التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

من رجال الدنيا والدين (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) بضلالهم حيث سيطروا بالكذب والخداع أو بالقهر والغلبة ، وشمخوا واستكبروا ونهبوا وسلبوا.

٦٨ ـ (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) الأول لضلالهم والثاني لإضلالهم عبادك ، وتقدم في الآية ٣٨ من الأعراف ٦٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) والذين آذوا موسى هم اليهود ، ما في ذلك ريب ، وفي بعض التفاسير : أن موسى وهرون صعدا الجبل ، فمات هرون فقال له اليهود : أنت قتلته وما هذا ببعيد على من قال : الله الفقير ونحن الأغنياء. وفي أية حال فإن قوله تعالى للذين آمنوا بمحمد (ص) : لا تكونوا كالذين آذوا موسى ـ يشير إلى أن بعض الصحابة افترى على رسول الله ونسب إليه ما هو بريء منه.

٧٠ ـ ٧١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) باتقاء الشبهات في الأقوال والأفعال ، فإن الوقوع فيها يجر إلى التهلكة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) الذي قال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (فَقَدْ فازَ) بالسهم الأوفر.

٧٢ ـ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) للأمانة ثلاثة أركان : الركن الأول نفس الأمانة التي يجب حفظها والوفاء بها ، والمراد منها هنا التكليف بفعل الواجبات وترك المحرمات ، وبكلمة : الدين. الركن الثاني صاحب الأمانة ، وهو الخالق والمشرع جل وعلا ، ولذا أضافها إلى نفسه في قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ). الركن الثالث الأمين أو المؤتمن ، وهو الإنسان ، لأنه المخلوق الوحيد الذي تتوافر فيه شروط المسئولية كالعقل والحرية والقدرة على التصرف قبضا وحرصا ووفاء ، ولذا وضعها سبحانه عند الإنسان دون سواه (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ـ ١٢٤ الأنعام» وقال : حملها الإنسان ولم يقل : حملناها للإنسان للتنبيه إلى استعداده واقتداره على حملها ، ونفاها عن السماء والأرض والجبال لأنها لا تملك هذا الاستعداد وقال : أبين وأشفقن منها للتنبيه إلى عظمة الأمانة في قدرها ، وأنها فوق ما تطيقه المجرات والجبال الراسيات (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) لنفسه حيث استهان بالأمانة ، ولم يتنزه عن الخيانة (جَهُولاً) بقدر الأمانة وعظمتها وبما ينجم عن التهاون بها.

٧٣ ـ (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ) اللام هنا للعاقبة أي أن الله كلف الإنسان فعصى بالشرك والنفاق والفسق ، فاستحق العذاب (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي يرحمهم ويحسن إليهم ، لأنهم أبصروا أمانة الله ، وآمنوا بأنها حق يجب أن يؤدى ويصان ، وأنهم محاسبون عليها لا محالة.

___________________________________

الإعراب : والسبيلا مفعول ثان لأضلونا لمكان همزة التعدية ، ويجوز أن يكون السبيل منصوبا بنزع الخافض أي عن السبيل. (يُصْلِحْ) مضارع مجزوم بجواب قولوا. و (أَشْفَقْنَ) منها على حذف مضاف أي من حملها.

٥٦١

سورة سبأ

مكيّة وهي اربع وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) له الحمد في الدنيا وفي الآخرة ، والملك كله ، والحكم المطلق ، ولا أحد يملك معه شيئا إلا ملكه مالك الملك.

٢ ـ (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من أسرار ومعادن وعناصر ، وأكثرها طي الكتمان حتى الآن (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من أرزاق وخيرات (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من رحمة أو عذاب (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي يصعد ويرتقي من أقمار اصطناعية ومركبات وطيور وطائرات ، وتقدم في الآية ٥٩ من الأنعام وغيرها.

٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى ...) أنتم تجحدون المعاد ، ونحن به مؤمنون ، والله يعلم المحقّ من المبطل فإلى اللقاء ، وتقدم في الآية ٥٣ من يونس.

٤ ـ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ) أحسنوا بالحسنى ، والذين أساءوا بما كانوا يعملون.

اللغة : الولوج الدخول. والعروج الصعود. ولا يعزب عنه لا يغيب عنه. ومعجزين من عاجزه أي سابقه ليظهر عجزه. والمراد بالرجز هنا أسوأ العذاب ، ومن بيانية.

___________________________________

الإعراب : الحمد لله مبتدأ وخبر. والذي عطف بيان من لفظ الجلالة. وعالم الغيب صفة لربي. ولا أصغر ولا أكبر عطف على مثقال ذرة. والمصدر من ليجزي متعلق بلا يعزب عنه. والذين سعوا مبتدأ أول وأولئك مبتدأ ثان ولهم وعذاب خبر والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول. ومعاجزين حال من فاعل سعوا. والذي أنزل اليك مفعول أول ليرى الذين أوتوا العلم ، والحق مفعول ثان ، و «هو» ضمير الفصل ، ويهدي عطف على الحق لأن الفعل هنا بمعنى الاسم أي والهدى إلى صراط العزيز الحميد.

٥٦٢

٥ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) عملوا بكل وسيلة أن يظهروا أنبياء الله بمظهر العاجزين عن إثبات الحق ، ومثله تماما (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ).

٦ ـ (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ما من عالم منصف مسلما كان أو غير مسلم يدرس القرآن دراسة واقعية إلا وينتهي إلى أن كل ما فيه حق وصدق ، وانه يهدي إلى حياة أقوم أجل أن القرآن ليس كتابا علميا أو فلسفيا ، لكن هل من عالم يستطيع أن يتجاهل هذه الحقيقة وهي أن العلماء والفلاسفة ما عثروا على شيء في القرآن يصطدم مع العلم والواقع؟ وقد أعلن ذلك الكثير من علماء الغرب ، وعلى سبيل المثال نذكر ما قاله الفرنسي «لوازون» : خلف محمد كتابا آية في البلاغة وسجلا في الأخلاق ، وليس بينه وبين المسائل العلمية المكتشفة حديثا أي تعارض. ـ من مقال بعنوان انتظروا معجزة من السماء نشرته جريدة أخبار اليوم المصرية ت ٢٨ / ١٠ / ١٩٧٢ م.

٧ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالمعاد : أيها الناس (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) أي محمد (ص) (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) عظام بالية ، وأجزاء مبعثرة تعود بشرا سويا! لن يكون ذلك أبدا ، ولما ذا؟ لا لشيء إلا لشعورهم الذاتي بالمحال ، ولا عجب من أهل الجاهلية أن يقولوا هذا ، فنحن في القرن العشرين ، وقال أكثر الناس أو الكثير منهم : محال أن يصعد الإنسان إلى القمر حتى صعد.

٨ ـ (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) كل من آمن بالمعاد ، أو جعل الآلهة إلها واحدا ، أو ساوى بين الناس في الحقوق والواجبات وقال : ان للطاغين لشر مآب ـ فهو مجنون أو كذاب! وهذا المنطق يشهد على نفسه بالجهالة والضلالة.

