التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

٢٦ ـ ٢٧ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي لا يبالي بموسى ولا بمن أرسله ، وقريب من هذا قول بني إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك ، وعبدوا العجل ، وليس العجل كمعبود بأفضل من فرعون كمربوب (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ)! أرأيت هذا المنطق! : رسول الله يحرف الدين ويفسد الأرض ومدّعي الربوبية يقيم الدين ويصلح الأرض تماما كقوى الشر في عهدنا تعمل للقضاء على الدين بكل سبيل وتدعي أنها من حماته ، وتمتص دماء المستضعفين خوفا من إراقتها! ٢٨ ـ (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) أهذه جريمة لا تغتفر؟ كيف وقد جاءكم بالبرهان القاطع على ما جاء به من الحق؟ (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) لا بد أن يفتضح به ، ويعاقبه الله عليه (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) سواء أقتلتموه أم تركتموه لشأنه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) بل يخزيه ويفضحه في الدنيا قبل الآخرة بل هو يفضح نفسه بنفسه ، لأنه يقف دائما على شفير الهاوية.

٢٩ ـ (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ...) أنتم الآن في قوة ومناعة ، ولكم الحكم والطاعة ، ولكن هل تأمنون على أنفسكم من غضب الله وضرباته ، ومن تقلب الدهر ونكباته (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) هذا رد من فرعون على قول المؤمن الناصح ومعناه ما أشير عليكم إلا بما أراه خيرا وصلاحا لي ولكم ولا أدعوكم إلا إلى السداد والرشاد.

٣٠ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ

اللغة : سلطان مبين حجة واضحة. وهامان وزير فرعون. وقارون أغنى الأغنياء في زمانه. وعذت لذت وتحصنت. والمسرف هنا من تجاوز الحد في معاصي الله. وظاهرين غالبين. وما أريكم إلا ما أرى : أشير عليكم إلا بما أراه حقا وصوابا.

___________________________________

الإعراب : (وَلْيَدْعُ) اللام للأمر. والمصدر من أن يبدل مفعول أخاف ، ومن أن يظهر معطوف على ان يبدل. ما أريكم «ما» نافية. وإلا ما أرى «ما» اسم موصول مفعول ثانيا لأريكم.

٦٢١

يَوْمِ الْأَحْزابِ) وهي الأمم الماضية حيث اتفقت كل أمة وتحزبت ضد نبيها ، وذكر منها المؤمن الناصح.

٣١ ـ (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ) قوم هود (وَثَمُودَ) قوم صالح وغيرهم (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

٣٢ ـ (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) وهو يوم القيامة حيث يدعو سبحانه كل أناس بإمامهم.

٣٣ ـ (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) من مانع يمنع عذابه عنكم (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) المراد ـ بقرينة السياق ـ من الضلال هنا الهلاك ، ومن هاد : من منقذ ومخلص ٣٤ ـ (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) على حذف مضاف أي جاء آباءكم أيها المصريون ، لأن الكلام ما زال لمؤمن آل فرعون (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) أي في شك من نبوة يوسف ، وكذلك أنتم تشكون في نبوة موسى.

٣٥ ـ (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) كل برهان قاطع على وجود الحق فهو آية من آيات الله وحجة على عباده سواء أجاء بالحق مؤمن أم غير مؤمن بشرط واحد وهو أن لا يراد به باطل كما فعل الخوارج الذين نطقوا بكلمة الحق كذريعة للخروج عن طاعة الحق. قال سبحانه : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَ) ـ ٢٤ الشورى» ... (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) ـ ٨١ الإسراء (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) الله ورسله وملائكته والمؤمنون يكرهون أشد الكره من يعاند الحق ، ويجادل بالباطل (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) العتو والتكبر من حيث هو يمرض القلب ويعمي العقل.

٣٦ ـ ٣٧ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ...) تقدم في الآية ٣٨ من القصص ، وبالمناسبة قرأت لكاتب مصري يعظ قومه بقوله : «استخف فرعون قومه بالذهب وواسع الملك ، وخدعهم فتبعوه ، وانتهى بهم إلى ضياع ودمار ... لا جعل الله مصر بعد السلف تستخف بالظواهر والخوادع».

___________________________________

الإعراب : (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) «مثل» صفة لمفعول محذوف أي أخاف عليكم يوما مثل يوم الأحزاب. ومثل (دَأْبِ) بدل من مثل يوم الأحزاب. و (يَوْمَ تُوَلُّونَ) بدل من يوم التناد. و (مُدْبِرِينَ) حال. و (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) بدل من (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) لأن «من» هنا اسم موصول بمعنى الجمع. وكذلك يطبع أي مثل ذلك الطبع يطبع. (أَسْبابَ السَّماواتِ) بدل من الأسباب. فاطلع بالنصب جوابا للترجي الذي يشبه الطلب.

٦٢٢

٣٨ ـ ٣٩ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) من قوم فرعون : (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ...) حذر قومه أولا وثانيا ، وهذي هي المرة الثالثة ، وقال لهم من جملة ما قال : الدنيا ممر لا مقر ، والآخرة هي الغاية والنهاية ، فاعملوا لها تنجوا وتفلحوا ... وما من شك أنه لو لا فرعون وعتاته المترفون لوجد من الناس من يسمع ويطيع ، وقصة هذا الرجل المؤمن ـ كما نعته القرآن الكريم ـ هي حجة كافية على كل من يدّعي الإيمان بالله ، ثم يسكت عن كلمة الحق فقد جابه المؤمن الصالح الطاغية فرعون بكلمة الحق غير مرتاع ولا هياب وهو لا يملك إلا نفسه وعقيدته ، وكل نبي من أنبياء الله ناضل أمته وحيدا فريدا وقال سبحانه لنبيه الكريم : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) ـ ٨٤ النساء» وفي الحديث الشريف : «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» أجل ، إعلان الحرب لا بد أن يسبقه إعداد العدة ، ولكن الحرب شيء ، والأمر بالمعروف في كلمة حق شيء آخر.

٤٠ ـ (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) بلا زيادة لأن الله عادل ، وقد يعفو لأنه كريم (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله واليوم الآخر (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) وفي هذا إيماء على أن الجنة محرمة إلا على من آمن بها وبخالقه وخالقها.

٤١ ـ ٤٤ ـ (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ...) أيضا هذا الكلام لمؤمن آل فرعون مع قومه ويستمر إلى قوله : (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ويرتكز على أن الجزاء حتم لا مفر منه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وانه يدعوهم إلى الهدى وهم يصرون على الضلال ، بل ويدعونه إليه ، ولكنهم قادرون الآن ـ كما أفهمهم ـ أن يستدركوا وينجوا من الهلاك بخطوة واحدة وهي التوبة ، وعليهم أن ينتهزوا الفرصة وإلا فمصيرهم إلى الضياع والدمار.

