التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

وَهْنٍ) هذه الآية والتي بعدها استطراد في سياق وصية لقمان لابنه ، والوهن : الضعف ، وعلى وهن أي يستمر الضعف ويزداد يوما بعد يوم كما قال الشاعر : عدنا وعادت حالنا الراكدة (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) الوالدة تحضن وترضع وليدها بعد وضعه حولين كاملين ، وقال الفقهاء : أقل مدة الحمل ستة أشهر مستدلين بهذه الآية معطوفة على الآية ١٥ من الأحقاف (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً).

١٥ ـ (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ ...) حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وتقدم في الآية ٢٣ من الإسراء و ٨ من العنكبوت.

١٦ ـ (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ...) كناية عن قدرته تعالى التامة المطلقة التي تخترع الأشياء من لا شيء ودون استعانة بأي شيء ، وعن علمه الذي لا يعزب عنه ظاهر ولا باطن وغائب أو حاضر ، ودقيق وجليل. ومن جملة ما قرأت أن الكيلوغرام من الخردل يبلغ ٩١٣ ألف حبة ، وعليه تكون الحبة جزءا من ألف من الجرام فهي أصغر وزن لحب النبات.

١٧ ـ (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) وهي أن تعبد من يراك ولا تراه بصدق وإخلاص ، ولا يغنيك عن الصلاة المفروضة شيء عند الله حتى لو أتيته بقلب سليم وحسنات الأولين والآخرين (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) وأتمر به (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وانته عنه (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من فقد عزيز أو داء لا دواء له ، ولا شيء أصعب من الصبر ، ومع هذا يجب في أداء الفرائض ، وما عداها مستحب (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ومن العزم والإباء ، والدين وعلو الهمة ، وقوة النفس والإرادة أن ترضى باليسير ، وتستنكف عن الحرام ، بل وعن سؤال الخلق وإن كان حلالا.

١٨ ـ (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ...) لا تحطم نفسك بغرورها والشموخ بها فوق قدرها ، ولا تهو بها إلى الذل والهوان (كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) معجب بنفسه ، فخور على غيره.

١٩ ـ (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) لا تبطئ ولا تسرع (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أنكرها : أوحشها وأقبحها ، وقال بعض المفسرين : ان التشبيه بصوت الحمير يقتضي أن يكون. رفع الصوت محرما! ولو أخذنا بهذا الفهم والعلم لوجب المشي المعتدل وحرم البطيء والسريع عملا بوحدة السياق.

___________________________________

الإعراب : ان اشكر (ان) مفسرة بمعنى أي. وجملة حملته حال على تقدير قد حملته. وهنا مصدر في موضع الحال من أمه أي موهونة. ومعروفا صفة لمحذوف أي مصاحبا معروفا بمعنى مصاحبة معروفة كما في مجمع البيان. والضمير في انها يعود إلى فعلة الإنسان من خير وشر. وتك ، أصلها تكون فحذفت الواو لالتقاء الساكنين والنون للتخفيف ، واسم تك ضمير مستتر يعود إلى الفعلة ومثقال خبرها.

٥٤١

٢٠ ـ (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) يهتدي الإنسان بنجوم السماء ويستضيء بنور القمر وينتفع كثيرا بضياء الشمس ، ويحيا بالسحاب والأمطار وغير ذلك من المصالح والفوائد السماوية ، ولكن ليس معنى هذا أن الكون بكل ما فيه مسخر للإنسان ، وانه ما وجد إلا من أجله ، لأن الكشوف الفلكية الحاسمة قضت على هذا الإعتقاد والخرافة فهناك مجرات وكواكب وكائنات علوية وسفلية لا يعرف الإنسان عنها شيئا (وَما فِي الْأَرْضِ) من زرع وثمار ومعادن وبحار وطاقات وهبات (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) قال بعض المفسرين : المراد بالظاهرة الصحة والمال ، وبالنعم الباطنة ستر القبيح من الأعمال أو نعيم الآخرة ، ولكن هذا العصر قد كشف عن هذه النعم التي كانت في الغيب المحجوب عن الآباء والأجداد ، وفسرها بالمخترعات الحديثة والأدوات العلمية كسفينة الفضاء والعقل الإلكتروني والكهرباء والتلفزيون وغير ذلك كثير ، إضافة إلى اكتشاف النفط ومشتقاته وغيره من المعادن والأدوية ... إلى ما نعلم وما لا نعلم مما تكشف عنه الأجيال على مدي الدهر ، ويؤثر عن ابن عباس أنه قال : في القرآن معان سوف يفسرها الزمان. وفي نهج البلاغة : القرآن حمال ذو وجوه. أي يحمل معاني كثيرة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) والمراد بالعلم هنا الحس والعيان (وَلا هُدىً) من العقل (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي الوحي ، وتقدم بالحرف في الآية ٨ من الحج.

٢١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ...) تقدم في الآية ١٧٠ من البقرة وغيرها.

٢٢ ـ (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) يسلم : يستسلم وينقاد ، وجهه : قصده ونيته ، والعروة من الدلو : ما يمسك به القابض ، والوثقى : مؤنث الأوثق ، والمعنى من آمن بالله ، وانقاد لأمره ونهيه ، وأخلص له في عمله ـ فقد أخذ من الله موثقا قويا ومتينا أنه في أمنه وأمانه ٢٣ ـ ٢٤ ـ (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) لأنه في قبضة الله ، يمهله قليلا من الدهر ، يتمتع فيه كما يشتهي ثم يقذفه إلى عذاب السعير.

٢٥ ـ ٢٦ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) والغرض من هذا السؤال هو انتزاع الاعتراف منهم بأن الله هو الخالق (لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي رد سهمكم إلى نحركم حيث اعترفتم على أنفسكم بأنفسكم أن الله وحده هو الخالق ، ومع ذلك تعبدون غيره ، وتقدم في ٦١ من العنكبوت.

___________________________________

الإعراب : ظاهرة وباطنة حال من نعم الله. أولوا الهمزة للإنكار والواو للعطف ولو للامتناع ، وجوابها محذوف والتقدير لاتبعوهم ، وضمير الجمع يعود للآباء.

٥٤٢

٢٧ ـ (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ...) لا حد لقدرة الله إلا بأنها لا حد لها ، وفي نهج البلاغة : لو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق ، وخافوا عذاب الحريق وتقدم في الآية ١٠٩ من الكهف.

٢٨ ـ (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) هذا رد على من قال : البعث محال. وجوابه أن خلق الناس بالكامل وبعثهم بعد الموت كذلك هو عند الله سبحانه كخلق النفس الواحدة وبعثها حيث يتساوى في قدرته إيجاد القليل والكثير والخطير والحقير ، فكل شيء يوجد بكلمة «كن».

