التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

يهديك (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) عودني سبحانه على فضله وإحسانه.

٤٨ ـ (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) هجر إبراهيم قومه وأهله في الله ، وزهد فيها وفي الدنيا لوجه الله ، فأبدله سبحانه في الدنيا خيرا منهم حيث وهبه إسماعيل وإسحاق ومن بعده يعقوب ، وشرّفهم بالنبوة.

٤٩ ـ ٥٠ ـ (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) وفي الآية ١٦٣ من النساء : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وهل من نعمة أجلّ من هذه وأعظم؟ : الوالد وولدان للصلب والحفيد كلهم أنبياء ، بل وأحفاد الأحفاد ، ومن هنا كني إبراهيم الخليل أبو الأنبياء.

٥١ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) في القرآن (مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) بمعنى المختار والمصطفى.

٥٢ ـ (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) الطور هو الجبل الذي كلم الله موسى عليه ، والمراد بالأيمن يمين موسى لأن الجبل لا يمين له وشمال (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) خاطبه الله مباشرة وبلا واسطة.

٥٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) المراد بوهبنا هنا أن الله سبحانه شدّ عضد موسى بأخيه هرون كما في الآية ٣٥ من القصص ، وكان هرون أكبر من موسى بثلاث سنوات ، ويمينة في جميع أعماله. وتقدم الحديث عن موسى مرات ومرات.

٥٤ ـ ٥٥ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ...) كان وفيا بطبعه ، يفعل ما يقول ، ولا يقول ما لا يفعل ، وأيضا كان وفيا لدينه وللإنسانية جمعاء دون أي مقابل إلا مرضاة الله سبحانه ، ومن أجل هذا كان رسولا نبيا وعند ربه مرضيّا.

٥٦ ـ ٥٧ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) هذا كل ما نعرفه ونؤمن به عن إدريس ، أما ما جاء في التفاسير من أنه رفع إلى السماء وأول من خط بالقلم وتعلم الحساب وما يشبه ذلك ـ فهو من الإسرائيليات.

٥٨ ـ (أُولئِكَ) إشارة إلى كل من ذكر في هذه

___________________________________

الإعراب : (نَجِيًّا) حال من ضمير (قَرَّبْناهُ). وهرون بدل من (أَخاهُ) و (نَبِيًّا) حال من هرون وعند رب متعلق بمرضيا. ومكانا ظرف منصوب برفعناه. وسجدا وبكيا حال أي ساجدين باكين.

٤٠١

السورة من زكريا إلى إدريس (وَمِمَّنْ حَمَلْنا) في السفينة (مَعَ نُوحٍ) وقد حمل معه من جملة من حمل ابنه سام ، ومن ذريته إبراهيم ، أما إسماعيل وإسحاق ويعقوب فهم من ذرية إبراهيم ، وإليهم الإشارة بقوله سبحانه : (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) أما إسرائيل ـ أي يعقوب ـ فمن ذريته موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى من جهة الأم (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) كل هؤلاء وغيرهم من المؤمنين الأتقياء (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) إذا ذكر الله سبحانه خروا ساجدين باكين خوفا من العقاب ورجاء الثواب.

٥٩ ـ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) بسكون اللام ، والمراد به النسل الطالح كما قال سبحانه : (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) ذكر سبحانه الأنبياء ومن اتبعهم من الصالحين ، وأثنى عليهم ، وعقب بمن جاء بعدهم كاليهود والنصارى ، ونعتهم بالضلال والفساد ... وعين الشيء يقال في المسلمين بنص القرآن الكريم : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) ـ ١٤٤ آل عمران» وفي الحديث : بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود كما بدأ غريبا ... لتتبعن سنن من كان قبلكم. (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) شرا وعذابا جزاء على تمردهم وضلالهم.

٦١ ـ ٦١ ـ (إِلَّا مَنْ تابَ ...) لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

٦٢ ـ (لا يَسْمَعُونَ فِيها ...) لا حقد ولا حسد ولا كذب وخداع في الجنة ، ومن أجل هذا لا يدخلها حاسد وحاقد وكاذب ومخادع ، كما قال سبحانه :

٦٣ ـ (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) والتقي هو الذي يراعي الله والحق في سلوكه وتصرفاته وحتى في حال الغيب قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ـ ١٢ الملك» والمراد بالغيب هنا أن تتقي الله ، وأنت في أمن وأمان من سوء العاقبة في الحياة الدنيا.

٦٤ ـ (وَما نَتَنَزَّلُ) الوحي من السماء (إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) استبطأ رسول الله (ص) نزول الوحي عليه ، لما جاء به جبريل قال له : ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت هذه الآية ، والمعنى الأمر لله وحده (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) بل يفعل أو يترك بحكمة وعلم.

٦٥ ـ (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ومن

___________________________________

الإعراب : (إِلَّا مَنْ تابَ) استثناء متصل من ضمير يلقون. وشيئا مفعول مطلق. و (جَنَّاتِ) عدن بدل من الجنة في قوله : يدخلون الجنة. وبالغيب متعلق بمحذوف حالا من (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي كائنة بالغيب. وضمير انه يعود إلى الله. و (سَلاماً) مستثنى منقطع أي ولكن يسمعون سلاما. و (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بدل من رب ، ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هو رب السموات.

٤٠٢

كان للكون ربا يستحيل النسيان في حقه (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) الأمر لرسول الله (ص) بأن يصدع بما يؤمر ، ويصبر على الأذى في سبيل مهمته (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) مثيلا وشبيها

٦٦ ـ ٦٧ ـ (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُ) الإشكال هو الإشكال والجواب هو الجواب من يحيي العظام وهي رميم؟ يحييها الذي أنشأها أول مرة ، ويقول من لا يؤمن إلا بالمشاهدة والتجربة : لقد شاهدنا وجربنا النشأة الأولى ، أما الثانية فلا يمكن فيها التجربة والمشاهدة. ولا جواب لهؤلاء الجاحدين المعاندين إلا قوله تعالى : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) ـ ٧١ الأعراف».

٦٨ ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ، ويومئ هذا القسم إلى أشد الغضب منه تعالى على من أنكر النشر والحشر (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) يخرجون من القبور على أسوأ حال ، ثم يساقون إلى جهنم ، وقبل دخولها يتحلّقون حولها جاثين على الركب ينظرون إليها ، وتنظر إليهم.

٦٩ ـ (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) يبدأ سبحانه بالقادة العتاة ، يلقي بهم في جهنم الأعتى فالأعتى ، ويأخذ كل واحد منهم المكان اللائق من عذاب الحريق ٧٠ ـ (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) يعلم سبحانه ما يجترح الإنسان من سيئات في سره وعلنه ، ويجازيه بما يستحق.

٧١ ـ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) المراد بالورود هنا مجرد الرؤية والمشاهدة لأن المؤمنين عن النار مبعدون عقلا ونقلا.

٧٢ ـ (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) من عذاب النار (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) ولا يظلم ربك أحدا ، أما الحكمة في مشاهدة المؤمن الصالح نار جهنم فهي أن يفرح ويغتبط حامدا شاكرا نعمة النجاة والخلاص من لهبها وكلبها.