اللغة : مردنا مرجعنا. وحاق به أحاط ونزل به. غدوا وعشيا صباحا ومساء.

___________________________________

الإعراب : (الْحَياةُ الدُّنْيا) عطف بيان من هذه. وهي ضمير الفصل ، وجملة وهو مؤمن حال من (مَنْ عَمِلَ صالِحاً). (جَرَمَ) اسم لا مبني معها على الفتح ، والمعنى لا محالة ، والمصدر من (أَنَّما تَدْعُونَنِي) مجرور بحرف جر محذوف متعلق بمحذوف وهو خبر لا. و (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) «هم» ضمير فصل. والنار بدل من سوء العذاب.

٦٢٣

٤٥ ـ ٤٦ ـ (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أضمر فرعون السوء لهذا الناصح الأمين ، فكف الله بأسه عنه (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) وهو الغرق في الدنيا ، والجحيم في الآخرة ، وهكذا كل مؤمن استكمل شمائل الإيمان ، وجاهد الطغيان بكلمة الحق ، فإنه يرمي بيد الله لا بيده.

٤٧ ـ (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ) أهل النار (فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) الذين غرر بهم الأقوياء (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم الأقوياء المتبعون : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي لو لا أنتم لكنا مؤمنين (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) هل تحملون عنا ولو شيئا قليلا من العذاب؟ وتقدم في الآية ٢١ من إبراهيم.

٤٨ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) بنا ما بكم ـ زيادة ، ولا حول لنا ولا طول (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) ولا راد لحكمه ، وهكذا تعلن العدالة الإلهية بلسان أعداء الله الذين اتخذوا آلهة من دونه ، ومعنى هذا أن الحق لا بد أن ينجلي وينتصر ولو بعد حين.

٤٩ ـ (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ...) بالأمس أنكروا البعث والنار ، ولما جاءوها ودخلوها استغاثوا حتى بخزنة النار ، عسى أن يسمح لهم بالتنفس ، ولكن هؤلاء وبخوهم.

٥٠ ـ (قالُوا : أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ) تقدم في الآية ٧١ من الزمر.

٥١ ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وهو يوم القيامة حيث تشهد على المجرمين أعضاؤهم والكرام الكاتبون ، والنصر في هذا اليوم للمحقين بلا ريب ، أما نصرهم في الدنيا فقد يكون بالغلبة على الأعداء وقد يكون بانتشار دينهم وعقيدتهم ، وعلو الشأن وجميل الذكر مدى الحياة ، وفي شتى الأحوال ما ظفر من ظفر الإثم به ، والغالب بالشر مغلوب كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع) وتقدم في الآية ٣٨ من الحج.

___________________________________

الإعراب : وأدخلوا ان كان أمرا للملائكة فآل فرعون مفعول ادخلوا ، وان كان أمرا لآل فرعون فآل فرعون منادى ، وفي الحالين أشد العذاب منصوب بنزع الخافض أي في أشد العذاب مثل دخلت الدار أي في الدار. (تَبَعاً) خبر كنّا وهو مصدر في موضع اسم الفاعل أي تابعين. و (نَصِيباً) مفعول مطلق ل «مغون» لأنه بمعنى شيء فيعرب اعرابه ، ونحوه قوله تعالى : (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) ـ ٢٥ التوبة». و (كُلٌ) مبتدأ و (فِيها) خبر. والجملة خبر انّا. ومفعول يخفف محذوف ويوما منصوب على الظرفية أي يخفف عنا شيئا من العذاب في يوم من الأيام. واسم تك ضمير مستتر يعود الى القصة ، وتأتيكم رسلكم تفسير للقصة. ويوم لا ينفع بدل من يوم الاشهاد.

٦٢٤

٥٢ ـ (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) ويستحيل أن تكون للظالم معذرة مقبولة بعد الفرض بأنه ظالم ، لأن الشيء لا يمكن أن يكون غير ذاته ونفسة.

٥٣ ـ ٥٤ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) المعجزات الدالة على نبوته (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) التوراة الصحيحة الصادقة ، فحرفوها تبعا لأهوائهم.

٥٥ ـ (فَاصْبِرْ) يا محمد على الأذى من قومك (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) إشارة إلى قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ـ ٣٣ التوبة» (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) الاستغفار من حيث هو عبادة مستحبة مع عدم الذنب ، ومعه واجبة ، بل قوله تعالى : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ) ـ ٦١ هود» يدل بظاهره على أن الاستغفار يجب على العباد مطلقا وفي كل حال ، لأنه تعالى هو الذي خلق ورزق ، والاستغفار شكر على نعمة الخلق والرزق ٥٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) وهي الأدلة على الإيمان بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) بل يردون البرهان القاطع بالكلام الفارغ (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) أي إلا تكبر على أتباع الحق ، وإلا عناد له ولمن جاء به (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) لا يبلغون مرادهم بحال من الإنتصار على الحق والنيل منه (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من التكبر وأهله ، ومن شرهم وشر كل ذي شر.

٥٧ ـ (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة الكون وأنه أكبر وأعظم من خلق الإنسان ، والدليل الحسي على أن أكثر الناس يجهلون الكون أن العلماء القدامى كانوا يعتقدون بأن الإنسان أعجب الكائنات العلوية والأرضية ، وأن الكون بكامله مسخّر له ، وأن الأرض هي مركز الكون ، ثم بدّد العلم الحديث هذا الإعتقاد ، وأثبت أن الإنسان ليس أعظم الكائنات ، ولا الأرض مركزا للكون ، ولا الكون مسخرا للإنسان بكل ما فيه ومن فيه ، لأنه لا حدّ له ولا نهاية ، ولأن فيه ملايين البلايين من الكائنات التي يستحيل على الإنسان الوصول إليها بالكامل فضلا عن تسخيرها لخدمته ومصلحته ... وهذا ما نطق به القرآن الكريم منذ ١٤ قرنا ، وهكذا كلما تقدمت العلوم ازدادت معاني القرآن وضوحا في الأذهان.

٥٨ ـ ٥٩ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ...) هذا طبيعي وبديهي ، لا يحتاج إلى بيان ، وإنما بيّن سبحانه لمجرد التذكير بأن الكفاءة هي بالعلم والخلق الكريم والعمل الصالح النافع لا بجاه أو حسب أو مال ، وتقدم في الآية ٥٠ من الأنعام وغيرها.

