التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

٤ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) أن يمتنعوا منا بهرب أو حصن أو حيلة؟.

٥ ـ (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) من آمن باليوم الآخر وعمل له ، فإيمانه حق وصدق ، وعمله خير وأجر ، وسيرى ذلك لا محالة ، وكل آت قريب.

٦ ـ (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) الله يقول ، والعقل يقول ، والفطرة والناس والأديان والشرائع كلها تقول : ليس للإنسان إلا ما سعى. أما العمل والتنفيذ فكل يعمل على شاكلته أو منفعته أو دينه وعقيدته وإنسانيته. وما ربك بغافل عما يعملون.

٧ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) هذه الآية تختص بمن كفر أو أذنب ، ثم ندم وتاب ، فيعفو سبحانه عما سلف ، ويزيده من فضله ، ومن عاد فينتقم الله منه.

٨ ـ ٩ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) الوالد يحسن إلى ولده بالإنفاق والإشفاق ، لا يريد منه جزاء ولا شكورا ، وكل الذي يبتغيه أن يكف أذاه عنه ، وهذا وحده في عصرنا من أحسن الإحسان (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) إن كنت موحدا ، وكان أبواك مشركين ، وحرضاك على دينهما فإياك وإياهما ، وفيما عدا ذلك لا تغضبهما (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حساب الشرك والكفر بالله لله وحده لا لوالد أو ولد ولا لشيخ أو خوري.

١٠ ـ ١١ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) وما هو من الإيمان الحق في شيء ، ولكن إبليس حاك له خرافة على منواله ، وصبغها بلون الإيمان وشكله ، وباعها لأبله مسكين ، فانطلت عليه الحيلة ، وأخذ ينشر ويذيع من مثله إيمانا بوحي من الشيطان وهو على يقين بأنه من إملاء الدين! وكيف يكون من الدين وما دخل العجب شيئا إلا أفسده وأهلكه ، وفي الحديث : لو لا العجب ما ابتلى المؤمن الحق بذنب. وفي ثان : ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدل ، إن المدل لا يصعد من عمله شيء (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ ...) يذهب إيمانه مع الريح ، لأنه مجرد لون ومظهر (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ...) تقدم في الآية ١٤١ من النساء.

___________________________________

الإعراب : ساء ما يحكمون (ساء) بمعنى قبح و (ما) مصدرية ، والمصدر المنسبك فاعل ساء أي قبح حكمهم. وحسانا صفة لمفعول مطلق محذوف أي ووصيناه إيصاء حسنا. وما ليس (ما) اسم موصول مفعول لتشرك.

٥٢١

١٢ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) قال الذين كفروا بمحمد (ص) للذين آمنوا به : ما آمنتم به إلا خوفا من نار جهنم ، ارتدوا عن دينه إلى ديننا ، ونحن نحمل العذاب عنكم. قالوا هذا ساخرين من خرافة النشر والحشر (وَما هُمْ بِحامِلِينَ) أبدا لا أحد يحمل على أحد ، كل امرئ وما كسب.

١٣ ـ (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) كل من ضلّ وأضلّ آخرين يبوء بوزرين : وزر نفسه ، ووزر من اغتر به دون أن ينقص من وزر هذا شيئا.

١٤ ـ ١٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) قيل : هذه تسلية من الله لمحمد (ص) أن لا يأسف ويحزن لإعراض من أعرض عنه ، فإن نوحا مكث في قومه يدعوهم ليلا ونهارا فما زادهم ذلك إلا فرارا ، وتقدم الحديث عن نوح مرات منها في الأعراف وهود والشعراء.

١٦ ـ (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ...) دعا إبراهيم (ع) إلى التوحيد ، ولاقى الكثير في سبيل دعوته حتى ألقي في النار ، وما زاده ذلك إلا قوة وصلابة في دينه وحزما وثباتا على ثورته وقال لقومه من جملة ما قال :

١٧ ـ (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) تبتدعون أشياء لا أساس لها إلا الجهل والضلال.

اشارة :

يدل ظاهر الآية بوضوح ان نوحا عاش ٩٥٠ عاما ، والعقل لا يأبى ذلك ، فوجب التصديق أما التعليل بأن عدد البشرية كان قليلا يومذاك ، والنسل كان محددا ، وانه. كلما قل العدد والنسل طالت الأعمار ، كما قال بعض المفسرين الجدد ، أما هذا التعليل ونحوه فلا يصح الركون اليه في تفسير الوحي أو توجيهه .. وفي قاموس الكتاب المقدس ان نوحا اسم ساميّ ، ومعناه «راحة» وأبوه هو الذي سماه بذلك.

___________________________________

الإعراب : لنحمل اللام للأمر ولذا جزم الفعل. ويحاملين الباء زائدة. ومن خطاياهم (من) للتبعيض. ومن شيء (من) زائدة وشيء مفعول حاملين ، ومن خطاياهم متعلق بمحذوف حال مقدما من شيء ، والأصل وما هم حاملين شيئا من خطاياهم. وألف سنة ظرف زمان منصوب بلبث. وخمسين منصوب على الاستثناء. وعاما تمييز.

٥٢٢

١٨ ـ (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) وبلغكم ما حلّ بهم من بوار ودمار.

١٩ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أما الخلق الأول فندركه بالحس والعيان ، ونحن منه والخلق الثاني ندركه بالعقل ، لأن الذي أحيا وأمات يهون عليه أن يحيي الأموات بحكم البديهة.

٢٠ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) أي من لا شيء مادي ؛ بل بكلمة «كن» وإلا لما وجد شيء إطلاقا ، لأن السؤال يبقى قائما إلى ما لا نهاية تماما كسؤال السائل لما ذا لا تسقط الأرض في الفضاء؟ فأجيب بأنها تستند إلى قرن الثور. ثم سأل ثانية ولما ذا لا يسقط الثور؟ فأجيب بأنه يستند إلى سلحفاة. فسأل للمرة الثالثة ولما ذا لا تسقط السلحفاة؟ ... (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) حيث تجزى كل نفس الجزاء الأوفى على ما قدمت.

