التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

مشاكسين معاكسين (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) خالدين فيها إلى ما شاء الله.

٥٢ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) وقيل في الفرق بينهما : إن كل من نزل عليه الوحي من الله سبحانه ، يسمى نبيا ، ولا يسمى رسولا حتى يؤمر بتبليغ الوحي إلى الناس ، وعليه فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) وأغلى أمنية لأنبياء الله ورسله أن يؤمن أهل الأرض بالله ، ويعملوا بطاعته وشريعته ، بل ذهبت نفس النبي حسرات على تمرد الناس وكفرهم بالله حتى عاتبه ، جلّ وعزّ ، بقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) ـ ٨ فاطر» ولكن شياطين الإنس من أرباب الأطماع والأغراض يحولون بين النبي وأمنيته الخيرية ، بالتمويه والتزييف. وهذا هو معنى إلقاء الشيطان في أمنية الرسول والنبي ، هو يبني والشيطان يحاول الهدم.

(فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) وحزبه من اختلاق الأكاذيب وادّعاء الأباطيل (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) يثبتها ويصونها من التحريف كما جاء في الآية ٣٢ من التوبة : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ).

٥٣ ـ (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) محك يميز بين الخبيث والطيب (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم المنافقون (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم اليهود والمشركون ، وخلاصة المعنى لا سوق للدعايات الكاذبة إلا عند المرتزقة والهمج الرعاع.

٥٤ ـ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بدين الله ، ويميزون بينه وبين البدعة والضلالة (أَنَّهُ) أن القرآن هو (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) ويعملوا بموجبه ، ولا تزيدهم أقاويل المفترين إلا إيمانا وتسليما لله وكتبه ورسله (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي تخشع وتخضع للحق ، لأنها واعية زاكية.

٥٥ ـ (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) يأبى الطغاة إلا الشك والارتياب في الحقّ وأهله (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) حتى تقوم القيامة وهم في غفلة معرضون (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) وهو اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا تقبل من الذين ظلموا معذرة ، ولا هم ينظرون ، ومن هنا سمي عقيما :

٥٦ ـ ٥٧ ـ (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وحده لا أنصار ولا مستشار (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بالحق والعدل ، ولكل جزاء عمله.

___________________________________

الإعراب : (مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) من الأولى والثانية زائدتان اعرابا ، وقال صاحب البحر المحيط : من الأولى لابتداء الغاية ، والثانية زائدة. (فَيُؤْمِنُوا) عطف على ليعلم ، ومثله (فَتُخْبِتَ). وبغتة حال من الساعة أي باغتة.

٤٤١

٥٨ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) من ترك الأهل والأوطان لجهاد أهل البغي أو لطلب الرزق الحلال أو للتفقه بالدين أو شرد من دياره بالعنف والبغي ثم قتل أو مات حتف أنفه ـ فقد وقع أجره ورزقه على الله (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لمن يعمل ويسعى في سبيل الرزق تماما كما هو الشأن في رزق الآخرة وثوابها.

٥٩ ـ (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) المراد بالمدخل هنا الجنة ، وبداهة أن من دخلها لا يبغي عنها حولا.

٦٠ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم ، ثم استأنف سبحانه إلى كلام آخر وقال : (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) من جازى الظالم بمثل ظلمه أو قاتله دفاعا عن نفسه (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) لا لشيء إلا لأنه أبى أن يقرّ للضيم واهنا (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) على من طغى وبغى ، ومعنى هذا أن من رضي بالذلّ والهوان يدعه الله وما رضي لنفسه.

٦١ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ ...) تقدم في الآية ٢٧ من آل عمران.

٦٢ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي أن وصفه تعالى بالإله الخالق المالك هو وصف بالحق والواقع (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ) ويعبدون ويطيعون (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) لأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا.

٦٣ ـ ٦٤ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...) كل ما في الكون من أعيان وصفات وعلاقات هي نتيجة السنن الكونية ، ما في ذلك ريب ، وهذي السنن الكونية هي بالذات سنن إلهية ، لأن الله سبحانه هو الذي قدّرها وأرادها وأودعها بالكون حين أظهره إلى عالم الوجود ، وتقدم ذلك مرارا.

٦٥ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من حيوان وزرع وثمار وغير ذلك (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ

اللغة : المدخل بضم الميم من ادخل ، وهو اسم مكان ، والمراد به هنا الجنة

___________________________________

الإعراب : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ) اللام جواب لقسم محذوف ، والقسم وجوابه خبر الذين هاجروا. و (مُدْخَلاً) مفعول فيه. وذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك. فتصبح بالرفع لأن ألم تر لفظه الاستفهام ومعناه الخبر.

٤٤٢

بِأَمْرِهِ) بتيسيره وتسخيره (وَيُمْسِكُ السَّماءَ ...) بنظام الجاذبية كما أمسك الطير بجناحيه.

٦٦ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد العدم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد الحياة (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد الموت ، والقصد من هذه الإشارة أن يعرف الإنسان قدره ، ولا يتجاوز حده (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) بنعمة الله ، بخيل بحق الله ، متمرد على أمر الله ، ولا مفر له من غضب الله إلا رحمة الله.

٦٧ ـ (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) أي فاعلوه وملتزمون به ، وللمنسك معان ، منها الشريعة والمنهاج وهو المراد هنا لقوله تعالى بلا فاصل (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) ما دام لكل أمّة شريعة ، فلما ذا بعض أهل الأديان ينازعون محمدا في شريعته ، ومثله (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) ـ ٩ الأحقاف» (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) إذن فلا تهتم بإعراض من أعرض ، ونزاع من نازع ، وفي نهج البلاغة : ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه.

٦٨ ـ (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) هذا إنصاف مسكت للخصم المشاغب ، وأيضا تهديد ، ولكن برفق.

٦٩ ـ (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) واضح ، وتقدم في الآية ١١٣ من البقرة.

٧٠ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) محفوظ عند الله سبحانه ، والخطاب لرسول الله (ص) والمراد به تهديد الجاحد المعاند بأن كل ما يضمر ويقول ويفعل هو عليه مسجّل ، وسيؤخذ به لا محالة.

٧١ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) حجّة وبرهانا ، بل البرهان قائم على العكس ، وهو كل معبود من دونه تعالى لا يستطيع دفع الضرر عن نفسه (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) بل تلقوه عن أسلافهم وآبائهم جهلا وتقليدا باعترافهم وقولهم : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ـ ١٠٤ المائدة».

٧٢ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أثقل شيء على أسماعهم كلمة الحقّ

___________________________________

الإعراب : (الْفُلْكَ) بالنصب معطوفة على ما في الأرض أي وسخر الفلك ، وجملة (تَجْرِي) حال من الفلك. والمصدر من ان تقع مفعول من أجله ليمسك أي كراهة الوقوع (عَلَى الْأَرْضِ). و (هُمْ ناسِكُوهُ) مبتدأ وخبر والجملة صفة لمنسكا. (سُلْطاناً) تمييز لأنه بمعنى من سلطان ، وفي الآية ٧١ من سورة الأعراف (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ). و (مِنْ نَصِيرٍ) من زائدة إعرابا ونصير مبتدأ ، و (لِلظَّالِمِينَ) خبر مقدم. و (بَيِّناتٍ) حال من آيتنا.