٧٣ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) عليهم يعود إلى مشركي قريش ، وآيات الله هي حجّته البالغة ، ودلائله القاطعة (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) المؤمنين أو الجاحدين (خَيْرٌ مَقاماً) حالا ووضعا (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) ناديا يكثر رواده ورجاله ، وخلاصة المعنى أن الجبابرة الأشرار يجابهون دعوة الله والحق بقولهم لمن سمع لها وأطاع : نحن نعيش في المال والجاه ، وتعيشون أنتم فقراء مساكين ، فكيف تزعمون أنكم المحقون ونحن المبطلون؟ ومن قبل قال فرعون عن موسى : فلو لا ألقي عليه أسورة من ذهب معتبرا الحق بالغنى والباطل بالفقر! ٧٤ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أهل عصر ، كانوا أكثر مالا ، وأشد قوة ، وأعز نفرا (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً) متاع البيت وأدواته الضرورية والكمالية (وَرِءْياً) صورة ومنظرا.

٧٥ ـ (قُلْ) يا محمد لمن يتخذ من الترف مقياسا للحق : (مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) إن الله سبحانه يمتحن عباده بالدنيا وزينتها ، ويمهلهم حتى

٤٠٣

تظهر الأفعال التي يستحقون بها الثواب والعقاب (حَتَّى إِذا رَأَوْا) أي المترفون الطغاة (ما يُوعَدُونَ) الشيء الموعود به وهو (إِمَّا الْعَذابَ) في الدنيا ولو بالقتل والأسر (وَإِمَّا السَّاعَةَ) الحشر والحساب. وعندئذ (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) الكافرون الأغنياء أو المؤمنون الفقراء؟ إن الغنى والترف ليس مقياسا للخير والفضل ، والفقر والخصاصة ميزانا للشر والضعة ، وإنما العمل وحده هو الميزان والمقياس

٧٦ ـ (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) المسببات تجري على أسبابها ، فمن أخذ بسبب الخير او الهداية أخذ الله بيده ، وشمله بعنايته ، ومن أخذ بسبب الشر والضلالة يعامله جلت حكمته ، بما اختار لنفسه.

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي عاقبة ، وليست الجمعيات والأحزاب من الباقيات الصالحات في شيء إلا أن تعمل لخير الأجيال ، لا للهتاف والتصفيق لرئيس الجمعية أو الحزب.

٧٧ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) جاء في الأحاديث النبوية والتفاسير القرآنية : أن العاص بن وائل والد عمرو بن العاص ، لما سمع بذكر البعث قال ساخرا : لأوتين في الآخرة مالا وولدا ، وظاهر الآية يدل على أن زنديقا قال هذا.

٧٨ ـ (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) من أين جاءه هذا العلم؟ هل عنده مفاتيح الغيب أم أخذ ميثاقا من الله بذلك؟.

٧٩ ـ (كَلَّا) لا هذا ولا ذاك (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) حفظنا أقواله ، وسنزيده من أجلها عذابا فوق عذاب ٨٠ ـ (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) نسلبه أمواله وأولاده بموته وهلاكه (وَيَأْتِينا فَرْداً) بلا مال ولا بنين ، وتمثل ابن كثير عند تفسير هذه الآية بقول الشاعر : فليت فلانا مات في بطن أمه وليت فلانا كان ابن حماره.

٨١ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) يعتزون ويستنصرون بغير الله والحق.

٨٢ ـ (كَلَّا) من اعتزّ بغير الله ذلّ (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) غدا يتبرأ المعبودون من العابدين ويكون أولئك على هؤلاء خصماء أشداء ، وفي هذا المعنى الآية ٦٣ من القصص : تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون.

٨٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ) أي تركناهم ولم نردعهم بالقهر والجبر (عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تزعجهم إزعاجا وتغريهم إغراء أو تطغى عليهم طغيانا ، قل ما شئت.

٨٤ ـ (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) لا تستبطئ يا محمد نزول العذاب بمن جحد وأفسد ، فنحن نحصي عليه أنفاسه إلى أجل ، وعنده يكون الحساب وفصل الخطاب.

٨٥ ـ (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) يفدون عليه سبحانه معززين مكرمين.

___________________________________

الإعراب : (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) بدل من ما في قوله تعالى : (رَأَوْا ما يُوعَدُونَ). و (مَنْ هُوَ شَرٌّ) من اسم موصول مفعول لسيعلمون

٤٠٤

٨٦ ـ (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) ضربا بالسياط (إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) يردونها عطاشى ، فينهلون من الحميم والعذاب الأليم ٨٧ ـ (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قلنا ونكرر بلا ملل : ان الشفيع الوحيد لدى الله سبحانه هو الحسنات وفعل الخيرات ، وعليه يكون الإنسان الشفيع مجرد شاهد أو مدافع يتوسل بما فعل المشفوع له من خير لعيال الله أو بأية طاعة ترضي الله.

٨٨ ـ ٩١ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) أبى النصارى إلا أن يجعلوا لله ولدا بصريح العبارة ، وهذا ما قالوه بنصه الحرفي : «الله الأب ، والله الابن ، والله الروح القدس ، فالأب هو الذي خلق العالمين بواسطة الابن ، والابن هو الذي أتم الفداء ، والروح هو الذي يطهر القلب والحياة غير أن الأقانيم الثلاثة يشتركون معا في جميع الأعمال الإلهيّة على السواء ـ قاموس الكتاب المقدس ص ١٠٧ وما بعدها طبعة سنة ١٩٦٤» وغضب سبحانه من هذا القول أشد الغضب ووصفه بالإد : الأمر الفظيع ، بأن السماء تكاد تتشقق وتتصدع. ، والأرض تخسف وتترعرع ، والجبال تسقط وتنهار لمجرد النطق بهذا الافتراء.

٩٢ ـ (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أولا لأن الولد يشبه أباه ، والله سبحانه ليس كمثله شيء. ثانيا لأن كل من ولد له فهو متولد من غيره بالتناسل المعروف أو بطريق النشوء كتولد النبات من البذر ثالثا لقوله تعالى :

٩٣ ـ ٩٥ ـ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ...) مملوكا ، والمملوك غير الولد ، والمالك شيء والوالد شيء آخر.

٩٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) حبا ومودة في قلوب الناس جيلا بعد جيل ، وجاء في بعض التفاسير وكتب الفضائل أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب ، والتاريخ والواقع المحسوس يشهدان بذلك ، ومن التفاسير الكشاف للزمخشري والدر المنثور للسيوطي والتسهيل لمحمد بن أحمد الكلبي ، وتفسير المراغي ، ومن كتب الفضائل فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ١ ص ٢٧٧ نقلا عن الرياض النضرة ج ٢ ص ٢٠٧.

٩٧ ـ (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) القرآن الكريم (بِلِسانِكَ) يا محمد (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) جمع ألد ، وهو الذي يتشدد في الخصام والجدل ، والمعنى أن الله سبحانه أنزل القرآن بلغة العرب ، ليسهل عليهم فهمه وهضمه ، ويكون بشيرا لمن آمن واتقى ، ونذيرا لمن جحد وبغى ، وتقدم في الآية ٢ من يوسف.