٢١ ـ (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) وما من شك أن مشيئته تعالى تصدر عن علمه وعدله وحكمته لا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تولهه ـ أي تذهله ـ رحمة عن عقاب كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع) :

٢٢ ـ (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لا ملجأ ولا مهرب من الله لأهل الأرض والسماء إلا إليه.

٢٣ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) الدالة على وجوده وقدرته على إحياء الموتى (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) لا نصيب لهم فيها.

٢٤ ـ (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) عجزوا عن رد الدليل بالدليل والحجة بالحجة فهددوا وتوعدوا ، ولكنه كان في حصن أمين من حول الله وقدرته وتقدم في الآية ٦٩ من الأنبياء.

اللغة : الإنشاء الإيجاد. وتقلبون ترجعون

___________________________________

الإعراب : بمعجزين الباء زائدة ومعجزين خبر أنتم أي ما أنتم معجزين. ومن ولي (من) زائدة وولي مبتدأ ولكم خبر. والمصدر من ان قالوا خبر كان.

٥٢٣

٢٥ ـ (وَقالَ) إبراهيم لقومه : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) كرمز وعنوان لوحدتكم وكيانكم الاجتماعي ، وانكم قلب واحد ويد واحدة على عدوكم ، ولكنكم غدا وفي دار الحق سترون أن هذه الأصنام هي السبب الأساس والأصيل لعذابكم وتباغضكم حيث (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ان ذلك لحق تخاصم أهل النار ـ ٦٤ ص. على العكس من أهل الجنة الذين قال عنهم سبحانه : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ـ ٤٧ الحجر.

٢٦ ـ (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) ابن أخي إبراهيم (وَقالَ) إبراهيم : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) داعيا إليه وإلى العمل بدينه وشريعته.

٢٧ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) بن إسحاق ، وتقدم في الآية ٤٩ من مريم و ٧٢ من الأنبياء.

٢٨ ـ ٢٩ ـ (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) أنكر عليهم هذا الفعل القبيح الشنيع ، وقوله : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ) يدل بصراحة أنهم أول من اكتشف ومارس ، وسمعنا وقرأنا أن في الغرب والشرق أسافل وأراذل على دين قوم لوط! فبعدا لهم وسحقا (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي سبيل النسل بترك النساء (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) النادي : مجلس تجتمع فيه الرجال ، والمنكر : فعلهم بالذكور.

٣٠ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) بنزول العذاب عليهم استغاث بالله ، وتضرع إليه أن يتولى حربهم بنفسه لأن الله سبحانه لم يهيء له أسباب الجهاد والقتال كالسلاح والرجال.

اشارة :

وبعد ألوف السنين يعيد تاريخ اللواط والفساد نفسه في مجلس العموم البريطاني حيث أقرّ واستحلت هذه الفاحشة التي تنفر منها طباع الوحوش والحشرات .. ونحن على يقين بأن نوعا من العذاب سيحل على هذا المجتمع وأمثاله عاجلا أم آجلا تماما كما حل على الذين من قبلهم. المبين ٥٢٤.

___________________________________

الإعراب : وأوثانا مفعول أول لاتخذتم والمفعول الثاني محذوف أي اتخذتم من دون الله أوثانا آلهة. ومودة مفعول من أجله لاتخذتم.

٥٢٤

٣١ ـ ٣٣ ـ (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) المراد بالرسل هنا الملائكة ، وبالبشرى البشارة بولده إسحاق (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الباقين مع الهالكين ، ودخل الملائكة على لوط في هيئة شبان حسان ، ولما رآهم (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) المراد بالذرع هنا الطاقة والمعنى أن لوطا أضافهم ، ولكنه أحس بكابوس على قلبه مخافة أن ينالهم أذى من قومه.

٣٤ ـ ٣٧ ـ (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً) عذابا من السماء لا يبقي منهم إلا الآثار عبرة لأولي الأبصار ، وتقدمت هذه الآيات في سورة الأعراف وهود (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) على حذف مضاف أي ثواب اليوم الآخر (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة (جاثِمِينَ) باركين على الركب ميتين ، وتقدم في سورة الأعراف.

٣٨ ـ (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) عاد قوم هود ، وثمود قوم صالح ، قال ابن كثير في تفسيره كانت العرب تعرف مساكنهما جيدا وتمر عليها كثيرا.

اللغة : الرجحفة الحركة والاضطراب. والجثوم البروك على الكربة والمراد به هنا الهلاك. والحاصب من الرمي بالحصباء أي الحجارة الصغيرة.

اشارة :

أرسل الله لوطا الى مجتمع ما عرف التاريخ القديم له مثيلا في انحلاله وبشاعته ... يأتون الرجال شهوة دون النساء ، ويقطعون الطريق على المارة بالأذى ضربا وسلبا واغتصابا ، أما أنديتهم ومجالسهم فلا تعرف إلا الفحش والمنكر والآثام .. فحذرهم لوط ، وأنذرهم بعذاب الله .. وهذا كل ما يملكه ويقدر عليه ، فسخروا منه ، وقالوا : أرنا هذا العذاب لنؤمن بك ... فالتجأ الى الله يستنصره على القوم المفسدين. فاستجاب سبحانه الى تضرعه ، ودخل الملائكة على لوط بوجوه وضاءة ناضرة ، فأوجس في نفسه خيفة عليهم من قومه الأشرار ، فكشفوا له عما قصدوا اليه ... وتمت كلمة العذاب على المفسدين ، وأصبحوا أثرا بعد عين ، وعبرة لأولي الأبصار.

٥٢٥

٣٩ ـ (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) مثلث الرجس والعتو والضلال : قارون الغني الشقي العالمي ، وتقدم عنه الحديث في الآية ٧٦ من القصص. وفرعون الرب الغريق الصفيق ، وسبق ذكره في سورة الأعراف وهامان وزير فرعون ، وأشير إليه في القصص.

٤٠ ـ (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) ولا مناص ولا محالة ، فكل مجرم مرتهن بجرمه ، وحبيس بإثمه (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) كقوم لوط ، والحاصب : الرمي بالحصباء (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) كيف وهو القائل : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ـ ٤٤ الأعراف» (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) قال رجل لأبي ذر : عظني ، قال : لا تسيء ـ إلى نفسك. قال : وهل من أحد يسيء إلى نفسه ، قال : من يعرضها للمهلكات والعثرات.