٢٩ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ...) الليل والنهار وما يتصل بهما تابع لكروية الأرض ودورانها ولو كانت مسطحة لما كان شيء من ذلك ، وتقدم في الآية ٢٧ من آل عمران (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) لكل من الشمس والقمر حركته الخاصة به إلى ما شاء الله ، وتقدم في الآية ٢ من الرعد.

٣٠ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) لأنه ما خلق شيئا ولا شرع حكما ولا أخبر عن حادثة سابقة أو لاحقة إلا بالحق والصدق وإلا لمصلحة وحكمة بالغة ، وتقدم بالحرف في الآية ٦٢ من الحج.

٣١ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) يكرر سبحانه ويذكر عباده بأن كل ما يتمتعون به من أسباب الحياة هو منه لا منهم أو مما يرجون من دون الله كيلا يغفلوا ويذهلوا عن الخالق والرازق والميسر والمدبر ، ومتى آمنوا وأيقنوا بذلك شكروا في السراء ، وصبروا على البلاء مع الشعور والأمل بأن الله سبحانه قد يفتح لهم باب الخلاص والفرج.

٣٢ ـ (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) جمع ظلمة وهي ما يعلو ويظلل من كل شيء ، والمعنى إذا ارتفع فوق السفينة موج كالجبال (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) التجأوا إليه خاشعين متضرعين (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) معتدل

___________________________________

الإعراب : وجملة وهو محسن حال ، وجملة فقد استمسك خبر من يسلم. وقليلا صفة لمفعول مطلق محذوف أي تمتعا قليلا. مخلصين حال من فاعل دعوا. ونقل ابن هشام في كتاب المغني عن ابن مالك ان (لما) هنا بمعنى إذا ، بدليل دخول الفاء على جوابها.

٥٤٣

حيث وفي بعهده مع الله ، وثبت على الإيمان (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) غدّار جاحد بنعمة الله وفضله.

٣٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا) العواقب وشرها ، واحذروا (يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ ...) أسس وأعمل ليوم القيامة ، فلا والد ولا ولد يغني عنك شيئا في هذا اليوم ، فعملك خير لك وأجدى من أمك وأبيك وولدك وأخيك ، إن يك صالحا وإلا فلا أم تحزن وتبكي من أجلك ، ولا والد يهمه همك. ويشغله أمرك (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وهو الشيطان ، والمعنى احذروا كل شيطان رجيم يغريكم بمعصية الله ونقمته.

٣٤ ـ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) يوم القيامة ، وقد استأثر سبحانه بعلمه ، وحجبه عن جميع خلقة حتى الأنبياء والملائكة (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي يعلم متى ينزل المطر قبل أن تظهر دلائله وعلاماته ، أما الإنسان فلا يعلم ذلك إلا بعد ظهور الدلائل والعلامات. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد. وسألني سائل : هل يسوغ للزوجين أن يختارا ـ بعملية طبية ـ نوع الجنين من ذكر أو أنثى؟ قلت : لا نص على هذا الموضوع بالذات ، ولا حرام بلا نص. قال : كيف والقرآن يقول : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) ـ ٨ الرعد» قلت : وأيضا الله يعلم ان شجرة المشمش تحمل مشمشا ، وإذا لقحت بالخوخ تحمل خوخا ، وأن كرمة العنب الأبيض تتحول إلى الأسود إذا لقحت به ... أبدا لا شيء يحدث من خلقه تعالى إلا بعلمه وإرادته سواء أكان بسبب الإنسان أم الطبيعة أم بكلمة «كن» (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) الإنسان كل يوم هو في شأن شاء أم أبي ، فكل شيء حوله يتحرك ويتغيّر ، وهو جزء من كل ، ومعنى هذا أن ما يحدث للإنسان في غده فهو من الغيب المحجوب (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ولا بأي زمن أو سبب ، وليس هذا بالشيء المهم ، والأهم من كل شيء ما ذا يحدث للإنسان بعد الموت في لحده وموقف العرض وأهواله.

سورة السّجدة

مكيّة وهي ثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الم) تقدم في أول البقرة.

٢ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) القرآن (لا رَيْبَ فِيهِ) إلا عند جاهل أو معاند.

___________________________________

الإعراب : يوما مفعول به لاخشوا. ولا مولود عطف على والد ، ويجوز أن يكون مبتدأ أول «وهو» مبتدأ ثان وجاز خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول. وشيئا مفعول جاز.

٥٤٤

٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) محمد (بَلْ هُوَ الْحَقُ) والدليل القاطع على ذلك أن القرآن يحتكم إلى العقل ، ويقول للذين جحدوا وعاندوا : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) ـ ٢٤ محمد ... (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ـ ٥١ هود» وقرأت الكثير من أقوال الغربيين عن عظمة القرآن وأكتفي هنا بما جاء في جريدة أخبار اليوم المصرية ت ٢٨ ـ ١٠ ـ ١٩٧٢ : قال «هيرشفيلد» : ليس للقرآن مثيل في قوة إقناعه وبلاغته وتركيبه ، وإليه يرجع الفضل في ازدهار العلوم بكافة أنواعها (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) في الفترة الكائنة بين عيسى ومحمد جمعا بين هذه الآية والآية ١٩ من المائدة : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) ..

٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) كناية عن الأطوار أو الدفعات (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي سيطر واستولى ، وتقدم مرات ، منها الآية ٥٤ من الأعراف.

٥ ـ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ) والمراد بها هنا الرفعة والعلو ، لأن الله سبحانه وراء الطبيعة بأرضها وسمائها ، والمعنى هو وحده الخالق والمدبر (إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أي يرجع الأمر كله إليه وحده كما قال سبحانه : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ـ ١٠٩ آل عمران» (فِي يَوْمٍ) وهو يوم القيامة (كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) كناية عن طول الأمد ، أو أن العمل الذي يستغرق في الآخرة ٢٤ ساعة يحتاج في الدنيا إلى ألف سنة.

٦ ـ (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ) أي أن الذي خلق ودبّر وإليه ترجع الأمور هو العالم العزيز الذي ليس كمثله شيء الرّحيم الذي وسعت رحمته كل شيء.

٧ ـ ٨ ـ (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) كل شيء متقن ومحكم من أعلى السموات إلى أدنى الثرى ، فهل هذا صدقة ومجازفة؟ : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ـ ٥٣ فصلت» بهذا يفتح سبحانه باب العلم به لا بالغيب المحض لأن المدلول لا يكون دليلا (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) آدم الأب الأول (مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ) من سلّ شيئا من شيء أي انتزعه برفق (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ضعيف وهو المني.

٩ ـ (ثُمَّ سَوَّاهُ) الضمير لآدم (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) وهبه الحياة ، وتقدم في الآية ٢ من الأنعام و ١٢ من «المؤمنين».

١٠ ـ (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا) تفرقت أجسامنا وصارت ترابا ، وتقدم مرات ، منها في الآية ٥ من الرعد.

