التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

المطلق (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) القاهر المتصرف بالحكمة.

٢ ـ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) المراد بالأميين هنا العرب ، لأن الكثرة الكاثرة منهم كانوا يجهلوا القراءة والكتابة ، وكان محمد (ص) من هذه الكثرة رجلا أميا ، ومع ذلك ما زالت رسالته تلتقي مع الحياة وتقدمها في كل زمان ومكان (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) يطهّر نفوسهم من الرذائل ، وعقولهم من الجهل ، وأعمالهم من الجرائم (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) الذي يخاطب العقل ، ويحترم العلم ، ويقدس الإنسان ، وينبذ التقليد (وَالْحِكْمَةَ) من الإحكام بوضع الشيء في موضعه ، وهي بهذا التعريف تقتضي العلم بما ينبغي فعله أو تركه في الزمان والمكان المناسب ، وهذه الآية تحدد رسالة محمد (ص) والإسلام معا لأنهما شيء واحد ، وتفسر الدين بالحق بأنه لخير الإنسان وهدايته إلى ما يبحث عنه ويتطلع إليه من مستوى أصلح لحياته وأنفع ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) ١٥٧ الأعراف».

٣ ـ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) هناك أناس غير العرب الأميين سيأتون مع الزمن والأجيال ، ويؤمنون بمحمد (ص) ورسالته لأن رسالته ليست عربية وكفى بل هي إنسانية وعالمية.

٤ ـ (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) إشارة إلى رسالة محمد (ص) وأنها نعمة عظمى من الله على عباده.

٥ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) الغاية من العلم العمل بموجبه ، ولا فرق بين من تعلم ولم يعمل وبين الحمار يحمل الكتب على ظهره ، هذا لا ينتفع بما يحمل ، وذاك لا يعمل بما تعلّم ، وضرب سبحانه هذا المثل لليهود في أخذهم التوراة وعدم العمل بموجبها ومثلهم المسلمون أيضا لأنهم (اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) ـ ٣٠ الفرقان» وعين الشيء المسيحيون والإنجيل (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) وهم اليهود كذبوا محمدا (ص) والتوراة وغيرها من الدلائل تنطق بنبوته.

٦ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) وشعبه المختار من دون العالمين ، وأن الجنة لكم وحدكم ، فاسألوا الله سبحانه أن يقبض إليه أرواحكم وينقلكم من دنيا الهوان إلى فردوس الجنان.

٧ ـ (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي لعلمهم أنهم أعداء الحق وأشقى من شر الخلق.

٨ ـ (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) نازل بكم لا محالة (ثُمَّ تُرَدُّونَ) إلى الله ، وتقفون بين يديه لنقاش

___________________________________

الإعراب : (مَثَلُ) فاعل بئس. و (الَّذِينَ كَذَّبُوا) صفة للقوم ، والمخصوص بالذم محذوف أي بئس مثل القوم الذين كذبوا مثلهم. وجملة فإنه ملاقيكم خبر ان الموت.

٧٤١

الحساب (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الغدر والمكر وإثارة الفتن والعداء بين الأمم.

٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ...) صلاة الجمعة من حيث هي واجبة بالاتفاق ، وإنما الخلاف بين المذاهب الإسلامية : هل تجب مطلقا أو مع وجود السلطان؟ قال الشيعة الإمامية والحنفية : وجود السلطان شرط ، ولكن الإمامية اشترطوا عدالته ، واكتفى الحنفية بوجوده وإن لم يكن عادلا ، وقال الشافعية والمالكية والحنابلة : تجب مطلقا وجد السلطان أو لم يوجد. والتفصيل في كتب الفقه (وَذَرُوا الْبَيْعَ) اتركوا كل تصرف يصد عن صلاة الجمعة بيعا كان أم غيره ، وإنما ذكر سبحانه البيع بالخصوص لأنه يفوت ـ في الغالب ـ بفوات وقته ، أو لأن المشتغلين في التجارة أكثر من غيرهم.

١٠ ـ (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) سعيا للرزق والعيش متكلين على من في يده مقاليد الأمور.

١١ ـ (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) يا محمد قائما ، وتشير هذه الآية إلى حادثة خاصة ، وهي أن النبي (ص) كان يخطب لصلاة الجمعة ، فجاءت إبل إلى المدينة تحمل الطعام ، فترك أكثر الصحابة المسجد ، ولم يبق حول النبي إلا القليل ، فأمر سبحانه النبي أن يبلغ التصرفين عنه وعن الصلاة بأن (ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) الصلاة ساعة فما دونها ، والتجارة ساعات ، فالجمع بينهما سهل يسير ، والرزق بيده تعالى والصلاة لا تنقص منه شيئا ، ومرضاة الله والرسول خير وأبقى.

سورة المنافقون

مدنيّة وهي احدى عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) الذين نطقوا بكلمة الإسلام ، وهم أعدى أعدائه (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ

___________________________________

الإعراب : قال ابن هشام في كتاب المغني : تأتي من مرادفة لفي ، واستشهد بقوله تعالى : من يوم الجمعة أي في يوم الجمعة. كسرت همزة إن بعد يعلم ويشهد لأن اللام دخلت على خبرها.

٧٤٢

اللهِ)خوفا على أنسهم وأموالهم (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) حقا لأنه الذي أرسلك رحمة للعالمين ، وأيضا يشهد سبحانه على أن المنافقين هم الضالون المخادعون في إظهار الإسلام وإعلانه.

٢ ـ (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) يحلفون بالله أنهم مسلمون تقية لا حقيقة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صدّق المنافقين من يجهل هويتهم ، فاقتدى بهم في بعض ما يفعلون.

٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) أعلنوا الإيمان بألسنتهم ، فصدقهم الناس وما أسرع ما ظهر كفرهم فلعنوا على كل لسان (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) هي في تقلب دائم وتذبذب مستمر ، ومن كانت هذه حياته فلا يهتدي إلى خير.

٤ ـ (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) جمال في المنظر ، وقبح في المخبر (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) ولكن لا تجد له أي أثر في نفسك لأنهم (خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) بلا قلب وشعور ، وإذا لم يصدر الكلام عن قلب فلا يؤثر في شيء ، لأن الناس يتفاهمون بما يعبّر عن القلوب والأفكار (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) جبناء يرتعدون من كل شيء ، ويتوقعون الفضيحة والضربة القاضية بين آن وآن حتى ولو نادى البائع على سلعته لظنوا أن الواقعة نزلت على رؤوسهم (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) ومن الخطبة ١٩٢ من خطب نهج البلاغة : أحذركم أهل النفاق فإنهم يمشون الخفاء ، ويدبّون الضراء ، قولهم شفاء ، وفعلهم الداء العياء».

٥ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) إلى التوبة عند رسول الله وطلب المغفرة منه ـ احتقروا هذا القول ومن قاله.

٦ ـ (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ ...) إن الله غفور وسعت رحمته وتسع كل شيء إلا من يأباها ويتكبر عليها ، وليس من الرحمة ولا من الحكمة أن تكرم من لا يقبل الكرامة.