٤١ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ ...) جاء في كتاب القرآن محاولة لفهم عصري ما شرحه وتوضيحه : كشف العلم الحديث أن الإنسان لو اتخذ لنفسه خيمة من خيوط الصلب بدقة خيط العنكبوت لكان بيتها بالنسبة إليها أقوى ثلاثة أضعاف من خيمة هذا الإنسان بالنسبة إليه ، ومعنى هذا أن بيت العنكبوت حصن حصين لها ، ولكن إذا تحصن به الإنسان والتجأ إليه يكون هذا الحصن «العنكبي» بالنسبة إليه لا شيء على الإطلاق تماما كما لو تحصن بالضياء أو بالهواء ... وهذا شأن من اعتز بغير الله ، وتوكل على سواه.

٤٢ ـ (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) ليس هذا إخبارا بأن الله يعلم هوية المعبود من دونه كلا ، بل هو تهديد ووعيد للعابد المعاند.

٤٣ ـ ٤٤ ـ (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) تلك إشارة إلى بيت العنكبوت ونظائره (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) هذا هو دين الحياة والإنسانية والحق والواقع ، يخاطب العلماء والعقلاء المفكرين لا الجهلة المقلدين الذين يريدون من أهل العلم بالدين أن يشفوا المرضى ، ويردوا الضائع ، ويعقد اللسان الوحش بالرقية والتميمة.

___________________________________

الإعراب : وفاعل تبين ضمير مستتر يعود إلى هلاكهم المفهوم من سياق الكلام. والمصدر من ليظلمهم متعلق بمحذوف خبرا لكان ، أي ما كان الله مريدا لظلمهم. جواب لو محذوف أي لو كانوا يعلمون ان هذا مثلهم. يعلم ما تدعون (ما) اسم موصول مفعولا ليعلم أي يعلم الذين يدعون ، وقيل (ما) استفهام ومحلها النصب بيدعون ، ويعلم معلقة عن العمل.

٥٢٦

٤٥ ـ (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) القرآن ، وتقدم في الآية ٢٧ من الكهف (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) لتشريع وجوب الصلاة علة وحكمة ، وعلة الوجوب مشيئة الله وكفى ، أما الحكمة منه فهي أن يبتعد المصلي في جميع تصرفاته ومقاصده عن الفحشاء والمنكر أي عن الحرام بشتى أنواعه ، ومعنى هذا أن الانتهاء عن المنكر حكمة لوجوب الصلاة في عالم التشريع لا لوجود الصلاة في الخارج ، فمن صلى وانتهى يسقط عنه وجوب الصلاة ويثاب عليها أيضا ، ومن صلّى ولم ينته يسقط عنه الفرض قطعا ، أما الثواب فبعلم الله ، تقول هذا علما بأن الفقهاء ربطوا بين الثواب على الصلاة ، والتوجه إليها فكرا وقلبا لا بين الثواب والانتهاء (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي ذكر الله تعالى للمصلي بالرضا والأجر أكبر من ذكر المصلي لله في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده ، ومثله قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ـ ١٥٢ البقرة».

٤٦ ـ (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أهل الكتاب : اليهود والنصارى ، والأحسن : الأصلح والأنجح الذي يقرب ولا يبعد ، ويبشر ولا ينفر ، وإنما خصّ سبحانه أهل الكتاب بالذكر علما بأن الأسلوب هو المطلوب من غير قيد لأن المفروض في أهل الكتاب أن يتقبلوا الحق ما داموا يؤمنون بالله واليوم الآخر كما يزعمون (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهم الذين إذا سمعوا القول لا يتبعون أحسنه تعنتا وتعصبا. فهؤلاء لا يسوغ الحديث معهم بحال (وَقُولُوا) أيها المسلمون لأهل الكتاب : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ...) لما ذا التعصب والتباغض؟ فعلى الصعيد الإنساني نحن وأنتم سواء في الحقوق والواجبات ، أما على الصعيد الديني فكلنا نؤمن بوحي السماء. هكذا ينظر الإسلام إلى أهل الكتاب نظرة التسامح والإخاء لا نظرة التعصب والعداء ، وشهد بذلك العديد من أقطاب المسيحيين المنصفين منهم «جيدر بامات» في كتابه مجالي الإسلام تعريف عادل زعيتر ، فقد جاء في الفصل الثاني نظرة في مذهب الإسلام «من النادر أن لاقى دين ما لاقى الإسلام من جحود وتشويه من المبشرات البالغة الغلظة والمقترحات البالغة الوقاحة حول محمد وتعاليمه ... مع العلم بأن المسلمين منعوا من أن يمس النصارى بسوء ، وتركوا المغلوبين أحرارا في المحافظة على دينهم ، ولما صار الصليبيون سادة ذبحوا المسلمين بلا رحمة».

٤٧ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي كما أنزلنا على من قبلك من الرسل كذلك أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد سبحانه العلماء المنصفين من أهل الكتاب (يُؤْمِنُونَ بِهِ) يصدقون كل ما جاء في القرآن (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) هؤلاء إشارة إلى مشركي قريش فقد أسلم بعضهم عن صدق وإخلاص.

٤٨ ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) هل يخطر على ذهن عاقل بأن هذا القرآن من إنشاء محمد وفيه من الحقائق والعلوم ما يجهله محمد وغيره قبل نزول القرآن إضافة إلى أنه لا يقرأ ولا يكتب كي يتشدق ويتحذلق جاهل سافل بأن محمدا قرأ ونقل بقلمه من أسفار الأولين.

٤٩ ـ (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم محمد وأهل بيته (ص) الذين هم خزنة علمه ، والعلماء المتمسكون بعروته.

٥٢٧

٥٠ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) يريدون بالآيات ما يقترحون ويشتهون كتحويل الجبل ذهبا ، وتقدم في الآية ٣٧ من الأنعام (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) وليس لي من الأمر شيء (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) مهمتي التبليغ وكفى.