___________________________________

الإعراب : تنزيل خبر لمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل ، وقال أبو حيان الأندلسي : تنزيل مبتدأ ، ومن رب العالمين خبر ، ولا ريب فيه جملة معترضة. أم يقولون (أم) منقطعة بمعنى بل والهمزة. ومن ربك والمصدر من لتنذر يتعلقان بمحذوف حالا من الحق.

٥٤٥

١١ ـ (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) قل لهؤلاء يا محمد : أنتم ميتون لا محالة ، وعند الموت تنكشف لكم الحقيقة. الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا.

١٢ ـ (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) حذّروا من عذاب الآخرة ، فسخروا وقهقهوا ، وحين عاينوا البعث وقاموا بين يدي الله للحساب والجزاء انهاروا وولهوا ، وقالوا خاضعين : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا ...) الآن وقد فات ما فات ، وتقدم في الآية ٢٧ من الأنعام و ١٠٠ من «المؤمنين».

١٣ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) لو شاء سبحانه لألجؤهم إلى الاعتراف به وباليوم الآخر ، ولكن لا إيمان ولا مسؤولية مع إلجاء وإكراه ، وسبق منا القول أكثر من مرة أن الله سبحانه لا يتعامل مع عباده بإرادته الشخصية والتكوينية (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) الذين أفسدوا وتمادوا في الغي بملء اختيارهم وإرادتهم ، أما الذين استجابوا لربهم فلهم مغفرة وأجر كريم.

١٤ ـ (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) الذي كفرتم به ، وسخرتم منه (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أهملناكم وحرمناكم من الأمان والرحمة.

١٥ ـ (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا) يصلّون ويسبّحون بدافع من التقوى والشعور بالواجب ... ومن الورع والتقوى أن نبتعد عن كل شر وباطل ، ونفعل الخير جاهدين ، ونتعاون على إقامة الحق متناصحين لا مستغلين ، وإلا فإن التقوى لا تتجزأ ، والخوف من الله في ردع النفس عن الهوى في إقامة الصلاة وكفى ... أبدا لا دين ولا إيمان لمن سكت عن الحق مهادنا أو مداهنا حتى ولو صلّى وصام ، فكيف إذا ظلم أو أعان على الشر والبغي؟ ويجب السجود عند تلاوة هذه الآية أو الاستماع إليها.

١٦ ـ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) يتركون بالليل فراشهم إلى ما هو أهم وأفضل (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً) من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة (وَطَمَعاً) في ثواب الله الذي لا يناله إطلاقا إلا الذين تواصوا بالحق وبه يعملون بنص سورة العصر (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فكيف بالذين سرقوا أموال المعذبين والمشردين ، وهم متخمون؟.

١٧ ـ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أبدا ، لا أحد يعلم ما أعد الله من تقدير للذين تنزهت نفوسهم عن الحرام ، وكملت بأداء الواجب ، لأن هذا التقدير فوق التصور ... هذا هو هدي القرآن أيها الداعون إليه.

١٨ ـ (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) يعرف ما له وما عليه ، ويشعر بالواجب والمسئولية عن حق الله وحقوق الآخرين ، ويعلم علم اليقين أنه محاسب أمام الله والضمير وأمام المجتمع

٥٤٦

الذي يعيش فيه لو تهاون وفرط (كَمَنْ كانَ فاسِقاً) لا يشعر إطلاقا بأي واجب عليه إلا بهمه وهم ذويه (لا يَسْتَوُونَ) وهل يستوي القراصنة الذين يصدون عن كل خير ، ويقترفون كل إثم وجريمة ، مع الذين يستميتون من أجل الحق ، ولا تأخذهم لومة لائم؟ وجاء في العديد من التفاسير : أن المراد بالمؤمن هنا عليّ بن أبي طالب ، وبالفاسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ونذكر من هذه التفاسير جامع البيان للطبري والبحر المحيط للأندلسي وروح البيان لحقي وتفسير القرآن العظيم لابن كثير والدر المنثور للسيوطي والتسهيل لمحمد بن أحمد الكلبي.

١٩ ـ (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وأدوا أمانة الله والناس ، وجاهدوا لإعلاء كلمة الحق ـ فلا شك أن لهم عند الله الدرجات العلى.

٢٠ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) ونافقوا وساوموا على دينهم وأمتهم وبلادهم فلهم عند الله أليم العذاب وشر مآب ، وتقدم مرارا وتكرارا.

٢١ ـ (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) يعذب سبحانه المجرمين في الدنيا بآفة من آفاتها ، فإن تابوا فذاك وإلا فأمامهم (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) وهو جهنم وبئس القرار.

٢٢ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) فنسي الذكر (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) مغترا بجاه أو مال ، فإن الله سبحانه ينتقم منه أشد انتقام.

٢٣ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) المراد به جنس الكتاب المنزل لا التوراة بالخصوص (فَلا تَكُنْ) يا محمد (فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) أي من لقاء الكتاب لا من لقاء موسى لأن الضمير يعود للأقرب والمعنى أن الله سبحانه نزّل الكتاب على موسى وعليك أيضا ، ولا شك في ذلك.

٢٤ ـ (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي جعل سبحانه أنبياء من بني إسرائيل كموسى وعيسى (لَمَّا صَبَرُوا) على أذى قومهم ، فاصبر أنت يا محمد على أذى قومك.

٢٥ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) واضح ، وتقدم في البقرة الآية ١١٣ ويونس الآية ٩٣ والنحل ١٢٤.

٢٦ ـ (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا ...) ألم يتعظ

___________________________________

الإعراب : أفمن (من) مبتدأ وكمن خبر. ولا يستوون الجملة مستأنفة. ونزلا حال أو مفعول مطلق.

٥٤٧

الذين كذبوا محمدا (ص) بما أصاب الأمم الماضية لأنهم كذبوا الرسل؟ وتقدم في ١٢٨ من طه وغيرها.

٢٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) اليابسة التي لا نبات فيها.

٢٨ ـ (وَيَقُولُونَ) يقول الطغاة لمحمد : (مَتى هذَا الْفَتْحُ) متى تنتصر علينا وأنت وأصحابك فقراء مساكين لا تملكون مالا ولا سلاحا؟.

٢٩ ـ (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) آت لا محالة ، إن لم يكن في الدنيا فالقضاء الفصل في يوم القيامة حيث (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وبغوا في الدنيا (إِيمانُهُمْ) في الآخرة ، لأن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لا يمهلون لأن الله أمهلهم في الدنيا طويلا ، فأصروا على الضلال.

٣٠ ـ (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) يا محمد (وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) اصبر قليلا لترى حكم الله فيك وفيهم ، وهو أحكم الحاكمين.