٧ ـ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ

___________________________________

الإعراب : ولو لا ها لكانت مفتوحة. و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) «ما» مصدرية والمصدر المنسبك فاعل ساء أي ساء عملهم. ودخلت اللام على «قولهم» لأن تسمع تتضمن معنى تصغي. وجملة كأنهم مستأنفة أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم كأنهم. و (عَلَيْهِمْ) متعلقة بمحذوف مفعولا ثانيا ليحسبون. و (أَنَّى) موضعها النصب على الحال إذا كانت بمعنى كيف وعلى المفعول المطلق إذا كانت بمعنى أي وعلى الظرفية إذا كانت بمعنى أين و (سَواءٌ) مبتدأ وعليهم متعلق به لأن سواء بمعنى مستو ، و (أَسْتَغْفَرْتَ) أصلها أأستغفرت والهمزة للتسوية لا للاستفهام ولذا صح وقوعها خبرا للمبتدإ. وقيل : سواء خبر مقدم والفعل مؤول بمصدر مبتدأ مؤخر. ونحن لا نرى وجها لهذا التأويل حيث لا توجد أداة مصدرية ، والمعنى يصح بدون تأويل.

٧٤٣

اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) كان أغنياء الصحابة ينفقون على فقرائهم ، فطلب منهم المنافقون أن يمسكوا أيديهم عسى أن ينصرف المعوزون عن رسول الله ، ويضعف شأن الإسلام ، فرد سبحانه على المنافقين بقوله : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلق سبحانه للرزق العديد من الأبواب ، فإذا أغلق باب منها على عبد فتح له أبوابا من خزائن ملكه ورحمته.

٨ ـ (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) هذه الكلمة الكافرة الفاجرة نطق بها رأس النفاق عبد الله بن أبي حين كان المسلمون في غزوة بني المصطلق ، وكان هذا المنافق قد خرج معهم طمعا في الغنيمة ، وهو يريد بالأعز نفسه ، وبالأذل النبي (ص) وأنه متى عاد إلى المدينة أخرج منها رسول الله بالقوة ، وكان لعبد الله بن أبيّ ولد صادق الإيمان ، أيضا اسمه عبد الله ، فشهر السيف على أبيه وقال :

والله لن أدعك أبدا حتى تقول : رسول الله هو الأعز وأنا الأذل ، ولما علم رسول الله بذلك قال له : دع أباك ، فقد عفوت عنه ، فتركه.

(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) هذا ردّ على المنافق اللعين الذي نعت نفسه بالأعز والرسول الأعظم بالأذل ، والمعنى العزة ذاتا وأولا هي لله سبحانه لكماله المطلق الذي لا يوازيه غيره فيه ، وهي ثانيا للرسول وللمؤمنين المخلصين ، لأن العزة بمعناها الشامل تعم عزة النفس بتنزيهها عن الدنايا والأهواء والغرور والكبرياء ، وفي المقصد الأسنى للغزالي ص ٣١ منشورات مكتبة الجندي ما معناه أن المؤمن العالم بالله يكبر ويعظّم فيه من صفات الجلال والكمال ، ويتشوق إلى الاتصاف بشيء منها على قدره وبحسبه جهد المستطيع ، ليكون عند الله سبحانه بمنزلة الملائكة المقربين.

٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) وجهاد أهل البغي أفضل الذكر على الإطلاق ، لأنه قوة للحق وعزة لدين الله.

١٠ ـ (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) من تهاون وأهمل إخراج ما في أمواله من زكوات وأخماس ، وظهرت عليه دلائل الموت وأماراته ـ فليبادر إلى أدائها والوفاء بها قبل أن تخرج الروح من جسده وإلا انتهبها الوراث ، فيكون المهنأ لغيره والعبء على ظهره.

١١ ـ (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً ...) العمر لا يعود ، والأجل لا يمهل ، ولا مفر مما هو آت.

___________________________________

الإعراب : (الْأَعَزُّ) فاعل (لَيُخْرِجَنَ) ، والأذل مفعول ، ونون يخرجن للتوكيد. و (رَبِ) أي يا ربي. ولو لا هلا. وأصل فأصدّق فأتصدق ومحلها النصب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب لو لا. وأكن أي ان أخرتني أكن.

٧٤٤

سورة التّغابن

مدنيّة وهي ثماني عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ...) هذه السورة هي آخر المسبحات ، وتقدم الكلام على تسبيح المخلوقات. واستعرنا هذا التعبير من ابن كثير.

٢ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) الإنسان مسيّر تشريعا ومخيّر تنفيذا أي لله الأمر والنهي ، وللعقل الحكم بالسمع والطاعة ، وللإنسان القدرة على أن يؤمن ويكفر ، ولكن عليه أن يختار الإيمان ، ويعمل بموجبه ، ويشكر الله على الهداية ، وبكلمة : التشريع دكتاتورية ، والتنفيذ ديمقراطية ، ولكن في حدود التشريع العادل حيث لا حرية ولا ديمقراطية لأعداء الحق والإنسانية.

٣ ـ ٤ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بنظام محكم يدل على قدرته تعالى ، ولحكمة بالغة تدل على حسن التقدير وإتقان التدبير (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) كمال في الأعضاء والعقل ، وجمال في الصورة والشكل ، وتقدم في الآية ١٤ من «المؤمنون».

٥ ـ ٦ ـ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أتكذبون محمدا في دعوته ، وقد سمعتم ما حلّ بالأمم الماضية من نكال ووبال لأنها كذبت بالحق؟ وتقدم مرات ، منها

اشارة :

الإنسان ـ في نظر الإسلام ـ بحريته وارادته ، ولا انسانية بلا حرية ... فله أن يختار الايمان حتى ولو كان أبواه كافرين ، وان يختار الكفر حتى ولو كان أبواه مؤمنين ، ولا يجبر على أحدهما دون الآخر ... أبدا لا إكراه في الدين وإلا بطل التكليف والحساب والثواب ، وبعد ان أعطى سبحانه لعبده الحرية التي يكون بها إنسانا أمره بالايمان وفعل الخير ، ونهاه عن الكفر وفعل الشر ، وأقام له الأدلة على حسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه ـ من عقله وفطرته ، فآمن بعض الناس وكفر آخرون ، والله عليم بإيمان من آمن وكفر من كفر ، ولكل حسب إيمانه وعمله من الثواب والعقاب.

___________________________________

الإعراب : الضمير في «بأنه» للشأن. وجملة تأتيهم خبر مقدم لكانت ورسلهم اسمها. وبشر مبتدأ وجملة يهدوننا خبر ، وجاز الابتداء بالنكرة لمكان الاستفهام.

٧٤٥

الآية ٧٠ من التوبة (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أنكروا أن يكون الرسول بشرا ، ولم ينكروا أن يكون الإله حجرا!.

٧ ـ (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) ولا أساس لهذا الزعم إلّا الجهل بالجهل (قُلْ) يا محمد : (بَلى وَرَبِّي) هذا القسم تأكيد من النبي لصدقه في دعوته ، أما الدليل على البعث فهو (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لأن من أنشأ الخلق من لا شيء يهون عليه أن يجمع عظامه وأعضاءه بعد فتاتها وتقدم مرات ومرات.