٥١ ـ (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) القرآن ، وكل ما فيه من حقائق علمية وشريعة حياتية وتحديات ونبوءات حدثت وتحققت ـ تشهد بأنه من عند الله هدى لعباده على مدى الحياة.

٥٢ ـ (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) بأنه أرسلني إليكم ، وأني قد بلغت رسالته على أكمل وجه ، وأنكم قد كذبتم وأعرضتم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ) كل ما نهى الله عنه فهو باطل ، وكل من عصى الله فهو فاسق أو كافر ، والكل جائر وخاسر.

٥٣ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أن يحل بهم (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) أي تأخير العذاب إلى يوم القيامة (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) قريبا وسريعا.

٥٤ ـ (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) هم يستعجلون العذاب ويسخرون؟ وهو آت لا محالة.

٥٥ ـ (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) من كل جهة ، فتأكل النار الجلود واللحوم والعظام والقلوب تماما كما تأكل الحطب ... رحماك يا رحيم. وشفيعي إليك قلبي الذي يحبك ، ودليل حبه لك نصحه لعيالك ، وأنت أعلم بذلك مني ومنه.

٥٦ ـ (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) على كل مسلم ، بنص هذه الآية ، أن يهجر ويفر من أي أرض يتعذر عليه فيها أن يفعل الواجبات ويترك المحرمات حتى ولو كانت الأرض بلده ووطنه.

٥٧ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) مقيمة كانت أم مهاجرة.

___________________________________

الإعراب : لو لا أنزل هلا أنزل. والمصدر من أنا أنزلنا فاعل يكفهم. وجملة يتلى حال من الكتاب أي متلوا عليهم. وبالله الباء زائدة والله فاعل كفى. وشهيدا تمييز. وليأتينهم اللام جواب قسم محذوف أي والله ليأتينهم. وبغتة مصدر في موضع الحال من العذاب. ويوم متعلق بمحيطة. فإياي فاعبدون (اياي) مفعول لفعل محذوف يفسره الفعل الموجود ، وفاعبدون الأصل فاعبدوني.

٥٢٨

٥٨ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) مقيمين أم مهاجرين ، بل فضّل الله المهاجرين في سبيل الله درجة وكلا وعد الله الحسنى.

٥٩ ـ (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ثبتوا على دينهم وهاجروا به ، وتوكلوا على الله في كل حال ، وقد رأينا أرزاق المهاجرين أكثر وأوسع ، وأطيب وأنفع.

٦٠ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) الله سبحانه هو الذي يعطي كل نفس جميع ما تحتاج ، ولكن مع الحركة والعمل لأنه أبى سبحانه إلا أن يربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها ، وحركة كل حي بحسبه ، كما نرى من سعي النحلة والنملة والطير ووحش الغاب ، ومن الإنسان وكل حيوان أما المريض أو الكسيح فإن الله يسخر له من يقوم بحاجته ، وفي شتى الأحوال فإن أسباب الرزق وغيره تنتهي إليه لأنه خالق كل شيء. وكتبت كثيرا حول الرزق ، ولعل أفضله ـ فيما أظن ـ ما ذكرته في شرح الحكمة ٣٧٨ من حكم نهج البلاغة. أنظر في ضلال نهج البلاغة ج ٤ ص ٤٤٠.

٦١ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) المسئولون هم الجبابرة المترفون ، وقد أعلنوا إيمانهم بالله الذي منحهم الحرية المطلقة في أن يزلزلوا الأمن والأمان ، ويرهبوا العالم ، وينهبوا الأمم! وما من شك أن هذه الفئة الحرة القذرة هي أسوأ حالا عند الله ممن كفر به أو أشرك.

٦٢ ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي يضيق ، وقلنا فيما تقدم ونكرر أن مشيئة الله منزهة عن العبث والمجازفة وعليه يكون معنى الآية أن الله سبحانه يوسع الرزق أو يضيقه تبعا لأسبابة السائغة شرعا وعقلا ، أما المال الحرام فما هو من رزق الله في شيء ، بل هو غضب ونهب وسموم ويحموم.

٦٣ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) الماء هو السبب الأول والأساس للرزق ، وقد أنزله الله من السماء باعتراف المحتكرين والمستأثرين والله للجميع لا لفئة دون فئة أو لفرد دون فرد ، فالرزق كذلك لا يسوغ لأحد أن يحتكره ويتحكم به.

٦٤ ـ (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) المراد بالدنيا هنا القصور والفجور والصهباء والليالي الحمراء ، والبذخ على حساب الضعفاء وإلّا فإن المال الحلال أحد السبل لمرضاة الله وطاعته ، ونقلوا عن الإمام الشافعي أنه كان لا يحسن التفكير في مسألة إذا شعر أن بيته خلا من الدقيق. وقال الرسول الأعظم (ص) : «كاد الفقر يكون كفرا» (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) الحياة الطيبة الدائمة وهذه الحياة وقف على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ومعنى هذا أن الإسلام يربط بين دنيا الخير والآخرة بحيث تدور هذه مع تلك وجودا وعدما.

٦٥ ـ (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ ...) تقدم في الآية ٢٢ من يونس.

٥٢٩

٦٦ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) هذا تهديد ووعيد للطغاة من أرباب الجاه والمال ، وأن مآلهم شر مآل.

٦٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) واو الجماعة في يروا لعتاة قريش الذين نصبوا العداء للنبي (ص) ووصلوا في حربه وإيذائه حدا بعيدا ، ويقول سبحانه لهؤلاء : تتمردون على طاعة الله وقد أحلكم في حرمه دار الأمن والأمان؟ (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أي وأعراب الجاهلية حول مكة يقتل بعضهم بعضا ، وينهبون ويسلبون ولا أحد منهم يمس أهلها بسوء ، أفبنعمة الله يجحدون ، وللأصنام يعبدون؟

٦٨ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) حيث جعلوا له أضدادا وأندادا (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) بالقرآن ونبوة محمد (ص).

