التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

٥٠ ـ (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) رده إلى قومه نبيا كما كان من قبل وتقدمت قصة يونس في ٩٨ وما بعدها من يونس والآية ١٣٨ وما يتبعها من الصافات.

٥١ ـ (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ) من الزلق في الموضع الذي تزل به الرجل ، والمراد به هنا النظر بغيظ وحنق (بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) يخبر سبحانه نبيه الكريم عن أعداء الله وأعدائه أن حين يقرأ القرآن ينظرون إليه بنظرات حادة حمراء ، وبعيون العداوة والبغضاء حتى تكاد تلك النظرات الخبيثة الحاقدة تزل قدم الرسول من مكانها فيقع على الأرض. أما ألسنتهم فإنها لا تنطق إلا بالكفر والهجر كقولهم : هو مجنون وما أشبه.

٥٢ ـ (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ان القرآن عظة وهداية لمن سعى لها سعيها بجد وإخلاص.

سورة الحاقة

مكيّة وهي اثنتان وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الْحَاقَّةُ) من أسماء القيامة ، لأن الله سبحانه حقق بها وعده بالبعث والحساب والجزاء.

٢ ـ (مَا الْحَاقَّةُ) ما ذا تعرف أيها الإنسان عن أهوالها وشدائدها؟

٣ ـ (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) انها فوق ما تسمع وتقرأ وتتصور.

٤ ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) قوم صالح (وَعادٌ) قوم هود (بِالْقارِعَةِ) من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب وتزلزلها.

٥ ـ (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) بصيحة تجاوزت الحد في شدتها ، وقيل : الطاغية هنا مصدر وان المراد أهلكت ثمود بسبب طغيانها ، وهذا هو الأرجح لقوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) ـ ١١ الشمس».

٦ ـ (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) شديدة البرد والصوت (عاتِيَةٍ) تجاوزت في قسوتها وشدتها كل حد.

٧ ـ (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) متتابعة دون انقطاع وفتور على مدى هذه الليالي والأيام (فَتَرَى

___________________________________

الإعراب : (الْحَاقَّةُ) مبتدأ أول و «ما» استفهام مبتدأ ثان ، الحاقة خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول والرابط اعادة المبتدأ بلفظه. و (ما أَدْراكَ) «ما» مبتدأ وأرادك فعل ماض وفاعله مستتر يعود الى «ما» والجملة من الفعل والفاعل خبر. ما الحاقة أيضا مبتدأ وخبر.

٧٦١

الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) مطروحين على الأرض (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) جذوع نخل فارغة مفرعة.

٨ ـ (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)؟ كلا ، ولا ناعية ، وتقدم الكلام عن عاد وثمود مفصلا في سورة الأعراف وهود.

٩ ـ (وَجاءَ فِرْعَوْنُ) موسى (ع) (وَمَنْ قَبْلَهُ) من الأمم المكذبة لرسلها (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) المنقلبات وهي قرى قوم لوط التي انقلب عاليها إلى أسفل (بِالْخاطِئَةِ) أهلكوا بأفعالهم المخطئة الخاطئة.

١٠ ـ (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) زائدة في شدة العذاب.

١١ ـ (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) ارتفع بالطوفان في عهد نوح (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) حملنا أجدادكم المؤمنين في السفينة ، وأغرقنا الطغاة المتمردين ، ولا قصد من هذا الإخبار إلا التذكير والعظة يسمعها المؤمن والعاقل ، فينتفع بها ويعتبر كما قال سبحانه :

١٢ ـ (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) جاء في العديد من التفاسير ، منها تفسير الطبري والرازي والمراغي وابن كثير : أن رسول الله قال : «سألت ربي أن يجعلها أذن عليّ» فكان عليّ يقول : ما سمعت شيئا فنسيته.

١٣ ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) النفخ في الصور كناية عن الصيحة للخروج من القبور كما في الآية ٤٢ من ق : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ).

١٤ ـ (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أزيحت الأرض وسائر الكواكب من أماكنها ، ودك بعضها بعضا حتى صارت هباء منبثا ١٥ ـ (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) ويعلم المكذبون أنها حق لا ريب فيه.

١٦ ـ (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) تصدعت وتداعت.

١٧ ـ (الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) المراد بالملك الملائكة والأرجاء : النواحي ، والمعنى بعد خراب السماء تنتشر الملائكة في الفضاء هنا وهناك (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الله جلّ جلاله لا يجلس على العرش كالسلاطين وعليه فمن الجائز والممكن أن يراد بالعرش الملك والاستيلاء. وبحمله كائنات ومخلوقات لله سبحانه لا أحد يعرف عنها شيئا وبعدد الثمانية أجناس ثمانية : ومعنى الآية بمجموعها : بعد تدمير الأرض والسموات المعهودة يبقى ثمانية أجناس من المخلوقات قائمة عامرة بتدبيره تعالى وعنايته. نقول هذا كفكرة ممكنة في ذاتها ، أما إثباتها فيحتاج إلى دليل قاطع.

١٨ ـ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) على الله لنقاش الحساب (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) وأشد الناس عذابا من يعصي الله في الخفاء ، ويظهر للناس بثوب الأتقياء.

١٩ ـ ٢٠ ـ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ) بلسان ناطق وقلب واثق : (هاؤُمُ) خذوا (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) هذه شهادتي ما هي ليسانس ولا دكتوراه ، ولكنها تشهد على أني ما أسأت لأحد من عيال الله بقول أو فعل ، لأني آمنت وأيقنت بأنه لا مفر من الله والحق و (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) لا محالة ، فأخذت الأهبة لموقف العرض والمحاكمة.

٢١ ـ (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) مرضية لا ينغصها شيء.

٧٦٢

٢٢ ـ (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) شأنا وقصورا وأشجارا وأيضا جارية جداول وأنهارا.

٢٣ ـ (قُطُوفُها دانِيَةٌ) يأكل منها القائم والقاعد والنائم على سريره متى شاء ، وتقول ملائكة الرحمة لأهل الجنة :

٢٤ ـ (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) من عمل الخير وأداء الواجب ، وما أضعتم الحياة في اللغو والعبث ٢٥ ـ (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) وهو الذي كذب بالبعث والحساب والجزاء ، وطغى وبغى على عباد الله وعياله (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) هذي هي عاقبة الجهل والغرور حسرات وزفرات.

٢٦ ـ (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) لم يطلع على صحيفة أسوائه وجزائه ٢٧ ـ (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) لم يخلق أو لم يبعث من قبره.

٢٨ ـ (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) عن عذاب الله شيئا.

٢٩ ـ (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) لا مجير ولا معين.

٣٠ ـ ٣٢ ـ (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) الخطاب لزبانية جهنم أن تضع الأغلال في عنقه ، وتورده النار وبئس الورد المورود.

٣٢ ـ (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) كناية عن أليم العذاب وشدته ، وجاء في تفسير ابن كثير انها تدخل في استه وتخرج من فمه ، وقال آخر : بل من منخره.

٣٤ ـ (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) امتن سبحانه على العباد بنعمه وآلائه في العديد من الآيات. ونفترض أن جائعا عاريا قال عن جهل : أين نعمته عليّ حتى أشكرها وأقدّرها؟ أما خلقي ووجودي فيا ليته لم يكن ما دام على هذه الحال فهل من جواب؟ أبدا لا جواب إطلاقا طلا بقول الإمام جعفر الصادق المذكور في الوسائل أول باب الزكاة ، وهذا نصه بالحرف الواحد : «أن الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء ، وحقيق على الله تعالى أن يمنع رحمته ممن منع حق الله في ماله».