٩ ـ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) وعن يمينهم وشمالهم من عظمة الله في خلقه ، ويعلمون أن الله قادر على البعث بعد الموت تماما كقدرته على إيجاد الكون وخلقه؟ (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) ان الله قادر على البعث ، وأيضا قادر أن يأمر الأرض فتبلعهم والسماء فتمطرهم قطعا من العذاب (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) راجع إلى عقله ، والمعنى كل ذي لب إذا فكّر وأمعن الفكر في قدرة الله ينتهي حتما إلى الإيمان بالبعث وإمكانه.

١٠ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ ...) تقدم في الآية ٧٩ ـ ٨٠ من الأنبياء.

___________________________________

الإعراب : و (الَّذِينَ سَعَوْا) مبدأ أول وأولئك مبتدأ ثان و (لَهُمْ) و (عَذابٌ) خبر والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول. و (مُعاجِزِينَ) حال من فاعل سعوا. والذي أنزل اليك مفعول أول ليرى الذين أوتوا العلم ، والحق مفعول ثان ، و «هو» ضمير الفصل ، ويهدي عطف على الحق لأن الفعل هنا بمعنى الاسم أي والهدى إلى صراط العزيز الحميد.

٥٦٣

١١ ـ (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) دروعا كاسية وافية (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أحكم صنعها لكي تقي المقاتل من الطعن والضرب ، ولا تمنعه من الحركة.

١٢ ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) كانت الريح تحمل سليمان ، وتقطع في الصباح مسيرة شهر كامل على الأقدام ، وكذلك في المساء (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أسلنا : أذبنا ، عين : نفس الشيء ، تقول : هذا عين كتابي أي هو بالذات ، والقطر : النحاس أو الحديد ، وقد أذابه سبحانه لسليمان كما ألان الحديد لأبيه داود (وَمَنْ يَزِغْ) ينحرف ويخرج عن الطاعة.

١٣ ـ (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) جمع محراب وهو المعبد وما أشبه (وَتَماثِيلَ) جمع تمثال وهو صورة الشيء (وَجِفانٍ) جمع جفنة وهي القصعة (كَالْجَوابِ) جمع جابية وهي الحوض الكبير (وَقُدُورٍ) جمع قدر (راسِياتٍ) ثابتات ، وتقدم في الآية ٨٢ من الأنبياء ، وتجدر الإشارة أنه قد كان ما كان لسليمان من قصور وجفان وتماثيل وأكاليل ولكن ما كان ذلك أو شيء منه على حساب العراة والجائعين كلا ولا بأيديهم كالأهرام في مصر ، وقصر يلدز في القسطنطينية ـ أو قصر الآس في غرناطة أو الحمراء في قرطبة أو قصور الملوك في عصرنا أو عصر البائدين ، بل كان من عمل الجن لا من الإنس بنص القرآن الكريم.

١٤ ـ (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ) على سليمان (الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) السوسة التي تأكل الخشب (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) وهي العصا ، وخلاصة المعنى : مات سليمان متكئا على عصاه وبقي كذلك إلى ما شاء الله ، وكان الإنس والجن ينظرون إليه ويحسبونه حيا ، إلى أن دبت السوسة في عصاه ، وأكلت جوفها فانكسرت وسقط سليمان ، وعلم الجميع بموته ، وقضي على الخرافة القائلة بأن الجن يعلمون الغيب ، ولو علموه (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) وأخيرا فنحن نؤمن ونصدق كل ما دلّ عليه ظاهر هذه الآيات ، وإن كان بعيدا عن الأفهام ، لأنه يتفق مع النقل ولا يخالف العقل.

١٥ ـ (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) قبيلة من العرب ، سميت باسم أبيها ، وفي قاموس الكتاب المقدس ؛ أن بلاد سبأ في جنوب جزيرة العرب (فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) آية أي دلالة وعلامة على نعم الله الوافرة ، وعن يمين وشمال كناية عن الخصب والازدهار في كل جزء من

___________________________________

الإعراب : (يا جِبالُ أَوِّبِي) أي قلنا يا جبال أوبي. و (الطَّيْرَ) بالنصب لأنه معطوف على محل الجبال. والمصدر من (أَنِ اعْمَلْ) مفعول من أجله لألنا أي ألنا له الحديد لأجل عمل الدروع ، وقيل : ان مفسرة بمعنى أي. و (الرِّيحَ) مفعول لفعل محذوف أي وسخرنا لسليمان الريح. وغدوها شهر مبتدأ وخبر ، والجملة حال من الريح. ومن الجن من يعمل «من» مفعول لفعل محذوف أي وسخرنا له من الجن من يعمل. وال داود أي يا آل داود ، ومفعول اعملوا محذوف ، وشكرا مفعول من أجله أي اعملوا الخيرات شكرا لله. (آيَةٌ) اسم كان ، و (لِسَبَإٍ) خبرها وفي مسكنهم متعلق بما تعلق به لسبأ. و (جَنَّتانِ) بدل من آية.

٥٦٤

أجزاء أرضها (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) رزقا وهواء (وَرَبٌّ غَفُورٌ) لمن آمن واتقى ، وقد أرسل سبحانه لقوم سبأ رسله وأنبياءه مبشرين ومنذرين.

١٦ ـ (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) بكسر الراء ، ومعناه السد الذي يمسك الماء فيرتفع ويسقي الزرع (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) شجر الأراك (وَأَثْلٍ) الطرفاء ، (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) أرسل سبحانه على قوم سبأ عذابا خرب السد ، وأهلك الزرع والضرع ، وأبدلهم بالحدائق الغناء أشجارا ضرها أكثر من نفعها كالطرفاء والسدر وما أشبه مما لا تستسيغه إلا الحيوانات.

١٧ ـ (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) أطغاهم الغنى ، وكفروا بأنعم الله ، فكان جزاؤهم الذل والهوان بالجوع والفقر (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أبدا لا يجزى جزاء الشر إلا فاعله ١٨ ـ (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) كان من نعم الله على قوم سبأ أن قراهم كانت متواصلة متقارب بعضها من بعض مع كثرة الأشجار والثمار ، فإذا ما سافر أحدهم لا يحمل طعاما ولا شرابا ، فحيث نزل وجد الماء والثمر (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) وفوق ذلك كله الأمن والأمان للحاضر والمسافر ليلا ونهارا.

١٩ ـ (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) طلبوا من الله سبحانه أن يباعد القرى عن بعضها ، ويجعل بينها مفاوز وفلوات كي يركبوا الرواحل ويحملوا ، ويبدو من هذا أن للسفر متعته وفوائده على ما فيه من مشاق (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالطغيان وكفران النعم (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) شتتهم سبحانه ووزعهم في أقطار شتى حتى صاروا أحدوثة للأجيال ومضرب الأمثال ، ومن ذلك : «تفرقوا أيدي سبأ» وأبناء عاملة ـ أي أهل جبل عامل المعروف اليوم بجنوب لبنان ـ جاء ذكرهم في حديث لرسول الله (ص) ذكره ابن كثير في تفسيره ج ٣ ص ٥٣١ ، وهذا نصه : «لسبأ من الولد عشرة : سكن اليمن منهم ستة وأربعه في الشام ، أما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير ، وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان.