سورة الأحزاب

مدنيّة وهي ثلاث وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) ليس هذا أمرا بالتقوى وإلا يكون المعنى يا أيها التقي اتق الله حيث لا نبوة بلا تقوى ، وإنما هو إخبار بصيغة الإنشاء والأمر ، والمعنى نحن نريد ما أنت عليه من التقوى ونحبه منك ، وقال المفسرون : تعلق الأمر هنا بالبقاء والاستمرار على التقوى لا بأصلها وإيجادها (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) لا تساعدهم على شيء ولا تقبل منهم رأيا ومشورة ، وفي الآية ٧٣ من التوبة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).

___________________________________

الإعراب : فاعل يهد محذوف أي أو لم يهد الله لهم. ومحل كم النصب بأهلكنا. والزرع مصدر والمراد به اسم المفعول أي مزروع.

٥٤٨

٢ ـ ٣ ـ (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) بلغ ما أنزل إليك من ربك ، واصبر في سبيل دعوتك ، واستعن بالله على مهمتك.

٤ ـ (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) يتقي الله ويطيعه في قلب ، ويرضي قوى الشر وأعداء الله في قلب ، ومعنى هذا أن الذي لا ينصر الحق ويجاهد في سبيله فهو مع الباطل ، ولذا قال الرسول الأعظم (ص) : الساكت عن الحق شيطان أخرس (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) كان الرجل في الجاهلية يطلق زوجته بقوله : أنت عليّ كظهر أمي ، فنهى الإسلام عن ذلك ، ويأتي الكلام عن حكم الظهار في سورة المجادلة إن شاء الله.

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) كان الرجل في الجاهلية يتبني المولود من غيره ، ويلحقه بنسبه ، فحرم الإسلام التبني ، وقال من جملة ما قال : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) والأقوال لا تجعل الباطل حقا ، وغير الوالد والدا.

٥ ـ (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) الذين ولدوهم لا للذين تبنوهم (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي نسبة الولد إلى والده الأصيل أعدل حكما وأصدق. قولا من نسبته إلى الدخيل (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) إن جهلتم أبا المتبني واسمه فقولوا : هذا أخي في الدين أو مولاي إشارة إلى المودة أو مولى إن كان رقا وأعتقه (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ...) كلنا يخطئ لسبب واضح وبسيط ، وهو أن الإنسان غير معصوم ، ولكن الخطأ أنواع ، منها خطأ الغرور والجهل بالجهل ، ومنها خطأ الحب أو البغض الذي يصوّر الشيء لصاحبه كما يحب هو أن يتصوره عن ذلك الشيء المحبوب أو المبغوض ، لا كما هو في واقعه ، ومنها الخطأ الناشئ عن التهاون والتقصير بحيث ينتهي الخطأ إلى إرادة المخطئ ، ومنها الخطأ بعد التحفظ واستفراغ الوسع. وكل أنواع الخطأ تستحق المؤاخذة ما عدا الأخير.

٦ ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) للولاية معان تختلف تبعا إلى من تنسب إليه ، فولاية الله سبحانه معناها السلطة التي لا تغلب ، ومعنى ولاية النبي الطاعة من غير اعتراض ، وما من شك أن تصرفات النبي بكاملها هي لخير الفرد والجماعة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ـ ١٢٨ التوبة» (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) في الاحترام والمبرة وتحريم الزواج ، ولا يسري هذا التحريم وينتشر إلى أرحامهن (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في الميراث (فِي كِتابِ اللهِ) في حكمه تعالى وشريعته ، وتقدم في الآية ٧٥ من الأنفال (إِلَّا أَنْ

___________________________________

الإعراب : اللائي صفة لأزواجكم ، وهي جمع التي. ذلكم أي دعاءكم. وما تعمدت عطف على فيما أخطأتم أي ولكن فيما تعمدت.

٥٤٩

تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) وهم الأصدقاء والمعتقون آنذاك والأرحام غير الوارثين والمراد بالمعروف هنا أن تبروا هؤلاء بصدقة أو هبة أو وصية (كانَ ذلِكَ) أي إرث أولي الأرحام والمعروف لغيرهم (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) ثابتا في حكم الله وشريعته.

٧ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ) كل النبيين (مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ) أن تقيموا الدين ، وتبلّغوا رسالة الحق إلى الخلق ، وهذا هو المراد بالميثاق الغليظ وذكر سبحانه محمدا بالخطاب ، وبالاسم نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ، لأنهم أولو العزم أي لكل شريعة خاصة ، ويأتي البيان في تفسير الآية ٣٥ من الأحقاف.

٨ ـ (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي عن مقاصدهم بأعمالهم هل كان القصد وجه الله الكريم أو شيئا آخر.

٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) الخطاب للصحابة ، ونزلت هذه الآية وما بعدها إلى الآية ٢٧ في وقعة الخندق ، وقصتها مدونة بالتفصيل في التفاسير المطولة وكتب السيرة والتاريخ ويضيق عنها هذا الوجيز ، لذا نقتصر على تفسير الجملة والكلمة المفردة (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) من قبائل شتى بقيادة أبي سفيان ، إلى المدينة

المنورة (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) قال المفسرون : هم ملائكة أما الريح فكانت عاتية أطفأت نيرانهم ، وأكفأت قدورهم ، واقتلعت خيامهم ، وأفسدت كل شيء حتى عجزوا معها على القرار ، فولوا مخذولين.

١٠ ـ (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) حاصر جيش الأحزاب المدينة وعسكر المسلمين من كل جهة ، ولم يدع منفذا (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) كناية عن شدة الخوف (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) ظن بعض الصحابة أن الله لن ينصر دينه ونبيّه.

١١ ـ (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) امتحنوا بالشدائد والمكاره (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) ارتعدوا واضطربوا.

١٢ ـ (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) الذين أبطنوا الكفر ، وأظهروا الإيمان (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي ضعف في العقل والإيمان ولذا يتأثرون بالدعايات الكاذبة المضللة.

١٣ ـ (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) من المنافقين : (يا

___________________________________

الإعراب : أمهاتهم على حذف مضاف ، أي مثل أمهاتهم. وأولوا الأرحام مبتدأ وبعضهم مبتدأ ثان وأولى خبره والجملة خبر المبتدأ الأول. والمصدر من أن تفعلوا مبتدأ وخبره محذوف والجملة في محل نصب على الاستثناء المنقطع ، والتقدير ولكن فعلكم الى أوليائكم معروفا جائز.

٥٥٠

أَهْلَ يَثْرِبَ) اسم المدينة (لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) قيل : كان جيش الشرك ما يقرب من عشرة آلاف ، ومع النبي سبعمائة مقاتل. وقيل : بل أكثر. فقال بعض المنافقين لجيش الإسلام : لا طاقة لكم بهذا الجيش الجرار ، ولا نجاة منه إلا بالفرار (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي منكشفة للصوص ، كان بعض المنافقين يطلبون الإذن من النبي بالانصراف ، ويتعللون بهذه الأعذار ، فأكذبهم سبحانه بقوله : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) من الجهاد ونصرة الحق.