٦٩ ـ (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ومنهم من تعلم العلم النافع وعمل به وعلّمه الناس ، وأيضا منهم من أتى بجديد مفيد لأخيه الإنسان ، ومن جاهد الضلال والفساد ، وكافح في سبيل العيش الحلال (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ولا يختص الإحسان بأداء الفرائض فقط ، ولا بالصدقات ، بل يعم ويشمل الشعور باحترام الإنسان وكرامته وكف الأذى عنه.

سورة الرّوم

مكيّة وهي ستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الم) تقدم في أول البقرة.

٢ ـ (غُلِبَتِ الرُّومُ) غلب كسرى ملك الفرس جيش قيصر ملك الروم.

٣ ـ (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) والمراد بها أرض الأردن وفلسطين ، وهي أقرب البلاد إلى جزيرة العرب ، وحدث ذلك في عهد رسول الله (ص) وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم مثلهم أصحاب كتاب ، والمشركون يودون أن تظهر فارس على الروم لأنهم مثلهم أصحاب أصنام ، ولما جاءت الأخبار بانتصار الفرس شق ذلك على المسلمين ، وفرح المشركون ، فنزلت هذه الآيات تبشر المسلمين بأن الروم ستنتصر على الفرس في جولة ثانية ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله : (وَهُمْ) أي الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) الفرس.

___________________________________

الإعراب : مخلصين حال من فاعل دعوا. ليكفروا وليتمتعوا : اللام للأمر ويجوز أن تكون للعاقبة ، مثل لدوا للموت ... وكذبا مفعول مطلق لافترى.

٥٣٠

٤ ـ (فِي بِضْعِ سِنِينَ) والبضع أقل من عشرة وأكثر من ثلاثة ، وقد حدث ذلك بالفعل. وهنا يكمن سر الإعجاز حيث أخبر القرآن على سبيل اليقين باستئناف الحرب ، وحدد وقتها وبأن الدائرة تدور على فارس ، فكان كما قال علام الغيوب. وفرحت قلوب المسلمين ، وزلزلت قلوب المشركين.

٥ ـ (بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) من الذين يعدون العدة للنصر ، ولو كانت هذه العدة هي الروح المستميتة وحدها فقط.

٦ ـ (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) وهو أن يجري المسببات على أسبابها والنتائج على مقدماتها ، ولا شيء عنده يحدث صدفة وجزافا وإلا لصدق قول الجاحدين بأن الكون وجد صدفة.

٧ ـ (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) كالتجارة والصناعة والزراعة وكل ما يتصل بمصالحهم ومنافعهم (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ولكن غير مغفول عنهم ، حلت الدنيا في أعينهم فأعمتهم عن الآخرة.

٨ ـ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) كيف يستبعد الإنسان المعاد ، ويكفر به وهو يملك عقلا مفكرا لو استعمله في النظر إلى هذا الكون ونظامه ونواميسه لأدراك أن الذي أبدع الكون قادر على فنائه وإعادته.

٩ ـ ١٠ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) تقدم في الآية ١٣٧ من آل عمران (وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) كانت الأمم السابقة أكثر حضارة من العرب ، ولما ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء والمصلحين أخذهم الله بعذاب ... ألا يخشى الذين كذّبوا محمدا أن يصيبهم ما أصاب الذين أقوى وأرقى؟؟

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) أي الحالة السيئة تأنيث الأسوأ ، والسوأى اسم كان مؤخر وعاقبة خبر مقدم ، والمعنى كانت السوأى عاقبة المسيئين لأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون.

١١ ـ (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...) تقدم مرات ، منها في الآية ٤ من يونس (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) يسكتون وييأسون من الخلاص والنجاة.

١٢ ـ ١٦ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ـ (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) العلاقات بين الناس في الحياة الدنيا متنوعة وكثيرة : رحمية واقتصادية ، وسياسية وثقافية وغير ذلك ، أما في الآخرة فلا شيء من ذلك على الإطلاق حيث يذهب كل إنسان بعد الحساب إلى مقره ، إما إلى جنة ، وإما إلى نار.

١٧ ـ (فَسُبْحانَ اللهِ) يرشدنا ، عظمت كلمته ، إلى العبادة في الأوقات الآتية : (حِينَ تُمْسُونَ) إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) إشارة إلى صلاة الصبح.

٥٣١

١٨ ـ (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جملة معترضة (وَعَشِيًّا) إشارة إلى صلاة العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) إشارة إلى صلاة الظهر ، وهذا التفسير نقله الشيخ الطبرسي عن ابن عباس.

١٩ ـ ٢٠ ـ (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) يشير بهذا إلى أن الحياة من عنده تعالى لا من التركيب والتأليف بين عناصر مادية معينة كما يزعم الماديون.

قال توفيق الحكيم في كتابه فن الأدب ص ١٠١ : انكب العلماء في معاملهم يجربون كي يأتوا بخلية حية ، فاستنبطوا من الأملاح ونظائرها شيئا يشبه الأحياء ، وبعدئذ اتضح لهم أنه لا يدخل في نطاق الكائنات الحية بمعناها الحقيقي (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) جاء أعرابي إلى رسول الله (ص) وسأله كيف يحيي الله الموتى.؟ قال له : أما مررت بوادي قومك ممحلا أي جدبا مقفرا. قال الأعرابي : بلى. قال (ص) : فكذلك يحيي الله الموتى. وهذه معرفة حسية لواقع مشهود بالعيان ، ومنه ننتقل إلى تقرير مبدأ عام وهو أن إحياء الميت ممكن في ذاته.

اللغة : تظهرون تدخلون في وقت الظهيرة تماما مثل تمسون وتصبحون. ومن أنفسكم من جنسكم. لتسكنوا اليها لتطمئنوا اليها ، فسكن اليه من سكون الروح ، وسكن عنده من سكون الجسم.

___________________________________

الإعراب : والسوأى اسم كان أي كان السوأى عاقبة الذين أساءوا ، ومن رفع عاقبة فهي الاسم والسوأى الخبر. والمصدر من أن كذبوا مفعول من أجله. ويومئذ بدل من يوم تقوم الساعة. تظهرون تدخلون في وقت الظهيرة تماما مثل تمسون وتصبحون.

