التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

٦ ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ) إشارة إلى المشاهد والدلائل الحسية على وجود الخالق وقدرته (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) بمنهج العلم القائم على النظر بالحس والاستنباط بالعقل (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) من لا ينتفع ببيان الله ، ولا يقتنع بحجته فلا جدوى من تذكيره وتحذيره.

٧ ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) في أقواله (أَثِيمٍ) في أفعاله.

٨ ـ (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ) ترشده إلى الخير وتأمره به ، تدله على الشر وتنهاه عنه (ثُمَّ يُصِرُّ) على شقائه وكبريائه.

٩ ـ ١٠ ـ (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) إذا سمع آية من القرآن سخر وطعن ، وهكذا الحسود الحقود على كل فضيلة ومكرمة ، ولكن سهمه يرد إلى نحره. قيل لعالم معاصر لإمام المتقين وسيد الساجدين : ما رأيك بعلي بن الحسين؟ قال : ما رأيت له صديقا في الباطن ، ولا عدوا في الظاهر. قيل له : وكيف ذلك؟ فقال : الصديق يحسده على فضله ، وحسد الصديق من سقم المودة ، والعدو لا يجد فيه ما يقال كي يتشبث به (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) إليها مصيرهم ، لا ينجيهم منها مال ولا بنون ولا ما كانوا يعبدون من دون الله.

١١ ـ (هذا هُدىً) إشارة إلى القرآن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) وهي الأدلة الكونية على وجود الله وعظمته (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) أي أشد العذاب.

١٢ ـ ١٣ ـ (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ...) نعم الله على عباده لا يبلغها عد ولا إحصاء ، وأشار سبحانه هنا إلى شيء منها كي نتدبر ونؤمن ، ونذكر ونشكر ، وتقدم مرات ، منها في الآية ٣٢ وما بعدها من إبراهيم.

اللغة : أفاك كثير الكذب. وأثيم كثير الإثم. ويطلق الرجز على معان ، منها القذر والانحراف عن الحق الى الباطل ومنها شدة العذاب وهذا المعنى هو المراد من الرجز في الآية ، أي عذاب من النوع الشديد الأليم. وتطلق ايام الله على ايام نعمته ونقمته.

___________________________________

الإعراب : (مُسْتَكْبِراً) حال من ضمير يصر (كَأَنْ) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي كأنه وأليم بالرفع صفة لعذاب.

٦٦١

١٤ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) لا يتوقعون أن ينتقم الله منهم على بغيهم وضلالهم ، نزلت هذه الآية في ابتداء الإسلام حيث لا قوة رادعة للمسلمين ، ولا وسيلة للمستضعف منهم إلا الصمود على العقيدة والصبر على الأذى في سبيلها حتى يأتي نصر الله والفتح ، وقد علمتنا التجارب أن مقاومة الضعيف تأتي دائما لمصلحة القوي ، ولذا قيل : من لم يصبر على كلمة سمع كلمات.

١٥ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ...) واضح ، وتقدم في الآية ٤٦ من فصلت وغيرها.

١٦ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) التوراة والإنجيل ، لأن عيسى (ع) من بني إسرائيل (وَالْحُكْمَ) أيام داود وسليمان (وَالنُّبُوَّةَ) والكثير من أنبيائهم كالعلماء المسلمين (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ولما ظلموا ولم يشكروا حرمها الله عليهم بنص الآية ١٦٠ ـ ١٦١ من النساء : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) ولذلك لعنهم سبحانه في العديد من الآيات ، منها الآية ٤٧ و ٥٢ من النساء (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) بإرسال الأنبياء منهم لإلقاء الحجة عليهم.

١٧ ـ (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) بيّن سبحانه لبني إسرائيل كل ما يحتاجون إليه من أمور الدين ، وأقام عليهم الحجة التي لا تدع وسيلة للاختلاف ، ومع ذلك اختلفوا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي حرفوا وزيّفوا كلام الله تبعا لأهوائهم كما في الآية ٤٦ من النساء : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ...) واضح ، وتقدم في الآية ٩٣ من يونس.

١٨ ـ (ثُمَّ جَعَلْناكَ) يا محمد (عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) لقد منّ الله عليك بالقرآن ، وأيضا منّ به وبك على المؤمنين ، وهو بشريعته وأحكامه كاف واف ، فتمسك به أنت ومن اتبعك ، ودع من ضلّ وعاند بعد أن تقيم الحجة عليهم.

١٩ ـ (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) لا خير ترجوه منهم ولا أمل فيهم (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) لا ينصرون أهل الحق والخير ، وينصر بعضهم بعضا على

___________________________________

الإعراب : وجميعا حال من (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). وضمير منه يعود على الله سبحانه والمجرور متعلق بمحذوف صفة للجميع. ويغفروا مجزوم بجواب أمر محذوف أي قل لهم : اغفروا يغفروا. فلنفسه متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي فنفع صلاحه عائد لنفسه. فعليها أيضا خبر لمبتدأ محذوف أي فضرر إساءته عائد عليها. (بَغْياً) مفعول من أجله لاختلفوا و (شَيْئاً). مفعول مطلق ليغنوا أي شيئا من الإغناء.

٦٦٢

الشر والضلال ، ومآلهم إلى الضياع والوبال (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) ينصرهم دنيا وآخرة.

٢٠ ـ (هذا) القرآن (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) الطيبين يبصرون به ويهتدون إلى كل خير ، ويخصهم الله بفضله ورحمته.

٢١ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) عملوها وكسبوها (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) المراد بالمحيا الدنيا ، وبالممات الآخرة ، وما من شك أن متاع الحياة الدنيا مباح لكل طالب وراغب مسيئا كان أم محسنا ، أما نعيم الآخرة فهو وقف على من أخلص في إيمانه ومقاصده ، وأحسن في أقواله ، وأصلح في أعماله حيث لا يستقيم في عدله تعالى أن يستوي مصير الطيب والخبيث والمحسن والمسيء.

٢٢ ـ (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) وأيضا يجزي المحسن والمسيء بالحق والعدل ، ويأخذه بعمله.

٢٣ ـ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) دينه دنياه ، وترفه عقله وهداه ، وتقدم في الآية ٤٣ من الفرقان (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) أمره سبحانه ونهاه ، فعصى وتمرد ، فتخلى عنه بعد أن علم إصراره على العمى والضلال ، وعبّر سبحانه عن هذا التخلي والخذلان بالإضلال والختم على السمع والقلب والبصر ، وسبق أكثر من مرة أن الله يشرع الأحكام ، ويترك التنفيذ لإرادة الإنسان حرصا على حريته.

٢٤ ـ (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ...) إلا أيام تنطوي وتمضي ، وما فات من العمر لا ترجى رجعته (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) هم يعلمون أن من مات فقد فاتته الحياة الدنيا ، أما حديثهم عن الآخرة وإنكارهم لها فرجم بالغيب ـ.

