التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

٢٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً ...) هذه من آداب القرآن وأخلاقه ، وهي أن لا يدخل أحد بيت غيره حتى ولو كان رحما قريبا إلا أن يستأذن من أهل البيت ، وبعد الإذن يدخل ويسلم ، والاستئذان واجب ، والسلام ندب (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) نعلّمكم هذه الآداب لتعملوا بها.

٢٨ ـ (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) بإذن سابق ، كما لو أقام صاحب البيت وكيلا عليه في غيابه (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) دون أن تحملوا في نفوسكم أية حزازة على صاحب البيت.

٢٩ ـ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) بأسرة خاصة ، بل معدة للجميع كالفندق والمضيف بفتح الميم (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) فمن كان متاعه في فندق أو مضيف ، فله الدخول إليه وأخذ المتاع بلا استئذان خاص.

٣٠ ـ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) عن الأجنبيات إلا الوجه والكفين ، ولا بأس بالنظر إلى شعور غير المسلمات ما دام دينهن لا يحرم السفور ، ولا إلى شعور المسلمات من أهل البوادي ، لأنهن لا ينتهين إذا نهين ، شريطة أن يكون النظر من غير ريبة (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) عن الحرام (ذلِكَ) الغض عن المحرمات (أَزْكى) للنفس وأبعد عن الذنب وأقرب للتقوى.

٣١ ـ (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) وفي هذه المساواة بين الرجال والنساء من غير تفاوت ـ دلالة واضحة على أنه يحرّم على المرأة أن تنظر من الرجل ما يحرم عليه أن ينظر منها ، ويحل لها أن تنظر منه ما يحل له أن ينظر منها أي الوجه والكفين فقط دون سواهما (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) المراد بالزينة هنا موضعها ، والمراد من موضع الزينة الوجه والكفان ، وعليه يكون المعنى أن جميع بدن المرأة عورة يحرم النظر إليه إلا الوجه والكفين. (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) يضربن : يلقين ، والخمار : غطاء الرأس ، والجيب : فتحة القميص ، والمراد به هنا الصدر ، وهذا أمر من الله تعالى للمؤمنات أن يسترن الشعور بدلالة «خمرهن» والصدور والنحور بدلالة «جيوبهن» وكل اجتهاد يخالف هذه الدلالة الواضحة فهو أشبه بمضغ الهواء ، لأنه في قبال النص وضده لا في تفسيره وقصده على أصول اللغة وقواعدها (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) لكل من الزوجين أن يرى للآخر ما يشاء (أَوْ آبائِهِنَ) ومنهم الأجداد للأب والأم (أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَ) وإن علوا

___________________________________

الإعراب : (تَسْتَأْنِسُوا) منصوب بان مضمرة بعد حتى ، ومثله (حَتَّى يُؤْذَنَ). و (تَذَكَّرُونَ) أصله تتذكرون. والمصدر من (أَنْ تَدْخُلُوا) مجرور بفي محذوفة. (يَغُضُّوا) مضارع مجزوم بلام الأمر المحذوفة أي ليغضوا. والا ما ظهر أي ولا يبدين زينتهن لأحد إلا لبعولتهن.

٤٦١

(أَوْ أَبْنائِهِنَ) وابن الابن ابن ومثله ابن البنت (أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ) وإن نزلوا (أَوْ إِخْوانِهِنَ) من الأم والأب أو من أحدهما (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) وإن نزلوا (أَوْ نِسائِهِنَ) يحرم على المسلمة أن تكشف عن سوأتها أمام مثلها حتى ولو كانت أمها أو بنتها ، ويحل لها أن تتجرد أمام مسلمة ما عدا السوأة ، ولا يحل ذلك أمام غير المسلمة.

(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) وهم الذين يخالطون الاسرة ، ويتبعونها في أكثر الأحيان ، ولا يشتهون النساء والجنس لهرم أو عنن وما يشبه (أَوِ الطِّفْلِ) أي جنس الطفل (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي لا يعرفون بأن هذا العضو لذلك الآخر الحساس (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) كانت المرأة في الجاهلية تلبس الخلخال ، وكانت بعض النسوة تضرب الأرض برجلها إذا رأت رجلا كي يسمع طنينه ، فنهى سبحانه عن ذلك (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) اتركوا المحرمات ، ومن سبقت منه خطيئة فليتداركها بالتوبة ، فإن الصلاح والفلاح في طاعة الله ومرضاته.

٣٢ ـ (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) هذا أمر ـ على الاستحباب ـ بتزويج من لا زوجة له من المسلمين ، الأيامى جمع أيم وهو من لا زوج له من النساء والرجال سواء أكان متزوجا من قبل أم غير متزوج كما في مجمع البحرين للشيخ الطريحي (وَالصَّالِحِينَ) أي المؤمنين (مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) وأيضا يستحب أن تزوجوا ما تملكون من العبيد والإماء ، لا موضوع اليوم لهذا الحكم.

(إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) إذا جاءكم من ترتضون دينه وخلقه فزوجوه ، ولا تردوه لفقره ، فإن الله سبحانه يغني الفقراء ، ويفقر الأغنياء.

٣٣ ـ (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) المقصود بالآية السابقة أولياء المرأة ، وأنه لا ينبغي أن يردوا الخاطب الفقير ، أما المقصود بهذه الآية فهو الفقير بالذات ، وأن الناس إذا ردوه ولم يزوجوه ، فعليه أن يصبر عن الحرام ، ويسعى متكلا على الله حتى يتهيأ له أسباب الزواج (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ) الكتاب هنا مصدر بمعنى الكتابة ، وخلاصة الآية أن من كان عنده عبد مملوك فله أن يتفق معه على أن يؤدي مبلغا من المال قسطا واحدا أو أقساطا ثمنا لحريته. ولا موضوع اليوم لذلك (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) والمراد بالخير هنا القدرة على الاستقلال والعيش بكد اليمين وعرق الجبين لا على التسول واللصوصية (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ) يستحب لمالك العبد أن يحط عن المملوك شيئا من المال المتفق عليه ، ويعينه على التحرر من العبودية.

(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ

___________________________________

الإعراب : (تَسْتَأْنِسُوا) منصوب بأن مضمرة بعد حتى ، ومثله (حَتَّى يُؤْذَنَ). و (تَذَكَّرُونَ) أصله تتذكرون. والمصدر من (أَنْ تَدْخُلُوا) مجرور بفي محذوفة. (يَغُضُّوا) مضارع مجزوم بلام الأمر المحذوفة أي ليغضوا. والا ما ظهر بدل من (زِينَتَهُنَ).

٤٦٢

الْحَياةِ الدُّنْيا) المراد بالفتيات هنا الإماء. والبغاء : الزنا ، وكان أهل الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا التماسا للمال ، فنهى سبحانه عن ذلك ، وتجدر الإشارة بأن كلمة (إن) هنا لا يراد منها الشرط والقيد ، بل مجرد البيان بأن الفتاة إذا أرادت العفة والصون فبالأولى أن تريدوا ذلك أنتم (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَ) فهو وحده المعاقب ، أمّا المكرهات (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لهن لا لمن دفع بهن إلى البغاء.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) في القرآن الكريم (آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أحكاما واضحة (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من أخبار الماضين وقصصهم ، عسى أن تعتبروا وتنتفعوا.