١٤ ـ (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) لو دخلت جيوش الشرك المدينة منتصرة ، وأحاطت بها من كل جانب ، وقال المشركون للمنافقين وضعاف الإيمان : أعلنوا العداء لمحمد والارتداد عن الإسلام ـ لاستجابوا فورا من غير تردد ، أو ترددوا قليلا ثم خنعوا وخضعوا.

١٥ ـ (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) هذا الخوف أن يثبتوا مع رسول الله حتى الموت ، ولكنهم تركوه من النظرة الأولى إلى جيش الأحزاب.

١٦ ـ (قُلْ) للمنافقين يا محمد : (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ) من الموت فإنه ملاقيكم لا محالة.

١٧ ـ (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) أبدا لا عاصم من أمره ، ولا ناصر من دونه.

١٨ ـ (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) المثبطين (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) أي أصحابهم وعشرائهم (هَلُمَّ إِلَيْنا) تعالوا إلى ما نحن فيه من الضلال والثمار (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) القتال (إِلَّا قَلِيلاً) إذا اضطر المنافقون إلى القتال قاتلوا رياء وبلا جدوى.

١٩ ـ (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) بأموالهم وأنفسهم وقت الحرب وساعة العسرة (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) ساعة القتال نظر المنافقون إلى رسول الله (ص) نظر المغشي عليه من سكرات الموت

___________________________________

الإعراب : ويثرب لا تنصرف للعلمية ووزن الفعل. ويسيرا صفة لظرف زمان محذوف أي الا زمنا بسيرا. ولا يولون جواب عاهدوا لأنه بمعنى أقسموا. لا تمتعون إلا قليلا أي إلا زمنا قليلا. وهلم اسم فعل بمعنى أقبل وتعال عند أهل الحجاز ، وتقال بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. وأشحة حال في الموضعين.

٥٥١

خوفا وجبنا ، ولاذوا به ليحرسهم ويذود عنهم (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) وكفى الله المؤمنين القتال ملأوا الدنيا بشجاعتهم ونجدتهم و (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) يزرون بمواقف الأبطال وشجاعة الشجعان! وما أشبه هؤلاء بأهل الشعارات الدينية المزيفة والوطنية المزخرفة في هذا العهد! ولكن للناس الطيبين حاسة خفية في أعماقهم لا تخفي عليها هذه الأغشية الكاذبة (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) المراد بهذا الخير الغنيمة ، أي أن المنافقين جبناء عند الحرب ، وأهل جرأة وصلافة عند تقسيم الغنائم (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) منذ البداية بل نافقوا (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) لم يقبل منها شيئا لأنها لغير الله. وفي الحديث : من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.

٢٠ ـ (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) سيطر الهلع والفزع على المنافقين الجبناء حتى خيّل إليهم أن جيش الأحزاب لن يجلو عنها وينسحب منها إطلاقا علما بأنه هزم وولى الدبر (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) لغزو المدينة مرة ثانية (يَوَدُّوا) أي المنافقون الجبناء (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ) قائمون في البادية مع الإعراب بعيدون عن المدينة (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) من ورد عليهم : ما ذا حلّ بالمدينة وأهلها من جيش الأحزاب؟

٢١ ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) عليكم أن تقتدوا برسول الله (ص) ، في الصبر عند الجهاد (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يأمل ثواب الله ونعيم الآخرة (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) كناية عن إقامة الفرائض الخمس.

٢٢ ـ (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) كان الرسول الأعظم (ص) قد وعد المسلمين من قبل بأنهم سيلاقون ألوانا من المحن والشدائد من أعداء الله والدين ، وحين رأوا جيش الأحزاب يحاصرهم من كل جانب ، قالوا صدق الله العليّ العظيم وصدق رسوله النبي الكريم.

٢٣ ـ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) الإيمان عهد وميثاق ورابطة متينة بين الله وعبده على الطاعة ، والشرط الأساس في هذه الطاعة أن لا يتساهل المؤمن الحق مع نفسه ولا مع أولاده وذويه في أي شيء لا يرضي الله سبحانه ، ومتى تحقق هذا الشرط لم يقم في وجه المؤمن أي حاجز يصده عن مرضاته تعالى ، وبدون هذا الشرط فلا إيمان إلا في اللون والشكل ، وكان لرسول الله (ص) رجال كثر على الإيمان الحق ، يفدونه بالمهج والأرواح ، وكان الآباء يبارزون الأبناء كما كان الولد يتربص بأبيه وأخيه وكانت المرأة تفتدي زوجها وولدها وأباها وأخاها ، وهي تحمد الله على نجاة رسول الله (ص) وهذه الآية نزلت في هؤلاء الصفوة (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) استشهد يوم بدر وأحد (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة أو النصر.

٥٥٢

٢٤ ـ (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) أي بوفائهم للعهد جنات تجري من تحتها الأنهار (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) لأنهم نقضوا العهد والميثاق (إِنْ شاءَ) وهذا التعليق على المشيئة هو استثناء ، والمعنى يعذب الله المنافقين إلا من تاب (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي ومع توبتهم يتوب عليهم.

٢٥ ـ (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) وهم أحزاب الشرك بقيادة أبي سفيان ، ردهم سبحانه وصدهم عن مدينة الرسول حانقين من الفشل والخذلان (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) أي لم ينالوا النبي والمسلمين بسوء وشر تراه أحزاب الشرك نصرا لها وخيرا (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) قال ابن كثير عند تفسير (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) : «إن عمرو بن ود اقتحم الخندق ومعه فوارس ، فندب رسول الله خيل المسلمين إليه ، فيقال : أنه لم يبرز إليه أحد. فأمر النبي (ص) عليا (رض) فخرج إليه ، فتجاولا ساعة ، فقتله عليّ ، فكان علامة النصر.

٢٦ ـ ٢٧ ـ (وَأَنْزَلَ) الله سبحانه (الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) وهذا الضمير يعود لأحزاب الشرك (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) أي من حصونهم ، نزلت هذه الآية في يهود بني قريظة ، وكانوا قد عاهدوا رسول الله (ص) وهم يساكنونه بالمدينة أو بضواحيها ـ أن لا يعينوا عليه عدوا ، ولما حاصرت الأحزاب المدينة نقضوا عهد رسول الله ، وأعلنوا عليه الحرب وحين انصرفت الأحزاب عن المدينة حاصرهم رسول الله ، وعرض عليهم الإسلام على أن يكون لهم ما للمسلمين ، فأشار عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يسلموا ، فأبوا ، وطلبوا من النبي بملء إرادتهم أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فاستجاب النبي لطلبهم ، فحكم عليهم بنص توراتهم الذي جاء في إصحاح عشرين من سفر التثنية ، وخلاصته أن تقتل رجالهم المقاتلون ، وتقسم أموالهم ، وتسبى نساؤهم وذراريهم.