٩٨ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أهل عصر (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) هل ترى أحدا من نسلهم؟ (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) صوتا أو همسا وختاما نشير أن معجزة القرآن الكريم لا تستمد من لغته وبلاغته وكفى ؛ بل ومن عقيدته وشريعته وأخلاقه ، وسائر تعاليمه. والصلاة والسلام على كل من فهم وألهم علم القرآن ، وعمل به.

___________________________________

الإعراب : فاعل (يَنْبَغِي). وان نافية وكل مبتدأ وآتي خبر أي ما منهم أحد (إِلَّا آتِي).

٤٠٥

سورة طه

مكيّة وهي مائة وخمس وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (طه) جاء في تفسير الرازي عن الإمام جعفر الصادق (ع) : «أن الطاء طهارة أهل بيت رسول الله والهاء هدايتهم» والرسول الأعظم (ص) هو رب البيت وأبوه ، وهو دون سواه المخاطب بقوله تعالى :

٢ ـ (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ومن أجل هذا نحن مع القائلين : إن طه من أسماء النبي (ص). والمراد بالشقاء هنا التعب ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أجهد نفسه بالعبادة حتى تورمت قدماه ، فقال له سبحانه : ما لهذا نزل عليك القرآن ٣ ـ (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) إلا رحمة ونورا لمن ينشد الخير والهداية.

٤ ـ (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) جمع العليا ، والمذكر الأعلى ، ومثله الدنا جمع الدنيا وفي الآية إيماء إلى أن لله كتابين : الأول كتاب الخلق والإيجاد والثاني أنزله على محمد (ص) لهداية العباد.

٥ ـ ٦ ـ (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ...) كناية عن الاستيلاء والتدبير ، وتقدم في الآية ٥٤ من الأعراف وغيرها.

٧ ـ (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أنا وأنت نعلم ما نضمر الآن دون الغد. والله عليم بذات الصدور الآن وبما يوسوس فيها غدا. لأن كل غيب عنده شهادة ، وكل سر عنده علانية.

٨ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لأنها تعبّر عن أجلّ المعاني وأكمل الصفات. وتقدم في الآية ١٨٠ من الأعراف وغيرها ٩ ـ (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى)؟ أجل ، مرارا وتكرارا ، أما السر لهذا التكرار فهو أن أكثر السور والآيات التي تحدثت عن موسى نزلت في مكة حيث كان المسلمون قلة مستضعفة يلاقون أشد الإيذاء وألوان التنكيل من المشركين أصحاب الحول والسلطان. فتكررت قصة موسى وبني إسرائيل وإذلالهم بيد فرعون ، ثم دارت عليه الدائرة ، وكانت العاقبة لبني إسرائيل علما بأن فرعون أقوى وأطغى من صناديد المشركين وأيضا سينتصر المسلمون على المشركين لا محالة إذا صبروا واتقوا تماما كما انتصر موسى وقومه على فرعون وملئه ... هذا إلى أن حياة موسى (ع) كلها عبر منذ ولادته وقذفه في اليم إلى قصته مع فرعون وشعيب والخضر والسامري وقومه المشاكسين المعاكسين وارتدادهم وعجلهم وبقرتهم وتيههم إلى ما له أول بلا آخر ١٠ ـ (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) استأذن موسى شعيبا بالخروج إلى أمه في مصر وسار بأهله ، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة ، وكان قد ضلّ الطريق وحاول أن يقدح زناده فلم يخرج منه شرر ، والليل دامس والبرد قارص ، فحار في أمره ، وبينا هو كذلك إذ رأى نارا ، فقال لأهله : مكانكم ، أتى الفرج بوجود النار أو الهداية إلى الطريق ، وما درى أنها البشرى بسعادة اللقاء بالعلي الأعلى ، وذهب ليأتي بجذوة من نار ، فرجع بالنبوة ولقّب كليم الله ... وهكذا تفعل المفاجئات والمخبآت : إما إلى العلى وسدرة المنتهى ، وإما إلى الدرك الأسفل والأرذل. قال الإمام عليّ (ع) : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فإن موسى بن عمران خرج يقتبس لأهله نارا فكلمه الله ، ورجع نبيّا.

٤٠٦

١١ ـ ١٢ ـ (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) دنا موسى مما ظنّه نارا ، فإذا هو نور أبهى من نور الشمس ، وإذا بصوت رهيب : أنا ربك (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) تأدبا وتواضعا (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) في المكان المطهر المبارك.

١٣ ـ (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) ولا يختار سبحانه لدينه ووحيه إلا صفوة الأمناء ، وتقدم في الآية ١٤٤ من الأعراف ، ثم بيّن سبحانه أن الدين الذي أوحى به إلى موسى يقوم على أصول ثلاثة : الأول التوحيد ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :

١٤ ـ (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) الأصل الثاني التعبد لله وحده : (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) لا تذكر فيها شيئا سواي. الأصل الثالث البعث :

١٥ ـ (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) أي أكاد أخفي وقتها حتى عن نفسي ، مبالغة في كتمانها وعدم إظهارها ، ونعطف تفسيرنا هذا على العديد من التفاسير المضطربة لهذه الآية (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) أخفى سبحانه العلم بوقت الساعة ليترقب العباد وقوعها في كل حين ، فيخافوا منها ويعملوا لها ويستوفوا جزاء المقاصد والأعمال.

١٦ ـ (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها ...)

لا تتبع أيها الراشد البالغ سبيل من كذب بالبعث ، فتهلك كما هلك.

١٧ ـ (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) لكل نبي معجزة يقتنع هو بها أولا وقبل الناس ، ثم يعرضها عليهم ، ويتحداهم بها وهو على عين اليقين ، ولذا سأل سبحانه موسى : ما تلك؟ على وجه التقرير والتأكيد بأنها هي عصاه بالذات التي يعرفها دون سواها ، وبعد أن ١٨ ـ (قالَ) موسى : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أضرب بها الشجر فيتساقط الورق للغنم ، بعد هذا الإيقان والعيان.

١٩ ـ ٢٠ ـ (قالَ) له القادر المقتدر : (أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) خشبة يابسة تحولت فجأة إلى حية! بأية مناسبة وقرابة؟ ومن هنا ارتاع موسى وولى مدبرا كما في الآية ١٠ من النمل.

٢١ ـ (قالَ) سبحانه لموسى : (خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) إلى حالها كما كانت أول مرة.

٢٢ ـ ٢٣ ـ (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أدخل يدك في جيبك كما في الآية ١٢ من النمل (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) من غير آفة وعاهة ، وتقدم في الآية ١٠٨ من الأعراف.

___________________________________

الإعراب : إذ ظرف يتعلق ب (حَدِيثُ مُوسى). وفي نودي ضمير مستتر يعود الى موسى ، وهو نائب فاعل. وانا تأكيد. و (طُوىً) بدل من الوادي. و (لِذِكْرِي) متعلق بأقم. و (لِتُجْزى) متعلق بآتية. و (فَتَرْدى) في محل نصب بجواب النهي.

٤٠٧

٢٤ ـ (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) ادّعى الربوبية وذبح الأطفال ، وبطش بطشة الأشرار.

٢٥ ـ (قالَ) موسى : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) سأل موسى ربه رباطة الجأش ورحابة الصدر ، لأنه عصبي المزاج ، وكز الفرعوني فقضى عليه ، وألقى الألواح ، وأخذ برأس أخيه يجره.