٦٠ ـ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) المراد

٦٢٥

بادعوني هنا اعبدوني ، وبأستجب لكم أثبكم ، والدليل على ذلك قوله تعالى بلا فاصل : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أي صاغرين ، ومهما بكن ، فقد تكلمنا حول الدعاء فيما سبق ، وأنه تعالى يستجيب لمن دعا واتقى شريطة أن يكون عاجزا عن الحركة والسعي ، لأن الله قد خلق أسبابا للرزق ولا عذر لمن قدر عليها.

٦١ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) للاستراحة من الأعمال (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) مضيئا للعمل من أجل الحياة ، وتقدم في الآية ٦٧ من يونس.

٦٢ ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) الذي يقول للشيء كن فيكون (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تصرفون عن الإيمان به وعن طاعته.

٦٣ ـ (كَذلِكَ يُؤْفَكُ) ينصرف ويبتعد عن الإيمان بالله الذين يذهلون عن الدلائل على وجوه وعظمته.

٦٤ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) مستقرا ومعاشا (وَالسَّماءَ بِناءً) أي كالبناء المحكم بكواكبها ، وأيضا يستعمل البناء بمعنى الخلق كقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) ـ ٢٧ النازعات» (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) شكلا وقواما ، إضافة إلى الإدراك وسائر الغرائز (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) طعاما وشرابا ومسكنا ومركبا ، وكل ما يسد حاجة من حاجات الإنسان الضرورية والكمالية فهو من الحلال الطيب.

٦٥ ـ (هُوَ الْحَيُ) لأنه واهب الحياة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لأن الألوهية تستدعي التفرد والوحدانية (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) في كل ما نقول ونفعل ، وتقدم في الآية ٢٩ من الأعراف وغيرها.

٦٦ ـ (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ ...) أن أعبد إلا الله ، وقد ألهمني الأدلة الكافية الوافية على أنه الواحد الأحد.

___________________________________

الإعراب : (داخِرِينَ) حال من فاعل سيدخلون. والمصدر من (لِتَسْكُنُوا) متعلق بجعل. و (مُبْصِراً) مفعول ثان لجعل محذوفة أي وجعل النهار مبصرا. وأنّى ان كانت بمعنى أين فهي مجرورا بإلى أي إلى أين تصرفون وان كانت بمعنى كيف فهي في محل نصب على الحال. (مُخْلِصِينَ) حال. والمصدر من أن أعبد مجرور بعن محذوفة أي عن عبادة الخ. والمصدر من (أَنْ أُسْلِمَ) مجرور بباء محذوفة. و (طِفْلاً) حال.

٦٢٦

٦٧ ـ ٦٨ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) تقدم في العديد من الآيات ، منها الآية ٥ من الحج (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ...) الله وحده القادر على خلق الموت والحياة والبعث من القبور ، والخالق بلا مواد أولية ولا جوارح وأعضاء ولا أدوات وآلات ولا حركة أو أي شيء سوى مجرد الإرادة ، فبها وحدها يوجد المراد ، وتقدم في الآية ٨٢ من يس.

٦٩ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) العجب ممن جادل وشك في الله وهو يرى هذا الكون في نظامه وانسجامه واستمراره وفي جميع أشيائه ومحتوياته ، كيف غفل وذهل عن كل ذلك؟

٧٠ ـ (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) بالقرآن (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من الوحي والأحكام (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ما يحل بهم من العذاب ، ومنه :

٧١ ـ ٧٢ ـ (إِذِ الْأَغْلالُ) القيود التي لا يرجى خلاصهم منها (فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) بها إلى نار الجحيم.

٧٣ ـ ٧٤ ـ (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)؟ هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون؟ (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) غابوا عن أعيننا (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي تبيّن لنا الآن أن الذين عبدنا ليسوا بشيء (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) أي يهلكهم بضلالهم.

٧٥ ـ (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ

اللغة : قرارا مستقرا. وتبارك تقدس وتعالى. وطفلا اسم جنس يشمل جميع الأطفال ، ويكون المعنى يخرج كل واحد منكم طفلا.

___________________________________

الإعراب : ثم (لِتَبْلُغُوا) متعلق بمحذوف أي يبقيكم لتبلغوا. (ثُمَّ لِتَكُونُوا) أيضا متعلق بمحذوف أي فعل ذلك لتكونوا. (الَّذِينَ كَذَّبُوا) بدل من (الَّذِينَ يُجادِلُونَ). وإذ في محل نصب بيعلمون. (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) «أين» خبر مقدم و «ما» موصول بمعنى الذين مبتدأ. وذلكم مبتدأ وبما كنتم خبر.

٦٢٧

الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) الفرح : السرور ، والمرح : شدة الفرح ، والآية تخاطب المشركين ، ولكن الحكم والتوبيخ ، يعم ويشمل الكثير ممن يدعون الإيمان ، ثم يفرحون باليسير ينالونه من الدنيا ، ولا يحزنهم الكثير مما يفوتهم من خير الآخرة ، بل هذا الذم والتقريع ، بهم ألصق وأليق ، لأن المشركين والكافرين أقبلوا على الدنيا وهم كافرون بالدين ظاهرا وباطنا ونحن امتطينا الدين إلى الدنيا!.

٧٦ ـ (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) اتفق المسلمون قولا واحدا على أن الكفر بالله يوجب الخلود في النار ، واختلفوا في المسلم الذي لا ينتهي عن كبار الذنوب والآثام ، وأكثر المذاهب الإسلامية على أنه لا يخلد ، بل يدخل النار إلى أمد. ولكن الله سبحانه قال في الآية ٩٣ من النساء : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) وفي الآية ٣٢ من المائدة : فكأنما قتل الناس جميعا ، ومهما شككت فإني لا أشك إطلاقا أن من يتجر بالدين ، ويمتطيه إلى الدنيا وحطامها فهو في حكم الكافر من حيث الخلود في النار لقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) ـ ١٤ النساء» وأي عصيان وتعد أعظم من هذا التعدي والعصيان؟

٧٧ ـ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) تقدم في الآية ٥٥ من هذه السورة (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) يا محمد (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب في الدنيا لأنهم كذبوك وآذوك ، أو نختارك إلينا قبل ذلك ، وتشهد عذابهم في الآخرة.

٧٨ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ ...) تقدم في الآية ١٦٤ من النساء (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) المعجزة بيد الله لا بيد رسوله (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) وهو يوم القيامة ، رأيت المكذبين في عذاب الجحيم.