٢٠ ـ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) حيث قال : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ـ ٣٩ الحجر» (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وتومئ كلمة «فريق» أن الكثرة الكاثرة من أهل الأديان وغيرهم من حزب إبليس.

٢١ ـ (وَما كانَ لَهُ) لإبليس (عَلَيْهِمْ) على العباد (مِنْ سُلْطانٍ) من حجة وبرهان أو إكراه وإرغام (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) لا شيء عند الشيطان إلا التزين والوسوسة بالباطل ، ولا يستجيب له إلا من كان دينه في معدته وهيئته ، أما من رسخ دينه في عقله وقلبه فيدعه الشيطان إلى من يستهويه ويغازله.

٢٢ ـ ٢٣ ـ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) قل يا محمد للمشركين : نادوا واستغيثوا بالذين زعمتموهم شركاء لله أو شفعاء عنده ، ثم انظروا هل يسمعون وينفعون

٥٦٥

أو يضرون؟ كلا انهم (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي لا يملك آلهة المشركين زنة ذرة من خير وشر أو نفع وضر ولا معين لهم وشفيع ، وفي هذا إبطال لقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ـ ٣ الزمر» (حَتَّى إِذا فُزِّعَ) ـ بتشديد الزين ـ أي ذهب الفزع (عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) للمفسرين في شرح هذه الجملة كلام غامض ومتضارب ، ولعل أوضحه ما معناه أن الله سبحانه إذا تكلم وأوحى بشيء خاف أهل السماء والملائكة ، فإذا انتهى سبحانه من وحيه وكلامه انكشف عنهم الفزع وذهب ، وعندئذ يسأل أهل السماء : ما قال سبحانه؟ فيقول لهم الملائكة المقربون : قال ، تقدست كلمته : الحق وهو العلي الكبير.

٢٤ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) جاء السؤال والجواب من رسول الله (ص) حيث لا خلاف بين السائل والمسئولين ـ أي المشركين ـ على أن الله وحده هو خالق الأرزاق والمرتزقة ، وعليه فيجب أن يكون الإله إلها واحدا في ذاته وصفاته (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا الأسلوب في الحوار والنقاش من خصائص العالم الواثق من نفسه كل الثقة ، وكأنه يقول لخصمه : ابحث ودقق لتعلم أي الفريقين أهدى سبيلا.

٢٥ ـ (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا هو الإسلام نصا وروحا في دعوته إلى الله وشريعته ، يكشف عن الحق ، ويدعمه بالأدلة ، ويحث المدعوين على النظر وإعمال العقل ، ويقول لهم من جملة ما يقول : (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) ـ ٤٦ سبأ» وتختاروا لأنفسكم ما تشاءون ، فمن اهتدى منكم فلنفسه ومن ضلّ فعليها.

٢٦ ـ (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ) يحكم (بَيْنَنا بِالْحَقِ) ويجزي كل عامل بعمله.

٢٧ ـ (قُلْ أَرُونِيَ) الأنداد والأشباه والأضداد لله (كَلَّا) بل أنتم تجهلون وتفترون.

٢٨ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ) يا محمد (إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) وتكرر هذا المعنى في القرآن الكريم بأساليب شتى ، من ذلك : قل يا أيها الناس اني رسول الله إليكم جميعا ـ ١٥٨ الأعراف ... وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ـ ١٠٧ الأنبياء» والسر أن الإسلام بعقيدته وشريعته يسع الإنسانية في كل زمان ومكان ، لأنه يرفع من شأن الإنسان وكرامته وحريته ، ويعتمد في أصوله ومبادئه وأحكامه العقل والعدل ، وكلّ منهما يأبى بطبعه التخصيص والتقييد بالأزمنة والأمكنة أو بأي شيء ، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في شتى المناسبات.

٢٩ ـ ٣٠ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) تقدم في يونس ٤٨ وفي الأنبياء الآية ٣٨ وفي النمل ٧١.

___________________________________

الإعراب : (آية) اسم كان و (نسبة) خبرها وفي مسكنهم متعلق بما تعلق به؟ و (جنتان) بدل من آیة.

٥٦٦

٣١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) لأنه جعل الآلهة إلها واحدا ، وفوق ذلك يهدد بالنشر والحشر (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة والإنجيل ، فرد سبحانه مهددا متوعدا بقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ) يوم القيامة في موقف الخزي والهوان والضنك والخذلان (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي يتداولون الكلام غدا فيما بينهم ، وأوضح سبحانه نوع الحوار بين المستضعفين والمستكبرين بقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أنتم أيها القادة الطغاة صددتمونا عن الإيمان برسل الله ، وأفسدتمونا وضللتمونا.

٣٢ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) دعوناكم إلى الشر ، ودعاكم الرسل إلى الخير ، فاستجبتم لدعوة الشر لأنكم من أهله ومعدنه.

٣٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) مكر فاعل لفعل محذوف أي صدنا عن الحق مكركم بنا في الليل والنهار (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) وتمنوننا بالأباطيل والأكاذيب. وهكذا يجسم سبحانه امام أعيننا : كيف يتعاطف ويتعاضد الضال والمضل والفاسد والمفسد في دار الدنيا ، ثم كيف يتباغضون ويتلاعنون في دار الحق (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهكذا يعرض سبحانه في كتابه صورا شاخصة ماثلة لمصير الدعاة المضللين ومن يثق بهم ، ولعاقبة المتزعمين وأذنابهم الانتهازيين ، عسى أن نتعظ ونعتبر.

٣٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها

___________________________________

الإعراب : مفعول (تَرى) محذوف وكذلك جواب لو أي ولو ترى الظالمين آنذاك لرأيت عجبا. و (مَكْرُ) فاعل لفعل محذوف أي صدنا عن الحق مكركم بنا في الليل والنهار. وأضاف المكر إلى الليل والنهار على سبيل المجاز. وإذ تأمروننا «إذ» في محل نصب بمكر والمصدر من أن نكفر مجرور بباء محذوفة أي تأمروننا بالكفر بالله.

٥٦٧

إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) ليس المراد بالمترفين الأغنياء على وجه العموم ، كيف ورسول الله (ص) تعوذ من الفقر وقال : كاد الفقر يكون كفرا. اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا. المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف. وكان خليل الرّحمن كثير المال حتى ضاقت بلدته بمواشيه ، وإنما المراد بالمترفين المحتكرون لموارد العباد والمتحكمون بالأسواق والأسعار.