٢٦ ـ (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) في هذه المهمة الشاقة التي بعثتني بها ، فإن فرعون أطغى الطغاة تمردا ، وأقوى الملوك جنودا ، وأنا لا أملك إلا نفسي وأخي ... ولا أدري كيف ذهل موسى (ع) عن عصاه التي تبتلع ملك فرعون بالكامل؟

٢٧ ـ ٢٨ ـ (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي) كان في لسانه ثقل ، والمرء بأصغريه : قلبه ولسانه.

٢٩ ـ ٣٠ ـ (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي) من أمه وأبيه.

٣١ ـ (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) أي ظهري ، والمراد القوة.

٣٢ ـ ٣٥ ـ (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي الرسالة ، وفي بعض التفاسير أن أعرابيا قال : «لا أخ في الدنيا أنفع لأخيه من موسى لهارون حين سأل الله سبحانه أن يشركه معه في النبوة». ولكن هذا الأعرابي ذهل عن العلة الموجبة لذلك ، وهي العقدة في لسان موسى. نقول هذا ، ونحن على علم اليقين بأن الهدف الأساس لموسى (ع) إعلاء كلمة الله والدين ، وأنه معصوم عن الذاتية والأنانية ، لكن نلوح من بعيد للعديد من الإخوان والخلان ، عسى أن يتعظوا ويعتبروا.

٣٦ ـ (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) لقد أعطاك ربك كل ما طلبت من سعة الصدر ، وتيسير الأمر وشد الأزر وغير ذلك ٣٧ ـ (وَلَقَدْ مَنَنَّا) أنعمنا (عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) ٣٨ ـ (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ) بالإلهام أو المنام (ما يُوحى) من التدبير المحكم لسلامتك من كل مكروه ومن ذلك.

٣٩ ـ (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) ضعيه في الصندوق (فَاقْذِفِيهِ) القي الصندوق (فِي الْيَمِ) البحر والمراد به هنا النيل ، ففعلت ذلك (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) يقذفه الموج إلى الشاطئ (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) وهو فرعون (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) جعلتك محبوبا عند عدوي وعدوك (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي تتم حضانتك وتربيتك برعايتي وعنايتي.

٤٠ ـ (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) كان موسى لا يقبل ثدي امرأة ، فحار فرعون ، وبذل الجهد في طلب مرضعة له ، فذهبت أخته إلى قصر فرعون وقالت : أنا أدلكم على من يرضعه (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) عرضت عليه ثديها فقبله ، ورضع منه ، ففرح فرعون ، وأجزل لها العطاء.

___________________________________

الإعراب : و (يَفْقَهُوا) مجزوم بجواب الأمر. و (أَخِي) بدل من هرون. وكثيرا صفة لمفعول مطلق محذوف أي نسبحك تسبيحا كثيرا ، و (نَذْكُرَكَ) ذكرا (كَثِيراً).

٤٠٨

(وَقَتَلْتَ نَفْساً) وهو الفرعوني الذي وكزه موسى فقضى عليه ، وتأتي إليه الإشارة في الآية ١٥ من القصص (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) من الخوف الذي أصابك بعد قتل الفرعوني أن يأخذوك به ويقتلوك (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) امتحناك واختبرناك بالعديد من الشدائد ، فوجدناك أهلا للنبوة والرسالة (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) إشارة إلى ما يأتي في الآية ٢٧ من القصص. وأن موسى رعى غنم شعيب في مدين عشر سنين (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أتيت إلى هذا المكان الذي أنت فيه الآن بالوقت المحدد والمقدر لنبوتك.

٤١ ـ (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) اخترتك للوحي وتبليغ رسالتي ٤٢ ـ (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) بالمعجزات الخارقة الدالة على رسالتكما ، وأهمها العصا واليد البيضاء (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) لا تضعفا وتقصّرا في الدعوة إلى الله سبحانه ٤٣ ـ (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) في البلاد ، وأكثر فيها الفساد ٤٤ ـ (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) هكذا يعلّمنا رب السماء أسلوب الدعوة إلى الحق : بالرفق واللين ، لا بالقسوة والحماقة حتى مع فرعون الذي قال : أنا ربكم الأعلى. فهل يتعظ الزاهد الطّعّان والواعظ الغضبان؟ وفي الآية ١٤٧ من الأنعام (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) والخطاب لمحمد (ص).

٤٥ ـ (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) إنك تعلم يا إلهنا جبروت فرعون وعتّوه ، ولا رادع له عن قتلنا أو التنكيل بقومنا.

٤٦ ـ (قالَ) سبحانه لهما : (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) لا نهابا سلطان فرعون وبطشه ، فأنا لكما في النصر عليه ، ومعكما في الحفظ منه.

٤٧ ـ ٤٨ ـ (فَأْتِياهُ فَقُولا ...) تقدم في الآية ١٠٤ من الأعراف.

٤٩ ـ (قالَ) فرعون : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) قال موسى وهرون لفرعون ما أمر الله به. فأجاب منكرا وجود إله سواه كما في الآية ٣٨ من القصص ...

٥٠ ـ (قالَ) موسى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ربنا الذي خلق فرعون وكل الخلائق من الذرة الصغيرة إلى المجرات الكبيرة ... إلى كل شيء. وأودع في كل مخلوق ما يحفظ كيانه وبقاءه وسيره إلى حاجته والغاية التي خلق من أجلها.

___________________________________

الإعراب : و (عَلى قَدَرٍ) متعلق بمحذوف حالا من الضمير في (جِئْتَ). (أَنْتَ) توكيد لضمير (اذْهَبْ). وأخوك عطف على الضمير المستتر. والمصدر من أن يفرط مفعول نخاف. ويجوز انّى وانني ، وانّا و (إِنَّنا).

٤٠٩

٥١ ـ (قالَ) فرعون : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) إذا كان هناك رب كما وصفت وزعمت فلما ذا الأولون عبدوا الأصنام ولم يعبدوه؟ وهذا الجواب يحمل في صلبه الدليل على نقضه وفساده ، لأنه تماما كقول القائل : لو كان للشمس وجود لرآها من لا يبصر!

٥٢ ـ (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ...) لما ذا تروغ عن الجواب ، وتفزع من موضوع إلى موضوع ، من كفرك وطغيانك إلى القرون الخالية ... إن علمها عند الله الذي لا تخفى عليه خافية.

٥٣ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) فراشا ومستقرا فأين أنت يا فرعون من خلق ذرة فما دونها (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) طرقا تسلكونها (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) فأنزل أنت قطرة واحدة.

٥٤ ـ (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) خلق سبحانه الإنسان والحيوان ، وهيأ لهما أسباب الحياة من الأرزاق والأقوات.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دلائل وبراهين على أنه لا إله إلا الله (لِأُولِي النُّهى) لأرباب العقول الذين ينتهون عن القبائح والجرائم.

٥٥ ـ (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) واضح ، وتقدم في الآية ٢٥ من الأعراف.

٥٦ ـ (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ) فرعون (آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) عرض موسى على فرعون المعجزات الواضحة والحجج البالغة ، فرفضها كفرا وبغيا وعتوّا وتمردا. «لما ذا هذا العناد؟ للحرص على الجاه والسلطان. ولا يختص هذا بفرعون موسى ونمرود إبراهيم ، بل يشمل الكل أو الجل ، كما جاء في الأشعار «كلنا يطلب ذا حتى أنا».