٣٥ ـ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) المراد بنوره تعالى قدرته وعلمه وحكمته ، وتتجلى بالكامل في خلق الكون وتدبيره ونظامه (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) وهي خرق في الحائط غير نافذ ، ويسمى كوة (فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) يشبه الدر في صفائه (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) هذا مثال لوضوح الأدلة وظهورها على وجود الله ، ويتلخص مثال الوضوح والظهور بسراج وضع في كوة بجدار البيت ، تحصر نوره وتجمعه ، ولا ينفذ إليه الهواء ، وهذا السراج داخل قنديل من الزجاج الصافي ، أما الزيت الذي فيه فهو من زيتونة لا هي شرقية تصيبها الشمس عند الشروق فقط ولا هي غربية تصلها عند الغروب فقط ، بل هي شرقية غربية لأنها تواجه الشمس صباحا ومساء لا يظلها شجر ولا جبل ونحو ذلك ، ومنها جاء زيتها نقيا صافيا يكاد يضيء من غير إحراق ، فإذا مسته النار أشرق نوره وتألق (نُورٌ عَلى نُورٍ) نور المصباح ونور الزجاج ونور الزيت (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) ولا يشاء الهدى والخير إلا لمن أحبه وأراده بصدق وإخلاص (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) ٢٣ الأنفال».

٣٦ ـ ٣٧ ـ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) المراد بالبيوت هنا المساجد ، ورفعها : بناؤها ، أما اسمه وذكره تعالى فهو كناية عن العبادة (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ...) مؤمنون صالحون ، يتاجرون ويزرعون ويقومون بشتى أنواع الحرف والصناعات حتى إذا جاء وقت الصلاة وغيرها من العبادات والواجبات ، تركوا كل عمل وبادروا إليها ، فإذا انتهوا منها انصرفوا إلى شئونهم الدنيوية ، وهي لا تقل أجرا وثوابا عن الصوم والصلاة حيث لا فاصل في دين الإسلام بين عبادة الله والنضال في سبيل الأهل والعيال.

___________________________________

الإعراب : (مِنْكُمْ) متعلق بمحذوف حالا من الأيامى ، ومن للبيان ، ومثلها من عبادكم. و (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ) الفعل منصوب بأن بعد حتى. والمصدر المجرور بلام (لِتَبْتَغُوا) متعلق بتكرهوا.

٤٦٣

٣٨ ـ (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) يثيبهم على صالح أعمالهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم الا أذى الناس ، فلا كفارة له ، ولا صفح عنه ، ولا شفاعة فيه عند الله (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أضعافا مضاعفة (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) تقدم مرات ، منها في الآية ٢١٢ من البقرة.

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) سراب : شعاع من ضوء الشمس (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) وبقيعة كلمتان : باء الجر ، وقيعة جمع ، واحده قاع بمعنى الأرض المستوية الخالية (حَتَّى إِذا جاءَهُ) الهاء للسراب (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) لما ذكر سبحانه حال المؤمنين ، وأن أعمالهم من أجل الحياة الدنيا لا تلهيهم عن العبادة والقيام بحق الله سبحانه ، أشار إلى أعمال الكافرين وأنها تماما كالسراب الخادع لا تجديهم شيئا حين يقفون غدا بين يدي الله لنقاش الحساب ، بل يجدون عنده تعالى المقت والعذاب الأليم على أسوائهم وآلامهم.

٤٠ ـ (أَوْ كَظُلُماتٍ) هذا مثال ثان لأعمال الكافرين وأنها كظلمات (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) عظيم في مائه وعمقه وأمواجه (يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) يغطي البحر موج ، ومن فوق الموج موج (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ) وفوق الأمواج المتراكمة سحاب ثقيل كثيف (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) الأمواج والظلمات ركب بعضها بعضا حتى بلغت الظلمة الغاية والنهاية بحيث (إِذا أَخْرَجَ) الإنسان (يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) وهذا أبلغ تشبيه لأهل الأغراض الذين غرقوا في بحر من الكذب والحقد والنميمة والحسد والغيبة والغرور والكبرياء ... إلى ما لا نهاية من القبائح والرذائل ، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) لا تقوم الحجة لله على واحد من خلقه إلا إذا أعطاه النور والعقل ، وهداه إلى طريق الخير والشر ، وعليه يكون معنى الآية من لم يطع الله سبحانه فيما أرشده إليه ، وأمره به ، فإنه يعيش مدى حياته في حيرة الجهل والضلالة.

٤١ ـ ٤٢ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ...) ألم تر : ألم تعلم ، وتقدم في الآية ٤٤ من الإسراء (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) وفي هذه دلالة واضحة على أن للطيور والحشرات وغيرها من الحيوانات ، حظا من الإدراك ، وكذلك في الآية ١٨ من النمل : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) وقال الهدهد لسليمان : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) ـ ٢٢ النمل» وفي الآية في ٣٨ من الأنعام (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ).

___________________________________

الإعراب : والمصدر من ان ترفع منصوب بنزع الخافض أي بأن ترفع. و (فِي بُيُوتٍ) متعلق بيسبح ، وفيها بدل من في بيوت مثل : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) ـ ١٠٨ هود. ورجال فاعل يسبح.

٤٦٤

٤٣ ـ ٤٤ ـ (أَلَمْ تَرَ) أيها الإنسان العاقل (أَنَّ اللهَ يُزْجِي) يسوق بالأسباب الكونية التي أودعها في الطبيعة (سَحاباً) متفرقا (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يجمعه (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) متكاثفا بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) من بينه (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ) كناية عن السحاب (فِيها مِنْ بَرَدٍ) ماء متجمد في قطع ثلجية (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) ينزل سبحانه المطر والبرد في أرض دون أرض تبعا لسنن الكون مباشرة ولمشيئته بواسطة هذه السنن ، لأنه هو الذي خلق الكون بكل ما فيه من سنن وعناصر وموجبات (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) السنا بالقصر الضوء ، وبالمد المجد ، والضمير في برقه للسحاب (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) يخطفها إذا تابعته ولم تحد عنه.

٤٥ ـ (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) وحقيقة الماء واحدة مع أن الدابة التي خلقت منه متنوعة (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحية وما شاكلها من الزواحف (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالأنعام وسائر الحيوانات (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) إن شاء كان ، وإن لم يشأ لم يكن.

٤٦ ـ (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) من النملة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة ، إلى كل حي وجامد ، فتبارك الله رب العالمين.

٤٧ ـ (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا.) يشير سبحانه بهذا إلى المنافقين الذين لاقى منهم النبي أشد مما لاقاه من اليهود والمشركين (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أعرض فريق من المنافقين عن العمل بموجب الإيمان بعد إعلانه والفريق الآخر أقرّ هذا الإعراض ورضي به (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى كل من أضمر غير ما أظهر ، لأن الإيمان لا ينفصل عن العمل.

٤٨ ـ (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا

(اللغة :) يزجي يسوق سوقا رفيقا. ركاما متراكما بعضه فوق بعض. ويؤلف يجمع. والودق المطر والقطر.