٨ ـ (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) القرآن والإسلام نور ، لأنه لا يرى مخلوقا أشرف من العقل ، ولا أنفع من العلم ، ولا أقدس وأكرم من الإنسان حتى ولو كان بلا عقل وعلم ، وإن جمع بينهما وعمل بهما فلا شيء فوقه إطلاقا إلا خالقه وخالق كل شيء.

٩ ـ (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) سمي يوم القيامة بيوم الجمع حيث يجمع سبحانه الخلائق للحساب والجزاء ، وبيوم التغابن ، لأن الطيب الصالح هو الغابن الرابح والخبيث الفاجر هو المغبون الخاسر ، ذلك بأن الأول جاهد نفسه وكبحها عن الشهوات أياما أو ساعات وفاز بنعيم الأبد وإلى هذا أشار سبحانه بقوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). والثاني أطلق العنان لشهواته بعض الحين ، ومنها إلى الخلود في العذاب الأليم ، كما قال عزّ من قائل :

١٠ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وتقدم عشرات المرات.

١١ ـ ١٣ ـ (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) المصيبة الكونية كالزلزال هي من الله ، والمصيبة الاجتماعية كالفساد في الأرض هي من الإنسان بنص الآية ٣٠ الشورى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وتقدم في الآية ٢٢ من الحديد وغيرها (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) يعامل سبحانه العبد بما يختاره لنفسه ، فهو مع السالك سبيل الرشاد ، وعلى من سلك طريق الفساد ، وتكرر ذلك مرات ، آخرها في الآية ٥ من الصف.

___________________________________

الإعراب : (أَنْ) مخففة من الثقلية واسمها محذوف أي انهم لن يبعثوا ، والمصدر ساد مسدّ مفعولي زعم. وإذا وقعت «بلى» بعد النفي تبطله ، ويكون ما بعدها مثبتا. يوم يجمعكم «يوم» ظرف متعلق بينبؤون ، ويجوز أن يكون مفعولا لفعل مقدر أي اذكروا يوم يجمعكم. وصالحا صفة لمقدر أي عملا صالحا. وخالدين حال. وأبدا ظرف مؤكد للخالدين ومتعلق به. وبئس المصير المخصوص بالذم محذوف أي مصيرهم. ما أصاب من مصيبة «ما» نافية و «من» زائدة.

٧٤٦

١٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال أهل التفاسير : إن قوما من مكة أسلموا ، وأرادوا الهجرة إلى رسول الله (ص) فمنعهم أزواجهم وأولادهم فنزلت هذه الآية تحذّر من طاعة الأزواج والأولاد. ويلاحظ بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سواء أكان المخلوق رحما أم غير رحم ، وأيضا لا بأس بالطاعة في غير معصية لأي كان ويكون ، وعلى أية حال فالذي نفهمه من الآية أن على المؤمن أن يكون قويا في دينه لا يتنازل عنه مهما كانت المغريات والشفاعات (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أجل ، على رب الأسرة أن يرفق بها ، ويتسامح معها فيما يعود إلى حقوقه الخاصة ، لا إلى حق الله وطاعته.

١٥ ـ (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي بلاء واختبار وفسر الإمام أمير المؤمنين هذه الآية بقوله : «ومعنى ذلك أنه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب.

١٦ ـ (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن فاقد الطهورين يصلي بلا وضوء وتيمم تماما كمن فقد الساتر يصلي عاريا ، وإذا ترك وجب عليه القضاء ، وفي رأينا أن الصلاة تسقط عنه أداء وقضاء لأن المشروط عدم عند عدم شرطه ، وإنما وجبت الصلاة على العاري بالنص ، ولا نص في فاقد الطهورين ، فالأصل محكم ولا حاكم عليه. ومعنى الآية : على المرء أن يتقى معاصي الله بمقدار جهده فإذا تضرر من الامتثال سقط التكليف ، شريطة أن تقدر الضرورة بقدرها كأكل الجائع من الميتة والتصرف بمال الغير بلا إذن منه لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق (وَاسْمَعُوا) تفقهوا في الدين (وَأَطِيعُوا) اعملوا بما تعلمون (وَأَنْفِقُوا) المال والعلم ، وبالاختصار تعلّموا وعلّموا واعملوا ، ومن أهم الأعمال بذل الفضل من المال في الخير والصالح العام (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ...) إمساكها وحرصها ، وتقدم بالحرف الواحد في الآية ٩ من الحشر.

١٧ ـ ١٨ ـ (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) تكرر هذا في العديد من الآيات ، والهدف الأول والأخير هو تأكيد الحجة والمسئولية على أرباب المال ، وأنهم شركاء في كل جريمة سببها الفقر والعوز.

___________________________________

الإعراب : (مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ) «من» للتبعيض. (مَا اسْتَطَعْتُمْ) «ما» مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتكم و (خَيْراً) خبر يكن مقدرة أي أنفقوا يكن الإنفاق خيرا ، أو نعت لمصدر محذوف أي إنفاقا خيرا.

٧٤٧

سورة الطّلاق

مدنيّة وهي اثنتا عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) الخطاب للنبي (ص) والمقصود كل مكلف ، والمراد بالعدة هنا أن تحيض الزوجة ، وتطهر من الحيض ، ولا يقربها الزوج في طهرها هذا ، وعندئذ يطلق إذا أراد ، واتفقت المذاهب على أن الطلاق من غير هذا الشرط محظور في ذاته ، ولكن قال السنّة : إذا طلق الزوج في حال الحيض أو في طهر المواقعة يلزم الطلاق. وقال الشيعة الإمامية : بل يقع لغوا (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) ابتداء وانتهاء ، لأن لها أحكاما تخصها كالنفقة والرجوع عن الطلاق أو البذل والمنع من الزواج ، إلى غير ذلك مما ذكره الفقهاء في كتبهم (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) تبقى المطلقة الرجعية في بيت سكناها مدة العدة ، ولا يحق للمطلق أن يخرجها منه ، ولا يسوغ لها الخروج (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) تبقى في البيت حتى يثبت عليها أنها زنت فتطرد منه عندئذ (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى شروط الطلاق وأحكامه (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) من تجاوز حلال الله وحرامه فقد جنى على نفسه بنفسه (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) المراد بهذا الأمر المراجعة أي أن الحكمة باستبقاء المطلقة في بيت سكناها ـ التوقع بأن يتغير رأي الزوج وتحدث له الرغبة في مراجعتها.

