التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) النصارى واليهود بمحمد (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) وللإنسانية جمعاء حيث تصبح الطوائف الثلاث طائفة واحدة ، ومع الأيام تذوب باقي الطوائف ، ويكون أهل الأرض كلهم على دين واحد (مِنْهُمُ) من أهل الكتاب (الْمُؤْمِنُونَ) كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود والنجاشي واتباعه من النصارى (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) الرافضون دين الإسلام.

١١١ ـ (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) واو الغائبين لأهل الكتاب والمشركين ، وكاف المخاطبين للنبي (ص) والصحابة (إِلَّا أَذىً) إلا كلام يذهب مع الريح (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) منهزمين ، وقد حدث هذا بالفعل حيث نصر الله دين الحق على الدين كله يوم كان لدين الحق أهل بحق (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي أعداء الحق لا ينصرهم الله إلا على المتخاذلين.

١١٢ ـ (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) اتفق المفسرون على أن هذه الآية نزلت في اليهود ، وكانوا مشتتين في شرق الأرض وغربها محكومين وتابعين.

(إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) إلا أن يتوبوا من ضلالهم ، ويعتصموا بحبل الله وحده (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) كحبل الولايات المتحدة التي تمد إسرائيل اليوم بالمال والسلاح ، ولو تخلت عنها يوما واحدا لم يكن لها عين ولا أثر (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) على منطق «ما ظفر من ظفر الإثم به ، والغالب بالشر مغلوب» وفسره الشيخ محمد عبده في نهج البلاغة بقوله : «إذا كانت الوسيلة لظفرك بخصمك ركوب اثم واقتراف معصية ، فإنك لم تظفر حيث ظفرت بك المعصية» والآثام (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) وما زالوا يتمادون في الطغيان ، لا لشيء إلا بالعدوان من حيث هو عدوان (وَيَقْتُلُونَ) أي اليهود (الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) لأنهم على حق وكفى بذلك جرما عند اليهود (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) وان دل هذا التكرار والتوكيد على شيء فإنه يدل على أن اليهود لا شيء فيهم وعندهم إلا الجرائم والمآثم. وقال قائل : إني أطلت وأطنبت في تفسير الكاشف في رذائل اليهود ومثالبهم! ونسي أني أفسر آي الذكر الحكيم ، ولو تأملها قليلا لرأى أني أوجزت وقصرت في ذلك.

١١٣ ـ ١١٤ ـ (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الخ ... ليس كل أهل الكتاب في فساد وضلال بل منهم قوم طيبون صالحون ، يأمرون بالمعروف ، وبه يأتمرون ، وينهون عن المنكر ، وعنه ينتهون.

١١٥ ـ (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) لن يحرموا جزاءه ، كيف وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

٨١

١١٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) كل من خالف الحق وعصى أحكام الله سبحانه ، لا ينفعه مال ولا بنون كافرا كان أو مسلما ، وعليه فالمراد بالكفر هنا ما يعم الجحود والعصيان بعد الإيمان.

١١٧ ـ (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) لمجرد الجاه والثناء أو الخوف من الذم والهجاء (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) أي برد شديد يهلك الزرع ، ويتلف الثمار (أَصابَتْ حَرْثَ) زرع (قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بمعصية بمعصية الله (فَأَهْلَكَتْهُ) تاء التأنيث للريح ، وهاء الغائب للحرث (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأنهم اندفعوا وراء الشهوات والأهواء.

١١٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) بطانة الرجل صفيه الذي يستبطن أسراره ، أخذا من بطانة الثوب ، قال سبحانه : (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) والمعنى لا تستخلصوا أعداء الإسلام والمسلمين ، وبيّن تعالى السبب الموجب للنهي بقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) لا يقصرون في مضرتكم وافساد أموركم (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) يتمنون أن تقعوا في أشد الشدائد (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) كالطعن في الإسلام ونبيه وكتابه (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) مما بدا على ألسنتهم (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) علامات الذين يعضون عليكم الأنامل من الغيظ.

١١٩ ـ (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) الخطاب في «أنتم» للخونة العملة الذين باعوا دينهم للشيطان (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي بكل كتاب أنزله الله وهم لا يؤمنون بقرآنكم (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) كذبا ونفاقا (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) كان هذا أيام زمان حيث كان المسلمون أقوياء بالأخوة والكلمة لواحدة.

١٢٠ ـ (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) كالوقوف صفا واحدا ضد العدو المشترك (تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) كالشتات والتفرقة (يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا) على نصرة الحق

____________________________________

الإعراب : يألون فعل قاصر ، ولكنها هنا تتضمن معنى المنع فعديت إلى مفعولين ، وخبالا مفعول ثان ، وجملة لا (يألونكم) لا محل لها من الإعراب ، لأنها جواب عن سؤال مقدر ، كأنّه قيل : لما ذا لا نتخذ بطانة من غيرنا فأجيب : لأنهم لا يألونكم (خَبالاً) ، و (ها أَنْتُمْ) «ها» للتنبيه ، وأنتم مبتدأ ، و (أُولاءِ) اسم اشارة خبر ، و (تُحِبُّونَهُمْ) الجملة في محل نصب على الحال من اسم الاشارة ، ولا يضركم جواب إن الشرطية ، ويجوز كسر الضاد وسكون الراء على ان يكون المصدر الضير ، وإذا كان الضرر فالأصل لا يضرركم ، ثم أدغمت الراء بالراء ، وضمت تبعا لحركة الضاد ، وشيئا مفعول مطلق ، أي شيئا من الضرر.

٨٢

وجهاد اعداء الله وأعدائكم (وَتَتَّقُوا) موالاة الأعداء والركون إليهم (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) وينصركم الله عليهم لا محالة (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) خيرا كان أم شرا.

١٢١ ـ (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) نزلت هذه الآية في غزوة أحد ، والغدوة والغداة : ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وتبوئ : تهيئ وتدبر ، والمقاعد : جمع مقعد وهو مكان القعود.

١٢٢ ـ (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ) هما بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانا جناحي عسكر رسول الله في أحد (أَنْ تَفْشَلا) أن تؤثر فيهما فتنة المنافق عبد الله بن أبي ، فيجبنا ويضعفا (وَاللهُ وَلِيُّهُما) تولى أمر الطائفتين بعنايته ، وأبعد الفشل عنهما (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لا على المنافقين وأعداء الدين ، وإن ملكوا الأموال والسلاح.

١٢٣ ـ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) هذا تذكير منه تعالى للمسلمين بيوم بدر ليثبت قلوبهم (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) كنتم آنذاك في قلة من العدد وغير منعة من العدة.

١٢٤ ـ (إِذْ تَقُولُ) يا محمد ، وكان صاحب رايتك وراية المهاجرين علي بن أبي طالب وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة (لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) نازلين من السماء ، ينصرونكم على الأعداء.