٥٧ ـ (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) ضيّق موسى على فرعون ، وأخذ بخناقه ، ولم يدع له أية حجّة أو جواب ، فلجأ إلى التهم والافتراء بأنه ساحر ، يريد أن بطرد أصحاب الجاه والسلطان من مصر ، ويستولي على الملك.

٥٨ ـ (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ...) لا يغرنك ما أنت فإن عندنا مثل ما عندك وزيادة ، فاجعل بيننا وبينك يوما للمباراة.

٥٩ ـ (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) اختار موسى يوم العيد لأنه يوم عطلة ، يكثر فيه الحشود والشهود ، واختار الضحى من يوم العيد لأنه أظهر وأجمع ، ويدل هذا على ثقته ويقينه ، وأن الله ناصره لا محالة.

٦٠ ـ (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) جد واجتهد في جمع السحرة ، وأتى بهم حاشرون كما في الآية ١١٢ من الأعراف :

___________________________________

الإعراب : (كُلَّ شَيْءٍ) مفعول أول لأعطى ، و (خَلْقَهُ) مفعول ثان. (فَما بالُ الْقُرُونِ) مبتدأ وخبر. و (عِلْمُها) مبتدأ وخبره (فِي كِتابٍ) ، وعند (رَبِّي) تعلق بما تعلق به في كتاب ، أي علمها ثابت في كتاب عند ربي. و (الَّذِي جَعَلَ) صفة لربي أو عطف بيان.

٤١٠

٦١ ـ (قالَ لَهُمْ مُوسى) واعظا ومحذرا : أيها السحرة (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) لا تموهوا على أعين الناس فتظهروا الأوهام في ثوب الحقائق (فَيُسْحِتَكُمْ) فيستأصلكم الله ويهلككم (بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) على المخلوق فكيف بمن يفتري على خالق السموات والأرض؟ وكان لهذا النداء من موسى أثره عند بعض السحرة بدليل قوله تعالى :

٦٢ ـ (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) اختلف السحرة فيما بينهم سرا ، وفي الخفاء عن موسى وفرعون قال بعضهم : ما هذا التحذير بقول ساحر ، وعارض البعض الآخر وفي النهاية تغلّب أنصار الضلال الذين ...

٦٣ ـ (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) إن مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف أي أنه وهذان مبتدأ وساحران خبر ، والجملة خبر ان ، واللام للفرق بين ان المخففة وان النافية.

(يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما) يريدان أن يتبعهما الناس عن طريق السحر ، ويتغلبا على فرعون ، ويستوليا على مصر (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أن يتغلبا عليكم بالسحر ، ويتفردا به من دونكم ، ولا يبقى لكم أي طريق للرزق والعيش.

٦٤ ـ (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) مكركم ودهاءكم (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) ألقوا ما في أيديكم مرة واحدة لتبهروا الأبصار.

٦٥ ـ ٦٦ ـ (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ...) تقدم في الآية ١١٥ من الأعراف.

٦٧ ـ (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) أن يلتبس الأمر على الناس ، ويخدعوا بهذا الظاهر المموه ، ولكن الله سبحانه قطع مخافته بندائه :

٦٨ ـ (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) لأنك المحقّ وهم المبطلون.

٦٩ ـ ٧٣ ـ (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا ...) فانتصر الحق ، وزهق الباطل ، وتقدم في الآية ١١٧ من الأعراف

___________________________________

الإعراب : (وَيْلَكُمْ) منصوب على إضمار الفعل أي الزموا الويل ، لأنه مضاف ، فإذا لم يضف مثل ويل لكم فمبتدأ وخبر. و (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) إن مخففة مهملة ، وهذان مبتدأ وساحران خبر ، واللام هي الفارقة بين ان النافية والمخففة. والمصدر من يخرجاكم مفعول يريدان. وصفّا حال من واو (ائْتُوا). إما بالكسر ، ومعناها هنا التخيير ، وهي مركبة من ان وما ، ويجب تكرارها ، والمصدر من ان تلقي مفعول لفعل محذوف أي اختر اما القاءك ، والمصدر من ان نكون معطوف على المصدر من ان تلقي. وإذا للمفاجأة ، وحبالهم مبتدأ ، وعصيهم عطف على حبالهم ، وجملة يخيل وما بعدها خبر. والمصدر من انها تسعى مفعول يخيل. وخيفة مفعول أوجس. و (تَلْقَفْ) مجزوم جوابا لألق. (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ إِنَّما) مركبة من كلمتين : ان المشددة ، وما الموصولة ، وهي اسم إنّ ، وصنعوا صلة الموصول ، وكيد خبر إنّ والعائد محذوف ، والتقدير ان الذي صنعوه كيد ساحر. وسجدا حال أي ساجدين.

٤١١

وما بعدها (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) افعل ما شئت ، فإن الغالب بالشر مغلوب (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) حلوة كانت أو مرة (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) منك ومن ثوابك.

٧٤ ـ (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) يلقى الله يوم القيامة بالأوزار والآثام (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها) حتى يجد الراحة (وَلا يَحْيى) إلا في العذاب وشدته.

٧٥ ـ ٧٦ ـ (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) من يلق الله يوم القيامة بقلب سليم وعمل صالح نافع (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) في الجنة منازل ومراتب تبعا للإخلاص والأعمال ، ونحن نبتغي أعلاها بالتضحية والاستشهاد في سبيل الله والحق.

اللغة : (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى). حيث قرن سبحانه الايمان بالعمل الصالح ، ومعنى هذا ان الايمان بلا عمل لا يجدي صاحبه شيئا. وبكلام آخر : ان المؤمنين هم الصالحون في مقاصدهم وأعمالهم ، أما الذين يسعون في الأرض فسادا فهم في زمرة المجرمين ، وان ملأوا الدنيا تهليلا وتكبيرا.

(جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى). الجنات والدرجات عند الله هي للذين زكت أنفسهم بالحب والإخلاص للناس كل الناس ، ؛ وتطهرت من شوائب الخيانة والطمع والكراهية ، ومئات الآيات من آي الذكر الحكيم تتضمن هذا المعنى تصريحا أو تلويحا.

___________________________________

الإعراب : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) في هنا بمعنى على. وأينا مبتدأ ، وأشد خبر ، وعذابا تمييز. والذي (فَطَرَنا) عطف على ما جاءنا. (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) ما اسم موصول مفعول لاقض وأنت مبتدأ و (قاضٍ) خبره والجملة صلة الموصول والعائد محذوف أي فاقض ما أنت قاضيه. (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ) انما مركبة من كلمتين : ان المشددّة وما الكافّة عن العمل ، وتقضي فعل مضارع والفاعل ضمير المخاطب أي انت والمراد فرعون ، وهذه مفعول تقضي ، والحياة عطف بيان من هذه ، والدنيا صفة للحياة. وما أكرهتنا عطف على خطايانا. والضمير في انه للشأن ، ومحله النصب اسم إنّ. و (مَنْ يَأْتِ) من شرطية ، والجملة من الشرط وجوابه خبر إنّ. وجنات عدن بدل من الدرجات العلى وخالدين حال.