٢٥ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) الدالة على إمكان البعث (قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) الأموات ، وهذا شرود عن البعث ، لأنه في الآخرة ، وهم يطلبونه في الدنيا ، وتقدم في الآية ٣٦ من الدخان.

___________________________________

الإعراب : (أَمْ حَسِبَ) «أم» للإضراب أي بل أحسب. والمصدر من أن نجعلهم ساد مسد مفعولي حسب. و (سَواءً) مفعول ثان ل (نَجْعَلَهُمْ). و (مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) فاعل سواء لأنه بمعنى مستو. وما يحكمون «ما» مصدرية والمصدر المنسبك فاعل ساء. وعلى علم حال. وان هم «ان» نافية. والمصدر من ان قالوا خبر كان.

٦٦٣

٢٦ ـ (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) كما ترون بالحس والعيان ، فكذلك قادر على أن يحييكم بعد الموت (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وإحياء العظام وهي شيء رميم أهون وأيسر من إيجادها من لا شيء.

٢٧ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تنفذ مشيئته في ملكه إيجادا وإعداما ، ثم إعادة للخلق يوم القيامة لينتقم من المبطلين ، ويحسن للمحقين بجنات النعيم.

٢٨ ـ (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) باركة على الركب ، تنتظر الحساب والجزاء (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) إلى صحيفة عملها.

٢٩ ـ (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) وما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

٣٠ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فلهم أعلى الدرجات.

٣١ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فلهم الويلات والحسرات ، وتقدم مرات ، منها في الآية ٥٦ ـ ٥٧ من النساء.

٣٢ ـ (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) إذا قال المؤمنون بالساعة للجاحدين بها : إنها آتية لا محالة ـ قال الكافرون : (ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) لا نعرف عنها شيئا ، ولا نظن أن القيامة قائمة.

٣٣ ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) سخروا من يوم القيامة وعذابه ، فكانوا لجهنم حطبا.

اشارة :

قال الكافرون : لسنا على يقين من البعث ، ولا نعرف عنه شيئا سوى الظن ، فأتونا بما يدل عليه. وتسأل : ان الله سبحانه حكى عنهم في الآية ٢٤ من هذه لسورة انهم نفوا البعث بلسان الجزم كما يدل قولهم : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ثم حكى عنهم هنا انهم يظنون ظنا وما هم بمستيقنين أي انهم لا يجزمون في أمر البعث سلبا ولا إيجابا ،

___________________________________

الإعراب : (يَوْمَ) متعلق ب (يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ). (وَيَوْمَئِذٍ) بدل من يوم. اليوم تجزون أي يقال لهم : اليوم تجزون. أفلم تكن آياتي أي يقال لهم : أفلم تكن الخ.

٦٦٤

٣٤ ـ (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) يودعهم سبحانه في جهنم ، ويوكل عذابهم إليها وحدها ، ويهملهم إلى ما شاء وتقدم في الآية ٥١ من الاعراف.

٣٥ ـ (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) ذلكم إشارة إلى العذاب ، والمعنى أن السبب الموجب لإهمالنا ومعاملتنا لكم معاملة الناسي هو ركونكم إلى الأهواء والأغراض ، واستخفافكم برسول الله وكتابه وبكل حق أيا كان مصدره ودليله (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يطلب منهم أن يتوبوا ويسترضوا الله سبحانه بقول أو فعل ، لأن الآخرة للحساب والجزاء لا للعمل والاسترضاء.

٣٦ ـ (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ) ذي الجلال والإنعام ، وصلّى الله على من لا نبي بعده وآله الكرام.

سورة الأحقاف

مكيّة وهي خمس وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ ٢ ـ (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) نزل القرآن الكريم على قلب الصادق الأمين من عزة الجلال وحكمة الكمال.

اشارة :

كان تقديس الأصنام وعبادتها جزءا من حياة الناس منذ عهد نوح الى عهد الرسول الأعظم (ص) ، وبينهما آلاف السنين ... وحتى في عصرنا هذا ، عصر الفضاء ، تنتشر الوثنية في شرق الأرض وغربها .. وهل هذه التماثيل القائمة الآن في المعابد وعلى مفارق الطرق ورؤوس الجبال ، وهذه الرسوم على الجدران وفي المفكرات وهنا وهناك ، والتي تحكي الآلهة بزعم الزاعمين ، هل تقديس تلك التماثيل وهذه الرسوم إلا ضرب من الوثنية وعبادة الأصنام؟ ... وهنا يكمن السر لاهتمام الإسلام والقرآن في الرد على عبدة الأوثان ، وتتجلى عظمة محمد (ص) في تكريم الإنسان وتنزيهه عن عبادة ما صنعت يداه.

___________________________________

الإعراب : من قبل هذا متعلق بمحذوف صفة لكتاب أي بكتاب منزل من قبل هذا.

٦٦٥

٣ ـ (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) الكون من لدن حكيم خبير لا من الصدقة العشوائية (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أمد معين لزواله وفنائه.

٤ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الكون بمن وما فيه من خلق الله ، فأروني ما ذا خلق الذين من دونه واعبدوا ما شئتم (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) هل للأصنام أو لغيرهم نصيب في خلق السموات والأرض؟ (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) القرآن يقول : الأصنام يشاركون الله في خلقه (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) المراد بالاثارة البقية أو الشيء ، وبالعلم الدليل ، والمعنى إذا لم ينزل الوحي بأن لله شريكا فهل في الكون دليل واحد على وجوده؟ وتقدم في الآية ٤٠ من فاطر.

٥ ـ (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ...) لا أحد أكثر جهالة وضلالة من الذي يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع شيئا.

٦ ـ (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) يوم القيامة للحساب تبرأ المعبود المزعوم ممن كان يعبده والمضل مما كان يضله ، وتقدم في الآية ٢٨ من يونس.

٧ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ...) إذا قرئ القرآن على الكافرين بالحق والمعاندين له ـ نعتوه بالسحر وتقدم في الآية ٧ من الأنعام وغيرها.

٨ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) قال المعاندون : محمد يفتري على الله بقرآنه ، فأمره سبحانه أن يقول لهم : كيف أفتري على الله وأنا على علم اليقين بأنه لا أحد يجيرني من غضبه وعذابه إن كذبت عليه وافتريت (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) لا تخفى على الله خافية من أقوالكم وأفعالكم ، وأنتم عنها مسؤولون وعليها معاقبون.