١٢٥ ـ (بَلى) يكفيكم هذا الإمداد (إِنْ تَصْبِرُوا) على الجهاد (وَتَتَّقُوا) الخيانة والخذلان يمددكم الله بأكثر من هذا العدد (وَيَأْتُوكُمْ) أي المشركون (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) من هذا الحين (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) أي لهم علامة تدل عليهم.

١٢٦ ـ (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) هاء الغيب في «جعله» يعود على غير مذكور بلفظه ، بل بمعناه وهو الإمداد المفهوم من «يمدكم» (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي بالامداد.

١٢٧ ـ (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ليهلك طائفة

٨٣

(أَوْ يَكْبِتَهُمْ) يخزيهم بالهزيمة (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) خاسرين.

١٢٨ ـ (لَيْسَ لَكَ) يا محمد (مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) القصد من هذا وأمثاله أن لا يغالي المسلمون بمحمد (ص) كما غالى المسيحيون بالسيد المسيح (ع) (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) على المشركين إن اسلموا (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) إن أصروا على الكفر.

١٢٩ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) الحكمة هو بها أعلم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أن جانب الرحمة والمغفرة فيه تعالى هو الغالب تفضلا منه وكرما.

١٣٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) الربا حرام محرم قليلا كان أم كثيرا ، وقوله تعالى : (أَضْعافاً) ليس قيدا للنهي ، بل إشارة إلى ما كان عليه المرابون في الجاهلية حيث كان الربا في بعض الحالات يستغرق أموال المديون بالكامل ، ويبقى رأس المال في عنقه (وَاتَّقُوا اللهَ) في أكل الربا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وتفوزون بالبركات الواسعة.

١٣١ ـ ١٣٢ ـ (وَاتَّقُوا) أيها المسلمون (النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فيه إيماء إلى أن العذاب على بعض الكبائر تماما كالعذاب على الشرك والإلحاد.

١٣٣ ـ (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي سارعوا إلى خدمة الإنسان ، كل إنسان لوجه الله والإنسانية تستوجبوا من الله سبحانه الرحمة والمغفرة (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) كناية عن السعة في افهام الناس (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

١٣٤ ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ) في اليسر والرخاء (وَالضَّرَّاءِ) العسر والبأساء (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) إن لم تكن حليما فتحلم كما قال الإمام (ع) (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) والعافين عطف على الكاظمين ، وهؤلاء عطف على الذين ينفقون ، وهؤلاء وصف للمتقين (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يتصفون بالتقوى والإنفاق وكظم الغيظ والعفو ...

١٣٥ ـ (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) سيئة كبرى بالاعتداء على الناس وأموالهم وأعراضهم (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أساؤوا إليها دون أن يسيئوا إلى الآخرين ، كما لو تركوا الصلاة والصيام (ذَكَرُوا اللهَ) لجأوا إليه تعالى بإخلاص (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) طلبوا منه جل وعز أن يغفرها نادمين على فعلها وعازمين أن لا يعودوا إلى مثلها ، فإنه يغفرها لا محالة

٨٤

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) يوم الحساب والجزاء (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ومعنى هذا أن من يرتكب الحرام عن غفلة أو جهل مع العجز عن التعلم ، فهو معذور.

١٣٦ ـ (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ ...) قال الشيخ الطبرسي : ومن هذه الآيات يتبين أن المؤمنين بالله ثلاث فئات : المتقون ، والتائبون ، والمصرون ، وإن للمتقين والتائبين الجنة والمغفرة. وسكت الشيخ عن المصرين ، لأن ربهم بهم يومئذ لخبير ...

١٣٧ ـ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) الخطاب في قبلكم للصحابة ، وسنن جمع سنة وهي الطريقة ، والمعنى أطيعوا النبي أيها الصحابة ، ولا تخالفوا له أمرا وإلا نزل بكم العذاب في الدنيا قبل الآخرة تماما كما نزل بالذين عاكسوا أنبياءهم من الأمم الخالية ، وإن كنتم في ريب من ذلك (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي تتبعوا أخبار الماضين من أهل الأرض وتاريخهم (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) لأنبيائهم وإلى أي نوع انتهوا من الهلاك ، والعاقل من اتعظ بغيره ...

١٣٨ ـ (هذا بَيانٌ) ناصع (لِلنَّاسِ) كافة (وَهُدىً) إلى دين الحق (وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي من أراد أن يكون من المتقين الصالحين.

١٣٩ ـ (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) ثقوا أيها المسلمون بالله وبأنفسكم ، وامضوا على عزيمة الإيمان بالنصر (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) بدينكم ونبيكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقا وصدقا ١٤٠ ـ (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) إن نال منكم العدو يوم أحد ، فقد نلتم منه يوم بدر. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) المراد بالأيام القوة وأنها تارة تكون لهؤلاء ، وتارة لأولئك (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) إنه تعالى أعلم بالمؤمنين والكافرين من أنفسهم ، ولكن يبتليهم بالأمر والنهي لتظهر أفعالهم للعيان ، فيتميز الخبيث من الطيب ، ويجزي كلّا بما كسب (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) وفي الشهادة كل السعادة والكرامة ، فهل إليها من سبيل؟ عسى ولعل.

١٤١ ـ (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ويمحص : يطهر والمعنى أن الله سبحانه يطهر بعض عباده من ذنوبهم بالاستشهاد في سبيله ، ويمحق الكافرين يهلكهم.

١٤٢ ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) هذا هو ثمن الجنة عند الله : جهاد ، وإخلاص ، وصبر ، وتبات ، وما عدا ذلك فليس بشيء الا أن يكون وسيلة لعمل يجلب للناس نفعا أو يدفع عنهم ضرا.

٨٥

١٤٣ ـ (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) الخطاب لبعض الصحابة الذين لم يشهدوا بدرا مع رسول الله وكانوا يتمنون أن يشهدوا غزوة ليفوزوا بالشهادة ، ولما شهدوا أحدا وجد الجد ولوا الأدبار لا يلوون على شيء.

١٤٤ ـ (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أبدا كل من عليها فان نبيا كان أم شقيا ، ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام ، وسبب هذه الآية أن صائحا صرخ بملء فيه يوم أحد : قتل محمد ، فانقلبوا على أعقابهم إلا قليلا منهم ، وتركوا النبي في قلب المعركة مع نفر يسير ، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله موبخا المنهزمين : (أَفَإِنْ ماتَ) رفعه الله إليه (أَوْ قُتِلَ) قتله الكافرون (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) عدتم إلى الكفر بعد الإيمان (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ) يرتد عن دينه (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) بل يضر نفسه وحدها (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) الثابتين على دينهم قولا وعملا.