٤٤٣

والقرآن ، تصفر وجوههم منها وتغبر (يَكادُونَ يَسْطُونَ) يبطشون (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) يحتج المؤمنون المحقّون بالدلائل القاطعة على الجاحدين ، ويجيب هؤلاء بألسنة السوء وعرض العضلات! وهكذا جلّ الأقوياء المبطلين يضعون حدا للنقاش بالسجن أو المشنقة ، ولا يعترفون بالخطإ ، ومن أبرز الشواهد على هذه الحقيقة محاكم التفتيش التي أنشئت في أوروبا لمحاكمة العلم والعلماء.

(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ ...) وهي أشد وأشق عذابا على الكافرين مما يهددون به المؤمنين.

٧٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) سماع وعاية ودراية (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) حتى ولو تعاون المعبودون والشركاء بالكامل على خلق ذرة أو ذبابة ـ لتراجعوا خاسئين (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) وفوق ذلك أن الذبابة لو سلبت الأصنام ذرّة مما عليها من طيب وغيره لعجزت عن مقاومة الذبابة والإنتصار عليها (ضَعُفَ الطَّالِبُ) وهو المعبود من دون الله (وَالْمَطْلُوبُ) وهو الذباب ، وقال أديب شهير فيما قال حول هذه الآية : «هو مثل ما زال معجزا للعلم والعلماء بعد ألف سنة من تطوّر العلم ، فمن يستطيع أن يخلق ذبابة على تفاهتها ، وإذا سلبتك الذبابة حياتك بمرض تنقله إليك ، فمن يستطيع أن يردّ لك تلك الحياة».

٧٤ ـ (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ما عرفوا عظمة الله حق المعرفة حيث تركوا عبادته ، وعبدوا من يعجز عن خلق الذبابة ، بل ومقاومتها والإنتصار عليها! وبعد فهل من عجب إذا ترك الناس أهل العلم والقداسة ، واتّبعوا أعور الدجال الذي تحدث عنه صاحب البحار وغيره من العلماء الأبرار؟

٧٥ ـ (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) كجبرائيل ينزل بالوحي على النبيّين (وَمِنَ النَّاسِ) مبشرين ومنذرين ٧٦ ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) يعلم سبحانه ماضي الرسل وحاضرهم ومستقبلهم ، وانهم أهل لكرامته وتبليغ رسالته ٧٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله واليوم الآخر لا جدوى من إيمانكم هذا إلّا أن تتوافر فيكم مع الإيمان أربعة أوصاف : الأول أن تقيموا الصلاة لله وحده ، وإليها أشار بقوله تعالى : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) الثاني أن تطيعوا الله في أمره ونهيه ، وهذا هو المراد بقوله : (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) حيث لا عبادة من غير طاعة ، الثالث : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) كإغاثة الملهوف وإصلاح ذات البين والتعاون على الصالح العام الرابع أن تجاهدوا بأنفسكم وأموالكم ضد الفقر والجهل والاستغلال والعدوان على عباد الله وعياله ، وهذا المعنى هو المقصود من قوله سبحانه.

٧٨ ـ (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم ، والخطاب للذين ناداهم سبحانه في صدر الآية السابقة بقوله : يا أيها الذين آمنوا اركعوا ... وعليه يكون السبب الموجب للاختيار هو الإيمان بالله ورسوله والعمل بشريعته (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) والمراد بالحرج هنا الضيق ، والمعنى أنّ الله سبحانه ما شرّع حكما فيه عسر ومشقة على أحد من عباده ، وأيضا معناه أن الحكم الواحد يختلف تبعا لطاقة الفرد وظروفه. وفي الحديث : إذا اجتمع أمران فأحبهما إلى الله أيسرهما ، والتفصيل في كتب الفقه وأصوله

٤٤٤

(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) الملّة : الدين ، وإبراهيم (ع) أب حقيقي للأنبياء ، وروحي لأهل الأديان لاتفاقهم على نبوّته وتعظيمه. وقال الشيخ الطبرسي : «إبراهيم أبو الأمّة لأن العرب من ولد إسماعيل ، وأكثر العجم ـ أي غير العرب ـ من ولد إسحاق» (هُوَ) إبراهيم (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) إشارة إلى ما جاء على لسانه في الآية ١٢٨ من البقرة : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك (مِنْ قَبْلُ) أي تسميتكم بالمسلمين موجودة قبل القرآن في الكتب السابقة (وَفِي هذا) أيضا هذه التسمية موجودة في القرآن (لِيَكُونَ الرَّسُولُ) هو محمد (ص) (شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أرسل سبحانه محمدا (ص) داعيا إلى الحق ، وشاهدا على الخلق ، فبلغ رسالات ربّه ، وبلّغها من بعده أهل بيته وصحابته الذين استنّوا بسيرته وعملوا بسنّته ، وحمل عبء التبليغ من بعدهم العلماء بدين الله وشريعته ، فمنهم من بلّغ حسب طاقته غير وان ولا مقصّر ، ومنهم من تجاهل وتخاذل ، ولكل كتابه عند الله ، وسيرته في التاريخ وعند الناس (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) والدليل الصادق على هذا الاعتصام هو العمل بالحق ، والإذعان له ، والتعاون مع كل إنسان على إقامته والجهر بكلمته مهما كانت النتائج ، ولا يضعف ويجبن عن مقالة الحقّ إلا من يخشى المخلوق دون الخالق (هُوَ مَوْلاكُمْ) يتولى أمر من اعتصم به وتوكل عليه (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لمن انتصر به دون سواه. وهو سبحانه أن ينصر دين الحق وأهله بالنبي وآله ، عليهم أزكى الصلوات والتحيات ...

سورة المؤمنون

مكية وهي مائة وثماني عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) الفلاح بمعنى النجاح ، وهو الظفر بالمراد ، وكل من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو في حكم المسلم دينا ، أما في الآخرة فلا نجاح ولا فلاح إلا للذين تتوافر فيهم هذه الخلال :

٢ ـ (١) (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) والمراد بالخشوع هنا الإقبال على الصلاة بنفس راضية بها تمام الرضا ، وما زاد كالتضرع فهو خير ، واستوحينا هذا المعنى من حديث «قرّة عيني الصلاة» ومن قولة تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) ـ ١٤٢ النساء».

٣ ـ (٢) (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) واللغو : الباطل ، ويشمل ما لا فائدة فيه ، وباللغة المهذبة : مضغ الهواء ، ومعنى الإعراض عنه عدم الدخول فيه والاستماع إليه.

٤ ـ (٣) (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) وللزكاة معنيان : الأول أن يخرج الغني زكاة ماله ، ومنه قوله تعالى : وآتوا الزكاة. الثاني أن تكون أفعال الإنسان بعيدة عن الإثم والدنس ، ومنه وما عليك ألا يزكى ، والمراد بالزكاة في الآية كلا المعنيين ، وإن أومت كلمة «فاعلون» إلى المعنى الثاني.