___________________________________

الإعراب : أو أثارة عطف على كتاب. و (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ) مفعول يدعو. وضمير «هم» يعود إلى الأصنام. وعن دعائهم متعلق بغافلين ، وبعبادتهم متعلق بكافرين. (بَيِّناتٍ) حال من (آياتُنا). و (كَفَرُوا لِلْحَقِ) اللام للتعدية والمجرور متعلق بقال لا بكفروا مثل قال له. أم يقولون «أم» للاستفهام. كفى به شهيدا الباء زائدة والضمير فاعل أي كفى الله شهيدا ، وشهيدا تمييز بيني وبينكم بمنزلة الكلمة الواحدة أي بيننا.

٦٦٦

٩ ـ (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) لست بأول رسول للحق إلى الخلق حتى قامت قيامتكم ولم تقعد (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) في الحياة الدنيا ، لأن النصر بيد الله العزيز الحكيم ، وقد نصر الله عبده محمدا ، وأظهر دينه على الشرك كله.

١٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أيها الكافرون بالقرآن (إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) ما ذا تظنون أن يصنع الله بكم إن كان القرآن حقا وصدقا؟ ولما ذا تظلمون أنفسكم؟ (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ) ضمير مثله للقرآن ، والمعنى أن عالما من بني إسرائيل شهد بأن تعاليم القرآن تماما مثل تعاليم التوراة التي أنزلها الله على موسى ، ولذا آمن بالقرآن ونبوة محمد (ص) هذا العالم المنصف (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أيها المشركون عن الإيمان بالحق.

١١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) آمن بمحمد والقرآن الفقراء والمساكين كبلال وعمار وصهيب وخباب ، ومعنى هذا في منطق عتاة البغي أن القرآن لا خير فيه ، ولم تمض أيام حتى داس هؤلاء المستضعفون الأصنام بالأقدام ، واعتلى العبد الحبشي بلال ظهر الكعبة ينادي : لا إله إلا الله محمد رسول الله (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) لم يؤمنوا بالقرآن (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) خرافة وأساطير الأولين ، ولما ذا القرآن الخرافة عند هؤلاء؟ أبدا لا لشيء إلا لأنه لا ينطق عن جهلهم وأهوائهم.

١٢ ـ (وَمِنْ قَبْلِهِ) من قبل القرآن (كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا) القرآن (كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) القرآن كالتوراة التي نزلت على موسى ، كل منهما إمام يهدي للتي هي أقوم ، ورحمة لمن آمن به وعمل بموجبه.

١٣ ـ ١٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) تحدد هذه الآية المتقين حقا وواقعا ، بالإيمان والعمل بموجبه ، بالخوف من الله ، وانعكاس هذا الخوف في شيء محسوس وملموس ، أما جزاء هذا الخوف في الدنيا فهو الأمن من الخوف في الآخرة كما قال سبحانه : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ...) وتقدم في الآية ٣٠ من فصلت.

___________________________________

الإعراب : وما أدري «ما» نافية. ما يفعل بي «ما» مبتدأ والخبر يفعل. (وَمِنْ قَبْلِهِ) متعلق بمحذوف خبرا لكتاب موسى أي وكتاب موسى كائن من قبله. و (إِماماً) حال من الضمير في كائن. و (لِساناً) حال من الضمير في مصدق. والمصدر من لينذر متعلق بمصدق و (بُشْرى) عطف على المصدر المنسبك أي للإنذار والتبشير. (خالِدِينَ) حال من ضمير أصحاب. و (جَزاءً) نصب على المصدر أي يجزون جزاء.

٦٦٧

١٥ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) المراد بالإحسان هنا ضد الإساءة بما يجرح النفس ويزعجها (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) قاست الكثير من التعب والمشقة والكرب والحرج في حمله ووضعه وحضانته ، وتقدم في الآية ٢٣ الإسراء وغيرها (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) قال ابن كثير في تفسيره والشيخ المراغي : إن عليّ بن أبي طالب (ع) أول من استنبط من القرآن أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، فقد شكا رجل لعثمان بن عفان أن زوجته ولدت لستة أشهر ، فأمر برجمها فرجمت حتى الموت. فأتاه الإمام عليّ وقال له : أما تقرأ القرآن؟ قال : بلى. قال عليّ : إن الله يقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) ويقول : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) ـ ٢٣٣ البقرة» فلم يبق بعد الحولين إلا ستة أشهر. قال عثمان : والله ما فطنت لهذا. (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) منتهى القوة ، وهو جمع بلا واحد أو واحد بصيغة الجمع كما في كتب اللغة (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وفي هذه السن تكتمل قوة الإدراك ، وتنمو بالتعلم والتجارب (قالَ) كل من بلغ سن الأربعين بلسان المقال أو الحال إن يك من أهل الخير والصلاح : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) ألهمني ووفقني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) وأهمها نعمة الدين والهداية إلى الحق ، وهذه الآية واضحة ، وتقدمت في النمل رقم ١٩.

١٦ ـ (أُولئِكَ) إشارة إلى (الَّذِينَ) يقولون هذا القول (نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ) أي منهم (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) كل عمل لا يسيء به عامله إلى نفسه ولا إلى غيره فهو من أحسن أعماله (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) إن تابوا وأخلصوا (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) في بمعنى من ، والمجرور متعلق محذوف في محل نصب على الحال أي كائنين من أصحاب الجنة (وَعْدَ الصِّدْقِ) منصوب على المصدر ، والمعنى وعد الله وعد الصدق.

١٧ ـ (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ...) لما ذكر سبحانه الولد المؤمن الصالح البار بوالديه الداعي لهما بالخير حيث أرشداه إلى الدين والإيمان ـ أشار إلى الولد الكافر الفاسد العاق بأبويه لا لشيء إلا لأنهما أرادا له الخير والهداية إلى سبيل النجاة وقالا له : آمن بالله وبالبعث وحسابه. فقال : (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) من قبري وأنا تراب ويباب (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) هل حدث ذلك لغيري في عصر من العصور الخالية؟ وتصدق هذه الآية على كثير من شباب الجيل المؤمن بالحرية الراقية المتفرنجة التي لا يحدها دين أو عقل أو خلق كريم؟ وهنا يكمن السبب الموجب للتصادم بين الآباء والأبناء ـ في الغالب ـ (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يسألانه الهداية لولدهما (وَيْلَكَ) الهلاك لك (آمِنْ) أن البعث والحساب حق لا ريب فيه (فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ومع الأيام تطورت هذه الكلمة إلى كلمة «رجعية». ويقال : إن الطب الحديث في مقدوره أن يجعل المولود ذكرا أو أنثى تبعا لاختيار الزوجين. وأتمنى لو أن في مقدور الطب أو علم آخر أن يجعل المولود كريما في أخلاقه ، كاملا في سلوكه ذكرا كان أم أنثى ... أبدا لا وسيلة إلا الإيمان والالتزام بدين من أرسله الله ليتمم مكارم الأخلاق.

١٨ ـ (أُولئِكَ) إشارة إلى من عاند الحق ، وأعرض عن دعوته (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ) ولهم العذاب الأليم.