١٤٥ ـ (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ليس هذا إخبارا ، بل حثا وترغيبا في الجهاد ، وأن الإنسان لن يموت إلا بحضور أجله (كِتاباً مُؤَجَّلاً) مفعول مطلق لفعل محذوف أي كتب الموت كتابا مؤقتا (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) قد يحكم على الخاص بلفظ عام ، ويبقى اللفظ على شموله للمحكوم عليه وغيره ، وقد يكون اللفظ عاما في الظاهر ، والمراد خاصا في الواقع ، ولفظ الآية هنا عام ، والمراد به خصوص الجهاد والمعنى من جاهد وقاتل للغنيمة لا لله وقتل فقد خسر الدنيا والآخرة ، وإن سلم فله حظه من الغنيمة ولا شيء له عند الله ، ومن جاهد لله وقتل فله عند الله فوق ما يتصور ، وإن سلم أحرز الحظين معا ، وملك الدارين جميعا.

١٤٦ ـ (وَكَأَيِّنْ) كلمة مرادفة لكم الخبرية في الدلالة على تكثير العدد (مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) لقد قاتل وقتل كثير من العلماء العاملين مع الأنبياء السابقين ، وكان الأليق بكم أيها الذين فروا يوم أحد أن تقتدوا بهؤلاء العلماء الأصفياء. (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فما فروا من الموت كما فررتم ، بل ثبتوا حتى استشهدوا طاعة لله ورسوله (وَما ضَعُفُوا) وما جبنوا عن القتال (وَمَا اسْتَكانُوا) وما خضعوا للعدو.

١٤٧ ـ (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا ...) قتلوا في سبيل الله ليغفر ذنوبهم ؛ ويصفح عن تقصيرهم ، ويقدمون عليه تعالى بإيمان ثابت وراسخ ، هذا وهم النخبة والصفوة ، وهكذا كل رباني وروحاني.

١٤٨ ـ (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) تقديسا وتعظيما.

٨٦

(وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) علوا ونعيما.

١٤٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) قال شيخ الأزهر المراغي في تفسير هذه الآية ، فقرة المفردات ما نصه بالحرف : «المراد بالذين كفروا أبو سفيان لأنه شجرة الفتنة.» ١٥٠ ـ (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) ومن كان الله ناصره فلا يفتقر إلى ولي ولا نصير.

١٥١ ـ (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي لا تخافوا أيها المسلمون من المشركين لأنهم هزموكم في أحد ، فإن الله سبحانه سيطبع على قلوبهم بالخوف لأنهم جعلوا لله شركاء بوحي من الشيطان لا بالحجة والبرهان (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) المأوى والمثوى بمعنى واحد وهو المقر والمنزل.

١٥٢ ـ (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) وعد سبحانه المسلمين بلسان نبيه أن ينصرهم على المشركين في وقعة أحد بشرط أن لا يعصوا للنبي أمرا (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) أي تقتلون المشركين في بداية المعركة (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) ضعفتم وجبنتم (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أمر النبي الرماة يوم أحد أن يثبتوا في مكانهم ولا يتركوه ، فوقع النزاع فيما بينهم ، فامتثل بعضهم ، وعصى آخرون (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من هزيمة المشركين وما تركوا وراءهم من غنائم في أول المعركة (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الرماة الذين أخلوا مكانهم للعدو طمعا في الغنيمة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الرماة الذين ثبتوا في مكانهم وقتلوا ولم يعصوا الرسول.

(ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) ردكم عن الكفار بعد أن أمكنكم منهم بسبب معصيتكم أمر النبي (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي ابتلاكم بذلك ليظهر ثباتكم على الإيمان وصبركم على الشدائد (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) بعد أن ندمتم وتبتم.

١٥٣ ـ (إِذْ تُصْعِدُونَ) تذهبون (وَلا تَلْوُونَ) لا تلتفتون (عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) يناديكم من ورائكم : إليّ عباد الله. أنا رسول الله (فَأَثابَكُمْ) جازاكم الله (غَمًّا بِغَمٍ) اذقتم الرسول غما بمعصيتكم له ، فأذاقكم الله غما بالهزيمة واحدة بواحدة جزاء وفاقا

____________________________________

الإعراب : (خاسِرِينَ) حال. وما من (بِما) مصدرية ، أي بسبب اشراكهم بالله. و (ما لَمْ ما) مفعول أشركوا. (صَدَقَكُمُ) يتعدى الى مفعولين. و (وَعْدَهُ) مفعول ثان. (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) جواب إذا محذوف ، والتقدير منعكم الله نصره ، وقيل : ان إذا هنا ليست بشرط ، وان المعنى قد نصركم الله الى ان كان منكم الفشل والتنازع ، وقيل : الجواب هو عصيتم والواو زائدة ، كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ) والمعنى ناديناه.

٨٧

(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من المنافع (وَلا ما أَصابَكُمْ) من المضار والقصد من كل ما حدث أن تتعظوا به ولا تعودوا إلى مثله.

١٥٤ ـ (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) النوم عند المحنة يخفف الكثير من وقع المصاب (يَغْشى) أخذ النوم (طائِفَةً مِنْكُمْ) وهي الثابتة على الإيمان (وَطائِفَةٌ) وهي المنافقة (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) وما عداها فإلى داهية دهياء.

(يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) في أنه يفعل ما لا ينبغي فعله ، تعالى الله عما يصفون (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) بدل من غير الحق (يَقُولُونَ) أي المنافقون يسألون رسول الله : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ) النصر والظفر (مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) يعز من يشاء ويذل من يريد (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) التكذيب والنفاق (ما لا يُبْدُونَ لَكَ) شأن العدو الجبان (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) لو كانت قيادة الحرب لنا (ما قُتِلْنا هاهُنا) في هذه المعركة (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أبدا لا ينجو من القدر هارب (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) فالحكمة من المحن والمصائب أنها المحك الذي يميز بين الطيب والخبيث وتظهر كلّا على حقيقته للناس لا لله سبحانه ، لأنه عليم بذات الصدور.

١٥٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) انهزموا خوفا وجبنا (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) في أحد ، وكانوا سببا مباشرا لغلبة المشركين على المسلمين (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) طمع فيهم الشيطان حيث أطاعوه من قبل (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) لأنهم تابوا.

١٥٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) باطنا لا ظاهرا (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) في النفاق (إِذا

____________________________________

الإعراب : (إِذْ تُصْعِدُونَ) إذ ظرف زمان. متعلق بعفا في الآية المتقدمة. و (لِكَيْلا) المصدر المنسبك مجرور باللام متعلق أيضا بعفا ، و (أَمَنَةً) مفعول أنزل ، وهي مصدر مثل العظمة والغلبة. ونعاسا بدل من أنة. وطائفة الأولى مفعول يغشي. وطائفة الثانية مبتدأ ، والخبر جملة قد أهمتهم. وجملة يظنون حال من الضمير في أهمتهم. وغير الحق مفعول مطلق ليظنون ، لأنه بمعنى يظنون غير الظن الحق وظن الجاهلية بدل من غير الحق. وجملة يقولون بدل من جملة يظنون.