٧٩ ـ ٨١ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ ...) لا حكم شرعي هنا ولا أي غرض سوى أن نذكر ونشكر إفضاله وإنعامه تعالى ، ولا يلهينا عنه الأموال والأولاد والأشغال ، وتقدم في الآية ١٤٢ من الأنعام وغيرها.

٨٢ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ...) قرأت من جملة ما قرأت ما نشرته جريدة أخبار اليوم المصرية ٢٨ ـ ١٠ ـ ١٩٧٢ مقالا بعنوان انتظروا معجزة من السماء ، جاء فيه : «فقد أتيح للأجيال أن تدرك أن كل ما جاء به القرآن هو الحق ، من ذلك أن الحفريات والعلوم والآثار استطاعت تحقيق موقع انفلاق البحر عند ما خرج موسى باليهود من مصر ، وسفينة نوح ، وآثار مدينة سبأ ، وحفريات سيدنا يوسف ... إلى جانب العلوم الحديثة» وهنا يكمن السر لتوكيد القرآن وحثه على النظر في حياة الأمم الماضية وما تركته من آثار ـ في هذه الآية والآية ١٠٩ من يوسف و ٤٦ من الحج و ٩ من الروم و ٤٤ من فاطر ، وأيضا يأتي.

___________________________________

الإعراب : (أَبْوابَ) منصوبة بنزع الخافض أي ادخلوا في أبواب (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) المخصوص بالذم محذوف.

٦٢٨

٨٣ ـ (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالحجج والدلائل القاطعة (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) المراد بفرحوا هنا اغتروا ، والمعنى أعرضوا عن الرسل ومعجزاتهم او أدلتهم ، واستغنوا جهلا وغرورا بما يملكون من أسباب العيش.

٨٤ ـ ٨٥ ـ (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) حين كانوا في أمان كفروا بالله ، ولما رأوا العذاب قالوا : آمنا! كيف وهل يجتمع الإيمان ويستقيم مع الضغط والقوة القاهرة؟ وفي الحديث : «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه» (سُنَّتَ اللهِ) والعقل والناس والطبيعة أن الإيمان لا يكون ولن يكون إلا بإرادة مختار للإيمان ، أما إرادته حين العذاب فهي إرادة الخلاص من العقوبة ، ولا صلة لها بالإيمان من قريب أو بعيد.

سورة السّجدة أو فصّلت

مكيّة وهي أربع وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (حم) تقدم في أول البقرة.

٢ ـ (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) القرآن رحمة نزل به روح القدس الأمين جبريل من الرّحمن على قلب محمد الرؤوف الرّحيم.

اللغة : فصلت بينت. وأكنة جمع كنان وهو الغطاء. والوقر الصمم. وغير ممنون أي لا يمن به عليهم. وقيل : غير مقطوع.

___________________________________

الإعراب : (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) مفعول (تُنْكِرُونَ) ، ويجوز فأية بالتاء ، وقيل : ان التذكير أشهر وأكثر. و (قُوَّةً وَآثاراً) تمييز. (وَحْدَهُ) حال من الله. وسنّة منصوبة على المصدر أي سنّنا بهم سنّة الله. (تَنْزِيلٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل. و (كِتابٌ) بدل من (تَنْزِيلٌ) أو خبر ثان.

٦٢٩

٣ ـ (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) بيّنت أحكامه ومعانيه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) لأن الرسول عربي ، وأنذر به عشيرته الأقربين أول من أنذر ـ بأمر الله ـ ثم أنذر به قومه ؛ وأمرهم أن يبلّغوا العالم كله رسالة الإسلام ، كما هو دأب أصحاب المبادئ والعقائد ، فاستجابوا لأمرهم ، ودخل الناس في دين الله أفواجا من شعوب العالم ، ثم أهملوا بل وعملوا بتناحرهم ، على ضعف الإسلام بل أجهزوا على تطبيق أحكامه وتعاليمه! ولا أدري هل يستيقظون أو يستمرون في هذه المحنة؟

٤ ـ (بَشِيراً) بمجد قائم ، وسلطان دائم أن استمسكوا بعروة القرآن (وَنَذِيراً) بالضعف والخزي والمذلة والهوان ان أعرضوا عنه (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) فساءت عاقبة العرب والمسلمين.

٥ ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) جمع كنان وهو الغطاء (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) صمم عما تدعونا إليه (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أبدا لا حجاب إلا قادة الجهل والبغي والسوء ولا حياة لقوم يقودهم هؤلاء.

٦ ـ (قُلْ) يا محمد : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) هذى هي رسالتي أعلنها على الأجيال ، فادرسوها بتجرد وإنصاف ، تجدوها دعوة الحق والعقل والصلاح والإصلاح ، وتقدم في الآية ١١٠ من الكهف.

٧ ـ ٨ ـ (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) هذي الآية مكية لأن السورة مكية بالكامل ، وزكاة المال الواجبة نزلت بالمدينة وفي تفسير ابن كثير عن ابن عباس أن المراد بالزكاة هنا التوحيد. وليس هذا ببعيد لقوله تعالى بلا فاصل : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) و «هم» الثانية مجرد توكيد للأولى.

٩ ـ (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أي دفعتين أو طورين حيث لا أيام قبل خلق الأرض.

١٠ ـ (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جبالا (مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها) حيث أخرج ماءها الأبيض والأسود ، وأنبت مرعاها للأنعام والإنسان وغير ذلك من العناصر والمعادن (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) قال المفسرون : كان خلق الأرض في يومين وتقدير الأقوات في يومين ، فالمجموع أربعة أيام (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) المراد بالسائلين هنا المحتاجون ، والمعنى أن الخلائق بالكامل سواء في خيرات الأرض وبركاتها.

١١ ـ (ثُمَّ اسْتَوى) قصد (إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ)

___________________________________

الإعراب : (قُرْآناً) حال من كتاب. و (عَرَبِيًّا) صفة لقرآن و (بَشِيراً وَنَذِيراً) صفة أخرى هم كافرون «هم» تأكيد ل «هم» الأولى. (سَواءً) منصوب على المصدر أي استوت سواء واستواء.

٦٣٠

في الآية ٧ من هود (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) وتدل هذه الآية أن الماء كان موجودا قبل خلق السموات والأرض ، وعليه يكون المراد بالدخان بخار الماء كما ذهب إليه بعض الفلاسفة القدامى (فَقالَ لَها) للسماء (وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) هذا القول ينطق به لسان الحال والواقع ويعلن في كل حين أن الكون بما فيه ومن فيه منقاد لأمره تعالى ، ومستسلم لمشيئته.