٦٦٨

١٩ ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) لا مما لهم من جاه ومال ، ولا من لون ونسب ، ولا من لغة ومذهب ، بل مما عملوا بهذا النص القاطع. وقال بعض من ينتسب إلى الدين : إن الدرجات بمشيئة الله وكفى ، والاعتراض عليها زندقة وهرطقة. ونجيب : كل شيء بمشيئته تعالى ، ولكن هذه المشيئة القدسية قد تتعلق بشيء مطلق مثل آمنوا بالله واليوم الآخر ، وقد تتعلق بشيء مشروط ومقيد مثل حجوا إن استطعتم ، والرفع مقيد بالعمل الصالح بل هو تمام الموضوع بدليل قوله تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

٢٠ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي يعذبون فيها ، وتقول لهم ملائكة العذاب : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) تقلبتم في كل لذة وشهوة على حساب الفقراء والمساكين ، واستوفيتم الحظ الأوفر من متاع الحياة الدنيا (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) وهذا الخطاب للمتزعمين والمترفين وحدهم لأن غيرهم لا يملك جاها ولا مالا كي يشمخ به ويتعالى (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) وهذا يطرد ويشمل كل من يعبث بالقيم ، ويتلاعب بالشعارات ، ويتستر بالنفاق والرياء.

٢١ ـ (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) هودا (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) جمع حقف وهو الرمل المستطيل المرتفع وفيه انحناء ، وكانت عاد بين رمال مشرفة على البحر بالشجر من بلاد اليمن كما في جوامع الجامع (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) جاءت الرسل من قبل هود ومن بعده ، والدليل على أن المراد بخلت هنا جاءت قوله تعالى : (عادٍ وَثَمُودَ إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) ـ ١٤ فصلت».

٢٢ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) لتصدنا عن عبادة الأصنام ، إن هذا لشيء عجاب ، وهكذا تطغى العادة على كل تفكير. ومن هنا قيل : العادة طبيعة ثانية بخاصة إذا كانت موروثة أبا عن جد (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) عجّل بعذابك الموعود إن كان حقا وصدقا.

٢٣ ـ (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) لا أعلم أمد العذاب ولا نوعه ، إنما الغيب لله وحده.

٢٤ ـ ٢٥ ـ (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) نزل عليهم العذاب من السماء ، فظنوه غيثا وفرحوا به ، فقال

___________________________________

الإعراب : و (إِحْساناً) نصب على المصدر أي ان يحسن إحسانا ، و (كُرْهاً) صفة لمفعول مطلق محذوف أي حملا كرها أو حال أي كارهة. والمصدر من ان أشكر مفعول أوزعني. وصالحا صفة لمحذوف أي عملا صالحا. (وَعْدَ الصِّدْقِ) منصوب على المصدر أي وعد الله وعد الصدق. (وَالَّذِي) مبتدأ والمراد به الجنس لا شخص معين ، وأولئك الذين حق خبره. (أُفٍّ لَكُما) أف اسم فعل ولكما متعلق به. والمصدر من ان أخرج مجرور بباء محذوفة. (وَيْلَكَ) مفعول لفعل محذوف أي ألزمك الله الويل. و (لِيُوَفِّيَهُمْ) متعلق بمحذوف أي بعثناهم ليوفيهم. وجملة (أَذْهَبْتُمْ) مفعول لقول محذوف أي يقال لهم أذهبتم ألخ.

٦٦٩

لهم هود : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) قلتم : فأتنا بما تعدنا ، فجاءتكم ريح لا تبقي ولا تذر (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) خالية لا سميع فيها ولا بصير ، ونعوذ بالله من المخبآت والمفاجئات.

٢٦ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) الخطاب لعتاة قريش ، والمعنى أعطينا عادا ما لم نعطكم مثله من الأموال والأولاد ، ثم أهلكناهم بذنوبهم ، ألا تخشون أن يصيبكم ما أصابهم؟ (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً ...) كانت الأمم الماضية أيها المجرمون المعاندون لمحمد ، لهم سمع وبصر وعقل تماما كما لكم ، ولما عموا وصموا عن دعوة الحق أخذهم الله بما كسبوا ، وما أغنى عنهم بصر وبصيرة ، فاتعظوا بالعبر واعتبروا بالغير.

٢٧ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) الخطاب لمشركي مكة ، والمراد بالقرى أهلها ، وهم عاد وثمود ومن جاورهم (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بيّنا وكررنا ألوانا من الدلائل والعظات ، عسى أن يتعظوا ، فأبوا إلا كفورا ، فحقت كلمة العذاب على الكافرين.

٢٨ ـ (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ ...) عبدوا الأصنام يبتغون بها الوسيلة إلى الله! فإذا بها لا شيء (وَذلِكَ) إشارة إلى ضعف الأصنام وعدم جدواها (إِفْكُهُمْ) وافتراؤهم على الله ، وكل ذلك تقدم وتكرر.

٢٩ ـ (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ) يا محمد ، ومعنى انصرف إليك أقبل وتوجه نحوك ، وانصرف عنك انحرف وذهب (نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) فكرة وجود الجن لا يرفضها العقل ، وقد نزل بها الوحي فوجب التصديق ، وما أكثر ما نجهل من عوالم هذا الكون. وعلى أية حال فإن الله سبحانه قد دفع بنفر من الجن إلى الرسول الأعظم ليستمعوا إليه وهو يتلو القرآن (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) قال بعضهم لبعض : اسكتوا وتدبروا معانية وأهدافه (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) لما فرغ النبي (ص) من القراءة سارعوا إلى قومهم مبشرين بالإسلام.

___________________________________

الإعراب : (رِيحٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي هو ريح. (كَذلِكَ نَجْزِي) الكاف بمعنى مثل قائمة مقام المفعول المطلق أي مثل ذلك الجزاء نجزي مكناهم فيما إن «ما» بمعنى الذي و «إن» نافيه أي مكنا عادا من المال والقوة ما لم نمكنكم فيه يا قريش. وآلهة مفعول ثان لاتخذوا ، والمفعول الأول محذوف أي اتخذوهم. وقربانا مفعول من أجله أي اتخذوهم آلهة ليقربوهم الى الله مثل قوله تعالى حكاية عنهم ، (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) «٣ الزمر». (إِذْ) متعلقة بمحذوف أي واذكر إذ صرفنا. والهاء في (حَضَرُوهُ) للقرآن. و (مُصَدِّقاً) صفة لكتاب.

٦٧٠

٣٠ ـ و (قالُوا) لهم من جملة ما قالوا : (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ) التوراة يصدّق كل ما جاء به الأنبياء الأولون ، ويرشد إلى الحق والخير.

٣١ ـ (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) ترشدون وتؤجرون ، ولا يبقى عليكم من ذنب.