٨٨

ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) سافروا فيها وأبعدوا (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) أسند المنافقون موت المسافر أو الغازي إلى السفر أو الغزو ، فنهى سبحانه المؤمنين عن هذا القول الجاهل الباطل (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي أن الله سبحانه أمر المؤمنين أن يبتعدوا عن المنافقين ولا يتشبهوا بهم في قول أو فعل ، لأن ذلك يورثهم حسرة وكآبة (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) فإن شاء أمات القاعد والمقيم ، وإن شاء أحيا العظام وهي رميم ، ولا تأثير لحرب أو سفر.

١٥٧ ـ (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) كل من يقتل أو يموت مدافعا عن الحق أو مكافحا من اجل العيش والعيال أو لخدمة أخيه الإنسان فهو شهيد أو في حكمه ، وله عند الله خير مما طلعت عليه الشمس.

١٥٨ ـ (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) كل السبل تنتهي إلى الوقوف بين يديه تعالى لنقاش الحساب سواء أكانت تلك السبل موتا على الفراش أم قتلا بحد السيوف.

١٥٩ ـ (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) الخطاب لصاحب الرسالة ، وما أدراك من صاحب الرسالة؟ إنه رؤوف رحيم بنص الآية ١٢٨ من التوبة ، أما الآية التي نحن بصددها فإنها تقول : لو لا خلق محمد ما آمن أحد برسالته ، ومعنى أنه لو لا خلقه لا عين ولا أثر للإسلام حيث لا إسلام بلا مسلمين (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يعود إلى حقك الخاص (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فيما يعود لحقوق الله. (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) مما لم ينزل عليك وحي فيه حيث لا اجتهاد في قبال النص (فَإِذا عَزَمْتَ) عزيمة الإيمان بالحق والخير فامض على إيمانك (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وحده (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) الذين يملكون القوة في الصبر والإيمان والإرادة.

١٦٠ ـ (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) ونصره تعالى إنما يكون مع مراعاة الأسباب التي جعلها هو سبحانه مؤدية للنصر (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) وهو ، عظمت عدالته وحكمته لا يخذل إلا المتخاذلين الذين لا تجتمع كلمتهم على الخير وطاعة الله تعالى.

١٦١ ـ (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) كيف والغل رذيلة يتنزه النبي عنها؟ (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) من يعمل سوءا يجز به إلا أن يتوب.

٨٩

١٦٢ ـ (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) ورضوانه أمان ورحمة ، ولكن لا سبيل إليه إلا الإخلاص والعمل الصالح ، (كَمَنْ باءَ) رجع (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) وأعظم ما يشتد هذا الغضب حين يطلب العبد رضا المخلوق بسخط الخالق.

١٦٣ ـ (هُمْ) يعود على من اتبع رضوانه تعالى ومن باء بسخطه معا (دَرَجاتٌ) متفاوتات ومنازل مختلفات (عِنْدَ اللهِ) ثوابا وعقابا.

١٦٤ ـ (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً ...) تقدم مثله في الآية ١٢٩ من البقرة ، والخلاصة أن رسالة محمد (ص) هي رسالة العلم والأمن والعدل والمساواة فأية نعمة على الإنسانية جمعاء أعظم من هذه النعمة؟

١٦٥ ـ (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) يوم أحد حيث قتل منكم أيها المسلمون سبعون رجلا (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) يوم بدر حيث قتلتم من المشركين سبعين وأسرتم سبعين ، كيف نسيتم نعمة بدر وذكرتم نكبة أحد؟ وقلتم فيما : (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) الفشل والخسران؟ وفينا رسول الله ونحن مسلمون وهم مشركون (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) ليست المسألة مسألة إسلام وصلوات ووجود النبي ودعوات ، وإنما المسألة إعداد العدة وأسباب محكمات ، لأن الله سبحانه لا يجري الأمور إلا على أسبابها ، ويوم أحد قصرتم في حق أنفسكم.

١٦٦ ـ (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) في أحد (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي بالتخلي عنكم أو بعلمه تعالى أنكم ستخالفون النبي وتجبنون (وَلِيَعْلَمَ) الله (الْمُؤْمِنِينَ).

١٦٧ ـ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي ليظهر أفعال المعلومين عنده تعالى بالإيمان والنفاق ، ويحاسب كلّا منهما على أعمالهم ومقاصدهم (وَقِيلَ لَهُمْ) للمنافقين (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إن كان لكم دين (أَوِ ادْفَعُوا) عن أنفسكم وأهلكم وأموالكم إن لم يكن لكم دين (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) أي قال المنافقون للمؤمنين : لو كنا على علم اليقين بأن الحرب واقعة بينكم وبين المشركين لقاتلنا معكم ، ولكن الأمر سينتهي عند المناورات وعرض العضلات وكفى (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي أن تصرفات المنافقين بشتى أنواعها هي لمصلحة الكفر والكافرين ، ولا شيء منها لمصلحة الإسلام والمؤمنين على رغم ادعائهم الإيمان والتظاهر بالإسلام.

(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وهذا أجمع تحديد لكل منافق ، ومثله تماما ما في نهج البلاغة : قولهم شفاء ، وفعلهم الداء العياء أي أعيى الأطباء.

٩٠

١٦٨ ـ (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا) أي قال المنافقون انفعالا من أجل أرحامهم الذين قتلوا في أحد : (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) نهيناهم عن الخروج للحرب مع محمد فلم ينتهوا ، ولو انتهوا لسلموا من القتل كما سلمنا (قُلْ) لهم يا محمد : (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إن للموت أسبابا عديدة ومنها القتل ، وكلها بيد الله تعالى ، ومن لم يمت بالقتل مات بغيره ، ومن أنكر هذه الحقيقة فليدفع الموت عن نفسه.

١٦٩ ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) أنصار الباطل هم والباطل عند الله بمنزلة سواء ، كل منهما إلى زوال واضمحلال بنص القرآن (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) أما أنصار الحق فهم عند الله وأهل الله تماما كالحق (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) كما كانوا في الحياة الدنيا مع الفارق بأنهم عند الله لا يمسهم نصب ولا تعب.