٣٥ ـ (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) قريب يدفع وخليل ينفع.

٣٦ ـ (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) غسالة أهل النار التي تسيل من أبدانهم.

٣٧ ـ (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) وهم الذين كانوا في كل الحياة الدنيا يأكلون أقوات الكادحين ، وينهبون أرزاق المستضعفين.

٣٨ ـ ٣٩ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) بجميع الأشياء بلا استثناء ، وكتب أحمد أمين العراقي بكتاب التكامل في الإسلام أكثر من ٨٠ صفحة حول هذه الآية ، وقال من جملة ما قال : ان من الأشياء التي لا يمكن أن ترى على الإطلاق حتى بأحدث الآلات وأعظمها ـ الذرة والأشعة الخفية وهي أكثر بكثير من المرئية.

٤٠ ـ (إِنَّهُ) القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) لا تشكوا أيها المعاندون في القرآن ، فإن الله سبحانه يقسم ـ لأن «لا» زائدة ـ بأن القرآن من وحيه ، وهو الذي اختار محمدا لتبليغه ٤١ ـ (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) لأن القرآن ليس من جنس

٧٦٣

الشعر ولا في أسلوبه.

٤٢ ـ ٤٣ ـ (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) لأن كلام الكهان سخف وأوهام ، وتقدم في سورة الشعراء الآية ٢٢٤ والطور الآية ٢٩.

٤٤ ـ (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا) لم يزد محمد (ص) حرفا واحدا في القرآن ، ولم ينقص منه حرفا وتقدم في الآية ٣٣ من الطور ، ولو حاول الافتراء.

٤٥ ـ (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) واليمين هنا تعبير عن القدرة الإلهية.

٤٦ ـ (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) وهو العرق الرئيسي الذي يتعلق به القلب.

٤٧ ـ (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) ما نافية تعمل عمل ليس ، ومن زائدة إعرابا ، وأحد اسم ما ، وحاجزين خبرها ، ومنكم متعلق بمحذوف حالا من حاجزين ، لو فرض أن محمدا تقول على الله لانتقم منه ، ولا أحد من المشركين أو من غيرهم يستطيع أن يحول دون ذلك ، وبما أن الله لم ينتقم من محمد فهو إذن الصادق الأمين ، والمفترون هم الذين نسبوه إلى الافتراء.

٤٨ ـ (وَإِنَّهُ) القرآن (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) القرآن هو السبيل الواضح لمن أراد أن يتقي غضب الله بصدق وإخلاص.

٤٩ ـ (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) أنزل سبحانه القرآن على محمد (ص) وهو يعلم أن بعض الخلق سوف يكفرون به مع أنه يحمل في صلبه الدليل القاطع على صدقه وعظمته.

٥٠ ـ (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) حيث يرون غدا النعيم العظيم الذي أعده الله لمن آمن بالقرآن واهتدى بهديه والعذاب الأليم لمن أعرض عنه وضلّ عن سبيله.

٥١ ـ (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) الذي به يستدل على غيره ولا يستدل بغيره عليه.

٥٢ ـ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) سبحانك أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين والرّحمن الرّحيم وصلّ على محمد وآله الطاهرين.

سورة المعارج

مكيّة وهي اربع وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) سأل هنا بمعنى طلب واستدعى ، وعليه يكون المعنى أن من كذب بالبعث والحساب والجزاء طلب تعجيل العذاب ساخرا متحديا. فجاءه الجواب من مالك الثواب والعقاب.

٢ ـ (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) العذاب واقع على المجرمين ، لا شك فيه ، ولا دافع له سواء أطلبوه أم رفضوه.

٧٦٤

٣ ـ (مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) المراد بالمعارج الرفعة الكاملة والعلو المطلق ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) ـ ١٥ غافر».

٤ ـ (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) المراد بالروح جبريل وعطفه على الملائكة من باب عطف الخاص على العام ، والمعنى أن الملائكة يسرعون في طاعة الله وإنفاذ أمره سرعة يقطعون بها في اليوم الواحد قدر ما يقطع الناس في خمسين ألف سنة بوسائلهم المألوفة ، والمراد بهذه المدة مجرد التمثيل لحق الله على الخلق ، وأن عليهم أن يستسلموا لأمره ، ويسرعوا إلى طاعته تماما كما أسرع إليها الملائكة المقربون ٥ ـ (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) تذرع يا محمد بالصبر على تكذيب المجرمين وإيذائهم ٦ ـ ٧ ـ (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) يوم الحساب والجزاء محال وبعيد عند الجاحدين ، وعند الله أقرب من قريب ، لأنه آت لا محالة ٨ ـ (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) تذوب الكواكب والأجرام السماوية ، وتصبح كالزيت العكر أو المعدن الذائب السائل ٩ ـ (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) كالصوف في هشه وانتفاشه ١٠ ـ (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لأن كل إنسان في شغل شاغل بنفسه عن غيره.

١١ ـ (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي يرى الحميم حميم يوم القيامة ، ولكن لا سؤال ولا كلام ، لأن كلّا منهما يومئذ في شأن يذهله وهم يشغله (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) الذين جمع لهم من حلال وحرام.

١٢ ـ (وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ) المراد بالصاحبة الزوجة ١٣ ـ (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) عشيرته التي تحميه.

١٤ ـ (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) قد يهون الموت على الإنسان ، بل ويضحي بالمال والعيال في سبيل حريته وكرامته ، وهو سليم الجسم معافي من الأوجاع والآلام فكيف إذا سلب الحرية ـ ألقي في لهب ساطع ودائم ، لا يقضى عليه فيموت ، ولا يخفف عنه العذاب؟ وتقدم في الآية ٩١ من آل عمران.

١٥ ـ (كَلَّا) أيها المجرمون ... لا فداء ولا شيء ينجيكم من سوء المصير (إِنَّها لَظى) لهب خالص.

١٦ ـ (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) تنتزع الأعضاء من أماكنها وتشويها ، ثم إلى الحياة كما كانت ، وهكذا دواليك.

١٧ ـ (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) تجذبه إليها وتشده ، ولا تدع له ، من وسيلة إلى الفرار.

١٨ ـ (وَجَمَعَ فَأَوْعى) من الوعاء لا من الوعي ، والمعنى جمع المجرم الأموال ، وأمسكها في الأوعية ، ولم يؤد حق الله منها ١٩ ـ ٢١ ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) الإنسان ابن الأرض وبها يشبه ، فهي تخصب وتنشر الخضرة والنماء وإذا نزل عليها الماء وتجدب وتغبر إذا انقطع عنها ، وهكذا الإنسان يفرح ويسرّ إذا مسّه الخير وينهار جزعا إذا مسّه الشر والفرق بينه وبين الأرض أن للإنسان طاقة وإرادة ودينا وعقلا وبها يستطيع أن يملك نفسه ، ويلتزم العدل والتوازن ، في تصرفاته فلا يقتر أو يبذر إذا استغنى ، ويصبر ويتجلد إذا افتقر ، وأيضا يثق بالله ورحمته ، ولا يستولي عليه اليأس والقنوط ، وهذي هي صفة المؤمنين حقا الذين أشار سبحانه إليهم بقوله :

٢٢ ـ ٢٣ ـ (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أبدا لا دين ولا إيمان إلا لمن حافظ على الصلاة

٧٦٥

وواجباتها وثبت على أدائها في أوقاتها.