___________________________________

الإعراب : (مِنْ جِبالٍ) بدل اشتمال (مِنَ السَّماءِ) مع اعادة حرف الجر. وقال الطبرسي : فيها متعلق بمحذوف صفة لجبال ، ومثلها (مِنْ بَرَدٍ) أي صفة بعد صفة. (مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) ، و (مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) من استعملت هنا فيمن لا يعقل.

٤٦٥

فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) وأوضح تفسير لهذه الآية ما قيل في سبب نزولها : أن منافقا ويهوديا تخاصما على شيء فدعاه اليهودي إلى المحاكمة عند محمد (ص) ودعاه المنافق إلى كعب الأحبار اليهودي.

٤٩ ـ (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) كل محق يطلب المحاكمة عند محمد (ص) حتى ولو كان جاحدا بالله ورسوله ، وكل مبطل معاند للحق يطلب المحاكمة إلى الجبت والطاغوت حتى ولو نطق بالشهادتين وهذا أسوأ حالا عند الله من الجاحد الكافر ، ما في ذلك ريب.

٥٠ ـ ٥١ ـ (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) بغض وكراهية لرسول الله (ص) (أَمِ ارْتابُوا) وشكوا في نبوته وعصمته (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) كلا ، إن الله ورسوله مبرءان من الحيف والجور حتى على كل من كفر بهما (بَلْ أُولئِكَ) الذين رفضوا حكم الله والرسول (هُمُ الظَّالِمُونَ) للناس ولأنفسهم المعاندون للحق وأهله.

٥٢ ـ (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ...) المؤمن لا يستنكف وينكص عن دعوة الحق حتى ولو ضحى بنفسه من أجلها ، وبهذه الصلابة وقوة الإرادة المؤمنة يفوز بالخير والدرجات عند الله تعالى.

٥٣ ـ ٥٤ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ) حلف المنافقون الأيمان المغلظة لئن أمرهم النبي بالغزو والحرب ليسمعن له طائعين ، فزجرهم سبحانه عن الأيمان الكاذبة بقوله : (قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) لا تحلفوا ، إن طاعتكم هذه طاعة كذب ونفاق (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) قولا وعملا ، وظاهرا وباطنا ، لا كذبا ورياء (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) على الرسول البلاغ ، وعليكم السمع والطاعة ، ومن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فعليها.

٥٥ ـ ٥٦ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا

___________________________________

الإعراب : (إِذا فَرِيقٌ) إذا فجائية وقعت في جواب الشرط لأنه جملة اسمية. و (مُذْعِنِينَ) حال من واو يأتوا. والمصدر من أن يحيف مفعول يخافون. و (قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) خبر كان ، والمصدر من أن يقولوا سمعنا اسمها ، أي انما كان قول السمع والطاعة قول المؤمنين. ويتقه الأصل يتقيه فحذفت الياء للجزم لأن الفعل المعطوف عليه مجزوم. وجهد مفعول مطلق لأقسموا لأنه مضاف الى الأيمان ، وهي بمعنى القسم. وطاعة خبر لمبتدأ محذوف أي أمرنا طاعة أو مبتدأ والخبر محذوف أي طاعة معروفة أمثل ، ومعروفة صفة طاعة.

٤٦٦

الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) هذا وعد وعهد منه تعالى لنبيه محمد (ص) والذين آمنوا معه ، أن يبدلهم من بعد الخوف أمنا ، ومن بعد الذل عزا ، وقد فعل سبحانه إنجازا لوعده وانتصارا لجنده ، وحين تخلى المسلمون عن طاعة الله بالشتات والخلافات تخلى الله عنهم وجاء في نهج البلاغة : أعطوا الله طاعتكم ... والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبدا. وإلى هذا أشار سبحانه بقوله : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) من خرج عن طاعة الله بعد أن منحه العز والسلطان (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون من كل خير ، المبعدون عن الصلاح والفلاح.

٥٧ ـ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أبدا لا يعجزه من طلب ، ولا يفوته من هرب.

٥٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) قبل الدخول عليكم (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي العبيد ، ولا وجود لهم اليوم ، ولكن الحكم يشمل الخدم من الذكور والإناث (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) الاحتلام (مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) يقول سبحانه : مروا الخدم والصغار ـ وبالأولى الكبار ـ أن يستأذنوا قبل الدخول عليكم في ثلاثة أوقات ، لأنها مظنة انكشاف العورة ، وهذه الأوقات هي (١) (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) حيث يكون الإنسان آنذاك نائما أو في ثياب النوم (٢) (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) وقت القيلولة والاستراحة (٣) (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) حيث يتجه الإنسان إلى فراشه أو إلى شأنه الخاص (ثَلاثُ عَوْراتٍ) جمع عورة ، وهي كل ما يستره الإنسان من أعضائه حياء من الناس (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) لا بأس على الخدم والصبيان ولا على ذويهم في الدخول من غير استئذان في بقية الأوقات (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) تترددون عليهم ، ويترددون عليكم ، فيغتفر لهم ما لا يغتفر لغيرهم. وفي هذا إيماء إلى أن المخالطة الجائزة شرعا عذر يسقط معه بعض الأحكام تماما كالضرورات التي تبيح المحظورات.

___________________________________

الإعراب : اللام في (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) وما بعده جواب لقسم محذوف. و (كَمَا اسْتَخْلَفَ) الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق أي استخلافا مثل استخلاف الخ. وجملة (يَعْبُدُونَنِي) حال من ضمير ليبدلنهم. و (شَيْئاً) مفعول مطلق. (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) مفعول فيه ليستأذنكم لأن المراد بالمرات هنا الأوقات. و (ثَلاثُ عَوْراتٍ) برفع ثلاث خبر لمبتدأ محذوف أي هي ثلاث عورات ، وبالنصب بدل من ثلاث مرات. و (طَوَّافُونَ) خبر لمبتدأ محذوف أي هم طوافون ... وبعضكم على بعض (بَعْضُكُمْ) فاعل لفعل محذوف دل عليه طوافون أي يطوف بعضكم على بعض أو خبر لمبتدأ محذوف أي بعضكم يطوف على بعض.

٤٦٧

٥٩ ـ (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) في جميع الأوقات دون استثناء لوقت من الأوقات الثلاثة وغيرها (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم الرجال الكبار من الأباعد والأقارب كما سبق في الآية ٢٧ من هذه السورة.

٦٠ ـ (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) الواو في يرجون حرف علة ، النون للنسوة ، والمراد بالقواعد العجائز اللاتي لا طمع لأحد بهن (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) لا بأس على العجوز أن تخلع العباءة وما أشبه مما يغطي اللباس ، شريطة أن لا تقصد بذلك إظهار زينتها للرجال لينظروا إليها (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) الأولى أن لا تخلع العجوز الرداء الذي يلبس فوق الثياب.

٦١ ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) قيل في بعض التفاسير : إن أهل هذه الأعذار كانوا يتجنبون الاكل مع الناس الأصحاء لئلا يتقذروهم ، فنزلت الاية مبيحة لهم الأكل مع الناس. (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) المراد بالأنفس الأزواج والأولاد لأن الولد امتداد للوالد ، وكل من الزوجين شريك للآخر في الحياة ، ولا بد من هذا التأويل ، لأن ظاهر الآية يدل على أن للإنسان أن يأكل من بيته دون أن يستأذن من نفسه ، وهذا كلام غير مستقيم (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي من بيوت أزواجكم وأولادكم كما أشرنا (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) ... (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) يسوغ للوكلاء والأجراء الذين يمسكون مفاتح البيوت والمخازن أن يأكلوا منها بالمعروف (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) كان بعض العرب يرى أن الأكل وحده مخزاة عليه ، فأباح سبحانه ذلك (فَإِذا

اللغة : ملكت إيمانكم العبيد والإماء. والحلم البلوغ. وكل شيء بستره الإنسان من أعضائه حياء فهو عورة. والجناح الإثم والقواعد من النساء العجائز. وتبرج المرأة اظهار محاسنها.