٥ ـ ٧ ـ (٤) (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) عن الزنا وغيره من المحرمات. وفي سفينة البحار للشيخ القمي عن النبي (ص) أن الزنا يوجب الخلود في النار ، وأن الله سبحانه لا يسمي الزاني مؤمنا ولا الزانية مؤمنة.

٤٤٥

٨ ـ (٥) (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) جاء في الحديث الشريف : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» والمؤمن بالعكس وتقدم الكلام حول الأمانة في الآية ٥٨ من النساء وحول الوفاء بالعهد في الآية ٤٠ من البقرة.

٩ ـ ١١ ـ (٦) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) يواظبون عليها في مواقيتها.

١٢ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) السلالة من حيث هي : خلاصة ما يستخرج من الشيء ، والمعنى خلق الإنسان الأول وهو آدم من صفوة الماء والتراب.

١٣ ـ (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) أي خلق نسل آدم من نطفة (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) يعني الرحم.

١٤ ـ (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) قطعة من دم جامد (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) قطعة من لحم (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) تحولت المضغة أو بعضها إلى عظام (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) إنسانا سويا (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) شكلا ومحتوى.

١٥ ـ ١٦ ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) قيل لحكيم : فلان في النزع. قال : هو في النزع منذ ولد ، أي في طريقه إلى القبر منذ ولادته.

١٧ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي بعضها فوق بعض تماما كما يقول الناس «طوابق» أما عدد السبعة فلعلّه منزّل على ما اعتاد الناس أن يتخاطبوا به فيما بينهم. ونقل المراغي في تفسيره حديثا عن النبي (ص) أنه قال : «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهنّ والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة».

اللغة : السلالة ما يستخرج من الشيء. والمراد بالطرائق السموات لأن بعضها فوق بعض ، يقال : طارق بين الثوبين إذا لبس أحدهما على الآخر.

___________________________________

الإعراب : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ) عطف بيان من «المؤمنون». و (عَلى أَزْواجِهِمْ) متعلق «بحافظون». وما ملكت استعملت «ما» فيمن يعقل. والذين يرثون بدل من «الوارثون». وجملة هم فيها خالدون حال. (مِنْ سُلالَةٍ) متعلق ب (خَلَقْنَا) ، و (مِنْ طِينٍ) بمحذوف صفة للسلالة. و (جَعَلْناهُ) تتعدى الى مفعولين لأنه بمعنى صيرناه ، وكذلك خلقنا النطفة علقة ، فخلقنا المضغة عظاما. وكسونا أيضا تتعدى الى مفعولين. و (خَلْقاً) مفعول مطلق لأنشأناه لأنه مثل قمت وقوفا.

٤٤٦

١٨ ـ (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) معلوم ، لا هو بالكثير فيهلك ويدمّر ، ولا بالقليل فيتضرر الزرع والضرع (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) في العيون والآبار والجداول والأنهار لتنتفعوا به (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) فيجعله غورا في الأرض إلى مدى لا يمكن الوصول إليه بشتى الوسائل.

١٩ ـ (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ ...) من أشجار وثمار ... إلى ما هو ظاهر للعيان.

٢٠ ـ (وَشَجَرَةً) هي شجرة الزيتون (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) الجبل الذي ناجى فيه موسى ربّه ، والمراد هنا البقعة التي كانت تعرف بالشام حيث تكثر فيه هذه الشجرة (وَصِبْغٍ) ما يصطبغ به من الإدام أي يغمس فيه الخبز ويؤكل.

٢١ ـ ٢٤ ـ (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ ...) تقدم في الآية ٥ وما بعدها من النحل (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ) فكيف يكون نبيا؟ وهذا حق مائة بالمائة لو كان الرب حجرا كالذي يعبدون! قال العقاد في كتاب خلاصة اليومية : لا يسلم إنسان تحت قبة السماء من جنون خفي ، يقول المثل الإنكليزي : لو كان الجنون مرضا يؤلم لسمعت الصراخ من كل بيت. وهل من شيء أدلّ على جنونهم من قولهم عن نوح :

٢٥ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) انتظروا حتى يموت أو يرجع عن دعوته أو يشفى من جنونه.

اللغة : بقدر أي مقدار معلوم. والمراد بالشجرة هنا شجرة الزيتون. وطور سيناء الجبل الذي ناجى فيه موسى ربه ، وعبّر سبحانه عنه في الآية ٢ من سورة التين بطور سينين. والصبغ الغمس ، والمراد به هنا الزيت يغمس فيه الخبز.

___________________________________

الإعراب : و (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) صفة لله ، وان كانت الاضافة هنا لا تفيد تعريفا لأن كلمة أحسن الخالقين لا تطلق إلا عليه تعالى ، بل لا خالق سواه. وبعد ظرف متعلق «بميتون». (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ) من زائدة اعرابا وإله مبتدأ. والمصدر من أن يتفضل مفعول يريد أي يريد الفضل. (إِنْ هُوَ) ان نافية وهو مبتدأ وخبره رجل.

٤٤٧

٢٦ ـ ٣٠ ـ (قالَ) نوح : (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) وعند هذا الدعاء أمره الله أن يصنع السفينة ، فصنعها ، وحمل معه من كل زوجين اثنين ... إلى آخر ما جاء في سورة هود من الآية ٢٥ إلى الآية ٤٨.

٣١ ـ ٣٤ ـ (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أوجد سبحانه من بعد أمّة نوح أمّة ثانية ، وأرسل منها رسولا ، وقال لهم : ألا تعبدون الله وحده ، وتتقون؟ فقال المترفون :

اللغة : الملأ رؤوس القوم. أن يتفضل أن يكون له الفضل. جنة جنون. فتربصوا فانتظروا. بأعيننا برعايتنا. والمراد بالتنور هنا وجه الأرض. والاستواء الاستقرار. واسلك ادخل. ومبتلين مختبرين. القرن أهل العصر الواحد ، والمراد بهم عاد قوم هود. وأترفناهم نعمناهم من الترف وهي النعمة. هيهات بعد. يصبحن يصرن. والصيحة العذاب. والغثاء ما يحمله السيل مما يمر به من الأشياء الحقيرة البالية. وبعدا هلاكا.

___________________________________

الإعراب : (بِهِ جِنَّةٌ) مبتدأ وخبر والجملة صفة لرجل. و (رَبِ) أصلها يا ربي. و (أَنِ اصْنَعِ) أن مفسرة لأوحينا. و (بِأَعْيُنِنا) متعلق بمحذوف حالا من الفلك أي محفوظة بأعيننا. وكلّ بالتنوين أي (مِنْ كُلٍ) نوع. و (زَوْجَيْنِ) مفعول اسلك. واثنين توكيد لزوجين. و (مُنْزَلاً). مفعول فيه لأنه اسم مكان ، وإذا كان بمعنى انزال فهو مفعول مطلق. و (إِنْ كُنَّا) ان مخففة وأصلها إنّا واسمها نا وجملة كنا خبر. (أَنِ اعْبُدُوا) ان مفسرة لأن الإرسال يتضمن معنى القول.

٤٤٨

(ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) وإذن فأي فضل له على غيره ، ولو أكل الألذّ والأطيب ، وشرب الأحلى والأشهى ، ولبس الأثمن والأغلى ، وسكن العلالي والقصور ـ لكان له الأفضليّة على سواه!. وهذا هو منطق الناس حتى في عصرنا هذا ، وقرأت من جملة ما قرأت أن معبود الجماهير في أمريكا وأوروبا هو الأكثر والأعظم مالا وثراء! ...