٣٢ ـ (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) ولا في السماء ، أبدا لا يفوته من طلب ، ولا يعجزه من هرب (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أولئك إشارة إلى الذين لم يستجيبوا لله ، وانهم ناكبون عن سواء السبيل.

٣٣ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) لم يعي ، لم يعجز ، والمعنى لا أحد يشك في وجود الكون أللهم إلا من يشك في أنه يشك ، ومثله تماما من يشك في إحياء الموتى ، لأن من خلق الكون بقدرته قادر على أن يخلق الحياة فيمن مات ، وتقدم مرات.

٣٤ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي يعذبون فيها ، فيقال توبيخا : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) متحقق وثابت بالفعل (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أنكروا حيث يضربهم الإنكار ، وأقروا حيث لا ينفعهم الإقرار ، والعاقل لا يجزم سلبا ولا إيجابا إلا على أساس ، وتقدم في الآية ٣٠ من الأنعام وغيرها.

٣٥ ـ (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) المعروف أن أولى العزم من الأنبياء خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. عليهم أفضل الصلوات ، وأطلق عليهم هذا الوصف. لأن لكل واحد منهم شريعة ، يستمر العمل بها إلى الشريعة اللاحقة. فتنسخ هذه السابقة حتى جاء النبي الذي لا نبي بعده ولا شريعة إلا شريعته التي لا انفصام لعروتها. ولا انقطاع لمدتها (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) العذاب يا محمد للذين كذبوا برسالتك (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) نهايتهم إلى العذاب لا محالة ، وإن طال الزمن حتى إذا رأوه

___________________________________

الإعراب : (يَغْفِرْ) مجزوم بجواب الأمر ، وهو آمنوا. (وَيُجِرْكُمْ) عطف على يغفر. ومن لا يجب «من» اسم شرط ولا يجب فعل الشرط ، وجوابه فليس بمعجزة والباء زائدة إعرابا ومعجز خبر ليس ، واسمها ضمير مستتر يعود الى من. (بِقادِرٍ) الباء زائدة إعرابا وقادر خبر إن الله الخ. (وَرَبِّنا) الواو للقسم. و (بَلاغٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي هو بلاغ أو الذي وعظتم به بلاغ.

٦٧١

ظنوا أنهم (لَمْ يَلْبَثُوا) في الحياة الدنيا (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) من شدة الفزع وهول المطلع (بَلاغٌ) هذا الذي حدثكم القرآن عنه ، ووعظكم به هو بلاغ كاف واف لمن طلب الرشد والهداية ، وعليه فلا يهلك إلا من ألقى بنفسه وسوء اختياره إلى التهلكة.

سورة محمّد

عليه‌السلام مدنيّة وهي ثمان وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) من أعرض عن الإسلام ، ومنع الناس أن يسلموا فلا يقبل الله من عمله شيئا.

٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اطمأنت قلوبهم بالإيمان ، وانقادت إلى العمل بموجبه طوعا لا كرها (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) هذا شرط لازم لصحة القرآن ، ودليل واضح على أن الله لا يقبل الإيمان به إلا مقرونا مع الإيمان بالقرآن «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وأكد سبحانه ذلك بقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) والذين آمنوا بهذا الحق ـ أي القرآن ـ وعملوا به (كَفَّرَ) الله (عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) شأنهم ، أما إذا آمنوا بالقرآن قولا لا عملا واستولى عليهم الجهل والذل والفساد ، فالذنب ذنبهم لا ذنب القرآن والإسلام.

٣ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى ثواب الصالحين ، وعقاب المجرمين (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) فخذلهم سبحانه ، وأبعدهم عن رحمته (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) قولا وعملا ، فنصرهم ، وشملهم بعنايته وحراسته (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) يبين سبحانه مصير من أحسن ، ومن أساء بضرب الأمثال ترهيبا وترغيبا.

٤ ـ ٦ ـ (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذه الآية من آيات الجهاد وقتال المعتدين الطغاة بدليل قوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) ـ ١٩٣ البقرة» (فَضَرْبَ

اللغة يطلق البال على القلب تقول : خطر ببالي أي بقلبي أو بذهني ، ويطلق على الشأن والحال ، وهذا هو المراد هنا.

___________________________________

الإعراب : (ذلِكَ) مبتدأ و (بِأَنَّ الَّذِينَ) الخ متعلق بمحذوف خبرا أي ذلك كائن بسبب اتباعهم الباطل. فضرب الرقاب مصدر منصوب نائب مناب فعل أمر محذوف. والأصل فاضربوا الرقاب ضربا.

٦٧٢

الرِّقابِ) احصدوا أعداء الإنسان الكافرين بقيمة الإنسانية ، ولا تأخذكم في دين الله وحق الإنسان رأفة ولا هوادة (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) إذا أكثرتم فيهم القتل والأسر ، وظفرتم بهم فأحكموا وثاق الأسير كيلا يفر (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أما إطلاق الأسير بعوض أو بدونه فتقديره إليكم تبعا للحكمة والمصلحة (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) حتى يستسلم العدو ويلقي السلاح (ذلِكَ) إشارة إلى جهاد قوى البغي والشر (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) ولو أراد سبحانه لا لانتقم من الأشرار بلا جهاد وقتال ، ولكنه شرع الجهاد بالأنفس والأموال ليميز بين أنصار الخير والحق وأهل الباطل والضلال. واقرأ معي هذه الآية : (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ... (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ـ ٢٤٦ البقرة».

٧ ـ ٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) قال الإمام عليّ (ع) : القرآن حمال ذو وجوه. وعليه يسوغ لنا أن نفسّر هذه الآية بأن الجزاء من جنس العمل ، على وجه العموم ، فيكون المعنى من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، وهل من أحد يشك في أن تعاضد المسلمين قولا وعملا ، وتعاونهم على ما فيه النفع والصلاح للجميع هو خير وانتصار لدين الله؟ وأيضا هل من شك في أنهم لو فعلوا ذلك لكان لهم واسع الملك وقوة السلطان؟ وهل تقاس هيبة الدين وسلطته إلا بقوة أهله وتقدمهم؟ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) هلاكا لهم يوم القيامة (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) لا تعود عليهم بخير.

٩ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) انحرفوا عن جادة الحق (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) لا خير فيها ولا جدوى من ورائها.

١٠ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) تقدم مرارا منها في الآية ١٠٩ من يوسف.

١١ ـ ١٢ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) المولى : الناصر ، ونادى أبو سفيان وهو يحارب المسلمين : لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي (ص) للصحابة قولوا له : الله مولانا ولا مولى لكم ، وتقدم في الآية ٢٥٧ من البقرة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) في الحياة الدنيا (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) هي في غفلة عن الذبح ، وهم في غفلة عن النار التي هي مثواهم وبئس القرار.