___________________________________

الإعراب : (وَالْقَواعِدُ) مبتدأ ، واللائي صفه ، وجملة فليس عليهن ، جناح خبر. والمصدر من (أَنْ يَضَعْنَ) مجرور بفي محذوفة. والمصدر من (أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) مبتدأ ، وخير خبر ، أي الاستعفاف (خَيْرٌ لَهُنَ). (جَمِيعاً) حال من واو تأكلوا. و (تَحِيَّةً) مفعول مطلق لسلّموا.

٤٦٨

دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) على أنفسكم معناه يسلم بعضكم على بعض ، مثل (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ـ ٢٩ النساء» ولا بأس في سلام الإنسان على نفسه فنحن نقول في آخر الصلاة : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

٦٢ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) وهو ، الذي يستدعي أن يتعاون عليه الجميع (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) كان المنافقون يتهربون ويتسللون من مجلس الرسول دون الاستئذان كلما دعا المسلمين لأمر مهم ، فنهى سبحانه عن ذلك ، وأوجب الاستئذان من النبي قبل الانصراف (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) يا محمد (أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) حقا وواقعا ، أما الذين لا يستأذنون أو يتعللون بالأعذار الكاذبة فهم أبعد الناس عن الإيمان والإسلام ، ولا ينطقون بكلمته إلا كذبا ونفاقا (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) فوض سبحانه تقدير العذر الموجب للإذن إلى نبيه الكريم ، فإن رآه مبررا أذن لصاحبه ، ودعا له بالمغفرة وإلا رده وأعرض عنه.

٦٣ ـ (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) لا تدعوا النبي باسمه وكنيته ، بل بأعظم صفاته وأجلّها مثل يا نبي الله ويا رسول الله (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) تسلل وانسل : انطلق في استخفاء ، ولاذ به : التجأ إليه أو استتر به ، وهذا هو المراد هنا ، والمعنى أن الله سبحانه يعلم كيف يتسلل المنافقون من مجلس الرسول حين يذكر الجهاد ونحوه متسترا بعضهم ببعض (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) هذا تهديد ووعيد للطغاة والعصاة أن تصيبهم في الدنيا فتنة كالحرب الأهلية تطحنهم وتبيدهم ، أو يؤجل عذابهم ليوم عظيم.

٦٤ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ ...) الله هو الغني لأنه مالك الملك ، والعليم بكل باطن وخفي ، ومنتقم يقصم ظهور الطغاة ، وينكل بالعصاة ، وتقدم تكرارا ، ومن ذلك الآية ٤٢ من هذه السورة. ونسأله تعالى التمام بالنبي وآله خير الأنام عليهم أفضل الصلوات والسلام.

___________________________________

الإعراب : (الْمُؤْمِنُونَ) مبتدأ ، و (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) خبر. (كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) دعاء مصدر مضاف الى فاعله وبعضا مفعول ، والمعنى لا تدعوا الرسول كما يدعو بعضكم بعضا. ولو إذا مصدر في موضع الحال أي ملاوذين. والمصدر من أن تصيبهم مجرور بمن محذوفة ويتعلق بيحذر ويوم معطوف على ما أنتم أي يعلم ما أنتم عليه ويعلم يوم يرجعون.

٤٦٩

سورة الفرقان

مكيّة وهي سبع وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (تَبارَكَ) فعل ماض ، ولا ينطق بصيغة المضارع ، ويختص بالله وحده ، ومعناه تنزه وتعالى وتقدس في ذاته وصفاته (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) القرآن الذي يفرق بين الحق والباطل (عَلى عَبْدِهِ) محمد (ص) والإضافة هنا للتشريف والإختصاص (لِيَكُونَ) محمد والقرآن (لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) من يومه إلى يوم يبعثون.

٢ ـ (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مالك كل شيء وإله كل شيء (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) منزه عن الصاحبة والولد والشريك (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ومعنى التقدير : التنظيم والتخطيط لهدف معين ـ مثلا ـ لا بد للبناء من أرض ومواد ، والمهندس يقدر مساحة الأرض طولا وعرضا والمواد كما وكيفا ، والله سبحانه «قدّر ما خلق فأحكم تقديره ، ودبّره فألطف تدبيره ، ووجهه لوجهته فلم يتعد حدود منزلته ، ولم يقصر دون الانتهاء إلى غايته» كما في الخطبة ٨٩ من خطب النهج.

٣ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ...) أعرضوا عمن خلق وقدر وأحيا وأمات ونشر ، وعبدوا أصناما صماء عميانا وتقدم مرات.

٤ ـ ٥ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا) القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) كذب (افْتَراهُ) محمد (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) ضاقت قوى الشر بمحمد والقرآن ، ولم تجد سلاحا إلا التزوير والتشهير بالباطل وأن محمدا جمع القرآن وألّفه من أساطير الأوائل وأقوال اليهود والكهان (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) ولا شيء أدل على هذا الافتراء من أن القرآن الكريم خلق من العرب أمة غيرت وجه الأرض في أقل من نصف قرن ، إضافة إلى التحدي بأن يأتوا بسورة من مثله.

اللغة : تبارك عظمت بركته. والفرقان ما يفرق بين الحق والباطل ، والمراد به هنا القرآن ، والإفك الكذب. وأساطير خرافات سطرها الأولون. واكتتبها كتبها. وبكرة صباحا ، وأصيلا مساء.

___________________________________

الإعراب : اسم (لِيَكُونَ) ضمير مستتر يعود الى عبده لأنه أقرب من الفرقان ، والمصدر من ليكون مجرور باللام ويتعلق بنزل. و (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ) بدل من الذي نزل. و (ظُلْماً) مفعول جاءوا لأنها بمعنى أتوا. و (أَساطِيرُ) خبر لمبتدأ محذوف أي هذه أسباط

٤٧٠

٦ ـ (قُلْ) يا محمد : (أَنْزَلَهُ) القرآن (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كيف يكون القرآن خرافة وأساطير ، وفيه آيات بينات تدعو للتحكيم إلى العقل ، وتحكي أسرار الحياة ، وتجدد مفهوم الخير والشر ، وتخبر عن أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية بما يتفق وينطبق مع الحق والواقع؟ وكفى بذلك دليلا قاطعا على أن القرآن من عند الله الذي خلق السموات والأرض ، وأحاط بكل شيء علما (إِنَّهُ كانَ) وما زال (غَفُوراً رَحِيماً) هذه دعوة كريمة من رحمة الله الواسعة إلى من كفر به وبكتبه ورسله ، أن يقلع عن غيه ، ويأتي إليه تعالى آمنا ومكرما أيضا ... ولا بدع ، فهذا شأن من لا يعبد إلا هو ، ولا حاجة له إلى شيء أصلا وإطلاقا.