٣٥ ـ ٣٨ ـ (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) ـ (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ...) إنه كذاب أو مجنون. ولما ذا؟ لأن تنفيذ الوعيد والتهديد محال وممتنع بالذات تماما كقول القائل : سأفعل كذا وكيت بالذي لا عين له ولا أثر أو سأعذّب وأشنق هذا الحجر! ... قالوا هذا ذاهلين عن وجود الله وعظمته ، وأن الذي أوجد الشيء من لا شيء على رجعه لقادر ، وأن إعادة البيت المهدوم أهون وأيسر من إيجاده وإنشائه.

٣٩ ـ (قالَ) الرسول (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) فسمع سبحانه دعاء رسوله واستجاب له.

٤٠ ـ (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) على كفرهم وعنادهم.

٤١ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) وهي صيحة العذاب (بِالْحَقِ) أي بما كسبت أيديهم (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) هلكى كزبد السيل.

٤٢ ـ (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) أمما وخلائق كثيرة ، منها معلوم ومنها مجهول.

٤٣ ـ ٤٤ ـ (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) كل ما عدا الله سبحانه له أجل مكتوب وأمد معيّن ، لا يتقدم عليه أو يتأخر عنه ، ومنه هلاك الأمّة وانقراضها (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) بعثنا الرسول بعد الرسول (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) ومن الأسباب الموجبة لهذا التكذيب أن الأنبياء والرسل يخاطبون الجمهور وسواد الناس ، ويحاولون إقناعهم بلغة العقل والقيم والأريحيّة النبيلة ... وقد تجدي هذه اللغة مع النخبة المختارة من ذوي العقل والعلم ، أما السواد فلا يفهم ـ في الغالب ـ إلا بلغة الرغبة والرهبة أو المحاكاة والتقليد (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) ـ ٢٢ الزخرف» أمّا من أسلم واتّبع الرسل من السواد فإنه أسلم في البداية رغبة في التحرر من الرق والجور ـ غالبا كما أشرنا ـ ثم تمكن الإيمان في نفسه ورسخ مع الأيام ، ولا بأس ، لأن الإسلام وكل دين سماوي يقف إلى جانب المعذبين في الأرض ، ما في ذلك ريب.

___________________________________

الإعراب : و (مُخْرَجُونَ) خبر (أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) ، وانكم الثانية تأكيد لأنكم الأولى ، وتكررت للفاصل الطويل ، والمصدر من انكم الاولى واسمها وخبرها مفعول ثان ليعدكم أي (يَعِدُكُمْ) الإخراج. و (هَيْهاتَ) اسم فعل بمعنى بعد ، ويحتاج الى فاعل ، وفاعله ضمير مستتر يعود الى الإخراج أي بعد إخراجكم. و (عَمَّا قَلِيلٍ) ما زائدة اعرابا وقليل مجرور بعن ، والمجرور متعلق بيصبحن واللام لا تمنع من ذلك لأنها لمجرد التأكيد كما قال أبو البقاء في كتاب الاملاء. و (فَبُعْداً) مصدر في موضع الفعل أي بعدوا بعدا.

٤٤٩

٤٥ ـ ٤٩ ـ (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى ...) بالحجج والبينات إلى فرعون ، فأعرض ونأى فكان من الهالكين ، وتقدم مرات ، أما هذا التكرار فقد ذكرنا شيئا من أسبابه عند تفسير الآية ٩ من طه ، هذا وقد يكون التكرار لسبب خاص أوجب نزول الآية وتكرارها.

٥٠ ـ (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي حجّة قاطعة على أن الله على كل شيء قدير ، فعيسى معجزة لأنه من غير أب ، وأمّه معجزة لأنّها حملت من غير ذكر (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) مكان مرتفع من الأرض ، وهذه الربوة (ذاتِ قَرارٍ) يستقر فيها الإنسان ويطمئنّ (وَمَعِينٍ) وهو الماء الجاري. وجاء في الأناجيل أن الناصرة مسقط رأس السيدة مريم ، وفيها بشرت بالسيد المسيح (ع) وأيضا فيها نشأ وترعرع ، وقضى القسم الأكبر من الثلاثين سنة الأولى من حياته ، ولذلك لقب بيسوع الناصري نسبة إليها. وفيها العديد من الأديرة والكنائس وهي أكبر مدن الجليل ، وتقوم على جبل ، يرى منها جبل الشيخ والكرمل ، وتبعد عن عكّا شرقا تسعة عشر ميلا ، وعن القدس شمالا ستة وثمانين ميلا.

٥١ ـ (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) كلّ حلال فهو طيّب ، وكل حرام فهو خبيث (وَاعْمَلُوا صالِحاً) كل ما فيه خير للناس فهو صالح ، وكل ما فيه شرّ فهو فساد في الأرض ، وإن سأل سائل : كيف خاطب سبحانه الرسل بصيغة الجمع علما بأنهم بعثوا على التراخي والتتابع في العديد من الأزمنة؟ ـ أجبناه بأن الغرض من هذه الآية أن يقول سبحانه لمن يتقشّف ويتأفّف من الملذات والطيّبات : إن الورع والتقوى بالعمل الصالح النافع والزهد في الحرام لا في الحلال. قال الإمام عليّ (ع) : لا ورع كالوقوف عند الشبهة ، ولا زهد كالزهد في الحرام.

٥٢ ـ (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ...) تقدم في الآية ٩٢ من الأنبياء ، وأعيد تمهيدا لقوله تعالى :

٥٣ ـ (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) جمع زبور وهو الكتاب ، والمعنى تفرق أصحاب الكتب شيعا متشاحنة متطاحنة ، هذه تنتسب إلى موسى ، وتلك إلى عيسى ، ونحن إلى محمد ، ودين الأنبياء الثلاثة واحد ، وهدفهم واحد ، وهم إخوان الولاء والصفاء ، فإذن من أين جاء التباغض والشتات؟.

(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) علما بأن الحق واحد لا يتجزأ ، وأنه ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة ، والعقل هو الحاكم الحاسم ، ولذا احتكم إليه القرآن وخاطب خصومه بقوله : أفلا تعقلون وتفقهون وتتدبرون وتفكرون؟ وكرر ذلك مرات ومرات.

٥٤ ـ (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) في جهلهم وضلالهم (حَتَّى حِينٍ) هلاكهم وعذابهم.

٥٥ ـ ٥٦ ـ (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) نعطيهم (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) وانها فضيلة لهم

___________________________________

الإعراب : (تَتْرا) مصدر وضع موضع الحال من الرسل أي متواترين متتابعين ، والفعل تواتروا. و (بَعْضَهُمْ) مفعول أول و (بَعْضاً) مفعول ثان.

٤٥٠

وكرامة كلا (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) بأنها سبب النقمة والعذاب ، وتقدم في الآية ١٧٨ من آل عمران.