___________________________________

الإعراب : وكل من «منا» و «فداء» نائب مناب فعل محذوف ، والأصل إما تمنون منا وإما تفادون فداء. و (الَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ والخبر فعل مضمرة أي فأتعسناهم (فَتَعْساً).

٦٧٣

١٣ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ) هذا تهديد للذين تآمروا على اغتيال الرسول الأعظم (ص) واضطروه إلى الهجرة ، وتقدم في الآية ٣٠ من الأنفال.

١٤ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ...) ليس سواء من أخذ الحق من معدنه ، ويصدر عنه في جميع تصرفاته ، ومن قاس كل ما في الوجود بالملذات والنقود.

١٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وهم الذين يتركون معاصي الله في الخلوات (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) باق على طبيعته وصفائه بلا تغيير وتلويث وتكدير (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) وأيضا لم تستخرج دسومته كاللبن الذي نشتريه من الأسواق (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) هي خمر بالاسم فقط ، لأنها لا تسكر ، وفي كتب اللغة الخمر : كل شراب مسكر ، وفي الحديث النبوي «كل مسكر حرام ، وكل مسكر خمر» ومعنى هذا أن غير المسكر ليس بخمر (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) صاف وخال من الشمع وغيره (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) وكل الملذات الروحية والمادية ، وفوق ذلك لا ألم أي لا خوف وقتال ، ولا همّ وعيال ، وشغل الفكر والبال ، ومن هنا قال كثير من الفلاسفة : لا معنى للذة إلا عدم الألم (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) في الكلام حذف دلّ عليه السياق ، والتقدير أفمن هو خالد في الجنة كمن هو خالد في النار لا يستوون.

١٦ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) يا محمد ، كان المنافقون يحضرون مجلس النبي (ص) ويستمعون منه حتى إذا خرجوا قالوا ، ساخرين لبعض من كان حاضرا من علماء أهل الكتاب : نحن لم نفهم ما ذا قال محمد ، فهل فهمتم

___________________________________

الإعراب : (وَكَأَيِّنْ). بمعنى كم ، ومحلها الرفع بالابتداء وجملة (أَهْلَكْناهُمْ) خبر. وضمير الغائب في أهلكناهم يعود الى أهل القرية. (أَفَمَنْ) مبتدأ وكمن خبر. (مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ أول وأنهار مبتدأ ثان وفيها خبره والجملة خبر الأول ، وقيل : خبر مثل الجنة محذوف تقديره ما أتلوه عليكم من أوصافها. (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي أنواع من كل الثمرات. و (مَغْفِرَةٌ) مبتدأ والخبر محذوف أي ولهم مغفرة ومن ربهم متعلق بمغفرة. كمن هو خالد في النار خبر لمبتدأ محذوف أي : أمن هو خالد في الجنة آمن هو خالد في النار ... آنفا ظرف زمان عند الزمخشري وحال عند أبي حيان الأندلسى. أي قريبا.

٦٧٤

أنتم شيئا (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) يأمر سبحانه العبد بالخير ، وينهاه عن الشر ، ويدعه وما يختار هو لنفسه ، فإن اختار الشر عامله بما يستحق ، وما ختم سبحانه على قلوب المنافقين إلا لأنهم تركوا الهدى واتبعوا الهوى بنص الآية (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) وإذا اختار العبد الخير أخذ الله بيده كما قال سبحانه بلا فاصل : ١٧ ـ (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) زادهم سبحانه من الهدى وثبتهم عليه بعد علمه تعالى بالإخلاص وصدق النية. قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : لو أن السموات والأرض كانتا على عبد رتقا ، ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أجر تقواهم وثوابها.

١٨ ـ ١٩ ـ (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أبدا لا مفرّ من يومها وهمومها (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) قامت العلامات والإمارات على أن الساعة آتية لا ريب فيها تماما كالحياة والموت (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) لا شك أنهم حين يرون الساعة قائمة يتذكرون ويتعظون ويندمون ، ولكن حيث لا توبة تنفع ، ولا معذرة تدفع.

٢٠ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) وأخلصوا : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) بالقتال لنجاهد في سبيل الله (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) واضحة (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم المنافقون (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) انهارت أعصابهم ، ونظروا إلى النبي (ص) نظرة الحنق والهلع ، ومعنى الآية بمجموعها أن المؤمنين حقا يتمنون الجهاد ليفتدوا الإسلام بالمهج والأرواح ، أما المنافقون فيرونه كالموت (فَأَوْلى لَهُمْ) الويل لهم.

٢١ ـ (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) هذه جملة مستأنفة ، ومعناها طاعة الله وقول يقبله الرسول (ص) خير من النفاق والروغان (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) على الجهاد (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ضمير الجماعة في صدقوا للمنافقين ، والمعنى لو أن المنافقين تابوا إلى الله ، واستجابوا لدعوة الجهاد بإخلاص لكان خيرا لهم دنيا وآخرة.

٢٢ ـ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) هل يتوقع منكم أيها المنافقون (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) إن تسلطتم وملكتم القيادة إلا (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) هذا هو دأب الأشرار إذا حكموا ، يملئون الدنيا بغيا وفسادا وأهوالا شدادا ، وتاريخ البشرية أصدق شاهد.

٢٣ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) وملائكته ورسله والناس أجمعون.

___________________________________

الإعراب : والمصدر من أن تأتيهم بدل اشتمال من الساعة. و (بَغْتَةً) في موضع الحال أي مباغتة أو صفة لمفعول مطلق محذوف. (فَأَنَّى لَهُمْ) خبر مقدم وذكراهم مبتدأ مؤخر. وإذا جاءتهم جملة معترضة ، وفي جاء ضمير مستتر يعود الى الساعة ، والتقدير فأنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة.

٦٧٥

٢٤ ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) استدلّ بهذه الآية علماء أصول الفقه ، على أن ظواهر القرآن أصل من أصول الشريعة ومصدر من مصادر الفقه ، وقال المفسرون : تأمرنا هذه الآية أن نتأمل معاني القرآن بروية ، ونتفهم ما يرمي إليه من أهداف ، ونتعظ بها ونعتبر ، وما من شك أن لهذه الآية العديد من الجوانب ، وقد اتجه كل فريق إلى الجانب الذي يخصه ويهتم به ، ونشير نحن إلى جانب آخر ، وهو أن من تدبر القرآن على حقيقته فإنه يؤمن به ويستجيب له ، لأنه يؤاخي العقل والفطرة ، ويدعو إلى حياة ، أكمل وأفضل ، ومن أعرض عنه أو استمع إليه دون أن ينتهي إلى هذا الإيمان فهو من المغلفة قلوبهم.

٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ ...) من يتقلب في إيمانه وعقيدته تبعا لمطامعه ومصلحته فهو من حزب الشيطان ، وهذه الآية نزلت في المنافقين.