٥٣٢

٢١ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) من أنفسكم أي من جنسكم تبادلكم عطفا بعطف ، والمراد بالرحمة والمودة التعاون قلبا واحدا ويدا واحدة على خير الأسرة لتحيا حياة طيبة صالحة لا مشكلات فيها ومشاحنات ، وعلى أية حال فإن الحياة الزوجية لا تكون مرضية عند الزوجين إلا إذا نظر كل منهما إلى الآخر على أنه شيء يذكر.

٢٢ ـ (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الدال على وجود الخالق وعظمته (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) اختلاف القوميات باللغة ، وأهل الأقطار بالألوان ، والأفراد بالملامح والأصوات وبصمة الأصابع (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) على وجود المقدر والمدبر.

٢٣ ـ (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) وتقدير الكلام هكذا : منامكم ليلا ونهارا ، لأن الإنسان قد ينام في النهار للراحة ، وابتغاؤكم من فضله تعالى أيضا ليلا ونهارا ، لأن الإنسان قد يسعى لرزقه في الليل.

٢٤ ـ (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ...) قد يكون البرق منذرا بالصاعقة ، وقد يكون مبشرا بالغيث ، تقدم في الآية ١٢ من الرعد.

٢٥ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) والمراد بأمره هنا قوانين الطبيعة ونواميسها لأنه هو الذي طبّعها وقوننها ، ومثله تماما قوله في الآية ٧١ من يس : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) حيث أطلق أيديه تعالى على الأسباب الطبيعية التي تنتهي إليه (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) إن دعوة الله للإنسان في الحياة الدنيا هي مجرد نصح وتشريع ، وللإنسان الخيار في أن يعصي أو يطيع ، أما دعوته في الآخرة فهي تكوين وتنفيذ لا مفر منها بحال ، وتقدم في الإسراء الآية ٥٢.

٢٦ ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)

اللغة : تظهرون تدخلون في وقت الظهيرة تماما مثل تمسون وتصبحون. ومن أنفسكم من جنسكم. لتسكنوا اليها لتطمئنوا اليها ، فسكن اليه من سكون الروح ، وسكن عنده من سكون الجسم.

___________________________________

الإعراب : ومن أنفسكم من جنسكم. لتسكنوا اليها لتطمئنوا اليها ، فسكن إليه من سكون الروح ، وسكن عنده من سكون الجسم.

٥٣٣

طائعون منقادون ، يعرفنا سبحانه بعظمته لنقدسه ونخلص له في التوحيد والعبادة.

٢٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) من لا شيء (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد أن يصبح هبابا ويبابا (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) لا تفضيل في كلمة أهون لأن خلق الكون والذرة سواء في قدرته تعالى كل شيء يكون بكلمة «كن» (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الصفة العليا التي لا يشاركه فيها شيء.

٢٨ ـ (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) أنتم أيها المشركون تأنفون وترفضون أن يكون العبد الذي تملكون شريكا لكم فيما رزقكم الله من مال وعقار ، فكيف تجعلون لله شركاء وأندادا من مخلوقاته؟ تكرهون الشريك وهو مخلوق مثلكم وترضونه لله الخالق والمحيي والمميت؟ (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي تكرهون المساواة في الأموال بينكم وبين العبيد (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) المراد بأنفسكم الشركاء الأحرار من أمثالكم ، والمعنى هل تهابون العبيد حين تتصرفون في أموالكم كما تهابون الأحرار لو كانوا شركاء معكم في الأموال؟

٢٩ ـ (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) حيث خيّل إليهم أن الحق فيما يهوون ، والعدل فيما يشتهون! وهذا هو الجهل بالجهل (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي من رآه الله ضالّا في واقعه وحقيقته لا من رآه الناس ضالّا من ظاهر تصرفاته وهو في واقعه من المهتدين.

٣٠ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) حنيفا : مائلا إلى الحق ، أما تحديد الدين بالفطرة فيتضح بهذا البيان : كل إنسان حتى اكثر الخلق شرا وفجورا يود تلقائيا وبدافع من أعماقه أن يصون الناس دمه وماله وعرضه ، ولا يمسه أحد بسوء ، وأيضا يحب بغريزته أن يحسنوا إليه ويتعاونوا معه على خيره وصلاحه ، ومعنى هذا أنه يطلب من جميع الناس أن يكونوا متدينين من حيث لا يشعر ، لأن مهمة الدين القويم أن يحمل كل فرد من أفراد الإنسان على أن يستجيب لهذه الفطرة في معاملاته وتصرفاته : بحسن ولا يسيء ويتعاون مع الآخرين ولا يتهاون في شيء من حقوقهم تماما كما يريد هو أن لا يتهاون أحد في حقوقه. (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) خلق سبحانه الإنسان على هذه الفطرة ، ولا يمكن زوالها من الأساس ، أجل للإنسان أهواء غير مشروعة وكثيرا ما تصطدم مع الفطرة ، وتتغلب عليها ، ولكن لا تمحوها وتستأصلها من الجذور (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي الذي ينسجم مع الفطرة ، وكل ما ينفصل عنها ، ويصطدم معها فما هو من الدين القيّم في شيء.

٣١ ـ ٣٢ ـ (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) ارجعوا إلى هذا الدين الإنساني الفطري ، واعملوا بجميع أحكامه (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...) تقدم في الآية ١٥٩ من الأنعام.

___________________________________

الإعراب : لكم مما ملكت متعلق بمحذوف خبرا مقدما لشركاء ، ومن زائدة إعرابا. ومثله وما لهم من ناصرين.

٥٣٤

٣٣ ـ (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ ...) تقدم في الآية ١٢ من يونس.

٣٤ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ...) تقدم في الآية ٦٦ من العنكبوت.

٣٥ ـ (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) برهانا يشهد للمشركين والمجرمين بأن الذي هم عليه حق وصواب.

٣٦ ـ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها) ولا بأس ، شريطة أن لا ينجم عن الفرح أي مكروه (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) بعض الناس يلقي بنفسه إلى التهلكة ، ويصيح : لو كان في الدنيا وأهلها شيء من الخير ما مسني السوء ، وتقدم في الآية ٩ من هود.