٥٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) لما أشار سبحانه إلى الأحزاب والطوائف التي تعيش في الجهل والضلال ، ذكر العارفين المهتدين بأنهم يجتهدون في العمل الصالح ، ويتهمون أنفسهم بالتقصير.

٥٨ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) المراد بالآيات هنا الدلائل على وجوده تعالى ، ونبوّة أنبيائه ، وصدق كتبه ٥٩ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) لا يدلسون ويراءون ٦٠ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) ينفقون مما رزقهم الله وهم خائفون أن لا يتقبّل منهم.

٦١ ـ (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) لقد أسرعوا من دون الناس إلى عمل الخيرات في الدنيا ، ومن أجل هذا يسبقونهم إلى الجنّة في الآخرة.

٦٢ ـ (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) واضح ، وتقدّم مرات ، منها في الآية ١٥٢ من الأنعام (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) المراد بالكتاب هنا كتاب الأعمال الذي لا يغادر كبيرة ولا صغيرة ، أمّا الظلم فهو محال في حقه تعالى ، وقد لعن الظالمين في كتابه أكثر من مرّة. والويل كل الويل لمن تناله لعنة الواحد القهار.

٦٣ ـ (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) الغمر في اللغة الماء الكثير ، والمراد بالغمرة هنا غطاء الجهل والغفلة والضلال ، وهذا إشارة إلى سبيل المؤمنين وما هم عليه من التوحيد ومكارم الخصال ، والمعنى أن المجرمين في سكرة وعمه عن كل خير وفضيلة (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) كالتدليس وتحريف الكلام عن مواضعه والافتراء على الأبرياء (هُمْ لَها عامِلُونَ) أي عليها يصرّون وفيها يتمادون ، ولا يتّعظون بواعظ.

٦٤ ـ (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) تكرّرت هذه الكلمة ومشتقاتها في القرآن الكريم سبع مرات ، وفي نهج البلاغة ستّ مرات ، واستعملت بالكامل في أسوأ المعاني وأقبح الصفات هذا بالإضافة إلى قوله تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) ـ ١١ المزمل» وفي هذا المعنى كثير من الآيات (بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) يستغيثون ويصيحون.

٦٥ ـ (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) لا تستغيثوا ، فلا خلاص لكم اليوم ولا مجير.

٦٦ ـ (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) دعوناكم من قبل إلى النجاة من الهلكة ، فأعرضتم ساخرين فذوقوا اليوم ما كنتم به تستهزئون.

٦٧ ـ (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) سامرا : من السمر وهو الجلوس بالليل للحديث ؛ وتهجرون : من الهجر في الكلام وهو الهذيان أو الفحش في المنطق ، والمعنى استكبرتم وتمرّدتم على الحقّ ، وذكرتموه في سمركم بالسوء والباطل.

٤٥١

٦٨ ـ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) القرآن ، وفيه النور والعلم والهداية إلى كل خير وفضيلة ، وما أنزل الله على نبي من أنبيائه كتابا أجمع منه وأكمل عقيدة وشريعة وآدابا (أَمْ جاءَهُمْ) محمد (ص) (ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) هل ابتدع محمد فكرة النبوّة من عنده وإنزال الكتب من وهمه؟ فمن قبله نزلت الكتب ، وبعثت الرسل ، ولهم أمم وأتباع (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) ـ ٩ الأحقاف».

٦٩ ـ (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) ما ذا عدا مما بدا؟ بالأمس نعت مشركو قريش محمدا (ص) بأنه أرجحهم عقلا وأصدقهم قولا ، وأعظمهم أمانة ، واليوم يتهمونه بالكذب والافتراء.

٧٠ ـ (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) لا يدري ما يقول؟ فهل القرآن من هذي المجانين ووحي الشياطين؟ (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) جاءهم محمد (ص) بالعدل والمساواة في جميع الحقوق والواجبات ، ولا امتياز لإنسان على إنسان إلّا بما يسديه من خيرات وخدمات للمجتمع والأفراد ، ومن هنا جاء الحقد والغيظ والكراهية.

٧١ ـ (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) الحق هو المصدر الأول للأديان والقوانين والشرائع ، ولو نزلت الأديان على ما يشتهون ، وشرّعت القوانين كما يهوون ـ لعمّت الفوضى ، وساد الضلال ، وهلك الحرث والنسل ، واحتكروا الكون بمن فيه وما فيه لأنفسهم وأولادهم وأصهارهم ، وقد رأينا وقرأنا ما فعل ويفعل الأقوياء المجرمون من البغي والفساد والتخريب والتدمير والسّلب والنهب وما يفوق التصوّر (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) لقد أنشأ محمد (ص) برسالته وعظمته للبشرية كلها تاريخا جديدا ، وبخاصة للعرب ، وبصورة أخصّ لقريش الذين أنقدهم من دياجير الجهل والضلال ، فأنكروه وحاربوه ، ولو لاه لم يكونوا شيئا مذكورا ٧٢ ـ (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) أي أنت يا محمد تعمل لخير الناس ، وتضحّي بالكثير من أجلهم ، ولا تبتغي منهم جزاء ولا شكورا (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) بل تحتسب ذلك عند الله ، وعليه وحده أجرك وثوابك ٧٣ ـ ٧٤ ـ (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) يقول سبحانه لنبيّه محمد (ص) : إن الله زوّدك بالحجج الكافية الوافية على أن دعوتك هي النور والحق المبين ، وان من رفضها وأعرض عنها فقد ضلّ عن نهج السبيل ، وبحسبك هذا ناصرا على عدو الله وعدوك.

٧٥ ـ (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) بعد هجرة النبي (ص) من مكّة إلى المدينة فرارا من الجور والأذى ـ أخذ سبحانه أهل مكّة بالقحط والمحل والجوع والشدّة حتى أكلوا دم القراد مع وبر البعير ومعنى الآية أن الله سبحانه لو رحم أهل مكة ، وكشف عنهم ما بهم من بأساء وضرّاء لتمادوا في الغيّ والضلال ، ولم ينتفعوا بالبلاء ودروسة ٧٦ ـ (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) أنزل سبحانه بهم المصائب والشدائد عسى أن يؤوبوا إلى الرشد ، ولكنهم (فَمَا اسْتَكانُوا) أي ما خضعوا وتواضعوا ولا تضرّعوا في الدعاء إلى الله.

٧٧ ـ (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) وهو عذاب الجحيم الأليم (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) متحيّرون فيما حل بهم من عذاب آيسون من النجاة.

٤٥٢

٧٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ ...) يذكرهم سبحانه بأنعمه وكفرانهم بها.

٧٩ ـ ٨٠ ـ (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) نشركم فيها (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) هما من عجائب قدرته وآثار حكمته.

٨١ ـ (بَلْ قالُوا) لمحمد (ص) (مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) لأنبيائهم.

٨٢ ـ ٨٣ ـ (قالُوا أَإِذا مِتْنا ...) «اسطوانة» مسجلة وموروثة أبا عن جدّ ، وتقدم مرارا ، منها في الآية ٥ من الرعد و ٤٩ من الإسراء.

٨٤ ـ (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) من هو الخالق والرازق والمالك؟ أجيبوا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وإن كنتم تجهلون علمناكم.