٧ ـ (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) يريدون من رسول الله أن يتعالى على الخلق ، ويحتجب في برج من عاج تماما كالجبابرة الطغاة! وهل بعث الرسول إلا لتدميرهم ودك عروشهم؟ وكيف يقوم الراعي والمرشد بالرقابة على أعمال الرعية وهو في معزل عنهم؟ وتقدم في الآية ٩٤ وما بعدها من الإسراء (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) يشهد بصدقه ، وينذر من كذّبه بالعذاب.

٨ ـ (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) هذا هو منطق أرباب المال : بنك وعقار ، وجيب ومعدة! فكيف يؤمنون برسالة من يقول : الناس سواسية كأسنان المشط في جميع الحقوق والواجبات؟ (وَقالَ الظَّالِمُونَ) المعاندون للمؤمنين المنصفين : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) مغلوبا على أمره وعقله ، وتقدم في الآية ١٠١ من الإسراء.

٩ ـ (انْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي قالوا أقوالا كاذبة باطلة ، مثل انك ساحر أو مسحور ، ولو كنت نبيا لكنت غنيا! (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أبدا لا حجة لهم عليك ، بل الحجة لك عليهم ، لأنك على الحق من ربك ، وما ذا بعد الحق إلا الضلال.

١٠ ـ (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) قال الجبابرة الطغاة لمحمد (ص) : كيف تكون رسولا ، ولا تملك جنة أو كنزا؟ فرد عليهم سبحانه بأنه قادر على أن يمنح نبيه أعظم من ذلك (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) ولكن العظمة لا تقاس بالمال ، بل بالعلم وصالح الأعمال ، وفي الحديث : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء.

١١ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) يوم القيامة ، وفيه دلالة على أن المشركين كانوا على استعداد تام للإيمان بنبوة محمد (ص) لو لا دعوته إلى الإيمان باليوم الآخر.

١٢ ـ ١٣ ـ (إِذا رَأَتْهُمْ) جهنم (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ...) كناية عن سوء العذاب وشدته ، وتقدم في الآية ١٩ وما بعدها من الحج.

٤٧١

١٤ ـ (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً ...) الثبور : الهلاك ، والمعنى يقال لهم : لا تدعوا اليوم على أنفسكم بهلاك واحد بل بالعديد من الويلات والهلكات.

١٥ ـ ١٦ ـ (قُلْ أَذلِكَ) إشارة إلى عذاب الحريق (خَيْرٌ) لا تفضيل هنا بل توبيخ (أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ...) بنعيمها القائم ، وملكها الدائم (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) أي لا بد أن يقع ، وأن للمتقي كل الحق في أن يسأل الله سبحانه الوفاء بوعده ، ولكنه تعالى يعطي بلا امتنان من سأله ومن لم يسأله.

١٧ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) يجمع سبحانه غدا بين المشركين والذين اتخذوهم شركاء لله ، ثم يسأل الفريق المعبود : أأنتم دعوتم هؤلاء الضالين إلى عبادتكم؟

١٨ ـ (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) كيف ندعوهم إلى عبادتنا ، ونحن نعبدك ونخافك؟ (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) أنت يا إله العالمين أمهلتهم طويلا ، كما أمهلت آباءهم من قبل (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) وهو الذي أنزله سبحانه على لسان رسله (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) هلكى بما كسبت أيديهم ، وما لنا عليهم من سلطان.

١٩ ـ (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) يخاطب سبحانه المشركين ، ويقول لهم : هؤلاء الذين عبدتم من دون الله قد كذبوكم فيما زعمتم أنهم شركاء يقربونكم من الله زلفى (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً) أن تصرفوا عنكم العذاب (وَلا نَصْراً) ولا الإنتصار لأنفسكم.

٢٠ ـ (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) يا محمد (مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) إن الشرط الأساس في الرسول أن يكون أمينا على الرسالة ، وقادرا على الصبر في أدائها الكامل ، وأية علاقة لهذه المهمة بأكل الطعام والمشي في الأسواق؟ وتقدم في الآية ١٠٩ من يوسف وغيرها (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) الخطاب لجميع الناس ، والمراد بالفتنة الامتحان والاختبار ، فيختبر سبحانه الأغنياء بالفقراء : هل يؤدون إليهم عن طيب نفس الزكوات والأخماس الواجبة في أموالهم؟ ويبتلي الأقوياء بالضعفاء : هل يعاملونهم

___________________________________

الإعراب : وثبورا مفعول به. و (خالِدِينَ) حال من واو (يَشاؤُنَ). واسم كان على ربك ضمير مستتر يعود الى ما يشاءون أي كان الذي يشاءونه وعدا على ربك. (هؤُلاءِ) بدل من عبادي. و (سُبْحانَكَ) منصوب على المصدرية. و (مِنْ أَوْلِياءَ) من زائدة اعرابا وأولياء مفعول أول لنتخذ ، ومن دونك مفعول ثان مقدم ، والمصدر من أن نتخذ فاعل ينبغي. والجملة من (إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ) الخ حال من المرسلين أي إلا وهم يأكلون ، ولا وجه لجعل الجملة مستثنى كما قال صاحب مجمع البيان لأن جميع الرسل يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق دون استثناء.

٤٧٢

بالعدل أو الجور؟ ويمتحن الأنبياء المرسلين بتكذيب المرسل إليهم وصنوف الإيذاء والبلاء ، وهكذا يبتلي المؤمن الصالح بمرأة سوء أو ولد عاق أو جار مضار (أَتَصْبِرُونَ) ومن لم يصبر على بلائه تعالى فليخرج من أرضه وسمائه ، أو كما قال الإمام علي (ع) : فاصبر مغموما أو مت متأسفا.

٢١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) بعد الموت : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فنراهم عيانا ، فيخبرونا أن محمدا هو نبيه ونجيه ، وتقدم في الآية ٩٢ من الإسراء (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) وكلنا يحمل هذه الروح العاتية المتمادية إلا قليلا ، ولكن نجهل بجهلنا.

٢٢ ـ (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) طلب هؤلاء من محمد (ص) أن تنزل عليهم الملائكة ، فأجابهم سبحانه بالإيجاب ، وأن الملائكة نازلة عليهم لا محالة ، ولكن لا بما يشتهون ، بل بعذاب النار وغضب الجبار من الساعة الأولى للنزع إلى ما لا نهاية (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) يسوغ في التفسير وأصوله أن يكون هذا من أقوال ملائكة العذاب للمجرمين : يحرم اليوم عليكم كل شيء إلا العذاب الأليم ، وأن يكون من أقوال المجرمين لملائكة العذاب : يحرم عليكم تعذيبنا والتنكيل بنا.

٢٣ ـ (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) الهباء : الغبار ، والمنثور : المتفرق ، والمعنى أن الجاحد المعاند قد يفعل الخير كإغاثة ملهوف أو صلة رحم ، ولكن هذا لا ينجيه من عذاب أليم ، وإن انتفع به في شأن من شئونه ٢٤ ـ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) وهم المتقون في حصن حصين ومقر أمين.