١٧٠ ـ (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ولا يوازي فضله فضل (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) فرح الشهداء بحظهم الأوفر عند الله ، وأيضا فرحوا لإخوانهم المجاهدين الذين سيقتلون من بعدهم ، وينالون من الله ما نالوه من السعادة القائمة والنعمة الدائمة (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) للشهداء ثلاث فرحات : الفرحة الأولى لأنفسهم ، وإليها الإشارة بقوله تعالى : فرحين ... والفرحة الثانية لإخوانهم ، وإليها أشار سبحانه بقوله : ويستبشرون ... والفرحة الثالثة لكل مؤمن مخلص ، وأشار إليها جل وعز بقوله :

١٧١ ـ (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) والنعمة أجر على عمل ، والفضل تفضل زائد.

١٧٢ ـ (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) بفتح القاف : الجرح ، نزلت هذه الآية في الذين أصابتهم جراحات شديدة في أحد ، فصبروا وتجلدوا وأمرهم النبي (ص) وهم على هذه الحال أن يتهيئوا للجهاد ويعيدوا الكرة ، فاستجابوا وأقبلوا على الموت بلا جزع وهلع ، فوصفهم سبحانه بالمحسنين والمتقين ، ووعدهم بالأجر العظيم في قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) وهذا هو الفوز المبين.

١٧٣ ـ (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) قال بعض الخونة المرتزقة للمؤمنين يثبطهم عن الجهاد : (إِنَّ النَّاسَ) أي المشركين (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) وحشدوا الجيوش (فَاخْشَوْهُمْ) ولا تحاربوهم (فَزادَهُمْ) هذا التخويف والتثبيط (إِيماناً) على إيمان وعزما على عزم (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) إن ثقتنا بالله لا يزعزعها شيء.

٩١

١٧٤ ـ (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) أي أن الذين استجابوا لدعوة الجهاد من الله والرسول على ما بهم من الجراح والقراح ـ رجعوا إلى بيوتهم بنعمة السلامة والذكر الجميل في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة ، لأن العدو لما رأى الصدق منهم والإخلاص والجد والعزم على حربه والتضحية بكل عزيز ، ولّى مدبرا بشره وخيبته.

١٧٥ ـ (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) من كل خير ويغريهم بكل شر ، وفي التسهيل لمحمد بن أحمد الكلبي : «المراد بالشيطان هنا أبو سفيان أو نعيم الذي أرسله أبو سفيان أو إبليس» (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وكرر سبحانه هذه الجملة : «(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ... إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) للتوكيد في أن مسألة جهاد الباطل ليست مسألة جبن أو عجز وكفى ، وإنما هي مسألة إيمان وإخلاص وعزم وثبات.

١٧٦ ـ (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ ...) لا تشغل نفسك يا محمد بتصرفات المنافقين وإسراعهم إلى الكفر ومضيهم في التآمر والخيانة ، فإن كيدهم يعود إلى نحورهم (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهكذا مصير الطغاة وأذنابهم الحشرات.

١٧٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ ...) واضح ، وتقدم في ١٦ و ١٧٥ من البقرة.

١٧٨ ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) أي نمهلهم ، و «انما» أن للتوكيد و «ما» اسمها و (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) خبر «أن» (أَنَّما) إن هنا للتوكيد أيضا و «ما» كافة عن العمل (نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) واللام في (لِيَزْدادُوا) للعاقبة مثلها لدوا للموت ، ومعنى الآية بجملتها أن الله سبحانه يمهل الإنسان في هذه الحياة كي يختار لنفسه خيرا أو شرا ، وطول الأجل لأهل الخير خير ، ولأهل الشر شر حيث يزداد المحسن إحسانا ، والمسيء شرا وطغيانا ١٧٩ ـ (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) اندس في صفوف المسلمين منافقون لمجرد الهدم والتخريب ، وقد فرض سبحانه على النبي والمسلمين أن يعاملوا كل من نطق بكلمة الإسلام معاملة المسلمين ، ومن أجل هذا حار رسول الله (ص) في أمر المنافقين ، وضاق بهم ذرعا ، كيف يرفضهم وهم يقولون : لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ وكيف يقبلهم وهم يفسدون ويعاكسون؟ فقال سبحانه للنبي والمسلمين : مهلا سأسلط عليهم الأضواء حتى يفتضحوا أمام الناس ، ولا يبقى لهم منفذ للكيد والإفساد ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي ليس من الحكمة أن يخبركم مباشرة أيها المسلمون عما في قلوب المنافقين ، بل أنتم تكتشفون ذلك مع الأيام (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) ويطلعه على ما أراد من غيبه. (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) واتقوا المعاصي والموبقات ، ولا يضركم من ضل إن اهتديتم.

٩٢

١٨٠ ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) لو كان البخل خيرا لكان الجود شرا ، والمقصود بهذه الآية خصوص الذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم بدليل قوله تعالى بلا فاصل : (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) والظاهر من هذه الآية أن أطواق النار غدا تلتحم بأعناق الذين يمنعون الزكوات والأخماس عن الفقراء سواء في ذلك أصحاب الأموال ، والذين يقبضون هذه الحقوق الإلهية ، ويمسكونها عن المستحقين (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له تعالى كل الأرزاق والخيرات ، وقد جعلها لكل الخلق على السواء ، فلما ذا تحتكرها فئة دون فئة؟

١٨١ ـ (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) نطق اليهود بهذا القول إما اعتقادا ، وإما عنادا ، وأيهما كان فهو كفر صراح (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي نعاقبهم عليه (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أبدا لا فرق بين قول اليهود : الله فقير وقتلهم الأنبياء ، وليس هذا بأول ما ارتكبوه ١٨٢ ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) وخصّ سبحانه الأيدي بالذكر ، لأنها الأداة الطيعة لأكثر الأعمال.

١٨٣ ـ (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) اليهود الذين قتلوا الأنبياء ، وقالوا ان الله فقير ونحن الأغنياء هم بالذات قالوا لمحمد (ص) : قد أمرنا الله أن لا نصدق مدعي النبوة أيا كان إلا إذا ظهرت على يده هذه المعجزة ، وهي أن تلتهم صدقاتنا نار تنزل من السماء (قُلْ) يا محمد لهؤلاء اليهود : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) إن أسلافكم اقترحوا على الأنبياء هذه المعجزة التي قد اقترحتموها عليّ ، وأظهرها الله هي وغيرها من المعجزات على أيدي الأنبياء ومع ذلك قتلوهم ولم يؤمنوا بهم ، وشأنكم شأنهم في العتو والعناد.

١٨٤ ـ (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا محمد (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات الدالة على صدقهم (وَالزُّبُرِ) بضم الزاي جمع زبور ، وهو كل كتاب فيه حكمة (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) هو التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى والغرض من هذه الآية مجرد التسلية وتأسي النبي الأطهر بمن سبقه من الأنبياء.