٢٤ ـ ٢٥ ـ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) السائل : الذي يطلب من الناس ويبدأهم بالسؤال والمحروم : الذي يتعفف عن الطلب ، فيظنه الجاهل بحاله غنيا فيحرمه ، وهذا أحق الناس بحق الله ، والصدقة عليه تقع في يد الله لا في يده كما في الحديث ، بل وفي القرآن لأن الله استقرض له لا لسواه.

٢٦ ـ (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) لا دين لمن أقر بوجود الله ، وأنكر لقاءه وحسابه وجزاءه ، وأيضا لا إيمان لمن أقر بهذين معا ، وأنكر نبوة محمد (ص).

٢٧ ـ ٢٨ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) مهما كانت طاعة العبد وتكون ، ولا أدري كيف كرر وأعلن واحد من الناس ، أنه في أمان من عذاب الله وهو يتلو هذه الآية؟ وروي أن رسول الله قال : «اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخله عمله الجنة. قالوا ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» ومعنى الحديث : اتقنوا العمل وتقربوا به إلى الله ، واتركوا إليه أمر الثواب على أعمالكم ولا تجزموا أن عملكم هذا يدخلكم الجنة لا محالة ، بل أرجوا رحمة الله وفضله.

٢٩ ـ ٣٠ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من جوار وإماء ، ولا موضوع لهذا الحكم في عصرنا حيث لا جارية ولا أمة (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) ولا مسؤولين حيث تمتعوا بحلال الله لا بحرامه.

٣١ ـ (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) تجاوز الحلال إلى الحرام كالزنا واللواط (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) المعتدون على أعراض الناس والمتعدون المتجاوزون حدود الله ٣٢ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) المؤمن المخلص إذا اؤتمن لم يخن ، وإذا عاهد لم يغدر ٣٣ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) لا يكتمونها ولا يزيدون فيها ، ولا ينقصون منها.

٣٤ ـ ٣٥ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) تقدم في الآية ٢٣ من هذه السورة وكرر سبحانه لمجرد الاهتمام بالصلاة والتنبيه إلى أنها عمود الإسلام. وسبق الكلام عن المحافظة على الصلاة والفروج وإقامه الشهادة والوفاء بالعهد والأمانة وحق الله في الأموال والخوف من عذابه تعالى والرجاء لثوابه ٣٦ ـ (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) قبلك بكسر القاف : نحوك وعندك وحولك ، ومهطعين : مسرعين.

٣٧ ـ (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) أي عن يمين محمد (ص) وشماله (عِزِينَ) فرقا وجماعات والمعنى ما أعجب شأن المكذبين برسالتك! إنهم يسرعون ويتحلقون حولك حين تتلو آيات الله ، لا لشيء إلا ليتخذوها هزوا وسخريا.

٣٨ ـ (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) كان المجرمون العتاة يسخرون من القرآن ، ويشيرون إلى خباب وبلال وعمار ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فنحن أحق بها وأولى! وما من شك أنهم أولى بجهنم صليا.

٣٩ ـ (كَلَّا) هيهات لا يخدع الله عن جنته ، ولا تنال مرضاته إلا بطاعته (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) إنهم وكل البشر من ماء مهين ، ولا فضل لأحد على آخر إلا أن يترك شيئا نافعا ومفيدا لأخيه الإنسان.

٤٠ ـ ٤١ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) أي يقسم سبحانه ـ على القول بأن «لا» زائدة ـ بمن خلق

٧٦٦

الكواكب ومشارقها ومغاربها (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) انه تعالى هو القادر على أن يهلك المجرمين المعاندين ويأتي بمن هو أطوع لله ورسوله (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) مغلوبين ؛ وتقدم في الآية ٣٨ من محمد.

٤٢ ـ (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا ...) دعهم يا محمد في لهوهم وكفرهم حتى يذوقوا وبال أمرهم ، وتقدم بالحرف الواحد في الآية ٨٣ من الزخرف.

٤٣ ـ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) الأجداث : القبور ، ونصب بضم النون والصاد ، الشيء المنصوب ، والمراد به هنا الصنم المعبود ، والجمع أنصاب ، ويوفضون : يسرعون ويستبقون ، والمعنى أن المشركين يسرعون غدا الخروج من قبورهم كما كانوا يسرعون المشي إلى أصنامهم في الدنيا.

٤٤ ـ (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) ينظرون نظرات الذليل الخاضع ، لما يشعرون من الخزي والهوان ، وتقدم في الآية ٧ من القمر (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) وبه يكذبون ، ومنه يسخرون حتى ذاقوا جمراته وآفاته.

سورة نوح عليه‌السلام

مكيّة وهي ثمان وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) منذرا ومحذرا من غضب الله وعذابه. جاء في تفسير جزء تبارك للشيخ عبد القادر المغربي أن بين آدم ونوح ١٠٥٦ سنة.

٢ ـ ٣ ـ (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) أوجز رسالته ورسالة جميع الأنبياء بأمور ثلاثة : أن يتركوا الأصنام ويعبدوا الله وحده. الثاني أن يفعلوا الخير ويتقوا الشر. الثالث أن يطيعوا الله في أمره ونهيه ، وضمن لهم أن استجابوا ، أمرين ؛ اللغة : استغشوا ثيابهم يقال : استغشى الثوب إذا تغطى به ، ويجعل كناية عن أخفى الحالات. والمراد بالسماء هنا المطر. والمدرار الغزير.

___________________________________

الإعراب : (أَنْ أَنْذِرْ) ، و (أَنِ اعْبُدُوا) يجوز أن تكون «ان» مفسرة بمعنى أي ويجوز ان تكون مصدرية على تقدير الباء أي بأن انذر وبأن اعبدوا.

٧٦٧

٤ ـ (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي ما تقدم منها على الإيمان لأن الإيمان يجب ما قبله ، أما الذنوب بعد الإيمان فيحاسبون عليها ، وإلى هذا تومئ كلمة «من» الأمر الثالث (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) ان استجبتم لدعوتي يمهلكم سبحانه حتى تستوفوا العمر الطبيعي المحتوم وإلا عجل واستأصل شأفتكم بالطوفان ونحوه (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يا ليتكم تعلمون لتسرعوا إلى الإيمان.

٥ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) دائما ومواظبا ٦ ـ (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) ثابر وواظب نوح على الدعوة ، وثابروا بدورهم وواظبوا على النفور والعناد.

٧ ـ (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) سدوها دون دعوة الداعي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) تغطوا بها كيلا يروا وجه الداعي (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) على الحق والانقياد له.

٨ ـ ٩ ـ (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ) قال جماعة من المفسرين في وجه الجمع بين الجهر والإعلان : بدأ نوح بالدعوة سرا ، ثم ثنى بالمجاهرة ، ثم ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان ، أما نحن فنختار ما قاله الدكتور طه حسين في كتاب مرآة الإسلام ، ونلم منه هذه الشذرات : «للقرآن أسلوب خاص به لم يسبق إليه ، ولم يلحق فيه ... ويختلف أشد الإختلاف عما يكتبه الناثرون وينظمه الشعراء ، ويقوله الخطباء ... القرآن يتلى في الإذاعات الأوروبية والأميركية على أنه إمتاع للمستمعين ... وقد يذاع غيره من اللغات ، ولكن بعض الحين لا دائما كما يذاع القرآن الكريم» وعليه فلا يسوغ أن نقيس كلام الله على كلام البشر ونقول : لما ذا أعاد وكرر؟ ثم نتمحل في التوجيه والتأويل.