١٢ ـ (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) المراد بالسماوات السبع الأكوان السبعة لا الكواكب السبعة ، وقد يكون ذكر السموات السبع منزلا على عادة الناس في تخاطبهم حيث يقولون السموات السبع والأرضون السبع قبل نزول القرآن (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) خلق في كل سماء ما فيها من الكواكب وغيرها مما علمه عند خالقه (وَحِفْظاً) يحفظ الله الكون بسنن محكمة وثابتة (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وفي الآية ٢٣ من المرسلات (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) على أن نعطي كل كائن جميع ما يحتاج إليه في عالمه.

١٣ ـ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) قل يا محمد لمن أعرض عنك وعن دعوتك : اني أخاف أن يصيبكم الله بعذاب من عنده مثل ما أصاب الأولين.

١٤ ـ (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي بالغوا واجتهدوا في الإرشاد والتبليغ وسلكوا إليه كل سبيل ، فما كان جواب المرسل إليهم إلا أن (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) لا يرسل الله بشرا من الأرض ، بل يرسل ملائكة من السماء ، وتقدم في الآية ٢٤ من «المؤمنون؟» ١٥ ـ (فَأَمَّا عادٌ) قوم هود فأخذتهم العزة بالإثم (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فأجابهم (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)؟ وهل المخلوق بشيء يذكر إذا نسب إلى خالقه؟ قال الإمام عليّ (ع) : كل عزيز غير الله ذليل ، وكل قوي غيره ضعيف ، وكل مالك غيره مملوك ، وكل عالم غيره متعلم ، وكل قادر غيره يقدر ويعجز.

١٦ ـ (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) باردة مهلكة (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) نكدات ، وتقدم في الآية ١٣ من فصلت.

___________________________________

الإعراب : طوعا أو كرها مصدر في موضع الحال أي الطائعين أو كارهين. و (سَبْعَ سَماواتٍ) حال من ضمير قضاهن. وحفظا منصوب على المصدر. المصدر من (أَلَّا تَعْبُدُوا) مجرور بباء الجر المحذوفة أي جاءتهم بعدم العبادة لغير الله. و (عادٌ) مبتدأ واستكبروا خبر. و (قُوَّةً) تمييز.

٦٣١

١٧ ـ ١٨ ـ (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) دعوناهم إلى الهدى ، فاختاروا العمى ، وتقدم في الآية ٦٢ وما بعدها من هود.

١٩ ـ (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبسون في العذاب أو يدفعون إليه بعنف.

٢٠ ـ (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي جاءوا للشهادة (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ) أنهم سمعوا التبليغ والإرشاد (وَأَبْصارُهُمْ) أنهم رأوا المبلّغ والمرشد (وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يمارسون من المحرمات.

٢١ ـ (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) وكنا نحرص عليكم حرصنا على أنفسنا (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ) بالحق ، ومن ألقى بيده إلى الهلاك فلا يلومن إلا نفسه.

٢٢ ـ (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ...) حين اقترفتم الجرائم والآثام من وراء حجاب وستار ـ ما خطر لكم على بال أن أعضاءكم سوف تشهد عليكم (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ) أي اعتقدتم (أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي لا يعلم ما تسرون ، بل يعلم ما تعلنون فقط.

٢٣ ـ (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) هو الذي (أَرْداكُمْ) أهلككم وقادكم إلى جهنم وبئس المصير ، وينطبق هذا على كل من يستتر في المعاصي خوفا من الناس ولا يخشى الله حتى ولو آمن به وباليوم الآخر.

اشارة :

ان هذا الاعتقاد الباطل هو الذي قادكم الى جهنم وبئس المصير .. وهذا ينطبق أيضا على الذين يؤمنون باليوم الآخر نظريا ، ويكفرون به عمليا حيث يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ، بل هو أسوأ حالا ممن أنكر البعث وقدرة الله لأنهم عصوا وهم على يقين بأن الله معهم يسمع ويرى ، وأنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

___________________________________

الإعراب : (وَيَوْمَ) منصوب بفعل محذوف أي واذكر يوم يحشر. وحتى للغاية. وإذا ما «ما» زائدة. وذلكم مبتدأ ، و (ظَنُّكُمُ) بدل أو ، عطف بيان من (ذلِكُمْ) ، و (الَّذِي) صفة لظنكم ، و (أَرْداكُمْ) خبر (ذلِكُمْ).

٦٣٢

٢٤ ـ (فَإِنْ يَصْبِرُوا) أي المجرمون على النار فهي نصيبهم ومقرهم (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي أن يطلبوا الرضا من الله تعالى فلن يرضى عنهم.

٢٥ ـ (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) المراد بالقرناء هنا النفس الأمارة وبما بين أيديهم أعمالهم في الماضي والحاضر ، وبما خلفهم أعمالهم في المستقبل والمعنى من يعرض عن الله سبحانه يرى الشر خيرا والقبيح حسنا والحرام حلالا في كل ما يقول ويفعل ويقصد ويعتقد (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) العذاب (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل الذين كذبوا محمدا (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) بتمردهم على الله ورسوله.

٢٦ ـ ٢٨ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) كان لإعجاز القرآن أبلغ الأثر في النفوس ، فتواصى عتاة الشرك والبغي أن يلغوا ويهذوا بصوت عال عند تلاوته كي يضللوا السامع عنه ، فتوعدهم سبحانه بأسوأ العذاب لأن أعمالهم أسوأ السيئات.

٢٩ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من الضعفاء التابعين (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الأقوياء المتبوعين (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) يتبرأ المضل من الضال عند الحساب والعقاب ، ويحاول الضال التشفي من المضل بكل سبيل ، ولو استطاع لداسه بالأقدام ، وقطعه بالأسنان.

٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) على

اشارة : دهش الطغاة حين رأوا أثر القرآن وسلطانه على النفوس ، وماجوا في حيرة : ما ذا يصنعون بعد أن عجزوا عن مقارعته بالبرهان ، ومقابلة الحجة بالحجة .. ثم اتفقوا أن يحاربوه بالباطل ، ويصفوه بالسحر والأساطير ، ويقابلوا تلاوته بالتشويش والهذيان ... بهذا السخف والجهل ينتصرون لباطلهم ، ويريدون أن يطفئوا نور القرآن .. وإذا دل قولهم : «والغوا فيه لعلكم تغلبون» إذا دل على شيء فإنما يدل على اعترافهم بالعجز الا عن اللغو والهذيان ، وان القرآن هو حصن الله الحصين الذي أعجز ويعجز الفكر الانساني على مدى العصور والأزمان.