٣٥ ـ (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) هذا هو منطق المترفين المحتكرين : العيش الأكثر رفاهية ، والمال الأكثر جمعا وتراكما ولو عن طريق النهب والاغتصاب ـ هو مقياس الحق والعدل ، بل ومرضاة الله أيضا حيث يستحيل من حقه وعدله أن يعطيهم هذا الثراء في الحياة الدنيا ثم يعذبهم عليه في الآخرة! وجهلوا وتجاهلوا أن هذا الثراء من الحرام لا من الحلال ، وأن الله سبحانه يحاسب عليه من أين أتى؟ وفيما أنفق؟ إضافة إلى قوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) ـ ١٧٨ آل عمران ... (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) ـ ٣٥ التوبة».

٣٦ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي ...) تقدم في الآية ٢٦ من الرعد وغيرها.

٣٧ ـ (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) ولا شيء على الإطلاق يقربكم من الله إلا العمل الصالح النافع للفرد والجماعة ، فهو وحده المقياس لمرضاة الله وجناته.

٣٨ ـ ٣٩ ـ (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) تقدم في الآية ٥١ من الحج و ٥ من السورة التي نحن بصددها (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ويضاعفه أيضا بنص الآية ٢٦١ من البقرة : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) وجربت بنفسي وقرأت وسمعت كثيرا أن الصدقة دفعت أعظم البلايا والرزايا ، وفي الحديث أن الصدقة تقع في يد الرّحمن قبل أن تقع في يد السائل ، وفي نهج البلاغة الصدقة دواء منجح.

٤٠ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) القصد من هذا السؤال مجرد تقريع المشركين وتوبيخهم ، وتدل الآية أن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة.

٤١ ـ ٤٢ ـ (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا) نحن عبادك.

___________________________________

الإعراب : (كافِرُونَ) اسم انّا ، و (بِما أُرْسِلْتُمْ) متعلق بكافرين ، وبه متعلق بأرسلتم. و (أَمْوالاً وَأَوْلاداً) تمييز. وبمعذبين الباء زائدة إعرابا ، و (بِمُعَذَّبِينَ) خبر نحن. و (زُلْفى) مفعول مطلق لتقربكم. إلا من آمن وعمل صالحا على الاستثناء المنقطع أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله الصالح يقربانه من الله زلفى. فأولئك مبتدأ أول وجزاء مبتدأ ثان والضعف مجرور بالإضافة من إضافة المصدر الى مفعوله فأولئك نضاعف لهم الجزاء ، ولهم خبر الثاني ، والجملة من الثاني وخبره خبر الأول ، وهؤلاء مبتدأ وإياكم مفعول يعبدون.

٥٦٨

وأعداء لمن عبد سواك (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) المراد بالجن هنا من زين الشرك والتعبد لغير الله.

٤٣ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ...) كان رسول الله (ص) إذا تلى القرآن على العتاة المعاندين يقولون للناس : إن دين الآباء والتعبد للأصنام هو الحق والصدق ، والذي جاء به هذا الرسول سحر وزور. وما يدرينا أن محمدا (ص) لو بعث في عصرنا الراهن لقالوا عنه مثل هذا القول وزيادة لأنه يرى ما لا يرى أهل الأرض في شرقها وغربها ، ويشعر بغير ما يشعرون.

٤٤ ـ (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ) يا محمد (مِنْ نَذِيرٍ) ما نزل عليهم وحي من السماء بدين الشرك ولا أمرهم رسول بذلك من قبل محمد (ص) والعقل الخالص يحكم بالتوحيد لا بالشرك ، وإذن لا أساس لما هم عليه إلا الجهل بالجهل.

٤٥ ـ (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ما بلغ الذين كذبوا محمدا (ص) من المال والقوة معشار ما ملك الأولون ، ومع هذا لما كذبوا رسل الله أخذهم سبحانه بالهلاك والدمار ، فليتعظ بأخبارهم وما حلّ بهم من كان له قلب وعقل ، وتقدم في الآية ٦٩ من التوبة.

٤٦ ـ (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أعظكم : أنصحكم ، بواحدة : بخصلة واحدة وهي أن تقوموا : من القيام بالأمر مثل قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) ـ ١٣٥ النساء» مثنى» : يسأل بعضكم بعضا ويراجعه ، وفرادى : يرجع كل فرد منكم على عقله وضميره ، والمعنى قل يا محمد للذين نعتوك بالجنون : ادرسوا وفكروا في أمري من البداية حتى النهاية مجتمعين ومنفردين ، هل تجدون في حياتي كلها من قول أو فعل ـ ما يومئ من قريب أو بعيد إلى الجنون؟ هذا هو العدل ومنطق العقل ، ومن كفر به وصدّ عنه فهو المجنون. وأعجب ما قرأت من الافتراء على سيد البشر وخاتم الرسل ما جاء في مجلة عالم الفكر الكويتية ج ٨ عدد ٤ ص ١٣٨ ، وهذا نصه بالحرف الواحد : «أكد الكثير من الكتّاب ـ المسيحيين ـ أن محمدا كان كردينالا مسيحيا طموحا اخترع الإسلام نتيجة عجزه عن الوصول إلى كرسي البابوية»!.

___________________________________

الإعراب : (فَكَيْفَ) خبر كان ونكير اسمها وأصلها نكيري. والمصدر من (أَنْ تَقُومُوا) بدل من واحدة. و (مَثْنى وَفُرادى) حال من فاعل تقوموا. بين يدي ظرف منصوب بنذير. ما سألتكم «ما» اسم موصول مبتدأ ، وجملة فهو لكم خبر والعائد على الموصول محذوف أي ما سألتكموه. وعلام الغيوب خبر مبتدأ محذوف أي هو. فبما يوحي متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فاهتدائي كائن بالوحي إليّ.

٥٦٩

٤٧ ـ (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ...) تقدم في الآية ٧٢ من يونس وغيرها.

٤٨ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) يوحي به إلى رسله وأنبيائه.

٤٩ ـ (قُلْ جاءَ الْحَقُ) أي دين الحق وهو الإسلام (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ) أي دين الباطل وهو الكفر والشرك (وَما يُعِيدُ) لا يتكلم بكلمة بادئة ولا عائدة ، بل الشرك ذهب واضمحل.

٥٠ ـ (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) ومن هذه الآية استوحى العالم المتخلق بأخلاق القرآن قوله حين يفتي بمسألة شرعية : إن يكن هذا صوابا فمن الله وهدايته ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان.

٥١ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) سترى بعينيك يا محمد كيف نأخذ بسهولة قادة البغي وعتاة الجبروت ، إلى أخذ العذاب ، ولا مفر لهم من نكاله وضراوته ، والمكان القريب كناية عن أنهم في يد الله وقبضته.

٥٢ ـ (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) يقولون حين يرون الطامة الكبرى : آمنا بمحمد (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) أين وكيف ينالون الإيمان وهم في الآخرة ، والإيمان في الدنيا التي ذهبت كالأمس الدابر.