١٠ ـ (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) لكل من يندم على خطيئته ، ويلجأ إلى الله ومغفرته.

١١ ـ (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) مطرا كثيرا ومتواصلا ، ويستحب قراءة سورة نوح في صلاة الاستسقاء من أجل هذه الآية كما قيل.

١٢ ـ (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) كل مجتمع يؤمن بالله ولم يعص له أمرا يعيش في سلام وهناء دنيا وآخرة بحكم البديهة ، لأن معنى إطاعة الله في أمره ونهيه أن يسود الأمن والعدالة الاجتماعية.

١٣ ـ (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) لا تهابون نكاله وعذابه.

١٤ ـ (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) نطفة ثم علقة. وهكذا إلى الهرم والشيخوخة.

١٥ ـ (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) تأملوا الكون ونظامه وإتقانه الذي يدل على وجود المكون والمنظم وقدرته وعظمته ، وتقدم في الآية ٣ من الملك وغيرها.

١٦ ـ (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) فيهن أي في مجموع السموات. وصف سبحانه الشمس بالسراج

٧٦٨

والقمر بالنور ، لأن السراج مصدر النور ، ونور القمر مستمد من الشمس وتقدم في الآية ٥ من يونس.

١٧ ـ (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) كلنا من آدم وآدم من تراب.

١٨ ـ (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) هذا هو ابن آدم : منها وعليها كضيف مؤقت وإليها في زنزانة مظلمة طولها خمسة أشبار ، وعرضها شبران ونصف الشبر وتقدم في الآية ٥٥ من طه.

١٩ ـ ٢٠ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) جمع فج وهو الانفراج والسعة ، والسبل : الطرق ، وتقدم في الآية ٣١ من الأنبياء.

٢١ ـ (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) استيأس نوح من قومه فالتجأ إلى خالقه (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) يريد الفئة المتسلطة التي تتحكم في كل شيء ولا ترى لغيرها حقا في شيء.

٢٢ ـ (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) لأنهم صدوا المستضعفين عن الإستجابة لدعوة نوح ، وبالغوا في إيذائه وإيذاء من آمن برسالته ٢٣ ـ (وَقالُوا) أي قال المترفون الطغاة للمستضعفين : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) أسماء أصنام كانوا يعبدونها ، قال جماعة من المفسرين : إن هذه الأصنام ظلت تعبد في الجاهلية إلى عهد الرسول الأعظم (ص) ٢٤ ـ (وَقَدْ أَضَلُّوا) قادة الفساد (كَثِيراً) من العباد (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) إلا عذابا شديدا.

٢٥ ـ (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) أغرقهم الطوفان بسبب آثامهم وطغيانهم (فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) لا معين ولا مغيث يجيرهم من عذاب الله.

٢٦ ـ (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) وهو من يسكن الدار ، ودعوة نوح هذه تناولت ولد ، لصلبه الذي كفر بخالقه واعتزل عن والده.

٢٧ ـ (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) قال هذا لخبرته بهم وطول مكثه بين أظهرهم ، وروي أن الرجل من قوم نوح كان ينطلق بابنه إليه ويقول له : احذر هذا الكذاب ، إن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية.

٢٨ ـ (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) ولجميع المؤمنين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

___________________________________

الإعراب : (ما لَكُمْ) مبتدأ وخبر. و (وَقاراً) مفعول لا ترجون أي لا تخافون عظمة الله. و (أَطْواراً) مفعول خلقكم. و (طِباقاً) صفة لسماوات أي مطابقة. و (نَباتاً) مفعول مطلق بمعنى إنباتا. و (سُبُلاً) مفعول تسلكوا ، و (فِجاجاً) صفة. (كَثِيراً) أي خلقا كثيرا. و (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) «ما» زائدة أي من خطيئاتهم. و (مُؤْمِناً) حال من فاعل دخل.

٧٦٩

سورة الجنّ

مكيّة وهي ثمان وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (قُلْ) يا محمد (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) الجن حقيقة واقعة ، لأن الوحي أثبته ، والعقل لا ينفيه ، إن قال قائل : العلم الحديث لم يثبت الجن. قلنا في جوابه : وهل في العلم الحديث ما ينفيه؟ إن هذا العلم يعتمد الحس والعيان ، ولا شيء في القرآن أو السنة يقول بالعبارة أو الإشارة : إن إنسانا رأى الجن ، بل هذه الآية تشير إلى أن النبي ما رأى الجن ، ولا عرف أن نفرا منهم يستمعون إليه إلا بوحي من الله. وقال الشافعي : من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) في بلاغته وهدايته.

٢ ـ (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) إلى الحق والعدل والسلام والحرية ، إلى حياة لا جور فيها ولا جهل ولا فقر (فَآمَنَّا بِهِ) وهل من إنسان حقا وواقعا لا يؤمن بالإنسانية؟ (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) لا عظيم سواه ، بيده ملكوت كل شيء ، وهو على كل شيء قدير.

٣ ـ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) أي تعالى جلاله وكماله عن الصاحبة والولد.

٤ ـ (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) بعيدا عن الحق والواقع ، وإضافة السفيه إلى الجن تومئ إلى أنه كان فيهم من يفتري على الله كذبا.

٥ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) كان قادة الجن يدعون الأتباع إلى الشرك فيشركون إيمانا منهم بأن ما من أحد يقول على الله بغير الحق.

٦ ـ (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) المراد برجال الإنس الجهلة البسطاء ، والمراد برجال الجن المشعوذون الدجالون الذين يزعمون أنهم يسخّرون الجن فيما يريدون ، والمعنى أن السذج من الناس كانوا يستجيرون بالدجالين ليدفعوا غائلة الجن عنهم أو يتنبئوا بما يحدث لهم

___________________________________

الإعراب : المصدر من (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) نائب فاعل لأوحي ، وضمير انه للشأن. و (عَجَباً) صفة للقرآن بمعنى عجيب. و (شَطَطاً) صفة لمفعول مطلق مقدر أي قولا شططا ، ومثله كذبا. و (أَنْ لَنْ) «أن» مخففة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، والمصدر المنسبك سادّ مسدّ مفعولين. و (رَهَقاً) مفعول ثان لزادوهم.

٧٧٠

أو ما أشبه (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) حيث كان الدجالون يطلبون من البسطاء أجرا يعجزون عن مثله.

٧ ـ (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) ظن الجن ـ قبل رسالة محمد ـ أنه لا نشر ولا حشر. تماما كما ظن الإنس ، وتقدم في الآية ٢٩ من الأحقاف.

٨ ـ (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً) هذا اعتراف صريح من الجن بالعجز عن استراق السمع من السماء ، وتقدم في الآية ١٨ من الحجر وغيرها.

٩ ـ (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) تدل الآية بظاهرها أن الجن كانوا يصعدون إلى السماء لاستراق السمع ، ثم منعوا من ذلك ، ومن يحاول الآن أن يستمع يرجم بشهاب من نار.