____________________________________

الإعراب : (يَحْسَبَنَ) فعل مضارع ، والذين يبخلون فاعل. والمفعول الأول ليحسبن محذوف ، والتقدير البخل خيرا ، مثل من كذب كان شرا له ، أي كان الكذب شرا له. و (خَيْراً) مفعول ثان. و (هو) ضمير فصل لا محل له من الاعراب ... و (ما) بخلوا (ما) منصوبة بنزع الخافض ، أي سيطوقون بما بخلوا به طوقا في أعناقهم. وقتلهم الأنبياء منصوب ، لأنه معطوف على ما قالوا ، أي وسنكتب قتلهم الأنبياء.

٩٣

١٨٥ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) نبيا كان أم شقيا صاحبها (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لا في الحياة الدنيا ، لأن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) بل من فاز بالنجاة من النار وكفى فهو من الفائزين على منطق من حدد اللذة بدرء الألم والسعادة بعدم الشقاء.

١٨٦ ـ (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) هذا الخطاب لكل محق ومن ينشد الحق ويناصره ، وأن عليه أن يدفع ثمن الحق من نفسه وماله وعرضه حيث لا هوادة بين أهل الحق وأهل الباطل ، ومن الذي يعلم منك بأنك تعلم بما هو عليه من الجهل أو الكذب أو الرياء وما إلى ذلك من الرذائل ثم لا يشن عليك حربا شعواء لا لشيء إلا لأنك تعرف من هو وكفى.

(وَلَتَسْمَعُنَ) أيها المسلمون المحقون في دينكم (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) المبطلين في دينهم (مِنْ قَبْلِكُمْ) إشارة إلى أن التوراة والإنجيل أسبق نزولا من القرآن (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) وذنبكم الوحيد هو ذنب المحق عند المبطل والأمين عند الخائن (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) اصبروا على مرارة الحق وثقله ، فإن ذلك من دلائل الشجاعة والبطولة.

١٨٧ ـ (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) هذه الهاء تعود إلى الكتاب ، والمراد به كل كتاب منزل من عند الله ، بل لا يبعد أن يكون كناية عن الحق والمعنى : على كل من علم الحق أن يعلنه على الناس وإلا فهو شيطان أخرس كما قال الرسول الأعظم (ص).

(فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) واو الجماعة في «نبذوه» لعلماء السوء والهاء لميثاق الله وعهده أن يعلنوا الحق ولا يكتمونه (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كتموا الحق بعد أن باعوا دينهم للشيطان ، وقبضوا أبخس الأثمان.

١٨٨ ـ ١٨٩ ـ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) المفازة اسم لمكان الفوز والنجاة ، وقوله تعالى (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) بعد قوله «لا تحسبن» لمجرد التوكيد وعدم الالتباس مع طول الكلام ، والمعنى الظاهر من هذه الآية يعم ويشمل كل مراء ومنافق وكل من يدعي ما ليس فيه ، وطلب أمرا ما هو من أهله ومعدنه.

____________________________________

الإعراب : (لَتُبْلَوُنَ) و (لَتَسْمَعُنَ) اللام للقسم ، والنون موكدة. و (أَذىً) مفعول لتسمعن. (إِذْ) ظرف متعلق بمحذوف ، أي أذكر إذ أخذ الله. واللام في لتبيننه للقسم ، لأن أخذ الميثاق قائم مقام القسم. والهاء تعود إلى الكتاب. وكذلك هاء لا تكتمونه. و (لا) في (لا تَكْتُمُونَهُ) للنفي وليست للنهي.

٩٤

١٩٠ ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) تقدم في الآية ١٦٤ من سورة البقرة. ويتلخص المعنى بأنه لا بناء من غير بان.

١٩١ ـ (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ليس المراد بالذكر مجرد التسبيح والتهليل بل الانقياد للحق لا للباطل ، ولا بالقيام والقعود مجرد الركوع والسجود بل العمل الصالح ، أما المراد ب (عَلى جُنُوبِهِمْ) فهو أن المؤمنين المخلصين حقا حين يستلقون في الفراش ، يفكرون في فعل ما هو الأفضل عند الله والأنفع لخدمة عباده وعياله (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما من صنع منظم وتدبير محكم ، ويقولون قول العاقل العالم بمعجزة الوجود : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) ذلك ظن الذين كفروا بالله وقدرته وبالإنسان وقيمه وبالعقل وأحكامه.

١٩٢ ـ (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ونحن نستجير بك ونفر إليك من هذا العذاب والخزي.

١٩٣ ـ ١٩٤ ـ (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) بالحق والعدل والمساواة بين الخلق (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) وهذا هو شأن من طلب الحق لوجه الحق ، يفتح قلبه لدعوته أيا كان الهادي والمنادي (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ...) سألوا الله سبحانه العفو والمغفرة ، والتكفير عن السيئات والرضا عنهم عند الوفاة ، ومرضاة الله سبحانه عند الموت هي الأمنية الكبرى للأبرار والأخيار.

١٩٥ ـ (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) ولما ذا استجاب؟ وإليك الجواب : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) فالعبرة عند الله بالأعمال لا بالمال والرجال ، وبالإخلاص لا بهتاف الناس (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) الذكر ابن الأنثى ، والأنثى بنت الذكر ، والتماثل في المصدر يستدعي التماثل في الحكم والأثر (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) بيتك حجره عظمك ، وطينه لحمك. وماؤه دمك ، وفيه نفسك وطعامك وشرابك وزوجك وابناؤك ، تطرد منه على غفلة ، وتصبح في الفضاء أنت والنساء والأبناء ... ربي كما خلقتني! فهل من ظلم أفحش وعدوان أفظع من هذا؟.

____________________________________

الإعراب : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ) بدل من أولي الألباب. وقياما وقعودا حال. (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) في محل نصب على الحال أيضا ، أي ومضطجعين. و (باطِلاً) حال من هذا ، ويجوز أن يكون صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي ما خلقت هذا خلقا باطلا. (أَنْ آمِنُوا) ان بمعنى أي مفسرة لما قبلها ، مثل كتبت اليه ان افعل كذا ، أي افعل كذا. وتحسن الاشارة إلى انه جاء في القرآن الكريم (إِنَّنا) بالنونات الثلاث ، كما في الآية (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا). وجاء فيه أيضا انا بحذف احدى النونين من أن ، مثل قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ١٠٤ الأنبياء». وعليه يصح ان نقول ونكتب : انّا وانّنا.

٩٥

(وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) بأشد أنواع التنكيل (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) لا لشيء إلا دفاعا عن الحق والنفس (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ...) أبدا لا أمن وأمان من عذاب الله ، ولا حظ لأحد من ثوابه إلا لمن جاهد وضحى ، وصبر واتقى ، وثبت على الحق حتى ولو قطع عضوا عضوا ، أولئك لهم عند الله المقام الأسمى والدرجات العلى.

