التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

١٠ ـ (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أوحى سبحانه إلى عبده محمد بواسطة الروح الأمين شيئا مهما ، وقد يكون الشيء الموحى به آية من آي الذكر الحكيم ، وقد يكون غير ذلك ١١ ـ (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) رأى محمد جبريل بقلبه وبصره ، فلا العين أخطأت فيما رأت ، ولا القلب شك في رؤية العين.

١٢ ـ (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) أتكذبون وتجادلون محمدا أيها المشركون فيما رأت عيناه ، وآمن به قلبه وعقله.

١٣ ـ (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) أيضا رأى محمد (ص) جبريل في هيئته وخلقته الأصيلة مرة ثانية حين حمل النبي ليلة المعراج ، وطاف به في السموات العلى حتى انتهى إلى الحد الأقصى الذي أشار إليه سبحانه بقوله :

١٤ ـ (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) فوقف في هذا المكان ، ولم يتجاوزه إلى غيره لجهة العلو.

١٥ ـ (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) وهي جنة الخلد التي جعلها سبحانه ثوابا للمتقين كما في جوامع الجامع.

١٦ ـ (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) يوجد عند سدرة المنتهى من آثار قدرته تعالى ما لا يبلغه وصف ، ولا يحده عقل.

١٧ ـ (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) ما حاد بصر محمد عن الواقع ، ولا تجاوز عنه.

١٨ ـ (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) محمد (ص) ما رأى الله في رحلته هذه التي بلغ فيها سدرة المنتهى ، لأن النواظر لا ترى العلي الأعلى ، ولكن محمدا شاهد من عجائب قدرته تعالى ما يستحيل أن يراه الإنسان أو يعرف عنه شيئا مهما تقدمت العلوم ، وتطورت سفن الفضاء إلا أن يشاء الله.

١٩ ـ ٢٠ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) هذه أصنام كان العرب يعبدونها من دون الله ، فوبخهم سبحانه على عبادتها وقولهم : الملائكة وهذه الأوثان بنات الله ، ولذا قال سبحانه :

٢١ ـ ٢٢ ـ (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) ظالمة جائرة ، لا يرتضيها مخلوق من مثله ، فكيف فضلتم العبد على سيده والمخلوق على خالقه؟

٢٣ ـ (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها ...) تقدم في الآية ٧١ من الأعراف (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) تدلنا هذه وغيرها من الآيات الناهية عن العمل بالظن. أن القرآن لا يثق إلا بالعلم ، وأن الظن لا يكشف عن الواقع المجهول ، ولا يسوغ بحال أن يكون طريقا إلى المعرفة ، وهذا من أهم الفوارق بين الإسلام وسائر الأديان أبعد هذا يقال بأن الدين كله غيب في غيب؟ وهل يثبت الغيب بالغيب؟ (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) عطف على ما قبله أي ولا يتبعون إلا ما تهوى أنفسهم ، يشير سبحانه بهذا إلى ما عليه الكثرة الكاثرة في كل زمان ومكان حتى العديد من رؤساء الأديان ، حيث لا ينجذبون إلى الشيء ويفعلونه لأنه حق وخير ، بل يضفون صفة الحق والخير على الشيء الذي يرتاحون إليه ، ويوافق هوى في نفوسهم ، ومن هذا النوع عبدة الأوثان ، نعتوا الأحجار بالآلهة لا لشيء إلا تعصبا لدين الآباء ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله ٢٤ ـ (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) الأمنيات والرغبات لا تغيّر الواقع عما هو عليه ، وفي نهج البلاغة : الأماني تعمي

٧٠١

أعين البصائر

٢٥ ـ (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) الأمر والملك لله وحده دنيا وآخرة.

٢٦ ـ (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) الملائكة المقربون لا يشفعون لأحد إلا بإذنه ، فكيف تشفع الأحجار لكم أيها المشركون الجاهلون بجهلهم؟

٢٧ ـ ٢٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) أي يقولون : الملائكة بنات الله لمكان ، التاء في كلمة ملائكة ، ولو كانوا ذكورا لقيل ملائك لا ملائكة! وهذا هو الجهل بكمال الله وجلاله ، وباللغة لأن التاء تأتي لغير التأنيث مثل عبدة الأصنام جمع عبد (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ...) أنظر تفسير الآية ٢٣ من هذه السورة.

٢٩ ـ (فَأَعْرِضْ) يا محمد عمن أعرض عن الله والحق (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) أما الدين فسلم لجاهه ، وحرفة يأكل منها ، ويكنز للأولاد والأصهار ، وتلك حياتهم وملذاتهم تدل عليهم.

٣٠ ـ (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ذلك إشارة إلى لذيذ العيش ، وأنه الهدف الوحيد لكل ما يعملون ويتعلمون (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَ) يتخذ من الدين والعلم أداة للصوصية ، وعنده حسابه وعقابه.

٣١ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هو سبحانه القوي الغني الذي لا يفتقر إلى شيء ، وإليه يفتقر كل شيء ، وهو الحق والعدل يجزي (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) بلا زيادة ، وقد يعفو (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) يوفيهم أجورهم ، ويزيدهم من فضله ، ثم بيّن سبحانه من هم المحسنون بقوله :

٣٢ ـ (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) كالظلم والزنا وكل ما تجاوز الحد في القبح (إِلَّا اللَّمَمَ) وهي صغائر الذنوب التي لا يكاد يخلو منها إنسان إلا من عصم الله كالنظرة والجلوس على مائدة الخمر ، وتقدم في الآية ٣١ من النساء.

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ...) من أبينا آدم الذي خلقه من تراب إلى كل جنين ورضيع وشاب وكهل وشيخ يدب على العصا ... إلى النفس الأخير ، وإذن علام تزكي نفسك ما دام

___________________________________

الإعراب : المصدر من (لِيَجْزِيَ) متعلق بمحذوف دل عليه سياق الكلام أي خلق الله الناس ليجزي ، وقيل : متعلق بمعنى أعلم بمن ضل واهتدى. و (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) بدل من الذين أحسنوا. و (اللَّمَمَ) مستثنى منقطع.

٧٠٢

ربك (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) وقال لك ولغيرك : فلا تزكوا أنفسكم.

٣٣ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) عن الحق ودعوته.

٣٤ ـ (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) بذل القليل من ماله ثم أمسك.

٣٥ ـ (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) هل عند هذا الذي تولى عن الحق ، وأمسك عن البذل ـ علم من الله سبحانه بأنه في أمن وأمان من عذابه؟

٣٦ ـ ٣٧ ـ (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) ألم يسمع هذا الذي أعرض وبخل ، بما قال الله في توراة موسى وصحف إبراهيم الذي وفى بعهد الله وميثاقه؟

٣٨ ـ (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) كل إنسان مسؤول عن ذنبه لا عن ذنب سواه ، وتقدم مرات ، منها الآية ١٦٤ من الأنعام.

٣٩ ـ ٤١ ـ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ...) هذا هو دين القرآن والإسلام : ليس للإنسان إلا ما سعى وفعل ونوى ، ولا يقاس بشيء على الإطلاق إلا بمقاصده وأفعاله ، فهي وحدها التي ترفعه أو تضعه ، تقدسه أو تدنسه ، حتى كلمة التوحيد والشهادة لمحمد بالرسالة تؤكد هذه الحقيقة كفريضة لازمة لأن تكوينها اللفظي يبطل بدلالته كل المزاعم بأن الإنسان يوزن بشيء سوى سعيه وجهده وعرقه وعمل يده. فهل من إشكال وقيل وقال؟

٤٢ ـ (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) منه تعالى البداية ، وإليه النهاية ، ولا حيلة ووسيلة ، ومن جحد فأمامه ما يجيء به الغد.