٢٥ ـ (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) المراد باليوم القيامة ، وبالانشقاق الإنفطار ، وبالغمام الكواكب ، وانها تتحول إلى ذرات ، وتصبح كالسحاب والضباب ، واستوحينا هذا المعنى من قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) ـ ٢ التكوير ... (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) ـ ٢ الإنفطار».

٢٦ ـ (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) وحده لا دول عظمى تحتل مركز الصدارة ، وثانية صغرى تخضع للأوامر. وثالثة نامية تستجدي وتتسول ، ولا هيئة للأمم ومجلس للأمن ... أبدا لا شيء ولا شأن لأحد إلا لمن أتى الله بقلب سليم وعمل كريم ٢٧ ـ (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) كناية عن شدة الحسرة والندامة ، وهي نهاية كل من حاد عن طريق الحق والعدل ٢٨ ـ (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) المراد بفلان كل من أضلّ عباد الله عن الحق إلى الباطل ، وعن الخير إلى الشر.

٢٩ ـ (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) والذكر هنا يعم ويشمل كل ما فيه خير وصلاح ، أما المجيء فالمراد به التبليغ ، والمعنى أرشدني أهل العلم بدين الله إلى طريق النجاة ، فأعرضت واتبعت الغواة ، وتنطبق هذه الآية على من تابع وأيد الخونة المنافقين طمعا في الفتات وتلبية للشهوات.

٣٠ ـ (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ

٤٧٣

مَهْجُوراً) من الهجر والترك ، أي أعرضوا عن الاستماع له والنظرة إليه نظرة الفاحص الباحث عن الحقيقة فضلا عن الإيمان به.

٣١ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) هذا مجرد تعبير وحكاية عما هو واقع بالفعل ، لأنه تعالى ينهى عن عداوة الأنبياء والأتقياء ويأمر بطاعتهم وموالاتهم ، بل قرن ، طاعتهم وموالاتهم بطاعته وموالاته ، ومعنى الآية في واقعها أن كلّا من الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب والطهر والرجس ـ حرب على الآخر بحكم الطبيعة والبديهة.

٣٢ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) تكاثرت الطعون والردود من المجرمين على القرآن الكريم ، ومنها قولهم ، هذا : لما ذا لم ينزل دفعة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور؟ فأجابهم سبحانه بقوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) نزل القرآن مفرقا للعديد من الفوائد : منها أن حفظه كذلك وفهم معناه أيسر وأسهل على النبي والصحابة. ومنها أن نزول أحكامه تبعا للحوادث والوقائع أوضح بيانا وأبلغ أثرا. ومنها أن فيه ناسخا ومنسوخا ، ولا يتأتى ذلك لو نزل جملة.

٣٣ ـ (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) الخطاب لمحمد (ص) وضمير الجماعة في يأتونك لأعداء الله وأعدائه الذين يعترضون على القرآن ، والمعنى لا ينطقون بأية شبهة وضلالة حولك أو حول القرآن إلا وأوحينا إليك بجواب الحق الذي يفحمهم ويلجمهم.

٣٤ ـ (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ ...) سأل رجل رسول الله (ص) : كيف يحشر الكافر على وجهه؟ فقال : إن الذي أمشاه على رجلين قادر أن يمشيه على وجهه.

٣٥ ـ ٣٧ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) التوراة ، وقصته تقدمت وتكررت من البقرة إلى المائدة ومنها إلى الأعراف وطه (وَقَوْمَ نُوحٍ ...) تقدم في هود.

٣٨ ـ (وَعاداً) أنظر هود الآية ٥٠ ـ ٦٠ (وَثَمُودَ) أنظر هود الآية ٦١ ـ ٦٨ (وَأَصْحابَ الرَّسِ) اسم بئر وأصحابه قوم شعيب وقصته في هود الآية ٨٤ ـ ٩٥ (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) وأيضا أهلكنا من الأمم أضعاف من ذكرنا لأنهم كذبوا الأنبياء والمرسلين. وفي مجلة العربي الكويتية عدد ٢٣٢ مقال بعنوان سيرة النبيّ بقلم الدكتور عبد العزيز كامل ، جاء فيه : «المجددون الدينيون في فارس نعرفهم فقط عن طريق الشاهنامه ، ولقد ضاع أنبياء الهند في القصص والأساطير».

٣٩ ـ (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) ما أهلكنا قوما إلا بعد قيام الحجة عليهم بالأدلة والنصائح وضرب الأمثال بمن كان قبلهم ، ولكنهم عموا وصموا فحقت عليهم كلمة

٤٧٤

العذاب الذي أشار إليه سبحانه بقوله : (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أهلكنا إهلاكا.

٤٠ ـ (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) لقد مر عتاة قريش بقرى قوم لوط ، وشاهدوا ما فيها من آثار العذاب والهلاك ، وكان عليهم أن يعتبروا ويتعظوا (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) كيف يتعظون وهم لا يؤمنون ببعث وحساب وجزاء؟.

٤١ ـ (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) يا محمد (إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) يهزءون ويستخفون بسيد الكونين! ولما ذا؟ لأنه ساوى بين الأسود والأبيض ، وثار على الجهل والبغي ... وأين هؤلاء الساخرون الهازءون الآن من حياة الناس وفي سجلات التاريخ؟

٤٢ ـ (إِنْ كادَ) محمد (لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) التوحيد شر وضلال في منطقهم ، وعبادة الأصنام هدى وخير! وكل أو جلّ الذين آمنوا بمحمد (ص) كانوا من قبل على هذا الجهل بالجهل ، والتعصب الأعمى لما توارثوه عن الأجيال ، ومع ذلك أقنعهم محمد وجذبهم إليه بخلقه العظيم وأسلوبه الحكيم الرّحيم ، وهنا يكمن السر لعظمة محمد ، وأيضا من هنا قال حر خبير : لو تسلّم محمد زمام الحكم المطلق اليوم في العالم كله لحل مشكلاته بالكامل ، وحقق للعالم السلام والرخاء المنشود.

٤٣ ـ (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) كل من يتخلى عن الإيمان بالله وعدله يبحث عن بديل له فيما يحب ويهوى من جاه أو مال أو غير ذلك من ملذات وشهوات (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) حافظا له من الضلال والفساد.

٤٤ ـ (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) أنت يا محمد تحاول إقناعهم بالعقل والموعظة الحسنة ، وهم لا يفهمون إلا بمنطق القوة أو الرغبة والرهبة (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) لأن الأنعام تؤدي ما عليها. وتطلب ما ينفعها ، وتتقي ما يضر بها ، وتنقاد لصاحبها أمرا وزجرا ، وهؤلاء لا يؤدون ما عليهم ، ولا ينقادون لخالقهم ، ولا يتقون عذابه ويعملون لثوابه.

٤٥ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) الظل يمتد ويتقلص تبعا لحركة الأرض ودورانها حول الشمس ، وأسندها سبحانه إليه لأنه خالق الأرض والكون ، كما أشرنا أكثر من مرة (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي لجعل الأرض ساكنة. وبسكونها يسكن الظل ، لأن التابع لا ينفرد بالحكم ، بل يسري عليه ما يسري على المتبوع (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) لو لا الشمس لم يكن للأجسام ظل بحكم البديهة ٤٦ ـ (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) بسط سبحانه الظل رويدا رويدا ، وأزاله كذلك تبعا لحركة الأرض ونعود إلى التكرار بأن هذا وصف للسنن الكونية ، وربطها سبحانه بإرادته لا بأعيان الأشياء الطبيعية لأنه هو الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ، أنظر تفسير الآية ٢ من هذه السورة.