٤١٢

٧٧ ـ ٧٩ ـ (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ...) تقدم في الآية ٥٠ من البقرة و ١٣٨ من الأعراف و ٩٠ من يونس.

٨٠ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون الذي كان يسومكم سوء العذاب ، يذبح أبناءكم ويستحيي نساءكم (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) يشير سبحانه بهذا إلى الوعد الذي وعده موسى بعد أن أغرق فرعون ، وهو أن يأتي موسى وبنو إسرائيل إلى جانب طور سيناء ، فينزل سبحانه عليه التوراة (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ..) تقدم بالنص الحرفي في الآية ٥٧ من البقرة.

٨١ ـ (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) في الطيب من الرزق (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) لما ذكر سبحانه بني إسرائيل بنعمه الجسام ، قال لهم : لا تتخذوا منها أداة للعتو والفساد وإلا فعلنا بكم ما فعلنا بفرعون وجنوده ويدلنا التاريخ والعيان ـ في الأعم الأغلب ـ أن المظلوم إذا قوي وانتصر على ظالمه طغى طغيانه وزيادة ، ومن أصدق من الله حديثا : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي رأى نفسه غنيا.

٨٢ ـ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ومع هذا فإن الله سبحانه لا يعجل بالنقمة ممن طغى وبغى ، بل يمهل ويؤجل ، عسى أن يؤوب ويتوب ، وهو يقبل التوبة بشروط أربعة كما في هذه الآية وهي : (١) الندم على ما كان ؛ (٢) الإيمان بالحق أينما كان ؛ (٣) العمل بموجب الإيمان ؛ (٤) الاهتداء أي الاستمرار على الإيمان والعمل الصالح.

٨٣ ـ (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) بعد هلاك فرعون أمر سبحانه موسى أن يسير هو وبنو إسرائيل إلى جبل الطور ، فأسرع موسى عجلا ومشتاقا إلى مناجاة ربه ، واستخلف على قومه أخاه هارون ، وأمرهم أن يلحقوا به ، ولذا سأل سبحانه موسى : لما ذا سبق قومه وهو أعلم ، ولكن ليخبره عما أحدثوا من بعده.

٨٤ ـ (قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) لتزيدني رضا ، وأزداد منك أجرا.

٨٥ ـ (قالَ) سبحانه لموسى : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) امتحناهم ليظهروا على حقيقتهم (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) الذي صنع لهم العجل.

٨٦ ـ (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) واضح ،

___________________________________

الإعراب : (طَرِيقاً) مفعول اضرب و (يَبَساً) صفة له لأنه بمعنى يابسا. فيحل منصوب بإضمار أن في جواب النهي. ما استفهام مبتدأ ، وجملة (أَعْجَلَكَ) خبر. وهم مبتدأ وأولاء اسم اشارة خبر. و (عَلى أَثَرِي) متعلق بمحذوف خبرا بعد خبر أو حالا والعامل فيه معنى الاشارة.

٤١٣

وتقدم في الآية ١٥٠ من الأعراف (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) هل نسيتم فضله عليكم ، وأخيرا وعده بأن تصلوا إلى جبل الطور؟ (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي مدة غيابي عنكم (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) عذابه في الدنيا والآخرة ، وإذا ارتد اليهود عن دين موسى وهو قائم على رؤوسهم ، فما ذا تكون الحال من بعده؟

(فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) وعدتموني بالثبات على دين الله ، فنكثتم وارتددتم.

٨٧ ـ ٨٩ ـ (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) نحن لا نملك أمرنا لأنا مسيّرون لا مخيّرون! هكذا يلقي المجرم تبعة سلوكه على القضاء والقدر أو على الآخرين (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) المراد بالأوزار : الأثقال ، وزينة القوم : حلي النساء الفرعونيات التي استعاروها للعرس أو للعيد ، وحملوها معهم (فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) صنع عجلا من ذهب بطريقة إذا مرّ عليه الريح أحدث صوتا وخوارا ، وبهذا يتبيّن لنا أن القرآن ينسب صنع العجل إلى السامري ، أما التوراة المتداولة فتسند صنع العجل إلى هرون النبي بكل صراحة ، فقد جاء في سفر الخروج أول الإصحاح الثاني والثلاثين ما نصه بالحرف الواحد : «ولما رأى الشعب ـ بنو إسرائيل ـ أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هرون وقالوا له : قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه ، فقال لهم هرون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم ، وأتوني بها ، فنزع كل الشعب أقراط الذهب ، وأتوا بها إلى هرون ، فأخذ ذلك ، وصوره بالإزميل ، وصنعه عجلا مسبوكا ، فقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل ، فلما نظر هرون بنى مذبحا أمامه ، ونادى غدا عيد للرب». نقلنا هذا النص بحرفه وعلى طوله علما بأن هذا الموجز يضيق عنه ، ولكن سنطوي الكلام حول الآيات الآتية لوضوحها وتقدم ذكرها ، ومن جهة ثانية أردنا أن يوازن القارئ أو يقارن بين نص التوراة المنسوب إليه تعالى في حق نبيّه المعصوم هرون ، وبين نص القرآن الكريم في هرون وقصته مع العجل ، وهو قوله تعالى :

٩٠ ـ (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ) لعبدة العجل (هارُونُ مِنْ قَبْلُ) أن يعود موسى : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ضللتم بعبادة العجل (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) الذي خلق كل شيء (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) في ترك العجل وعبادته.

٩١ ـ (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) مقيمين على عبادة العجل (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) جاء في تفسير الرازي نهج البلاغة : أن يهوديا قال للإمام عليّ (ع) : «ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه؟ قال عليه‌السلام : إنما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم : اجعل لنا آلهة فقال : إنكم قوم تجهلون.

٩٢ ـ ٩٤ ـ (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ ...) تقدم في الآية ١٥٠ من الأعراف.

___________________________________

الإعراب : و (غَضْبانَ) حال و (أَسِفاً) حال ثانية. فكذلك الكاف بمعنى مثل ومحلها النصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي ألقى السامري إلقاء

٤١٤

٩٥ ـ (قالَ) موسى : (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) ما حملك على ما صنعت؟.

٩٦ ـ (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) رأيت ما لم ير غيري (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) ألقيتها ولم يبيّن سبحانه أين ألقاها ، ولكن المفسرين قالوا : ألقاها على الحلي فتحولت عجلا! ... ونحن غير مسؤولين عما لا نص فيه ، فندعه في طي الكتمان.

٩٧ ـ ٩٨ ـ (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) أي عقابك في الدنيا أن تكون منبوذا من كل الناس لا مخالطة أو مكالمة أو مؤاكلة أو أي شيء تماما كوحش في صحراء لا شيء فيها إطلاقا (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) وهو لقاؤك مع الله ، وجزاؤك على ما أسلفت واقترفت (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ ...) حرق موسى العجل ، وألقى برماده في البحر مع القمامة على مرأى من الذين صنعوه وعبدوه وهذي نهاية كل مزيّف ماكر ومخادع غادر.