٤٣ ـ ٤٦ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) الضحك إشارة إلى فرح أهل الجنة ، والبكاء إشارة إلى ترح أهل النار ، قال سبحانه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) ـ آخر عبس» (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ...) قال جاهل أو ذاهل عن هذه الآية وغيرها من آي الذكر الحكيم : إن نظرية دارون لا تناقض الإسلام والقرآن لأن نظرية التطور علم والإسلام دين العلم! وما من شك أن الإسلام دين العلم ، ولكن هذا شيء ، وأصل الإنسان قرد شيء آخر ، والقرآن صريح في أن الله خلق آدم من طين لا من قرد دارون ، وأنه تعالى هو الذي صورنا في الأرحام كيف يشاء بنص الآية ٦ من آل عمران ، وعليه يكون القول بأن نظرية دارون لا تناقض القرآن ـ نقضا لليقين بالشك والجهل ٤٧ ـ (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) وأية حكمة في النشأة الأولى إذا لم تكن مطية للثانية؟

٤٨ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أغنى : أعطى جميع العباد ما يكفيهم من الرزق ، أما أقنى فغير بعيد أن تكون إشارة إلى وسائل الإنتاج ، وأن الكل منه تعالى ، لأنه خالق كل شيء.

٤٩ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) نجم مضيء وخصها سبحانه بالذكر لأن بعض أهل الجاهلية كانوا يعبدونها.

٥٠ ـ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) وهم قوم هود ، وتقدم الكلام عنهم مرات.

٥١ ـ ٥٢ ـ (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) أحدا منهم وهم قوم صالح ، وأيضا سبق عنهم الكلام مرارا.

٧٠٣

٥٣ ـ (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) قرى قوم لوط ، جعل عاليها أسفلها.

٥٤ ـ (فَغَشَّاها) غطاها العذاب.

٥٥ ـ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) بأية نعمة من نعم الله تشك وتجادل أيها الجاحد المعاند. وبالمناسبة قال الفيلسوف المسلم والشاعر الكبير اقبال في تعريف المؤمن : انه من يستقبل الموت وعلى شفتيه ابتسامة التوحيد.

٥٦ ـ (هذا) الذي تلوناه وسجلناه في هذه السورة هو (نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) فيما تضمنه من حقائق جديرة بالتفكير والاهتمام كنزول الوحي على محمد (ص) وما أشرنا إليه من أن الظن لا يكون طريقا للمعرفة ، وأن الإنسان بكد يمينه وعرق جبينه ...

٥٧ ـ (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) الساعة آتية لا ريب فيها ، وكل آت قريب.

٥٨ ـ (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) لا أحد يعلم وقتها والكشف عنه إلا الله : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ـ ٦٣ الأحزاب؟».

٥٩ ـ (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) المراد بالحديث هنا القرآن ، وأهل الإيمان والمعرفة يعجبون به إكبارا لعظمته كما قال سبحانه : (قُرْآناً عَجَباً) ـ الجن» والكفرة الفجرة يعجبون منه منكرين وساخرين كما قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) ـ ٥ ص».

٦٠ ـ (وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) الأولى بكم أن تبكوا على أنفسكم التي أوردتموها مناهل الوبال والهلاك.

٦١ ـ (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) لاهون لاعبون.

٦٢ ـ (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) يجب السجود عند تلاوة هذه الآية أو الاستماع إليها ، أنظر تفسير الآية ٣٧ من فصلت.

سورة القمر

مكيّة وهي خمس وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ذكر سبحانه انشقاق القمر مقرونا بذكر الساعة ، ومعنى هذا أن الإنشقاق يحدث يوم القيامة ، وفي سورة الإنشقاق (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) وسورة الإنفطار (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) وفي سورة القيامة (وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) والقرآن يفسّر بعضه بعضا.

٢ ـ (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) القرآن معجزة المعجزات وحافل بالنبوآت والبينات ، ومع ذلك أعرضوا عنه وقالوا سحر وكهانة مكابرة وعنادا.

٣ ـ (وَكَذَّبُوا) محمدا لا لشيء إلا الهوى والغرض

٧٠٤

(وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) ثابت في علمه تعالى ، ومنه إعراض من أعرض عن الحق ، وسوف يحاسب حسابا عسيرا.

٤ ـ (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) كقصص الأمم الماضية والانتقام من الجبابرة الطغاة و (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) عن كل جريمة ورذيلة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ٥ ـ (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) بلغت آيات القرآن المدى الأقصى في بيان الحجج والمواعظ (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) إلا من سعى وراء معرفة الحق والهداية ، وفي نهج البلاغة : «من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها لا زاجر ولا واعظ».

٦ ـ (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) يا محمد عن المعاندين وانتظر (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) المراد باليوم هنا يوم القيامة ، والنكر : الشديد الفظيع.

٧ ـ (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) أذلاء خاضعين ، يخرجون من القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) ملأ الأجواء والأرجاء.

٨ ـ (مُهْطِعِينَ) مسرعين (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) شديد المخاطر والأهوال.

٩ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...) كان شأن محمد (ص) مع قومه تماما كشأن نوح كذبه قومه ونسبوه إلى الجنون وزجروه عن تبليغ رسالة ربه.

١٠ ـ (فَدَعا) نوح وقال : ربي أنا ضعيف ، فانتصر أنت لدينك من أعدائك ...

١١ ـ ١٢ ـ (فَفَتَحْنا ...) تدفق الماء عليهم من السماء وتفجر من الأرض ، فالتقى الماءان ، وتكون منه بحر عظيم ، هكذا قضى الله وقدر.

١٣ ـ (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) ألواح : أخشاب ودسر : مسامير ، صنع نوح منهما السفينة.

١٤ ـ (تَجْرِي) السفينة (بِأَعْيُنِنا) بحفظ الله ورعايته (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) كان الطوفان للكافرين جزاء ، ولنوح انتصارا.

١٥ ـ ١٦ ـ (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي ترك سبحانه أخبار السفينة عظة لمن يعتبر ، وعبرة لمن يتعظ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) هل يتذكر عاقل ، فيلجأ إلى ربه ، ويتوب من ذنبه.

١٧ ـ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) الهدف الأساس من الإرشاد هو الإقناع والعمل وإلقاء الحجة على من تمرد أو تردد ، ومحال أن يتحقق شيء من ذلك إن يك الإرشاد مطلسما ، ولا بد أن يتوافر فيه أمران : الأول أن يكون واضحا في بيانه ومعانيه ، الثاني أن يكون حكيما في أسلوبه ورفيقا في دعوته يتحرك لها الإحساس والوجدان ، ويستيقظ بها الفكر والعقل ، وهذا هو بالذات أسلوب القرآن الذي أشار إليه بقوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ـ ١٢٥ النحل».

٧٠٥

١٨ ـ ١٩ ـ (كَذَّبَتْ عادٌ) قوم هود بآيات الله ورسله ، فلاقت جزاء التكذيب (رِيحاً صَرْصَراً) باردة عنيفة ، وقد استمرت هذه الريح حتى أتت على آخرهم.