٢ ـ (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إذا أوشكت العدة على الانتهاء فالمطلق بالخيار إن شاء راجع وعاشر ، وإن شاء ترك إلى غير رجعة ، وفي الحالين عليه أن يلتزم بالمعروف والمألوف (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال فقهاء السنة كلهم أو جلهم : يجب الإشهاد على الزواج دون الطلاق ، ومن هنا فسّر فريق منهم هذه الآية بالإشهاد على الرجعة لأنها زواج أو في منزلته ، وقال فقهاء الشيعة : يجب الإشهاد على الطلاق دون الزواج ، وفسروا هذه الآية بالإشهاد على الطلاق دون الرجعة ، وهناك قول ثالث بوجوب الإشهاد على الزواج والطلاق والرجعة ، ذكره ابن كثير في تفسير الآية التي نحن بصددها (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) لا لمرضاة المشهود له ، ولا نكاية بالمشهود عليه (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ) إشارة إلى شروط الطلاق ، ومنها الإشهاد عليه ، والمؤمنون هم الملتزمون بها (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ

___________________________________

الإعراب : (لِعِدَّتِهِنَ) على حذف مضاف أي لزمن عدتهن ، ومعناه ان الطلاق مقيد بزمان معين ويأتي التفصيل ، وعليه تكون اللام للتوقيت مثل كتبته لخمس ليال بقيت من شهر كذا والمجرور متعلق بطلقوهن. والمصدر من أن يأتين متعلق بباب السببية المقدرة أي بسبب إتيان الفاحشة. واللائي يئسن مبتدأ أول ، فعدتهن مبتدأ ثان وثلاثة أشهر خبره ، والجملة خبر الأول. و (إِنِ ارْتَبْتُمْ) اعتراض. و (اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) مبتدأ والخبر محذوف أي فعدتهن كذلك. و (أُولاتُ الْأَحْمالِ) مثل واللائي يئسن. وأجرا مفعول يعظم على معنى يعطيه أجرا عظيما.

٧٤٨

يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) كان النبي (ص) يتلو هذه الآية مكررا ومرددا ويقول : «لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم» وقال الإمام أمير المؤمنين (ع) : «لو أن السموات والأرض كانتا على عبد رتقا ـ سدا ـ ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا» أبدا لا خوف على من يتقي الله في معاصيه حتى ولو أطبق عليه الكون بما فيه ومن فيه ، وأيضا هو لا يخاف ما دام على يقين بأن الله لا يعجزه شيء ، وفي الحديث : والله الذي لا إله إلا هو ما أعطي مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلا بحسن ظنه بالله ورجائه له.

٣ ـ (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) لا يخطر له على بال وأيضا قد يذهب من غير احتساب ، وما من حقير أو خطير يقع في الكون إلا ولله فيه قضاء وتدبير (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) تصميما وتوقيتا ، فلا صدفة وشهوة ، ولا عبث وباطل (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) إذا انقطع الدم عن المرأة ، ولا نعلم السبب الموجب لذلك : هل هو الكبر والتقدم في السن أو عارض صحي وما أشبه ـ فتعتد هذه بثلاثة أشهر إذا طلقت ، وعليه يكون معنى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) إن شككتم في وضعها لا في حكم عدتها فقط.

٤ ـ ٥ ـ (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) من الشابات اللاتي نعلم ولا نشك إطلاقا في عدم يأسهن ، ولكن ما رأينا الدم ، فأيضا عدتهن ثلاثة أشهر كالمشكوك في يأسهن ، والتفصيل في كتب الفقه (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) اتفق الشيعة والسنة على أن عدة المطلقة الحامل وضع الحمل ، واختلفوا في الأرملة الحامل. قال السنة : هي تماما كالمطلقة وقال الشيعة : بل تعتد بأبعد الأجلين من وضع الحمل والأربعة أشهر وعشرة أيام ، وتقدم في الآية ٢٣٤ من البقرة.

٦ ـ (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) بضم الواو وسكون الجيم ، والمراد به الطاقة والسعة في المال ، وتأمر هذه الآية المطلّق أن يحسن معاملة المطلقة الرجعية معاشرة وإنفاقا من المسكن والمأكل والملبس تبعا لطاقته المادية (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) لا تسيئوا معاملة المطلقة لتلجئوها إلى ترك المسكن والخروج منه قبل مضي العدة (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) إذا طلّقها وهي حامل وجبت لها النفقة حتى تضع حملها سواء أكان الطلاق رجعيا أم بائنا (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) إذا وضعت الحامل وليدها فلا تجبر على إرضاعه إلا إذا انحصر بها ، فإن أرضعته استحقت أجر مثلها سواء أكانت في عصمة والد الرضيع أم لم تكن (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) يأمر سبحانه الآباء والأمهات أن تكون كلمتهم وأمورهم واحدة في مصلحة الطفل ، ولا يتخذوا منه وسيلة لأي شيء يضر به (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) إذا طلبت الأم على الرضاع أكثر من أجرة المثل ـ فللأب أن يسترضع غيرها.

٧٤٩

٧ ـ (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ...) تقدر نفقة الزوجة بطاقة الزوج يسرا أو عسرا (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) وهل من عاقل على وجه الأرض يلوم أو يحاسب آخر على شيء لا يمت بسبب قريب أو بعيد إليه ولا إلى طاقته؟ وتقدم في الآية ٢٨٦ من البقرة وغيرها (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) كل شيء يتغير شئنا أم أبينا ٨ ـ ١٠ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ ...) أبت إلا التمرد والبغي على الحق وأهله ، ولم تستجب لوحي أو عقل ، فحاسبها سبحانه حسابا شديدا ، وعذبها عذابا أليما ، ـ تقدم مرات ومرات (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) انهضوا ثائرين على الطغاة ، واستردوا منهم حقكم المسلوب (الَّذِينَ آمَنُوا) أي بحثوا وسعوا وراء الحق ومعرفته (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) القرآن الكريم رسولا أي أرسل.

١١ ـ (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) ليست المسألة تلاوة آيات وحدها ، ولا قراءة عظات وكفى ، ولا أسلوبا عصريا أو رجعيا ، وإنما السر كل السر يكمن في عظمة القرآن وأسراره وفي شخصية الداعي والقائد المدبر والمنفذ ، ولو تلى القرآن وآياته على الناس غير محمد ، أو جاء إليهم محمد بغير هذا القرآن ـ لما حدث ما حدث في شرق الأرض وغربها ، لقد أذهلت وأدهشت شخصية محمد (ص) العلماء الأجانب الذين يهتمون بالدراسات الإنسانية ، وقالوا عنها الكثير حتى رسم لها برناردشو هذه الصورة : «لو تسلّم محمد زمام الحكم المطلق اليوم لحلّ مشكلات العالم بأسره ، وحقق له السلام والسعادة المنشودة» ومن هنا كان محمد خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين.

١٢ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ

___________________________________

الإعراب : و (الَّذِينَ آمَنُوا) صفة لأولي الألباب. (رَسُولاً) مفعول لفعل مقدر أي وأرسل رسولا. (خالِدِينَ) حال من هاء يدخله لأنها تعود الى من التي هي بمعنى الجماعة. و (أَحْسَنَ) هنا تتضمن معنى أعطى. (رِزْقاً) مفعول لأحسن أي أعطاه رزقا حسنا. و (مِثْلَهُنَ) مفعول لفعل محذوف أي وخلق من الأرض مثلهن. وعلما تمييز.