___________________________________

الإعراب :

(ذلِكَ) مبتدأ و (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) خبر. و (النَّارُ) بدل من (جَزاءُ). وجزاء منصوب على المصدر أي يجزي بالنار جزاء.

٦٣٣

طاعة الله حتى النفس الأخير فهم المؤمنون حقا (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ) عند الموت (الْمَلائِكَةُ) بالبشرى من الله بأن لهم عنده لزلفى وحسن المآب ، أما الذين قالوا : ربنا الله ، ثم قاسوا كل ما في الوجود بالمنافع والنقود ، فهم شر من الشر لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة ما هو أخزى وأشد تنكيلا.

٣١ ـ (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ما زال الكلام لملائكة الرحمة مع الذين أطاعوا واستقاموا على الطاعة ، وتقول الملائكة لهؤلاء عند الاحتضار : لا تخافوا ، فعما قليل تجدون ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين.

٣٢ ـ (نُزُلاً) ضيافة وإكراما ، وانتصب على الحال من اسم الموصول وهو «ما» (مِنْ غَفُورٍ) لذنوبكم (رَحِيمٍ) بكم ٣٣ ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وإذا قرأنا هذه الآية منضمة إلى قوله تعالى : (قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) تبين لنا أن الإيمان على ثلاث شعب : الأولى إعلان الإيمان بالله ولو كره الجاحدون ، لثانية العمل بشريعة الله بإخلاص ، الثالثة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما قوله : انني من المسلمين فمعناه أنا على علم اليقين أني من المهتدين ، وان ديني هو دين الله القويم.

٣٤ ـ (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) بحكم الطبيعة والبديهة وإلا كان المحسن والمسيء والتقي والشقي بمنزلة سواء (ادْفَعْ) يا محمد من أساء إليك (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) تعاطف مع الناس ، واصبر على أذاهم ، فإن بعضهم إذا تسامحت معه عاد إلى رشده ولام نفسه ، وانقلبت عداوته لك إلى حب وولاء ، وقد استفاضت كتب السيرة والتاريخ أن شمائل محمد (ص) وأخلاقه هي أخلاق القرآن ، ولا بدع فإن على كل مصلح أن يكون قدوة في دعوته عملا قبل أن تكون قولا ، وفعلا قبل أن تكون أمرا ونهيا.

٣٥ ـ (وَما يُلَقَّاها) أي فضيلة تدفع السيئة بالحسنة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) صبر الأقوياء الأحرار (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الفضائل والمكارم.

٣٦ ـ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ ...) «إما» كلمتان : إن الشرطية وما الزائدة ، والتعليق على محال ليس بمحال ، فقوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك ـ ٦٥ الزمر ، يخاطب به من لا يشرك حتى ولو شنق ، وتقدم بالحرف في الآية ٢٠٠ من الأعراف.

٣٧ ـ (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ...) الخطاب للصابئة وكل من يعبد الكواكب ، والمعنى ما هذه إلا مخلوقات لله تعالى فاعبدوه وحده لا شريك له ، ويجب السجود عند تلاوة هذه الآية أو الاستماع إليها ، والآية ١٥ من سورة السجدة و ٦٢ من النجم و ١٩ من العلق.

٦٣٤

٣٨ ـ (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي إن أصر عبدة الكواكب على الشرك فإن الله غني عنهم وعن عبادتهم ، وعنده عباد من الملائكة وغيرهم (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) عن عبادته مهما طال الأمد.

٣٩ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ..) هامدة ، وتقدم في الآية ٥ من الحج وغيرها.

٤٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) يطعنون في القرآن ويقولون : هو كذب وسحر ، فليقولوا ما يشتهون ، ويعملوا ما يشاءون ، فإن الله بهم عليم ، وأعد لهم ما يستحقون من عذاب الجحيم.

٤١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) وهو القرآن ، وخبر إن محذوف أي معذبون.

٤٢ ـ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) المراد بالباطل هنا المبطل ، والمعنى لا قوة في الكون لاحقة أو سابقة تستطيع أن تبطل حقيقة من حقائق القرآن أو أي شيء مما نطق به ، وتقدم في الآية ٩ من الحجر.

٤٣ ـ (ما يُقالُ لَكَ) يا محمد (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) كذبت رسل من قبل فصبروا ، وكذبت أنت فاصبر ، والعاقبة لك على من كذبك وآذاك ، وتقدم في الآية ٤ من فاطر.

اللغة : خاضعة هامدة لا حياة فيها. وربت زادت. والإلحاد الانحراف عن الحق والمراد به هنا الطعن في القرآن. وحميد محمود. والفرق بين الأعجم والعجمي ان الأعجم من لا يفصح وان كان عربيا ، والعجمي المنسوب الى العجم. وقد يطلق أحدهما على الآخر. والوقر الصمم.

___________________________________

الإعراب : المصدر من انك (تَرَى) مبتدأ وخبره من آياته. و (تَرَى) هنا بصرية تحتاج الى مفعول واحد وهو الأرض. و (خاشِعَةً) حال. و (آمِناً) حال من ضمير يأتي. و (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بدل من (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) ، وخبر ان محذوف أي معذبون أو (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) ، وقد حذف من الثاني لدلالة الأول عليه. وعزيز صفة لكتاب ، وجملة لا يأتيه صفة ثانية ، وتنزيل صفة ثالثة.

٦٣٥

٤٤ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) الفرق بين الأعجمي والعجمي أن الأعاجم لا يفصح ويبين وإن كان عربيا ، والعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) نزل القرآن مفصلا بلغة العرب ، فأنكره المعاندون منهم للحق ، ولو نزل بغير لغتهم لقالوا : أنبي عربي وكتاب أعجمي ، فهم منكرون له طاعنون فيه على كل حال (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) لعقل من طلب الحق لوجه الحق (وَشِفاءٌ) لصدر من يشكو من داء الشك والريب (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ولا يفكرون إلا بمتعتهم وجشعهم أولئك (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي يستحيل أن يستجيبوا لدعوة الحق أيا كان مصدرها (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) لا يسمعون نداء الحق حتى كأن بينهم وبينه بعد المشرقين ، وإن كان أقرب إليهم من حبل الوريد.

٤٥ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) اعترفت به فئة ، وأنكرته أخرى تماما كما هو الشأن في القرآن والإنجيل (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأجيل العذاب إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بتعجيل العقاب (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من القرآن (مُرِيبٍ) يجادلون في القرآن وهم على غير بصيرة من أنفسهم ، بل ويعلمون أنهم يخبطون خبط عشواء ، ولكنهم يتظاهرون بالعلم والمعرفة وما أكثر هذا النوع.