١٩٦ ـ (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) أي تحكموا بأهلها ، ونهبوا الأقوات والأرزاق.

١٩٧ ـ (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي ذاك التحكم والظلم يتطعمه الطغاة قليلا ، ثم يلفظونه جملة (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) ومعنى الآية بمجموعها : قد يظن الظان أن الدنيا «للأقذر الأقذر» الذي يملك السلاح الأكثر فتكا وتدميرا!؟ كلا ، فإن وراء قوى الشر قوة عليا تراقب وتحاسب لا تغفل ولا تغلب ، وتدمر كل باغية وطاغية.

١٩٨ ـ (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ومن يعاقب المجرمين يثيب المتقين ، ما في ذلك ريب (نُزُلاً) حال من جنات ، لأن النزل والنزول ما يهيأ للنازل من طعام وشراب وما أشبه.

١٩٩ ـ (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) توراة موسى وإنجيل عيسى (خاشِعِينَ لِلَّهِ) وللحق فهو ضالتهم وبغيتهم أينما وجدوه اعتنقوه (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) لا يحرفون الحق أو يخفونه طمعا بالحطام الزائل.

٢٠٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على جهاد العدو وقتاله (وَصابِرُوا) اغلبوا العدو في تحمل الشدائد (وَرابِطُوا) وأعدوا له ما استطعتم من قوة (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) اتقوا الله في المحافظة على الجهاد ، فلا فلاح بل لا وجود لكم إلا به ، فهو طريق الحياة وباب الحرية والكرامة.

____________________________________

الإعراب : (مَتاعٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك التقلب متاع قليل ، و (خالِدِينَ) حال من الضمير في لهم ، ونزلا حال من جنات ، أو مفعول مطلق ، أي أنزلوها نزلا. (خاشِعِينَ) حال من الضمير في يؤمن ، لأنه يعود الى من ، وهي بمعنى الجمع. وجملة لا يشترون حال أيضا. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حال من الضمير في لهم ، ويجوز أن تتعلق عند بأجرهم.

٩٦

سورة النّساء

مدنيّة وهي مائة وستّ وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) الخطاب للجميع كما هو المفهوم من كلمة الناس ، وأيضا الأمر بالتقوى لا يختص بفئة دون فئة (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي لا أحد منكم أيها الناس ابن السماء والإله والآخر ابن الأرض والإنسان ، بل كلكم من آدم وآدم من تراب (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) حواء أي من جنسها هو إنسان وهي أيضا إنسان لا حيوان تماما كما في الآية ٢٠ من الروم : (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً) وعليه فقصة خلق حواء من ضلع آدم خرافة (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) كثيرا حذف الوصف من الثاني لدلالة الأول عليه ، ويقال : أن سكان الأرض يبلغون أربعة آلاف مليون نحن في سنة ١٩٧٨ م (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) إشارة إلى ما يقوله بعضنا لبعض : سألتك بالله أن تفعل ... أو تترك ... (وَالْأَرْحامَ) عطف على كلمة الجلالة ، وأيضا نقول : سألتك بالرحم والقرابة.

٢ ـ (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) الخطاب للقائمين على رعاية الأيتام ، والمعنى أنفقوا عليهم من أموالهم حال الصغر ، وسلموهم إياها عند البلوغ والرشد (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي لا تستبدلوا الخبيث من أموالكم بالطيب من أموال اليتامى ، قيل : كان بعض الأوصياء يبدل شاته الهزيلة بشاة اليتيم السمينة (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) في كتاب المغني أن «إلى» تأتي بمعنى مع ، وعليه يكون المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى كما تأكلون أموالكم ، كيف؟ وهذه حلال وتلك حرام (إِنَّهُ كانَ حُوباً) ذنبا (كَبِيراً) جناية لا جنحة.

٣ ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) أي في نكاح اليتيمات ، فحذف لفظ نكاح هنا لدلالة (فَانْكِحُوا) عليه ، وخلاصة المعنى أنه تعالى في الآية السابقة خاطب الأوصياء بشأن أموال اليتامى ، أما في هذه الآية فقد خاطبهم بشأن الزواج من اليتيمات حيث كان الأوصياء وغيرهم يتقون الزواج منهن خوفا من التقصير بحقوقهن ، فقال سبحانه لهم : إن خفتم عدم العدل لو تزوجتم بهن فاتركوهن وشأنهن ، وتزوجوا من غيرهن أربعا إن شئتم ، وأيضا على أساس العدل ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله : (فَانْكِحُوا) أي دعوا اليتيمات يخترن الأزواج لأنفسهن بعد البلوغ والرشد ، وتزوجوا أنتم من غيرهن (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) دون اليتيمات (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) وهذه الكلمات حال من (ما طابَ) أو من النساء ، ويجوز على بدل البعض من النساء ، وهي غير منصرفة للوصف والعدل من ثنتين ثنتين ، وثلاث ثلاث ، ، وأربع أربع.

٩٧

(ذلِكَ أَدْنى) أقرب (أَلَّا تَعُولُوا) لا تجوروا وتميلوا عن العدل.

٤ ـ (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) مهورهن (نِحْلَةً) عطية فرضها الله على الأزواج (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) أبدا لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس مهرا كان أو غير مهر ، قال الرسول الأعظم (ص) : دماؤكم عليكم حرام وأموالكم عليكم حرام.

٥ ـ (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) يا أيها الأولياء لا تسلطوا السفهاء الذين تحت ولايتكم على أموالهم ، والسفيه هو الذي ينفق ماله فيما لا ينبغي ، وبكلمة هو المبذر في نظر العرف (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) ليس لكم من أموال القاصرين إلا أن تقوموا برعايتها وتنميتها (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) أنفقوا عليهم كل ما يحتاجون إليه من مآكل وملبس ومسكن وتعليم وزواج وتطبيب وما أشبه.

٦ ـ (وَابْتَلُوا الْيَتامى) اختبروا عقولهم من تصرفاتهم (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) ويعرف بالعلامات المذكورة في كتب الفقه (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) والمراد بالرشد هنا قبل كل شيء حفظ وإتقان تدبيره (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) اتفق الفقهاء على أن المال لا يعطى لمالكه حتى يحصل له وصفان : الرشد والبلوغ ، واستدلوا بهذه الآية (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) يسوغ للولي الفقير أن يأكل من مال القاصر بمقدار ما يستحق من أجر الحفظ والرعاية ، ويحرم عليه أن يتجاوز ذلك ، ولذا قيد سبحانه النهي بالإسراف ولم يطلق (وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) أي مخافة أن يكبر الأيتام ، والمعنى لا تستعجلوا أيها الأولياء وتسرعوا إلى التصرف في أموال اليتامى قبل أن يكبروا حيث لا يبقى لكم عليهم حق الوصاية والولاية.