١٠ ـ (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ ...) هذا من كلام الجن ، ومعناه كيف يظن الحمقى من الإنس أن عندنا علم الغيب وما يحدث لهم في المستقبل من خير وشر ، ونحن نجهل ما يحدث لأنفسنا؟

١١ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) يحكي الجن عن أنفسهم أن منهم الصالح والطالح ، وأنهم متفرقون طوائف ومذاهب تماما كالإنس.

١٢ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) لما سمع الجن القرآن آمنوا بأن الله سبحانه لا يعجزه من طلب ، ولا يفوته من هرب.

١٣ ـ (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) آمنوا بالقرآن بمجرد سماعه ، لأنه يحمل في صلبه الدليل القاطع على صدقه (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً) نقصا (وَلا رَهَقاً) ظلما لأنه تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا.

١٤ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) جمع القاسط وهو المنحرف عن الحق ، أما المقسط فهو العادل ، والآية السابقة رقم ١١ قسمت الجن إلى صالح وما دونه بالنظر إلى ما قبل الإسلام ، والآية التي نحن بصددها قسمتهم إلى مسلم وقاسط بالنظر إلى ما بعد إسلام من أسلم من الجن.

١٥ ـ (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) وهم الذين رفضوا الإسلام فمأواهم جهنم وبئس المهاد.

١٦ ـ (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) كثيرا ، والمراد به هنا الرخاء لأن الماء أصل الحياة ، والمعنى لو أن الخلق عملوا بشريعة العدل والحق لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم كما في الآية ٦٦ من المائدة.

___________________________________

الإعراب : (حَرَساً) تمييز. و (مَقاعِدَ) اسم مكان مفعول فيه. (أَشَرٌّ) مبتدأ وجملة أريد خبر.

٧٧١

١٧ ـ (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي في الرخاء ، والمعنى لنختبرهم في الغنى والرخاء : هل يتواضعون ويشكرون أو يتعاظمون ويطغون؟ (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) يدخله عذابا أشد عليه من كل عذاب.

١٨ ـ (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) بنيت المساجد للعبادة وما يرضي الله من الأفعال وما عدا ذلك فله مكانه ومحله الخاص به.

١٩ ـ (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) محمد (يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) حين دعا رسول الله الخلق إلى الحق تظاهرت عليه أحزاب الضلال ، وكادوا من كثرتهم يكونون كالشعر أو الصوف الذي تلبد بعضه فوق بعض ، ويدل على إرادة هذا المعنى قوله تعالى بلا فاصل :

٢٠ ـ (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أعبد الله وأخلص له دون سواه.

٢١ ـ (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) نفعا ، أنا بشر مثلكم وليس لي من الأمر شيء سوى التبليغ عن الله وكفى.

٢٢ ـ (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملجأ وملاذا.

٢٣ ـ (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) لا مفر لمحمد (ص) من غضب الله إذا هو قصّر في تأدية الرسالة التي ائتمنه عليها. وهذه آية من عشرات الآيات التي تدل بصراحة على أن الإسلام يضع الإنسان أمام الله مباشرة يناجيه بما يشاء من غير وسيط روحي أو شخصي.

٢٤ ـ ٢٥ ـ (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) كان العتاة يعتزون بالمال والرجال ، ويسخرون من المستضعفين الذين يعتزون بالله ورسوله ، فقال سبحانه للساخرين : في غد تعلمون من هو الأذل والأدنى ، ومن هو الأعز والأعلى. أبدا لا رافع لمن وضع ولا واضع لمن رفع.

٢٦ ـ (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) حين سمع المشركون العتاة قوله تعالى : فسيعلمون من أضعف ناصرا ، سألوا النبي (ص) : متى هذا الوعد؟ قال لهم بأمر من الله : لا أدري أقريب أم بعيد ، لأن الله وحده هو الذي يعلم الغيب ، ولا يطلع عليه أحدا.

٢٧ ـ (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) وما أخبرني متى تقوم القيامة (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) ضمير الغائب للرسول ، والمعنى أن النبي حين يبلّغ عن ربه يصونه سبحانه من كل شيء يمنعه عن تأدية الرسالة على وجهها سواء أكان هذا الشيء من الداخل كالذهول والنسيان أم من الخارج كتشويش الأعداء وأباطيلهم.

٧٧٢

٢٨ ـ (لِيَعْلَمَ) الله سبحانه ، والمراد بعلمه هنا وجود المعلوم وثبوته واقعا (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أي أن الله سبحانه صان رسالات أنبيائه من التغيير والتحريف لكي يتم التبليغ ويتحقق كما علم الله وأراد ، ولذا قال سبحانه بلا فاصل : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) علم سبحانه أن أنبياءه قد بلّغوا رسالاته كما هي لم ينقصوا منها أو يزيدوا فيها أو يبدلوا حرفا بحرف وإلا تبطل حجج الله على العباد وبيناته (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) فكيف لا يحصي على رسله أقوالهم وأنفاسهم حين يبلّغون رسالاته إلى عباده؟.

سورة المزّمّل

مكيّة وهي عشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وأصله المتزمل من تزمل إذا اشتمل بثيابه ، وكان النبي (ص) حين النداء مشتملا بكسائه فخاطبه العلي الأعلى بالوصف الذي هو عليه ملاطفة له.

٢ ـ (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) أحي الليل في الصلاة والعبادة ما عدا جزءا قليلا منه ، تأوي فيه إلى فراشك.

٣ ـ ٤ ـ (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) نصفه بدل بعض من كل وهو الليل ، وعليه يكون المعنى لك يا محمد أن تقوم لله النصف من الليل أو أقل من النصف بقليل أو أكثر منه أيضا بقليل (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) اقرأه على مهل آية فآية كي يتدبر القارئ والسامع معناه ومرماه.

٥ ـ (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) المراد بالقول هنا القرآن بالاتفاق ، ولكن هل الثقل في تلاوة القرآن وكفى؟ ويجيب القرآن نفسه عن هذا السؤال حيث يقول لمحمد (ص) : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ـ ١ ابراهيم» ومعنى هذا أن على محمد أن يتحدى مشاعر الناس ، كل الناس ، وعواطفهم ، وأن يثور على آلهتهم ومقدساتهم وعلى عقولهم وأفكارهم وعلى عاداتهم الموروثة وأسلوب حياتهم ، ومن هنا جاء الحمل الثقيل والخطب الجليل ، ولكن شخصية محمد وصلابتها في تحمل الأثقال هي السر لاصطفائه ودعوته إلى أن يحمل على هذا العبء الجليل الثقيل والله يعلم من خلق وأرسل. انظر تفسير الآية ١١ من الطلاق.

٦ ـ (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) ناشئة الليل : ساعات القيام فيه ، وأشد وطأ : أكثر مشقة من القيام في النهار ، وأقوم قيلا : أصوب قراءة ، والمعنى أن الإنسان في عبادته ليلا يتوجه إلى خالقه أكثر منه نهارا سواء أكانت العبادة صلاة أم دعاء وتسبيحا أم تلاوة لكتاب الله.

٧ ـ (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) سبحا : تصرفا وتقلبا في الأعمال كما يتقلب السابح في الماء ، والمعنى الليل للعبادة والنهار للعمل.

٨ ـ (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ادع إليه (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) انقطع إليه ، وتوكل عليه ، واستعن به وحده.

٩ ـ (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) كناية عن عظمته

٧٧٣

وأن كل شيء في قبضته (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) من سأله أعطاه ، ومن توكل عليه كفاه.

١٠ ـ (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ...) اكظم غيظك يا محمد من سفهاء قومك بلا عتاب وسؤال وجواب ، ودع أمرهم إلى الله.