٤٦ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ...) ما من أحد يؤخذ ويعاقب بالعدل في الدنيا والآخرة إلا إذا كان هو بالذات السبب الموجب للأخذ والعقاب بحيث لو كان هو الحاكم العادل لحكم على غيره بنفس ما حكم الغير عليه.

٤٧ ـ (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) لا أحد يعلم متى تقوم القيامة إلا هو ، ولا تخفى عليه من خافية ، وتقدم في الآية ٥٩ من الأنعام و ٣٤ من لقمان وغير هما.

٤٨ ـ (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) قد يكون للإنسان في الدنيا صنم أو مال أو شيء يعتز به حتى إذا قامت القيامة لم يجد شيئا إلا عمله.

٤٩ ـ (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) يلح في طلب المال والجاه والصحة والأمان.

___________________________________

الإعراب : ولو لا أداة تحضيض بمعنى هلا. وأعجمي خبر لمبتدأ محذوف وكذلك عربي أي أكتاب اعجمي ونبي عربي. فلنفسه متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي فعمله لنفسه. (وَما تَخْرُجُ) و (ما تَحْمِلُ) «ما» نافية. (مِنْ ثَمَراتٍ) «من» زائدة وثمرات فاعل تخرج. ومن أكمامها متعلق بمحذوف صفة لثمرات. وبعلمه متعلق بمحذوف حالا أي إلا كائنا بعلمه. وما لهم من محيص «من» زائدة ومحيص مبتدأ وخبره لهم.

٦٣٦

(وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) يطير صوابه وتنهار أعصابه.

٥٠ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) حق لازم ، ولا فضل لأحد عليّ ، لأني أملك كل المؤهلات والكفاءات لهذا الغنى والخير الذي أنا فيه! وما من شك أن هذا كافر إلا أن يستثني ويقول : لا فضل عليّ إلا لله (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) فيه إيماء إلى أن الغنى قد يؤدي بالمرء إلى إنكار البعث (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) وإن صحّ أن هناك نشرا وحشرا فمكانتي مضمونة عند الله ، لأن العظيم عظيم أينما كان ويكون ، وإذا لم يكن لهذا المغرور الكفور إلا هذه الغطرسة لكفى بها جرما وجريمة ، وتقدم في الآية ٣٢ ـ ٤٤ من الكهف (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا ...) كل الأقوال والأفعال والمقاصد هي في علم الله ، دقيقها وجليلها ، خيرها وشرها ، وبمثلها وقدرها يكون الثواب والعقاب.

٥١ ـ (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ ...) إن استغنى بطر وفتن ، وإن افتقر قنط ووهن كما قال الإمام عليّ (ع) وتقدم مرارا ، منها الآية ٩ وما بعدها من سورة هود.

٥٢ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) قل يا محمد للذين كذبوا بالقرآن : أخبروني ما ذا يكون حالكم ومآلكم لو كان القرآن حقا من عند الله؟ ألستم عندئذ مخالفين للحق مكابرة وعنادا ٥٣ ـ (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) أي في أشياء الكون كله أرضا وسماء (وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ) أي القرآن هو (الْحَقُ) يقوم منهج القرآن للرد على خصومه ومخالفيه ـ على أمرين : الأول النظر إلى الشيء المختلف فيه نظرة موضوعية مجردة عن التقليد وكل رأي سابق كما جاء في آيات التقليد للآباء والأجداد ـ الثاني الاعتماد على منطق الحس والعقل سلبا وإيجابا ، وعلى هذا الأساس قال لعبدة الأصنام : إنها لا تنفع ولا تضر ، ولمن ألّه الكواكب : إنها تأفل وتغيب ، وللمشركين : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، ولمن قال : البعث محال : من أوجد النشأة الأولى يوجد الثانية ، أما الذين أنكروا وجود الله سبحانه فقد وعدهم أن يكشف لهم عن الأدلة الناطقة بوجوده في أنفسهم بالذات ، وفي أشياء الكون بأرضه وسمائه ، وصدق بوعده حيث اهتدى العلماء قديما وحديثا في الكون والإنسان إلى قوانين وسنن وحقائق لا يمكن ويصح تفسيرها إلا بوجود الله ، لأن الفكرة المضادة حماقات ، وأشرنا إلى ذلك مرارا فيما سبق ، ووضع العلماء فيه كتبا خاصة ، ومنها على سبيل المثال : الله يتجلى في عصر العلم ، والعلم يدعو إلى الإيمان ، والدين في مواجهة العلم.

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أودع سبحانه في كل شيء آية ظاهرة واضحة تدل على أنه واحد.

٥٤ ـ (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) يقول سبحانه الذين يرتكبون القبائح والمحرمات ، ولا يشعرون بالمسؤولية وسوء العاقبة هم الذين يشكون في كل حق ، وإن قام عليه ألف دليل ودليل ، وقد هدد سبحانه هؤلاء بقوله : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) ومنه كتاب المجرمين الذي لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها.

٦٣٧

سورة الشّورى

مكيّة وهي ثلاث وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ ٢ ـ (حم. عسق) تقدم في أول البقرة.

٣ ـ ٤ ـ (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الله سبحانه قادر وحكيم ، وبقدرته وحكمته بعث الأنبياء بالحق إلى الخلق ، وجعلهم حجة له على عباده لئلا تجب الحجة لهم بترك الإعذار إليهم.

٥ ـ (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هدا من قول المشركين : اتخذ الرّحمن ولدا كما أشارت الآية ٩١ من مريم (مِنْ فَوْقِهِنَ) أي يحدث انشقاق السموات من أعلاهن (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ينزهونه عن الشريك والولد (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من أهل التوحيد ، ويطلبون الهداية لمن جحد أو أشرك.

٦ ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) الله يعلم المؤمن والكافر والبر والفاجر ، ويجزي كلّا بما يعمل ويدين (وَما أَنْتَ) يا محمد (عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) بل أنت بشير ونذير ، وتردد هذا في العديد من الآيات ، منها الآية ١٠٨ من يونس.

٧ ـ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) واضحا جليا. أنظر الآية ٢ من يوسف و ٣ من فصلت (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) مكة المكرمة (وَمَنْ حَوْلَها) أي والعرب ، ومنهم اللغة : حفيظ رقيب. وما أنت عليهم بوكيل أي لست موكلا بهم. وأم القرى مكة.

___________________________________

الإعراب : كذلك الكاف بمعنى مثل ومحلها النصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي ايحاء مثل ذلك. والله فاعل (يُوحِي). (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) مبتدأ أول والله مبتدأ ثان و (حَفِيظٌ) خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول. و (قُرْآناً) مفعول أوحينا.