٥٣ ـ (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) يكفرون بالحق حيث يجب الإيمان به ، ويؤمنون به ساعة الحساب عليه (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) فيقولون : لا نشر وحشر ولا جنة ونار رجما بالغيب (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) بحيث لا يصل السهم إلى هدفه ومرماه.

٥٤ ـ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) اشتهوا وطلبوا المحال ، وهو الخلاص من أليم العذاب تماما كالأمم الماضية آمنت وطلبت النجاة حين رأت المهلكات! ما كان أغناها عن الحالين لو آمنت بالتوحيد حين دعاها الرسل إليه وهي في الحياة الدنيا (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) حيث وضع في تصورهم أن الحياة الثانية محال ، كيف وقد صار الإنسان ترابا وهبابا؟ وما أبعد هذا التصور من تصور الإمام (ع) حيث قال : عجبت. ممن أنكر النشأة الأخرى ، وهو يرى النشأة الأولى!.

___________________________________

الإعراب : جواب (لَوْ) محذوف أي لرأيت عجبا. و (فَوْتَ) اسم لا وخبرها محذوف أي لهم. و (التَّناوُشُ) مبتدأ ، و (أَنَّى لَهُمُ) أي من أين لهم وهو متعلق بمحذوف خبرا للتناوش.

٥٧٠

سورة فاطر

مكيّة وهي خمس وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالق الكون على غير شبيه ومثيل من قبل ، ويرادف كلمة الفاطر كلمة المبدع والمخترع (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) أي اتخذ منهم رسلا بينه وبين أنبيائه (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ ...) ومعنى هذا أن للملائكة أجساما وليسوا مجرد أرواح ، لأن لهم أجنحة ، والفرق أن للطير جناحين وبعض الملائكة لهم أكثر من ذلك ، ونحن على يقين من هذا لأننا عبيد لظاهر النص إلا أن يتعارض مع العقل والواقع فنلجأ إلى تأويل الظاهر بما يتفق معهما على أساس المحافظة على قوانين اللغة.

٢ ـ (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ) هو وحده المعطي والمانع ، ولا مانع لما أعطى ، أو معطي لما منع أبدا ما شاء كان وإن لم يشأ لم يكن ، ومعنى هذا أن على المؤمن العاقل أن لا ييأس من روح الله مهما ضاقت الحلقات ، وأيضا عليه أن لا يأمن المخبآت والمفاجئات حتى ولو أقبلت الدنيا عليه بكاملها.

٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالطاعة له وحسن السلوك مع عباده بكف الأذى عنهم (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) كلا ، وإذن علام تبيع دينك للشيطان ـ أيها الإنسان ـ طمعا بالحرام ، وتتذلل للأغنياء حتى يتصدقوا عليك بالفتات.

٤ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا محمد (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) واضح ، وتقدم في الآية ١٨٤ من آل عمران.

اللغة : فاطر السموات والأرض خالقهما على غير مثال سابق. ومثنى وثلاث ورباع معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، ولم يسمع فيما زاد عن هذه الأعداد مثل مخمس. والمراد بما يفتح هنا ما يعطي. وتؤفكون تصرفون عن الحق إلى الضلال.

___________________________________

الإعراب : (فاطِرِ السَّماواتِ) صفة لله. و (جاعِلِ) صفة ثانية ، وقيل : انه يعمل عمل الفعل لأنه مضاف فأشبه المقرون باللام ، وعليه يكون مضافا الى المفعول الأول وهو (الْمَلائِكَةِ) ، و (رُسُلاً) مفعول ثان. و (أُولِي أَجْنِحَةٍ) بدل من رسل ، ومثنى وما بعدها صفات للملائكة. وما يفتح «ما» شرطية في محل نصب بيفتح. فأنّى تؤفكون أي فإلى أين ، والمجرور متعلق بتؤفكون.

٥٧١

٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) الحساب والجزاء بعد الموت واقع لا محالة (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ببهجتها وحلاوتها (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الشيطان ووسوسته وتقدم في الآية ٣٣ من لقمان.

٦ ـ ٧ ـ (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ...) نستفيد من هذه الآية أن علة الوصف بالشيطنة هي عداوة الإنسان ، وعليه فكل من أضمر الأذى وأساء لأي فرد من أفراد الإنسان فهو شيطان رجيم ولعين حتى ولو صلّى وصام وحج إلى بيت الله الحرام.

٨ ـ (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) جواب الشرط محذوف وتقديره كمن لم يزين له؟ والأول ضال عن نهج السبيل ، والثاني على الصراط الحميد ، وقال العقاد في التعريف بالمغرور : لو قال الإنس والجان جميعا للمغرور : أنت أجهل الناس وأحقر الناس وشر الناس وأضعف الناس ـ لكذّبهم وصدّق الغرور ، لأن فيه العزاء والسلوى عن جحود الثقلين بخلاله الجلي ؛ (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) هذا تعليل لقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) أي أن الله أضله لأنه سلك طريق الضلال تماما كما يميت من شرب السم المميت (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) لأنه سلك نهج الهداية تماما كقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ـ ٦٩ العنكبوت» وتقدم مرارا ، منها الآية ٢٧ الرعد (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) النبي بشر يفرح ويحزن ، وقد تأسف وتألم لإعراض من أعرض عن دعوته ، فقال له سبحانه : هوّن عليك إن الله عليم بما يصنعون ، وسوف يأخذهم بما يستحقون ، وتقدم في الآية ٦ من الكهف.

٩ ـ (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ...) تقدم في الآية ٥٧ من الأعراف.

١٠ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) لأنه غني بالذات عن كل شيء ، وإليه يفتقر كل شيء في كل شيء ، ومن اعتز بغير الله وتقواه فمآله إلى الذل والهوان (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) والكلام الطيب الذي يصعد إليه تعالى ويكون مقبولا ومذخورا ـ هو ما أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس أو ترك أي أثر مفيد للفرد أو المجتمع كما جاء في الآية ١١٤ من النساء (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وأصلح الأعمال على الإطلاق ما يحرر الحياة من العوز والفقر والمرض والجهل ، وينصر الحق والعدل (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ

___________________________________

الإعراب : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ) «من» مبتدأ والخبر محذوف أي كمن لم يزين له. و (حَسَراتٍ) مفعول من أجله لتذهب ، وعليهم متعلق بتذهب لا بحسرات لأنها مصدر ، والمصدر لا يقدم معموله عليه. هكذا قال النحاة.

٥٧٢

السَّيِّئاتِ) يدبرون الأذى والإساءة إلى الأبرياء الطيبين (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) لا يجديهم شيئا حيث يفتضحون ، وتنزل عليهم لعنة الله واللاعنين. وكتب الأديب اليوناني الشهير «نقوس كازندزاكي» عن أبيه ما نصه : حين كنت في المدرسة كان أبي يسأل : هل ابني كذب على أحد؟ وهل أساء إلى أحد. هذا ما كان يهمه من تربيتي ، وما عدا ذلك فأمر ثانوي.