٨٥ ـ (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وإذن لزمتهم الحجّة بأن الله قادر على أن يحيي الموتى ، لأن المرء يؤخذ بإقراره. والاعتراف بالشيء اعتراف بلوازمه.

٨٦ ـ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ) سبق الكلام عن عدد السموات عند تفسير الآية ١٧ من هذه السورة (وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) كناية عن سلطانه تعالى وسيطرته.

٨٧ ـ (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) إذا أقررتم واعترفتم بأن كل شيء يتقلّب في قبضته تعالى حتى أنتم ، فلما ذا لا : تحذرون من حسابه وعقابه؟

٨٨ ـ (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ) أعظم الملك ، والتاء للمبالغة (كُلِّ شَيْءٍ) ولا أحد يملك معه شيئا حتى أنفسنا هي ملك لله وليست لنا (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) يغيث من يستجير به ويمنعه من كل قويّ ، بل ومن أهل الأرض والسماء مجتمعين ولا شيء إطلاقا يغيث أحدا ويحميه من الله (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) ـ ١١ الفتح».

٨٩ ـ (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) ملكوت السموات والأرض (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) من الذي سحركم ، وأعمى عقولكم عن النشر والحشر ما دمتم تعترفون بأن الله على كل شيء قدير؟

___________________________________

الإعراب : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) قليلا صفة لمفعول مطلق محذوف أي شكرا قليلا ، وما زائدة اعرابا. (مِثْلَ) صفة لمفعول مطلق محذوف أي قولا مثل ما قالوا. و (إِنْ هذا) ان نافية. و (لِلَّهِ) في جميع الآيات متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف يقدر بما دل عليه السياق أي الأرض ومن فيها لله ، والسموات والعرش لله ، وملكوت كل شيء لله. (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) انى بمعنى كيف في موضع نصب على انها حال ، وقيل : بمعنى أين أي من أين تسحرون.

٤٥٣

٩٠ ـ (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) بيّنّاه وأوضحناه بالحجّة البالغة والأدلّة القاطعة حتى أصبح كنور الشمس (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) بدعوى الإيمان والاعتراف بالله ، لأن الإيمان عمل كله ولا إيمان بلا عمل علما بأنه لا عين ولا أثر لهذا الاعتراف والإيمان في أعمالهم. وبهذه تكون الآية واضحة الدلالة على أن من يدّعي الإيمان بالله ويصرّ على معصيته فهو منافق يكذب على الله في دعواه.

٩١ ـ (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) وإلا لكان هو متولدا عن غيره بالتناسل المعروف أو لنشوء كتولد النبات من الحب ، وتقدم مرارا ، منها في الآية ٢٦ من الأنبياء (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) لو تعددت الآلهة لانفرد كل واحد منهم بجزء من الكون ، له حدوده وخصائصه مع أن النظام واحد ، فالخالق إذن واحد إضافة إلى التناحر والتنازع بين الآلهة على السلطان ، ولو كان شيء من ذلك لفسدت الأرض والسماء.

٩٢ ـ (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وكل غيب عنده شهادة ، وكل سرّ عنده علانية كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع). وعليه يكون التقسيم بالنسبة إلينا لا إليه تعالى علوّا كبيرا.

٩٣ ـ ٩٤ ـ (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وعد سبحانه الظالمين بالعذاب وفي ذات الوقت أمر نبيّه أن يدعو لنفسه أن يريه عذاب الظالمين دون أن يناله شيء منه ، والغرض من ذلك تهديد الطغاة العتاة.

٩٥ ـ (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) الله قادر على عقاب العاصي في أول ما يهم بالمعصية ، ولكن يمهله عسى أن يحدث بعد ذلك ما يحدث ، وأنت يا محمد.

٩٦ ـ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) ويختلف الدفاع بالأحسن تبعا لحال المسيء وطبيعته ، فإن أغراه الإحسان بالمزيد من الإساءة والعدوان ـ فتركه أفضل وأحسن. قال الإمام عليّ (ع) : الوفاء لأهل الغدر غدر والغدر بأهل الغدر وفاء ، وإن كان الإحسان علاجا لداء المسيء وسببا لندمه وتوبته ، كان هو الأفضل والأكمل.

٩٧ ـ ٩٨ ـ (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أصلها يحضرونني ، فحذفت إحدى النونين لمكان أن الناصبة ، وحذفت الياء للتخفيف ، ومعنا أن يقربوا منّي ، وهمزات الشياطين : وساوسهم ، والشيطان وحزبه في شغل شاغل بالغاوين عن عباد الله المخلصين بنصّ الآية ٤٢ من الحجر : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) وعليه يكون معنى قول النبي (ص) : أعوذ بالله من الشياطين : وألجأ إليه من أهل السوء وشرّ كل ذي شرّ.

٩٩ ـ ١٠٠ ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ...) يطلب الرجعة عند انتهاء الأجل! وهيهات قد فات ما فات (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) وكفى أي لا تغني عنه شيئا ، لأن من مات فقد قامت قيامته (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يوم القيامة ، والبرزخ الحائل ، والمعنى دون رجعة الموتى إلى الدنيا مانع بإرادة الله ومشيئته ، وأيضا معنى هذا أن الروايات الواردة في الرجعة مخالفة لظاهر هذه الآية ، وفي الخطبة ١٠٧ من خطب نهج البلاغة «حيث لا إقالة ولا رجعة» والخطبة ١٨٨ «فلا رجعة تنالون ، ولا عثرة تقالون».

١٠١ ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ

٤٥٤

وَلا يَتَساءَلُونَ) النفخ في الصور كناية عن قيام القيامة ولا أنساب : لا تعاطف وتحالف بين الأرحام والإخوان ، ولا سؤال ومقال ، ولا شيء إلا الدهشة والرهبة.

١٠٢ ـ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بصدق الإيمان أوّلا وقبل كل شيء ، وأقوى الدلائل على صدقه ورسوخه كفّ الأذى عن الناس ، فإنّه أرجح ما وزن (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حيث فازوا بما طلبوا.

١٠٣ ـ ١٠٤ ـ (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) وهو من كفر بالله أو آمن به وما كفّ الأذى عن عياله (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ...) حيث ألقوا بها إلى التهلكة والعذاب الأليم.

١٠٥ ـ (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) من الذي جنى عليكم؟ لقد حذّرتم من هذا فسخرتم.

١٠٦ ـ ١٠٧ ـ (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) ولما ذا لم تغلب عليكم العظات والدلائل البيّنات؟.

١٠٨ ـ (قالَ اخْسَؤُا فِيها) سألوه سبحانه الخروج من النار والرجعة إلى الدار. فقال : امكثوا فيها صاغرين (وَلا تُكَلِّمُونِ) لا تطمعوا في مدبّر.

١٠٩ ـ (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي ...) أتقياء مخلصون.

١١٠ ـ (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) حيث كنتم في شغل شاغل بالضحك منهم.

١١١ ـ (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) وضحوا بالكثير من أجل الحق وإقامة العدل (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) بالسلامة والكرامة ١١٢ ـ (قالَ) سبحانه لمنكري البعث الذين سخروا منه وممن آمن به : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) والغرض من هذا السؤال مجرد التوبيخ على جحودهم والتذكير بقولهم : هيهات هيهات .. ما نحن بمبعوثين.