١١ ـ (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) ما لك ولمن أطغاه الغنى ، وتنمر للمساكين؟ انتظر قليلا وترى مآبه ومصابه.

١٢ ـ (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً) والأنكال هي القيود التي لا تنفك إطلاقا.

١٣ ـ (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) يعترض في الحلق ويسده لا يدخل ولا يخرج.

١٤ ـ (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) تهتز الأرض يوم القيامة وتتزلزل ، فتتفتت الجبال وتتحول كثيبا أي تلّا من الرمال مهيلا : أي تهيله الرياح وتنشره ، وتقدم مرات.

١٥ ـ ١٦ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) الخطاب للمكذبين أولي النعمة المذكورين قبل قليل ، والرسول محمد (ص) يشهد عليهم أنه قد بلّغ وكرّر وبشّر وأنذر (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ...) إن حال محمد (ص) مع المكذبين المترفين تماما كحال موسى مع فرعون وقومه ، وقد انتقم سبحانه من هؤلاء شر انتقام ، والمكذبون بنبوة محمد (ص) أولى بالهلاك والانتقام ، لأن محمدا أجلّ من موسى وأعظم.

١٧ ـ ١٨ ـ (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ) أي أصررتم على الكفر حتى الموت (يَوْماً) مفعول تتقون (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) وذكر منفطرا لأن المراد بالسماء هنا السقف أو العلو (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي وعد هذا اليوم واقع لا محالة ، وخلاصة المعنى : بأية وسيلة أيها الطغاة تنجون من العذاب الأكبر في يوم تشيب الأطفال من أهواله ، وتنفطر السماء من أثقاله؟

١٩ ـ (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) إشارة إلى ما سبق من آيات الإنذار ، وتذكرة : عبرة وعظة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) لقد أوضح سبحانه السبيل إلى ثوابه ومرضاته وما ترك عذرا لمتعلل.

٢٠ ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى ...) في أول السورة أمر سبحانه النبي والصحابة أن يعبدوه في الليل على البيان السابق ، فاستجابوا وكانوا قليلا من الليل ما يهجعون ، ثم أنزل سبحانه الترخيص بالتخفيف في هذه الآية ، ومعناها أن الله سبحانه علم من نبيه والذين أحسنوا الصحبة أنهم كانوا يقومون في الليل قياما مختلفا ، فمرة يصلون أكثر من نصف الليل وأقل من ثلثيه ، ومرة نصفه ، وحينا ثلثه ، لأنهم يعجزون عن ضبط الوقت ، والله هو الذي يعلم البداية والنهاية لكل من الليل والنهار وأجزاءه الأولى والأخيرة والوسطى في كل الفصول ، لذلك خفف عن النبي والصحابة وأمرهم أن

٧٧٤

يكتفوا بقراءة (ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) نقل صاحب مجمع البيان عن أكثر المفسرين : أن المراد بالقراءة هنا صلاة الليل ، وهي ١١ ركعة ، ووقتها بعد نصف الليل ، وسواء أريد من القراءة في هذه الآية الصلاة أم مجرد التلاوة ، فإن الصلاة الواجبة تنحصر بالفرائض الخمس والآيات والطواف الواجب والملتزم بنذر وشبهه والصلاة على الميت ، وقضاء الولد الأكبر عن والديه ما فاتهما من الصلاة في مرض الموت. (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ذكر سبحانه أربعة أسباب للتخفيف والترخيص بترك القيام لله دليلا : السبب الأول : العجز عن ضبط الوقت ، وسبقت الإشارة إليه. الثاني أن في عباد الله مرضى يتعذر عليهم التعبد في الليل. الثالث أن منهم أيضا المسافرين لطلب العيش وغيره من الأمور الضرورية. السبب الرابع الجهاد في سبيل الله ، فخفّف سبحانه القيام لله ليلا عن جميع العباد لأجل هذه الأسباب ، ومعنى هذا أن الله سبحانه قد يرفع بعض التكاليف عن عموم الأفراد لعجز بعض العباد عن أداتها ، وإن قدر آخرون على إقامتها بلا مشقة وصعوبة (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي من القرآن وكرر سبحانه هذا الأمر لتكرار سببه ، فقد كان السبب الموجب للأمر الأول العجز عن ضبط الوقت ، أما السبب الثاني فهو المرض والسفر والجهاد (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) المفروضة في أوقاتها الخمسة ، ولا تسقط في مرض وسفر وجهاد يؤديها كلّ حسب طاقته (آتُوا الزَّكاةَ) المفروضة في أموالكم (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي لوجه الله بلا من وأذى وترفع واستعلاء ، وكرر سبحانه هذا القرض في كتابه أكثر من عشر مرات ، لأنه من أفضل أعمال البر ، إضافة إلى تزكية النفس والتكفير عن الذنب (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أي إن تقدموا (مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) المراد بالخير كل ما يخدم الإنسان وينتفع به قولا كان أو فعلا (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) بزجر النفس عن الحرام إذا مالت إليه. وردعها عن الباطل إذا حاولت الإقدام عليه لا بقول استغفر الله وكفى.

سورة المدّثّر

مكيّة وهي ست وخمسون آي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أصله المتدثّر ، والدثار : ما يلتف به الإنسان من الثياب تماما كالمزمل.

٢ ـ (قُمْ فَأَنْذِرْ) قم يا محمد. قم يا إنسان بمعناه ومحتواه. قم يا من يؤمن بالله ويغضب لغضبه ، قم وتحدّ طغاة الأرض وجبابرة الحكم ، بكلمة الحق والعدل بلا مداراة وهوادة.

٣ ـ (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) بهذا النداء لا كبير مهما كانت قوته وثروته إلا الله ، ولا خضوع لأحد سواه ، هذا هو الدين القيّم الذي يضع الجميع على صعيد واحد في الحقوق والواجبات. ويبطل مزاعم الذين يرون لأنفسهم حقوقا مقدسة على غيرهم.

٧٧٥

٤ ـ (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) وما من شك أن نظافة الجسم والثياب من الإيمان ، ولذا جعل الإسلام الغسل والوضوء شرطا لصحة الصلاة ، ولكن المراد ما يعم ويشمل نظافة الباطن والسلوك التي تمد الحياة بما هو أجدى وأقوى.

٥ ـ (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال الشيخ الطبرسي : «أى أثبت على هجره لأنه صلوات الله عليه منزّه عنه».

٦ ـ (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال ابن عباس : أي لا تعط العطية تلتمس أكثر منها. وقال آخر : بل المعنى لا تعط شيئا وأنت تراه كثيرا. ولا مانعة جمع بين المعنيين.

٧ ـ (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) اجعل صبرك على أذى قومك لوجه الله ، فسوف يلاقون جزاء هذا الإيذاء.

٨ ـ (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) نفخ في الصور ، وخرج الأموات من القبور.

٩ ـ ١٠ ـ (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) على الطغاة والعصاة ، وتقدم في الآية ٩٩ من الكهف وغيرها.

١١ ـ (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أجمع المفسرون أن هذا التهديد نزل في الوليد بن المغيرة ، ولكن سبب النزول لا يخصص عموم اللفظ ، إضافة إلى أن جميع الناس يستوون أمام العدالة الإلهية ، وعليه فإن هذه اللعنة الغاضبة اللاهبة تشمل وتعم كل من طغى وبغى ... وقيل : كلمة وحيد إشارة إلى أن الوليد مجهول النسب ، والأقرب الإشارة إلى أنه لم يكن شيئا مذكورا كأي إنسان ، ثم صار ذا ولد ومال ١٢ ـ (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) ثراء واسعا ودائما.