٢٨ ـ ٢٩ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ...) شكا أزواج النبي (ص) له من قلة النفقة ، وطلبن التوسعة ، فنزلت هذه الآيات ، وخلاصتها أن يخيّر النبي نساءه بين الطلاق أو الصبر على ضيق الحال ، ولهن جزاء ذلك الثواب الجزيل ، فاخترن رضا الله والرسول وثواب الآخرة.

٣٠ ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)

___________________________________

الإعراب : وكفى هنا تتعدى الى مفعولين مثل كفاك الله شر الأعداء ، والمؤمنين مفعول أول ، والقتال مفعول ثان.

٥٥٣

أي بمعصية واضحة ثابتة من أي نوع تكون (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) أي يكون عذابها في الآخرة مثلي عذاب غيرها لعلو مكانتها.

٣١ ـ (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) من تطع الله والرسول (وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها) غدا (مَرَّتَيْنِ) من كان عليه الغرم فله الغنم ، وأيضا إذا كانت عقوبة الكبير أعظم كانت مثوبته أجزل.

٣٢ ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) أنتن فوق النساء شرفا برسول الله (ص) بشرط التقوى وإلا انقطعت الصلة بينكن وبين الرسول (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) لا يسوغ لأية امرأة أن تخاطب الأجنبي بالأسلوب الذي تخاطب به زوجها ، أو تنظر إليه نظرة توحي بالريبة وإلا طمع فيها الشباب العاهر الفاسد.

٣٣ ـ ٣٥ ـ (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ...) حثّ سبحانه كل النساء على الاستقرار في المنزل وتدبيره ، وتربية الأطفال وعدم التبرج والتهتك ، وعلى تلاوة القرآن ، والتفقه في أحكام الصلاة والصيام والطهارة والحيض.

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) المراد بالرجس هنا الذنوب وأن الله سبحانه قد طهر أهل البيت من كل ذنب وخطيئة ، ولكن لا بإرادته التكوينية حيث لا فضل مع الجبر ، ولا بإرادته التشريعية لأن العصمة موضوع كالعدالة ونحوها ، وليست حكما كالوجوب وغيره من الأحكام الخمسة ، وعليه يكون معنى الآية أن أهل البيت عند الله هم صديقون مطهرون من كل ذنب ، وجاء في صحيح مسلم القسم الثاني من الجزء الثاني ص ١١٦ طبعة سنة ١٣٤٨ ه‍ : أن هذه الآية نزلت في النبي وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ، ومثله في صحيح الترمذي ومسند الإمام أحمد وغيرهما من كتب الحديث عند السنة (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ...) جاء في التفاسير أن بعض النساء قلن : ذكر سبحانه في كتابه الرجال : ولم يذكرنا فنزلت هذه الآية لتقرر وتؤكد أن الناس سواء في الحقوق والواجبات وفي الحساب والجزاء ، وانه لن يفوز بالخير إلا عامله ، ولا يجزى جزاء الشر إلا فاعله ذكرا كان أم أنثى ، أسود أم أبيض ، غنيا أم فقيرا.

___________________________________

الإعراب : مرتين نائب مناب المفعول المطلق لأنه بمعنى مثلين. وقال كأحد ولم يقل كواحدة لأن (أحد) هنا بمعنى غير ، أي لستن كغيركن من لنساء. والمصدر من ليذهب متعلق بيريد. وأهل البيت منادى أي يا أهل البيت.

٥٥٤

٣٦ ـ (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ...) خطب رسول الله (ص) بنت عمته أميمة ، وهي زينب بنت جحش لزيد ابن حارثة الذي أعتقه رسول الله (ص) فاستنكفت وقالت : أنا خير منه ، فنزلت هذه الآية والمعنى واضح ، ويتلخص بأنه لا أحد من أهل الإيمان يملك مع الله ورسوله رأيا ولا قولا ، بل عليه أن تكون إرادته تبعا لأمرهما. فقالت زينب : طوعا لأمر الله ورسوله. تم الزواج ، وتبعته ذيول منها.

٣٧ ـ (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) وهو زيد بن حارثة ، والنعمة المشار إليها هي صحبة زيد لرسول الله وخدمته إياه قبل الإسلام وبعده (وَأَنْعَمْتَ) أنت يا محمد (عَلَيْهِ) بالحب والعتق : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) كانت زينب تفخر على زيد بأنها أكرم منه نسبا ، ولما تكرر ذلك ، فترت العلاقة بين الزوجين ، وعزم زيد على الفراق والطلاق ، فأمره النبي بالصبر ، وكان الله سبحانه قد أبلغ نبيه الكريم أنها ستكون من جملة أزواجه بعد طلاقها من زيد ، ليبطل بالفعل لا بالقول فقط آثار التبنّي وانفقة الزواج بمطلقة المولى المعتق لرسوخ هذه العادة في الجاهلية الجهلاء ، ولكن النبي أخفى ذلك حشمة وحياء ، فقال سبحانه لنبيه : لا حياء في دين الله وحلاله ، هذا إلى أن زواجك من زينب سيظهر ويعلن لا محالة كما قال ، عظمت كلمته : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وهو زواج النبي من زينب بعد طلاقها من زيد (وَتَخْشَى النَّاسَ) أي أمرت زيدا بإمساك زينب كيلا يقال : أرادها النبي لنفسه ، وأنت تعلم أن الله أراد ذلك لا أنت لحكمة بالغة أشرنا إليها قبل لحظة (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) أسند سبحانه تزويجها إليه لا إلى محمد كيلا يتشدق ويتحذلق الذين في قلوبهم مرض ، وأيضا (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) تبني رسول الله زيدا قبل النبوة ، ودعاه الناس بابن محمد ، ثم ألغى سبحانه هذه السنة بعد بعثة محمد وزوّجه بمطلقة زيد محقا لهذه السنّة وآثارها (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) كان زواج اللغة : قال أبو حيان الأندلسي : الخيرة مصدر من تخير على غير قياس كالطيرة من تطير. والوطر الحاجة. والمراد بالحرج هنا البأس. وقدرا مقدورا أي قضاء مقضيا.

___________________________________

الإعراب : قال سبحانه : (لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ولم يقل لهما لأن كلا من مؤمن ومؤمنة وقع نكرة في سياق النفي ، وهي تفيد العموم. والمصدر من أن تخشاه مجرور بباء محذوفة أي أحق بالخشية.

٥٥٥

زيد وطلاقه وزواج النبي (ص) واقعا لا محالة والهدف اجتماعي وإنساني محض.

٣٨ ـ (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أي فيما أمره به من تزويجه بزينب بعد طلاقها من زيد ، وفي هذا رد على من تكلم وطعن (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) هذا هو دأبه تعالى وحكمه في الأنبياء السابقين ، هو يأمر ، وهم بأمره يعملون ، فعلام الإنكار وإثارة الغبار حول هذه القصة؟.

٣٩ ـ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) إلى عباده ، ويؤدونها بأمانة وإخلاص ، ويتحملون في سبيلها ألوانا من الأذى ، ومع ذلك يمضون ولا يكترثون (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) ولك يا محمد بإخوانك الأنبياء أسوة وعزاء.