٩٩ ـ (كَذلِكَ) إشارة إلى قصة موسى وغرائبها (نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا محمد (مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) من الأمم الماضية ، وهي عبرة وعظة لمن يتذكر أو يخشى (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

١٠٠ ـ (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) إثما ، ويكون الإعراض بالتكذيب وبترك العمل بموجبه.

١٠١ ـ (خالِدِينَ فِيهِ) في عقاب الوزر والإثم (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) بئست الأحمال الثقال التي يرزحون تحتها وهم ذاهبون إلى الله تعالى.

١٠٢ ـ (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) كناية عن بعث ما في القبور ، وتقدم في الآية ٧٣ من الأنعام و ٩٩ من الكهف اللغة : ذكرا يعني القرآن. ومن أعرض أي من كذّب. والوزر في اللغة الثقل ، والمراد به هنا العذاب. والصور قرن ونحوه ينفخ فيه.

___________________________________

الإعراب : (فَما خَطْبُكَ)؟ مبتدأ وخبر. وفي البحر المحيط لأبي حيين الأندلسي ان (لا مِساسَ) نفي بمعنى النهي أي لا تمسني ، وعليه يكون لا مساس اسم فعل ، وقيل : بل هو مصدر ماسه ، ولا نافية للجنس ومساس اسم لا ، والخبر محذوف أي لا مساس بيننا. (خالِدِينَ) حال من ضمير يحمل على معنى الجماعة. و (حِمْلاً) تمييز أي ساء الحمل حملا. ويوم ينفخ بدل من يوم القيامة.

٤١٥

(وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) زرق الألوان من هول المطلع وروعات المفزع

١٠٣ ـ (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) يقول بعضهم لبعض في السر : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) إن مكثتم في القبور إلا عشر ليال أو ساعات أو لحظات.

١٠٤ ـ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) وإن أسروا وأخفتوا (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أعقلهم وأعلمهم : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) كل ما مضى وكان من أمرنا على وجه الأرض وفي بطنها يعادل يوما واحدا ، والحياة الحقة هي هذه التي نحن فيها الآن حيث لا أمد لها ولا نهاية.

١٠٥ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً).

١٠٦ ـ ١٠٧ ـ (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) قيل للنبي (ص) : كيف تكون الجبال غدا ، فجاء الجواب من السماء : يقتلعها سبحانه من أصولها ويصيرها غبارا ، ويدع أماكنها من الأرض ملساء لا عوج فيها ، والمراد به هنا الانخفاض ولا أمتا وهو الارتفاع اليسير.

١٠٨ ـ (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) إلى الحساب والجزاء فيسرعون إليه حيثما أمر وأراد (لا عِوَجَ لَهُ) أي لدعوة الداعي أو لا أحد يميل عنها (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) خضعت وضعفت (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) صوتا خفيا.

١٠٩ ـ (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) في نهج البلاغة : لا شفيع أنجح من التوبة ، أنظر تفسير الآية ٨٧ من مريم.

١١٠ ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ...) يحيط سبحانه علما بخلقه ، ولا يحيطون بشيء من علمه ، وتقدم في الآية ٢٥٥ من البقرة.

١١١ ـ (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) قائم دائم لا يغفل ولا يذهل عن تدبير كل شيء ، وعنت : خضعت واستسلمت (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) للعباد معه إلى يوم القيامة ، قال الإمام عليّ (ع) : بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.

١١٢ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) عند الله سبحانه شرط ان يكون دائم الخوف من الله عزوجل ، على أن هذا الخوف يستحيل أن ينفصل عن الإيمان والإيقان به تعالى بنص الآية ٢٨ من فاطر : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وفي نهج البلاغة من خاف أمن.

___________________________________

الإعراب : وزرقا حال. وجملة يتخافتون حال ثانية. و (عَشْراً) نصب على الظرفية بتقدير مضاف أي مدة عشر ليال أو ساعات. وطريقة تمييز. و (قاعاً) حال. و (لا عِوَجَ لَهُ) لا نافية للجنس وعوج اسمه وله خبرها.

٤١٦

١١٣ ـ (وَكَذلِكَ) عطف على الآية ٩٩ وهي (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) لأن محمدا عربي (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ـ ٤ إبراهيم» (وَصَرَّفْنا فِيهِ) ذكرنا وكررنا في القرآن (مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ويطيعون الله في جميع أحكامه (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) يتذكرون الله ، إذا أذنبوا ويسألونه العفو والصفح.

١١٤ ـ (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) يتصرف في ملكه بالحق والعدل والحكمة (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) كان النبي يتابع جبريل في قراءة الوحي خوفا أن يفوته شيء منه ، فأمره تعالى أن يصغي ولا يتابع ، ولا يخشى النسيان ، وفي الآية ٦ من الأعلى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ولا هنا نافية وليست ناهية أي لا تنسى أبدا ، فكن في أمان (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) على علم أنتفع به وأنفع الآخرين ، وكان النبي (ص) يقول : إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه.

١١٥ ـ (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ) المراد بالعهد هنا قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) ـ ٣٥ البقرة» (فَنَسِيَ) فاقترب من الشجرة وأكل منها (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) قوة إرادة.

١١٦ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا ...) واضح ، وتقدم في الآية ٣٤ من البقرة وغيرها ..

١١٧ ـ ١٢٠ ـ (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ ...) حذر سبحانه آدم من الشيطان ، وأنه عدوه اللدود ، يريد له كل شر ، بل ويريد أيضا أن يقول لله : إن هذا الذي فضلته عليّ وأمرتني أن أسجد له قد عصاك وخالفك كما خالفتك وعصيتك ، وإذن لا معنى لأمرك ولا مبرر لتفضيلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأيضا بيّن سبحانه لآدم بصريح العبارة أنه يشقى هو وذريته بالخروج والطرد من الجنة إن استمع لوسوسة الشيطان ، ومع كل ذلك أقدم آدم وزوجته على ما حذّرا منه.

١٢١ ـ (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ...) تقدم في الآية ٢٢ من الأعراف.

___________________________________

الإعراب : (قُرْآناً) حال ، و (عَرَبِيًّا) صفة. و (عِلْماً) تمييز لأنه بمعنى زاد علمي ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا لزدني على ان تكون زدني متضمنة معنى العطاء. والمصدر من ان لا تجوع اسم ان ولك خبر. والمصدر من أنك لا تظمأ عطف على المصدر من ان لا تجوع.

٤١٧

١٢٢ ـ (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ) أيضا تقدم في الآية ٣٧ من البقرة.

١٢٣ ـ (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) الخطاب لآدم وإبليس ، ومنها للجنة (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) وعداوة الشيطان بتزيين السيئات ، عداوة آدم وأبنائه بتكرار اللعنات (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) بلسان الأنبياء والعلماء (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) وهدى الله سبحانه أن تعمل لآخرتك ودنياك ، وتكف عن الناس أذاك.

١٢٤ ـ ١٢٥ ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) عن الحق والعدل (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ضيقة حتى ولو رأوا أنفسهم ورءاهم الناس في بحبوحة العيش وسعته ، لأن الأمور بخواتيمها ، قال سبحانه : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) ـ ٥٥ التوبة» وقال الإمام عليّ (ع) : ما قال الناس لشيء : طوبى له ، إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) لأنه في الحياة الدنيا لم ير إلا ذاته ومنافعه الشخصية.