١١ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) تقدم في الآية ٥ من الحج (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أصنافا أسود وأبيض وذكرا وأنثى (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) لأنه محيط بكل شيء (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) طويل العمر (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) قصير العمر ، والهاء في «عمره» يعود لمطلق الإنسان لا لطويل العمر (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي في علم الله.

١٢ ـ (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) ذكر سبحانه في كتابه النجوم والكواكب والإنسان والحيوان والبحار وكل أشياء الكون لننظر ونفكر ونستنتج بأن وراء الكون مهيمن ومدبر ، وتقدم في الآية ٥٣ من الفرقان (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) يعني السمك (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً ...) تقدم بالنص الحرفي في الآية ١٤ من النحل.

١٣ ـ (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ...) كل ذلك وغيره يدل على قدرة الخالق التي صنعت كل شيء ، وتقدم في الآية ٢٧ من آل عمران وغيرها (مِنْ قِطْمِيرٍ) قشر رقيق على نوى التمر.

١٤ ـ (إِنْ تَدْعُوهُمْ) الآلهة من دون الله (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) إن كانت الآلهة أحجارا وكواكب وما أشبه (وَلَوْ سَمِعُوا) إن كانوا من الإنس أو الملائكة (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لأنهم لا يملكون شيئا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ

___________________________________

الإعراب : (جَمِيعاً) حال من (الْعِزَّةَ). و (مَكْرُ) مبتدأ وهو ضمير فصل ، وجملة (يَبُورُ) خبر. ومن معمر «من» زائدة إعرابا ومعمر نائب فاعل ل (يُعَمَّرُ). ونائب فاعل لا ينقص محذوف أي لا ينقص شيء من عمره وفي كتاب متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي الا هو كائن في كتاب. (شَرابُهُ) فاعل (سائِغٌ). وجملة (تَلْبَسُونَها) صفة لحلية. والمصدر من (لِتَبْتَغُوا) متعلق ب (مَواخِرَ). (ذلِكُمُ) مبتدأ و (اللهُ) خبر أول و (رَبُّكُمْ) خبر ثان ، و (لَهُ الْمُلْكُ) مبتدأ وخبر والجملة خبر ثالث. و (مِنْ دُونِهِ) متعلق بمحذوف حالا من مفعول تدعون المحذوف أي والذين تدعونهم كائنين من دونه.

٥٧٣

بِشِرْكِكُمْ) يبرءون منكم ويوبخونكم على الشرك والضلال.

١٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) افتقار المخلوق إلى خالقه دون العكس قضية ضرورية الصدق واليقين ، تستمد هذه الضرورة من صلب تكوينها اللفظي تماما كما تقول : للمثلث زوايا ثلاث ، وعلى هذا يكون الغرض من الآية أن يتوكل الإنسان في جميع أموره على خالقه ويتضاءل أمام عظمته ، ويتجرد عن كل كبر وعجب وغطرسة حتى ولو كان أقوى الأقوياء مالا وسلطانا وهذا النوع من الفقر محبوب ومطلوب عند الله والعقلاء ، لأن الشعور به يدفع إلى الخير ، ويمنع عن الشر.

١٦ ـ ١٧ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) لا تضره تعالى معصية من عصاه ، ولا تنفعه طاعة من أطاعه وإلا لأتى بقوم لا يعصون ما أمر ، وتقدم في الآية ١٩ من إبراهيم.

١٨ ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) لكل امرئ عمله ، ولا يعذب عذابه أحد ، وتقدم بالحرف في الآية ١٦٤ من الأنعام (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها) كل نفس تحمل أوزارها وأثقالها ، وإذا طلب من قريب أو حبيب أن يحمل عنها ويخفف من حملها (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) لأن كل إنسان في شغل شاغل بنفسه عن غيره.

(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) الدليل الأقوى على الإيمان والتقوى أن يتورع المرء عن الحرام ومعصية الله ، والناس كل الناس بعيدون عنه وغائبون ، لا يخشى منهم عتاب أو عقاب ، وهؤلاء هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

١٩ ـ ٢٣ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ...) ليس سواء عند الله وفي الواقع من انحرف عن الحق إلى الباطل وعن العلم إلى الجهل ، وعن مرضاة الله ونعيمه إلى غضبه وجحيمه (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) وهم الطيبون الذين يبحثون عن السبيل المؤدية إليه كما قال سبحانه : (لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) ـ ٢٣ الأنفال» (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) المراد بهم هنا الذين لا يدينون بأي دين ولا يفهمون أية لغة إلا لغة «أنا ومن بعدي الطوفان».

٢٤ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) داعيا إلى

___________________________________

الإعراب : وكل من وازرة وأخرى ومثقلة صفة لنفس محذوفة أي ولا تزر نفس وازرة وزر نفس أخرى. ولو كان ذا قربى «لو» لوصل واسم كان محذوف أي ولو كان المدعو ذا قربى.

٥٧٤

هدي البشر وإسعاده (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) من نبي مرسل أو كتاب منزل أو حجة من عقل أو سنة فاضلة عادلة ، وتقدم في الآية ٣٦ من النحل وغيرها.

٢٥ ـ ٢٦ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ...) تقدم مرات منها في الآية ١٨٤ من آل عمران (وَبِالزُّبُرِ) الكتب أو الحكم والمواعظ (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) كتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم الأولى.

٢٧ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) فاهتزت الأرض ونمت وأنبتت أشكالا وألوانا وتقدم مرات ، منها الآية ٥ من الحج (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) جمع جدة بضم الجيم وهي الطريق والجادة (بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) بعض هذه بيض ، وبعضها حمر ، وبعضها سود ، وإذا وصف العرب الشيء بكثرة السواد قالوا أسود غربيب.

٢٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي وكذلك كل ما دب على قوائم ، ومنها الأنعام : الإبل والبقر والغنم هي مختلفة في ألوانها ، وهذا التفاوت في الألوان دليل على قدرة الله وحكمته ولا أثر له إطلاقا في الامتياز والتفاضل. (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وكلمة «يخشى» توحي بأن العلم الخالص من كل شائبة يؤدي حتما إلى معرفة الله وخشيته ، وما من شك أن نكران الذات والأنانية من لوازم الخوف من الله وآثاره ، ومعنى هذا أن من يكفر بالله أو آمن به نظريا وجحده عمليا فما هو من العلم الخالص في شيء ، واستوحيت تفسيري هذا لعلماء الخشية من قول أمير المؤمنين وإمام المتقين في وصفهم : «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم».

٢٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) ويعملون به وإلا فكم قارئ للقرآن والقرآن يلعنه كما جاء في الحديث الشريف ، لأن القرآن يلعن الكاذبين في الآية ٦١ من آل عمران والظالمين في الآية ٤٤ من الأعراف والمفسدين في الآية ٢٥ من الرعد ، بل ويلعن كل مجرم وآثم ، فإذا قرأ الفاسق والمجرم القرآن فقد لعن نفسه بنفسه إضافة إلى لعنة الله وقرآنه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا ...) تدخل الصلاة والزكاة في العمل بموجب القرآن (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) لأنها مع الله ولوجهه الكريم.