٢٠ ـ ٢١ ـ (تَنْزِعُ النَّاسَ) تقتلعهم من أماكنهم (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أعجاز النخل : أصولها ، ومنقعر : منقطع أو منقلع.

٢٢ ـ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ ...) أنظر تفسير الآية ١٧ من هذه السورة.

٢٣ ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) قوم صالح.

٢٤ ـ (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) كيف نتبع واحدا من عامة الناس لا من ساداتهم؟.

٢٥ ـ (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) كيف هبط الوحي على صالح ، وفينا من هو أكثر مالا وأعز نفرا (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) بطر يتطفل ويتطاول.

٢٦ ـ (سَيَعْلَمُونَ غَداً) أنهم هم المفترون والمتطاولون.

٢٧ ـ (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) ابتلاء وامتحانا يتميز به الخبيث من الطيب.

٢٨ ـ (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) لهم يوم ، وللناقة يوم (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) إذا حضرت الناقة للشرب غابوا عن الماء ، وإذا غابت الناقة حضروا للشرب.

٢٩ ـ ٣٠ ـ (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى) لبّى النداء مسرعا (فَعَقَرَ) غير مكترث بعاقبة الجريمة وشناعتها.

٣١ ـ ٣٢ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) من السماء فعلت بهم فعل القنابل النووية أو أشد ، وجعلتهم اللغة : صرصر من الصر وهو البرد أي شديدة البرد ، وقيل : من الصرير وهو الصياح أي شديدة الصياح. وتنزع تقلع. واعجاز أسافل.

ومنقعر منقلع. والسعر الجنون يقال : سعر فلان فهو مسعور أي جنّ فهو مجنون. وأشر بطر ومتعاظم. وشرب بكسر الشين وتخفيفها نصيب.

___________________________________

الإعراب : جملة (كَأَنَّهُمْ) اعجاز حال من الناس. و (بَشَراً) مفعول لفعل مقدر أي أنتبع بشرا. ومنّا : صفة. و (واحِداً) صفة ثانية لبشر. و (فِتْنَةً) مفعول من أجله ل «مرسلو». (حاصِباً) صفة لمقدر أي هواء أو عذابا حاصبا. و (نِعْمَةً) مفعول من أجله لنجيناهم. و (كَذلِكَ) الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف أي جزاء مثل ذلك الجزاء نجزي. (بُكْرَةً) ظرف زمان والعامل فيه صبّحهم.

٧٠٦

(كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الماشية ، ويدخره لها حتى يأتي الشتاء.

٣٣ ـ (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) تماما كما كذبت قوم نوح وعاد وثمود (بِالنُّذُرِ) جمع نذير.

٣٤ ـ ٣٥ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) رماهم سبحانه بالحصباء مضافة إلى الخسف.

٣٦ ـ (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا) خوّفهم لوط من عذاب الله فقهقهوا ساخرين ، وشكوا وجادلوا مهددين.

٣٧ ـ (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) قالوا له : أعطنا أضيافك نفجر بهم ونفحش! هذا هو الإنسان إذا تحرر من قيود الدين والإنسانية ، لا يلتذ بشيء إلا بالجرائم والرذائل (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أعمى الله أبصارهم عن الأضياف.

٣٨ ـ ٤٠ ـ (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أتاهم العذاب صباحا ، واستمر حتى أفناهم عن آخرهم.

٤١ ـ ٤٢ ـ (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) أيضا كذبوا ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، أما السر لهذا التكذيب وتتابعه فهو أن الأنبياء يدعون الناس بطريق العقل ، والإنسان يقاد ببطنه لا بعقله إلا من يسعى وراء الحق ومعرفته ليعمل به لوجه الحق ، وقليل ما هم.

٤٣ ـ (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) الخطاب للذين كذبوا محمدا (ص) وأولئكم إشارة إلى قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الهالكين الذين سبقت إليهم الإشارة ، والمعنى لستم خيرا ممن هلك ، فالذي انتقم منهم أيضا ينتقم منكم (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي الكتب ، والمعنى هل أنزل سبحانه في كتاب من كتبه أن لا ينالكم بعذابه ونكاله؟

٤٤ ـ (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أم تدعون أنكم جمع لا يقهر؟

٤٥ ـ (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) لا محالة ، وهذه الآية من آيات الإخبار بالغيب ، لأنها نزلت يوم كان المسلمون ضعافا وقلة ، والمشركون في كثرة وقوة ، وما مضت الأيام حتى ظهر الإسلام على الدين كله ، وهزم الشرك وأعوانه.

٤٦ ـ ٤٨ ـ (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) هذا عذابهم في الدنيا ، أما عذاب الآخرة فلا يعادله شيء.

___________________________________

الإعراب : أم لكم «أم» منقطعة أي بل ألكم. و (فِي الزُّبُرِ) متعلق بمحذوف صفة لبراءة أي براءة مكتوبة في الزبر.

٧٠٧

٤٩ ـ (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) ما من شيء في الكون وجد عبثا وباطلا ، بل بأصول وتقدير ، وحدود وتدبير تبعا لعالمه وهويته ، قال الإمام عليّ (ع) في وصفه تعالى : «المقدر لجميع الأمور بلا روية» أي بلا جولة فكر.

٥٠ ـ (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) وهي كلمة «كن» أما قوله تعالى : (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) فالمراد به سرعة التكوين.

٥١ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) سلفكم وأمثالكم لما كذبوا الرسل ، فاتعظوا بهم قبل أن يتعظ بكم.

٥٢ ـ ٥٣ ـ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) صغيرا كان أو كبيرا فهو مكتوب ومسطور (فِي الزُّبُرِ) صحيفة الأعمال.

٥٤ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين لا يسيئون لمخلوق بقول أو فعل ، ولا يتكالبون على دنيا الحرام ليتركوها للأصهار والأرحام (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ).

٥٥ ـ (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) لأنهم ما نطقوا في الدنيا إلا بالصدق ، وما فعلوا أو تركوا إلا بالحق.

سورة الرّحمن

جل ذكره مكيّة او مدنيّة وهي ثمان وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الرَّحْمنِ) الذي وسعت رحمته كل شيء ، ومنها النعم الآتية التي أنعم بها على الإنسان.

٢ ـ (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أنزله ويسره للذكر والتعليم.

٣ ـ ٤ ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) بالكلام ، وهو من أعظم النعم وأتمها ، ان استعمل في الصدق لا في الكذب ، ولنصرة الحق وإبطال الباطل ، قال إمام المتقين والساجدين علي بن الحسين (ع) : لكل من الكلام والسكوت آفات ، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل ، لأن الله بعث الأنبياء بالكلام لا بالسكوت ، ولا استحقت الجنة بالسكوت ، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت ، ولا توقيت النار بالسكوت ونعت الرسول الأعظم (ص) الساكت عن الحق ، بالشيطان الأخرس.

٥ ـ (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) يجريان بنظام.

٦ ـ (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) ينقادان لأمره تعالى.

___________________________________

الإعراب : (ذُوقُوا) أي يقال لهم : ذوقوا. وسقر علم لجهنم وهو ممنوع من الصرف للتعريف والتأنيث. و (واحِدَةٌ) صفة لمقدر أي كلمة واحدة. و (فِي مَقْعَدِ) متعلق بمحذوف خبرا ثانيا لإن المتقين. قال صاحب مجمع البيان : (الرَّحْمنُ) خبر لمبتدأ محذوف.

