الأسرة من الأسر العلمية في النجف ، طار صيتها وامتدّ في الكمال والأدب ، أيضاً ، خدمت العلم والدين أعواماً كثيرة وقروناً عديدة ، لم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) موسوعة النجف الأشرف (شعراء النجف) ، ٢٠/٢٧٥.

(٢) يرجع سبب تسمية هذه الأسرة بهذا الاسم أنّ خفاجي والد طريح كانت زوجته قد أسقطت حملها سبع مرّات متتالية ، ولمّا حملت بالشيخ طريح نذر والده إذا رزقه الله ولداً ذكراً بعد تلك الإسقاطات يسمّيه طريح ، لذلك اشتهرت الأسرة بهذا الاسم. ينظر : ماضي النجف وحاضرها ط٢ ، ٢/٤٢٧.

٤٤٠