٧٥٠

مِثْلَهُنَ) تعددت الأقوال حول السموات السبع والأرضين السبع ، ومنها أن الكون الأكبر يضم سبعة أكوان ، وفي كل كون العديد من الكواكب ، من جملتها كوكب أرضي تماما كهذا الكوكب الذي فيه نحيا ونموت. وفي تفسير ابن كثير : سئل ابن عباس عن قوله تعالى : (سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) فقال لو حدثتكم عن تفسيرها لكفرتم. يريد أن عظمة الكون فوق تصورهم ، وتقدم في الآية ١٢ من فصلت وغيرها (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) هو وحده الممسك بالكون والمدبر له ، ولو لا ذلك لماج واضطرب (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ) لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه شيء ، ومن جهل أو ذهل عن الله وعظمته فقد جهل بعلة وجوده ومصيره ، وبالرقيب الذي يسأله ويحاسبه عن كل حركة وسكون.

سورة التحريم

مدنيّة وهي اثنتا عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) كان النبي (ص) مع زوجاته كأفضل ما تكون الحياة الزوجية. ومن أقواله : «خيركم خيركم لأهله ... ما أكرم النساء إلا كريم ، ولا أهانهنّ إلا لئيم». وقيل : إن النبي (ص) حرم العسل على نفسه ، لأنه شرب عسلا عند زوجته زينب فتواطأت حفصة وعائشة أن يقولا له حين يدخل عليهما : نشم منك ريح مغافير ، وهي صمغة حلوة الطعم ولكنها كريهة الرائحة ، فدخل على حفصة فقالت له ذلك. فقال لها : شربت عسلا عند زينب ، واستكتمها تحريم العسل على نفسه ، ولكنها أخبرت عائشة ، ولما دخل على عائشة قالت له مثل ما قالت حفصة ، فنزلت الآية ، قال الشيخ الطبرسي : «والمعنى لم تطلب مرضاة نسائك فهن أحق بطلب مرضاتك ... ويمكن أن يكون العتاب على ترك الأفضل والأولى».

٢ ـ (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) المراد بالتحلة الكفارة ، وبها يتحلل المرء عما كان عزم عليه ، وتقدم الكلام عن كفارة اليمين في تفسير الآية ٨٩ من المائدة.

٣ ـ (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) وهي حفصة التي استكتمها النبي تحريم العسل على نفسه (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أفشت حفصة سر النبي على الرغم من وصيته لها بالكتمان ، ولما أذاعت وأفشت أخبر الله نبيه الكريم بخبرها ، فأطلعها النبي على بعض ما أفشت ، وأعرض عن بعضه رفقا بها (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) سألته عن المخبر (قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

٧٥١

٤ ـ (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) صغت : مالت إلى السداد والرشاد ، والخطاب لعائشة وحفصة ، يأمرهما سبحانه أن يتوبا من تواطئهما على رسول الله (ص) (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي إن تتظاهر عائشة وحفصة وتتعاونا على الإساءة إلى رسول الله (ص) (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) ناصره (وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي معين ، وتسأل : وما شأن حفصة وعائشة حتى حشد سبحانه عليهما قوة السماء والأرض؟ الجواب : ليس المراد بهذا التهديد عائشة وحفصة ، وإنما المقصود التنويه بعظمة الرسول وأنه في حصن حصين من الله وملائكته وصالح المؤمنين.

٥ ـ (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً ...) أي ولتعلم كل واحدة منكن يا نساء النبي أن الرسول الأعظم لو طلقكن بالكامل لأبدله الله خيرا منكن جمالا ودينا وإخلاصا ، ثيبات إن شاء ، وإن شاء أبكارا أو هما معا.

٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) اتقوا معاصي الله وعذابه الشديد الأليم بفعل الواجبات وترك المحرمات ، وخذوا أولادكم بالتعليم والتمرين على فرائض الدين وآدابه ، وفي الحديث الشريف : «الولد سيد سبع سنين ، وعبد سبع سنين ، ووزير سبع سنين ، فإن رضيت أخلاقه لإحدى وعشرين سنة وإلا فاضرب جنبه فقد أعذرت إلى الله تعالى» والمراد بالوزير هنا أن يكون في خدمة أبيه وملازما له.

٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) لا حميم يشفع يوم القيامة ، ولا معذرة تدفع.

٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ...) وهي أن يرجع التائب من ذنبه إلى الله بصدق وإخلاص ، فيرجع سبحانه إليه بالعفو عن السيئات والبشرى بعيون وجنات (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) أي أن الخزي والهوان لأعداء النبي أهل المخازي والرذائل ، أما النبي وأصحاب المحامد والفضائل فلهم الدرجات العلى لأن الجزاء من جنس العمل

___________________________________

الإعراب : (وَأَهْلِيكُمْ) عطف على أنفسكم. ونصبت (ناراً) بنزع الخافض أي احفظوا أنفسكم وأهليكم من النار. (ما أَمَرَهُمْ) «ما» مصدرية والمصدر المنسبك منصوب بنزع الخافض أي لا يعصون الله في أمره. ونصوح مصدر وصف به التوبة على المبالغة. ويوم لا يخزي «يوم» منصوب بيدخلكم.

٧٥٢

عند الحق وأهله (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) لأنهم كانوا في الحياة الدنيا نورا يهتدى به في الظلمات ، وتقدم في الآية ١٢ من الحديد.

٩ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) قانون تنازع الوجود والبقاء بين المحقين والمبطلين والهداة والطغاة ـ حتم بحكم الطبيعة والبديهة تماما كقتال المتحاربين ، كلّ يريد القضاء على الآخر ، قال سبحانه مخبرا نبيه الكريم عن عتاة الشرك والجور : «كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلا ولا ذمة ـ ٨ التوبة» أي عهدا ولاحقا ، وعلى هذا الأساس أمر سبحانه المسلمين بجهاد الكفار والمنافقين ، على أنه ، تقدست كلمته ، قال في الآية السابقة من التوبة (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) ـ ٧ التوبة».

١٠ ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) ضرب سبحانه مثلين ، يتعظ بهما كل عاقل : الأول امرأة نوح وامرأة لوط ، كفرت كل واحدة من هاتين بزوجها ونبوته ، وكانت الأولى تنعته بالجنون والثانية تدل الكفرة والفجرة على أضيافه ليفجروا بهم ، وهذي خيانتهما هي التي أشار إليها سبحانه بقوله : (فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) أخذهما سبحانه بأشد العذاب ، وما دفع الزواج بالطهر والقداسة عنهما شرا ولا جلب لهما خيرا. أما المثل الثاني فأشار إليه سبحانه بقوله :

١١ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) هي آسية بنت مزاحم ، آمنت بالله وكفرت بزوجها فرعون ، فهددها بالقتل فآثرت جوار الله في بيت من صنع الله ، فاستجاب لها ورحب بها ، وأعدّ لها أجرا كريما ، فما ضرها ان كانت زوجة أعتى أهل الأرض ، وما نفع امرأة نوح أو لوط انها زوجة خير الناس.