٧٠٨

٧ ـ (وَالسَّماءَ رَفَعَها) رفع الكواكب إلى أفلاكها الطبيعية بدقة أحكام يربط أجزاء الكون بعضها ببعض وإلا ذهبت الجاذبية ، واختل نظام الكون (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) إشارة إلى العدل حيث لا تستقيم الحياة الاجتماعية إلا به تماما كما لا ينتظم الكون إلا بالمعادلة الدقيقة المحكمة بين كواكبه وجباله وبحاره وكل ما فيه ، وكذلك أعضاء الإنسان والحيوان ٨ ـ ٩ ـ (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) لا تدعوا أنكم حماة العدل ، وأيديكم مخضوبة بدماء الأبرياء ، وخزائنكم متخمة بأقوات الضعفاء.

١٠ ـ (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) فراشا ومعاشا لكل من عليها إنسانا كان أو حيوانا.

١١ ـ (فِيها فاكِهَةٌ) وحبوب ولحم وشراب وغير ذلك (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) هي أوعية الطلع تنشق وتخرج منها الثمار.

١٢ ـ (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) الحب لقوت الإنسان ، والعصف ورق ونحوه لقوت الحيوان ، والريحان للشم والزينة.

١٣ ـ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما) بأي نعمه تعالى (تُكَذِّبانِ) والخطاب للإنس والجان.

١٤ ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) المراد بالإنسان هنا آدم أبو البشر ، والصلصال : الطين اليابس غير المطبوخ ، فإذا طبخ فهو فخار ، وتقدم في الآية ٢٦ من الحجر وغيرها ١٥ ـ (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) تقدم ونعيد : نحن نؤمن بوجود الجن لأن الوحي أثبته ، والعقل لا ينفيه ، ولا شيء لدينا نقوله عن علم أكثر من ذلك.

١٦ ـ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أبخلق الإنسان من طين أم بخلق الجان من نار؟

١٧ ـ (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) في كل ٢٤ ساعة يوجد في الكوكب الأرضي ليلان ونهاران : أحدهما في شرق الأرض والآخر في غربها ، ولكن على التعاقب بمعنى الغرب الآن تشرق عليه الشمس والشرق في ظلام دامس ، وبعد ساعات تنعكس الآية ، حتى إذا مضت ال ٢٤ ساعة عاد الشروق إلى الغرب ، والغروب إلى الشرق ، وهكذا دواليك وغير بعيد أن يكون المشرقان والمغربان في الاية إشارة إلى هذا المعنى.

١٨ ـ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بنعمة الشروق أم الغروب؟.

١٩ ـ (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أرسلهما ، والمراد بهما النهر العذب والبحر الملح (يَلْتَقِيانِ) يلتقي طرفاهما.

٢٠ ـ ٢١ ـ (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) البرزخ : الحاجز. ولا يبغيان : لا يطغى ويتغلب أحدهما على الآخر ، وتقدم في الآية ٥٣ من الفرقان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بنعمة البحار أم الأنهار.

٢٢ ـ ٢٣ ـ (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) جاء في تفسير المراغي : «ثبت في الكشف الحديث أن اللؤلؤ يستخرج من البحر العذب كما يستخرج من البحر الملح ، وكذلك المرجان ، وإن كان الغالب استخراجه من الماء الملح».

٧٠٩

٢٤ ـ ٢٥ ـ (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الجواري : السفن ، والمنشآت : المصنوعات ، والأعلام : الجبال ، وتقدم في الآية ٣٢ من الشورى.

٢٦ ـ ٢٨ ـ (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أي ذاته القدسية ، لأنه الأول بلا أول كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده.

٢٩ ـ ٣٠ ـ (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جميع الكائنات تفتقر إلى الله في وجودها وبقائها وشتى أحوالها ، ولو تخلى عنها طرفة عين لم تكن شيئا مذكورا (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ضمير هو يعود إلى اليوم ، والمراد باليوم هنا كل شيء يفنى ، والمعنى ما من شيء فان في هذا الكون إلا ويتغير في كل يوم بل في كل لحظة شئنا أم أبينا ، ويقال : ان هذه الحقيقة كانت طي الكتمان حتى اكتشفها العلم الحديث ولكن القرآن أعلنها بصراحة قبل ١٤ قرنا ، وذكرها أهل بيت الوحي والنبوة في كلامهم أكثر من مرة ، فقد روى الكليني في الجزء الأول من أصول الكافي ص ١٤١ طبعة سنة ١٣٨٨ ه‍ ـ أن الإمام أمير المؤمنين (ع) خطب خطبة في تعظيم الله ، ابتدأها بقوله : الحمد لله الذي لا يموت ، ولا تنقضي عجائبه لأن كل يوم في شأن من احداث بديع ـ أي جديد ـ لم يكن» وفي ص ٢٢٥ أن الإمام جعفر الصادق (ع) قال : العلم لا ينتهي لما يحدث بالليل والنهار يوما بيوم وساعة بساعة ٣١ ـ ٣٢ ـ (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنحاسبكم ، وهو تهديد لمن أذنب وتمرد ، وفي تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي : سمي الإنس والجان بالثقلين لثقلهما على وجه الأرض ، وفي الحديث إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، سميا بذلك لعظمهما وشرفهما.

٣٣ ـ ٣٤ ـ (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) حين وصل الإنسان إلى القمر اتخذ منه الصهاينة وغيرهم من أعداء الإسلام وسيلة للطعن بالقرآن ، لأن هذه الآية تقول : لا ينفذ الإنسان من أقطار السموات والأرض ، وقد نفذ! وهذا عين التدليس والتبليس ... فقد ثبت بالحس والعيان أن آيات القرآن تزداد قوة ووضوحا كلما تقدم الزمن والعلم ، ومنها هذه الآية ، ولعلها أوضح الآيات في الدلالة على هذه الحقيقة لأن المراد بأقطار السموات والأرض الكون بكامله لا خصوص القمر أو المريخ أو أي كوكب من الكواكب ، وقد أثبت العلم الحديث أن الكون لا حد له ولا نهاية ، كما في الآية ٤٧ من الذاريات ، وأن هناك كواكب وموجودات لا يستطيع الإنسان الوصول إليها حتى ولو سافر بسرعة الضوء ، بل ولا العلم بها حتى بالأجهزة العلمية المتقدمة لأن بين الأرض وبين بعض النجوم ملايين السنين الضوئية ، ومعنى هذا أن الإنسان إذا وصل إلى ألف كوكب من الكواكب المعروفة فهو أعجز من أن ينفذ إلى الكون بكامله ، هذا إلى أن المقصود الأول من الآية أن المجرم لا يستطيع الفرار من عذاب الله وعقابه إلا بالتوبة والإقلاع عن الذنب ، وعليه يكون المراد بالسلطان هنا التوبة أي الفرار من عذاب الله إلى رحمة الله.

٣٥ ـ ٣٦ ـ (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) قالوا : الشواظ لهب بلا دخان كالغاز والمراد بالنحاس هنا دخان بلا لهب ، ومهما يكن فإن القصد الإشارة إلى أهوال الساعة وآلامها.

٧١٠

٣٧ ـ ٣٨ ـ (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) تذوب كواكب السماء يوم القيامة كما يذوب الدهن على النار ، ويصبح لون هذا السائل كحمرة الورد.

٣٩ ـ ٤٠ ـ (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) وفي الآية ٢٤ من الصافات : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ووجه الجمع أن في يوم القيامة مواقف يسأل الناس في بعضها عما كانوا يفعلون ، وفي بعضها لا سؤال ، بل انتظارا للسؤال ، أو انتهاء منه.