٤٠ ـ (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) بالنسب والولادة كي تحرم مطلقة زيد عليه (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) فلا نبي بعد محمد (ص) ولا شريعة لله بعد شريعة الإسلام ، وفي تفسير روح البيان لإسماعيل حقي : «لو جاء بعد رسول الله (ص) نبي لجاء عليّ بن أبي طالب ، لأنه كان منه بمنزلة هرون من موسى».

٤١ ـ ٤٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) في كف الأذى عن عباده وعياله أولا وقبل كل شيء ، ثم في التعبد والتضرع له وحده.

٤٣ ـ (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) بالتوفيق والرحمة (وَمَلائِكَتُهُ) تصلي عليكم بالدعاء (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) الجحيم (إِلَى النُّورِ) النعيم.

٤٤ ـ (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ...) تقدم في الآية ١٠ من يونس وغيرها.

٤٥ ـ ٤٦ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ) داعيا إلى الحق ، وشاهدا على الخلق.

٤٧ ـ (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالمثوبة ، وأنذر الكافرين بالعقوبة. :

___________________________________

الإعراب : وسنة منصوب على المصدرية أي سن الله سنة. والذين يبلغون صفة للذين خلوا ، والمراد بهم الأنبياء السابقون ، وجملة وكان أمر الله معترضة. وحسيبا تمييز. ورسول الله خبر كان محذوفة أي ولكن كان محمد رسول الله. وملائكته عطف على الضمير المستتر في يصلي. وشاهدا حال.

٥٥٦

٤٨ ـ (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) لا تصغ لأحد منهم فيما يقول ويشير (وَدَعْ أَذاهُمْ) أعرض وتجاوز عنهم ، فإن الله يكفيك شر كل ذي شر.

٤٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) أجريتم عليهن عقد زواج (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) بالدخول فلا عدة للمطلقة غير المدخول بها ، ولها أن تتزوج إن شاءت من فورها (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) والمتعة في الشرع عبارة عن منحه يقدمها المطلق لمطلقته تبعا ليسره وعسره ، ولا تجب عليه إلا بشرطين : الأول أن يجري العقد مجردا عن ذكر المهر. الثاني أن يقع الطلاق قبل الدخول ، ونطقت بهذين الشرطين الآية ٢٣٦ من البقرة. أنظر تفسيرها.

٥٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) ذكر سبحانه في هذه الآية وما بعدها الأزواج الحلال على التفصيل الآتي : (١) (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) المراد بالأجور هنا المهور ، والأفضل تعجيل المهر كما توحي كلمة «آتيت» والمعنى كل امرأة لا زوج لها فلك أن تتزوجها متى أديت المهر (٢) (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) كالسراري من غنائم الحرب مع المشركين ، ولا موضوع لهذا الحكم في العصر الراهن (٣) (وَبَناتِ عَمِّكَ) وعماتك وخالك وخالاتك (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) وإنما خصّهنّ بالذكر علما بأنهن من القسم الأول ـ لمجرد الإشارة أن المهاجرات من القرابة أفضل من غير المهاجرات (٤) (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) بلا مهر (أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يسوغ لغير النبي أن يتزوج امرأة بلا مهر إطلاقا ، أجل للزوجة أن تهب مهرها لزوجها بعد ثبوته في ذمته (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ) أي غيرك من المسلمين (فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) يقول سبحانه لنبيه : حدد الله للمسلمين الزواج بأربع حرائر ، والتمتع بما يشاءون من الإماء ، أما أنت يا محمد فقد رخص الله لك أن تتزوج بأكثر من أربع حرائر لئلا يكون عليك أي حرج وضيق فيما أردت من النساء مكافأة لجهادك وجهودك ، ولما قاسيت وعانيت في سبيل الدين وإعلاء كلمته.

___________________________________

الإعراب : ومن عدة (من) زائدة إعرابا وعدة مبتدأ مؤخر ، ولكم خبر مقدم. وجملة تعتدونها صفة لعدة. (وَامْرَأَتَ) عطف على أزواجك أي وأحللنا لك امرأة. و (خالِصَةً) حال من الضمير المستتر بوهبت. و (لِكَيْلا) متعلق بخالصة.

٥٥٧

٥١ ـ (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) ترجي : تؤخر ، وتؤوي : تضم ، والمعنى لا يجب عليك أن توزع لياليك يا محمد بين أزواجك بالسوية ، بل الخيار لمشيئتك (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) ابتغيت : عاشرت ، وعزلت : هجرت أي لك أن تعود إلى معاشرة من هجرت ، وهجر من عاشرت ، وفي تفسير ابن كثير نقلا عن البخاري : أن عائشة قالت لرسول الله (ص) : أرى ربك يسارع لك في هواك (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) متى علمت أزواجك يا محمد ان الأمر بيدك ، وليس القسم والتوزيع بالسوية فرض عليك ، ولا يحق لواحدة منهن أن تعترض ـ رضيت منك بما تشاءه أنت ، وتراه تفضلا وليس حقا لازما ... ومع هذا فقد كان النبي يساوي بين أزواجه.

٥٢ ـ (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) بعد أن أباح سبحانه لنبيه أنواعا من النساء كما سبقت الإشارة ، أوجب عليه في هذه الآية الاكتفاء بمن في عصمته فعلا ، وكنّ تسعا ، وحرم عليه أن يطلق واحدة منهن ، ويتزوج مكانها أخرى حتى ولو أعجبته ، وذلك مجازاة لأزواج النبي على حسن صنيعهن مع رسول الله واختيارهن الله ورسوله حين خيرن بين الطلاق أو الصبر على الضيق مع الرسول (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) من الإماء والسراري ، فتمنع بهن ما شئت ، ولا وجود لهن في هذا العصر.

٥٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ) كل بيت لا يسوغ دخوله إلّا بإذن من أهله سواء أكان البيت لنبي أم لشقي ، كما في الآية ٢٧ من النور ، ولكن لهذه الآية سببها الخاص ، وهو أن قوما من الطفيليين كانوا يتحيّنون وقت الطعام ، ويدخلون بيت النبي (ص) وينتظرون ، فإذا جاء أكلوا ولم ينصرفوا ، فنزلت الآية بالنهي عن ذلك (غَيْرَ ناظِرِينَ) أي منتظرين الطعام (إِناهُ) بكسر الهمزة بمعنى وعاء الطعام ، وبفتحها بمعنى وقت الطعام (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) أما من غير دعوة فلا تدخلوا (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) انصرفوا إلى شأنكم (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) يدخلون قبل الطعام بلا استئذان ويمكثون ، فإذا آن الأوان أكلوا ، وإذا انتهوا من الأكل جلسوا للحديث والسمر (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) الله والملائكة والناس أجمعين (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) النبي يكره وجودكم ، ولا يصارحكم بذلك حياء منكم ، ولكن أنتم لا تستحون ولا تعقلون ، وفي الحديث : من لا حياء له لا إيمان له (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي من النهي عن الأذى والتطفل. (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) إن يك لأحد حاجة في بيت النبي فليسأل عنها ويتناولها (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ولا يختص هذا ببيت النبي وحده ، بل يعم ويشمل كل البيوت ، وإنما ذكر بيت النبي ، لأنه السبب الموجب لنزول الآية ، والدليل

___________________________________

الإعراب : (وَامْرَأَتَ) عطف على أزواجك أي وأحللنا لك امرأة. و (خالِصَةً) حال من الضمير المستتر بوهبت. و (لِكَيْلا) متعلق بخالصة.