٢٦ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) الضمير للمنافقين (قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) وهم اليهود لأنهم أشد الناس كراهية للقرآن وأهله : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) وخلاصة المعنى أن المنافقين قالوا لليهود : نحن معكم ضد محمد ، ونطيعكم ، في الكيد له والتآمر عليه.

٢٧ ـ ٢٨ ـ (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ) قبضت أرواحهم (الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) وهذا الضرب أقل من القليل بالنسبة إلى نار الجحيم.

٢٩ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أيظن المنافقون أن الله لن يكشف أمرهم ويفضحهم على رؤوس الأشهاد.

٣٠ ـ (وَلَوْ نَشاءُ) يا محمد (لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) لو شاء لأراك المنافقين بعلاماتهم الفارقة الواضحة ، ولكن الله ستر عليهم لحكمة هو أدرى بها (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فيما يبدو من فحوى كلامهم ويوحي به من خبث ولؤم.

٣١ ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) الله سبحانه يعلم الأتقياء والأشقياء ولكنه يعامل الناس معاملة المختبر بالأمر والنهي ، لتظهر الأفعال التي يستحق عليها الثواب والعقاب.

___________________________________

الإعراب : أم على قلوب «أم» منقطعة ومثلها أم حسب. الشيطان مبتدأ وجملة سول خبر ، والجملة من المبتدأ والخبر خبر ان الذين ارتدوا. (فَكَيْفَ) خبر لمبتدإ محذوف أي فكيف حالهم. ان لن «ان» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي انه لن. فلعرفتهم عطف على لأريناكهم واللام في لعرفتهم واقعة في جواب لو وكررت في المعطوف للتأكيد. واللام في لنعرفنهم في جواب قسم محذوف.

٦٧٦

٣٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) كفروا بالحق وهو أظهر من وجودهم ، وأفسدوا في الأرض عن قصد وعمد ، وحاربوا الرسول بغيا وطغيانا كي يقضوا على رسالته ، ويصدوا الناس عن دعوته ، ولكن الله سبحانه أبطل أعمالهم وخيّب آمالهم.

٣٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) طاعة الرسول هي عين طاعة الله طردا وعكسا ، أما الطرد فلأنه متى وجدت إحدى الطاعتين وجدت الثانية ، وأما العكس فلأنه إذا انتفت هذه انتفت تلك ، ويجري هذا الطرد والعكس في الإيمان بالله والإيمان بالرسول (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بالكفر بالله وبالرسول أو بالنفاق والرياء أو بالمن والأذى.

٣٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا ...) تقدم في الآية ١٦١ من البقرة وغيرها.

٣٥ ـ (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أثبتت الحوادث والتجارب أن من وهن أمام عدوه فقد زوده بالسلاح الذي يقتله به (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) إذا كنتم قلبا واحدا ويدا واحدة على عدو الحق وعدوكم (وَاللهُ مَعَكُمْ) إذا أطعتموه ولبيتم دعوته إلى الجهاد بالنفس والنفيس (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) يتركم : من وتر إذا نقص ، والمعنى أية خسارة تلحق بكم في الجهاد فإن الله يعوضها أضعافا.

٣٦ ـ (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) والويل لمن انصرف إليها بكله وتورط في الشبهات والمحرمات وإلا فدين الله ودنياه شيء واحد (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) الغرض من الإيمان بالله أن نطيعه ونتقي معاصيه ، وبهذه التقوى نستحق الأجر والثواب وإلا فلا شيء للعصاة عند الله سبحانه إلا العذاب والنكبات (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) بالكامل أيها الأغنياء ، وإنما يسألكم أن تؤدوا الحق المفروض ، للفقراء ، وهو يسير وخفيف.

٣٧ ـ (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) من الإحفاء ، وهو أشد الإلحاح في السؤال (تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) لو أن الله ، عظمت حكمته ، سأل الأغنياء أكثر من النصيب المفروض ، وألحّ عليهم في بذله لأمسكوا وحقدوا على الإسلام ونبيه.

٣٨ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) إشارة إلى الأغنياء (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قال سبحانه «تدعون» ولم يقل نأمركم ، وكأنه يروّض من نفوس الأغنياء ، ويبعثهم على البذل عن طيب نفس ، وأوضح من هذه الآية في ذلك آيات الاستقراض الحسن (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) لأن البذل وقاية من النار وغضب الجبار ، وفي الحديث : حصنوا أموالكم بالزكاة (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إن ملكت أيها الإنسان

___________________________________

الإعراب : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) خبر ان الذين كفروا. و (تَدْعُوا) عطف على فلا تهنوا. والأعلون جمع الأعلى.

٦٧٧

الكون بأرضه وسمائه ، فأنت مفتقر إلى عنايته وتدبيره (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) تبخلوا بالمال وبذله في سبيل الله (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) يسبّحون بحمده وبأمره يعملون ، وتقدم في الآية ١٩ من إبراهيم وغيرها.

سورة الفتح

مدنيّة وهي تسع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) نصرناك يا محمد نصرا ظاهرا ، ونزلت هذه السورة في ذي القعدة سنة ٦ ه‍. حين انصرف النبي (ص) من الحديبية إلى المدينة.

٢ ـ ٣ ـ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ...) كان محمد (ص) مذنبا في زعم المشركين حيث جعل الآلهة إلها واحدا ، ونبيا عند الموحدين المؤمنين تماما كأي مجاهد مخلص عند المخلصين والخائنين ، ومع الأيام والأحداث. ومنها الفتح والنصر الذي أشار إليه سبحانه بفتحنا لك ـ اكتشف المشركون أن محمدا هو المحقّ ، وأنهم كانوا هم المخطئون والمذنبون بعبادة الأصنام وإساءتهم لمحمد ، فندموا لدعوته وعليه يكون معنى الآية أن الله سبحانه هيّأ السبب الموجب لدخول المشركين في دين الله أفواجا ، وكان عاقبة ذلك براءة النبي عند المشركين من كل ذنب ، وعبّر سبحانه عن هذه البراءة بالمغفرة تماما كما لو اعتقدت أن فلان الفلاني هو أعدى أعدائك ، وأنه لو تمكن. منك لأخذك أخذ سفاح جبار ، ودارت الأيام ، فصار هذا الفلان حاكما وذا سلطان ، وإذا به يكرّم مثواك ويحسن إليك ، وما من شك في أنك تشعر من أعماقك أنك أنت المذنب ، وهو النزيه البريء.

٤ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) كل عقيدة صحيحة وسليمة تنتهي بصاحبها إلى زيادة الإيمان وقوته ، وراحة الضمير وغبطته ، وتقدم في الآية ٢٦ من التوبة وغيرها (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كل الموجودات ملك لله وحده لا شريك له.