٤١ ـ ٤٢ ـ (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) بعلامات تدل عليهم (فَيُؤْخَذُ) مبنى للمجهول (بِالنَّواصِي) مفعول نائب عن الفاعل وهم ملائكة العذاب ، والنواصي جمع ناصية وهي مقدم الرأس (وَالْأَقْدامِ) أي ان ملائكة العذاب تجمع ناصية المجرم مع قدميه ، ويلقون به في جهنم.

٤٣ ـ (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) يقال غدا لمن كذب بجهنم : تفضل هذا ما ادخرته ليوم تذخر له الذخائر.

٤٤ ـ ٤٥ ـ (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) لا عمل للمجرمين غدا الا التطواف بين عذاب الجحيم وشراب الحميم يقطع الأمعاء.

٤٦ ـ ٤٧ ـ (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) لمن أطاع الله سرا وعلانية خوفا من عقابه ورجاء لثوابه ـ حديقتان من حدائق الجنة : واحدة لخوفه والثانية لرجائه ...

٤٨ ـ ٥١ ـ (ذَواتا أَفْنانٍ) أغصان نضرة مثمرة في كل آن.

٥٢ ـ ٥٣ ـ (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) صنفان : أحدهما معروف في الدنيا والآخر غريب عنها ـ مثلا تفاح دنيوي ، وتفاح أخروي.

٥٤ ـ ٥٥ ـ (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) الحرير الغليظ (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) الجنى : الثمر ، ودان : قريب.

___________________________________

اللغة : المراد هنا بسنفرغ لكم مجرد التهديد لأن الله سبحانه لا يشغله شأن ولا يصفه لسان ومعناه سنحاسبكم. والثقلان الانس والجان. ومن معاني الشواظ لهب بلا دخان. ومن معاني النحاس دخان بلا لهب. ووردة أي لونها كحمرة الورد. والدهان ما يدهن به. والسيما العلامة. والنواصي جمع ناصية وهي مقدم الرأس. والحميم الماء الحار. والآن الحاضر.

٧١١

٥٦ ـ ٥٧ ـ (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) ضمير فيهن يعود إلى آلاء ربك من الجنتين والعينين ... ومعنى قاصرات الطرف لا ينظرن إلا إلى الأزواج (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) لا يعرفن إلا أزواجهن.

٥٨ ـ ٥٩ ـ (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) بهاء وصفاء.

٦٠ ـ ٦١ ـ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) نقل صاحب مجمع البيان عند تفسير هذه الآية عن الإمام جعفر الصادق (ع) ، أنه قال : جرت هذه الآية في الكافر والمؤمن والبر والفاجر.

٦٢ ـ ٦٣ ـ (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) المطيعون درجات متفاضلات ، وأيضا الجنان منازل متفاوتات ، لكل درجات مما عملوا ، فللأولين تقى الجنتان المتقدم وصفهما ، ولمن دون الأولين في التقوى أيضا جنتان ، ولكن دون تينك الجنتين بحكم البديهة والعدالة الإلهية.

٦٤ ـ ٦٥ ـ (مُدْهامَّتانِ) يميل لونهما إلى السواد من شدة الخضرة.

٦٦ ـ ٦٧ ـ (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) ماؤهما لا ينقطع ، ولكنه لا يجري كما يجري من العينين السابقتين.

٦٨ ـ ٦٩ ـ (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) عطف النخل والرمان على الفاكهة من باب عطف الخاص على العام.

٧٠ ـ ٧١ ـ (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) زوجات صالحات الأخلاق حسان الوجوه.

٧٢ ـ ٧٣ ـ (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) محجوبات في البيوت لا يخرجن منها.

٧٤ ـ ٧٥ ـ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) لا يعرفن غير الأزواج.

___________________________________

المعنى : بعد أن هدد سبحانه وتوعد من طغى وبغى أمّن ووعد من اتقى وصدق بالحسنى ، وعده بجنة تفوق الوصف بطعامها وشرابها وحورها وولدانها وأشجارها وأنهارها وأثاثها وحليها .. إلى ما نعرف له مثيلا وما لا نعرف ... وأكثر هذه الآيات واضحة المعنى لا تحتاج إلى تفسير ، بالإضافة إلى أنها تكرار لما سبق ، لذا نختصر في التفسير إلا إذا مست الحاجة. (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) المراد بمقام الله أنه قائم على كل نفس يعلم سرها وجهرها. وعن الإمام جعفر الصادق (ع) : أن من علم ان الله يراه ويسمع ما يقول فيحجزه ذلك عن القبيح فقد خاف مقام ربه .. وللمفسرين أقوال في معنى الجنتين ، أقربها إلى الإفهام أنهما حديقتان في الجنة لأن الجنة في اللغة الحديقة ، ويؤيد ذلك قوله تعالى في وصف الجنتين : (ذَواتا أَفْنانٍ) أي أغصان تمتد وتورق وتثمر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ هل تكذبان يا معشر الجن والانس بهذه النعمة التي ذكرتها؟. وكل سؤال يأتي بهذه الصيغة فالمسئول عنه هو نفس النعمة التي ذكرها سبحانه قبل السؤال ـ إذن ـ لا داعي لذكره وبيان المسئول عنه.

٧١٢

٧٦ ـ (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) الرفرف : الوسادة أو المخدة أو المسند ، والعبقري : ضرب من البسط.

سورة الواقعة

مكيّة وهي ست وتسعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ ٢ ـ (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) الواقعة : اسم من أسماء القيامة ، والناس فيها الآن بين مصدق وقائل : هي فكرة كاذبة ، فإذا قامت آمن بها المكذبون من قبل ، وقالوا : هي صادقة.

٣ ـ (خافِضَةٌ) من كذّب بها إلى أسفل سافلين (رافِعَةٌ) من آمن بها ، وعمل لها إلى أعلى عليين.

٤ ـ (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) تزلزلت واضطربت في ذاك اليوم طولا وعرضا.

٥ ـ (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) تفتتت.

٦ ـ (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) غبارا متطايرا.

٧ ـ (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف :

(١) ٨ ـ (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وهم الذين يأخذون كتب أعمالهم بأيمانهم ، ويدخلون الجنة ، ولكنهم دون الصنف الثالث منزلة.

(٢) ٩ ـ (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) وهم الذين يأخذون كتب أعمالهم بشمائلهم ، ويدخلون النار وقال سبحانه : ما أصحاب المشأمة تعجبا من أمرهم ، وقال : ما أصحاب الميمنة تعظيما لشأنهم.

___________________________________

الإعراب : (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي هي خافضة ، والجملة جواب (إِذا وَقَعَتِ) خلافا للكثير من المفسرين لأن المعنى يستقيم على هذا الاعراب ، و (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) اعتراض بين الشرط وجوابه. و (إِذا رُجَّتِ) بدل من إذا وقعت. (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) مبتدأ أول و «ما» استفهام مبتدأ ثان وأصحاب الميمنة خبر «ما» والجملة خبر المبتدأ الأول ، ومثله وأصحاب المشأمة ، والرابط اعادة المبتدأ بلفظة.