٤٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) ساترا كاللباس (وَالنَّوْمَ سُباتاً) سكونا وانقطاعا عن العمل (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) حركة وعملا.

٤٧٥

٤٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً ...) بنزول المطر ، وهو طاهر في نفسه ، مطهر لغيره على حد تعبير الفقهاء.

٤٩ ـ (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ...) واضح ، وتقدم في الآية ٥٧ من الأعراف.

٥٠ ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) القرآن وقيل المطر (بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أنعم سبحانه على عباده بكل نعمة من العقل الى إنزال الكتب وإرسال الرسل ، ومن إنزال الماء من السماء إلى ينابيع النفط تتفجر من الأرض ... إلى ما لا نهاية ، ومع ذلك كفروا بالله ونفروا من الحق! ولما ذا!؟ ونترك الجواب لغاندي حيث قال في كتاب هذا مذهبي : «طريق الحق ضيق مثلما هو مستقيم ، والسير عليه يستدعي الاحتفاظ بالتوازن تماما كالسير على حد السيف ... فأقل سهوة تردي بالإنسان إلى الحضيض ، ولا يستطيع الإنسان أن يدرك الحق إلا بالكفاح الذي لا ينقطع».

٥١ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) كان عدد الرسل قبل محمد (ص) مساويا لعدد الأمم كما جاء في الآية ٤٧ من يونس (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) ثم ختم سبحانه بمحمد جميع الرسل حيث أرسله بشريعة تسع الإنسانية بكاملها ، وبهذا التكريم والتعظيم من الله سبحانه كان لمحمد (ص) المنزلة العليا على جميع الخلق والأنبياء ، وقد ذكّر الله رسوله الأعظم بهذه النعمة حيث قال له : (لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) ولكنا لم نفعل ، وخصصناك بالبعثة إلى جميع أهل الأرض ، فاصبر في أداء الرسالة وكن من الشاكرين ٥٢ ـ (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) في السكوت عن دعوتهم إلى الحق وإلا قالوا : خاف محمد (ص) وجزع ، والذي يدل على إرادة ذلك قوله تعالى بلا فاصل (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) أي بالقرآن (جِهاداً كَبِيراً) بلا هوادة ٥٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) خلطهما وأسال أحدهما في الآخر (هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) جعل سبحانه الماء المالح في أرض منخفضة ، والماء العذب كالجداول والأنهار في أرض مرتفعة عن سطح البحر ، ولو انعكس الأمر لأفسد الملح العذب ، وأصبح الماء كله مرا ، ووقع الناس في العسر والحرج (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي فاصلا بين الماءين ، وهو ارتفاع أرض العذب ، وانخفاض أرض الملح.

٥٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) النسب : القرابة بالتوالد ، والصهر : القرابة بالمصاهرة ، والمعنى خلق الإنسان من نطفة فهو بذلك ولد نسيب ، ثم يتزوج فيصير صهرا ، ويصير له بعد الزواج أنسباء وأصهار.

٥٥ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أصناما لا تضر ولا تنفع (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي يعين حزب الشيطان والباطل على حزب الرّحمن والحق ، وكل من أعان الباطل فقد أعان على الله ونصب له العداء.

٥٦ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ) يا محمد (إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) واضح وتقدم بالحرف في الآية ١٠٥ من الإسراء.

٥٧ ـ (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) لا مطمع لي في شيء وراء دعوتي لكم إلى الحق والهدى (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ

٤٧٦

يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي إلا أن تسلكوا عن رضا وطيب نفس السبيل التي تنتهي بكم إلى النجاة والفلاح ، وتقدم في الآية ٩٠ من الأنعام.

٥٨ ـ (وَتَوَكَّلْ) يا محمد (عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) اقرن التوكل بالعبادة الخالصة لوجه الله (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) ولا يضرك من أكبر واستكبر ، فنحن له بالمرصاد.

٥٩ ـ (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) تقدم في الآية ٥٤ من الأعراف وغيرها (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استولى على الملك ، وتقدم مرات (فَسْئَلْ بِهِ) قال ابن هشام في المغني «الباء هنا بمعنى عن بدليل قوله تعالى : (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) ـ ٢٠ الأحزاب» وعليه يكون المعنى اسأل عن خلق السموات والأرض (خَبِيراً) وهو الذي خلق كل شيء.

٦٠ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) نحن لا نعرف عنه شيئا.

٦١ ـ (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) وهي منازل الشمس والقمر ، أنظر تفسير الآية ١٦ من الحجر (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) الشمس.

٦٢ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) يخلف أحدهما الآخر ، يأتي الليل ويذهب النهار ، ثم يأتي هذا ويذهب ذاك ، وهكذا دواليك (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) من طلب الدليل على وجود الله وجده في جميع الأشياء ، ومنها تعاقب الليل والنهار. وفي نهج البلاغة : أنظر إلى الشمس والقمر ... واختلاف الليل والنهار ... فالويل لمن أنكر المقدر ، وجحد المدبر ، زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجئوا إلى حجة ... وهل يكون بناء من غير بان أو جناية من غير جان؟.

٦٣ ـ (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) بلا استعلاء وخيلاء ، قال الإمام الصادق (ع) في تفسير هذه الآية : «هو الرجل يمشي على سجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتصنع». والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يتصور نفسه فوق حقيقتها وواقعها ، أما سائر المخلوقات الحية فلها حد لا تتعداه بحكم الطبيعة ، فالأشجار مهما ارتفعت لا تصل إلى السماء ، والحيوانات لا تعرف العجب والغرور ، ولا حب الجاه والشهرة ، ولا الحقد والحسد ، ولا شيء يحركها إلا الجوع ، فإذا شبعت سكنت ولم تطلب المزيد وسالمت حتى الوحوش المفترسة (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) إذا سمعوا من سفيه كلمة سوء تجاهلوه ولم يقابلوه. قال الإمام عليّ (ع) : إن لم تكن حليما فتحلم. وشتم سفيه حكيما فأعرض عنه ، وحين قيل له : لم لا تبالي؟ قال : لا أتوقع من الغراب تغريد البلابل.

٦٤ ـ (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) ينصرفون في ظلمة الليل إلى طاعة الله بالصلاة أو بالدعاء أو بتلاوة القرآن أو بالعلم والعمل به ونشره وتعليمه.

٦٥ ـ ٦٦ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) لازما لا مفر لنا منه إلا إلى عفو الله ورحمته ، وهذا كناية عن تخوفهم من عذابه تعالى على إخلاصهم له وجهادهم في سبيله.

٤٧٧

٦٧ ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) لا تقتير ولا تبذير في الإنفاق ، بل قوام واعتدال وأمر بين أمرين : إفراط وتفريط ، والاعتدال هو الذروة في دين الإسلام عقيدة وشريعة ، لا بالقيم الروحية وحدها ولا بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بهما معا ، وفي الحديث الشريف : «ليس خيركم من عمل لدنياه دون آخرته ولا من عمل لآخرته وترك دنياه ... اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».