١٣ ـ (وَبَنِينَ شُهُوداً) حاضرين معه يتسابقون إلى خدمته ١٤ ـ (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) يسرت له سبل الحياة.

١٥ ـ (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) كلنا يطمع في المال والمزيد منه ، ولا ضير إلا أن يقود الطمع إلى محرم ومنكر كما قاد الوليد العنيد ١٦ ـ (كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) تفنن في الطغيان وضرب أسوأ الأمثال في الكفران.

١٧ ـ (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) يصعد به إلى أرفع الدرجات من العذاب وشدته والحريق وقسوته.

١٨ ـ (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) فكر بما يفتري على القرآن ، وهيأ زورا أنطقه به الشيطان.

١٩ ـ ٢٠ ـ (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) لعن ثم لعن في تفكيره وتقديره.

٢١ ـ (ثُمَّ نَظَرَ) رفع بصره إلى زملائه من عتاة قريش ٢٢ ـ (ثُمَّ عَبَسَ) قطب حاجبيه (وَبَسَرَ) كلح وتغير لونه ٢٣ ـ (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أعرض عن الحق واستعلى عليه.

٢٤ ـ ٢٥ ـ (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أخذ محمد القرآن من السحرة والكهنة! وكم من نظير في عصرنا لهذا الأثيم الزنيم ، يفتري على الأبرياء حسدا أو لأنه خائن مأجور.

٢٦ ـ ٢٧ ـ (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) من أسماء جهنم ، وقد بلغت من القول حدا يفوق التصور ٢٨ ـ (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) بل تأتي على اللحم والعظم والأعضاء بالكامل.

٢٩ ـ (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) جمع بشرة ، والمراد بالتلويح هنا النضوج.

٣٠ ـ (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) هم خزنة جهنم وزبانيتها.

٧٧٦

٣١ ـ (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ) أي خزانها (إِلَّا مَلائِكَةً) غلاظا شدادا (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ذكر سبحانه أن الزبانية ١٩ اختبارا للناس ، فالكافرون سخروا والمؤمنون صدقوا وأهل الكتاب أيقنوا كما قال سبحانه : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اعتقد النصارى واليهود بما جاء في القرآن من هذا العدد لأنه موافق لما في كتبهم (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) على إيمانهم بعد اعتراف الأعداد بفضل القرآن وصدقه (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) هذا توضيح وتوكيد لما قبله (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم المنافقون الذين يمشون الخفاء ويدبون الضراء (وَالْكافِرُونَ) عتاة الشرك والبغي الذين سخروا من العدد : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)؟ أبدا لا حكمة من ذكر العدد! علما بأن الحكمة واضحة وهي أن يقولوا : لا حكمة ... كي يظهروا على حقيقتهم ، ويفتضحوا بشهادة أهل البيت أن العدد حق وصدق (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بموجب علمه وحكمته وعدله ، وتقدم في الآية ٨ من فاطر وغيرها (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) جنوده تعالى لا تنحصر بالتسعة عشر ولا بغيرهم فكل الخلائق طوع إرادته (وَما هِيَ) النار أو هذه الآيات (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) تذكرة وعظة للناس.

٣٢ ـ ٣٥ ـ (كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) كلا : حرف ردع وزجر وأسفر : أشرق ، وضمير «إنها» بعد ان ردع سبحانه المشركين عن الاستهزاء بالنار وخزنتها ، أقسم بالقمر لما فيه من منافع ، وبالليل الذي يخلد الإنسان فيه للراحة ، وبالصبح الذي ينهض فيه للكدح والعمل ، أقسم بذلك كله مؤكدا أن النار حق لا ريب فيه وأن عذابها ليس كمثله عذاب.

٣٦ ـ ٣٧ ـ (نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) حذّر سبحانه عباده من ناره ، وخلىّ بينها وبينهم ، فمن شاء أن يقتحم ، ومن شاء أن يحجم.

٣٨ ـ (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) هي وعملها ، ولا أحد يحمل وزر ضلالها ، وتقدم مرات ، منها في الآية ٢٨٦ من البقرة.

٣٩ ـ (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) وهم المتقون الذين أعتقوا أنفسهم من النار بصالح الأعمال ، قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : الناس في الدنيا رجلان : رجل باع فيها نفسه فأهلكها ، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها.

٤٠ ـ ٤١ ـ (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) الذين هم في أعماق الجحيم ، فيطلع سبحانه أهل الجنة على أهل النار ، فيقول أولئك لهؤلاء ٤٢ ـ (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) وكنتم في الحياة الدنيا تزعمون أن الجنة والنار وهم وخرافة ٤٣ ـ (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم تنته عن الفحشاء والمنكر وإلا فإن الصلاة وحدها لا تدفع ولا تنفع.

٤٤ ـ (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) وفي آية ثانية (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ـ ١٨ الفجر» ومعنى هذا أن من يحتكر ويستأثر فهو ناهب وغاصب لحق الفقراء والمساكين.

٧٧٧

٤٥ ـ (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) يستهينون بالدين والقيم ، فيستغيبون ويفترون ، ويتسابقون إلى أندية الخمور والفجور ، ويشتركون في كل باطل وضلال.

٤٦ ـ ٤٧ ـ (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) الموت ، وللدين في اللغة معان ، منها الحساب والجزاء والقضاء ، وكل ذلك يحدث يوم القيامة ، ولذا سمي بيوم الدين.

٤٨ ـ (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) الشفاعة حق على أن يكون لها ما يبررها ، فبأي شيء يتوسل إلى الله من كفر ٤٩ ـ (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) حال من الضمير في «لهم» والمعنى ما بال المجرمين يعرضون عن الموعظة ، وينفرون منها.

٥٠ ـ ٥١ ـ (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ) جمع حمار ، والمراد به هنا حمار الوحش (مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) وهو الأسد ، يصول على وحوش الغاب والحمير ، فتنفر منه وهكذا المشركون ينفرون من الحق ودعوته.

٥٢ ـ (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) يطلب كل واحد من طغاة الأرض أن ينزل عليه كتاب تماما كما نزل على رسول الله (ص) وإلا فأي فضل لمحمد من دون الناس؟ وأطرف من هذه الحماقة قول الفيلسوف الشهير نيتشه : «لو كان الله موجودا لكنت أنا هو».

٥٣ ـ (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) ما طلبوا هذا الطلب الأحمق إلا لأنهم أمنوا من غضب الله وعذابه.

٥٤ ـ (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) مرة ثانية يزجر سبحانه المجرمين ، ويعلن أن القرآن نزل على النبي للهداية والإرشاد لا ليفتخر به على العباد.

٥٥ ـ (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) انتفع بأحكامه وبيانه ، لأنه الهادي الذي لا يضل ، والناصح الذي لا يغش.