٧١٣

(٣) ١٠ ـ ١٢ ـ (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) وهم الأنبياء وأوصياؤهم ، وفي تفسير ابن كثير برواية عن النبي (ص) أنه قال : من السابقين : «يوشع بن نون سبق إلى موسى ، ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى ، وعلي بن أبي طالب سبق إلى محمد رسول الله (ص). وكرر سبحانه كلمة السابقين للتنبيه على علو مكانتهم.

١٣ ـ ١٤ ـ (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ثلة : جماعة من الناس ، والمعنى أن الأعظم قدرا عند الله فريقان : فريق سابق زمانا ، وفريق لاحق ، وهذا الفريق اللاحق أقل عددا من الفريق السابق ، واختلف المفسرون : هل الفريقان من أمة محمد (ص) أو الفريق اللاحق منهم ، أما الثاني فمن الأمم الماضية؟ ونحن نسكت عما سكت الله عنه.

١٥ ـ (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) منسوجة مما لا مثيل له في الدنيا ولا نظير.

١٦ ـ (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) يقابل بعضهم بعضا.

١٧ ـ (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) يقوم بخدمتهم صغار لا يموتون ولا يهرمون.

١٨ ـ (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) من عين ظاهرة للعيان تفيض بالخمر بدليل قول :

١٩ ـ (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) لا تصدع الرؤوس ، ولا تذهب بالعقول كخمر الدنيا.

٢٠ ـ ٢٣ ـ (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ) من الفاكهة ألوان ، ومن لحوم الطير ما تهوى الأنفس ، ومن الحسان كاللؤلؤ جمالا وصفاء.

٢٤ ـ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) لخدمة الإنسان لا لأنفسهم وذويهم.

٢٥ ـ (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) عبثا خاليا من المعنى (وَلا تَأْثِيماً) يأثم به قائله كالكذب والغيبة.

٢٦ ـ (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) سلامان : الأول سلام بعضهم على بعض ، والثاني سلام ملائكة الرحمة عليهم.

٢٧ ـ (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) لما ذكر سبحانه ثواب الأعظم قدرا ، أشار إلى من هم أقل أجرا وأنهم.

٢٨ ـ (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) لا شوك فيه.

٢٩ ـ (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قطوف الموز المتسقة بالثمار من أعلاها إلى أسفلها.

٣٠ ـ (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) لا يزول ولا ينقطع.

٣١ ـ (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) على الدوام ، فلا أزمة مياه وعطل في آلاتها.

٣٢ ـ ٣٣ ـ (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ) دائمة في كل الفصول والأيام (وَلا مَمْنُوعَةٍ) مباحة للجميع

٧١٤

٣٤ ـ (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) عالية من الأرض ومريحة.

٣٥ ـ ٣٦ ـ (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) خلق سبحانه أزواجا لأصحاب اليمين خلقا جديدا تبعا لما يرغبون ويشتهون.

٣٧ ـ (عُرُباً) جمع عروب لا عربية ، وهي العاشقة لزوجها (أَتْراباً) نساء الجنة بالكامل متساويات في العمر ، لا تزيد واحدة عن غيرها يوما أو بعض يوم ، وهذه النعمة عند الكثيرات منهن أفضل من نعمة الإيمان والجنة! ومن هنا ساواهن في العمر ، تقدست حكمته.

٣٨ ـ ٤٠ ـ (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) لأصحاب متعلق بأنشأنا وجعلنا ، والمعنى أن الأزواج الأبكار والعرب الأتراب خلقن لجماعة أصحاب اليمين من الأولين والآخرين.

٤١ ـ (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) انتقل سبحانه من ثواب الأعظم قدرا وهم السابقون المقربون ، إلى الأدنى منزلة وهم أصحاب اليمين ، ومنهم إلى عقاب المجرمين المعنيين بأصحاب الشمال وأنهم.

٤٢ ـ (فِي سَمُومٍ) على حذف مضاف أي في ريح السموم تدخل في صميم القلب ولب العظم (وَحَمِيمٍ) شراب تناهى في الحرارة.

٤٣ ـ (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) هو دخان كثيف وشديد في سواده.

٤٤ ـ (لا بارِدٍ) كالظل (وَلا كَرِيمٍ) يؤمن شره.

٤٥ ـ (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) هذا بيان للسبب الموجب للعذاب ، وهو انغماس المترفين في الملذات على أنها الغاية من الحياة ، وما عداها من دين وخلق وإنسانية فكلام فارغ وحماقات.

٤٦ ـ (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) يشير سبحانه بهذا إلى ما حكاه عنهم في الآية ٣٨ من النحل : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) ثم حكى عنهم مثله سبحانه بقوله :

٤٧ ـ ٥٠ ـ (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا ...) تقدم مرارا ، منها في الآية ٥ من الرعد.

٥١ ـ ٥٤ ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) شجرة خبيثة ، وتقدمت في الآية ٦٢ من الصافات وغيرها ، ويشربون على طعام الزقوم من الحميم الذي اشتد غليانه.

___________________________________

الإعراب : (أَصْحابُ الْيَمِينِ) مبتدأ أول و (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) «ما» استفهام مبتدأ ثان وأصحاب اليمين خبر والجملة خبر المبتدأ الأول. (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خبر لمبتدأ مقدر أي هم كائنون في سدر مخضود وما بعده عطف عليه. و (عُرُباً) صفة للابكار. و (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) متعلق بأنشأناهن. و (ثُلَّةٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلة.

٧١٥

٥٥ ـ ٥٦ ـ (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) وهي الإبل المصابة بداء العطش ، تشرب ولا ترتوي (هذا نُزُلُهُمْ) المعد لضيافتهم طعاما وشرابا ، إضافة إلى سرابيل القطران ومقطعات النيران.

٥٧ ـ (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أنتم تسلمون وتقرون بأن الله هو الذي خلقكم ، ولكن تنكرون قدرته على إحيائكم بعد الموت وتقولون : أئذا متنا أئنا لمبعوثون. وهذا عين التناقض ، حيث جمعتم بين الإقرار بقدرة الله على الخلق والإيجاد والإنكار لها في آن احد ، فإما أن تقروا بالخلق والبعث معا ، وإما أن تنكروهما معا ، وإقراركم بالخلق دون البعث معناه أن الشيء غير ذاته وهذا هو الهذيان بالذات.

٥٨ ـ ٥٩ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) إن الذي خلق من النطفة بشرا سويا بعقله وشكله ، قادر على إعادته إلى الحياة بعد الموت.

٦٠ ـ (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) إن مالك الموت ومقدر الآجال هو مالك الحياة ابتداء وإعادة (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) لسنا بعاجزين ولا مغلوبين.

٦١ ـ (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) على إهلاككم وإبدالكم بقوم آخرين (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) إنه تعالى قادر على بعثكم بعد الموت ، في صورة لا عهد لكم بمثلها إطلاقا.

٦٢ ـ (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) رأيتم الكون بالحس والعيان ، فاستدلوا به على إمكان البعث ، وببلاغة الإمام عليّ (ع) : عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى.

٦٣ ـ ٦٤ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أنتم تثيرون الأرض ، وتغرسون فيها وتبذرون ، ما في ذلك ريب ، ولكن من الذي أوجدكم والأرض والغرس والبذر والماء والشمس والهواء؟ فالذي قدر على إيجاد ذلك قادر على إحياء الموتى وبعثهم ٦٥ ـ (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) لو أراد سبحانه لجعل الزرع هشيما لا ينتفع به (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تعجبون ، وتقولون ٦٦ ـ (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) كدحنا وخسرنا وصار الغنم الذي كنا نأمل ثقلا ومغرما.