٥٥٨

على الشمول قوله تعالى في بيان علة الحكم : (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) وأبعد عن الفساد والفتنة والأفكار السوداء عند الرجال والنساء (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) لأنهن بمنزلة أمهات المؤمنين وفي تفسير الرازي وروح البيان : «أن هذه الآية نزلت حين قال طلحة بن عبيد التيمي : لئن مات محمد لأتزوجن عائشة» ويؤيد ذلك قوله تعالى بلا فاصل :

٥٤ ـ (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) هذا تهديد ووعيد لمن أعلن أو أبطن الزواج بنساء النبي من بعده.

٥٥ ـ (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ ...) لما أوجب سبحانه الحجاب على النساء أباح لهن السفور والظهور لذوي المحارم المذكورين في الآية ٣١ من النور بتفصيل أشمل.

٥٦ ـ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) سئل الإمام الرضا عليه‌السلام عن معنى صلاة الله والملائكة والمؤمنين على النبي فقال : «الصلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة التزكية ، ومن المؤمنين الدعاء». وفي صحيح البخاري ج ٨ باب الصلاة على محمد قيل : يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال : قولوا أللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد .. والشيعة يقرنون بين النبي وآله في الصلاة عليه عملا بهذا الحديث ، والسنة يجمعون على صحة الحديث هذا ، ولكن لا يقرنون بين النبي والآل ـ في الغالب ـ وعلى أية حال فإن أفضل الصلوات على محمد وآله هو أن نتعلم سنته ونعمل بها ، ونعلمها للناس.

٥٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) والناس ، كل الناس ، (لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) المراد بإيذاء الله سبحانه غضبه على من عصاه ونقمته منه ، أما رسول الله (ص) فقد أوذي في الله أشد الإيذاء ، ومع هذا ضاعف الجهاد حتى ظهر دين الحق على الدين كله.

٥٨ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي ظلما وعدوانا (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الأذى والظلم حرام محرم من حيث هو سواء أوقع على مؤمن أم كافر. فقد جاء في المجلد الثاني من أصول الكافي عن المعصوم (ع) : أن الله سبحانه لا يدع ظلامة المظلومين وإن كانوا كفارا. وإنما خصّ سبحانه المؤمنين بالذكر لأن الكفار والأشرار يقصدون المؤمنين الأتقياء بالظلم والأذى أكثر مما يقصدون الفاسقين الأشقياء ، بل هؤلاء من الأقربين الأنصار.

٥٩ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ

___________________________________

الإعراب : المصدر من أن يؤذن لكم في موضع الحال أي إلا مأذونا لكم. و (إِلى طَعامٍ) متعلق بيؤذن. و (غَيْرَ ناظِرِينَ) حال من فاعل تدخلوا. ولا مستأنسين عطف على غير ناظرين أي غير ناظرين ولا مستأنسين.

٥٥٩

يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) جمع جلباب يغطي رأس المرأة ووجهها ، ويدنين : يرسلن ، وهذه الآية أوضح في الدلالة على وجوب الحجاب ، من قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) ـ ٣١ النور» وقوله : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ـ ٥٣ الأحزاب» ويؤيد قوة هذه الدلالة ورسوخها قوله سبحانه في علة الحكم : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) بالعفة والصون ، فإن الحجاب حاجز بين المحتجبة وطمع المعاكس المشاكس ، وفي بعض التفاسير القديمة : «إذا احتجبن عرفن أنهن حرائر ، ولسن بإماء ولا عواهر» (فَلا يُؤْذَيْنَ) بالنظرات المريبة والكلمات البذيئة.

٦٠ ـ (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) وهم أشد الناس كفرا في الواقع ، وفي الظاهر مع المؤمنين (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) اللصوص والزناة وجلاوزة المتزعمين المتطفلين (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) يثيرون الفتن ، وينشرون الأباطيل ، يضللون البسطاء (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) نأمرك يا محمد بتأديبهم ، كانت هذه الحثالة تعيث في الأرض فسادا ، فهددها سبحانه بأقسى العقوبات إلا أن تحجم وتكف ، ولا علاج لهذا الداء العياء إلا الاستئصال من الجذور ، ولذا قال سبحانه :

٦١ ـ ٦٢ ـ (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا) وجدوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) حيث لا وسيلة لخلاص الإنسانية من شرورهم ولا نجاة لها من ويلاتهم إلا السيف ... ولكن ما الحيلة إذا كانت القوة والسيطرة بالقهر للذين تعاني منهم الإنسانية كل ويل وشر ، كما هو الشأن في هذا القرن ـ العشرين ـ؟

٦٣ ـ (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ...) تقدم في الآية ١٨٧ من الأعراف وغيرها.

٦٤ ـ ٦٥ ـ (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) بإبعادهم من رحمته إلى نقمته.

٦٦ ـ (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) تماما كما تدور الحبة في الماء حين غليانه.

٦٧ ـ (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) المنحرفين

___________________________________

الإعراب : جملة (يُدْنِينَ) مفعول قل. وذلك أدنى مبتدأ وخبر ، والمصدر من (أَنْ يُعْرَفْنَ) مجرور بمن محذوفة. و (لَنُغْرِيَنَّكَ) اللام واقعة في جواب قسم محذوف. ثم (لا يُجاوِرُونَكَ) عطف على لنغرينك. (إِلَّا قَلِيلاً) صفة لمحذوف أي الا زمنا قليلا. و (مَلْعُونِينَ) حال من فاعل يجاورونك ، أو منصوب على الذم والشتم أي اشتم وأذم. وأينما في محل نصب بثقفوا وثاني أخذوا. وسنة الله منصوبة على المصدر أي سن الله ذلك سنة في الأمم الماضية. (وَما يُدْرِيكَ) ما استفهام في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها النفي ، وجملة يدريك خبر وفاعل الفعل محذوف أي وما يدريك بها أحد. و (قَرِيباً) صفة لمحذوف أي زمنا قريبا. و (خالِدِينَ) حال من الكافرين. ويوم متعلق بلا يجدون. (يا لَيْتَنا) يا لمجرد التنبيه وقيل : المنادي محذوف أي يا هؤلاء.

٥٦٠