٥٦ ـ (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي لا يذكرون ويؤمنون عن رضا وطيب نفس بحال من الأحوال إطلاقا ، أجل إنهم يؤمنون إذا ألجأهم سبحانه وأرغمهم على الإيمان ، ومعلوم أنه لا إيمان بالمعنى الصحيح مع الجبر والقهر ، وعلى هذا التفسير فلا تناقض ومنافاة بين قوله تعالى أولا : فمن شاء ذكره وقوله ثانيا وما يذكرون إلا أن يشاء الله (أَهْلُ التَّقْوى) أي أهل لأن يتقي العباد معاصيه خوفا منه (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) وأيضا هو أهل أن يرجو العباد مغفرته ، ولا ييأسوا من رحمته

سورة القيامة

مكيّة وهي أربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) أي أقسم كما تقول : لا وحقك أو أبيك وجواب القسم محذوف ، تقديره إنكم لمبعوثون ٢ ـ (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) وهي التي تلوم صاحبها على فعل الشر وترك الخير ، ويعبّر عنها علماء الأخلاق بالإلزام الخلقي ، وتقابلها النفس الفاجرة اللامبالية بشيء ولا تشعر بالمسؤولية عن شيء ، وقال بعض المفكرين : «عدم

٧٧٨

الشعور بالمسؤولية عن شيء بمثابة الجحود لأصل الوجود».

٣ ـ ٤ ـ (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) نفى البعث بزعم أن من مات فات ويستحيل أن يعود إلى الحياة مرة ثانية ـ هو قول بلا علم ، لأن السبب الموجب الذي بدأ الحياة وأنشأها أول مرة في جسم الإنسان يعيدها إليه بعد أن يجمع أجزاءه وأعضاءه بالكامل مع جميع صفاته وخصائصه حتى خطوط الأصابع وبصماتها ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) والقول بإمكان الوجود للحياة دون الثاني تناقض تماما كقول من يقول : إن الشيء ليس بشيء بل هو غير نفسه! وهذا هو الهراء والهذيان ، وتقدم في الآية ٥٧ من الواقعة وغيرها.

٥ ـ (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) الفجور : الذنوب ، وأعظمها الكفر بالله واليوم الآخر ، ولذا قال سبحانه بعد ذكر الفجور مباشرة :

٦ ـ (يَسْئَلُ) منكر البعث ساخرا (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) متى أوانه؟

٧ ـ ٩ ـ (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) قال الجاحد المعاند : متى يوم القيامة؟ فأجابه سبحانه ذاكرا بعض أهوال هذا اليوم وشدائده ، وهي أن يزيغ البصر جزعا وهلعا ، ويذهب نور القمر ، ويصطدم بالشمس لخراب الكون ١٠ ـ (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) من هذه الكارثة ١١ ـ (كَلَّا لا وَزَرَ) لا ملجأ ولا مفر.

١٢ ـ (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) هو وحده المرجع والمفزع ١٣ ـ (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) بما فعل من شر ، وترك إلى خير ، أما فاعل الخير وتارك الشر فيستقبل بالاحترام والتكريم ، ويزف بكل حفاوة إلى جنات النعيم.

١٤ ـ (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) على أن الإنسان يعلم ما فعل وترك ، ولا يحتاج إلى من يخبره بذلك.

١٥ ـ (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) هو على علم بنفسه حتى ولو أنكر واعتذر.

١٦ ـ (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) لتعجل به كان النبي (ص) يتابع جبريل في القراءة حين يتلقى الوحي مخافة أن يفوته شيء منه ، فأمره سبحانه أن يستمع ولا يقرأ ، وهو يعصمه من الخطأ والنسيان.

١٧ ـ (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) هذا عهد من الله أن يجمع القرآن في قلب محمد ، ويثبته عن لسانه.

١٨ ـ (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) ما عليك إلا أن تصغي بكلك لتلاوته.

١٩ ـ (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) وأيضا على الله سبحانه أن يلهمك يا محمد ويفهمك معاني القرآن وأسراره وأهدافه كما هي في علمه تعالى ، وتقدم في الآية ١١٤ من طه ٢٠ ـ ٢١ ـ (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) كلا ـ أيها المكذبون بالبعث ـ ما هو بمحال كما تزعمون. وإنما كذبتم به لأنه يلجمكم عن الشهوات والمحرمات ، وأنتم تعبدونها أية عبادة وتؤثرونها أي إيثار ٢٢ ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) يومئذ : يوم القيامة ، وناضرة : من النضارة والجمال.

٢٣ ـ (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) بالبصيرة لا بالبصر ، بالعقول والإيمان لا بالعيون والعيان. انظر التفسير الكاشف ج ١ ص ١٠٧.

٧٧٩

٢٤ ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) عابسة كالحة.

٢٥ ـ (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) داهية تكسر عظام الظهر ٢٦ ـ ٢٨ ـ (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) التراقي : جمع ترقوة ، وهي عظم في أعلى الصدر والراقي : الشافي يعالج المريض بالرقية أو بالدواء ، وهذه الآيات تصف حال المحتضر بأن روحه إذا بلغت الحلقوم ماج أهله في حيرة وقالوا : هل من راق يرقيه أو طبيب يداويه؟ وهو على يقين بأن الموت ملاقيه ... وكلنا على ميعاد مع غمرات الموت وسكراته ، ونحن عنها وعن الآخرة في غفلة التنافس والتحاسد.

٢٩ ـ (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) تعبير عن الكرب بفراق الحياة إلى اللحد ، والتقاء الشدة بالشدة.

٣٠ ـ (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) هو المرجع والمآب وله نقاش الحساب ، فأين الزاد والعدة؟ أبدا ... وهل من جدوى لصيام وصلاة معهما حسد واغتياب ، وكذب وطمع ، وسعي للشهرة بالادعاء والرياء؟.

٣١ ـ ٣٣ ـ (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) يتبختر في مشيته في كبرياء ، وقيل : نزلت هذه الآية في أبي جهل ، وأيا كان سبب النزول فهذي هي صفات أبي جهل طبق الأصل ، فقد كذب بالحق وتولى عن دعوته ، وما سجد لله أمد حياته ، وكان يشمخ ويبذخ.

٣٤ ـ ٣٥ ـ (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) كلمة تهديد ووعيد ، ومعناها الويل لك وأجدر بك ، والتكرار لمجرد التوكيد.

٣٦ ـ (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) ولا يجني ثمرات عمله وعواقب سعيه ، وإذا لم يكن الإنسان مسؤولا عن شيء فعلام الحق والعدل والحرية والشرائع والأنظمة؟ إن المسئولية هي التي توجد القانون ، وليس القانون هو الذي يوجدها ، وكل الحدود والقيود السماوية والوضعية شرعت للحرص على حقوق الإنسان وصيانتها ، ولا إنسانية بلا مسؤولية.

٣٧ ـ ٣٨ ـ (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ...) هذا الذي يقول : انه غير مسؤول أمام الله ، لم يكن شيئا مذكورا ، فخلقه سبحانه من نطفة ثم من علقة ، وتحول من حال إلى حال حتى أصبح إنسانا سويا ذا عقل وقوة وإرادة ، وبالعقل يميز وبالقدرة يفعل وبالإرادة يختار ، وبهذا يصبح مسؤولا عن أعماله شاء أم أبى.

٣٩ ـ (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) الذكر غير الأنثى بلا شك ومع هذا هما شيء واحد طبيعة وخصالا ، فمن قدر على ذلك يقدر على إحياء الموتى.

٤٠ ـ (أَلَيْسَ ذلِكَ) الذي خلق من النطفة إنسانا عجيبا وجعله ذكرا وأنثى (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) بلى إنه على كل شيء قدير ، وسوف نحشر إليه صاغرين.

٧٨٠