٦٧ ـ (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) من الخير والرزق.

٦٨ ـ ٧٠ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي ...) المزن : السحاب يحمل الماء الذي لا حياة إلا به ، ولو شاء سبحانه لجعله شديد الملوحة أو منعه من الأساس ، وعندئذ لا يبقى على ظهرها من دابة ، فهلا شكرتم الله على هذه النعمة ، واعترفتم بقدرته على المعاد؟.

٧١ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) تشعلونها من الزناد وغيره ، ونعمة النار كنعمة الماء ، ولو لاها لبقي الإنسان كوحش الغاب إلى يومه الأخير.

٧٢ ـ (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) أيها المنكرون البعث وعقابه وثوابه وعلى زعمكم فلا معنى لحياتكم ، ولا هدف وراءها إلا شهوة البطن والجنس.

٧١٦

٧٣ ـ ٧٤ ـ (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) موعظة تذكر بالبعث ، لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر يحيي الخلق بعد موته ٧٥ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) قال أكثر المفسرين : أن «لا» زائدة إعرابا مثل (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي ليعلم وعليه يكون المعنى أقسم بمنازل النجوم.

٧٦ ـ (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي لستم من أهل العلم بالنجوم وعالمها كي تدركوا أن الله سبحانه ما أقسم بها إلا لعلمه بعظمتها ، وهنا يكمن السر لاعجاز القرآن حيث يستحيل على محمد (ص) أن يدرك بوعيه وثقافته ما في عالم النجوم من عجائب وغرائب ، ولما تقدم العلم اكتشف أن في الكون مجرات لا تعد ولا تحصى ، وان كل مجرة تمتد في الفضاء إلى ما شاء الله ، وعلى سبيل المثال قرأت في العدد الثالث من المجلد الأول لمجلة عالم الفكر الكويتية مقالا بعنوان غزو الفضاء للدكتور فؤاد صروف ، جاء فيه : «لو امتطينا صاروخا سرعته كسرعة الضوء أي ثلاث مائة ألف كيلومتر في الثانية لأستغرق السفر من طرف مجرة واحدة إلى طرفها الآخر مائة ألف سنة» هذه مجرة واحدة من ملايين وربما من ملايين البلايين ، وهنا ندرك السر في قوله تعالى : ان القسم بالنجوم عظيم لو تعلمون ما هو عالم النجوم. وبعد فهل القرآن من محمد أو من خالق الكون ونجومه؟.

٧٧ ـ ٨٠ ـ (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) هو كريم وعظيم بعقيدته التي تحتم التسليم لله والحق وحده ، وبشريعته التي تقيس الإنسان بعمله ، ولا ترى له من فضل على غيره إلا أن يترك لأخيه الإنسان شيئا جديدا ومفيدا ، وهو أيضا في كتاب مكنون أي في حصن حصين من التحريف ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو طاهر في نفسه مطهر من الرذائل والجرائم لمن آمن به وعمل ولذا لا يسوغ بحال أن يمسه أحد من بني الإنسان إلا الذين تطهروا من الأحداث المعروفة. ثم أخبر سبحانه أن القرآن من الله لا من سواه ، ووجه هذا السؤال للمكذبين :

٨١ ـ (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) المراد بالحديث هنا القرآن ، والمعنى كيف تتهاونون بالقرآن أو ترتابون فيه ، وهو حجة لازمة وكافية على كل عالم وعاقل لما فيه من دلائل واضحة ترشده إلى الغاية الأولى من وجوده وحياته؟

٨٢ ـ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) المراد من الرزق هنا الحظ أي أتجعلون حظكم من القرآن التكذيب به؟

٨٣ ـ ٨٤ ـ (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) إذا خرجت الروح من جسد أحدكم ـ أيها المشككون في البعث ـ أو كادت فهل يستطيع أن يردها إليه أو يبقيها فيه؟

٨٥ ـ (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) هذا تعبير عن قدرة الله سبحانه على البعث ، لأنه هو الذي يضع الروح في الجسم ويخرجها منه ومن قدر على ذلك يقدر على إعادتها إلى الجسم مرة ثانية ٨٦ ـ ٨٧ ـ (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها) إذا كنتم غير مبعوثين ولا مسؤولين عن شيء فادفعوا الموت عن أنفسكم أو أرجعوا أرواحكم إلى أجسادكم بعد الموت إن كنتم صادقين فيما تدعون ، والهدف الأول من ذلك إظهار عجزهم ، وانهم في قبضة الله تعالى حياة وموتا وبعثا ، وعليهم أن يستسلموا لأمره ، ويؤمنوا بقوله ٨٨ ـ (فَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفى (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ختم سبحانه هذه السورة بما ابتدأها من آيات ، وكررها بأسلوب

٧١٧

آخر لفظا وتقديما وتأخيرا ، وخلاصتها أن الذي يلقى ربه غدا إن كان من المقربين وهم الصنف الثالث في الآيات الأولى.

٨٩ ـ (فَرَوْحٌ) راحة ورحمة (وَرَيْحانٌ) طيب ينعش الأرواح.

٩٠ ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) وهم الصنف الأول في الآيات السابقة.

٩١ ـ (فَسَلامٌ لَكَ) تقول له ملائكة الرحمة : سلام لك ولا بأس عليك ، لأنك من أصحاب اليمين.

٩٢ ـ ٩٤ ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) بالبعث الضالين عن الحق والهداية ، فتقول له زبانية جهنم : تفضل إلى طعام الزقوم وشراب الحميم.

٩٥ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) الذي كنت تراه بالأمس خرافة وسخافة! فهل هو خرافة أم الخرافة في عقلك وشعورك.؟.

سورة الحديد

مدنيّة وهي تسع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كل كائن علوي أو سفلي هو آية تقول بلسان الحال أو المقال : لا إله إلا الله ، وكلمة التوحيد تهليل وتسبيح وتحميد.

٢ ـ (لَهُ مُلْكُ ...) بقدرته تعالى على كل شيء ملك الأرض والسموات ، وأحيى وأمات.

٣ ـ (هُوَ الْأَوَّلُ) بلا ابتداء كان قبله ، ومنه ابتدأ كل شيء (وَالْآخِرُ) بلا انتهاء يكون بعده ، وإليه ينتهي كل شيء (وَالظَّاهِرُ) بالأفعال والآثار التي توقظ العقول وتشدها إلى الإيمان بعظمته (وَالْباطِنُ) لا تحيط العقول والأوهام بكنهه وحقيقته.

٤ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي أطوار أو دفعات ، وتقدم في ٦ آيات ، منها الآية ٥٤ من الأعراف (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) المراد بالاستواء الاستيلاء ، وبالعرش الملك ، وتقدم في ست آيات منها الآية

___________________________________

الإعراب : (فَنُزُلٌ) مبتدأ والخبر محذوف أي فله نزل. و (حَقُّ الْيَقِينِ) من باب اضافة الشيء الى نفسه او الصفة إلى الموصوف مثل مسجد الجامع. (سَبَّحَ لِلَّهِ) «لله» اللام زائدة إعرابا مثل شكرت له ونصحت له أي شكرته ونصحته. ويجوز أن تكون اللام أصلا على معنى سبّح تسبيحا خالصا لوجه الله. وقد استعملت «ما» هنا في جميع الكائنات العاقلة وغير العاقلة.