١٢ ـ (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) كناية عن طهرها ونزاهتها مما رماها به اليهود من البغاء والفجور (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) المراد بالنفخ هنا من روحه تعالى أنه منح الحياة للسيد المسيح تماما كما منحها لآدم : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ـ ٢٩ الحجر» وفي إنجيل متى الإصحاح الأول : أن مريم كانت مخطوبة ليوسف النجار ، ولكنها ظلت عذراء حتى بعد ولادة يسوع.

___________________________________

الإعراب : (ضَرَبَ) بمعنى جعل ، و (امْرَأَتَ نُوحٍ) مفعول أول مؤخر ، و (مَثَلاً) مفعول ثان مقدم. و (صالِحَيْنِ) صفة لعبدين. و (شَيْئاً) مفعول مطلق ليغنيا. و (مَرْيَمَ) عطف على امرأة فرعون. و (الْقانِتِينَ) جمع للذكور والإناث تغليبا للذكورية على التأنيث.

٧٥٣

سورة الملك مكيّة وهي ثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) تقدس الذي لا أحد يملك معه شيئا (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن آثار قدرته أنه :

٢ ـ (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أحيانا سبحانه على هذا الكوكب لتظهر أفعالنا خيرها وشرها ، ويميتنا ثم يحيينا للحساب والجزاء ، وفي الحديث : أن رسول الله حين تلا هذه الآية فسرها بقوله : «أيكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله ، وأسرع إلى طاعته» وتقدم في الآية ٧ من هود وغيرها ٣ ـ (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) من التطابق والاتفاق ، وأنه لا فرق بين سماء وسماء ولا تفاوت في إتقان الصنعة وإحكامها بدليل قوله تعالى بلا فاصل : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) من نقص أو اضطراب أو خلل ، فهل الصدفة أتت بكل هذه العجائب والمعجزات؟ ومع هذا فإن الله سبحانه لا يعجل على الملحد القائل بأن المادة هي الموجود الوحيد ، بل يقول : تريث وانظر.

٤ ـ (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي الكرّة بعد الكرّة والمرة بعد المرة ... إلى ما يشاء الرائي (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ) خائبا عاجزا عن رؤية أي نقص وخلل ، بل يبهره الجمال والكمال ، والانسجام والانتظام. ولو كان الوجود بالكامل مادة في مادة لكان الكون أشبه بكوم من أحجار وتل من رمال.

٥ ـ ٦ ـ (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) المراد بالمصابيح النجوم ، وبالرجوم النكال والوبال ، وقد يكون بالشهب التي تحترق أو بالحجارة المتساقطة من النجوم ـ النيازك ـ أو غير ذلك ، وكل عات متمرد فهو شيطان ، ومصيره الخذلان وعذاب النيران ، وتقدم في الآية ١٧ ـ ١٩ الحجر وغيرها.

___________________________________

الإعراب : (تَبارَكَ) فعل ماض ، وقالوا لم ينطق له بمضارع. والمصدر من (لِيَبْلُوَكُمْ) متعلق بخلق. و (أَيُّكُمْ) مبتدأ و (أَحْسَنُ) خبر و (عَمَلاً) تمييز. و (طِباقاً) صفة لسماوات وهي مصدر بمعنى اسم الفاعل أي مطابقة. و (كَرَّتَيْنِ) قائم مقام المفعول المطلق أي رجعتين مثل ضربته مرتين. و (خاسِئاً) حال من البصر. و (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) خبر مقدم.

٧٥٤

٧ ـ (إِذا أُلْقُوا فِيها) طرحوا في جهنم كالحطب (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) أنكر الأصوات وأقبحها ، والشهيق والنهيق للحمار (وَهِيَ تَفُورُ) تغلي بأهلها غليان القدر بما فيه.

٨ ـ (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) تميز فلان من الغيظ : تقطع حنقا ، والمراد بغيظ جهنم وحنقها وأهوالها وشدائدها (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها ...) واضح ، وتقدم في الآية ٧١ من الزمر.

٩ ـ (قالُوا بَلى ...) اعترفوا بالذنب وندموا ولاموا أنفسهم حيث لا تنفع ندامة ولا ملامة.

١٠ ـ ١١ ـ (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) تدل هذه الآية بوضوح أن من يهمل عقله ، ولم ينظر به ويحاكم ما يسمع ويرى فهو مسؤول أمام الله ، ومستحق للعذاب حين يلقاه ، وأية خطيئة أكثر جرما ممن أهمل أسمى ما يمتاز به عن سائر المخلوقات؟

١٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) هذي هي علامة التقوى دون سواها أن تتقي معاصي الله بينك وبينه ، أن تترك حرامه في غياب الناس بحيث لو فعلته لبقي الجرم طي الكتمان.

١٣ ـ (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كل غيب عنده شهادة ، وكل سر عنده علانية.

١٤ ـ (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) هل يجهل الصانع ما صنع؟

١٥ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) يسهل فيها السلوك والسعي للرزق والمكاسب (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) طرقها ونواحيها من سهول وجبال ، وأيضا ما في جوفها من نفط ومعادن ومياه ، على أن تتقوا الله ، كما أشار (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) المرجع ، فيسأل ويحاسب ويعاقب.

١٦ ـ ١٨ ـ (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ

___________________________________

الإعراب :

وعذاب جهنم مبتدأ مؤخر. و (فَسُحْقاً) مصدر مؤكد أي سحقهم الله سحقا. (بِالْغَيْبِ) متعلق بمحذوف حال من فاعل يخشون ، والتقدير كائنين بالغيب على معنى غائبين عن أعين الناس. لا يعلم من خلق الهمزة للاستفهام ، ولا للنفي ، وفي يعلم ضمير مستتر يعود الى ربهم ، ومن مفعول ، والمعنى الله يعلم مخلوقاته. والمصدر من (أَنْ يَخْسِفَ) بدل اشتمال من «من في السماء» ومثله أن يرسل ، وإذا للمفاجأة.

٧٥٥

الْأَرْضَ) أتعصون الله في ملكه ؛ وتأمنون من سطواته وضرباته؟ وهل من مردّ لمشيئته إن أراد أن يزلزل بكم الأرض أو يمطركم من السماء مطر السوء والحصباء؟ ولكنه حليم رحيم بعباده ، يؤجل ولا يعجل عسى أن يتوب تائب ، ويقلع مذنب ، وتقدم في الآية ٦٨ من الإسراء.

١٩ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ ...) من الذي زود الطير بما يؤهله إلى الطيران؟ الصدقة والطبيعة العمياء؟ الطائر يطير بجناحيه والإنسان يمشي على رجليه ولكن من الذي خطط للمشي والطيران ، وصمم الأداة العلمية لكل منهما ، ثم وضعها في المكان الملائم؟ فسبحان من جعل (لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) ـ ٣ الطلاق» هذا هو الجواب السديد ، وما عداه حماقات.

٢٠ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) إذا أراد الله بقوم سوءا فما ذا يصنعون؟ وإلى من يلجئون؟ وبمن يستغيثون؟ (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) بأنهم في أمن وأمان من غضب الله وعذابه.