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) عن الأكل من مال اليتيم ، وأجر خدمته ورعايته على الله (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) عرفا لخدمته من أجر ولا يزيد (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) والأمر بالإشهاد هنا فرض عند الشافعية والمالكية ، وندب عند الإمامية والحنفية.

٧ ـ (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) كان بعض العرب يورثون الرجال دون النساء ، فنزلت هذه الآية تبين للناس أن الإرث حق لجميع الأقارب ، لأن السبب الموجب له القرابة ، وهي في النساء تماما كما هي في الرجال (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ) المال الموروث (أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) بحكم الله.

____________________________________

الإعراب : ما في قوله تعالى (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) اسم موصول ، والمراد بها النساء بالذات ، كما هو صريح الآية ، وقد حار المفسرون في معناها ، فمنهم من فسرها بجنس النسوة ، ومنهم بوصفهن ، ومنهم بالشيء ، والسر لحيرتهم.

٩٨

٨ ـ (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) الخطاب للوارثين ، ومن في «منه» للتبعيض ، والهاء للمقسوم ، والمراد بأولي القربى قرابة الميت ممن لا يرث ، والأمر هنا للندب لا للوجوب.

٩ ـ (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ) الأوصياء على الأيتام ، وليفعلوا بهم وبأموالهم ما يحبون أن يفعل بأموالهم وأولادهم تماما كعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) وفي حكمهم الأرامل والمساكين (ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) وكل من لعق الحرام مآله إلى السعير والتدمير.

١١ ـ (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) يوجب ويفرض في شأن ميراث أولادكم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لا لفضله عليها كما صرح أكثر المفسرين ، بل لأن مسؤوليته المالية عليه أشق وأوسع كما هو معروف (فَإِنْ كُنَ) نون النسوة اسم كان أي كانت المولودات (نِساءً) بالكامل لا ذكر معهن (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) الظاهر يدل على ما زاد على اثنتين ، ولكن إجماع الأمة صرف هذا الظاهر إلى اثنتين فما فوقهما (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) بالفرض (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) أيضا بالفرض.

(وَلِأَبَوَيْهِ) الأب والأم (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) ذكرا أو أنثى ، واحدا أو أكثر (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) ولا ولد ولد وانحصر ميراثه بأمه وأبيه (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) إن لم يكن للميت إخوة يحجبونها عما زاد عن السدس (فَإِنْ كانَ لَهُ) أي للميت (إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) والباقي بعد سهم الأم في الحالين للأب (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) وقدمت الوصية على الدين لفظا لا حكما ، لأنه مقدم عليها في الشريعة حيث أوجبت الابتداء بتجهيز الميت أولا من تركته وثانيا وفاء الديون المالية ، وثالثا تنفيذ الوصية من الثلث ، وأخيرا الميراث ، والتفصيل في كتب الفقه (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) هذه جملة معترضة تشير إلى أن أسرار المواريث وسهامها لا تدركها عقولنا ، ولكن لا تأباها وترفضها من حيث الإمكان والجواز ، ولا شيء أدل على ذلك من اختلاف الآراء في أصل الإرث وفي السهام كما وكيفا بين جميع الأديان والمذاهب والأحزاب والمشارب حتى بين المسلمين في العديد من مسائل الإرث

____________________________________

الإعراب : (لِلرِّجالِ) متعلق بمحذوف خبر ، ونصيب مبتدأ ، أي حاصل للرجال نصيب ، ومما ترك متعلق بنصيب ، ومما قلّ أو كثر بدل مما ترك بإعادة العامل. (نَصِيباً) حال من الضمير في قلّ أو كثر. والضمير في منه يعود إلى المال المتروك ، ومفعول يخشى محذوف ، أي وليخش الله. و (ظُلْماً) مصدر وضع موضع الحال ، أي ظالمين ، وصاحب الحال الواو في يأكلون.

٩٩

١٢ ـ (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) اتفق المسلمون على أن الزوج والزوجة يشاركان جميع الورثة ، ولا يحجبهما أحد ، وللزوج النصف من تركة الزوجة إن لم يكن لها ولد منه أو من غيره ، والربع إن كان لها ولد (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) للزوجة الربع من تركة زوجها إن لم يكن له ولد منها أو من غيرها ، والثمن إن كان له ولد كذلك ، وولد الولد كالولد عند الإمامية ذكرا كان أم أنثى ، فبنت البنت تماما كالابن تحجب أحد الزوجين من نصيبه الأعلى إلى الأدنى ، وإذا تعددت الزوجات فهن شريكات في الربع أو الثمن (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ) أي موروث منه (كَلالَةً) حال من ضمير يورث ، والمروي عن أهل البيت (ع) أن المراد بالكلالة هنا الإخوة والأخوات من الأم فقط.

(أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على الرجل الموروث منه (وَلَهُ) أي للموروث منه رجلا كان أو امرأة ، وأعاد الضمير على الرجل فقط ، لأنها في حكمه ، (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) من الأم فقط بالإجماع (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) منفردا السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث وبالجملة اتفقت المذاهب الإسلامية على أن للأخ الواحد أو الأخت الواحدة من الأم فقط ـ السدس بالفرض ، وأن للأكثر الثلث ذكورا كانوا أو إناثا أو هما معا ، ويقتسمون فيما بينهم بالسوية للذكر مثل الأنثى.

١٣ ـ (تِلْكَ) إشارة إلى الأحكام المذكورة في اليتامى والمواريث (حُدُودُ اللهِ) فلا تعتدوها (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ ...) فهو في ملك دائم ونعيم قائم.

١٤ ـ (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) فهو في كرب عظيم وعذاب مهين.

____________________________________

الإعراب : (لِلذَّكَرِ) متعلق بمحذوف خبر ، و (مِثْلُ) مبتدأ ، والجملة تفسير ل (يُوصِيكُمُ اللهُ) أي يقول لكم الله : للذكر مثل حظ الأنثيين. والضمير في (كُنَ) يعود على أولادكم. وفوق صفة نساء ، بمعنى زائدات على اثنتين ، ولكن المراد بها هنا اثنتان فما فوق الاتفاق. (وَلِأَبَوَيْهِ) متعلق بمحذوف خبر. ولكل واحد منهما بدل من أبويه مع تكرار العامل. والسدس مبتدأ. ومن بعد وصية متعلق بمحذوف خبر مبتدأ محذوف ، أي هذه الأسهم كائنة من بعد وصية. و (أَوْ) هنا للاباحة ، مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، أي جالس أيهما شئت منفردا أو منضما ، ولا يجب تقديم المعطوف عليه بأو ، وتأخير المعطوف من حيث الفعل ، بل يجوز العكس كما يجوز الجمع بينهما.

١٠٠