٧١٨

٥٤ من الأعراف (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) ما في أعماقها من ثروات وطاقات يصنع منها قوى الشر قنابلهم النووية لإبادة البشرية (وَ) أيضا يعلم سبحانه (ما يَخْرُجُ مِنْها) كالنفط وغيره من المعادن ، وأيضا يعلم أين يذهب وفي أي شيء يصرف ، ولا مفرّ من الحساب والعقاب غدا أو بعد غد (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من خيرات (وَما يَعْرُجُ فِيها) كالطائرات التي تحمل القنابل لتلقيها على الآمنين ، والأقمار الصناعية التي تدرس ثروات الأرض لاغتصابها واحتكارها ، وأخرى تستعمل في أغراض التجسس على عباد الله وعياله ، وفي مجلة الحوادث البيروتية تاريخ ١٠ ـ ٢ ـ ١٩٧٨ : يدور الآن فوق رؤوسنا ٥ آلاف قمر صناعي على الدوام (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ان حقوق الإنسان لن تذهب هدرا ، والمعتدون عليها لن يفلتوا من الحساب والعقاب ، وإن تسلحوا بالنار والحديد وملكوا المصانع والمفاعل النووية ، فإن سلاح الحق أقوى وأمضى من كل سلاح.

٥ ـ (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) هذا تهديد ووعيد لكل طاغ وباغ بأن أعماله محفوظة عند الله ، وأنه مرتهن بها ومحاسب عليها.

٦ ـ (يُولِجُ اللَّيْلَ ...) تتحرك الأفلاك ، وتتعدد الفصول ، فيطول النهار ويقصر الليل في فصل ، وتنعكس الآية في فصل ، ويتساويان في بعض الأيام ، وتقدم في العديد من الآيات ، منها في الآية ٢٧ من آل عمران.

٧ ـ (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) إذا ملّك الإنسان شيئا لآخر تنقطع الصلة بينه وبين ما كان يملك ، ويصبح أجنبيا عنه ، سواء أكان التمليك بعوض أم بالمجان ، أما الخالق الرازق إذا منح ووهب فيبقى الشيء الموهوب والممنوح في قبضته تعالى أكثر مما هو في قبضة الموهوب له ، لأن العبد وما ملكت يداه في قبضة مولاه ، ولا يسوغ له التصرف إلا في الجهة المأذون بها ، وهذا هو المراد بمستخلفين ، وفي الآية ٣٣ من النور (آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ) وعليه تكون صلة الأغنياء بأموالهم صلة الوكيل الأمين لا صلة المالك المستبد (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) على الطاعة والوفاء بالعهد والأمانة في الإنفاق من مال الله على عيال الله.

٨ ـ (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ ...) هذا السؤال موجّه لكل من كفر بالله والرسول واليوم الآخر ، ومؤداه أن الرسول قد دعاكم إلى الإيمان بالحق ، وأقام عليكم الحجج والبراهين ، والله سبحانه قد أودع فيكم عقلا لو أحسنتم استعماله لأدّى بكم إلى الإيمان ، وهذا هو المراد بالميثاق هنا (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن أردتم الإيمان بالحق ، وسعيتم له سعيه.

٩ ـ (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ) حججا واضحات ليخرج الناس من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، هذي هي رسالة محمد ، وهذا هو الإسلام : القضاء على الجهل والتقليد ، والعمل بالعلم والعقل ، فهل بعد هذا يقال : ما الدليل على أن الإسلام حق؟ إن الإسلام هو الحق والعدل والصدق يستدل به ولا يستدل عليه لأنه يحمل في طبيعته وأصل تكوينه الدليل الكافي على صدقه.

١٠ ـ (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا شيء للإنسان من ماله إلا ما أكل فأفنى ، أو ليس فأبلى ، أو تصدق فأمضى كما في الحديث ، وما عدا ذلك فللوارث والحوادث ، فإذا فني الناس ، كل الناس ،

٧١٩

فالله سبحانه هو الوارث الوحيد ، وإذن علام الإمساك عن الإنفاق في سبيل الله؟ (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) المراد بالفتح هنا فتح مكة ، والطرف الآخر لعدم المساواة محذوف لدلالة الكلام عليه ، والمعنى فرق بعيد من حيث المكانة عند الله بين من جاهد بنفسه وماله في سبيل الله قبل فتح مكة حيث كان الإسلام ضعيفا ، وبين من جاهد بعد هذا الفتح حيث أصبح الإسلام ذا عزة ومناعة ، وبكلمة فرق بعيد بين اخوان الضيق واخوان الرخاء. (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) لكل من الباذل السابق واللاحق أجر ، ولكن تبعا لما ترك بذله من آثار ، فقد تكون الصدقة بدرهم واحد أعظم أجرا عند الله من الصدقة بألف إذا صادف الدرهم معدة جائعة ، وأعطى الألف لمن يتركه ميراثا للأبناء والأصهار (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) ـ ٣٢ المائدة».

١١ ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وتسأل : المال مال الله ، والفقراء عيال الله ، والأغنياء وكلاء الله على عياله ، وعليه فلا وجه للقرض؟ الجواب : الغرض من التعبير بالقرض أن يخرج المنفق زكاة أمواله خالصة لوجه الله ، وعن طيب نفس من غير منّ ولا أذى.

١٢ ـ (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) يتولد غدا من البذل والجهاد لوجه الله والحق نور يشع بين يدي الباذل المجاهد وعن يمينه وشماله تماما كما تتولد الكهرباء من آلاتها ومفاعلها (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ ...) يخرج غدا المخلصون من قبورهم ، ونور الإخلاص يكشف لهم طريق الإيمان ، وقبل أن يصلوا إلى الغاية يأتيهم النداء : ابشروا بالجنة.

١٣ ـ (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) الإيمان نور ، والنفاق ظلام ، ولذا يسرع المؤمنون في خطاهم إلى الجنة ، ويمشي المنافقون كالأعمى. فيقول المنافقون للمؤمنين : تمهلوا لنسير على نوركم ، فتقول لهم الملائكة : (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) ارجعوا إلى الشيطان اقتبسوا من نوره ، فقد كان رائدكم في الدنيا وقائدكم (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) السور : الحاجز ، والرحمة هنا : الجنة ، وقبله : جهته ، والعذاب : جهنم ، وغدا يفصل بين المؤمنين الأخيار والمنافقين الأشرار بسور ، له جهتان : جهة باطنة وفيها الجنة يدخلها المؤمنون من باب السور ، وجهة ظاهرة تليها النار وفيها أهل الشر والنفاق.

١٤ ـ (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) المنافقون في النار ينادون المؤمنين قائلين : نحن وأنتم كنا نقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فلما ذا أنتم في الجنة ونحن في النار؟ (قالُوا) أي المؤمنون للمنافقين : (بَلى) ولكن اتخذتم

___________________________________

الإعراب : (ما لَكُمْ) مبتدأ وخبر لأن معناه أي شيء حدث لكم؟ والمصدر من (أَلَّا تُنْفِقُوا) مجرور بحرف جر مقدر أي في عدم الإنفاق ، ويتعلق بما تعلق به لكم. و (مَنْ أَنْفَقَ) «من» فاعل لا يستوي. وفي الكلام حذف ، أي ومن أنفق بعد الفتح. و (كُلًّا) مفعول أول لوعد ، و (الْحُسْنى) مفعول ثان. و (مَنْ) مبتدأ و (ذَا) خبر و (الَّذِي) بدل من ذا.

٧٢٠