٦٨ ـ ٧٠ ـ (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) لا يجعلون له ندا في العبادة والطاعة ، فكيف حال من يطيع المخلوق في معصية الخالق؟ (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) وقتلها بالحق أن تسعى في الأرض فسادا أو تزني عن إحصان أو ترتد عن فطرة أو تقتل نفسا بغير حق (وَلا يَزْنُونَ) لأن الزنا من أكبر الكبائر والمآثم ، ولذا ساوى سبحانه بينه وبين الشرك وقتل النفس المحرمة (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) من تاب من الذنب كمن لا ذنب له ، وفوق ذلك يثيبه الله على توبته.

٧١ ـ (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) مرجعا حسنا ومرضيا ، وأعاد سبحانه آية التوبة للتنبيه والإشارة إلى أنه تعالى يحب التوابين ، شريطة أن لا يرجعوا إلى المعصية بعد أن رجعوا إلى خالقهم الغفور الرّحيم.

٧٢ ـ (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) لا يتعمدون الكذب في أقوالهم ، بل لا ينطقون بما يجهلون ، ولا يحضرون مجالس السوء والباطل (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) تماما كالنحلة إذا مرت بالجيف والروائح الكريهة.

٧٣ ـ (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) لم يعرضوا عنها ، بل يقبلوا عليها باسماعهم وقلوبهم ، وفي الآية ٢ من الأنفال : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً).

٧٤ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) كناية عن السرور ، يدعون الله سبحانه أن يرزقهم أزواجا وأولادا أبرارا وأتقياء سامعين لله ومطيعين ، ليكونوا في منجاة من غضبه تعالى وعذابه (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) هداة إلى الخير والحق ، وقدوة في العمل بهما.

___________________________________

الإعراب : (مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) تمييز. وكان بين ذلك أي وكان الإنفاق. ويضاعف بالجزم بدلا من يلق. و (مُهاناً) حال. وكذلك كراما وصما وعميانا. و (دُعاؤُكُمْ) مبتدأ محذوف الخبر أي لو لا دعاؤكم موجود.

٤٧٨

٧٥ ـ (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ ...) يوم القيامة بأعلى المراتب والدرجات (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) لستم عند الله وفي الواقع بشيء يستحق الذكر والعناية لو لا شيء واحد ، وهو دعاء الرسول لكم إلى الإيمان كي تلزمكم الحجة عند الحساب والجزاء إذا لم تسمعوا وتطيعوا ، والدليل على إرادة هذا المعنى قوله تعالى بلا فاصل مخاطبا المجرمين المعاندين : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) دعوة الرسول وأعرضتم عنها (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أصبح عقابكم لازما لا مفر منه ، ومن يعمل سوءا يجز به.

سورة الشّعراء

مكيّة وهي مائتان وسبع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (طسم) انظر أول سورة البقرة.

٢ ـ (تِلْكَ آياتُ) إشارة إلى آيات هذه السورة (الْكِتابِ الْمُبِينِ) القرآن الجلي الواضح في الدعوة إلى الحق والفاصل بينه وبين الباطل.

٣ ـ (لَعَلَّكَ) يا محمد (باخِعٌ) مهلك (نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) بالهدى والحق ، وتقدم في الآية ٦ من الكهف وغيرها.

٤ ـ (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) نريد أن يسلك الناس الطريق القويم عن رضا وبقلب ملؤه الإيمان لا بقوة سماوية ، وهل يلجأ إلى القوة والغلبة من يدعو إلى الحرية؟

٥ ـ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) كلما نزلت آية جديدة من السماء أدبروا واستكبروا.

اللغة : الباخع المهلك ، وبخع نفسه أهلكها. والاعناق الرقاب ، وتطلق على الجماعات. والزوج الصنف.

___________________________________

الإعراب : (تِلْكَ) مبتدأ و (آياتُ الْكِتابِ) خبر. ولعل تتضمن هنا معنى الإشفاق. و (نَفْسَكَ) مفعول به لباخع. والمصدر من (أَلَّا يَكُونُوا) مفعول من أجله. وظل للنهار ، تقول : ظل أي قام نهارا ، وبات لليل تقول : بات أي أقام ليلا ، وهما من أخوات كان يرفعان الاسم وينصبان الخبر ، وأعناقهم اسم ظلت وخاضعين خبر ، وأصل الكلام فظلوا لها خاضعين ، ثم حذفت واو الجماعة وأقيمت الأعناق مقامها لأنها موضع موضع الخضوع ، وتركت كلمة خاضعين على أصلها. و (مِنْ ذِكْرٍ) من زائدة إعرابا وذكر فاعل يأتيهم.

٤٧٩

٦ ـ (فَقَدْ كَذَّبُوا) واستهزؤوا بما جاءهم من الحق فسيأتيهم نبأ هذا التكذيب بعد حين.

٧ ـ ٩ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ ...) كفروا بالله وهم يرون عجائب قدرته في النبات أشكالا وألوانا ، وتقدم في الآية ٩٩ من الأنعام وغيرها.

١٠ ـ ١٢ ـ (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى ...) ورد اسم موسى (ع) في القرآن الكريم أكثر من ١٢٥ مرة ، وعند تفسير الآية ٩ من طه أشرنا إلى سبب هذا التكرار كما نظن ونتصور (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وسنتخطى هنا بعض الآيات لوضوحها وتقدم الكلام عنها ، ونوجز في بعضها الآخر ١٣ ـ (وَيَضِيقُ صَدْرِي) ولكن محمدا (ص) لم يعتذر ويتعلل بهذا ومثيله ، بل وسع صدره للناس ، كل الناس وصمد أمام العتاة والجبابرة من المشركين ، وأمام اليهود الغادرين وأهل النفاق الماكرين.

١٤ ـ ١٨ ـ (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) وهو قتل الفرعوني الذي كان السبب الموجب لخروجه وفراره من مصر ، وقد عيّره فرعون بذلك حيث قال له : ١٩ ـ (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بفضلنا عليك وتربيتنا لك ، أبهذا تقابل ذلك الإحسان؟

اللغة : قصة موسى مع الهجري : دخل موسى المدينة دون ان يشعر به أحد ، فرأى رجلين يتشاجران ويقتتلان : أحدهما قبطي من اتباع فرعون والآخر اسرائيلي من جماعة موسى ، وكان الاقباط بوجه العموم يضطهدون الاسرائيليين ، ويحسبونهم خدما لهم وعبيدا ، فاستنجد الاسرائيلي بموسى ، فوكز موسى المصري بيده أو بعصاه بقصد التأديب والردع عن البغي لا بقصد القتل ، فوقع هذا جثة هامدة ، ويسمى هذا بالقتل الخطأ.

___________________________________

الإعراب : (إِذْ) في محل نصب بفعل محذوف أي اذكر. و (أَنِ ائْتِ) ان مفسرة بمعنى أي. و (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) بدل من القوم الظالمين. (وَيَضِيقُ صَدْرِي) عطف على أخاف ، ومثله لا ينطلق. وأفرد الرسول مع انهما اثنان لأن المرسل واحد ، والرسالة واحدة ، والمرسل اليه واحد ، بالاضافة الى ان موسى هو الأصل. (أَنْ أَرْسِلْ) ان بمعنى أي مفسرة لمضمون الرسالة المفهومة من كلمة الرسول.

٤٨٠