١٢٦ ـ (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) وليس المراد هنا نسيان الأعمى كلمات القرآن وآياته اللفظية ، بل المراد عدم العمل بموجبها ، وأن الأعمى أهملها وأعرض عنها ، فكذلك يهمله سبحانه غدا ويعرض عنه جزاء وفاقا.

١٢٧ ـ (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) في طغيانه وتمرده على الحق (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) أو آمن قولا لا عملا وظاهرا لا واقعا.

١٢٨ ـ (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) يبيّن الله ورسوله للمجرمين المعاندين (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) كقوم نوح وعاد وثمود (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) أي أن المجرمين المعاندين يشاهدون آثار من أهلكنا قبلهم لظلمهم ، ويمشون في ديارهم ومع ذلك لا يعتبرون ويتعظون.

١٢٩ ـ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي قوله تعالى : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ـ ١٠ إبراهيم» قضى سبحانه وقدر أن لا يعاجل المذنب بالعقوبة ، بل يدعوه إلى التوبة ، فإن استجاب فكأنه لم يذنب وإلا (لَكانَ) العقاب (لِزاماً) لازما لا محالة (وَأَجَلٌ

___________________________________

الإعراب : إما كلمتان : ان الشرطية وما الزائدة. و (أَعْمى) حال من هاء نحشره. وفاعل يهد محذوف أي أفلم يهد الله لهم. و (كَمْ) في موضوع نصب بأهلكنا. وأجل مسمى عطف على كلمة ، أي ولو لا كلمة (وَأَجَلٌ مُسَمًّى).

٤١٨

مُسَمًّى) أي يقع العذاب في الوقت المحدد.

١٣٠ ـ (فَاصْبِرْ) يا محمد (عَلى ما يَقُولُونَ) بأنك ساحر وشاعر وما يشبه ذلك (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) لا على حبات المسابح ، بل بالاتجاه إليه ، والتوكل عليه ، والصلاة الخالصة المخلصة التي تنهى عن الفحشاء (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) صلاة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) صلاة العصر (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) صلاة المغرب والعشاء (وَأَطْرافَ النَّهارِ) صلاة الظهر ، وأطلق سبحانه طرف النهار على الزوال بالنظر إلى أنه الطرف الأخير للنصف الأول من النهار ، والطرف الأول للنصف الثاني منه (لَعَلَّكَ تَرْضى) بما يعطيك ربك على طاعتك وجهادك وإخلاصك.

١٣١ ـ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...) تقدم في الآية ٨٨ من الحجر.

١٣٢ ـ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي لا يؤثر عليها أي عمل من الأعمال (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) لا تظن أن الصلاة تمنعك عن العمل من أجل الرزق ، فأنت لا ترزق نفسك حتى مع العمل ، بل (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) الكثير بالعمل اليسير (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) للمتقين معاصي الله ومحارمه في السر والعلانية.

١٣٣ ـ (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) تقدم مرات ، منها في الآية ١١٨ من البقرة (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) إن كان الجاحدون يطلبون البينة حقا لا تعنتا ، فهذا القرآن هو بينة البينات ومعجزة المعجزات ، وفيه من العقائد والأحكام والأخلاق والعلوم والقصص ، ما في الكتب المتقدمة وزيادة فإنه المهيمن عليها والمصدق بما فيها من وحي السماء.

١٣٤ ـ (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) لو أن الله سبحانه عاقب المكذبين في الدنيا أو الآخرة قبل أن يرسل إليهم رسولا وينزل عليهم قرآنا (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) ولكنه تعالى قطع كل عذر يتعللون به بما أراهم من آياته في أنفسهم وفي الآفاق والكتب وعلى ألسنة الرسل ، ومع ذلك جحدوا وعاندوا ، وما آمنوا حتى مسهم العذاب.

١٣٥ ـ (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا ...) قل يا محمد للذين كذبوا بك وبالقرآن : مهلا فستعلمون من هو المحق الرابح غدا. انتظروا ، إنا منتظرون. وتقدم في الآية ١٥٨ من الأنعام وغيرها.

___________________________________

الإعراب : (زَهْرَةَ) مفعول لفعل محذوف أي جعلناها زهرة الحياة الدنيا ، ويجوز أن تكون عطف بيان من الأزواج. و (لِلتَّقْوى) على حذف مضاف أي لأهل التقوى. (لَوْ لا) من أدوات الطلب بمعنى هلّا. والمصدر من انّا أهلكناهم فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت إهلاكنا إياهم. (فَنَتَّبِعَ) منصوب بأن مضمرة بعد الفاء لوقوع الفعل في جواب الطلب. وكلّ أي كل واحد. و (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ) من استفهام مبتدأ ، وأصحاب خبر ، والجملة في محل نصب بستعلمون. (وَمَنِ اهْتَدى) عطف على من أصحاب الصراط.

٤١٩

سورة الأنبياء

مكيّة وهي مائة واثنتا عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) في يوم القيامة ، والمراد بالقرب أن كل آت قريب ، وفي نهج البلاغة : من كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان واقفا ، ويقطع المسافة وإن كان مقيما وادعا (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) عما يراد بهم (مُعْرِضُونَ) عن سبيل الهدى والنجاة.

٢ ـ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) المراد بالذكر القرآن ، وبمحدث التجديد في الحياة والتقاليد (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) لأنهم أعداء التطور والتجديد وإن كان الأفضل والأكمل ، وأنصار الجمود والجدود وإن كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.

٣ ـ (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) عن الحق والخير (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) الذين بدل من واو أسروا ، والنجوى : حديث السر (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أسر بعض المشركين لبعض وقالوا : من هو محمد حتى يسمع له ويطاع؟ إنه تماما كأحدكم ، فكيف اختص بالوحي من دونكم؟

٤ ـ (قالَ) محمد : (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ومن أحاط علما بكل قول وفعل يعلم أن قول محمد (ص) حق وصدق ، وقول أعدائه زور وبهتان.

٥ ـ (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أخلاط منامات لا أصل لها ولا أساس من الواقع (بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) وإن دلّ هذا الاضطراب والتخبط في الأقوال والآراء عن محمد (ص) والقرآن على شيء ـ فإنه يدل على أنهم هم الحالمون الواهمون وأن محمدا (ص) هو الصادق المحق.

٦ ـ (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) قال أعداء محمد (ص) : نرفض كل معجزة يأتينا بها إلا معجزة نقترحها نحن. فأجابهم سبحانه بأن بعض الأمم اقترحوا على أنبيائهم نوعا معينا من المعجزات كناقة صالح ، ولما استجابوا لهم رفضوا الإيمان ، وأصروا على الكفر ، فأهلكهم الله سبحانه ، وعين الشيء يحدث لأعداء محمد (ص) لو استجاب لاقتراحهم.

___________________________________

الإعراب : (مِنْ ذِكْرٍ) من زائدة أعرابيا وذكر فاعل يأتيهم. و (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف صفة لذكر. ومحدث صفة ثانية. و (لاهِيَةً) حال من واو (يَلْعَبُونَ). و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من واو (أَسَرُّوا). و (مِثْلُكُمْ) صفة ل (بَشَرٌ). و (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) خبر لمبتدأ محذوف أي هو أضغاث أحلام.

٤٢٠