٦٣٨

تنطلق الدعوة وتنتشر في أرجاء العالم كما حدث بالفعل (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) تدعو الناس إلى الإيمان بيوم القيامة والخوف من حسابه وعذابه.

٨ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) لو كان الناس مسيّرين لا مخيّرين لم يكن هناك كفر وإيمان ولا خير وشر ، وتقدم مرات ، ومنها الآية ٤٨ من المائدة (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) وهم المؤمنون المطيعون لقوله تعالى : (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) ـ ٧١ التوبة».

٩ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) الله ولي العبد بمعنى الناصر له والمتولي لأموره ، والعبد ولي الله بمعنى المطيع له ولموالي لمن والاه والمعادي لمن عاداه.

١٠ ـ (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) هذه حكاية لكلام الرسول الأعظم (ص) بدليل قوله بلا فاصل : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) كل شيء يختلف الناس فيه فمرجعه إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وتقدم في الآية ٥٩ من النساء : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول.

١١ ـ (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلق الكون بأرضه وسمائه (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) كي تتعاطفوا وتتبادلوا الرحمة والمودة (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أصنافا وذكورا وإناثا ، وتقدم في الآية ١٤٣ من الأنعام (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) يكثركم في هذا التدبير نسلا بعد نسل وجيلا بعد جيل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ذاتا ووصفا ، لأنه خالق كل شيء وفوق كل شيء.

١٢ ـ (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أمور الكون كلها في قبضته (يَبْسُطُ الرِّزْقَ ...) تقدم في الآية ٢٦ من الرعد.

١٣ ـ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ...) الخطاب في «لكم» للمسلمين ، والمعنى أن الذي جاء به محمد هو امتداد لما جاء به نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وإنما خصّ سبحانه هؤلاء بالذكر لأن لكل واحد منهم شريعة نتفق مع شريعة الآخرين بعقيدتها كالتوحيد والبعث ، وبمبادئها وأحكامها كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات ، وتدعيم القيم الأخلاقية ومحاربة الانحراف والرذيلة وتفترق عن الأخرى في بعض الفروع الاجتماعية والاقتصادية التي تصلح لزمان

___________________________________

الإعراب : وجملة لا ريب فيه صفة ليوم الجمع. (وَفَرِيقٌ) مبتدأ وخبره محذوف أي منهم فريق. ومن ولي «من» زائدة إعرابا وولي مبتدأ وما لهم خبر مقدم ، والجملة خبر الظالمون. أم اتخذوا «أم» بمعنى بل للانتقال من كلام الى كلام ، وقيل هي بمعنى الهمزة فقط. وما اختلفتم «ما» اسم متضمن معنى ان الشرطية ، ويحتاج الى فعل الشرط وجوابه. ومن شيء «من» بيان لما ، أي كل شيء تختلفون فيه. وذلكم مبتدأ والله خبر وربي بدل وفاطر خبر آخر. ويذرؤكم فيه ضمير فيه يعود الى الجعل المفهوم من قوله تعالى جعل لكم. وكمثله الكاف زائدة اعرابا أي ليس مثله.

٦٣٩

دون زمان (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) الإسلام ، والمصدر من أن أقيموا بدل من «ما وصى» (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) شيعا ومذاهب ، إن كنتم حقا من أهل الإسلام والقرآن ، والذين لا يجمعهم الإيمان بالله الرّحمن الرّحيم وبمحمد نبي الرحمة والإنسانية ـ محال أن يجمعهم شيء إلا جيفة يتكالبون عليها تماما كوحوش الغالب (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) يا محمد ، أولا لأنك لا تملك مالا ولا سلطانا ، ثانيا لأنك تدعو إلى الحق ، وما هم من أهله ولا في معدنه (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) كبر وثقل على العتاة أن تكون رسولا يا محمد ، ولكن الله أعلم بشمائلك وفضائلك ، ولذا اختارك سيدا للرسل وخاتما للأنبياء (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) من يلجأ إليه بصدق وإخلاص ، وفي الآية ١١ من التغابن : «ومن يؤمن الله يهد قلبه».

١٤ ـ (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) اختلفنا في الحق ونحن أعلم الناس به ، وإذن لا سبب موجب للخلاف إلا خبث السرائر ، وتقدم في الآية ٢١٣ من البقرة (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ...) شاءت حكمته أن يرجئ العذاب ليوم المعاد وإلا لأخذ به الطغاة في هذه الحياة ، وتقدم في الآية ١٩ من يونس (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ) اليهود والنصارى المعاصرون لمحمد (ص) (مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد الأنبياء أو الأجيال السابقة (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من محمد.

١٥ ـ (فَلِذلِكَ) إشارة إلى دين الله وإقامته (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) اثبت على الدين الحنيف والدعوة إليه (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي أهواء المشركين ، والخطاب لمحمد (ص) وتسأل : قال سبحانه في الآية ٨٠ من النساء : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ومعنى هذا أن الرسول معصوم ، وقال سبحانه هنا للرسول نفسه : لا تتبع أهواء المشركين ، وتكرر هذا النهي في العديد من الآيات ، منها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) ـ ١ الأحزاب» فكيف ساغ النهي عن المعصية مع وجود العصمة؟ الجواب : ذكرنا فيما سبق الوجه المسوغ لهذا النهي ، والآن نعطف عليه : جعل سبحانه طاعة الرسول طاعة الله لأن الرسول لا ينطق إلا بأمر الله ، وكل من نطق به تجب طاعته ، ونهى سبحانه الرسول عن المعصية تقريرا وتوكيدا لشعور الرسول بأنه عبد من عباد الله ، وتنبيها لنا نحن بأنه عبد لله كيلا نتخذه شريكا أو نصف شريك لله ، كما فعل غيرنا من الطوائف ، ويؤكد هذا قوله تعالى لرسوله : (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أعلن يا محمد إيمانك بالكتب المنزلة من السماء وعدلك بالحكم بين الناس بإذن الله رب العالمين (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لا تسألون عما أجرمنا ، ولا نسأل عما تعملون (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) لا جدال ولا مناظرة (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة ، ويحكم وهو خير الحاكمين.

١٦ ـ (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي لله سبحانه ، والمعنى أن الذين ناصبوا العداء لله والإسلام لما رأوا الناس يدخلون فيه ، ويستجيبون له ، أخذوا يجادلونهم فيه بالتهويش والباطل الذي لا يسعفهم بشيء ، ولذا قال سبحانه : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) زائفة باطلة.

٦٤٠