٢١ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) من الذي يرزق الأنام إذا منع الغمام؟ (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) يعلمون أن الله هو الرازق ومع هذا يتمردون على أمره عن قصد وعناد.

٢٢ ـ (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) من يمشي في الحياة الدنيا على طريق الجهل والضلال فهو تماما كمن يمشي ووجهه إلى الأرض ، يكثر العثار فيما لا يعثر فيه بصير ، أما السائر على طريق العلم والهدى فهو تماما كالسائر على الطريق الواضح بجسم معتدل ونظر سليم ، وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ٢٤ من هود.

٢٣ ـ (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ) أسماعا لتستمعوا بها من الله ورسله ، وأبصارا لتعتبروا بما ترون من عجائب خلقه تعالى ، وعقولا تنتقل بكم من معلوم إلى مجهول. من شاهد إلى غائب ، وتقدم مرات المرات.

٢٤ ـ (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) خلقكم فيها وبثكم فأصلحوا ولا تفسدوا ، إليه المآب ونقاش الحساب.

٢٥ ـ ٢٦ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) بقيام القيامة؟ قل يا محمد : علمها عند من يقيمها ، وأمرني أن أنذركم بها ، وقد فعلت.

___________________________________

الإعراب : وجملة هي تمور حال من الأرض. و (نَذِيرٌ) مبتدأ مؤخر وكيف خبر مقدم. و (نَكِيرِ) اسم كان وكيف خبرها. وأصل نكير نكيري. أم بمعنى بل. ومن هذا مبتدأ وخبر ، وتشعر هذه الجملة بالتحقير والاستخفاف. و (الَّذِي) عطف بيان. و (مُكِبًّا) حال من فاعل يمشي ومثله سويا.

٧٥٦

٢٧ ـ (فَلَمَّا رَأَوْهُ) رأوا العذاب أو يوم القيامة (زُلْفَةً) قريبا منهم ومواجها لهم (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أنكروه حتى رأوه فانهارت الأعصاب وطار. الصواب.

٢٨ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) تمنى الطغاة لو مات الرسول ومن آمن به ليرتاحوا منه ومن دعوته ، فأمره سبحانه أن يقول لهم : لنفترض أن الله اختارني إليه أو أمدّ في أجلي ، فهل ينقذكم موتي من نكاله وعذابه؟ أبدا لا شيء يجيركم منه إلا الرجوع إليه بالتوبة وطلب المغفرة.

٢٩ ـ (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) هذا هو طريق النجاة والخلاص : الإيمان برب العالمين والطاعة لأمره ونهيه.

٣٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) غائرا في الأرض إلى الأعماق فهل تستردونه بالفؤوس والسواعد. أو تذهبون إلى غير الله ، وتسألون الأصنام أن تفجر لكم العيون ، وتجري الأنهار؟ سبحانك اللهم بيدك الملك وحدك لا شريك لك.

سورة القلم

مكيّة وهي اثنان وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (ن) من الحروف التي افتتح سبحانه بأمثالها بعض السور ، وتحدثنا عنها في أول سورة البقرة ، وأنها إشارة إلى أن القرآن الكريم الذي أعجز أهل الفصاحة مؤلف من هذه الحروف الهجائية التي ينطق الناس بها (وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) كناية عن العلم النافع ، وأقسم به سبحانه لعلو شأنه حيث لا إنسانية ولا حياة إلا به. والحديث عن منافعه نافلة وفضول تماما كالحديث عن منافع الماء والضياء.

٢ ـ (ما أَنْتَ) يا محمد (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) هذا رد على من افترى عليه بالجنون أولا : لأنه جعل الآلهة إلها واحدا. ثانيا : لأنه دعا إلى الإيمان بالبعث بعد الموت. وفوق ذلك جعل الناس كلهم على صعيد واحد في الحقوق والواجبات ... إلى آخر ما نادى وحثّ عليه من مكارم الأخلاق.

___________________________________

الإعراب : و (قَلِيلاً) صفة لمقدر و «ما» زائدة أي تشكرون شكرا قليلا. وضمير رأوه يعود الى يوم القيامة. و (زُلْفَةً) حال أي قريبا لأن الرؤية هنا بصرية. أو رحمنا «أو» للإبهام. (ن) على حذف مضاف أي هذه سورة ن.

٧٥٧

٣ ـ (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) غير مقطوع بل دائم ولازم لأن محمدا (ص) أدى الرسالة على أكمل وجه ، وتحمل في سبيلها أشد الأذى حتى نمت وأثمرت ولا تزال آثارها وثمارها قائمة إلى اليوم وإلى آخر يوم في شرق الأرض وغربها.

٤ ـ (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) تحدثت الأجيال عن محمد (ص) ووضعت في سيرته وأخلاقه الأسفار الطوال والقصار ، ونختار منها كلمة لابن عربي في الفتوحات حيث قال ما معناه : إن الله خلق الخلق أصنافا ، وجعل من كل صنف أخيارا ، ومن الأخيار الصفوة ، وهم الأنبياء ، ومن الأنبياء ، الخلاصة ، وهم أولو العزم ، ومن الخلاصة خلاصتها وهو محمد الذي لا يكاثر ولا يقاوم.

٥ ـ (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) ستظهر الحقيقة للناس كل الناس ، حين يعلو شأن الرسول الأعظم (ص) وتظهر كلمة الإسلام على الدين كله ٦ ـ (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) من هو صاحب الأوهام الكاذبة كأوهام المجنون؟

٧ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) بأن محمدا على الهدى والسداد ، وأن خصومه هم المنحرفون عنه إلى الضلال والفساد.

٨ ـ (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) هذا إخبار في صورة النهي والإنشاء ، ومعناه أن محمدا لن يطيع المكذبين إطلاقا في التنازل عن دعوته مهما ساوموه وعرضوا عليه من المغريات والدليل على إرادة هذا قوله تعالى بلا فاصل ٩ ـ (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) من المداهنة والمراضاة المصانعة المدارية أي لو تسكت عن دعوتك إرضاء لهم لسكتوا عن الخصومة إرضاء لك ١٠ ـ (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) كثير الحلف بلا ضرورة ، لأنه يشعر من أعماقه باتهام الناس له وارتيابهم بأقواله ١١ ـ (هَمَّازٍ) يكثر الطعن في أعراض الناس (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يمشي بالنميمة ليفسد بين الأخوان والجيران من صلات ١٢ ـ (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) يكرهه بالطبع لا يفعله ويصد الناس عن فعله (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) يفتري على الأبرياء حقدا وطغيانا ١٣ ـ (عُتُلٍ) فظ غليظ (بَعْدَ ذلِكَ) وفوق هذه القبائح والرذائل هو (زَنِيمٍ) دعي لصيق ، وكافر زنديق ، وقيل : المراد بهذه الصفات الوليد بن المغيرة ، وقيل غيره ، ومهما كان فإن هذه اللطخات والنجاسات يتصف بها العديد من الأفراد في كل زمان ومكان ، وقد أمر سبحانه رسوله الكريم بالابتعاد عنهم ، فعلينا نحن أيضا أن نفر منهم ١٤ ـ ١٥ ـ (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) كان هذا الأثيم المهين في سعة من الأموال وقوة من الأولاد ، وكان لغيه وبغيه إذا سمع آي القرآن العظيم يقول : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) خرافات وأساطير لأنها تلعنه وأمثاله من الطغاة ١٦ ـ (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) سنميزه بعلامة على أنفه ووجهه تعرف بها قبائحه ومآثمه ورذائله وجرائمه ١٧ ـ (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) هذا الضمير للمشركين من أهل مكة ، ومنهم الأثيم المهين ، وكانوا في نعمة من الله ، ولكن جحدوها ولم يشكروها ، فانتقم الله منهم تماما كأصحاب البستان الذين أشار سبحانه إليهم بقوله : (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) وخلاصة أمرهم أنهم كانوا أخوة يملكون بستانا كثير الثمار ، فحلفوا أن لا يتصدقوا منها على مسكين ، وباتوا على هذا العزم مصرّين ، فأرسل سبحانه بالليل على البستان آفة قضت عليه بالكامل ، ولما أصبحوا أسرعوا إلى البستان فإذا به حطام ، فندموا وأيقنوا أن الله أخذهم بجرمهم ، فقال لهم أخوهم الأعقل والأفضل : نصحت لكم فلم تستبينوا