___________________________________

الإعراب : (فَأُولئِكَ) مبتدأ ، و (الَّذِينَ) عطف بيان و (خالِدُونَ) خبر (فَأُولئِكَ) ، وفي النار متعلق ب «خالدون» ويجوز أن يكون الذين خبر أولئك وخالدون خبر بعد خبر. وسخريا مفعول ثان لاتخذتموهم. والمصدر من انهم هم الفائزون مفعول ثان لجزيتهم ، قال تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً). (كَمْ) خبرية تتضمن معنى ظرف الزمان ، ومحلها النصب بلبثتم. و (عَدَدَ) منصوب على التمييز ، وجاز نصب مميز (كَمْ) هنا لوجود الفاصل بينها وبينه ، ولو لاه لوجب الجر ، لأن مميز الخبرية واجب الخفض إلا إذا فصل بينهما فاصل. وسنين مجرورة بالإضافة ، وقرئ عددا سنين وعليه تكون سنين بدلا من عدد.

٤٥٥

١١٣ ـ (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) كما نظنّ ونتصور (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) الذين يحصون علينا أعمالنا وأيامنا.

١١٤ ـ (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) كل أمد ينقطع وينتهي بالزوال فهو قليل مهما طال.

١١٥ ـ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) كل ما فيكم من عقل وحواس وأعضاء وغرائز ، وجد باطلا ومن غير هدف.

١١٦ ـ (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) المنزّه عن العبث والباطل ، خلق فسوّى ، وقدّر فهدى.

١١٧ ـ (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) بل البرهان قائم على العكس ، فكل شيء يدل على أنّه الواحد الأحد ، ولا يتصور أن يشاركه غيره في شيء من خلقه ، وتقدم البيان في تفسير الآية ٧٣ من المائدة و ٢٢ من الأنبياء وغيرهما. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) افتتح السورة بفلاح المؤمنين ، وختمها بضلال الكافرين مع الأمر بهذا الدعاء :

١١٨ ـ (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ولا تفضيل في كلمة خير هنا حيث لا رحمن ورحيم إلا هو ، ولا غافر وناصر سواه. وهو وحده المسئول أن يثبتنا على دينه ، ويهب لنا مغفرة ورحمة من فضله بالنبيّ وآله عليهم أزكى الصلوات.

سورة النّور

مدنيّة وهي أربع وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (سُورَةٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي هذه السورة. وقال الشيخ الطريحي في مجمع البحرين : المراد بها مجموعة من اي الذكر الحكيم ، أقلها ثلاث آيات ، وهي مأخوذة إمّا من سور المدينة ، وإمّا من السورة بمعنى المنزلة والرتبة ـ أي الفضل والشرف ـ. (أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) أوجبنا ما فيها من الحدود والأحكام الآتية (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات غير متشابهات.

___________________________________

الإعراب : و (قَلِيلاً) صفة لمفعول محذوف أي زمنا أو لبثا قليلا. والمصدر من انكم تعلمون فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت علمكم. و (عَبَثاً) مصدر في موضع الحال من خلقناكم أي عابثين. وأنما خلقناكم (أَنَّما) كلمتان أنّ المشددة وما الكافة عن العمل. وانكم عطف على أنما خلقناكم. وهو بدل من الضمير المستتر في الخبر المحذوف أي لا إله موجود إلا هو ، ورب العرش خبر بعد خبر. (وَمَنْ يَدْعُ) من شرطية. وجملة لا برهان له صفة «إلها». فإنما حسابه جواب الشرط.

٤٥٦

٢ ـ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) الخطاب لأولي الأمر الذين أوجب الله طاعتهم دون غيرهم (كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) وهذا الحكم يختصّ بالأعزب والعزباء عند الإمامية والمالكية والشافعيّة ، أما المتزوّج والمتزوّجة فحكمها الرجم إجماعا وسنّة ، بل جاء في صحيحيّ مسلم والبخاري أن عمر ابن الخطاب قال : إن الله أنزل آية الرجم ، ومع ذلك قال أبو حنيفة : لا رجم إطلاقا ، وحكم الجلد يعمّ الأعزب والمتزوج ، والمتزوجة والعزباء (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) خذوهما بالشدّة والألم ضربا ورجما (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أقيموا الحدّ عليهما علانية لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر عن الفاحشة.

٣ ـ (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) لا تستجيب لدعوة الفاجر العاهر إلا مومس على شاكلته أو مشركة لا تؤمن بكتاب وشريعة (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) وهكذا الشأن في المومس ، شبيه الشيء منجذب إليه ، وقوله «(أَوْ مُشْرِكَةً) ... (أَوْ مُشْرِكٌ)» يومئ إلى أن الزنا والشرك بمنزلة سواء (وَحُرِّمَ ذلِكَ) إشارة إلى الزنا لا إلى زواج المؤمن غير الزاني بزانية (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) والمؤمنات أيضا.

٤ ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) المراد بالرمي هنا القذف بالزنا ، والمحصنات جمع محصنة وهي المرأة العفيفة متزوجة كانت أو عزباء ، وفي حكمها الرجل العفيف متزوجا كان أو أعزب ، وقد أوجبت هذه الآية بجملتها ثلاثة أحكام على القاذف أو القاذفة إذا لم يأت أحدهما بأربعة شهود عدول يشهدون بالكامل أنهم رأوا الميل بالمكحلة : الحكم الأول أن يجلد ٨٠ جلدة. الثاني أن ترد شهادته في غير القذف أيضا. الثالث أن يحكم بفسقه.

٥ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) من تاب بعد الحكم بفسقه ، وأصلح بحسن السيرة ، قبلت شهادته ، وغفر الله له سواء أتاب بعد الحد أم قبله.

٦ ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) إذا قذف الرجل زوجته بالزنا ، ولا بيّنة لديه (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) يقول الزوج عند الحاكم الشرعي أربع مرات أشهد بالله اني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة.

٧ ـ (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) ثم يقول الزوج في الشهادة الخامسة : عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين في دعواه.

___________________________________

الإعراب : (سُورَةٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي هذه سورة. و (تَذَكَّرُونَ) أي تتذكرون. و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) مبتدأ والخبر (فَاجْلِدُوا) ، ودخلت عليه

٤٥٧

٨ ـ (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) يدفع الحد عن الزوجة بشرط (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فتقول عند الحاكم أربع مرات : أشهد بالله أنه لمن الكاذبين فيما قذفني به.

٩ ـ ١٠ ـ (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماني به من الفاحشة.

١١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) بالكذب المحض (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) الذين رموا البريئة بالخيانة هم جماعة تظاهروا كذبا بأنهم على ملّة الإسلام ، وليسوا منه في شيء إلا ظاهرا (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) ضمير منهم يعود إلى أهل الإفك ، والمعنى لكل واحد من الأفاكين عذاب بقدر ما أشاع وأذاع من الكذب والافتراء (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) كان له الحظ الأكبر من إشاعة الإفك ونشره (مِنْهُمْ) من العصبة (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الدنيا بإظهار كذبه ، وفي الآخرة بحريق الجحيم.