٣٠ ـ (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ...) لأنه لا يضيع أجر المحسنين بل ويزيدهم من فضله ورحمته.

___________________________________

الإعراب : (إِنْ) نافية ، و (مِنْ) زائدة اعرابا ، و (أُمَّةٍ) مبتدأ ، وجملة (خَلا) خبر. و (مُخْتَلِفاً) صفة لثمرات وألوانها فاعل مختلف. ومن الجبال جدد مبتدأ وخبر ، و (بِيضٌ وَحُمْرٌ) صفة لجدد. ومختلف ألوانها صفة لحمر. وبيض موصوفة بمختلف محذوف.

٥٧٥

٣١ ـ (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ) لأنه يقوم على أساس من الواقع ، ولا يدعو إلا إلى خير ، ولا ينهى إلا عن شر (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من كل كتاب ينطق بالصدق والعدل.

٣٢ ـ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) المراد بالكتاب القرآن ، وقد ورثه كدين كل مسلم يقول : الله الذي لا إله إلا هو ربي ومحمد رسول الله نبيي ، ـ القرآن المنزل عليه كتابي ، أما الاصطفاء فالمراد به اختياره تعالى لصفوة الخلق الذين تجب طاعتهم تماما كطاعة القرآن وهم أهل بيت محمد (ص) بنص حديث الثقلين الذي يقول : «إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي» وهو مروي بالعديد من الطرق ، منها ما جاء في صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل عليّ بن أبي طالب وصحيح الترمذي ج ٢ ص ٣٠٨ طبعة بولاق سنة ١٢٩٢ ه‍ نقلا عن كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة ، ومنها ما قاله الشيخ محمد عبده في التعليق على الخطبة ٨٥ من خطب نهج البلاغة ، وهذا نصه بالحرف : «الثقل هنا بمعنى النفيس من كل شيء ، وفي الحديث عن النبي (ص) قال : تركت فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي» (فَمِنْهُمْ) من المسلمين الوارثين للقرآن أبا عن جد لا من الصفوة لأن الشيء الواحد لا ينقسم إلى نفسه وغيره (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) وهو المتهاون في فعل بعض الواجبات وترك بعض المحرمات (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي معتدل ، وهو الذي زحزح عن النار لخروجه عن عهدة ما كلف به (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) وهو من جاهد وضحى في سبيل الحق والدين أو ترك أثرا ينتفع به الفرد والمجتمع.

٣٣ ـ ٣٥ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ ...) للسابقين إلى الخيرات ، والذين لم يقترفوا السيئات أو اقترفوا شيئا منها ، ولكن حسناتهم أرجح ، أما الذين استوت حسناتهم مع سيئاتهم فعسى الله أن يتوب عليهم كما في الآية ١٠٢ من التوبة (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) وإن سأل سائل : لما ذا أحل الله للرجال من أهل الجنة لبس الذهب والحرير ، وحرمه عليهم في الدنيا؟ قلنا في جوابه : لأنه تعالى حرمه عليهم في الدنيا.

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) بل (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) ٥٦ النساء» (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) لا كيفا ولا فترة استراحة.

٣٧ ـ (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) يصيحون مستغيثين

___________________________________

الإعراب : (هُوَ) ضمير الفصل لا محل له من الإعراب و (الْحَقُ) خبر الذي ، ومصدقا حال. (جَنَّاتُ عَدْنٍ) خبر لمبتدأ محذوف أي ثوابهم جنات عدن. وجملة (يَدْخُلُونَها) حال ، ومثلها جملة (يُحَلَّوْنَ) ، ومن أساور متعلق بيحلون.

٥٧٦

(رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً) الآن وكنتم في الدنيا بالعذاب تستعجلون ، وتقدم في الآية ١٠٠ من «المؤمنون» (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) ما يتذكر «ما» : مصدرية ظرفية ، ومن تذكر : العاقل المتذكر ، والمعنى أمهلناكم في دار الدنيا أمدا طويلا لكي تتذكروا وتتدبروا (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) يبيّن لكم الحق ويدعوكم إليه ، فأمهلتم وسوفتم (فَذُوقُوا) ما كنتم تكسبون ، وبه تكفرون ، ومنه تضحكون وفي نهج البلاغة : العمر الذي أعذر الله إلى بني آدم ستون سنة.

٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما في السرائر والضمائر ، وهو يجازي بموجب علمه تعالى كل عامل بما يستحق.

٣٩ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) يرثها جيل عن جيل ، ومنحكم العقل والحرية والقدرة على التحكم بها وبخيراتها ، وساوى بينكم في جميع الحقوق والواجبات ، ونهاكم عن البغي والفساد والمشاحنات ، فمن أحسن واتقى فله أجر كريم ، ومن أعرض ونأى فله عذاب الجحيم.

٤٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) احتج سبحانه في هذه الآية على المشركين بأمور ثلاثة (١) (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) لله آثار تدل على وجوده ونفي الشريك أيضا ، لأن القانون الذي يسيّر الذرة الصغيرة هو نفس القانون الذي يسيّر المجرات الكبيرة ، فهل للشريك المزعوم من آثار؟ وأين هي؟ (٢) (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) المراد بالشرك هنا النصيب والأثر ، والمعنى أيضا لا أثر للشريك في السماء (٣) (أَمْ آتَيْناهُمْ) أي أم أنزلنا على المشركين (كِتاباً) من السماء يقول : ان لله شركاء (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) كان المستكبرون يقولون للمستضعفين ان الأصنام سوف يشفعون لكم غدا عند الله ، وما من شك أن هذا الوعد زور وغرور.

٤١ ـ (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أمسك سبحانه الكواكب بقانون الجاذبية تماما كما سيّر الطائر بجناحيه ، وجعل الإنسان بصيرا بعقله وعينيه ، وحركه برجليه وتقدم في الآية ٦٥ من الحج.

___________________________________

الإعراب : (فَيَمُوتُوا) منصوب بأن مضمرة لأن الفعل وقع جوابا للنفي ، والمصدر المنسبك فاعل لفعل محذوف أي فيحصل لهم الموت. و (صالِحاً) صفة لمفعول محذوف أي عملا صالحا. وما يتذكر «ما» مصدرية ظرفية أي ألم نعمركم أمدا كافيا للتذكر. و (مَقْتاً) و (خَساراً) تمييز.

٥٧٧

٤٢ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) جمع يمين ، وكان عتاة قريش قبل محمد (ص) يحلفون بالله ويبالغون في الحلف والأيمان (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) رسول من الله (لَيَكُونُنَّ أَهْدى) وأطوع له (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي من أمة من الأمم أي من كل الأمم وأكثر منها انقيادا لأنبيائها (فَلَمَّا جاءَهُمْ) محمد رسولا من ربهم يتلو عليهم آياته ـ نفروا واستكبروا وبالغوا في حربه وإيذائه.