٥ ـ (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) جاء في التفاسير أن الله سبحانه حين قال لنبيه : إنّا فتحنا لك فتحا مبينا قال له المؤمنون : هنيئا لك يا رسول الله ، هذا ما فعل الله بك. فما ذا يفعل بنا نحن؟ فنزلت هذه الآية : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ ...).

___________________________________

المعنى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً). للفتح معان ، والمراد به هنا النصر لأنه أول ما يتبادر إلى الإفهام ، ولأن النبي (ص) قال : نزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها ، ثم تلا : إنا فتحنا لك فتحا مبينا. وعليه يكون المعنى إنا نصرناك يا محمد نصرا ظاهرا ، واختلف المفسرون في نوع هذا النصر وتحديده على أقوال أنهاها الطبرسي إلى أربعة والرازي إلى خمسة.

٦٧٨

٦ ـ (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) بحكم البديهة والعدالة الإلهية (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) وهو أن الله سيخذل النبي والصحابة (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) جاءت النتيجة بعكس ما ظنوا حيث نصر الله سبحانه الحق وأهله ، ونزلت دائرة السوء على رؤوس المجرمين دنيا وآخرة.

٧ ـ (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) ذكر سبحانه هذه الآية حين أشار إلى المؤمنين وثوابهم ، وذكرها هنا وهو يشير إلى المنافقين والمشركين وعذابهم ، لمجرد التنبيه إلى أن الإنعام والانتقام في قبضته.

٨ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على الخلق بأنك قد بلغت (وَمُبَشِّراً) من أطاع بمرضاة الله وثوابه (وَنَذِيراً) لمن عصى بغضب الله وعذابه ، وتقدم في الآية ٤٥ من الأحزاب.

٩ ـ (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) تعزروه : تعظموه وتوقروه : تحترموه ، والضمير لرسول الله ، والضمير في تسبّحوه لله ، وبكرة : صباحا ، وأصيلا : مساء ، والمعنى أن الله سبحانه أرسل محمدا لتكونوا أيها المسلمون ، فيما تفعلون وتتصرفون ، المثل الأعلى إيمانا وإخلاصا وعلما وعملا ، وبهذا وحده تعظّمون رسول الله ، وتسبحون بحمد الله على الدوام وفي كل آن.

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) تنص هذه الآية أن يد محمد (ص) في قداستها يد الله ، ومبايعته على وجه العموم مبايعة الله ، أما سبب نزولها فهو أن النبي (ص) خرج من المدينة مع ١٤٠٠ من المسلمين قاصدين مكة للعمرة في ذي القعدة سنة ٦ ه‍ ولما وصلوا إلى الحديبية علموا أن قريشا صممت أن تصدهم عن بيت الله الحرام بقوة السلاح ، فأسرع المسلمون إلى رسول الله ، وكان جالسا تحت شجرة هناك وبايعوه على الطاعة والموت ، فبارك سبحانه هذه البيعة وأبرمها ، بل جعلها مبايعة له ، وتوعد الناكثين بالعقاب وقال : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) ووعد الأوفياء بالأجر والثواب بقوله : (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وتفاصيل هذه العمرة وصلح الحديبية في كتب السيرة والتاريخ ومطولات التفاسير ، ومنها التفسير الكاشف.

١١ ـ (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا

___________________________________

الإعراب : (الظَّانِّينَ) صفة لأهل الشرك والنفاق. و (ظَنَّ السَّوْءِ) مفعول مطلق لظانين. و (مَصِيراً) تمييز. وشاهدا حال. و (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) مفعول فيه أي تسبحوه في الصباح والمساء. جملة (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) خبر ان الذين. ويد الله فوق أيديهم مبتدأ وخبر والجملة خبر ثان لإن الذين الخ. أجرا مفعول ثان لسيؤتيه لأن الفعل هنا بمعنى يعطيه.

٦٧٩

وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) حرص النبي (ص) أن يكون معه في هذه العمرة أكبر عدد من المسلمين ، فتخلف عنه قوم من الإعراب وآخرون من المنافقين ، وتعللوا كذبا ونفاقا بتدبير الأهل والأموال ، ولما عاد النبي (ص) إلى المدينة طلبوا الصفح (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) لا شيء في قلوبهم كي يعبّروا عنه ، بل يتقلبون تبعا للمنافع والمطامع (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ...) من الذي يرد أمره تعالى خيرا كان أم شرا.

١٢ ـ ١٣ ـ (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) ما تخلفتم عن النبي لعذر أيها المنافقون ، بل اعتقدتم أنه والصحابة مغلوبون بقوة المشركين لا محالة (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) بأن الله لن ينجز وعده وينصر جنده (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) هلكى.

١٤ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) بمقتضى حكمته وعلمه بأنه مستحق وأهل للمغفرة (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تماما كما أنه لا يعذب إلا من هو أهل ومستحق للعذاب.

١٥ ـ (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) المراد بالمخلفين هنا نفس المنافقين والإعراب الذين تخلفوا عن النبي حين دعاهم إلى الذهاب معه لعمرة الحديبية ، وتعللوا بالأكاذيب ، وسمعوا الآن أن النبي (ص) بريد الخروج غازيا إلى خيبر ، وكان فيها مغانم كثيرة ، فأسرعوا إليه يريدون الخروج معه! رفضوا الحديبية فرارا من الغرم ، وتهافتوا على خيبر طمعا في الغنم ، فأمر سبحانه نبيه أن يرفضهم كما رفضوا الذهاب إلى عمرة الحديبية ، واحدة بواحدة (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) وهو حكمه تعالى بأن تكون مغانم خيبر للذين بايعوا النبي في الحديبية وحدهم بلا شريك (قُلْ) يا محمد للمخلفين الذين فروا من المغرم وطلبوا المغنم : (لَنْ تَتَّبِعُونا) إلى خيبر (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) بأن مغانم خيبر لأهل الحديبية دون غيرهم (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) كلا ، إن الله لم يحرمنا من المغانم ، ولكن أنتم حرمتمونا إياها حسدا لنا وبغيا (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ليس الأمر حسدا من المؤمنين بل جهلا وسوء ظن من المخلفين.

___________________________________

الإعراب : (مَغانِمَ) ممنوع من الصرف لأنه على وزن مفاعل والمصدر من (لِتَأْخُذُوها) متعلق بانطلقتم. و (قَلِيلاً) صفة لمفعول مطلق محذوف أي فقها قليلا. أو يسلمون عطف على تقاتلونهم. (إِذْ) في محل نصب برضي. (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً) مفعول لفعل محذوف أي وأثابهم مغانم. و (لِتَكُونَ) عطف على محذوف أي لتشكروا الله ولتكون ، واسم لتكون ضمير مستتر يعود الى هذه.

٦٨٠