١٢ ـ (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) ينبغي للمؤمن إذا سمع شرا عن أخيه المؤمن أن يظن به الخير ، وينفي السوء عنه قياسا على نفسه.

١٣ ـ (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ) على الزنا (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) وإلا فلا تترتب عليه آثار الزنا كإقامة الحد واللغو فيه.

١٤ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أفضتم : خضتم ، وضمير فيه للإفك وحديثه ، ورحمته تعالى في الدنيا على من عصاه هي الستر والإمهال ، وفي الآخرة العفو إذا تاب وأناب.

اللغة : الإفك أشد الكذب. والعصبة الجماعة. والذي تولى كبره أي تحمل معظم الإفك. وأفضتم فيه خضتم فيه.

___________________________________

الإعراب : (أَنْفُسُهُمْ) بدل من شهداء. فشهادة أحدهم أربع .. قرئ بنصب (أَرْبَعُ) ورفعها ، وعلى النصب تكون شهادة أحدهم خبرا لمبتدأ محذوف وأربع قائم مقام المفعول المطلق لشهادة ، والتقدير فالحكم ان يشهد أحدهم أربع (شَهاداتٍ) ، وعلى الرفع تكون شهادة مبتدأ ثانيا وأربع خبره ، والجملة خبر المبتدأ المحذوف ، والمبتدأ المحذوف وخبره خبر الذين يرمون. وبالله متعلق بشهادات. والخامسة الأولى مبتدأ وما بعدها خبر. والمصدر من أن تشهد فاعل يدرأ. والخامسة الثانية بالنصب معطوفة على أربع شهادات الثانية وبالرفع مبتدأ وما بعدها خبر. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) جواب لو لا محذوف أي لهلكتم. (عُصْبَةٌ) خبر ان. (لا تَحْسَبُوهُ) كلام مستأنف. (لَوْ لا) أداة تحضيض بمعنى هلا.

٤٥٨

١٥ ـ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) تديرون حديث الإفك بألسنتكم ، وينقله بعضكم عن بعض من غير دليل ، وتظنون ذلك سهلا ، وهو عند الله من كبائر الآثام.

١٦ ـ (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) لا ينبغي للمؤمن أن يشارك في حديث الفاحشة إذا خاض فيه الأراذل والأشرار ، بل الأليق به أن ينهى عنه (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) هذا إشارة إلى اتهام الأبرياء بالإفك ، وانه من أكبر الآثام وأعظمها عند الله.

١٧ ـ (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) المراد بالوعظ النهي عن التكرار والإصرار على حديث الإفك وأمثاله من المنكرات.

١٨ ـ (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) بيّن سبحانه لعباده الأحكام ، وبثّ المواعظ عن علم بما يصلحهم وينفعهم.

١٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) أي حديث الفاحشة (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) الأبرياء الأطهار (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) بإقامة الحد (وَالْآخِرَةِ) بنار جهنم ، وإن قال قائل : إن عوقب المجرم على جريمته في الدنيا لم يعاقب عليه في الآخرة كما في الحديث ، وأيضا لا يستقيم في عدالته تعالى أن يجمع بين عقوبتين على ذنب واحد ـ قلنا في جوابه : القذف بالفاحشة شيء ، وإشاعتها ونشرها بين الناس شيء آخر ، فإذا قذف المجرم وأشاع يحدّ على القذف في الدنيا ويعذّب في الآخرة على النشر والإذاعة (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه صلاح الفرد والمجتمع (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) من الأمور إلا ما ظهر منها.

٢٠ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) لعاجل العصاة منكم بنقمته ، ولكنه بعباده رؤوف رحيم ٢١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بإشاعة الفاحشة في الأبرياء ، ولا بشيء مما يدعوكم إليه (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) من أمكن الشيطان من نفسه قاده إلى كل جريمة ورذيلة (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) كلكم يوسوس

___________________________________

الإعراب : والمصدر من ان نتكلم اسم يكون. والمصدر من (أَنْ تَعُودُوا) مفعول من أجله ليعظكم. والمصدر من (أَنْ تَشِيعَ) مفعول يحبون. (مِنْ أَحَدٍ) من زائدة إعرابا وأحد مفعول زكى.

٤٥٩

له الشيطان ، ويهم بطاعته إلا من عصم الله (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) بأهل الخير الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وهؤلاء هم الذين يزكيهم الله ويثيبهم دون عباده ، أمّا الصم البكم عن الخير فإن الله لهم بالمرصاد.

٢٢ ـ (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) يأتل : يحلف من آليت إذا حلفت ، وأولوا الفضل : أهل الفضل في الدين والإحسان ، والسعة : الاتساع في المال ، والمعنى لا يحلف المؤمنون والمحسنون أن يقطعوا أرحامهم الفقراء المهاجرين إلى الله ، وإن بدرت بادرة من أحد هؤلاء فالعفو أقرب للتقوى (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) من أحب أن يصفح الله عنه فليصفح هو عمّن أساء إليه ، ومن لا يرحم لا يرحم.

٢٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) ذوات الصون والغفلة عن الزنا ، وكذلك من يرمي المؤمنين الغافلين (لُعِنُوا) طردوا من رحمة الله ورضوانه (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) إلا أن يتوبوا ولا يعودوا لمثله أبدا.

٢٤ ـ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) بما نطقت (وَأَيْدِيهِمْ) بما فعلت (وَأَرْجُلُهُمْ) إلى ما سعت.

٢٥ ـ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ) أي الجزاء الذي يستحقون (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) وعدا ووعيدا وحسابا وجزاء.

٢٦ ـ (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) المراد بالخبيثات السيئات من الأقوال والأفعال ، وبالخبيثين السيئون رجالا ونساء تغليبا للذكور على الإناث ، والمراد بالطيبات : الحسنات من الأقوال والأفعال ، وبالطيبين المحسنون رجالا ونساء أيضا تغليبا للذكور على الإناث ، وعليه يكون المعنى : بالسيئات يستدل على المسيئين ، وبالمسيئين يستدل على السيئات ، وبالحسنات يستدل على المحسنين ، وبالمحسنين يستدل على الحسنات. وقال كثير من المفسرين : المعنى الزوجة الخبيثة للزوج الخبيث هي له وهو لها ، والزوجة الطيبة للزوج الطيب هي له وهو لها؟ وينتقض هذا التفسير طردا وعكسا بزوجة فرعون الشهيدة الطيبة ، وزوجة نوح الخبيثة ، وكذلك زوجة لوط. (أُولئِكَ) الطيبون والطيبات (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي مما يقوله عنهم الخبيثون والخبيثات ، وأيضا لهم عند ربهم الدرجات العلى.

___________________________________

الإعراب : والمصدر من (أَنْ يُؤْتُوا) منصوب بنزع الخافض أي على الإيتاء. واللام في (لْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) لام الأمر. و (أَلا تُحِبُّونَ) الا هنا للتحضيض مثل هلا. والمصدر من (أَنْ يَغْفِرَ) مفعول (تُحِبُّونَ). يوم تشهد : (يَوْمَ) متعلق بما تعلق به لهم عذاب أليم. (وَيَوْمَئِذٍ) متعلق بيوفيهم.

٤٦٠