٤٣ ـ (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) من سلّ سيف البغي قتل به ، ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها ، والحقيقة النابعة من الحق والواقع لا تموت ، وإنما تموت الخرافات والأكاذيب ، ولذا نصر سبحانه عبده محمدا ، وأظهر دينه على الشرك كله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) وهم أعداء محمد (ص) والإسلام (إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) وهي هلاك من كذب أنبياء الله ورسله أو يخذل سبحانه المكذبين كما خذل عتاة الشرك حين استسلموا في النهاية لرسول الله صاغرين.

٤٤ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) البغي والباغين وقرأت من جملة ما قرأت «أن قانون الفعل يقابله رد الفعل ، وأن هذا الرد يعم ويشمل الأشياء الطبيعية والحياة الاجتماعية» وهذا صحيح من غير شك ، لأن العلم رد فعل للجهل ، والإصلاح رد فعل للفساد تماما كالدواء بالنسبة إلى الداء ، وتقدم مرارا ، منها في الآية ١٠٩ من يوسف (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) لأنه قادر على كل شيء ، وإذا قدر غيره على شيء فإنه يعجز عن أكثر الأشياء.

٤٥ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ...) جاء في الكتب الخاصة بأسمائه تعالى اسم الصبور وهو غير وارد في القرآن ، والفرق بينه وبين الحليم أن الصبور لا تؤمن العقوبة منه ، وصفة الحلم وحي بالعفو ، ومعنى صبره تعالى أنه لا يعجل لأنه لا يخشى الفوت ، وانه يحدد للعقوبة أجلا معيّنا لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه. وفي نهج البلاغة : الحذر الحذر ، فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر ، وتقدم في الآية ٦١ من النحل.

___________________________________

الإعراب : وجهد مفعول مطلق لأقسموا لأنه مضاف إلى الايمان. واستكبارا مفعول من أجله ، ومكر السيء معطوف عليه. (قُوَّةً) تمييز. واللام في (لِيُعْجِزَهُ) لمجرد تأكيد النفي. ومن زائدة إعرابا وشيء فاعل يعجزه. والضمير في ظهرها يعود الى الأرض التي دل عليها سياق الكلام. و (مِنْ) زائدة و (دَابَّةٍ) مفعول ترك.

٥٧٨

سورة يس

مكيّة وهي ثلاث وثمانون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يس) قيل : هذان حرفان من حروف التهجي مثل (حم) وقال الشيخ الطبرسي : روي عن الإمام عليّ (ع) أن كلمة يس اسم من أسماء النبي (ص).

٢ ـ (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) المحكم بكل ما فيه.

٣ ـ ٤ ـ (إِنَّكَ) يا محمد (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على نهج قويم ودين متين وهو.

٥ ـ (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) لا من عندك أو عند قوم آخرين ٦ ـ (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) هذى هي مهمتك يا محمد : تأمر بالفضائل وتنهى عن الرذائل.

٧ ـ (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) وجب العذاب على أكثر السابقين حيث ماتوا على الكفر والشرك.

٨ ـ (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) الأغلال : جمع غلّ وهو طوق من حديد ، والأذقان : جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ، ومقمحون : رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم ، كل ذلك لتمردهم على الحق وفسادهم في الأرض.

٩ ـ (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) من نار جهنم ، وفي الخطبة ١٨١ من خطب النهج : «أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه ، والعثرة تدميه ، والرمضاء تحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار؟ ضجيج حجر ، وقرين شيطان ، ولا يختص هذا العذاب بالكافر والمشرك ، بل يعم كل مؤذ ومعتد على كرامة الإنسان وحريته أو حق من حقوقه.

١٠ ـ (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) فإنهم لا يفهمون إلا بلغة الشهوة والمنفعة الفردية ، وتقدم في الآية ٦ من البقرة.

___________________________________

الإعراب : (عَلى صِراطٍ) متعلق بالمرسلين. (تَنْزِيلَ) نصب على المصدرية. والمصدر (لِتُنْذِرَ) متعلق بتنزيل. وما نافية وجملة ما انذر صفة لقوم. وسواء مبتدأ وجملة أنذرتهم خبر ، والهمزة هنا للتسوية لا للاستفهام.

٥٧٩

١١ ـ (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) وطلب الهدى ودين الحق بإيمان وإخلاص.

١٢ ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) الله يبعث من في القبور لا محالة ، ويحصي جميع أعمالهم من خير أو شر ، وما تركوا من آثار نافعة أو ضارة ، ويجزي كل نفس بما كسبت ، ولا ينجو من عذابه وغضبه إلا من آمن بالحق ، وكف أذاه عن الخلق (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) الإمام كناية عن علمه الذي لا يعزب عنه شيء.

١٣ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) قال كثير من المفسرين : إنها أنطاكية (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) قيل : هم من حواري عيسى (ع) وتلاميذه ، والظاهر أنهم رسل الله سبحانه حيث أسند الإرسال إليه في قوله :

١٤ ـ (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ) إلى أصحاب القرية (اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) نهى الاثنان عن المنكر ، وأمرا بالمعروف ، فقامت قيامة قوى الشر ولم تقعد ، فشد سبحانه أزر الإثنين برسول ثالث (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) من ربكم لتوحدوه وتعبدوه.

١٥ ـ (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) تماما كما قال الأولون ، والجواب هو الجواب.

١٦ ـ ١٧ ـ (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) وقد بلغنا الرسالة ، وعلى الله الحساب ، وتقدم هذا المضمون في العديد من الآيات.

١٨ ـ (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) قال المكذبون للرسل : تشاء منا من دعوتكم حيث تفرق مجتمعنا إلى فئتين : معكم وعليكم ، فسكوتكم خير لنا ولكم وإلا أسكتناكم بالرجم وأليم العذاب.

١٩ ـ (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي أنتم تحملون سبب شؤمكم وتعاستكم ، وهو إقامتكم على الكفر والشرك ، أما الإيمان والتوحيد فهو يمن وخير وبركة (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أتتشاءمون من التذكير بالخير والدعوة إلى الله والحق؟ حقّا إنكم (قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) ومتمادون في الجهل والضلال.

٢٠ ـ ٢١ ـ (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) لم يشر سبحانه إلى اسم هذا الرجل ، ومع ذلك قال المفسرون اسمه حبيب النجار ، وأيا كان اسمه ونسبه فهو من الصالحين المصلحين بشهادة القرآن حيث أخبر عنه أنه أسرع إلى قومه الكافرين وقال ناصحا ومحذرا : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا

___________________________________

الإعراب : (اضْرِبْ) بمعنى اجعل ، و (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) مفعول أول و (مَثَلاً) مفعول ثان. وإذ الثانية بدل من إذ الأولى. ومفعول عززنا محذوف أي (فَعَزَّزْنا). وجواب (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) محذوف أي أئن ذكرتم تطيرتم.

٥٨٠