٣٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ...) تقدم في العديد من الآيات ، منها الآية ٢٦ من الرعد و ٦٢ من العنكبوت.

٣٨ ـ (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) العطف والصلة (وَالْمِسْكِينَ) أحد المستحقين للزكاة ومثله (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو المسافر المحتاج إلى نفقة ، أنظر تفسير الآية ٦٠ من التوبة.

٣٩ ـ (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) تقصدون بالربا زيادة المال ، وهو عند الله خسران ونيران. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ اللغة : منيبين اليه أي راجعين اليه. والمراد بالسلطان هنا الحجة أو الكتاب. ويقدر يضيق. وابن السبيل هو الذي سافر في غير معصية ، وانقطع عن ماله وأهله. والربا الزيادة. والمضعفون الذين يضاعف لهم الأجر والثواب.

___________________________________

الإعراب : منيبين حال من واو دعوا. إذا فريق (إذا) للمفاجأة. وما آتيتم (ما) في محل نصب بآتيتم.

٥٣٥

فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء.

٤٠ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ...) الله سبحانه هو الذي خلق وأعطى ، وأمات وأحيا ، وهو الخافض والرافع والضار والنافع ، وما من أحد سواه يقدر على ذلك ، فكيف تقبلون على غيره ، وتتذللون لمخلوق مثلكم؟.

٤١ ـ (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) قال بعض المفسرين : المراد بالفساد في البحر قلة صيد الأسماك وكساد التجارة. وقال آخر : بل المراد أخذ السفينة غصبا ، وإذا كان كل إنسان يفسّر ويعبّر عما يقع في حياته ، ويستوحي من ظروفه ومحيطه ، يسوغ لنا أن نفسّر الفساد في البحر بالأساطيل الحربية ، وشاحنات الجيوش وأسلحة الدمار والإبادة (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) كلمة «بعض» إشارة إلى عذاب الدنيا ، وأن الله سبحانه يوقعه على بعض العصاة كسوط يؤدبه ويوقظه من غفلته.

٤٢ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أو اقرأوا التاريخ (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) الطغاة ومصير الجبابرة العتاة ، وتقدمت هذه الموعظة مرات.

٤٣ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) أقبل وتوجه بكلك على الدين السليم واعمل به وجاهد في سبيله قبل أن تقف بين يديه تعالى لنقاش الحساب (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يفترق الناس إلى فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير.

٤٤ ـ ٤٥ ـ (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ولا أحد يحمل وزره (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) قال الإمام جعفر الصادق (ع) : إن العمل الصالح يسبق صاحبه ليمهد له كما يمهد الخادم لسيده ، وتقدم في الآية ٦٢ من البقرة وغيرها.

٤٦ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) بنزول الغيث (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) كل ما في الطبيعة رحمة

___________________________________

اللغة : يصدّعون أصلها يتصدعون من التصدع ، والمراد هنا التفرقة ، يقال تصدع القوم أي تفرقوا. ويمهدون من مهد بمعنى وطّأ وهيأ.

٥٣٦

ونعمة لخلق الله وعباده ، يستعملونها في متطلبات الحياة ، وبالخصوص الماء (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) والمراد بأمره هنا الريح والطاقة وكل دافع ومحرك ، لأنه تعالى خالق كل شيء.

٤٧ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ ...) بالبينات والدلائل على صدقهم ونبوتهم ، فكذبوهم تعنتا وعنادا ، فأخذهم الله بذنوبهم ، وما كان لهم من واق.

٤٨ ـ (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ ...) فتحرك السحاب ، وتنشره في السماء ، ثم تقسمه إلى قطع ، وتدفع بكل قطعة إلى بلد ، فإذا وصلت إليه تساقط الماء على البلد المقصود فيهتز ويربو ويفرح أهله بعد اليأس والقنوط ، وتقدم في الآية ٥٧ من الأعراف و ٤٣ من النور.

٥٠ ـ ٥١ ـ (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) قال اينشتين : «أشد الأمور غموضا في الكون أنه غير غامض» وهكذا رحمة الله ونعمته لما وسعت كل شيء ذهل الناس عنها. ويدور على كل لسان : لا تعرف النعمة إلا بعد فقدها. وإذا استمرت اللذة فلا تبقى لذة. والطحّان لا يفيق من جعجعة رحاه بل من انقطاعها (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) الهاء تعود إلى الزرع المفهوم من سياق الكلام ، ومصفرا صفة له (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) يعبدون الله على أساس الربح ، فإذا محّصوا بالبلاء ارتابوا بالخالق وحكمته.

٥٢ ـ (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ...) واضح ، وتقدم بالحرف الواحد في سورة النمل الآية ٨٠ ـ ٨١.

اللغة : كسفا جمع كسفة ، وهي القطعة من الشيء. والودق المطر. ومبلسين جمع مبلس ، وهو المتحسر الآيس.

___________________________________

الإعراب : مبشرات حال من الرياح. وليذيقكم عطف على معنى مبشرات أي ليبشركم وليذيقكم. وحقا خبر كان ، ونصر اسمها. وكيف مفعول مطلق وتقديره أيّ مشيئة يشاء ، ومثله كيف يحيي الأرض. وان كانوا (ان) مخففة واسمها محذوف أي انهم كانوا. واللام في مبلسين اللام الفارقة ومبلسين خبر كانوا وجملة كانوا مع خبرها خبر ان. واللام في لئن لام التوطئة للقسم. واللام في لظلوا واقعة في جواب القسم ، وظلوا فعل سد مسد جواب القسم والشرط معا.

٥٣٧

٥٣ ـ (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ) عن الحق وردعهم عن الضلال (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي من يريد الإيمان بالحق لوجه الله والحق ، أما الانتهازيون فدينهم في بطونهم وجيوبهم لا في رؤوسهم وقلوبهم.