٧٥٨

النصح حتى وقعت الواقعة ، فتوبوا إلى الله عسى أن يرحمكم. وبعد هذا التلخيص السريع لمعنى الآيات نعود إلى مفرداتها (لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) يقطفون ثمار الجنة صباحا.

١٨ ـ (وَلا يَسْتَثْنُونَ) لا يتركون شيئا للجائعين.

١٩ ـ (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) نزلت عليها آفة من السماء ، ٢٠ ـ (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) سوداء فحما أو كالفحم.

٢١ ـ (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) نادى بعضهم بعضا في الصباح الباكر.

٢٢ ـ (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) بكروا إلى البستان إن كنتم قاطفين.

٢٣ ـ (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) يتسارون.

٢٤ ـ (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا) يدخل الحديقة مسكين.

٢٥ ـ (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) منع قادرين.

٢٦ ـ ٢٧ ـ (فَلَمَّا رَأَوْها) حطاما ندموا و (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) من ثمار حديقتنا ومن رحمة الله وثوابه ومستحقون لغضبه وعذابه.

٢٨ ـ ٢٩ ـ (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أفضلهم رأيا : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) هلا تطيعون الله وتتوبون إليه.

٣٠ ـ ٣١ ـ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) يلقي كل منهما المسئولية على صاحبه.

٣٢ ـ (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) اعترفوا بالخطإ والخطيئة وطلبوا منه تعالى أن يعود عليهم بالصفح والفضل دنيا وآخرة.

٣٣ ـ (كَذلِكَ الْعَذابُ) هكذا تأتي الآفات المخبآت في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى.

٣٤ ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ ...) كما هدد المجرمين بالجحيم وعد المتقين بالنعيم كدأبه ، جل جلاله.

٣٥ ـ (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) المراد بالمسلمين هنا المجاهدون المحسنون وإلا فكم من مصلّ وصائم هو عند الله أشد جرما من كافر أمن الناس من شره ، وكف عنهم أذى الأشرار.

٣٦ ـ (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) فيه رد على كل مسيء يرى نفسه محسنا ، وكل جاهل يرى نفسه عالما ، أو يرى له الفضل على سواه بمال أو نسب أو جاه.

٣٧ ـ ٣٨ ـ (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ

___________________________________

الإعراب : (مُصْبِحِينَ) حال من فاعل ليصرمنها ، وهو واو الجماعة المحذوفة.

٧٥٩

فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) هل نزل وحي من السماء يقول : ان أصحاب الجاه والمال لهم عند الله غدا ما يحبون ويشتهون؟

٣٩ ـ (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) هل حلف الله لكم أيمانا مغلظة ومؤكدة أن يجعل الأمر بيدكم يوم القيامة في كل ما تختارونه لأنفسكم من خير وكرامة.

٤٠ ـ (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) سل يا محمد الذين يدعون شيئا من ذلك : من الذي ضمن لهم تنفيذ ما يدعون؟

٤١ ـ (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أو أصنامهم هي الكفيل بتنفيذ كل ما يدعون ، فإن تك للأصنام هذه المكانة فليأتوا بها ، وتفعل لهم ما يشتهون.

٤٢ ـ (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) كناية عن أهوال القيامة وشدائدها وفي الأشعار : «شالت الحرب عن ساقها». أي ان نساء المغلوب تشمر عن ساقها للهرب. وفي الجزء السادس من صحيح البخاري بعنوان : (ن وَالْقَلَمِ) حديث عن النبي (ص) : «يكشف ربنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة» وفي الآية ٣٠ من ق ذكرنا أن البخاري نقل عن النبي أن الله يضع قدمه في جهنم فتقول قط قط وأشرنا إشارة خاطفة إلى معارضة هذا الحديث للعقل والوحي (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) كناية عن أن الذي لم يك قد آمن بالله وسجد له في دار الدنيا ـ لا يملك شيئا يوم القيامة يدفع عنه غضب الله وعذابه.

٤٣ ـ (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) الخشوع للقلب لا للبصر. وكنى به سبحانه عن الذلّ والهوان الذي تظهر دلائله في الأبصار بدليل قوله بلا فاصل : (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا) في الدنيا (يُدْعَوْنَ) إلى الإيمان بالله والعبادة له ، فيمتنعون وهم في تمام الصحة والأمن والأمان ، فاستحقوا من الله أليم العذاب ٤٤ ـ ٤٥ ـ (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) يقول سبحانه لنبيّه الكريم : لا تشغل قلبك بمن كذب بك وبالقرآن ، فقد أعلنت عليه الحرب وسأتولى أنا بنفسي الانتقام منه (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) المراد بالاستدراج هنا المد والإمهال ، ثم العقاب بما يستحقون ، قال سبحانه : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) ـ ٥٥ ـ ٥٦» المؤمنون والقرآن يفسّر بعضه بعضا (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي تدبيره تعالى محكم وعظيم.

٤٦ ـ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) المغرم بالغين وفتح الراء : الغرامة ، والمعنى لو طلبت أجرا على التبليغ لاستثقلوا منك هذا الطلب ، وتقدم في الآية ٤٠ من الطور.

٤٧ ـ (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) هل أطلعوا على علمه تعالى ، فنقلوا منه أنهم في حصن حصين من عذابه ؛ وتقدم في الآية ٤١ من الطور.

٤٨ ـ (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) يا محمد ، ولا يضق صدرك بقومك كما ضاق صدر يونس (إِذْ نادى) في بطن الحوت ، (وَهُوَ مَكْظُومٌ) مملوء غيظا.

٤٩ ـ (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) تدارك يونس نفسه ونظر إليها ، فتداركه سبحانه ونظر إليه ، فأمده بتوفيقه وعنايته ، ولو لا ذلك لقذفه الحوت من بطنه في العراء ملوما.

٧٦٠