٥٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) وهو ضعف الإدراك والجسم في الأطفال (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) وهي قوة الشباب وزهرة الحياة (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) وهو ضعف الهرم والشيخوخة ، والغرض من هذه الإشارة أن الإنسان يمر بالعديد من الأطوار والأدوار ، وكلها تذهب بسرعة مع الريح ، والعاقل ينتهز فرص الخير والعمل الصالح ليوم الخوف الأكبر وحسابه وجزائه.

٥٥ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) القيامة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) في الدنيا أو في القبور (غَيْرَ ساعَةٍ) تقدم في الآية ١١٣ من «المؤمنون».

٥٦ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) يرد آنذاك العلماء المؤمنون على المجرمين بأنكم لبثتم على وجه الأرض وفي بطنها منذ ولدتم إلى هذا اليوم الذي بعثتم فيه.

٥٧ ـ (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) لا عذر يدفع ، ولا حميم ينفع أبدا لا شيء إلا العمل الصالح (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) المراد بالاستعتاب هنا الإقالة ، أي أن المجرمين يستقيلون ربهم فلا يقيلهم.

٥٨ ـ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ ...) تقدم في الآية ٥٤ من الكهف (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ) يا محمد (بِآيَةٍ) معجزة (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) ولما ذا الأنبياء والمصلحون مبطلون؟ لأنهم يقطعون سبيل البغي على الطغاة والسيطرة على الضعاف المعذبين.

٥٩ ـ (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)

___________________________________

الإعراب : الله الذي خلقكم مبتدأ وخبر. وما لبثوا جواب القسم. ولئن اللام للتوطئة. وليقولن اللام في جواب القسم ، ويقولن يسد مسد جواب الشرط والقسم.

٥٣٨

بأن جميع الناس على مستوى واحد في الحقوق والواجبات ، وأنه لا استعلاء وسيطرة على الإطلاق ، بل ولا فضل وامتياز لأحد إلا بما يقدم من عمل صالح ومفيد لأخيه الإنسان.

٦٠ ـ (فَاصْبِرْ) يا محمد (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ما هي إلا أيام حتى تنتشر رسالة الإسلام في شرق الأرض وغربها ويقترن اسمك باسم الله تعالى وبالصلوات والتحيات. جاء في تفسير ابن كثير : أن الإمام عليّ (ع) كان يصلي صلاة الفجر ، فناداه خارجي (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) فأجابه الإمام وهو في الصلاة (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي أعرض ولا تكترث بسفاهة البهائم والأراذل. والحمد لله الذي هدانا بنبيه الكريم ، وأتم نعمته علينا بالولاء له ولأهل بيته الطاهرين ، صلوات الله عليهم أجمعين.

سورة لقمان

مكيّة وهي اربع وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الم) تقدم في أول البقرة.

٢ ـ (تِلْكَ) إشارة إلى هذه السورة التي جاءت فيها (آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) العليم المنزه عن الجهل والعبث.

٣ ـ ٤ ـ (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) وهم الذين يكبحون أنفسهم عن الأهواء والأسواء ، ويؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويؤدون فرائض الله بالكامل.

٥ ـ (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لأنهم ما دخلوا في باطل ، ولا خرجوا من الحق في قول أو فعل.

٦ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً) قال أكثر المفسرين : المراد بلهو الحديث هنا الغناء! ويلاحظ بأن كلمة «(لِيُضِلَ) ... و (هُزُواً)» يدلان على أن المراد بلهو الحديث هنا الطعن بالحق والخير والاستهزاء بهما بهدف التزييف والتضليل وإغراء الناس بالشر والباطل ، ويؤيد ذلك قوله تعالى بلا فاصل :

___________________________________

الإعراب : تلك آيات الكتاب مبتدأ وخبر. وهدى ورحمة حال من الآيات والعالم معنى الاشارة في تلك. ومن الناس خبر مقدم ، ومن يشتري مبتدأ مؤخر.

٥٣٩

٧ ـ ٩ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أدبر واستكبر ، وتصامم وما به من صمم ، ولكن الحق صاعقة على رأسه وقلبه.

١٠ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) مرئية ولا غير مرئية (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) لئلا تهتز وتضطرب ، وتقدم في الآية ٢ وما بعدها من الرعد.

١١ ـ (هذا خَلْقُ اللهِ) هذا هو الكون ، فهل من أحد يقول : لا عين ولا أثر لهذا الكون؟ أللهم إلا من أنكر وجود نفسه وقال : ان الشيء ليس هو عين ذاته بل شيئا آخر ، ومن يعترف بوجود الكون يلزمه حتما وجزما أن يعترف بوجود المكّون وإلا كان شأنه تماما كشأن من يعترف بوجود الكهرباء ، وينكر وجود أديسون ، بل كشأن من ينكر وجود الكهرباء مع الاعتراف بها! وهذي هي البلاهة والحماقة (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لا يفرقون بين ما يعترفون به وما ينكرون.

١٢ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) والمراد بها هنا معرفة أفضل الأشياء ، وكان لقمان ذا عقل ناضج وراسخ يفيض بالحكم البالغة النافعة ، فيلقيها في أسماع الناس بكلمات جذابة قصار ، ومعاني قوية كبار ، ولذا تداولتها الأمم والشعوب على مدى الأجيال.

١٣ ـ (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) هذا هو الأصل الأصيل لكل مذهب ودين سليم ، لأن الإيمان بالله إلها واحدا متفردا بصفات الجلال والكمال يجعل الناس كلهم سواء في الحقوق والواجبات.

١٤ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى

اللغة : المراد بلهو الحديث هنا كل ما يصد عن الحق الذي عبّر عنه سبحانه في نفس الآية بسبيل الله. الوقر الصمم. والرواسي الجبال. وبث فرق. وزوج كريم صنف حسن.

___________________________________

الإعراب : ويتخذها عطف على ليضل. وبغير علم متعلق بمحذوف حالا من فاعل يضل أي جاهلا. ومستكبرا حال. وكأن ، أصله كأنه. وخالدين حال من الضمير في لهم. وعد الله منصوب على المصدرية أي وعد الله وعدا حقا ، وحقا صفة للوعد المحذوف. وما ذا بمنزلة الكلمة الواحدة ومحلها النصب بخلق والتقدير أيّ شيء خلق.

٥٤٠